المقدمــــــة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وتولى بلطفه حفظها والعناية بها وفق أنظمة كونية دقيقة لا تجري إلا بمشيئته التي هي حاضرة في كل لحظة وفي كل شبر من الأرض والسماء .
الحمد لله الذي خلق الإنسان ليشكره على نعمة خلق السموات والأرض ، وإنفراده بالمشيئة فيها ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ولم يترك الإنسان وشأنه في إختيار العبادة بل تغشاه الله عز وجل بلطفه وإحسانه ببعثه الأنبياء ، وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس لمنازل الإيمان وتنحيتهم عن مسلك الضلالة ، كما تفضل سبحانه بتقريب مصاديق العمل الصالح للناس ،وإبعاد السيئات عنهم، كما في يوسف عليه السلام ، إذ أخبر الله عز وجل عن إبعاد السيئات والمعاصي عنه ، وأعانه في التنزه عن الفاحشة ومراودة امرأة العزيز له ، قال تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
وفي الآية أعلاه ترغيب للناس باخلاص العبادة لله عز وجل ، وأنها غنيمة تجلب المنافع في الدنيا والآخرة ، منها السلامة من المعاصي والسيئات ، ومنها ما ورد في الآية السابقة من الفرح بكتمان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفرح المنافقين بالقعود عن نصرته لقوله تعالى [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا] ( ).
لقد بيّن القرآن قانوناً وهو أن العداوة تنشأ من الإختلاف في العقيدة أو المذهب وقد تشمل التعدي بالسيف ومحاربة النبي والتنزيل بالسيف ، وقد صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أذى كفار قريش وهو يدعو إلى الله في مكة واختار الهجرة إلى المدينة للإعراض عن أذاهم فجهزوا الجيوش لقتاله .
لبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعادِ أحداً ، ولم يكره أحداً على دخول الإسلام ليتجلى قانون من باب الأولوية القطعية وهو حرمة الإرهاب والتفجيرات ، وإزدراء الناس بسبب مذهبهم.
ومن خصائص الأنبياء مجئ كل نبي بلواء المحبة والمودة والرأفة ، قال تعالى [إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وتبين الآية أعلاه لزوم حسن الخلق مع جميع أهل الأرض باستثناء كفار قريش ونحوهم الذين أصروا على طلب القتال.
وقد صدر الجزء السابق وهو الخامس والعشرون بعد المائتين من هذا السِفر خاصاً بتفسير الآية أعلاه والحمد لله ، وفيه أكثر من (150) قانوناً مستنبطاً من مضامين آية البحث ، ومستقرأ من منطوقها ومفهومها .
الحمد لله الذي يمنع ويعطي بغير حساب ، وبما يفوق العد والإحصاء ، ويلمس العبد النعمة ، ويقصّر ويتخلف عن الشكر لله عز وجل عليها، ولكن النعم الإلهية لا تنقطع عنه سواء النعمة الخاصة أم ما يناله ويأتيه من النعم العامة ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الحمد لله الذي فطر الإنسان على الإيمان والصلاح ، وجعل النفوس تنفر من الكفر ومن الفساد والحروب والإقتتال.
وهو من مصاديق إحتجاج الملائكة حينما أخبرهم الله عز وجل بأنه [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فقد أراد الملائكة أن يكون الناس مثلهم في العصمة من السيئات ، وفي الصلاح والإنقطاع إلى الذكر والتسبيح خصوصاً وأن الإنسان نال مرتبة الخلافة في الأرض ، ولم تنل الملائكة هذه المرتبة والتشريف في السماء ولا في الأرض ، وإن كان مفهوم الآية أعلاه هو إمتناع السماء عن منصب الخلافة ، فليس من خليفة في مجال عرش الله عز وجل ، وهذا المعنى لا يتعارض مع مضامين آية البحث بأن الأرض كلها ملك لله عز وجل ، وبلحاظ أن الله عز وجل حاضر في كل مكان حضور ملك وتصرف ، قال تعالى [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وهل يحتمل وجود خلفاء لله عز وجل في السماء غير الملائكة ، الجواب لا ، لأصالة عدم الخليفة إلا مع الدليل الذي ينحصر بالإنسان ، وهل عدم وجود خليفة لله عز وجل في السماء سبب ومناسبة لصعود الإنسان في الفضاء من غير حرب من الخلفاء فيها ، الجواب لا .
وقد هبط ملائكة السماء لنصرة الخليفة في الأرض وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد توسل وتضرع منه إلى الله عز وجل كما في معركة بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ومن خصائص استقامة الفطرة بيان قانون من وجوه :
الأول : قانون الأصل هو الإيمان .
الثاني : قانون الفطرة مدد للإنسان ، وعون للفرد والجماعة وزاجر ذاتي عن السيئات.
الثالث : قانون قرب الإيمان من الإنسان ، وبعد الكفر والضلالة عنه .
فاذا اختار الكفر فانه قصد البعيد القبيح، فان قلت هل وسوسة الشيطان تقرب المعاصي إلى الإنسان ، الجواب لا ، ولكن الشيطان يزين لمن يصغي إليه اتيانها وفعلها حسداً منه للإنسان وخداعاً له ، قال تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( ).
وفي موضوع نزول الآية أعلاه تهيئ قريش لمعركة بدر ، فحينما جاء أبو سفيان بقافلة قريش القادمة من الشام ، وفيها ألف بعير محملة بالبضائع ومنها الذهب والفضة والقماش والطعام وغيرها ، ظن أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يريدون مهاجمة القافلة ، ولم يكن مع أبي سفيان إلا ثلاثون أو أربعون رجلاً عندئذ قام باستئجار ضمضم بن عمرو وأرسله إلى قريش ليخبرهم أن القافلة تتعرض للسلب والإستيلاء من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وأبو سفيان لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ير أصحابه في الطريق من الشام إلى مكة ، وليس عنده دليل على عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإستيلاء على القافلة .
نعم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من المدينة في كتائب حواليها يقيم صلاة الجماعة في الجادة العامة ، وفي مداخل القرى متى ما حان وقتها ، وفيه دعوة للإيمان.
واتفق عند قدوم القافلة أنه وأصحابه كانوا خارج المدينة ، وقد بلغهم نبأ قدوم قافلة أبي سفيان من الشام ، قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
وحينما وصل رسول أبي سفيان إلى مكة مستغيثاً نادبا لنجدة القافلة ، أعلنت قريش النفير ، وكانوا يعلمون على نحو التقريب أعداد المسلمين الذين يخرجون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب في كل مرة ، وهم نحو مائتين إلى ثلاثمائة ، فزجت قريش بألف رجل مدججيين بسيوف حادة قاطعة، إذ أنهم لكثرة أموالهم وتجارتهم ورحلاتهم في البلدان يشترون ويقتنون النوع الجيد من السلاح والخيل والدروع واللباس ، فاجتمع منهم ألف رجل في ثلاثة أيام ثم التفتوا إلى مسألة وهي وجود خصومة وحرب بينهم وبين بكر بن عبد مناف بن كنانة .
قال ابن عباس (فكان ذلك أن يثبتهم،
فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته فتبدّى في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني،
وكان من أشراف كنانة.
قال الشاعر :
يا ظالمي أنّى تروم
ظلامتي والله من كل الحوادث خالي
{فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ}( ) أي التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء وعلم أنّه لا طاقة له والمشركين بهم {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}.
قال الضحاك : ولّى مدبراً. قال النضر بن شميل : رجع القهقري على قفاه هارباً .
وقال قطرب وابان بن ثعلبة : رجع من حيث جاء.
قال الشاعر :
نكصتم على أعقابكم يوم جئتمُ
وتزجون أنفال الخميس العرمرم
وقال عبد الله بن رواحة : فلمّا رأيتم رسول الله نكصتم على أعقابكم هاربينا.
قال الكلبي : لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن كنانة آخذاً بيد الحرث بن هشام،
فنكص على عقبيه وقال له الحرث : يا سراقة أين؟
أتخذلنا على هذه الحالة؟
فقال له {إِنِّي أَرَى مَا تَرَوْنَ} فقال : والله ما نرى إلا جواسيس يثرب. فقال : {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} .
قال الحرث : فهلاّ كان هذا أمس،
فدفع في صدر الحرث فانطلق وانهزم الناس،
فلمّا قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس،
فوالله ماشعرت حتى بلغني هزيمتكم،
فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم،
فلمّا تابوا علموا أن ذلك كان الشيطان)( ).
وهل كان من شياطين الإنس تشبه بسراقة أم من شياطين الجن أم أنه إبليس على نحو التعيين ، المختار هو الأخير ، وكان إبليس يزور الأنبياء السابقين في أيامهم .
وقد ورد حديث طويل منسوب إلى ابن عباس ويتعلق بخصوص إبليس وأنه جاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيت أبي أيوب الأنصاري ، وسأله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسئلة كثيرة ، وهذا الحديث لا أصل له .
ترى ما هي النسبة بين الفطرة والإيمان ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإيمان فرع الفطرة .
وعن الإمام علي عليه السلام (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استفتح الصلاة كبر ثم قال : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) ( ).
ولقد أنعم الله عز وجل على الناس بتعاهد الفطرة السليمة بنزول الكتب السماوية وإرسال الأنبياء والرسل ، وتجلي المعجزات على أيديهم حتى إذا ما شهر كفار قريش ونحوهم السيوف الحواسم في وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشعلوا الحروب ، كان المؤمنون ذووا الفطرة السليمة دروعاً بشرية للنبوة والتنزيل تعضدهم الملائكة حتى تحقق النصر في صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة النبوية الشريفة ، ونزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
ترى لماذا لم ينتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أول سنة لبعثته أو أول سنة لهجرته أو أن يكون النصر في معركة بدر قاطعاً للمعارك والحروب مع المشركين ، وأن يلاحق النبي وأصحابه فلول المشركين حتى دخول مكة ، خاصة وأن أكثر رجالهم خرجوا الى هذه المعركة ، ومع مطاردتهم ستقع أعداد أخرى من القتلى والأسرى منهم بأيدي المسلمين .
الجواب لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار اختبار وامتحان ، ولتتجلى الآيات من عند الله عز وجل للناس كل يوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
ومن بديع صنع الله وتأديبه الخلائق أنه سبحانه خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وهو القادر على أن يخلقها دفعة واحدة ، وهذه الستة أيام لا تتعارض مع قوله تعالى [إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
فكل فرد وجزء من السموات والأرض خلقه الله عز وجل بالكاف والنون ، وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]( ).
الحمد لله الذي انفرد بالأسماء الحسنى ، وكل اسم نعمة عظمى على الخلائق ، فصحيح أن الاسم للدلالة والتعيين ، وأنه غير المسمى ، ولكن كل اسم من أسماء الله تفيض منه النعم والبركة.
ومن أسباب نزول قوله تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ]( )، أن أبا جهل رأى أحد المسلمين يدعو الله في صلاته ويدعو الرحمن ، فقال (أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً ، فما بال هذا يدعو ربين اثنين .
فأنزل الله تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بها]( )، الرحمن الرحيم الملك القدوس ونحوه . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الرجل فقال : ادْعُ الله أَوْ ادْعُ الرحمن رَغْماً لأَنْفِ المُشْرِكِينَ)( ).
ومن إعجاز القرآن في ذكره لأسماء الله الحسنى أن المسلم إذا ذكر اسماً من أسماء الله عز وجل الحسنى تدبر في معناه ، وصار يستحضره في الرخاء والشدة ، وهل يكون هذا الإستحضار من الذكر لله عز وجل أم لابد في الذكر من القصد والنية والتلفظ بذكر الله ، المختار هو الأول.
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام (عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة.
فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا ألله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مالك . وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير …)( )وقد تقدم ذكر الحديث كاملاً.
لبيان أن ذات الإحصاء ذكر وفيه الأجر والثواب .
وذكرت آية البحث مع قلة كلماتها اسم الجلالة مرتين.
وجاءت بالدلالة على اسمين لله عز وجل أحدهما (الملك) إذ أخبرت الآية عن كون ملك السموات والأرض كله لله عز وجل.
والثاني (القدير) لقانون اختصاص الله عز وجل بالقدرة المطلقة ، لبيان رحمة الله عز وجل بالخلائق وفيه ترغيب للناس بالإيمان واللجوء الى الدعاء لجلب المصلحة ودفع المفسدة ، لذا فان الإستجابة في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، فرع القدرة المطلقة لله التي ذكرتها آية البحث.
ترى ما هي الصلة بين آية البحث وقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) والإحتباس الحراري ، وإطلاق الصناعات والزراعات وأسباب توليد الطاقة مما زاد في حبس الحرارة .
مما يؤدي إلى إرتفاع درجات حرارة الأرض ، وعدم مقاومة عدد من الكائنات لهذا التغير المناخي ، وسببه الإنسان نفسه بما يعرضه والأجيال اللاحقة للضرر بالزيادة الهائلة بحرق الوقود الأحفوري وهو كل من :
الأول : الفحم .
الثاني : الغاز .
الثالث : النفط .
مما جعل الغازات الدفينة كثاني أوكسيد الكاربون تزداد في الغلاف الجوي ، وسيكون الضرر على الفقراء أكثر من غيرهم لعجزهم عن توفير مكيفات الهواء ووسائل التبريد ، لذا فمعالجة وتدارك هذا الإحتباس من مصاديق عمارة الأرض ، ومن أبجديات حقوق الإنسان.
حرر في السادس والعشرين
من شهر محرم الحرام 1443
4/9/2021
قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] الآية 189 سورة آل عمران
الإعراب واللغة
ولله : الواو حرف استئناف ، ويتضمن معنى العطف أيضاً لما يدل عليه من تأكيد الوعيد الذي اختتمت به الآية السابقة [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
لله : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وتقديره : مستقر.
ومعنى المتعلق أعلاه هو إرتباط شبه الجملة بحدث يدل عليه الفعل أو مضمون الخبر ، والحيز الذي يكون فيه فلا يقع الحدث في فراغ إنما يكون في زمان أو مكان ، ولم يكن متعلق شبه الجملة مذكوراً عند أكثر النحاة القدماء لوضوح وتمام المعنى من غير اللجوء إلى تقدير متعلق محذوف.
ومتعلق شبه الجملة على قسمين :
الأول : المتعلق مذكور ، وهو الأصل .
الثاني : المتعلق محذوف .
ملك : مبتدأ مؤخر .
السموات : مضاف إليه مجرور .
والأرض : الواو : حرف عطف.
الأرض : اسم معطوف على السموات مجرور مثله.
والله : الواو : حرف عطف ، ويتضمن الإستئناف أيضاً أما العطف فالإطلاق في كل من ملك وقدرة الله عز وجل وأما الإستئناف فللتباين الموضوعي بين الملكية والقدرة لله عز وجل .
وكأن النسبة بينهما وفق علم المنطق : هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي الإطلاق والعموم في كل من الملك ، والقدرة فيفيد العطف والإشراك بالمعنى ، وأما مادة الإفتراق فهي اختصاص أول الآية وهو ما قبل الحرف الواو في موضوع الملك وإختصاص آخر الآية وهو ما بعد الحرف الواو بقدرة الله المطلقة.
لفظ الجلالة : مبتدأ مرفوع .
على كل : جار ومجرور متعلق بـ(قدير).
شئ : مضاف إليه مجرور .
قدير : خبر مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
وجملة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ] لا محل لها اسئتنافية.
الفرق بين العطف والإستئناف
يكون العطف متعلقاً ومتصلاً بما قبله مثل [أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( ) وفي الإستئناف لا يكون ما بعد حرف الواو متعلقا بما قبله من جهة المعنى والموضوع ، ومن الأمثلة التي ذكرت [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ) فالتعليم ليس له علاقة بما قبله ، والمختار أن حرف الواو هذا للعطف والإستئناف معاً ، لأن تقسيم الحرف إلى عطف واستئناف هو تقسيم استقرائي في الصناعة النحوية ، والحرف القرآني أعم من هذه الصناعة ، لذا اقترح إعراض القرآن من الجنة ، مشتركة لمجمع بين علماء للنحو وعلماء في التفسير ، وعين ما قبل الواو ، وهو [اتَّقُوا اللَّهَ] ، وما بعدها يعلمكم الله عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هو اسم الجلالة ، والجهة التي يتوجه إليها الخطاب هم المسلمون ، لأن هذا الشطر خاتمة أطول آية في القرآن ، وهي الآية 282 من سورة البقرة .
وأما مادة الإفتراق فهي ما قبل حرف الواو جملة إنشائية بصيغة الأمر ، وواو الجماعة في [اتَّقُوا اللَّهَ] فاعل وما بعدها جملة خبرية و[يُعَلِّمُكُمْ] والضمير [كُمْ] مفعول به واسم الجلالة فاعل .
قانون العطف الموضوعي
المراد من واو الإستئناف في [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ] في أول الآية هو استقلال الجملة التي بعده عن التي قبله في الحكم ، والمختار أنه للعطف أيضاً من غير تعارض بينهما ، لتعدد معنى اللفظ والشراكة الحكمية بين الآيتين.
ابتداء الكلام ومجئ جملة في موضوع آخر لا يتعلق بما قبله من جهة الصناعة النحوية ، ولم يعطف فيه اللاحق على السابق كما في حروف العطف ، ولكن عدم التعلق هذا شبه متعذر في آيات القرآن.
فمن إعجاز القرآن وجود صلة موضوعية بين الآية القرآنية والتي تأتي بعدها وتبدأ بحرف العطف ، بل نؤسس في هذا التفسير قانون العطف الموضوعي فقد تبدأ آية بجملة اسمية أو فعلية من غير حرف عطف أو استئناف في أولها ، ولكن معنى الآية متصل مع الآية السابقة لها ، مثلا قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ).
فالعطف هنا بلحاظ تكرار ذات الأمر من عند الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) واتحاد موضوع الإحتجاج وتبكيت الذين كفروا ، وقد تجلت معاني ووجوه عديدة من صيغ العطف بين الآيتين في مبحث سياق الآيات الآتي ليكون العطف والإشتراك في المعنى بين الآيتين المتجاورتين من القرآن على وجوه :
الأول : عطف الآية اللاحقة على السابقة بأحد حروف العطف مثل : الواو ، الفاء ، ثم ، حتى ، أو ، أم .
وهناك حروف عطف ثلاثة أخرى ، تعطي ذات حركة المعطوف عليه للمعطوف ، دون الحكم وهي : بل ، لا ، لكن .
و (أم) تكون على شعبتين :
الأولى : الأم المتصلة وهي التي يكون ما بعدها متصلاً بما قبلها ، ويشترك معه في الحكم ، وتأتي بعد همزة الإستفهام أو همرة التسوية ، وتعرب حرف عطف مبنياً لا محل له من الإعراب ومنه [قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ]( ).
الثانية : (أم) المنقطعة وهي التي لا تسبقها همزة استفهام أو تسوية ، وهي مثل (بل) لا يفارقها معنى الإضراب ، كما في قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( )، وحتى هذا الحرف (أم) الذي يسمى في الصناعة النحوية بالمنقطع لا يمنع من الصلة والربط والعطف والإشتراك بين هذه الآية والآيتين اللتين قبلها إذ ورد فيهما الخطاب للذين آمنوا بقوله تعالى [وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ]( ).
الثاني : العطف باتحاد الموضوع والدلائل والمسائل المستنبطة من إجتماع الآيتين ، ولعل القول بأن الحرف الواو للإستئناف سواء في بداية الآية أو وسطها أو آخرها يفوت على العلماء وعامة المسلمين كثيراً من المسائل العلمية ، ودلالة الآيات .
الثالث : الإعجاز والأسرار الكامنة في نظم الآيات خاصة وأنه توقيفي.
وكان جبرئيل يعارض ويتدارس القرآن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل سنة مرة في شهر رمضان ، وفي السنة التي غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى تدارس معه القرآن مرتين ، كما ورد عن فاطمة عليها السلام وعن عبد الله بن مسعود( ).
وعن عائشة قالت : اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر منهن امرأة ، فجاءت فاطمة تمشي ، ما تخطئ مشيتها مشية أبيها فقال : مرحبا بابنتي فأقعدها عن يمينه أو عن شماله ، فسارها بشيء فبكت ، ثم سارها فضحكت .
فقلت لها : خصك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسر وتبكين فلما قدم ، قلت لها أخبريني بما سارك .
قالت : ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سره .
فلما توفي قلت لها : أسألك بما لي عليك من الحق لما أخبرتيني بما سارك .
فقالت : أما الآن فنعم قالت : سارني فقال : إن جبريل عليه السلام كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة ، وإنه عارضني العام مرتين ، ولا أرى ذلك إلا عند اقتراب أجلي . فاتقي الله واصبري فنعم السلف أنا لك ، فبكيت .
ثم سارني فقال : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة ، يعني فضحكت( ).
وعن الحسن البصري قال : كان جبريل عليه السلام يأتي النبي عليه السلام فيقول يا محمد إن الله يأمرك أن تضع آية كذا بين ظهراني آية كذا وكذا من السور( ).
ويمكن إنشاء قانون وهو : الصلة والترابط بين آيات القرآن أعم من العطف بحروف العطف إذ تتداخل وتتعدد معاني الآيات ، ومضامينها القدسية .
ويمكن القول بقانون وهو كل آية من القرآن لها صلة بأي آية من القرآن ، وإن جاءت احداهما في أول نظم القرآن ، وأخرى في آخر سور القرآن في المصحف .
وهو من أسرار التباين بين أوان نزول السور وبين ترتيبها في المصحف ، فقد تجد سورة مكية نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل هجرته مكتوبة في المصحف قبل سور مدنية عديدة .
فتجد مثلاً سورة الأعراف وهي مكية متقدمة على عدد من السور المدنية مثل سورة الأنفال والأحزاب والجمعة والمنافقون والفتح ، بل وعلى سورة التوبة والنصر وهما من آخر ما نزل من القرآن .
وقد تقدم جدول أوان نزول سور القرآن ، والمدار في الترتيب على الآيات الأولى من السورة .
ومجموع السور القرآنية مائة وأربع عشرة سورة .
وعدد السور المكية منها احدى وثمانون سورة .
وعدد السور المدنية ثلاث وثلاثون سورة على المختار( ) .
وهل من عطف بين السور المكية والمدنية ، الجواب نعم ومنه العطف والإشتراك في المعنى والدلالة والغايات الحميدة ، وعلوم الغيب والبشارات والإنذارات ، وموضوعية الحكم الذي يتجلى معناه بوضوح ولا يشتبه فيه باحتمالات بينها تزاحم ، والمتشابه الذي لا يقصد ظاهره تماماً ، ويلزم فيها التأويل ، وردها إلى المحكم مع الإيمان والتسليم بأنها كلام الله.
وتحضر قوانين التوحيد كما في آية البحث التي هي سور الموجبة الكلية في دخولها في معاني آيات كثيرة القرآن كما يتجلى في باب في سياق الآيات من هذا الجزء .
ولتعيين أوان نزول الآية القرآنية موضوعية في أحكام علم الناسخ والمنسوخ ، وترتب الأثر الشرعي عليها لأن النسخ هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي قطعي الدلالة لاحق مع الترتب والتراخي الزماني بينهما ، بحيث لو لم يأت الناسخ لبقي المنسوخ ملزماً .
والمختار وقوع النسخ في القرآن ، ولكن الآيات المنسوخة قليلة جداً ، وقيل أن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) نسخت أكثر من مائة آية من آيات السلم والموادعة والصلح .
والمختار أنه لا أصل لهذا النسخ وكثرته ، وقد صدرت لي أجزاء بعنوان آيات السلم محكمة غير منسوخة ، وهي :
الأول : الجزء السادس بعد المائتين .
الثاني : الجزء السابع بعد المائتين .
الثالث : الجزء الثامن بعد المائتين .
الرابع : الجزء الرابع عشر بعد المائتين .
الخامس : الجزء الخامس عشر بعد المائتين .
في سياق الآيات
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية السابقة [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : لقد أخبرت الآية السابقة عن مكنون وبواطن النفوس مما لا يعلمه الناس وان اجتمعوا ، فمن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وسبل الهداية للناس إدراك كل انسان قانون وهو عجز الخلائق عن معرفة ما يدور في خلد ونوايا الإنسان من مفاهيم وتعاهد الخير والشر ، وقد تكون صلته مع شريكة أو رئيسه حسنة في الظاهر ولكنه ينوي الغدر والخيانة ، أو الهروب ، أو بالعكس هو ينوي الإحسان وإن صدرت منه ما يدل على الريب والشك .
لذا تفضل الله عز وجل وفضح المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر والشر .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)( ).
مما يدل على ترتب الأثر النفسي والجسدي على حال الفرح والسرور أو الحزن والغم والإنقباض .
وهذا من الإعجاز في القرآن والسنة النبوية ، إذ تدل الدراسات الطبية الحديثة على الملازمة بين الصحة البدنية والنفسية.
كما نص عليه القانون الدولي لحقوق الإنسان ، وفي المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق (يحق لكل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه).
ليمتاز القرآن بنفاذه إلى الصحة النفسية لعلاجها ووقايتها ، وإصلاح البدن ، فلا يرضى الله عز وجل للإنسان أن يفرح بالباطل ، ونزل كلام الله بالإخبار عن سوء عاقبة هذا الفرح لقوله تعالى [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
ولو كان أحدهم من الذين تذمهم آية البحث ، وتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء إلى الله عز وجل ليخلصه من هذه الحال وهو يقصد التوبة ، فهل يقبل الله دعاءه أم ينطبق عليه قوله تعالى [فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
الجواب هو الأول ، ونزلت الآية أعلاه بخصوص سؤال أهل النار للملائكة القائمين عليها ، وكأنهم يقولون لهم كانت الدنيا دار عمل بلا حساب ، ودار دعاء واستجابة من عند الله عز وجل وقد فرطتم فيها .
المسألة الثانية : لقد أخبرت آية السياق عن قانون من الإرادة التكوينية ، وهو كل شئ في السموات أو في الأرض هو ملك لله عز وجل وهو ملك تصرف .
فهل روح وقلب الإنسان الذي يفرح ويحزن من ملك الله عز وجل ، أم القدر المتيقن هو ذات الإنسان كمجموع واحد .
الصحيح هو الأول ، فكل عضو من الإنسان هو ملك لله عز وجل يفعل به الله عز وجل ما يشاء .
ومن مصاديقه ما ورد على لسان إبراهيم عليه السلام في التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ).
ليكون من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة الإنذار من الدرن الذي يدب في القلوب ، كما في قال تعالى [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ] ( ) ليكون من مصاديق ملك الله عز وجل بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
الأول : علم الله عز وجل بالذين في قلوبهم مرض .
الثاني : من إعجاز الآية أنها لم تقل (قلوبهم مرضى) بل أخبرت عن الظرفية بحرف الجر (في ) لبيان أن المرض على نحو السالبة الجزئية ، وهل يمكن القول بأن الله يأبى أن يستحوذ المرض على القلوب الجواب نعم ،لأنها ملك لله عز وجل ، ولنعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونفاذ آيات القرآن إلى القلوب ، لبيان قانون في منافع التلاوة وهو :
تلاوة القرآن واقية من مرض القلوب ، وإستحواذ المرض عليها .
وهو من الإعجاز في وجوب القراءة في صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء من قبل كل مكلف ومكلفة من المسلمين.
الثالث : من معاني مرض القلوب النفاق وإخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان ويقفون في صفوف المصلين .
والأضغان الأحقاد والعداوة الخفية للنبوة والتنزيل والحسد للمؤمنين ،ولم يرد لفظ [أَضْغَانَهُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وورد لفظ [أَضْغَانَكُمْ] ( ) بصيغة الخطاب في ذم المنافقين أيضاً ، وهو من إعجاز القرآن بتعدد اللفظ مع إتحاد جهة الخطاب والموضوع .
الرابع : من ملك الله عز وجل للسموات والأرض قانون منع المنافقين من إظهار الغش والغدر بالمؤمنين .
الخامس : من ملك الله عز وجل للسموات والأرض قانون استبدال المنافقين والذين في قلوبهم مرض بمؤمنين يتصفون بالتقوى ، قال تعالى [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] ( ).
المسألة الثالثة : إبتدأت آية السياق بقوله تعالى [لاَ تَحْسَبَنَّ] ، وقد تقدم في الجزء السابق أن من وجوه الخطاب في الآية : لا تحسبن يا رسول الله ، وهو من مصاديق ختم النبوة والرسالة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وبيان قانون وهو إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي الخطاب من عند الله [لاَ تَحْسَبَنَّ] وفيه إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولطف الله عز وجل به حتى في ظنه ، ونظرته للناس ، لبيان أن ملك الله عز وجل لمطلق الظنون والأوهام ، والله سبحانه لا يريد دبيب الأوهام إلى القلوب .
ولما كانت السموات والأرض ملك لله عز وجل فانه سبحانه أعان النبي محمداً والمؤمنين بكشف ضغائن وأحقاد وحسد الكافرين والمنافقين ، وحذّر من الطمأنينة لهم .
ومن الشواهد على أن ملك الله عز وجل ملك تصرف علمه بالظن والحسبان ، وإصلاح ظن المؤمنين بما ينفع في تثبيت معالم الإيمان في الأرض ، لبيان قانون وهو ما يحسبه النبي والمؤمنون تنعكس آثاره في الأرض ، فيكون من ملك الله عز وجل للسموات والأرض تفضله بمنع أسباب الأضرار العامة والخاصة .
لقد كان الإسلام في بدايات أيامه ولا يعلم الأذى الصادرمن طائفة من المنافقين إلا الله عز وجل ، وقد يؤدي النفاق وشيوع مفاهيمه إلى أضرار جسيمة من وجوه :
الأول : إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتعاون بين مشركي قريش والمنافقين ، فصرفه الله عز وجل ، وهذا الصرف من ملك الله السموات والأرض ، ومن قدرته على كل شئ ، لبيان قانون وهو آية البحث بشارة ورحمة وباعث للسكينة في نفوس المؤمنين ، فذات الآية فضل من الله ويترشح عنها الفضل وتتوالى عن معانيها النعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ) .
الثاني : إرادة صدود طوائف من الناس عن دخول الإسلام ، ليكون منع ظن وحسبان نجاة الذين يفرحون بكتمان البشارات والمعجزات سبيل هداية للناس ، وإزاحة للعوائق التي يضعها رؤساء الكفر والمنافقين .
الثالث : السعي لقعود الصحابة خاصة الأنصار عن الدفاع عند قدوم المشركين الغزاة ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
وحينما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة كانت قريش تجتهد في صد الناس عنه والنهي عن الإستماع إليه ، وكانوا يرمونه بالسحر والجنون .
وقد دافع الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ، قال تعالى [وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
فلم تكن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سحراً ، ولم يعلّم كاهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو قرآن نازل من عند الله ، وانقطع المشركون الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفترون على القرآن ، وهذا القطع من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وكان إنقراضهم على وجوه :
الأول : هلاك وموت عدد من رجالات قريش .
الثاني : قتل طائفة من فرسان قريش في ميدان المعركة ، فمثلاً قُتل منهم في معركة بدر سبعون ، وفي معركة أحد اثنان وعشرون.
وقال تعالى[إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ]( ) أي فكّر ماذا يفتري على القرآن ، وكيف ينكر تنزيله من الله [وَقَدَّر] أي هيأ ما يريد قوله من الإفتراء والتحكم بصيغة الشعر والنثر ، وفيه ذم للتفكر والتدبر لفعل السئ والقبيح في محاربة التنزيل ، وذكر أن الآية أعلاه نزلت في الوليد بن المغيرة ، إذ ورد عن ابن عباس قال (لما بعث النبي صلى الله عليه وآله جمع الوليد بن المغيرة قريشاً فقال : ما تقولون في هذا الرجل ، فقال بعضهم : هو شاعر .
وقال بعضهم : هو كاهن ، فقال الوليد : سمعت قول شاعر وسمعت قول الكهنة ، فما هو مثله . قالوا : فما تقول أنت؟
قال : فنظر ساعة { ثم فكر وقدر فقتل كيف قدر } إلى قوله : { سحر يؤثر } .) ( ) .
لذا جاءت آية البحث للنهي عن الفرح بهذا التدبر ، لتكون آية البحث منعاً لبروزه إلى الخارج .
الثالث : اعتزال كثير من الناس والقبائل القتال ، وإمتناعهم عن نصرة قريش .
الرابع : دخول فريق من الذين كفروا الإسلام .
وهو أكثر هذه الوجوه بدليل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
المسألة الرابعة : لقد إجتهد الكفار في الطعن والإفتراء على القرآن ، ومن إعجازه توثيق هذا الإفتراء ليبقى بين الناس إلى يوم القيامة ، ولم يعتمد القرآن صبغة تجاهر كلام العدو والتعتيم عليه ، لأن الله عز وجل له ملك السموات والأرض كما بينت آية البحث ، ومن مصاديق هذه الملكية ذكر الذين تعدوا عليها ، وأرادوا صرف الناس عن الإقرار والتسليم بها ، وكيف أن الله عز وجل أخزاهم ، وتدعو آية البحث إلى تقديس القرآن لأنه كلام الله الذي له ملك السموات والأرض ، وهو الذي لا تستعصي عليه مسألة ، ليكون من معاني آية البحث الإنذار والوعيد للذين يستهزئون بالتنزيل ، ويحضون الناس على عدم الإستماع للقرآن لإدراكهم لقانون وهو الإستماع للقرآن سبب للهداية والإيمان ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] ( ).
المسألة الخامسة : لما أخبرت آية البحث عن قانون ملكية السموات والأرض كلها لله عز وجل ، فان الناس ورزقهم يدخلون في هذه الكلية ، فهي سور الموجبة الكلية للمخلوقات .
وهل يدخل فيها أفعال الخلائق ، الجواب نعم ، قال تعالى بخصوص بني آدم [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
وقد وردت هذه الآية مرتين في القرآن مع الإختلاف بلحاظ نظم الآيات ، وفي خاتمة الآيتين ، وتدل الآية على أن الدنيا دار الإختبار والإمتحان ، ولكن المشيئة لله عز وجل .
وعن ملك الله عز وجل بخصوص آية المشيئة أعلاه وجوه :
الأول : قانون بيان الحسن الذاتي للإيمان .
الثاني : قانون تقريب الناس إلى سبل الإيمان .
الثالث : إزاحة العوائق التي تحول دون العمل الصالح .
الرابع : بيان القبح الذاتي للمعصية ، لذا تفضل الله عز وجل بانزال الكتب السماوية وبعث الأنبياء ، وليس من نبي ولا كتاب سماوي إلا ويبين الحسن الذاتي للعمل الصالح ، والقبح الذاتي للسيئات وإرتكاب المعاصي .
الخامس : تنحية الناس عن فعل المعاصي ، وإيجاد العوائق التي تحول دونه ، والمنع من مقدماته والتنبيه إلى حرمة هذه المقدمات لحرمة المقدمة لحرمة ذيها .
السادس : من اللطف الإلهي إمتناع المعصية ، وإن شاء الإنسان إرتكابها ، وهذا الإمتناع سبب للعصمة والسلامة من فعل المعصية ، وشاهد على حضور المشيئة الإلهية في عالم الفعل .
وليكون من مصاديق قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ) بيان فضل الله عز وجل على كل إنسان في إعانته وتقريبه إلى الإيمان وعمل الصالحات ، وفي تنحيته عن السيئات والمعاصي ، وفي زجره وابعاده عنها ، مع بيان الكيفية والعلة والطريق للهداية لتتجلى النعم الإلهية في بعثة الأنبياء ، ومنافع التنزيل في عالم السلوك الخاص والعام .
ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وصيرورته سبباً للصلاح ، وفي الثناء على المؤمنين ، قال تعالى [الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
المسألة السادسة : من ملك الله عز وجل للسموات والأرض حال الفرح والحزن عند الناس ، ويريد الله عز جل أن يكون الفرح بالخير والصلاح والنفع العام ، وليس بمحاربة النبوة والتنزيل ، لذا أنزل الله عز وجل آية السياق في ذم الفرح المترتب على الفعل القبيح ، وفيه زجر عن ذات الفرح بالبرهان الإني ، بذم المعلول لبيان قبح العلة ولزوم إجتناب أسباب هذا الفرح ، وفيه شاهد على أن ملك الله عز وجل ملك هداية وإصلاح .
وأن الله عز وجل لا يرضى للناس أو طائفة منهم أن تفرح بما هو خلاف أنظمة الإرادة التكوينية والتشريعية ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البشارات والإنذارات ، وهل يمكن القول بقانون مصاحبة البشارات والإنذارات لأيام الحياة الدنيا.
الجواب نعم ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقيصة.
وهو من أسرار تفضل الله عز وجل بجعل آيات القرآن بشارة وإنذاراً وآية السياق من آيات الإنذار ، على وجوه :
الأول : منع دبيب اليأس إلى قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فاذا أنكرت طائفة من الناس البشارات بنبوته وفرحوا بهذا الإنكار والكتمان فان القرآن نزل بمسائل :
الأولى : قانون ذم إنكار البشارات الواردة على لسان الأنبياء ، وفي الكتب السماوية السابقة.
الثانية : قانون تأكيد بشارات الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
الثالثة : قانون تجلي البراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحتى إذا أخفى فريق من الناس البشارات بنبوته ، وفرحت طائفة منهم بهذا الإخفاء فان الله عز وجل تفضل بالبراهين التي تدل على صدق النبوة وهو من أسباب جذب الناس إلى الإيمان وهدايتهم إلى مسالكه جماعات وأفواجاً ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الثاني : إخبار آية البحث بأن ملك السموات والأرض لله عز وجل إنذار للذين كفروا ، ودعوة للتقيد بقانون عدم الخروج عن طاعة الله ، لقانون إنقياد المملوك للمالك المطلق طوعاً وقهراً.
الثالث : فضل الله عز وجل في ذكر قبائح الأفعال في آية البحث دعوة سماوية ملحة لإجتنابها ، وفي التنزيل [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).
الرابع : إختتام آية البحث بقانون قدرة الله عز وجل على كل شيء تخويف وإنذار للذين كفروا ، فان الله عز وجل لا يرضى بالتمادي في الجحود في سلطانه وملكه .
ومن لطف الله عز وجل ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صدور الإنذارات من عند الله عز وجل ونزولها إلى الأرض مع خلوها من التزاحم أو التعارض ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
لقد أراد الله عز وجل صرف الناس إلى التدبر في كلام الله ، وما فيه من وجوه الإعجاز ولزوم التصديق بها وعدم إنكار نزولها من عند الله سبحانه.
ولقد خاطب الله عز وجل أهل الشك والريب بلغة الإحتجاج والبرهان بآيات عديدة منها قوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، لبيان وجود طائفة من الناس وذوي الشأن يقفون خلف أهل الريب والذين يفرحون بمحاربة النبي محمد والتنزيل ، فنزلت الآية أعلاه بطلب حضورهم وسؤالهم ، لبيان أن التحدي بنزول القرآن يشملهم مجتمعين ، ولتكون هذه الدعوة مناسبة لتوبة شطر منهم ، فقد يتوب الأمراء والرؤساء منهم قبل غيرهم.
ومن خصائص البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت مفاهيم التوحيد في الأرض ، وجعل الناس يدركون حضور النبوة في الوجود الذهني ، والواقع اليومي وفي المنتديات ، فهذا يتحدث عن النبي السابق والشريعة الحاضرة ، وهذا يخبر بما عنده عن النبي اللاحق .
لقد كانت البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الضلالة ، وعلى شياطين الإنس والجن ، ومانعاً لهم من الإستحواذ .
(عن عياض بن حمار المجاشعي : أنه شهد خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعه يقول : إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم من دينكم مما علمني يومي هذا ، إن كل مال نحلته عبداً فهو له حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنه أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً) ( ).
المسألة السابعة : من معاني الجمع بين آية البحث وقوله تعالى في أول آية السياق [لاَ تَحْسَبَنَّ] الإكرام والتشريف لكل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : تفضل الله ملك السموات والأرض بمخاطبته من غير واسطة إلا الملك الذي يقوم بالنزول بآيات القرآن لتبليغها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : نزول الملك جبرئيل والذي يتصف بالأمانة في أداء الرسالة والتبليغ والفعل إذ تشمله الآيات التي تثني على الملائكة كما في قوله تعالى [تَكَادُ السَّمَوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ) والآيات التي تمدحه على نحو الخصوص كما في قوله تعالى [وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ] ( ).
لبيان أن القرآن وتبليغ النبي الآيات ، وتلاوتها له وإعانته على حفظها وتدارسها معه إكرام متجدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوة للتصديق برسالته .
الثالثة : إصلاح ظنون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلها موافقة للواقع موضوعاً وحكماً ، وإذ منعت آية السياق من حسن الظن بالكافرين والمنافقين ، فقد جاءت آيات أخرى بمخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يتضمن الوعيد لهم ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] ( ) ويلتقي الكافرون والمنافقون في الظلم لأنفسهم والناس .
الرابعة : إعانة وتعضيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وتبليغه أحكام الشريعة ، فحينما نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) فانه يدل بالدلالة الإلتزامية على تفضل الله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض بتهيئة مقدمات وأسباب هذا التبليغ ونجاحه ،سواء كان في موضوع النزول والسبب الخاص أم تبليغ آيات القرآن وأحكام الحلال والحرام مطلقاً .
(عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم ، في علي بن أبي طالب) ( ) ، ومثله عن عبد الله بن مسعود .
الخامسة : لما أخبرت آية البحث بأن الله له ملك السموات والأرض ، فانه تعالى يسخر الأعوان وأسباب النصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل السموات ، وليس من الأرض والأصحاب فحسب .
لذا حينما إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية يوم معركة بدر نزلت الملائكة لنصرته بأمر من عند الله عز وجل ، كما ورد في التنزيل [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
وجاءت الآية أعلاه بحرف العطف الفاء في [فَاسْتَجَابَ] لبيان عدم وجود فترة بين دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستجابة الله عز وجل مع تعيين عدد الملائكة الذين نزلوا للنصرة وكثرتهم .
ولم يرد لفظ [تَسْتَغِيثُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدعاء ، والحاجة إلى هذا الدعاء ، واللهفة فيه والإلحاح فيه ، ويستقرأ هذا الإلحاح من معاني الإستغاثة .
لبيان قانون وهو المبادرة إلى اللجوء إلى الله عند الشدائد وقانون استجابة الله عز وجل الدعاء عند المحن والشدائد .
الثاني : تشريف المهاجرين والأنصار ، فكل من آية البحث والسياق مدنية ، نزلت بعد الهجرة النبوية ، إذ صار عدد المسلمين في إزدياد ويقابله محاربة المشركين لهم بالسيوف وظهور فئة المنافقين التي لم تختص بالرجال بل تشمل النساء ، فمن إعجاز القرآن ذكره المنافقات أيضاً ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
وهل يصح تقدير آية السياق : لا تحسبن اللاتي يفرحن بما أتين ، ويحببن أن يحمدن بما لم يفعلن فلا تحسبنهن بمفازة من العذاب ولهن عذاب إليم .
الجواب نعم ، ومن معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية السياق أن المنافقين يأمر بعضهم بعضاً في الفرح بما أتوا من المنكر والمعاصي ، ويقوم بعضهم بالثناء على البعض الآخر .
كما يمكن تقدير الآية بما يفيد فرح المنافقين بعمل المنافقات ، والكفار ، وبالعكس ، ويكون من وجوه تقدير آية السياق : لا تحسبن اللاتي يفرحن بما أتى الكفار والمنافقين ، ويحببن أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهن بمفازة من العذاب ولهن عذاب أليم .
الثالث : تشريف المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة بتوجه الخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدارك وإصلاح ظنه ، ولا يكون إلا بما يوافق الواقع من صرفه والمسلمين عن الإنتقام من المشركين .
ويتجلى هذا الصرف باختتام الآية بالتأكيد على العذاب المتعدد للذين كفروا بدليل قوله تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
ليفيد الجمع بين آية البحث والسياق والآية أعلاه إيمان طائفة من الكفار بالدعوة إلى الله ، وإنشغال الذين أقاموا على الكفر بأنفسهم ونزول البلاء والعذاب بهم في الدنيا .
وهل هذه الإقامة ثابتة لذات الأشخاص ، الجواب لا ، ففي كل يوم تتوجه لكل واحد منهم الدعوة من الله ورسوله إلى الهدى والإيمان .
وهو من عمومات قوله تعالى [يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
الرابع : مخاطبة كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة بآية البحث ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا الذين فرحوا ويفرحون بما أتوا .
وبلحاظ أن ذكر آية السياق للذين أنكروا بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخفوا البشارات الخاصة يأتيهم الذم من الأجيال اللاحقة أيضاً .
وهو من إعجاز القرآن بأنه يتجدد المدح للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ويتجدد الذم للذين كفروا في كل زمان ، فقد غادروا الدنيا بآجالهم ، ولكن ذكرهم بأعمالهم باق في الأرض ، وهو من الشواهد على حضور هذه الأعمال يوم القيامة ، وإطلاع أهل المحشر عليه .
ومن منافع تلاوة كل مسلم ومسلمة آية البحث والسياق في الصلاة اليومية الدعوة إلى الإيمان وإجتناب أسباب الذم التي وردت بخصوص الذين يخفون حقائق التنزيل ، ويريدون من الناس الثناء عليهم بما لم يفعلوا من الخير والصلاح ، وهل تختص هذه الإرادة والأذى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول ، الجواب لا ، إنما تشمل :
الأول : الإستهزاء والسخرية .
الثاني : الغمز واللمز .
الثالث : الإيذاء البدني حتى أثناء أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في البيت الحرام .
وقد قام عُقْبة بن أبي مُعيط بالقاء سلا جزور على ظهر النبي وهو يصلي ، كما قام بخنقه بردائه ( )، وكادت روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم تخرج لتمر الأيام ويهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ويتلقاه الأنصار ، وحين أصابته الشمس قام أبو بكر بالتظليل عليه بردائه.
الرابع : التحريض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدّ الناس عنه ، وفي التنزيل [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ] ( ).
الخامس : إيذاء أهل البيت وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً المستضعفين ، وقد قتلوا سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر إذ ماتت تحت التعذيب .
المسألة الثامنة : لقد ذكرت آية البحث قانوناً من قوانين التوحيد وهو إختصاص ملك السموات والأرض بالله عز وجل وحده ، فهو الملك والمالك للسموات والأرض ، ومن ملكه تعالى ملكه للناس فهم عبيد مجتمعين ومتفرقين ، داخرون لله عز وجل أراد منهم عبادته وتسبيحه ليفوزوا بالإقامة الدائمة في الجنة ، وتفضل الله عز وجل وبيّن في آية السياق إرادته أن يكون فرح الناس في مرضاته ، لما فيه من النفع العظيم ، ولا يكون في معصيته والذي يجلب الضرر للذات والغير ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
ومن الآيات أن ملك الله عز وجل للإنسان لن ينقطع بموته ، إذ يكون في عالم البرزخ وفي الآخرة في ملك الله وعرضه للحساب ونزول رحمة الله عز وجل ، فأنزل الله عز وجل أن لا يكون فرح الإنسان في الدنيا سبباً لحزنه في الآخرة ، قال تعالى [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الفرح الذي ذكرته آية السياق والضحك الوارد في الآية أعلاه .
المختار هو العموم والخصوص من وجه ، ويلتقيان في تمادي المشركين في غيهم وظلمهم .
وأراد الله عز وجل للإنسان أن يكون فرحه في الدنيا بطاعة الله عز وجل ليضاعف له يوم القيامة .
و(عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل فتقرح العيون ، فلو أن سفناً أرخيت فيها لجرت) ( ).
ومن معاني قوله تعالى [يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا] ( ) أن الكفار كانوا يفرحون عندما تتعرض سرية من سرايا المسلمين للأذى مع أن هذه السرايا لم تخفق في تحقيق أهدافها ، والتي تتقوم بتعظيم شعائر الله.
ويفرح الكفار والمنافقون إذا سقط شهيد أو شهداء من المهاجرين والأنصار ، فتفضل الله عز وجل ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للصبر على أذاهم الذي هو أعم من هذا الفرح الذي تذكره آية السياق ، لبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مأمور بعدم الإنتقام أو الثأر أو البطش باعدائه ، لذا تجلت مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) في السنة القولية والفعلية .
وحينما أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالصبر على أذى الكفار والمنافقين فانه سبحانه تكفل ودفع أذاهم وشرورهم ، ومن وسائل وسبل هذا الدفع آية البحث والسياق ، إذ تزجران عن هذا الأذى .
فان قلت هل في فرح الذين كفروا أو المنافقين فيما أتوا من المعاصي وحبهم للثناء عليهم بما لم يفعلوا أذى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب نعم .
لذا فان آية السياق تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وأختتمت بالإخبار عن العذاب الشديد الذي يلقاه الذين يفرحون بمحاربته وما يلقاه وأصحابه من الأذى.
ترى ما هي النسبة بين الكفار والمنافقين وبين الذين ذكرتهم آية السياق ، فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي وأن الكفار كلهم يفرحون بما أتوا من الظلم والمعصية [وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا]( ).
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الكفار والمنافقون أعم وأكثر عدداً من الذين ذكرتهم آية السياق .
الثانية : الذين يفرحون بما أتوا من المعاصي أعم من الكفار والمنافقين.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما.
الرابع : نسبة التباين والإختلاف.
فالذين يفرحون بما أتوا غير الكفار والمنافقين.
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
فقد يكون كافراً ولكنه لا يفرح بما يؤذي به المؤمنين أو لم يؤذ المؤمنين أو أنه كان يفرح بفعل المعصية وانكار بشارات الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ثم توالت معجزات النبي محمد ونزول آيات القرآن فكف عن هذا الفرح وصار يندم على هذا الإنكار ويميل إلى هجرانه ، لذا لم تذكر آية البحث أسماءً مخصوصة بل ذكرت على نحو الإجمال بصيغة الذم الذين يقيمون على ذات الفعل المذموم الذي هو من جهتين :
الأولى : الرضا والغبطة باخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الرغبة بالثناء على أفعال حسنة وعمل صالح لم يؤته مثل نصرة النبي محمد ، والإنفاق في سبيل الله ، والمرابطة وحراسة أطراف المدينة من غزو سرايا المشركين بما يبعدهم على المدينة وزروعها وأنعام أهلها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
المسألة التاسعة : لقد ابتدأت آية البحث بقانون [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وهذا القانون مستديم ومستمر في النشأتين ، وتخاطب الآية كل جيل يخرج إلى الدنيا بأنهم وما حولهم ملك لله عز وجل.
ومن أسرار أختتام آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) قانون عجز الناس في كل زمان عن الإحاطة بملك الله ، وهو الذي تدل عليه الإكتشافات الحديثة في علوم الفضاء وباطن الأرض ، وتدخل البحار والجبال مع الأرض في الآية أعلاه مع ورودها مستقلة في آيات أخرى ، كما في قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ).
والمختار أن عطف الجبال على الأرض في الآية أعلاه من عطف الخاص على العام ، ويتفضل الله عز وجل بمخاطبة النبي محمد [َلاَ تَحْسَبَنَّ] لبيان أهمية هذا الحسبان والظن في حياة النبي والمؤمنين وعامة الناس في ذاته وفي موضوعيته وأثره .
وعندما غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا هل بقي أثر لحسبانه وظنه الذي تذكره آية البحث أم أنها تتعلق بحسبان وظن المسلمين ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، وكلاهما صحيح .
وتقدير الآية : لا تحسبوا كما كان رسول الله لا يحسب الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبوهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم .
وهل من صلة بين قوله تعالى [لاَ تَحْسَبَنَّ] في آية البحث وغيرها تأهيل وإرتقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمرتبة [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، الجواب نعم .
وهو من إعجاز القرآن وفضل الله عز وجل في عصمة الأنبياء ، وفي تهذيب منطق وفعل المسلمين ، ونشرهم للأمن ، وتعاهدهم للسلم المجتمعي ، ومن هذا التعاهد تحملهم الأذى من أول أيام البعثة النبوية.
المسألة العاشرة : لقد ذكرت آية السياق بصيغة الذم والنهي أفعالاً لطائفة من الناس ، وهي :
الأول : اتيان الفعل المنهي عنه كانكار النبوة ،وإخفاء البشارات بها ، وإيذاء الرسول .
الثاني : الفرح بالفعل المنهي عنه ، فقد يأتي الإنسان بالفعل بالمعصية وهو يدرك قبحها ، فيكون هذا الإدراك نوع طريق للإقلاع عنها ، ليكون من إعجاز آية البحث أن ذكر الفرح بها فعل إضافي مذموم يترتب عليه الإضرار بالذات والغير .
وهل تدعو آية السياق لهجران هذا الفرح وحده ، أو أن العذاب يتعلق به على نحو الخصوص ، الجواب لا ، إنما تخبر الآية عن العذاب الإضافي على الفرح بفعل السيئات ، واخفاء البشارات وإنكار النبوة خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمتاز ويختلف عن عامة الناس بمصاحبة المعجزة له وهي أمر خارق يدل على أن الله عز وجل بعثه للناس .
فالمعجزة واسطة وحجة لقبول دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه ، وملاقاة الذين كفروا في حربهم عليه ، سواء حربهم بالسيوف أو الأقلام أو الإقتصاد ، كما في حصار قريش لبني هاشم ، وبني عبد المطلب لثلاث سنوات لإرادة تسليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم كي يقتلوه .
وليستمر الحصار من السنة السابعة إلى السنة العاشرة للبعثة النبوية ، ومنه إمتناع قريش عن مبايعة ومناكحة بني هاشم الذين (جَهِدُوا حَتّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْخَبَطَ وَوَرَقَ السّمَرِ حَتّى إنّ أَحَدَهُمْ لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ) ( ).
لقد اجتمع أربعون من سادات قريش في دار الندوة التي أنشأها قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتفقوا أن يكونوا يداً واحدة على محمد واتباعه .
وكان عدد الذين حوصروا أربعين رجلاً عدا النساء والأطفال ، ومنهم خديجة أم المؤمنين مع أنها ليست من بني هاشم ولا من بني عبد المطلب ، إنما هي من بني أسد من قريش .
ولكنها إنحازت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحملت الجوع والأذى ، مع كثرة الأموال التي كانت عندها ، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من مصاديق قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ…] ( ) الصبر والشهادة الجهادية من خديجة عليها السلام على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخولها الإسلام في اليوم الثاني لبعثته .
ووقوفها والإمام علي عليه السلام خلف النبي في الصلاة في البيت الحرام يركع ويركعان ، ويسجد ويسجدان في ظاهرة إيمانية غير معهودة في البيت الحرام ، وتنذر بازاحة الأصنام التي يعبدها رجال قريش ، لذا اختاروا الحرب على النبوة والحصار لبني هاشم ، ولم يختصر الحصار على ما في الوثيقة من المقاطعة بل كانت التهديدات بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصل إلى بني هاشم كل يوم .
فكانوا يتناوبون بالحراسة حول بيوتهم الصغيرة والبسيطة ، وكان أبو طالب يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبيت في فراشه وينام بعض أولاده في فراش النبي .
ولم ينقطع هذا الأذى بانتهاء الحصار ، فقد نام الإمام علي عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة ، وهمّ المشركون بقتله ، وعندما علموا بشخصه وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم غير موجود قاموا بضربه .
وهل كانت قريش تفرح بايذائها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وموضوع فرحهم هذا من مصاديق آية السياق ، أم أنها خاصة بالأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد الهجرة ، الصحيح هو الأول ، كما أن موضوع الآية مستمر ، ومع عدم القول بالإستصحاب القهقري في علم الأصول فان مضامين الآية القرآنية أعم ، وقد تأتي بصيغة المضارع ، وتشمل أفراد الزمان الطولية ، وكذا العكس .
لذا جاءت بعدها آية الملك والقدرة المطلقة لله عز وجل .
وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، وفيه زجر للذين كفروا ، ومنع من إستدامة إقامتهم على الفرح بالباطل .
المسألة الحادية عشرة : من مصاديق آية السياق وفرح الذين كفروا بما أتوا قيام رجالات قريش بالضحك وهم يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن عبد الله بن مسعود قال (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور نحرت بالأمس قريبا فقالوا – وفي رواية فقال أبو جهل – من يأخذ سلا هذا الجزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد.
فانبعث أشقاهم عقبة بن أبي معيط فجاء به فقذفه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يرفع رأسه.
وجاءت فاطمة عليها السلام فطرحته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك) ( ).
فمن الفرح الذي ذكرته آية البحث تمايل المشركين طرباً في إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء صلاته ، إذ أنهم كانوا يعلمون أن هذه الصلاة دعوة يومية لأهل مكة وعمار المسجد الحرام لدخول الإسلام ، قال ابن عباس (لمّا نهى أبو جهل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة انتهرهُ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال أبو جهل : أتُهدّدني ؟
فواللّه لأملأن عليك إن شِئت هذا خيلا جرداً أو رجالا مرداً،
فأنزل اللّه سبحانه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي قومه {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخذته الزبانية عياناً.
{ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ }( ) وصلّ واقترب من اللّه سبحانه وتعالى)( ).
وهل كان قتل سبعين من المشركين يوم بدر عذاباً لهم على نحو الخصوص ، أم أنه عذاب للأحياء من المشركين أيضاً ، الجواب هو الثاني ، فكما كان الفرح بايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعم الذين يقومون بهذا الأذى وغيرهم ، فكذا يأتي العذاب لهم جميعاً ، ولكنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
فمن إعجاز الآية ذكرها لتعلق العذاب بذات الفرح مع الفعل ، ليشمل فرح الجماعة من المشركين والمنافقين على الفعل الذي يقوم به الفرد الواحد منهم ، أو جماعة أخرى منهم ، وتقدير الآية على وجوه :
الأولى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتى أحد الكفار والمنافقين.
الثانية : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتى جماعة منهم .
الثالثة : لا تحسبن الذي يفرح بما أتى جماعة من الكفار والمنافقين .
الرابعة : لا تحسبن اللاتي يفرحن بما أتت واحدة من المشركات والمنافقات ، إذ أن هذا الفرح تشجيع على إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصدّ عن الإسلام ، فأخبر الله عز وجل عما يستحقه من العقاب لدعوة الناس للإنابة والتوبة .
ليكون من معاني قوله تعالى [فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ]( )ولحوق العذاب بهم في الدنيا قتل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط في معركة بدر بعد خروجهم من مكة للقتال ، وإصرارهم على القتال يوم معركة بدر ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
فان قلت قد وردت الآية بصيغة المضارع [يَفْرَحُونَ] ( ) وهي آية مدنية ، وإيذاء أبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب ، وغيرهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة ، والجواب من جهات :
الأولى : يشمل الذم الوارد في الآية جميع المشركين الذين آذوا النبي ، وكانوا يفرحون بهذا الأذى .
الثانية : وحدة الموضوع في تنقيح المناط ، إذ يستحق الفرح على فعل المنكر وكتم حقائق التنزيل العذاب .
الثالثة : هل تشمل مضامين آية السياق الذين فرحوا بما فعلوا من الباطل من الأمم السابقة ، المختار نعم لإتحاد الحكم ، فهذا الفرح يؤدي إلى تأليب الذين كفروا على الأنبياء ، وتحشيد الجيوش لمحاربته ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
الرابعة : من الكفار والمنافقين في المدينة من كان ولغلبة الحسد يستحضر إيذاء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل الهجرة ، ويفرح بهذا الإيذاء مع إنقطاع مدته ، ولكنه يريد التشفي والتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فنزلت آية السياق لنهي الكفار والمنافقين وأهل الكتاب عن الفرح بما فعله المشركون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وقتلهم بعض الصحابة .
ومن منافع هذا النهي أنه دعوة للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستقراء المسائل من ذخائر آيات القرآن ، إذ يقود التدبر في آياته إلى قانون من جهات :
الأولى : آيات القرآن فوق كلام البشر .
الثانية : إنها دستور دائم ومتجدد.
الثالثة : خلو آيات القرآن من الضرر والإيذاء لأي فئة أو طائفة
لذا فان الإنذار والوعيد الوارد في آية السياق رحمة بالذين ذكرتهم الآية بصيغة الذم والتحدي .
إذ أخبرت الآية عن سوء فعلهم في المنتديات أو عند التقاء بعضهم ببعض ، قال تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ] ( ).
فمن علم الله عز وجل الذي تذكره الآية أعلاه ما ورد في آية السياق ، ولبيان أن علم الله عز وجل يقترن به إحصاء الأفعال والحساب .
المسألة الثانية عشرة : من الإعجاز في إختتام آية البحث بعظيم قدرة الله عز وجل إنقطاع فرح الذين كفروا والمنافقين بأيذائهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وباخفائهم البشارات برسالته .
ترى لماذا الإثم بهذا الإخفاء ، الجواب من وجوه :
الأول : مجئ البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الأنبياء السابقين والكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل .
وجاء في العهد القديم (9: 8 و كلم الله نوحاً و بنيه معه قائلا
9: 9 و ها انا مقيم ميثاقي معكم و مع نسلكم من بعدكم
9: 10 و مع كل ذوات الانفس الحية التي معكم الطيور و البهائم و كل وحوش الارض التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الارض
9: 11 اقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد ايضا بمياه الطوفان و لا يكون ايضا طوفان ليخرب الارض
9: 12 و قال الله هذه علامة الميثاق الذي انا واضعه بيني و بينكم و بين كل ذوات الانفس الحية التي معكم الى اجيال الدهر
9: 13 وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني و بين الارض) ( ).
وفي سفر العدد (25: 12 لذلك قل هانذا اعطيه ميثاقي ميثاق السلام) ( ).
الثاني : توارث بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أيام آدم عليه السلام ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن .
وأخرج أحمد وابن سعد والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟
قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام) ( ).
الثالث : الضرر العام الذي يلحق الناس بسبب كتمان وإخفاء البشارات بالنبوة ، فمن مصاديق ملك الله عز وجل للسموات والأرض الذي تذكره آية البحث البشارات بالنبوة ، ووجوب إعلانها وإظهارها ، وعدم إخفائها ، خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد لتثبيت إيمان الناس بقوانين ملكية الله عز وجل للسموات والأرض .
المسألة الثالثة عشرة : من خصائص تعقب آية الملك المطلق لآية البحث التحذير من الظن بنجاة الذين كفروا من العذاب ومنه التسليم بأن المعاد حق وصدق ، وأنه من أصول الدين ، فترى الذين كفروا متنعمين في الدنيا ، وعندهم رئاسة وسلطان ، وأموالهم في نماء وإزدياد ، ومنهم يبقى على هذه الحال ، وكثرة النعم حتى يفارق الدنيا .
بينما أختتمت آية السياق بالإخبار عن نزول العذاب الإليم بهم ، فيجب الإيمان باليوم الآخر ، ووقوف الناس للحساب حيث تنشر صحائف الأعمال ، وهو من فروع ملك الله للسموات والأرض وعظيم قدرة الله الذي نزلت آية البحث بالإخبار عنه .
وهل يمكن القول أن من مصاديق قوله تعالى [فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) إرادة العذاب النفسي في الدنيا والآخرة ، الجواب نعم ، وهو فرع العذاب الجسدي ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ] ( ).
فالحياة الدنيا دار سعة لبيان البشارات والتصديق بالمعجزات النبوية ، والتحلي بالإيمان ، والوقاية من العذاب الأليم الذي تذكره آية السياق .
المسألة الرابعة عشرة : من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة وجوه :
الأول : تثبيت أقدام المسلمين في مقامات الإيمان ، والتحلي بالصبر عند الشدائد لإدراك قانون وهو الإيمان واقية من العذاب الأليم .
الثاني : لزوم التنزه عن المعاصي والفرح بها ، إذ تكرر في آية السياق وبصيغة الذم الفعل [يَفْرَحُونَ] و[يُحِبُّونَ]لبيان موضوعية الحالة النفسية ، وترشحها عن الفعل وأثرها فيه من غير أن يلزم الدور بين موضوعيتها في إختيار الفعل وبين المترشح عن ذات الفعل مثل الفرح باتيانه .
وحينما أخبرت آية البحث عن قانون من الإرادة التكوينية وهو أن السموات والأرض ملك لله عز وجل فانه سبحانه أراد للناس أن يفرحوا في طلب مرضاته وفي طاعته ، ويمكن تقسيم الفرح إلى أقسام :
الأول : الفرح المحمود ، وهو الذي يترشح عن عمل الصالحات.
الثاني : الفرح المباح الذي ليس فيه سخط لله تعالى .
الثالث : الفرح المذموم ، وهو السرور بالمعصية ، وفعل ما يجلب سخط الله .
ومنه الفرح بما يأتي للنبي والمؤمنين من الأذى وما يحل بهم من المصائب ، قال تعالى [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ آية تجمع بين العمل الصالح والحضّ عليه ، لترغيب الناس بالإيمان ، وآية أخرى تجمع في الذم بين الفعل القبيح والدعوة إليه ، للزجر عن مفاهيم الكفر ، ومن هذه الآيات قوله تعالى [الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ( )
وهل من مصاديق قوله تعالى في آية السياق [يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا] الفرح بالبخل ، الجواب نعم ، والمتبادر من البخل هو الشح وقبض اليد عن الإنفاق والبذل ، ولكن معناه الإصطلاحي في المقام أعم ، إذ أنه يشمل أموراً :
الأول : حبس البشارات الموروثة عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإمتناع عن ذكر صفات نبي آخر ، وفي سفر أشعياء (هوذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم)( ).
الثالث : قبض اليد عن الإنفاق في سبيل الله .
الرابع : حضّ الناس على البخل والكف عن الإنفاق ، وفي التنزيل [هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
الخامسة : الفرح والتفاخر بالصدود عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
المسألة الخامسة عشرة : أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]والضمير (هم) في [َلَهُمْ] يعود إلى كل من :
الأول : الذين يفرحون بالضلالة والتلبس بها من جهات :
الأولى : كتمان بشارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الذين يحرضون على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الذين يحاربون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الذين يعبدون الأوثان ويصدون عن عبادة الله .
الخامسة : الذين ينفقون أموالهم في المعاصي ومحاربة النبوة ، ويمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ).
الثاني : الذي يحمدون أن يثنى عليهم في أمور لم يفعلوها منها :
الأول : الإيمان .
الثاني : الدفاع عن النبوة والتنزيل .
الثالث : الصبر في طاعة الله.
لقد كان التنزيل والنبوة بحاجة إلى المرابطة حول المدينة خشية مداهمة المشركين لها ، والقيام بقتل النبي وإشاعة القتل في الصحابة وسبي النساء والصبيان، وأخذ الأموال غنائم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ولكن المنافقين يمتنعون عن المرابطة ، ويسعون والمنافقات في قعود الصحابة عنها خصوصاً الأنصار لصلات القرابة بينهم ، ويخوفونهم بالأسر والقتل .
فنزلت آية السياق والبحث لتعضيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت معالم الدين ، وهداية الناس إلى الرشاد وسلامة المدينة وأهلها من غزو المشركين ، ولم يكن أهل المدينة على ملة واحدة فقد كانوا على وجوه :
الأول : المسلمون من الأنصار والمهاجرين ، والأنصار هم الأكثر عدداً ، وهل صار المهاجرون بعد صلح الحديبية أكثر عدداً في المدينة من الأنصار ، الجواب لا ، نعم بعد فتح مكة إزداد عدد الوفود إلى المدينة حتى سمّي العام التاسع للهجرة بعالم الوفود ، ولكن أغلب تلك الوفود كانت تأتي لتبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيتقنون أداء الصلاة ويتعلمون من الصحابة الأوائل سنن الفرائض ، وأحكام الحلال والحرام .
الثاني : المنافقون الذين يظهرون الإسلام كذباً لأن بواطنهم لم يغادرها الكفر والحسد.
الثالث : اليهود ، فقد كان في المدينة منهم كل من بني قريظة ، وبني النضير ، وبني قينقاع .
الرابع : الكفار الذين لم يدخلوا الإسلام بعد .
وكل هؤلاء وعوائلهم كانوا عرضة للأذى والقتل والأسر والسبي من قبل مشركي قريش وحلفائهم .
فتفضل الله عز وجل بآية السياق لمنع الناس من الإفتتان بالمنافقين والكفار ، ومما يضر المسلمين ، ويجعل المشركين يسعون لغزو المدينة ، لبيان مسألة وهي من إعجاز آية السياق أنها واقية لأهل المدينة جميعاً رجالاً ونساءً وصبياناً في أنفسهم وأموالهم فلذا ابتدأت بالخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد شخصه الكريم وعموم المسلمين .
وهل يشمل الخطاب تنبيه أهل المدينة كافة الذين تقدم ذكرهم لبعث السكينة في نفوسهم ومنع إثارة الفتنة ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة خاصة المهاجرين الجواب نعم .
ومن معاني الفتنة ما ورد عن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول في السعي لتفريق المسلمين من حول النبي لبيان مسألة وهي أن المنافقين كانوا يتربصون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للإيقاع والبطش بهم .
(عن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأصاب الناس شدّة ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ( )من حوله ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل( ) ،
فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبدالله بن أبيّ فسأله ، فاجتهد يمينه ما فعل .
فقالوا : كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في { إذا جاءك المنافقون }( ) فدعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر لهم ، فلووا رؤوسهم ، وهو قوله : { خشب مسندة }( ) قال : كانوا رجالاً أجمل شيء) ( ).
ويدل الخبر أعلاه على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج يومها للقتال ، وليس من قتل أو جراحات لحقت بأصحابه ،إنما كانت هناك شدة من وعورة الطريق وعناء السفر وشظف العيش .
والمختار أن هذه الآية نزلت بخصوص كتيبة بني المصطلق .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التحلي بأعلى مراتب الصبر ، وقد لاقى أشد الأذى من قريش قبل الهجرة ، وتحمله صابراً محتسباً ، وكأنه مقدمة للأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة من المنافقين وكفار قريش ، فقد كان يتعرض للأذى في مكة من كفار قريش .
أما في المدينة بعد الهجرة فصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الأذى من قريش والمنافقين وغيرهم ، مع فارق آخر وهو قيام قريش بالهجوم بجيوش كبيرة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قول رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول أظهر الصبر والحكمة .
(وَقَالَ لِعُمَرَ لَمّا أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ : لَا يَبْلُغُ النّاسَ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه) ( ).
وهل فيه شاهد بأن المنافقين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعم الجواب لا ، فقد يقال إنما يظن الناس على الظاهر أن هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أن عدداً من المنافقين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهراً ممن تضمنت آية السياق ذمهم ، ولا ينطبق عليه التعريف المشهور للصحابي ، وهو الذي لقي الرسول محمداً مؤمناً به ورافقه ، ومات على الإسلام ، ومنهم من عرف الصحابي بأنه لقي النبي مسلماً أي لا يشترط الإيمان .
وقال مالك (النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الزندقة فينا اليوم ، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة ، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه ، وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافقين ليسن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين) ( ).
ولكن هناك تباين بين الزندقة والنفاق ، وقاعدة لا يحكم الحاكم بعلمه تستقرأ من أدلة أخرى من الكتاب والسنة أظهر وأبين .
لقد نزلت آية السياق لفضح وزجر المنافقين ، ومنعهم من بث الإشاعات الكاذبة لتثبيط عزائم المهاجرين والأنصار .
ونزلت آية البحث للإخبار عن عجز المنافقين عن الإضرار بالإسلام والتنزيل .
فمن معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) قهر المنافقين ورميهم بالبلاء الذي يشغلهم عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فاذا كانوا يشمتون بالصحابة إن أصابتهم مصيبة، فان المنافقين ينزل بهم البلاء والمصائب وينشغلون بأنفسهم .
المسألة السادسة عشرة : من معاني صلة قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) بقوله تعالى [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا] ( ) وجوه :
الأول : علم الله عز وجل بما يظنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : من ملكية الله عز وجل للسماوات والأرض ملكه واستيلاءه على القلوب .
الثالث : فضل الله عز وجل في تعيين نوع الظن عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يمكن القول بعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الظنون وما يهّم به .
الجواب نعم ، لذا وردت الآية بصيغة المضارع ، وتتعلق في موضوعها بعالم الغيب ، فلا يعلم أحد أن الذين يفرحون بما يخفون من حقائق التنزيل لهم عذاب أليم على ذات الفعل المذموم وعلى الفرح به إلا الله عز وجل ، وقد اطلع عليه النبي محمداً وبما يصلح حال النبي ، ويخفف عنه وعن المؤمنين .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو حال القتال والدفاع .
المختار هو الأول، والنسبة بين أول الآية أعلاه وبين آخرها عموم وخصوص مطلق ، فأول الآية أعم .
المسألة السابعة عشرة : من معاني الجمع بين آية البحث والسياق بيان فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فالله الذي له ملك السموات والأرض ، وهو على كل شئ قدير يتفضل ويحذر النبي والمسلمين من الظن بنجاة الذين لا يغادرون الدنيا إلا وهم متلبسون بالكفر والنفاق ومحاربة النبوة والتنزيل .
وفي قوله تعالى [ لاَ تَحْسَبَنَّ]دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للشكر لله عز وجل على هذه النهي الإرشادي والتنبيه ، وما فيه من الأمل وشفاء صدور المؤمنين ، فما دامت السموات والأرض ملكاً طلقاً لله عز وجل فلا أحد يحجب البلاء والعذاب عن الذين كفروا سواء في الدنيا أو الآخرة .
وكذا فان كتمان البشارات والفرح بهذا الكتمان لا يضر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
فمن معاني الآية أعلاه تفضل الله عز وجل بازاحة العوائق التي تحول دون تبليغ الرسالة ، وعدم صيرورة إخفاء البشارات بنبوته سبباً لصدّ الناس عنها بوجود أناس أعلنوا هذه البشارات مثل عبد الله بن سلام ، ومحيرق وأبو رفاعة وابنه ، وسلمان الفارسي .
(عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو صدقني وآمن بي واتبعني عشرة من اليهود لأسلم كل يهودي كان قال كعب اثني عشر ، وتصديق ذلك في المائدة { وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً }( ))( ).
وعلى فرض صحة سند الحديث فان المراد هم عشرة مخصوصون من علماء بني إسرائيل ، ومن خصائص البشر أن أكثر القادة والرؤساء لا يستجيبون لدعوة النبي خشية على مقاماتهم ومصالحهم وإنقياد الناس لهم كما في حرب قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه من أوسطهم ، وكان يسمى قبل النبوة (الصادق الأمين ) وكانت معجزاته الحسية والعقلية تترى بفضل ولطف من الله عز وجل لتقريب الناس إلى الإيمان .
المسألة الثامنة عشرة : من معاني آية السياق أن الله عز وجل لا يرضى على الذين يفرحون بفعل المعصية ، وهل ينحصر عدم الرضا في المقام بإظهار الفرح في المقام أم يشمل ذات المعصية وإخفاء البشارات .
الجواب هو الثاني لبيان أن هذا الفرح معصية أخرى إضافية ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ] ( ).
ليكون عدم رضا الله عز وجل على إخفاء بشارات النبوة على وجوه :
الأول : الترغيب بإعلان البشارات ، ومن الآيات أن كل يوم يمر على الناس تتجلى فيه مصاديق هذه البشارات وتبين للناس عدم الحاجة إلى ما يكتم ويخفي هؤلاء من البشارات لتوالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : من عظيم فضل الله عز وجل أن سبل الهداية من اللامتناهي، فحينما يكتم الناس البشارات يتوالى نزول آيات القرآن ، وكل آية حجة وبرهان في الدعوة إلى الله عز وجل .
الثالث : من مصاديق [فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ]( ) رؤية الذين كفروا والمنافقين كيف يدخل الناس أفواجاً في الإسلام ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الرابع : عجز قريش وحلفائهم من الكفار عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن منع الناس من دخول الناس .
المسألة التاسعة عشرة : قد تقدم في الجزء الواحد والخمسون بعد المائة من هذا السِفر : يفيد قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( )، قانوناً وهو أن مسائل وآيات التنزيل في الكتب السماوية السابقة جاءت في القرآن ، وهو أعم من النسخ وموضوعه( ).
لبيان مسألة وهي إظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهادة على صدق نزول الكتب السماوية السابقة من عند الله عز وجل .
وتتضمن آية السياق دعوة الناس لإدراك سبل الهداية والرشاد لذمها للذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من مصاديق الخير والدفاع عن النبوة ، وأداء الفرائض .
وقد تقدم في الجزء الثامن والأربعين بعد المائة من هذا التفسير (بيان استنارة طريق الهداية إذ يدل قوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] على قانون وهو أن سبل رضوان الله جلية واضحة للناس مع التباين في مداركهم ، قال تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للجوء إلى الله عز وجل وحسن التوكل عليه لصرف أذى الذين يفرحون بالصدود عن التنزيل ، ويفرحون عندما يقوم غيرهم بذات الصدود مثلهم .
ومن معاني آية السياق منع إجتماعهم على إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الفرح بالمعصية نوع إقامة عليها ، ومقدمة لإتيان ما هو أشد منها من المعاصي ، فجاءت آية السياق لكشف قبح الفرح بالمعصية ، ومنع التمادي فيها .
فمن إعجاز الآية القرآنية أنها تأديب للناس وتهذيب للأخلاق .
قراءة في [لَا تَحْسَبَنَّ]
وقد ورد لفظ (لاتحسبن) في آيات من القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثانية والثالثة : تكرار لفظ (تحسبن) في آية السياق [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]( ).
السادسة : قوله تعالى [لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
صلة آخر آية البحث بآية السياق
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من أسماء الله عز وجل [الْخَالِقُ] [الْخَلاَّقُ] لتفيد الألف واللام لام العهد ، فليس من خالق غير الله ، لبيان قانون وهو ما سوى الله مخلوق ، وتنقاد الخلائق له سبحانه ، ولما ابتدأت آية البحث بذكر الملكية المطلقة لله عز وجل لكل شئ في عالم الأكوان وغيرها مما لا يعلمه الناس وما لا يصل إليه العلم الحديث ، وإن كان الذي توصل إليه العلم في هذا الزمان يفوق حد التصور الذهني بالنسبة للأمم والأجيال السالفة ، وبالنسبة لأهل هذا الزمان .
ليكون من معاني التجدد والنضارة في قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ) تجلي الإعجاز في الكون وخلق الإنسان لأهل هذا الزمان بما يقربهم إلى اليقين ويطرد عنهم الشبهات ووساوس الشيطان .
ومما يظهر في العلوم والإكتشافات الحديثة وحدة السموات والأرض ، وأن الأرض كانت جزء من المجموعة الشمسية ثم انفصلت عنها ، وإن كان إصطلاح المجموعة الشمسية هذا لا يخلو من دعوة للتدبر لموضوعية الأرض فيها من الأصل ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
وجاء الفعل [كَانَتَا] بصيغة التثنية لبيان سنخية السماء وسنخية الأرض .
والرتق : مصدر يدل على الإلتصاق والإلتحام ، ففتق وفتح الله عز وجل بينهما (قال ابن عباس : ففتق الله بينهما بالهواء ) ( ).
وجعل الله السماء سبع سموات، والأرض سبع أرضين ، وجعل الله عز وجل السماء تنزل المطر ، والأرض تنبت الزرع .
المسألة الثانية : لقد أختتمت آية البحث ببيان عدم استعصاء مسألة على الله عز وجل ، فهو سبحانه قادر على كل شئ في الموجود والمعدوم ، وقدرته نافذة وعاجلة ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
ومن عظيم قدرة الله عز وجل البطش والإنتقام ممن يخفون بشارات النبوة والتنزيل عن عمد وقصد لصدّ الناس عن الإسلام ، ولكن الله سبحانه يمهلهم ، وأنزل آية السياق لبيان أنه على كل شئ قدير بأن تأتي منافع البشارات من طرق وسبل متعددة بما يجذب الناس إلى سبل الهداية ، وهو من مصاديق حلم الله وسعة رحمته وانتفاع الناس جميعاً من سلطانه وقدرته تعالى على كل شئ.
وهل في الآية تأديب للملوك والرؤساء بلزوم الحلم والرأفة وعدم المسارعة إلى العقاب ، الجواب نعم .
فيأتي الله عز وجل بالعوض والبديل في الأثر والتأثير في إقامة الحجة على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل في خاتمة آية البحث بشارة ظهور الإسلام وإن كان الكفار يخفون معجزاته التي يشاهدونها ، والمنافقون يحبون الثناء عليهم من غير أن يعملوا ما يستحقون من سنن وآداب الإيمان ، فلم يظهروا الطاعة لله ورسوله ، وقد قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الجواب نعم ، وهو من أسرار تعقب ومجئ آية البحث بعد آية السياق ، ليكون من معاني قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، أن الله عز وجل يظهر الأنبياء ، ويجعل الشرائع السماوية هي السائدة .
إذ يتفضل الله عز وجل بأمور :
الأول : الوحي للأنبياء .
الثاني : المعجزة النبوية .
الثالث : الحجة والبرهان .
الرابع : جعل قلوب الناس تميل إلى النبوة والتنزيل ، وحب العمل في طاعة الله ، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن في المقام أن كل آية منه دعوة للصلاح ونبذ الكفر والجحود ، ويمكن القول بأن الآية القرآنية من أقوى الأسلحة في أيام الحياة الدنيا من غير إضرار أو إراقة دماء ، وهي أكثرها استدامة وتأثيراً ، وهو من الإعجاز في كل من :
الأول : سلامة القرآن من التحريف ، ونسبة هذه السلامة إلى الله عز وجل قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، لبيان أن هذا الحفظ من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثاني : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين والمسلمات كل واحد منهم آيات من القرآن سبع عشرة مرة في اليوم والليلة .
الثالث : تجلي معاني السلم المجتمعي والعدل واحقاق الحق في آيات القرآن ، لذا فالمختار أن آيات السلم محكمة ولم تنسخ بآية السيف أو غيرها .
وقد صدرت أجزاء من هذا التفسير بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهذه الأجزاء هي :
الأول : الجزء السادس بعد المائتين .
الثاني : الجزء السابع بعد المائتين .
الثالث : الجزء الثامن بعد المائتين .
الرابع : الجزء الرابع عشر بعد المائتين.
الخامس : الجزء الخامس عشر بعد المائتين .
المسألة الثالثة : ترى لماذا أخبر الله عز وجل عن قدرته على كل شئ ، الجواب ليس من حصر لمنافع هذا الإخبار والذي هو حق وصدق ، ومنها بلحاظ الآية السابقة مسائل :
الأولى : علم الله عز وجل بالظنون والنوايا ، وما يدور في خلد الإنسان.
الثانية : إصلاح ظنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما يكون لعالم الحساب والجزاء في الآخرة فيه شأن.
الثالثة : إظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن أخفاها الذين ورثوها .
الرابعة : لحوق الخزي بالذين يخفون هذه البشارات .
لقد أراد الله عز وجل بالإخبار في آية السياق عن سوء عاقبة الكفار والمنافقين دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى التوكل على الله عز وجل الذي هو على كل شئ قدير .
لذا يتلو كل مسلم قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، في كل فريضة من الصلاة ، لتكون هذه الإستعانة سبيل استدامة الإيمان ، وعبادة الله في الأرض .
وليحل الإقرار والتسليم بأن الله عز وجل على كل شئ قدير محل الظن بنجاة الذين كفروا والمنافقين من العذاب ، مع بيان الفارق الرتبي والنوعي بين الإقرار وبين الظن ، وإن كان كل منهما من عالم الوجود والتصور الذهني.
ولكن هذا الإقرار باعث للسكينة في النفوس وهو واقية من كيد الذين كفروا إذ أن حب المنافقين والكفار بالثناء عليهم فيما لم يفعلوا من وجوه الخير والصلاح أمر ضار في ذاته وأثره ، وفيه خلط للمفاهيم ، وإرباك للمجتمعات ، فاراد الله عز وجل التحذير منهم وقد نزل القرآن بوجوب إجتناب اتخاذهم بطانة وخاصة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ) .
والذي يريده أهل آية السياق أكثر من تولي شؤون ومرتبة البطانة ، إنهم يريدون النفاذ إلى منازل القرار فنزلت الآية في فضحهم لتجعلهم بين أمرين إما التوبة والإنابة ، وإما الإنزواء وانصراف ضررهم ، وهو من عظيم قدرة الله .
لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
المسألة الرابعة : من خصائص عالم الإمكان ، ومنه الإنسان الضعف والفقر والحاجة المستديمة فترى الإنسان يعمل ويكدح ويسعى في حاجاته وغيرها ويطمع ويطمح ، ولا يرتوي من الدنيا ، فبعث الله عز وجل الأنبياء لإخبار الناس عن قانون وهو : قضاء الحاجات وتحقيق الرغائب عند الله وحده .
فان قلت قد ورد في التنزيل [قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( )، فاذا كانت آمال ورغائب الإنسان أكثر من القدر الذي جعله عنده فهل يزاد هذا القدر ، الجواب نعم، ومن القدر طول الأجل وأيام العمر وتدخل أسباب في توسعته وزيادته الدعاء والمسألة.
ومن معاني الآية أعلاه صيرورة نزول آية السياق صداً ومنتهى للأضرار التي تتفرع عن إخفاء وكتمان البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنقطاع الظن بنجاة الذين يخفونها من العذاب الأليم.
فمن مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، ملاحقة الوعيد للذين يخفون المعجزات ، ويمتنعون عن التصديق بها بغياً وحسداً ويتصفون بالنفاق ، ويريدون الإطراء والثناء عليهم بما لم يفعلوا من الطاعة لله ورسوله .
المسألة الخامسة : لقد نزلت سورة آل عمران التي منها آية البحث والسياق ، وهي السورة الوحيدة التي تسمى باسم أسرة إكراماً لآل عمران وقد رغّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوتها ، منها ما ورد عن ابن عباس قال (قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : من قرأ السورة التي يُذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى اللّه عليه وملائكتهُ حتى تغيب الشمس.
وعن زرّ بن حُبيش عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من قرأ سورة آل عمران أُعطي بكلَّ آية منها أماناً على جسر جهنَّم)( ).
و(عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما)( ).
و(عن عمر قال : سمعتُ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم يقول : تعلَّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان ، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاءً حتى يدخلاه الجنَّة)( ).
والمختار أن سورة آل عمران لم تنزل دفعة واحدة مثل سورة الأنعام ، إنما نزلت آيات نحو ثمانين آية من أولها بخصوص وفد نصارى نجران ، ونزلت آيات منها بخصوص معركة بدر ، وأخرى بخصوص أحد.
(قَالَ عُثْمَانُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَمَّا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَدْعُو بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ لَهُ فَيَقُولُ : ضَعْ هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ .
وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا ، فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا ، فَمِنْ هُنَاكَ وَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَأَخْبَرَ عُثْمَانُ أَنَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لَمْ يَكُنْ مِنْ السُّورَةِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَكْتُبُهَا فِي فَصْلِ السُّورَةِ بَيْنَهَا وَبَيْن غَيْرِهَا لَا غَيْرُ)( ).
ولا يدل كلام عثمان هذا على أن البسملة ليست من السورة ، والقدر المتيقن أنه احتسبهما كالسورة الواحدة .
وقد وردت الأخبار بخصوص جزئية البسملة من القرآن ، وأن سورة براءة وهي سورة التوبة ليس فيها البسملة لأنها نزلت في الإنذار والوعيد للمشركين ، وإرادة حملهم والمنافقين على هجران الشرك ومفاهيم الكفر ، والبسملة عنوان أمان ورحمة .
وهل آية البحث والسياق من هذا الحمل والزجر ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن الأمر بالشئ في القرآن وكذا النهي عن أمر وفعل لا يأتي بآية واحدة ، إنما يأتي بآيات متعددة ، وآيات تتضمن الترغيب بمقدمات الأمر الحسن ، وآيات تبين قبح الفعل المنهي عنه.
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
وفي ذكر البسملة في افتتاح كل سورة من القرآن وعدم ذكرها في أول سورة التوبة دعوة للمسلمين والناس للتدبر في إعجاز القرآن بخصوص موضوعية البسملة ، وإكرامها والرأفة بمن يقولها.
وسورة الأنفال من أوائل سور القرآن نزولاً في المدينة ، وسورة التوبة من آخرها نزولاً ، لبيان معجزة في نظم القرآن وأسرار ذكر البسملة في القرآن ، وأن سورة التوبة تمهيد للتصدي للردة بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستئصالها.
المسألة السادسة : كما أخبرت آية البحث عن ملك الله عز وجل للسموات والأرض وأنه على كل شئ قدير ، جاءت آية أخرى من القرآن بذات الألفاظ ولكن بدل (قدير) ورد لفظ (شهيد) ، قال تعالى [الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
ليشهد الله عز وجل على ملكه المطلق للسموات والأرض ، وأنه على كل شئ قدير ، وفي التنزيل [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، ويشهد الله على مضامين آية السياق بوجود طائفة تفرح بكتمان حقائق التنزيل كما يشهد الله عز وجل على كذب ورياء المنافقين ، وأن العذاب الأليم ينتظرهم .
وهل يشهد الله عز وجل على عصمة وسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الظن بنجاة الكفار والمنافقين من عذاب النار ، الجواب نعم .
وقد أخبر القرآن بشهادة الله عز وجل على كل شئ [أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
المسألة السابعة : من خصائص آية البحث إثباتها لنبوة الأنبياء وخوارق العادات التي جاءوا بها ، وعدد الأنبياء هو (124) ألف نبي ، وذكر القرآن منهم خمسة وعشرين ، لبيان الأصول والقواعد العامة في النبوة والدلائل عليها ، ولكن المسلمين يؤمنون برسالة كل الأنبياء والرسل ويفتخرون بان النبوة انقطعت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو خاتم الأنبياء ليس من نبي بعده ، قال تعالى [ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البيان والكشف ، ومع أن عالم الآخرة من علوم الغيب فقد جاء القرآن والكتب السماوية السابقة بأمور :
الأول : الإخبار عن عالم الآخرة وأنه عالم حساب وجزاء .
الثاني : لزوم التصديق بعالم الآخرة .
الثالث : بعث الناس للعمل للآخرة ، (عن ابن مسعود قال : إنه لمكتوب في التوراة : لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم ترَ عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولا يعلم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وإنه لفي القرآن { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}( ))( ).
الرابع : بيان شطر من مواطن وأهوال الآخرة .
الخامس : نجاة المؤمنين الذين يعملون الصالحات من الأذى والخوف والضرر في الآخرة ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر ) ( ).
وعالم الآخرة من مصاديق آية البحث من جهتين :
الأولى : عالم الآخرة من ملك الله للسموات والأرض ، إذ أن الله عز وجل يملك المكان والزمان والمخلوقات والأفعال ، وله المشيئة والإرادة المطلقة .
الثانية : عالم الآخرة من بديع قدرة الله وعظيم سلطانه ، وهل تدل خاتمة آية البحث على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، الجواب لا ، وإن كان وجودهما الآن هو المشهور والمختار.
الرابعة : بيان القرآن والكتب السماوية السابقة لقانون الفصل والتضاد بين أهل الجنة وأهل النار ، وأن هذا الفصل قائم بفيصل الأعمال ، قال تعالى [يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ]( ).
وهل أهل آية السياق ممن يشقى أم يسعد يوم القيامة ، الجواب هو الأول ومن البيان في القرآن ذكر آية السياق للعذاب الأليم الذي ينتظرهم وللملازمة بين العذاب والشقاء ، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، من جهات:
الأولى : البشارة للمؤمنين بالنجاة من العذاب الأليم لإنتفاء السبب له ، ولامتناعهم عن فعل المعاصي والفرح بها .
الثانية : دعوة الناس لإجتناب الفعل المذموم الذي تذكره آية السياق .
ومن إعجاز الآية أنها لم تكتف بذكر فعل مذموم واحد ، بل ذكرت ثلاثة أفعال مذمومة هي :
الأول : فعل المعصية ، وكتمان البشارات النبوية.
الثاني : الفرح بهذا الكتمان والإخفاء ، وما يترشح عنه من الأضرار.
الثالث : حب تلقي الإطراء والمدح على سراب من الأفعال .
وفيه شاهد بأن الإنسان يميز بين الفعل الذي يستحق المدح العام ، والفعل الذي يلزم الذم عليه .
ومن أبهى الأعمال التي تستحق المدح الإيمان وأداء الفرائض وعمل الصالحات والمداومة عليها عرفاً من غير شدة وحرج على النفس .
الثالثة : آية البحث رحمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنجاته من الظن الذي هو خلاف الواقع بخصوص عاقبة الذين كفروا ، لبيان قانون وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة له أيضاً ، وتنفذ هذه الرحمة إلى الظن والحسبان لقوله تعالى في آية السياق [لَا تَحْسَبَنَّ]( ).
الرابعة : الرحمة لأجيال المسلمين لما في آية السياق من أسباب التفقه في الدين ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
الخامسة : آية السياق رحمة يومية متجددة بالذين ذكرتهم بصيغة الذم ، لما فيها من التنبيه للزوم هجران الفعل القبيح ، ومن أسرار تلاوة المسلمين لآية البحث في الصلاة وخارجها تذكير هؤلاء بلزوم إظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق المعجزات التي جاء بها ، وإختيار الإيمان حيث يأتي المدح معه على العمل الصالح .
وهذه التلاوة اليومية من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا]( ) إذ أن توزيع فرائض الصلاة اليومية على أوقات الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء إنتفاع أمثل من الوقت وجعله سبباً للذكرى .
لقد أراد الله عز وجل للناس التدارك والإنابة قبل الموت ، فكان القرآن الإمام في هذا السبيل ، إذ تبعث كل آية منه الناس على إختلاف مذاهبهم إلى الإستغفار والإنابة والتوبة والتحذير من مغادرة الدنيا بالحسرة والندامة ، ومنها حسرة أولئك الذين تذمهم آية السياق ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
المسألة الثامنة : لقد ورد في آية السياق كل من :
الأول : الاسم الموصول (الذين )، وهل يشمل جميع الذين ذكرتهم آية البحث وإرادة إتحاد الموضوع أم هناك حذف لذات اللفظ، المختار هو الثاني ، وتقدير الآية : لاتحسبن الذين يفرحون بما أتوا والذين يحبون أن يحمدوا …).
الثاني : واو الجماعة التي ذكرت في آية السياق خمس مرات ، يفرحون ، أتوا، يحبون ، يحمدوا ، لم يفعلوا ، والمقصود طائفة واحدة .
ولو دار الأمر بين التعدد في العذاب بين أمرين :
الأول : شمول العذاب طائفتين :
الأولى : الذين يفرحون بما أتوا من المعاصي .
الثانية : الذين يحبون أن يثنى عليهم مع تخلفهم عن مواطن الثناء ، كما لو كانوا يريدون من الناس نعتهم بأنهم مؤمنون ، وأنهم كرماء ، وينفقون في سبيل الله ، ويخرجون الزكاة والخمس ، وهم ليسوا بؤمنين ولا ينفقون في سبيل الله .
الثاني : إختصاص العذاب بالذين يجمعون بين الفرح بما أتوا من المعاصي ، وبين إرادة الثناء عليهم من غير حق .
فالمختار هو الثاني ، وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ولا يعني هذا أن الذين يرتكبون أحد الإثمين أعلاه ينجون من العذاب .
الثالث : الضمير (هم) إذ ورد مرتين في [فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ] وفي (ولهم) .
والمراد جميع الذين ذكرتهم آية السياق لبيان أن الكبائر وإن تباينت فان عقوبتها الخلود في النار ، وليس في آية البحث واو الجماعة أو ضمير ، إنما يتعدد موضوع الآية لبيان عظيم سلطان الله عز وجل ، وأسمائه الحسنى .
وللدلالة المخلوقات محتاجة إلى الله عز وجل سواء ذكرت بأسمائها أو بالضمائر التي تدل عليها ، إن كثرة واو الجماعة وتعدد الضمير في آية السياق بخصوص الذين يعصون الله عز وجل ما أمرهم شاهد على تفقه المسلمين في الدين ، والبيان والوضوح في القرآن بما يجعل الناس جميعاً يعلمون بمضامينه القدسية ، وما تدل عليه .
فمن خصائص لغة القرآن قطعها ومنعها للإختلاف في تفسيره ، والشقاق في تأويله ، قال تعالى هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
لتتعقب آية البحث آية السياق ، وهي تتضمن الثناء على الله عز وجل ، وتأديب الناس على هذا الثناء ، وبيان قانون وهو أن الله عز وجل يحب أن يثني عليه عباده ، ويترشح عن هذا الثناء اللجوء إلى الحمد له وإخلاص العبادة له ، والإستعانة به سبحانه لأن ملك السموات والأرض له سبحانه ولأنه على كل شئ قدير ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ).
وهل في الآية أعلاه ثناء على الله ، الجواب نعم ، وفيها تسليم بأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه ، وهو الذي يحتاجه الناس في كل ساعة من ساعات الدنيا .
المسألة التاسعة : من عظيم قدرة الله عز وجل إختيار الله الأنبياء من بين البشر ، ونزول الوحي والآيات عليهم ، ومن عظيم قدرة الله حفظه لآيات القرآن بالتدوين ، وفي صدور المسلمين .
المسألة العاشرة : تضمنت خاتمة آية البحث الإخبار عن قدرة الله على كل شئ في عالم الأكوان والنفوس ، وفي الدنيا والآخرة ، ومن عظيم قدرة الله عز وجل بخصوص آية السياق وتعقب آية الملك والقدرة لها وجوه :
الأول : إبتداء آية السياق بالنهي ، فمن عظيم قدرة الله عز وجل أنه سبحانه يأمر وينهى .
ولا يأمر الله عز وجل إلا بما هو خير محض ، وفيه النفع الخاص والعام ، ولا ينهى إلا عن القبيح وما فيه الأذى والضرر .
وعندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وتوالى نزول آيات القرآن نزل وجوب الأمر بالمعروف والنصيحة والموعظة ، والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
وجاءت آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغة الجملة الخبرية وهي تدل على الإنشاء ، واللزوم.
كما وردت آية بصيغة الإنشاء في تأديب لقمان لابنه كما في قوله تعالى [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، لبيان قانون وهو تقوم التأديب وهداية أفراد الأسرة بأداء الفرائض العبادية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه وخلوه من الضرر على الذات والغير.
كما أن قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ] توكيد لوجوب تعليم الأبناء الصلاة ، وجعلها التركة والإرث الذي يخلفه الإنسان من بعده .
وهل تعليم الأب لأبنائه الصلاة ، وحرصه على تعاهدهم لها من مصاديق حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
الجواب نعم ، فتعليم الصلاة صدقة ، وعلم نافع وصلاح للولد ، ويترشح الثواب والأجر للوالد حياً وميتاً عندما يقوم ابنه بأداء الصلاة والفرائض العبادية الأخرى التي على المسلمين والمسلمات من الصيام والزكاة والحج والخمس .
إذ ورد ذكر الصلاة في الآية أعلاه من باب الفرد الأهم فهي عمود الدين.
المسألة الحادية عشرة : من معاني قوله تعالى [واللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، أنه سبحانه أراد لو هداية الناس جميعاً لاهتدوا بالكيفية التي يريد ، ويكونوا كالملائكة في التسبيح والذكر ، وهو الذي رغبت به الملائكة للناس بأن يحاكوهم في الإنقطاع إلى التسبيح ، كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
إذ رزق الله عز وجل الإنسان العقل ، وقرّبه إلى منازل الهدى ، وأمره بعبادته ليس من حاجة من الله عز وجل لهذه العبادة بل هي لمنفعة الإنسان في النشأتين .
لقد أراد الله عز وجل أن يباهي بالإنسان المؤمن الملائكة لأنه اجتهد في طاعة الله ، وانتفع من الآيات والبراهين التي تدعوه إلى هذه الطاعة .
وقد نزلت آيات عديدة تدل على أن الإنسان مُخير ، وليس مسيراً مع فضل الله عز وجل بتقريبه إلى مسالك الإيمان منها قوله تعالى [إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( )، [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ]( ).
وفي الثناء من الله عز وجل على القرآن والترغيب بالتصديق به والعمل بأحكامه ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ]( )، قال تعالى[قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً]( ) قال تعالى [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] ( ) ومعنى سواها أي أذلها وعرضها للهلاك بدسها في المعاصي ، وعن (عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اللهم آت نفسي تقواها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) ( ).
ترى من الذي يزكي أو يدّس النفس ، كما مبين في الآية أعلاه فيه وجوه محتملة :
الأول : الله عز وجل هو الذي يزكي النفس أو يدسها ويذلها.
الثاني : الإنسان نفسه هو الذي يزكي ويطهر نفسه ، بعمل الصالحات بقصد القربة إلى الله ، وهو الذي يدس ويحقر نفسه بالمعاصي والسيئات .
الثالث : يتفضل الله عز وجل بتزكية أهل الإيمان ، وفي التنزيل [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً] ( ).
ولكن أهل المعاصي هم الذين يركسون أنفسهم ويعرضونها لأشد ألوان العذاب ، لذا وصفت آية السياق عذابهم بأنه (أَلِيمٌ) .
والمختار هو الأول والثالث ، فيأتي الفلاح والنجاح لمن زكاه الله بعمله الصالحات ، وتلحق الخيبة والخسران من ارتكب المعاصي ودسّه وأهلكه الله عز وجل ، ولم يرد كل من لفظ [زَكَّاهَا] ولفظ [دَسَّاهَا] إلا مرة واحدة في سورة الشمس أعلاه .
وقد وردت آيات بذم الذين يصرون على الجحود ، ويمتنعون عن الإيمان جهلاً ، وعناداً ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لاَ يُبْصِرُونَ]( )، [وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
كما تضمن القرآن البشارة لأهل الإيمان والتقوى ، قال تعالى [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( )، لزجر الذين يفرحون بكتمان البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمتنعون عن أظهارها ، ودعوتهم للتدبر في معجزاته فحتى إذا لم يظهروا هذه البشارات فان معجزات النبوة العقلية والحسية دعوة للناس للهداية والإيمان وأكثر الذين دخلوا الإسلام ممن لم يرثوا البشارات بنبوته ، ولكنهم سمعوا بها ، وأدركوا صدق النبوة بالتدبر في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لبيان قانون وهو إظهار البشارات بالنبوة ، وإن أخفاها الذين ورثوها ، فمن معاني قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( )وإن لن تبينوه فان الله عز وجل يبينه ويظهره للناس ، ويجعل طائفة منكم وأخرى من غيركم تبينه ، وتتخذه مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ).
المسألة الثانية عشرة : لقد ذكرت آية السياق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه الخطاب والنهي التنزيهي له ، وذكرت بصيغة الذم الذين يجحدون بالنبوة ، ويخفون الدلائل والبراهين الظاهرة والسابقة واللاحقة التي تدل عليها .
أما الظاهرة فهي آيات القرآن ، والمعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشواهد كونية ، ولقانون استحالة التعارض بين آيات القرآن ، والحقائق والقواعد العلمية ، ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الدفاع مع قلة عدد أصحابه ، والنقص في أسلحتهم في مقابل كثرة جيوش الكفار وأموالهم وخيلهم وأسلحتهم ، فمثلاً كان مع المشركين مائة فرس ، وقيل ضعف هذا العدد ، بينما لم تكن مع المسلمين إلا فرسين ، وقد وثقّ القرآن هذا التباين بين الجمعين ، ونسبة النصر له سبحانه كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ودخول الناس في الإسلام أفواجاً ، إذ يدل هذا الدخول على الإدراك العام للناس بصدق نبوته .
ليستغني الناس عما كتمه هؤلاء من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق آية البحث وعظيم قدرة الله عز وجل أنه سبحانه يجعل طائفة من أهل الكتاب يظهرون البشارات وآخرين من غيرهم يقومون بنشرها وبثها للناس ، وإعلان التصديق بها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
فمن مصاديق آية البحث وملكه السموات والأرض ، أنه أنزل البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالوحي إلى الأنبياء السابقين ، ويأبى الله عز وجل أن تتساقط وتندثر هذه البشارات فاستمر توارث هذه البشارات حتى أيام بعثة وهجرة النبي محمد إلى المدينة بدليل قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة ، ونزول القرآن ، وفيه إكرام للناس جميعاً ، إذ أشرق الهدى على الناس ، وصارت الجنة قريبة منهم ، ومن إعجاز آيات القرآن جعل المدركات العقلية في البيان كأنها من المحسوسات.
عدم ذكر أسماء في آية السياق
لقد ذكرت آية السياق على نحو الإجمال والتنكير سنخية فعل مذموم ، ولم تذكر أسماء الذين قاموا وتلبسوا به ، كما ذكرت سورة أبي لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( ) وفيه وجوه :
الأول : كثرة عدد الذين تذمهم آية السياق وهي الآية السابقة [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
الثاني : بيان مصداق لمعاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فمن الرحمة الإلهية ستر أشخاص الناس ، وحصر الذم بذات الفعل السيئ ، ومنه الفرح بكتمان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : ذكر أبي لهب عم النبي في القرآن بصيغة الذم إنذار للذين كفروا والمنافقين ،وإحتمال ذكر أسمائهم ، لذا كان المنافقون في المدينة يخشون نزول آية قرآنية تفضحهم إلى يوم القيامة .
الرابع : ترغيب الناس بالتوبة ، وإكرام الأبناء المؤمنين بعدم ذكر آبائهم بالذم بالاسم والتعيين .
الخامس : تنزيه القرآن عن كثرة ذكر أسماء الذين كفروا ، وبيان عدم الحاجة له سواء في أيام التنزيل أو بعدها إلى يوم القيامة.
السادس : تحقيق الغايات الحميدة من الآية القرآنية من ذكر أسماء الذين كفروا والمنافقين .
السابع : تسارع التوبة من الذين ذمتهم آية السياق ، وكان لذات الآية موضوعية في تحقيق هذه التوبة .
لقد كان ذكر أبي لهب وتخصيص سورة مكية كاملة في ذمه وزوجته لكثرة إيذائهما للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولبيان مسألة للناس جميعاً وهي أن جحود عم النبي برسالته ظلم للذات والغير ، فلم يجلب أبو لهب لنفسه إلا الضرر في النشأتين .
لقد كانت الإستجابة للإسلام في مكة في بدايات الدعوة والصحابة قليلة ، فنزل ذم أبي لهب لوقاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع إفتتان الناس بعمه الكافر .
بينما آية السياق مدنية ، وذكرت موضوعاً يتعلق بأفراد كثيرين، لذا جاءت بصيغة الجمع وعلى نحو متكرر من جهتين وفي خصال :
الأولى : الذين يفرحون بما أتوا من الجحود بالنبوة ، وإخفاء بشاراتها ، والنسبة بين هذا الجحود والإخفاء هو العموم والخصوص المطلق .
ولا تخص هذه الجهة طائفة معينة ، إنما تشمل وجوهاً :
الأول : الذين يخفون بشارات الأنبياء والكتب السماوية السابقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الذين تلبسوا بالكفر ، ويتفاخرون بالإقامة على عبادة الأوثان ، وعن الصدود عن النبوة ، قال تعالى [كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ* ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ] ( ).
الثالث : الذين جهزوا الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وحلفائها ، وبعض القبائل في الجزيرة ، لبيان مسألة وهي : أن نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في معركة بدر ، ونزول الهزيمة والخسارة والخزي بالذين كفروا من قريش لم يمنعهم وحلفاءهم من الفرح بما أتوا من التعدي والظلم ، وتجهيز الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثانية : الذين يريدون من الناس الثناء عليهم من غير أن يفعلوا ما يستحق هذا الثناء شرعاً وعقلاً ومنهم المنافقون .
الثالثة : الذين يجمعون بين الخصلتين الأولى والثانية أعلاه .
الرابعة : الذين يتصفون بصفات مذمومة قريبة من التي ذكرت في آية السياق، لذا تعقبتها آية البحث بالإخبار عن الملك المطلق للسموات والأرض لله عز وجل .
التخفيف في آية السياق
تقدير آية التخفيف [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ]( )، بلحاظ آية السياق والبحث على وجوه :
الأول : الآن خفف الله عنكم في الظنون ، فلا تظنون إلا ما يوافق الواقع والصدق .
الثاني : الآن خفف الله عنكم بالكشف عن علوم من الغيب لا يعلمها إلا الله عز وجل ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ]( ).
الثالث : الآن خفف الله عنكم ، ولا يقدر على التخفيف الخاص والعام إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق أول آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وخاتمة آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
الرابع : الآن خفف الله عنكم بأن أنزل آية السياق التي هي إصلاح للنفوس ، ومانع من الكآبة ودافع للكدورة عن المؤمنين التي قد تأتي من اللبس والمكر الذي يكمن في سلوك الكفار والمنافقين .
الخامس : الآن خفّف الله عن رسوله وعنكم ، إذ يدل الخطاب في آية السياق وتوجهه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الرحمة والتخفيف من عند الله عز وجل .
السادس : الآن خفّف الله عنكم ببيان العذاب الذي يلاقيه أعداء النبوة والتنزيل .
السابع : الآن خفّف الله عنكم فاجتهدوا في طاعته.
الثامن : الآن خفّف الله عنكم فلا يضركم الذين أشركوا والمنافقون.
وهل يمكن القول بقانون (كل آية تخفيف عن النبي (ص) والمسلمين) الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، وهل انقطع هذا التخفيف بعد آيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه مستمر ومتجدد ، الجواب هو الثاني ، وهو من أسباب قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) .
ومن خصائص الحياة الدنيا أنها (دار التخفيف ) فليس من مخلوق إلا وقد خفّف الله عز وجل عنه ، وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) .
(وعن سعيد بن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء ، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشو بالأخرى . وإن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء)( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه توجه خطاب التخفيف فيها للمسلمين والمسلمات ، بينما تضمنت قانوناً من الإرادة التكوينية ، وهو ملازمة الضعف للإنسان في خلقه ، ونفسه وهمته وعجزه عن تحقيق الرغائب وإن تهيأت مقدماتها .
وهل يختص التخفيف بالمسلمين وعامة المؤمنين من الأجيال المتعاقبة، الجواب لا ، إذ أن أثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فمن مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) أن التخفيف عن الناس في الدنيا وإزاحة العواقب التي تحول دون تحقيق كثير من الغايات عام يشمل كل فرد من أهل الأرض ذكراً أو انثى.
ويدل قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ] ( ) في مفهومه على أن الكفار أدركوا التخفيف الذي تفضل الله عز وجل بهم في الحياة الدنيا ، وانتفعوا منه في مكاسبهم وصحة أبدانهم وطول أعمارهم ، وإعانة الآخرين لهم ، ومنه الولد الصالح ذكراً أو أنثى بل مطلق الولد في الجملة ، وسعة الرزق مع قلة العمل والجهد المبذول في تحصيله .
واستصحبوا واستحضروا وهم في النار هذا التخفيف فارادوا مثله ، وقد توجهوا بالمسألة الى خزنة النار ، فجاءهم الرد بالزجر وبعث اليأس في نفوسهم .
كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( )، وهو من مصاديق ملك الله للسماوات والأرض ، وأن الملائكة لم ينطقوا بهذا الإحتجاج والحكم إلا باذن من عند الله عز وجل .
ومن إعجاز القرآن إخباره عن أحوال الناس يوم القيامة ، وهو من علم الغيب ، ولا يعلم أحد متى سيكون أوانه ، وفي التنزيل [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
قانون الإستغناء
من أسرار الجمع بين الآية السابقة وآية البحث الإستغناء عن إخفاء طائفة من أهل الكتاب للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم محتاجاً إلى أي نصر بالكلمة أو الإشارة أو الفعل ، أو حتى السكوت عن إيذائه في بدايات الدعوة ، فلم يكن كل رجالات قريش يؤذون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة بدر (عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عنه بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب)( ).
وعندما بدأ المشركون القتال يومئذ تفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت الغلبة له ولأصحابه ، ولقى المجذر بن زياد البلوي حليف الأنصار أبا البختري في الميدان.
(فَقَالَ الْمُجَذّرُ لِأَبِي الْبَخْتَرِيّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ نَهَانَا عَنْ قَتْلِك – وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيّ زَمِيلٌ لَهُ قَدْ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكّةَ ، وَهُوَ جُنَادَةُ بْنُ مُلَيْحَةَ بِنْتِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ ، وَجُنَادَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ . وَاسْمُ أَبِي الْبَخْتَرِيّ الْعَاصِ – قَالَ وَزَمِيلِي)( ).
أي أن أبا البختري تلقى أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمنع عن قتله بالقبول والرضا ، بما يدل على كون الدائرة على قريش قبل أن يقع الفرار العام منهم.
فأراد أبو البختري الأمان لزميله وصاحبه الذي معه ، ولم يعد أبو البختري أو صاحبه إلى القتال ، لم يلتفت أبو البختري إلى الكبرى وهو أنه يقاتل على الكفر ، فحتى لو كانت الغلبة له ، فانه يزداد إثماً وظلماً للذات والغير ، فالأهم مبادرته إلى الإسلام ، أو لا أقل إعتزال القتال .
فأجابه المجذر (لَا وَاَللّهِ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِك ، مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلّا بِك وَحْدَك) ( ).
لقد تكلم المجذر بصيغة الجمع ، أي حتى إذا أن تركت زميلك فان غيري من الصحابة لم يتركه لأن الأمان والعفو لم يصدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بخصوصك ، ولو قال المجذر أمهلني حتى أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسأله لأعطى الرسول الأمان له ولزميله ولغيرهما ، ولكن أحوال ميدان القتال قد لا تسمح بذلك .
ولم يرجع المجذّر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونواميس ساحة القتال خاصة بها ، وتستلزم الإختيار بسرعة لأن الإبطاء والإمهال للعدو الكافر قد يجعله يلجأ إلى الغدر خاصة وأن الآية السابقة قد تضمنت ذمهم بقوله تعالى [الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا] ( ) ومنه الغدر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ولما يئس أبو البختري من نيل الأمان لصاحبه الملازم له ( قال : لا والله إذا لاموتن أنا وهو جميعا، لا يتحدث عنى نساء قريش بمكة أنى تركت زميلي حرصا على الحياة !) ( ).
عندئذ حصل النزال بينهما ، وصار أبو البختري يتبختر في الميدان ، ونسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكرمه بعفو خاص قبل بدء المعركة ، وما يدل عليه هذا العفو من الطمأنينة والبشارة بتحقيق النصر للمسلمين ، ليكون هذا العفو من مقدمات النصر كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وشهر أبو البختري سيفه وصار يرتجز ويقول
(لَنْ يُسْلِمَ ابْنُ حُرّةَ زَمِيلَهُ … حَتّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهُ) ( ).
ولا أصل لقوله هذا ، إذ أن الجامع بينهم هو الباطل والضلالة والكفر ، واذا كان أبو البختري لا يسلم زميله فيجب عليه أن يحجبه عن القتل وعذاب القبر ودخول النار بالهداية إلى الإسلام ، وقتله وزميله يوم بدر من مصاديق قوله تعالى [فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ] ( ).
لقد سقط أكثر قتلى قريش يوم بدر عناداً واستكباراً واخذتهم العزة بالإثم ، لم يتدبر أبو البختري في توصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به على نحو الخصوص ، وما فيها من الإكرام ودلالتها على أن النصر حليف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وحينما تقدم أبو البختري للمناجزة اضطر المجذر بن زياد لمبارزته فقتله المجذر ، وبعد أن قتله أنشد يقول :
إمّا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبِي … فَأَثْبِتْ النّسْبَةَ أَنّي مَنْ بَلِيَ
الطّاعِنِينَ بِرِمَاحِ الْيَزْنِيّ … وَالضّارِبِينَ الْكَبْشَ حَتّى يَنْحَنِيَ
بَشّرْ بِيُتْمِ مَنْ أَبُوهُ الْبَخْتَرِيّ … أَوْ بَشّرْنَ بِمِثْلِهَا مِنّي بَنِي
أَنَا الّذِي يُقَالُ أَصْلِي مَنْ بَلِيَ … أَطْعَنُ بِالصّعْدَةِ حَتّى تَنْثَنِيَ
وَأَعْبِطْ الْقِرْنَ بِعَضْبِ مَشْرَفِيّ … أُرْزِمُ لِلْمَوْتِ كَإِرْزَامِ الْمَرِيّ( )
فَلَا تَرَى مُجَذّرًا يَفْرِي فَرِي( ).
وجاء المجذر معتذراً الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه ان يستأسر فأتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته.
وفي يوم فتح مكة سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمان لكثيرين ممن حاربوه في يوم فتح مكة مثل عكرمة بن أبي جهل فاعطاهم الأمان.
وعن أم هانئ بنت أبي طالب أنه فرً إليها رجلان من بني مخزوم ، وكان زوجها من بني مخزوم ، فأجارتهما .
قالت أم هانئ (فدخل عليّ علي فقال: أقتلهما،
فلما سمعته أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بأعلى مكة، فلما رأني رحب وقال : ما جاء بك .
قلت: يا نبى الله كنت أمنت رجلين من أحمائي فأراد علي قتلهما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ” ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبا فالتحف به، ثم صلى ثمانى ركعات سبحة الضحى) ( ).
بينما فرّ هبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانئ إلى اليمن ، فمات كافراً هناك ، وقد تقدم بعض أشعاره في مخاطبة أم هانئ .
وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن ، فاستحصل له عمير بن وهب الجمحي الأمان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذهب إليه وأعاده إلى مكة (فأكرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنظره أربعة أشهر.
وكان ابن الزبعري السهمي الشاعر قد هرب إلى نجران، ثم رجع فأسلم) ( ).
ولعله من العلوم المستحدثة في هذا السفر هو التفصيل والفصل بين ما تذكره الآية من أمرين :
الأول : عدم المفازة من العذاب .
الثاني : العذاب الأليم .
فالمختار أن عدم المفازة والنجاة من العذاب أي في الدنيا أو في الدنيا والآخرة ، أما العذاب الأليم فهو خاص بالكفار والظالمين في الآخرة .
وهل شعر أبي البختري أعلاه من عمومات قوله تعالى في الآية السابقة [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا] ( ) الجواب نعم ، فقد كان يتبختر في شعره ، ويذكره أصحابه وعامة الكفار بالفخر والفرح ، فجاءت آية البحث لإصلاح ظنون الناس عامة ، وليس المسلمين وحدهم بأن تفاخر المشركين في ميدان القتال وخارجه وبال عليهم .
وقانون الإستغناء هذا مستقرأ من اسم الله عز وجل [الغني] وهو أحد الأسماء التسعة والتسعين الحسنى ، لبيان قانون وهو كل اسم من أسماء الله عز وجل وتستقرأ وتستنبط عنه عدة قوانين وأحكام ومسائل في أمور الدين والدنيا .
ومناهج في العلوم المختلفة وهو من إعجاز القرآن المتجدد ، والشواهد على صدق نزوله من عند الله ، ولزوم تعاهد سلامته من الزيادة والنقيصة.
الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( )، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ابتدأت آية السياق بحرف الإستئناف (الواو)( )، وبذات الحرف بدأت آية البحث ، وقد تقدم أن معنى الحرف الواو في المقام أعم من الإستئناف ، فيشمل العطف.
فليس من فصل بين آية السياق وما قبلها ، ولا بين آية البحث والآية التي قبلها واستقلال كل منهما في المعنى.
فمن خصائص القرآن تجلي الصلة والترابط في المعنى بين آياته بما يدل على إعجازه ، ولتبقى خزائنه غير قابلة للنفاد إلى يوم القيامة ، ففي كل زمان هناك علوم مستحدثة تستخرج بواسطتها مسائل تستنبط من القرآن ، وقد صدرت لي والحمد لله أجزاء خاصة بالصلة بين الآيات وهي :
- الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
- الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
- الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
- الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
- الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران( ).
المسألة الثانية : أخبرت آية السياق عن قانون تنجز الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب وإجتماع شرائطه ، إذ أن الله عز وجل هو الحكيم الذي يقيم الحجة على الخلائق ، وهناك فترة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآخر الرسل وهو عيسى عليه السلام نحو ستمائة سنة ، فكيف يكون الميثاق بالنسبة للذين عاصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب ، الجواب من وجوه :
الأول : أخذ الله عز وجل الميثاق من الناس في عالم الذر ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] ( ) .
ومن مصاديق آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )، قانون جعل الله عز وجل ميثاق عالم الذر حاضراً في حياة الناس عامة اليومية ، ولا يتخلفون عن توارثه لقانون توارث الميثاق قهري وانطباقي .
الثاني : قانون مجئ الأنبياء والرسل بالميثاق ، ومن وظائف النبوة البشارة بالرسول اللاحق وشريعته ، وهذا البشارة ليست علة تامة للتصديق بنبوته ، إنما يأتي الرسول بالمعجزات التي تدل على صدق نبوته ، وتدعو الناس للإيمان والصلاح ، أما البشارة فهي شاهد نبوي سابق على رسالته ، وتعضيد ونصرة له .
وهل يمكن القول أنه لو أعلن الذين أوتوا الكتاب البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمتنع شطر من كفار مكة وحلفائهم عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش الكبيرة لمحاربته.
الجواب نعم ، خصوصاً وأنه لم يأت إلا بما جاء به الأنبياء والرسل السابقون .
الثالث : قانون تجدد الميثاق على أهل الكتاب في كل زمان ، لقانون الملازمة بين الإيمان بالكتاب السماوي وبين الرسول اللاحق ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ] ( ).
المسألة الثالثة : لما أخبر الله عز وجل عن ملكه المطلق للسموات والأرض فانه أنزل القرآن لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء مطلقاً ، والشهادة لهم بالنبوة ، وفي سورة يوسف قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
وفيه إكرام من الله عز وجل للمؤمنين من أيام آدم إلى يوم ينفخ في الصور ، وخص المهاجرين والأنصار بالثناء والـتأديب للأسوة والإقتداء وبيان صبرهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
وقد أكرم الله عز وجل أهل الكتاب للدلالة على المائز بينهم وبين الذين كفروا ، كما في قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]( ).
ويدل قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] ( ) في آية السياق على هذا المائز ، والتشريف الذي خصّ الله عز وجل به أهل الكتاب بالعهد والميثاق ، مما يلزم منهم ومن الناس الشكر لله عز وجل على نعمة الميثاق .
ويتجلى هذا الشكر بالتسليم والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن أسنى وأهم بنود الميثاق هذا التصديق .
لقد جعل الله عز وجل قانون النبوة سور الموجبة الكلية المتحد الذي يلتقي فيه أول الأنبياء آدم بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الإلتقاء من وجوه :
الأول : قانون إتحاد الوحي والتنزيل ، فليس من نبي إلا وهو يوحى إليه .
الثاني : قانون بشارة النبي السابق بالنبي اللاحق ، وهذه البشارة من أفراد الميثاق في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ…] ( ).
الثالث : قيام أتباع النبي السابق بمسائل :
الأولى : التطلع إلى أيام النبي اللاحق .
الثانية : العزم على الإيمان بالنبي اللاحق ونصرته.
الثالثة : التدارس فيما بينهم عن رسالة النبي اللاحق وصفاته المذكورة في الكتب السماوية السابقة ، وقد كانت صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مذكورة في التوراة والإنجيل منها ما ورد في انجيل يوحنا :
(16: 12 ان لي امورا كثيرة ايضا لاقول لكم و لكن لا تستطيعون ان تحتملوا الان .
16: 13 و اما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم الى جميع الحق لانه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به و يخبركم بامور اتية)( ).
الرابعة : إخبار الناس عن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل وصل هذا الإخبار إلى مسامع قريش وعامة أهل مكة ، الجواب نعم ، إذ كانت قريش أهل تجارة ، وكانوا يفدون في قوافلهم إلى الشام حيث الروم ، وهم من النصارى ، فيسمعون منهم ، كما يدل عليه حديث بحيرا الراهب الذي عرف النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفاته مع أنه كان صبياً .
وكان تجار قريش ينزلون بجانب الدير الذي فيه بحيرا فلا يلتفت إليهم ، إنما هو منشغل بالرهبانية .
ولكن عندما رأى النبي محمداً دعا رجال قافلة قريش على مأدبة غداء ، وكان معهم أبو طالب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كلام بحيرا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الميثاق وإعلانه ، الجواب نعم ، فقد أدرك الرجل وجوب تعاهد الميثاق بإظهاره ، وبحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه لإدراكه أن المخاطر تهدد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صغره .
لقد كان بحيرا يسكن في صومعة عند بلدة بصرى (وكان أعلم اهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر) ( ).
وقد خرج أبو طالب مع قافلة ، وأخرج معه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وكان صغيراً ، فأطل بحيرامن صومعته ورأى غمامة بيضاء تظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين قومه ، فعلم بوجود آية ومعجزة ، ولما نزلوا في ظل شجرة قريباً من صومعته رآى الغمامة أظلت بالشجرة التي تهصرت( )، أغصانها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فاستظل تحتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
حينئذ بادر بحيرا بالنزول من صومعته على خلاف عادته ، وأمر بالطعام فصنع لرجال قافلة قريش وأرسل إليهم ، ودعاهم بلطف وطلب منهم أن يحضروا كبيرهم وصغيرهم ، وحرهم وعبدهم ، لأنه لا يعرف من الذي كانت تتغشاه الغمامة ، ولا يريد إثارة رجال القافلة لعلمه بأنهم قوم مشركون.
فاستغرب رجال قريش من إكرامه لهم، خاصة وأنه رجل من الرهبان والعباد ، ويتصف بالزهد وقلة الزاد ، وسألوه عن السبب في هذه الدعوة خاصة وأنهم يمرون عليه في كل مرة فلا يدعوهم ولا يعتني بهم .
فأجابهم جواباً عاماً وأنه أحب أن يكرمهم هذا اليوم ، ثم كرر بأن يأكلوا من زاده جميعهم ، وأجابوا دعوته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخلف في القافلة لصغر سنه ، فبقي تحت الشجرة .
ولكن حينما حضروا عنده لم ير في أي منهم الصفة المذكورة عنده في الكتب ، ولكن الغمامة وتدلي أغصان الشجرة يؤكدان وجودها ، فسألهم هل تخلف عنكم أحد .
فاخبروه بأنه لم يتخلف منهم إلا غلام تركوه في القافلة لحداثة سنه ، فأمرهم بدعوته لأنه اشترط عليهم حضورهم جميعاً كبيرهم وصغيرهم ، فالتفتوا إلى تقصيرهم في أبن عبد الله بن عبد المطلب.
وكان الأولى حفظ أبيه بدعوة ابنه للوليمة ، وإن كان صغيراً ، فارسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحينما رآه بحيرا أخذ يلحظه ، ويرى صفاته الخلقية مما موجود عنده في كتبهم.
وكان بحيرا يسمع رجال قريش يحلفون باللات والعزى ، فلما انتهت الوليمة ، قام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال له (يا غلام اسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عم أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له لا تسألني باللات والعزى شيئا فوالله ما ابغضت بغضهما شيئا قط) ( ).
والمختار أن سؤال بحيرا لإختبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن علامات نبي آخر الزمان امتناعه من صغره بالفطرة والسجية عن تقديس الأصنام.
ثم أخذ بحيرا يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجيبه فيوافق ما عند بحيرا من البشارات والأخبار .
ثم نظر بحيرا إلى ظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده) ( ).
وخاتم النبوة هو ختم ختمه جبرئيل بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء .
(عن ابن عبّاس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان .
جاءني جبرئيل (عليه السلام) فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل : أئتني بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره قال : فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم .
فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملأه حلماً وعلماً وإيماناً وختم بين كتفيَّ بخاتم النبوة .
ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال الملك : ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر)( ).
عندئذ تيقن بحيرا بأنه نبي آخر زمان ، وهل علامات وصفات النبي محمد الجسدية هذه من الميثاق المذكور في آية السياق ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( ).
المختار أن الميثاق يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإجمال ، وأن صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت على لسان الأنبياء ، وفي الكتب السماوية السابقة فورثها بحيرا وغيره من علماء أهل الكتاب فتدخل في المعنى العام للميثاق.
حينئذ توجه بحيرا إلى أبي طالب الذي تخلف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند بحيرا بعد إنتهاء الوليمة ، فقال له : ما هذا الغلام منك .
قال أبو طالب : إنه ابني .
فانكر بحيرا الجواب في الحال ، وقال من صفات هذا الغلام لا يكون أبوه حياً .
عندئذ قال أبو طالب : إنه ابن أخي ، وكان عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ اثنتي عشرة سنة ، إذ مات جده عبد المطلب وعمره ثماني سنين فسأله بحيرا : ما فعل ابوه.
قال : مات وأمه حبلى به .
قال بحيرا : صدقت .
ثم طلب بحيرا من أبي طالب أن يرجع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلده مكة ، وأن يحذر عليه فاذا رآه بعض الأشخاص من الطوائف الذين يعرفون صفته بأنه نبي آخر زمان فانهم يبغون شراً ، وقد يسعون في قتله من حين صغره أو عندما يكبر .
ولم يخبر بحيرا بصفات النبوة ، ولكنه اكتفى بالبشارة بانه سيكون لابن أخيك هذا شأن عظيم ، فاسرع به إلى بلاده ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
(فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
قال ابن إسحاق : فزعموا فيما روى الناس أن زريرا، وتماما ودريسا وهم نفر من أهل الكتاب ، قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلما رأى بحيرا في ذلك السفر الذى كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرا ، فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أردوا به لم يخلصوا إليه.
حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه)( ).
لقد صار أبو طالب أكثر حرصاً وإجتهاداً في حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصار يحرسه ويدفع عنه ويلحظ كراماته ، وتنزهه عن عادات الجاهلية ، وعصمته من عبادة الأوثان ، وكان بنو هاشم وقريش يعلمون أن جدهم إبراهيم الخليل [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، حارب عبادة الأوثان ورفع قواعد البيت الحرام لعبادة الله عز وجل وحده .
وفي رواية أن عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك ثمان سنوات.
إذ ورد عن ابن عباس في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]( )، أنه كانت لهم في كل سنة رحلتان باليمن والشام، فكان من وقاية أبي طالب أنه عزم على الخروج في ركب من قريش إلى الشام تاجرا ” سنة ثمان من مولده، أخذ النبي صلى الله عليه واله بزمام ناقته وقال: يا عم على من تخلفني ولا أب لي ولا أم ، وكان قيل لي: ما يفعل به في هذا الحر وهو غلام صغير ، فقال: والله لاخرجن به ولا افارقه أبدا( ).
لبيان معجزة من الميثاق الذي أودعه الله عز وجل عند أهل الكتاب وهي سلامة النبي محمد من القتل من صغره إلى حين بعثته وتبليغه الرسالة .
ومن الإعجاز والدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموضوعية الميثاق والبشارة ببعثته سلامته من القتل قبل وبعد النبوة مع كثرة المناسبات التي صار فيها القتل قريباً منه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأراد الله عز وجل من الميثاق قيام أهل الكتاب بالذب عن النبي محمد والتصديق بنبوته ، وهل تحقق مصداق لهذا الذب في قصة بحيرا المتقدمة.
الجواب نعم ، فقد أخلص في تعاهد الميثاق بهذا الخصوص وقام بتبليغ البشارة أحسن قيام.
وفيه مصداق لما أسسناه من قانون في هذا التفسير وهو لابد من امتثال لكل أمر ونهي وارد في القرآن وإن جاء بصيغة الجملة الخبرية ، وهذا الإمتثال ليس على نحو القضية الشخصية ، إنما هو إمتثال متعدد في كل زمان.
فان قلت قد ذكرت آية السياق خبر كتمان الذين أوتوا الكتاب الميثاق كما في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ]( ).
والجواب المراد الأكثر ممن ورث الميثاق والعهد بدليل قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وخاصة الذين هم قريبون من دعوة النبي أو بلغتهم هذه الدعوة ، وجاءهم الناس من قريش وغيرهم يسألونهم حينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هل هو المذكور في كتب أهل الكتاب ، وبشارات الأنبياء ، ليجتمع التخفيف والحجة على الناس في هذا السؤال وجوابه .
ولم يأت هذا السؤال من فراغ إنما تجلت شواهد من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الرابعة : من الإعجاز في آية السياق قانون لزوم عموم التبليغ وبيان الميثاق للناس جميعاً ، ومن معانيه لا تبخلوا بالميثاق حتى على الذين كفروا لإفادة الألف واللام في [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] الجنس والعموم الإستغراقي .
ومن الناس كفار قريش ، ومن خصائص منافع بيان الميثاق وجوه :
الأول : الإزدهار الإقتصادي ، ونشاط الأسواق .
الثاني : السكينة العامة .
الثالث : تدبر الناس في ذخائر النبوة والتنزيل .
الرابع : التعايش السلمي ، وهل هذا التعايش من مصاديق الإطمئنان في قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الجواب نعم ، فلا ينحصر موضوع الآية أعلاه بخصوص القضية الشخصية والإنسان المنفرد.
وتقدير أول آية السياق على وجوه :
الأول : لتبيننه لقريش ، فتستمر رحلة الشتاء والصيف بتصديق قريش برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لموضوعية وأثر إخبار أهل الشام لقريش عن نبوته وصدقه .
الثاني : لتبيننه للناس عامة ، ليكون مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم ينحصر الميثاق بأيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو متجدد من أيام الأنبياء وأصحابهم ، فمن فضل الله أن الميثاق ثابت من جهة معالم التوحيد، ولكنه متوارث ، وهل ينقطع ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس أفواجاً في الإسلام ، الجواب لا .
المسألة الخامسة : من معاني الجمع بين الآيتين أن الكتب السماوية ملك لله عز وجل ، وهي من عظيم قدرة الله من جهات :
الأولى : نزول الكتب السماوية من عند الله ، فلا يقدر على هذا التنزيل إلا الله عز وجل .
الثانية : نزول الملائكة بالكتب السماوية ، ولا تستجيب الملائكة إلا لأمر الله عز وجل ، فان قلت قد ورد بخصوص جبرئيل قوله تعالى [ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ]( )، والجواب إن جبرئيل لا يفعل أو يأمر أو ينهى إلا بأمر من الله عز وجل .
روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل (إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي، قال الله في وصفك [ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ]( ) فأخبرْني عن قوّتك .
قال : يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهراً لبطن .
قال : فأخبرني عن قوله {مُّطَاعٍ} قال : إن رضوان خازن الجنان، ومالكاً خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي .
قال : فأخبرْني عن قوله {أَمِينٌ} قال : إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري)( ).
الثالثة : قانون إكرام الأنبياء والناس جميعاً بنزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل.
المسألة السادسة : لقد ذكرت آية السياق نبذ وترك الذين أوتوا الكتاب البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الله عز وجل أكرمهم بالميثاق ، وجعلهم أهلاً لحمل أمانة العهد ، وبيان الكتاب.
ومن إعجاز القرآن أن الآية لم تذكر التبليغ إنما ذكرت البيان بقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] وفيه مسائل :
الأولى : بين البيان والتبليغ عموم وخصوص مطلق ، فالبيان أعم.
الثانية : التخفيف عن الذين أوتوا الكتاب بالقيام بالبيان وحده.
الثالثة : قيام الحجة على الذي يتخلف عن بيان الميثاق .
الرابعة : قانون كفاية البيان في تحقيق الغايات الحميدة من الميثاق.
وهل المراد من الآية إنحصار البيان بالذي يسأل الناس لإخباره عن الكتاب وبشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، لأن الآية تفيد الإطلاق ، من وجوه :
الأول : قانون بيان الميثاق إبتداء .
الثاني : قانون توارث الكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان التوارث العلمي بأن يرث عالم من عالم ، والتلميذ من استاذه ، أو المتوارث بين الآباء والأبناء .
الثالث : البيان بالإجابة عند السؤال وهذا السؤال ، على وجوه :
أولاً : سؤال الناس للذين أوتوا الكتاب عن بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته بعشرات ومئات السنين ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ثانياً : سؤال الناس لأهل الكتاب عن بشارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام بعثته ، وبعد هجرته ، واشتداد حرب قريش وحلفائها عليه ، خاصة وأن دلائل الإعجاز جلية في نبوته .
ثالثاً : توجه الناس للذين أوتوا الكتاب عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
ومن مصاديق آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، أن الله عز وجل جعل آيات القرآن تبين حقيقة وصدق هذه البشارة ، وكذا توالي دخول الناس الإسلام ، وأداؤهم الفرائض العبادية ، وارتقاؤهم إلى مراتب الإيمان.
فلم تقف الأفواج التي دخلت الإسلام عند النطق بالشهادتين إنما ارتقوا إلى مراتب التقوى وإيمان القلوب ، وإتيان الأفعال العبادية بقصد القربة إلى الله ، ويدل عليه ما ورد بخصوص ذم طائفة من الأعراب بقوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : لا تنفي الآية أعلاه الإيمان عند الأعراب من أصله ، إنما أخبرت عن عدم نفاذه إلى قلوبهم.
الثانية : ترغيب الأعراب وغيرهم بالإيمان .
الثالثة : إرادة تفقه المسلمين والمسلمات في الدين ، وبيان الفارق الرتبي والموضوعي بين الإسلام والإيمان ، إذ أن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، ونفي الخاص لا يدل على نفي العام .
الرابعة : مجئ آيات قرآنية بالثناء على الأعراب منها قوله تعالى [وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ومنها [وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
والمراد ذووا الأعذار من الأعراب المؤمنين بدليل التقابل في ذات الآية بينهم وبين الذين كذّبوا الله ورسوله ، إذ أن قوماً من رهط عامر بن طفيل قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى تبوك في السنة التاسعة للهجرة .
(يا رسول الله إن نحن غزونا معك تُغِيرُ أعراب طيّ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم : قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنيني الله عنكم)( ).
ومن المفسرين من جعل هؤلاء هم المعذرين ، وان هذا الوصف في ذمهم وليس في المدح بلحاظ أن المراد من المعذرين هم الذين قصروا وتوانوا في الأمر ، ولم يجتهدوا فيه ، وادعوا بأن لهم عذراً ، ومنهم الذين اعتذروا بالقول (إن لنا عيالاً وإن بنا لجَهداً فائذن لنا في التخلف)( ).
وتبقى الآية أعلاه من سورة التوبة نصاً سماوياً في الثناء على طائفة من الأعراب.
وورد عن ابن عباس وفي صفحة واحدة في الدر المنثور في الآية قولان وهما :
أولاً : قال : يعني أهل العذر منهم ليؤذن لهم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وجاء المعذرون من الأعراب} قال : هم أهل الأعذار ، وكان يقرؤها {وجاء المعذرون} خفيفة( ).
أي ممن يكون عذر في التخلف كأن ليس عنده راحلة مع طول المسافة وبعد المشقة في السير إلى تبوك ، والتي تبعد عن المدينة المنورة نحو (600) كم ، أو عدم وجود سلاح أو كثرة العيال وليس لهم غيره ، وبه قال مجاهد والسدي.
ومنهم قرأ (وجاء المعْذرون) بسكون العين ، وهي قراءة الضحاك وحميد الأعرج وأبي صالح وعيسى بن هلال)( ).
كما وردت عن ابن عباس( ).
أي أنهم تعذروا بحق.
ثانياً : أنه كان يقرأ {وجاء المعذرون من الأعراب} ويقول : لعن الله المعذرين)( )، وبه قال الحسن البصري .
وقد ورد التخفيف عن الضعفاء وذوي الأعذار مطلقاً ، سواء في تبوك أو غيرها ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ]( ).
المسألة السابعة : قد تقدم في الجزء العشرون بعد المائتين من هذا السِفر المبارك خصوص المراد من الهاء في [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ]( )، وذكرنا هناك ما يفيد التعدد من معنى الضمير (الهاء) فهو يشمل أموراً :
الأول : الميثاق والعهد .
الثاني : نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعلان البشارة به.
الثالث : يشمل الكتاب الذي آتاهم الله.
وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الحرف الواحد في القرآن وله معاني متعددة مع إتحاد الموضوع ، ومن معاني الهاء في لتبيننه بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : الميثاق والكتاب من ملك الله عز وجل وشاء الله عز وجل إعلانه وبيانه.
الثاني : من يبين الكتاب والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو يكتمها هو من ملك الله وفي ملكه .
الثالث : الأجر والثواب لمن يبين الكتاب وما فيه من البشارات بالنبي محمد ، إذ أن النسبة بين الكتاب والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي العموم والخصوص المطلق فيتضمن الكتاب أموراً :
الأول : سنن التوحيد .
الثاني : خصائص النبوة .
الثالث : تأكيد الوحي ومضامينه .
الرابع : الفرائض العبادية .
الخامس : أحكام الحلال والحرام .
السادس : لزوم التلاوة .
السابع : وراثة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن أبي سعيد الخدري (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كتم علماً مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)( ).
(عن نجم الجزار قال : سمعت علياً (عليه السلام) يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا) ( ).
المسألة الثامنة : لقد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل ملكه يسير بنظام دقيق ، وكل ذرة وفرد منه محتاج إلى رحمته وسلطانه ، ويتعاهد الله عز وجل في كل لحظة الخلائق كلها مجتمعة ومتفرقة من غير تعب أو عناء لامتناعه عن التأثر والتغيير ، وهو المستقرأ من قوله تعالى في خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وهل أخذ الميثاق الذي ذكرته آية السياق من هذا التعاهد واللطف ، الجواب نعم ، إذ أن هذا الميثاق جزء من النظام العام في السموات والأرض.
وفيه شاهد بأن هذا النظام خير محض ، وهو لنفع الناس والخلائق ، فجعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الميثاق) لم يهبط آدم عليه السلام إلى الأرض إلا بعد أن أخذ الله عز وجل عليه الميثاق .
وهذا الميثاق نعمة من عند الله ، وهو سبحانه إذا أنعم على أهل الأرض فانه لا يرفع هذه النعمة ، إنما تبقى شرعاً سواء للناس جميعاً لينهلوا منها ، وتفضل الله في المقام بأمور :
الأول : تجلي الضبط والنظام في حياة الناس وعباداتهم بصفة الميثاق .
الثاني : بيان قانون إنقياد الناس لله عز وجل من قبل أن يهبط آدم إلى الأرض ، فصحيح أن الإنسان مخير في أفعاله ، ولكن الله عز وجل أقام عليه الحجة فيما يجب عليه فعله قبل أن يهبط آدم ، والميثاق من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الثالث : الميثاق نعمة ورحمة عامة ، وطريق هداية لقانون عمل الصالحات جزء من النظام الكوني العام .
لذا يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) فيتوجه المسلمون إلى الله تعالى لسؤال الرشاد والهداية إلى سبل الخير والفلاح والإستقامة .
ترى ما هي النسبة بين الصراط المستقيم والميثاق ، يحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي والميثاق هو الصراط .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الصراط أعم من الميثاق .
الثانية : الميثاق أعم من الصراط .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الميثاق والصراط .
الرابع : نسبة التباين وأن الميثاق غير الصراط .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
المسألة التاسعة : لقد تضمنت آية السياق وجوهاً ، وكل فرد منها يدل على الملكية المطلقة لله عز وجل على السموات والأرض وأنه [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وهذه الوجوه :
الأول : الخبر بأخذ الله عز وجل الميثاق من الناس ، ومن خصائص الخبر القرآني أنه لا يحمل إلا معنى الصدق والحق ، ويمكن القول بقانون وهو كل خبر في القرآن رحمة للناس جميعاً .
ومن إعجاز آية السياق بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل هو الذي أخذ الميثاق من الذين أوتوا الكتاب وهذا الأخذ من جهات :
الأولى : أخذ الله عز وجل بنفسه الميثاق .
الثانية : أخذ الله عز وجل الميثاق بواسطة الأنبياء ومنهم أنبياء بني إسرائيل .
الثالثة : أخذ الله الميثاق بواسطة الكتب السماوية السابقة .
الرابعة : تأكيد وتجديد الميثاق بواسطة العلماء وتوارث العلم به ، والتلاوة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني : ذكر الآية للذين أخذ الله عز وجل عليهم الميثاق ، وهم الذين أوتوا الكتاب لبيان مسألة وهي اسم الكتاب المنزل على موسى وهو التوراة ، والكتاب الذي أنزل على عيسى وهو الإنجيل وقد سبقه الميثاق الذي تذكره آية البحث ، مما يدل على أنه غير الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على آدم وذريته في عالم الذر .
ترى ما هي النسبة بين الميثاقين ، المختار هو العموم والخصوص المطلق من جهات :
الأولى : ميثاق عالم الذر أعم وأكثر في مضامين وأفراد الميثاق .
الثانية : أخذ الله ميثاق عالم الذر من الناس جميعاً ، بينما ذكرت آية السياق أخذ الميثاق من خصوص الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، ويلحق بهم المجوس والصابئون .
الثالثة : سبق زمان ميثاق عالم الذر ، ليكون نوع تعضيد وإعانة للذين أوتوا الكتاب بالعمل بالميثاق الذي تذكره آية السياق .
الرابعة : ميثاق عالم الذر إصلاح لأهل الكتاب للعمل بميثاقهم وعهدهم ، وإتباعهم للأنبياء .
الخامسة : تضمن ميثاق الذين أوتوا الكتاب البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيانها ، والإخبار عنها ، وهل هذا المعنى موجود في ميثاق عالم الذر أم أنه مستحدث في ميثاق الذين أوتوا الكتاب .
و(عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ]( )، قال : أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى]( )، قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) ( ).
المختار أن الله عز وجل دلّ عليه وعلى إتباع الأنبياء في ميثاق عالم الذر.
الثالث : الأمر من عند الله عز وجل إلى الذين أوتوا الكتاب لبيان الكتاب والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لقوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( )، ويحتمل هذا البيان من حيث الإتحاد والتعدد جهات :
الأولى : كفاية المرة الواحدة في بيان الكتابي .
الثانية : لزوم تعدد مرات البيان من الكتابي .
الثالثة : كفاية البيان مرة واحدة من كل طائفة من أهل الكتاب.
الرابعة : لزوم تعدد البيان من كل طائفة وأمة من أهل الكتاب.
الخامسة : توجه الأمر في آية السياق لخصوص علماء أهل الكتاب لقيامهم بالبيان والتبليغ .
السادسة : وظيفة علماء أهل الكتاب في التبليغ أكثر من غيرهم.
والمختار هو الجهة الثانية والرابعة والسادسة ، وهل المتبادر من الأمر كفاية إيجاد حقيقة الفعل ، وأن المرة والتكرار خارجان عنها ، الجواب لا .
فلها موضوعية في الأحكام التكليفية ، وكذا بالنسبة للزمان والمكان ، إذ يستقرأ في آية السياق أن بيان الميثاق والكتاب متجدد في كل زمان ومكان ، وإن قيل في علم الأصول بكفاية إيجاد الحقيقة ، فالفرائض العبادية ليست مسألة نظرية صرفة ، إنما تتقوم بالصبر وقصد القربة وإرادة الأجر والثواب .
وهل هذا البيان والأمر به من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] الجواب نعم ، لأنه ملك تصرف ومشيئة.
ومن ملك الله عز وجل تحقق مصاديق هذا البيان في كل زمان ، نعم هذه المصاديق من الكلي المشكك في عددها وكيفيتها ، وشأن وجاه الذين يبينون الميثاق والذين يتلقونه ، وكذا حاجة الناس إلى هذا الميثاق ، وأظهرها أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ صارت البشارات برسالته حقيقة واقعة ، وبيان الميثاق مدد ودعوة للهداية والإيمان.
الرابع : الإخبار عن الذين يجب أن يبّين لهم الميثاق ، ويصل إليهم ، وهم الناس جميعاً فاذا اختص وجوب البيان بالذين أوتوا الكتاب فان الذين يجب أن يتوجه إليهم البيان هم الناس جميعاً لنقرأ مسألة منه وهي إمكان وصول الذين أوتوا الكتاب إلى الملوك والرؤساء والسلاطين وعامة الناس ، وتبليغهم بالميثاق والبشارات بالنبوة الخاتمة.
وهل تدل الآية على أن صوت وبيان الذين أوتوا الكتاب يصل إلى كل الناس ، أم أن القدر المتيقن هو لزوم إجتهادهم في التبليغ لمن حولهم.
المختار عدم التعارض بين الأمرين ، وقد تجلى صدق العموم الإستغراقي في هذا الزمان زمن الفضائيات وصيرورة العالَم كياناً واحداً من جهة تلقي البيان والتبليغ ، وتجدد إعلان وبيان الميثاق والعهد الذي اتخذه الله عز وجل عليهم.
ولو دخل واحد من الذين أوتوا الكتاب الإسلام فهل يستمر الخطاب الإلهي له ببيان الميثاق أم ينقطع هذا الأمر لتغير الموضوع ، وتبعية الحكم له .
المختار هو الأول ، لإستدامة الشهادة وبيان الحق ، وترتب النفع والأجر والثواب على هذا البيان.
ومن معاني آية البحث في المقام إرادة الله عز وجل أن يكون الميثاق حاضراً في أرجاء الأرض التي هي ملك لله عز وجل ، وأن تسمع الملائكة أهل الكتاب كيف يقومون بيان الميثاق والدعوة إلى إتباع الأنبياء ، وعمل الصالحات ، وهو من وجوه إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما تساءلوا عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : لتبيننه للناس في ملكي .
الثانية : لتبيننه للناس فيسمع أهل الأرض والسماء هذا البيان.
الثالثة : لتبيننه لعبادي ، إذ أن الناس ملك لله عز وجل .
الرابعة : لتبينن للناس أن هذا البيان عبادة ، وطريق لهداية الناس للعبادة ، فهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامسة : قانون من وظائف الذين أوتوا الكتاب بيان الميثاق .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، في المقام وجوه :
أولاً : بعث أهل الكتاب على بيان وإعلان الميثاق .
ثانياً : بلوغ الميثاق للناس .
إذ تبين الآية قانوناً وهو أن الله عز وجل يريد بيان الميثاق ، وبلوغه لعامة الناس لأنه رحمة وخير محض فلابد أن تصل مضامين هذا الميثاق للناس ، سواء بواسطة الذين أوتوا الكتاب أو غيرهم ، ولكن الله عز وجل أراد الهداية وتوالي النعم على الذين أوتوا الكتاب.
لبيان قانون وهو الملازمة بين صفة أهل الكتاب الخير والبركة عند التقيد بميثاق الكتاب.
إن الأمر من عند الله عز وجل لهم ببيان الميثاق إكرام خاص ، ورحمة بهم ، وجزاء لهم على التصديق بالأنبياء السابقين ، وإعانة لهم لإستدامة هذا التصديق بالبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيها بالقبول والرضا والنصرة .
الخامس : من إعجاز آية السياق إجتماع الأمر والنهي في كلمتين فليس من فاصلة وكلمات بين الأمر ببيان الميثاق ، وبين المنع من إخفائه .
وتتألف كلمة [لَتُبَيِّنُنَّهُ]، من خمس كلمات وهي :
الأولى : اللام ، وهي لام الوجوب ، فلابد من القيام ببيان واعلان الكتاب وتلاوة النصوص التي تدل على النبوة.
الثانية : الفعل المضارع (تبين) وثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال.
والمراد من توالي الأمثال مجئ حرفين متماثلين متعاقبين في كلمة واحدة مثل (داوود) إذ يتوالى فيها حرف الواو ، فيحذف أحدهما تخفيفاً ، وطبقت هذه القاعدة على كلمات تتضمن همزة متوسطة مثل (رؤوف) فتكتب (رءوف) وكلمة (شؤون) فتكتب الهمزة على نبرة (شئون).
الثالثة : الفاعل وهو واو جماعة المحذوفة.
الرابعة : الهاء مفعول به( ).
وتقدير الآية بلحاظ المنفرد والمتعدد في جهة الخطاب الى جانب منطوق الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذي أوتي الكتاب لتبيننه ولا تكتمنه .
الثاني : يا أيتها التي أوتيت الكتاب لتبينينه ولا تكتمينه .
الثالث : يا أيتها اللائي أوتين الكتاب لتبينن الكتاب ولا تكتمنه.
ولكن الأصح عدم اعتماد قاعدة توالي الأمثال فيها للتباين على نحو الموجبة الجزئية بين الهمزة والحرف الذي بعدها ، ولو تمت الكتابة بمراعاة توالي الأمثال صح أيضاً.
السادس : ترك الذين أمروا ببيان الكتاب وإعلان البشارات بالنبي الكتاب والبشارات خلف ظهورهم .
ولم يقوموا ببيان الكتاب ، وعن قصد ، ولم ينسوه ، ولم يُكرهوا على ترك إعلانه ، وبدل إعلان الكتاب والبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واختاروا ثمناً قليلاً وعرضاً زائلاً.
السابع : التوبيخ للذين أبدلوا الواجب الشرعي واعلان الكتاب والأحكام والبشارات بحطام من الدنيا ، وقليل من زينتها .
المسألة العاشرة : آية البحث من أمهات الآيات لما فيها من القوانين التوليدية وحضورها ومضامينها القدسية في حياة الناس اليومية ، وهي دعوة للهداية والإيمان ، وإظهار البشارات فان الله عز وجل [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) فهو سبحانه يظهرها ويبينها ليكون من معاني الجمع بين آية البحث والسياق وجوه:
الأول : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس أو يبينه الله ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، لإرادة كثرة جنود الله ومنهم الملائكة والجن والإنس والذين لا يعلم عددهم إلا هو تعالى ، وكيفية وسبل تحقق مشيئة الله عز وجل ، وعن ابي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حدثهم عن ليلة الإِسراء قال : فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا ، فإذا أنا بملك يقال له اسماعيل ، وهو صاحب سماء الدنيا ، وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك منهم جنده مائة ألف ، وتلا هذه الآية [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ])( ).
الثاني : لتبيننه للناس قبل فوات الأوان ولا تحملوا أوزار كتمان الكتاب والبشارات .
الثالث : لتبيننه للناس ، فمن خصائص الميثاق وجوب بيانه ، ترى ما هي الصلة بين التقيد بالميثاق وبين بيانه ، الجواب إنها العموم والخصوص المطلق ، فمن الميثاق .
توثيق الميثاق ، وهذا التوثيق على جهات :
الأولى : تدوين واستنساخ الكتاب .
الثانية : حفظ الكتب السماوية من التحريف .
الثالثة : حفظ آيات الكتاب عن ظهر قلب ، وقد اختص المسلمون بحفظ القرآن ، وهو من الإعجاز الغيري له .
الرابعة : العمل بمضامين الكتاب السماوي ، وهو أهم أفراد الحفظ في المقام ، وفي التنزيل [يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] ( ).
الخامسة : توارث آيات ومضامين الكتاب السماوي والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون هذا التوارث من مصاديق الناس في آية السياق [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( ).
هم الذين أوتوا الكتاب أنفسهم بتوارث وتدارس الكتاب والبشارات فيما بينهم .
ليكون من معاني آية السياق : لتبيننه لأولادكم وذراريكم ، حتى إذا ما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فان هؤلاء الأبناء يستقبلونه بالبشارات برسالته وأوصافه .
السادسة : لا تختص البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن حتمية رسالته إنما تشمل أموراً :
الأول : قرب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يستقرأ هذا القرب من قوله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
الجواب نعم ، ومن خصائص هذه البشارة استقراء معنى عدم وجود نبي في الفترة بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن مصاديق آية البحث وقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] عدم إدعاء شخص النبوة في هذه الفترة ، وان إدعاها أحد بغير حق فان الله عز وجل يخزيه ، قال تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
الثاني : توارث وذكر صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى ما هي النسبة بين توارث وذكر البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان صفاته .
المختار هو نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالبشارة أعم ، أما من جهة العدد والكثرة فان الذكر هو الأكثر ، إذ يتلقى الكتابي وراثة هذا البشارات ، ولتبقى ميثاقاً وعهداً عنده ، والذي يتلقى البشارة كميراث يجب عليه أن يقوم بأدائها وتوارثها لغيره من أهل الكتاب وغيرهم .
وكأن الآية تقول : يا أبناء الجيل الفلاني من أهل الكتاب بينوا الكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس الذين في زمانكم ، ليقوموا بنقله إلى غيرهم من الناس ، وهو من مصاديق آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] فالمورث والوارث كلاهما في ملك الله، وأراد لهما الله عز وجل الإنتفاع من ملكه في الدنيا والآخرة ، إذ أن تعاهد الميثاق وبيانه ومضامينه للناس على جهات :
الأولى : إنه باب للرزق الكريم.
الثانية : فيه محو السيئات .
الثالثة : إنه سبب لصرف البلاء.
الرابعة : هو طريق مبارك إلى الجنة واللبث الدائم في النعيم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
الثالث : صدق نبوة الرسل الذين بشروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبشروا برسالته إلا بأمر الله عز وجل ، ولأن في رسالته نفعاً للناس جميعاً ، سواء من آمن به أو الذي تلقى البشارة ، ولم يبادر إلى إتباعه ونصرته ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابع : بيان وجوه الشبه والإلتقاء بين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين بما يبعث الرغبة في النفوس للعمل بأحكام الشريعة السمحاء التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : من الكتاب الذي يجب أن يبينه أهل الكتاب للناس النهي عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش ضده ، وكأن الآية تحض أهل الكتاب على إنقاذ الذين كفروا والمشركين من قريش من النار ، ويكون من معاني الذين أوتوا الكتاب أي الذين يجب عليهم بيان الكتاب والعمل بمضامينه ، ومنها إظهار البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويكون البيان في المقام على وجوه :
الأول : وإذ أخذ الله الذي له ملك السموات والأرض الميثاق من الذين أوتوا الكتاب لتبليغ الناس بحرمة محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : لتبيننه للناس بوجوب التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدل في مفهومه على لزوم الإمتناع عن معصيته ، وهل من مفاهيم قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ..] ( )، أن الله عز وجل ينصره بالملائكة وأهل البيت والمهاجرين والأنصار ، الجواب نعم .
الثالث : لتبينن للناس قانون قطع طرف وطائفة من الذين يحاربون الرسول الذي جاءت الكتب السماوية السابقة بالبشارة به.
المسألة الحادية عشرة : من مصاديق ملك الله للسموات والأرض قانون أخذ الله الميثاق من الناس ، لبيان تعاهد الله لملكه من جهات :
الأولى : حفظ الناس بالقواعد الكونية العامة.
الثانية : قانون الناس من ملك الله عز وجل فيجب ألا يخرجوا عن القواعد العامة التي بينها الله عز وجل ، ومنها الميثاق.
الثالثة : بيان قانون وهو ملك الله السموات والأرض ملك مشيئة مطلقة وتصرف متجدد في كل لحظة وتعاهد السموات والأرض وما فيهما من هذا المعنى ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
الرابعة : قانون الميثاق إكرام ، وفيه دعوة للشكر لله عز وجل ، ومن أبهى مصاديق الشكر لله عز وجل التقيد بمضامين وقوانين الميثاق ، وهل يختص هذا التقيد بالذين أخذ الله عز وجل منهم الميثاق ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ..] ( ).
وكذا في آية السياق [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] ( ) وكما في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ] ( ).
الجواب لا ، فيأتي الميثاق لطائفة من الناس ، وهو ملزم للناس جميعاً إلا بخصوص التكاليف الشخصية كما في الأنبياء وتلقيهم الوحي ووجوب قيامهم بالتبليغ أحسن قيام .
المسألة الثانية عشرة : تفيد اللام في [لَتُبَيِّنُنَّهُ] التحليل ، فلا ينحصر موضوع الميثاق ، وأخذ الله عز وجل له من الذين أوتوا الكتاب بالبيان وحده ، إنما إعلان وإظهار الكتاب والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق بذاته ، وهو فرع الميثاق الذي أخذه الله عليهم ، أي أن أوان الميثاق متعدد في موضوعه ، وكل فرد من أفراده هو ميثاق ، ومنه وجوه :
الأول : التصديق بالأنبياء السابقين .
الثاني : تعاهد أحكام النبوة .
الثالث : البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إخبار الناس جميعاً عن نبوته .
الخامس : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته ونصرته ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
المسألة الثالثة عشرة : تضمنت آية السياق النهي عن إخفاء أحكام ومضامين الكتاب السماوي المنزل والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ولا تكتمونه).
فان قلت البشارة والبشارات مؤنث بينما جاء النهي عن الكتمان بضمير المفرد المذكر الهاء ، (ولا تكتمونه).
والجواب النسبة بين الكتاب والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق ، فالبشارة جزء وفرع من الكتاب .
ومن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن الذين سمّاه الله كتاباً في مواضع عديدة من القرآن ، منها قوله تعالى [لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
وهل كان القرآن من البشارة التي جاء بها الأنبياء السابقون ، الجواب نعم.
ووردت آيات متعددة في التوراة تدل على هذا المعنى منها :
29: 11 وصارت لكم رؤيا الكل مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين اقرأ هذا فيقول لا استطيع لانه مختوم.
29: 12 او يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة و يقال له اقرأ هذا فيقول لا اعرف الكتابة( ).
والمعروف أن هاجر وإسماعيل أقاما في مكة إمتثالاً لأمر الله عز وجل لإبراهيم.
وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف الكتابة ليكون من الإعجاز وتأكيد نزول القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وورد في الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاءه الملك وهو في غار حراء (وقال : اقرأ ، فقلت له : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني.
فقال : اقرأ.
فقلت : ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني.
فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقاري .
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال : [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، حتى بلغ[مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع)( ).
ونزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ]( )، ولم يرد لفظ (المدثر) في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان إبتداء جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى يوم القيامة ، ويتجلى هذا الجهاد بالدعوة بالحجة والبرهان .
(وروي أنه كان يدثر في قطيفة)( ).
كما ورد ذكر القرآن في سِفر أشعيا :
(21: 13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين.
21: 14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه .
21: 15 فانهم من أمام السيوف قد هربوا من أمام السيف المسلول و من امام القوس المشدودة و من امام شدة الحرب)( ).
وهل في حديث التوراة أعلاه دعوة لأهل تيماء بمصالحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلقيه وأصحابه بالزاد والماء عند قدومه عليهم ، وعدم محاربته ، المختار نعم .
وقد تمت مصالحتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فَلَمّا بَلَغَ يَهُودَ تَيْمَاءَ مَا وَاطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَوَادِي الْقُرَى صَالَحُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقَامُوا بِأَمْوَالِهِمْ)( ).
وأصل سكن اليهود في تيماء هو إنتظار البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا بالنسبة لأهل فدك ، وخيبر منهم.
كما في رواية عن الإمام جعفر الصادق في تفسير قوله تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ]( )، إذ قال (كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد صلى الله عليه واله ما بين عير وأحد ، فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل تسمى حداد ، فقالوا :
حداد واحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بفدك، وبعضهم بخيبر، وبعضهم بتيمآء، فاشتاق الذين بتيمآء إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه، وقال لهم: أمر بكم ما بين عير وأحد، فقالوا له: إذا مررت بهما فارناهما، فلما توسط بهم ارض المدينة.
قال لهم: ذاك عير، وهذا احد، فنزلوا عن ظهر إبله.
فقالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة لنا في إبلك، فاذهب حيث شئت .
وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا .
فكتبوا إليهم: أنا قد استقرت بنا الدار، واتخذنا الاموال، وما أقربنا منكم، وإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم، فاتخذوا بأرض المدينة الاموال .
فلما كثرت أموالهم بلغ تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم، وكانوا يرقون لضعفاء أصحاب تبع ، فيلقون إليهم بالليل التمر والشعير.
فبلغ ذلك تبع فرق لهم وآمنهم،فنزلوا إليه .
فقال لهم : إني قد استطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم .
فقالوا له : إنه ليس ذلك لك، إنها مهاجر نبي، وليس ذالك لاحد حتى يكون ذالك .
فقال لهم: فإني مخلف فيكم من اسرتي من إذا كان ذالك ساعده ونصره، فخلف فيهم حين بوأهم الأوس والخزرج ، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود يقول لهم: أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا .
فلما بعث الله محمدا عليه الصلاة والسلام آمنت به الانصار)( ).
وذكر أن (بحيرا كان حبرا من يهود تيماء)( ).
وعن عمروا بن عبسة السلمي في حديث قال : رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية.
وذلك أنها باطل، فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة فينزل الحي ليس معهم إله، فيخرج الرجل منهم.
فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة، لقدره ويجعل أحسنها إلها يعبده .
ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه ويأخذ غيره إذا نزل منزلا سواه، فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر، فدلني على خير من هذا.
فقال : يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها، فإذا رأيت ذلك فاتبعه .
فإنه يأتي بأفضل الدين فلم تكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة، فآتي فأسأل هل حدث فيها حدث .
فيقال : لا، ثم قدمت مرة فسألت فقالوا: حدث فيها رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، فشددت راحلتي برحلها، ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزل بمكة فسألت عنه، فوجدته مستخفيا( )، ووجدت قريشا عليه أشداء، فتلطفت له حتى دخلت عليه، فسألته فقلت: أي شئ أنت .
قال: نبي قلت: ومن أرسلك .
قال: الله قلت: وبما أرسلك قال: بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحقن الدماء، وبكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل.
فقلت: نعم ما أرسلت به، قد آمنت بك وصدقتك أتأمرني أن أمكث معك، أو أنصرف .
فقال : ألا ترى إلى كراهة الناس ما جئت به فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني، فمكثت في أهلي حتى إذا خرج إلى المدينة سرت إليه، فقدمت المدينة فقلت : يا نبي الله أتعرفني .
قال : نعم أنت السلمي الذي أتيتني بمكة فسألتني عن كذا وكذا فقلت لك كذا وكذا( ).
المسألة الرابعة عشرة : لقد تضمنت آية السياق أمراً وخبراً يحمل صفة النهي وهو قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ] ( ) .
وورد الضمير (الهاء) أعلاه مرتين ، وبصيغة المفعول به ، وهل المراد منه موضوع متحد ، المختار نعم على نحو الموجبة الجزئية لتعدد أفراد هذا الموضوع ، والتباين النسبي فيه ، فيكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : لتبينن الكتاب للناس ولا تكتمون الكتاب .
الثاني : لتبينن الكتاب للناس ولا تكتمون نبأ خاتم النبيين ، والنسبة بين الكتاب والذي أخذ الله عز وجل على الذين أوتوا الكتاب بيانه ، وبين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو العموم والخصوص المطلق .
الثالث : لتبينن الميثاق للناس ولا تكتمون الإيمان ، فقد مرت أزمنة على أهل الكتاب لاقوا فيها أشد ضروب الأذى ، كما في عذاب بني إسرائيل من قبل فرعون ، كما ورد في التنزيل [فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
ولماذا صار كيد ومكر الكافرين في خسارة ومحق وضلال ، الجواب لأن [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) .
وفي قصة ولادة موسى عليه السلام أن السحرة أخبروا فرعون بأنه سيولد في بني إسرائيل من يذهب بملك فرعون ، وعينوا له السنة ، فأمر بقتل كل من يولد فيها منهم ، فولد فيها موسى عليه السلام وأنجاه الله بمعجزة بحضانته في بيت فرعون نفسه ، وإرجاعه لأمه لترضعه لهم .
ولما خرج موسى عليه السلام وهارون بالنبوة ونادى موسى برسالته ، جاء بمعجزة العصا وآمن به السحرة للتباين النوعي بين عصا موسى عليه السلام وعصي السحرة ، عاد فرعون بالقتل في بني إسرائيل ،وكذا أصاب الفتك والقتل العام النصارى وغيرهم من أهل الملل السماوية وهو مما يسمى الإبادة الجماعية.
وأخرج (عن عوف قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء) ( ).
والظاهر أنه سقطت كلمة في السند سهواً من قبل الناسخ ، ورد الحديث مرسلاً عن عوف عن الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأصح( ).
وأخرج عبد بن حميد عن الإمام علي عليه السلام قال (كان المجوس أهل كتاب ، وكانوا مستمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله ، فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت .
وما المخرج منه .
قالت : المخرج منه أن تخطب الناس فتقول أيها الناس إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات والبنات ، فإذا ذهب ذا في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته.
فقام خطيباً فقال : يا أيها الناس إن الله أحل لكم نكاح الأخوات أو البنات ، فقال الناس جماعتهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به ، أو جاءنا به نبي ، أو نزل علينا في كتاب ، فرجع إلى صاحبته فقال : ويحِك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك .
قالت : إذا أبوا عليك ذلك فابسط فيهم السوط ، فبسط فيهم السوط ، فأبوا أن يقروا ، فرجع إليها فقال : قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقروا .
قالت : فجرد فيهم السيف ، فجرد فيهم السيف ، فأبوا أن يقروا .
قالت : خدّ لهم الأخدود ، ثم أوقد فيه النيران فمن تابعك فخلّ عنه . فخدَّ لهم أخدوداً وأوقد فيه النيران ، وعرض أهل مملكته على ذلك ، فمن أبى قذفه في النار ، ومن لم يأب خلّى عنه.
وأنزل الله فيهم {قتل أصحاب الأخدود}( ) إلى قوله {ولهم عذاب الحريق}( ))( ).
ووردت أخبار أخرى تدل على تعدد موضوع الأخدود وابتلاء المؤمنين والمؤمنات .
(لام) لا تكتمونه
ترى لماذا جاءت الآية بصيغة النفي [وَلَا تَكْتُمُونَهُ] ( )، ولم تأت بصيغة النهي (لاتكتموه) وفيه مسائل :
الأولى : لم يرد لفظ (تكتمونه) في القرآن إلا في آية السياق ، ولم يرد (تكتموه) في القرآن .
الثانية : تحتمل النسبة بين النفي والنهي في المقام وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي وان النفي والنهي متحدان في الدلالة .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : النفي أعم من النهي .
الثانية : النهي أعم من النفي .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
رابعاً : نسبة التباين والإختلاف .
والمختار في المقام هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، فقد جاءت الآية بصيغة النفي , ويراد منها الفرد الجامع للنفي والنهي( ).
ترى كيف يكون تفسير هذا المعنى المستحدث هنا، الجواب على جهات :
الأولى : لا تكتموا الكتاب والبشارات لإفادة معنى النهي.
الثانية : بيان قانون وهو لابد من إظهار الكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : لا يُكتم أو يخفى الميثاق والكتاب والبشارات ، وتدل كلمة الميثاق على وجود موضوع له وهناك مسائل وأحكام أخذ الله عز وجل عليها العهد والميثاق من الذين أوتوا الكتاب .
الرابعة : نفي كتمان الكتاب والبشارات ، لأنها لم تصل الى الجيل اللاحق من الذين أوتوا الكتاب إلا بالبيان من الجيل السابق.
الخامسة : بيان مسألة وهي حديث الآية عن أمر موجود وهو الكتاب والبشارات فمن معاني (لا) النافية ، عند دخولها على الجملة نفي وقوع الحدث ، أو نفي عدمه ، ويبقى الفعل المضارع بعدها مرفوعاً كما في آية البحث (لا تكتمونه).
السادسة : الأقرب أن (لا) في آية السياق (لا تكتمونه) جامعة بين أمور :
الأول : النفي ، بدلالة ثبوت النون.
الثاني : النهي .
الثالث : اللام الزائدة وهي التي تفيد مطلق النفي فقط كما في قوله تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ]( )، لبيان الثبات والدوام والتدبير المعجز والوجوب وفيه نكتة وهي أن الشمس والقمر مأموران بالتعاقب والسير المحدد ، وفي الفقه اختلف في المراد من (ينبغي) هل هو الوجوب أو الإستحباب ، والمختار هو الإستحباب .
الرابع : لام الجنس والتي تدخل على الجملة الاسمية وهي من النواسخ أي تعمل عمل إن وأخواتها فتنصب الأول ويسمى اسمها ، وترفع الثاني ويسمى خبرها .
واشترط أن يكون اسمها وخبرها نكرتين ، مثل: لا رَجلَ في الدار ، إذ تنفي جميع أفراد الجنس ، ولكن هذا الشرط يتلاشى عند إجتماع معاني (لا) في حرف واحد ، وهي تشبه ليس في المعنى وليس الإعراب .
فهي بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في عدم إخفاء البشارات بنبوته ، وذات نزول القرآن من البشارات ، كما أنه مصداق لهذه البشارة .
وتقدم قوله تعالى [لَا تَكْتُمُونَهُ] وهو بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : من ملك الله عز وجل للسموات والأرض إظهار الكتاب والتنزيل ، وبيان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : لابد من وجود أمة من الذين أوتوا الكتاب يظهرون البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : من ملك الله عز وجل توالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسباب إعلان البشارات بنبوته لإدراك طائفة من الذين توارثوا البشارات وجود المقتضي وفقد المانع لإظهار البشارات بنبوته .
الرابع : من مصاديق [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، إظهار الله عز وجل الميثاق والكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : من معاني (ولا تكتمونه) أي لا تستطيعون كتمان واخفاء الكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لأن السموات والأرض ملك لله عز وجل وهو الذي يخرج البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويظهره على الدين ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
قانون إحصاء الميثاق في القرآن
لقد وردت مادة (وثق) والميثاق ومشتقاتها في القرآن نحو (31) مرة ، ومادة (عهد) نحو (45) مرة لبيان أن القرآن كتاب عهد بين الله والعباد ، وبين الناس أنفسهم ، وجاءت بعثة الأنبياء لتثبيت المواثيق والعهود بين الله والناس .
ولا يختص موضوع الميثاق في القرآن بذات اللفظ ، إذ يشمل آيات البلاغ ، والوصية ، والحكم ، والإستعداد والعمل للآخرة .
فلابد من قراءة آيات القرآن آية آية ، وإستظهار آيات الميثاق والتي تدل عليه وتشير إليه منطوقاً ومفهوماً .
وقد ترد آيات متعاقبة تدل على الميثاق منها بعض آيات [قل] بالأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والذي ورد في القرآن (332) مرة كلها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها خبري ومنها إنشائي باستثناء أربع آيات لم تتوجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في منطوقها ، ولكنها تدل عليه في مفهومها وهي :
الأولى : توجه الخطاب [قل] إلى نوح عليه السلام ، كما في قوله تعالى [وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا] ( ) إذ أن هذا الخطاب عام لكل مسلم ومسلمة ، ولم يكن أي من والدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياً عند نزول القرآن .
الثالثة : توجه الخطاب إلى نوح أيضاً كما في قوله تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ] ( ).
الرابعة : توجه الخطاب إلى موسى عليه السلام ، كما في قوله تعالى [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى] ( ).
ومن آيات الميثاق المتعاقبة قوله تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
ومن الميثاق في هذه الآيات :
الأول : لفظ (قل) فهو ميثاق من جهات :
الأولى : لفظ [قُلْ] ميثاق بين الله عز وجل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلابد أن يبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القول المأمور به من قبل الله عز وجل ، وعلى نحو متكرر ، وهو من الإعجاز من وجوه :
أولاً : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليومية المتصلة للمسلمين في الصلاة ، وتلاوته القرآن فيها .
ثانياً : استدلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن والإحتجاج بها .
ثالثاً : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحل والترحال القرآن .
رابعاً : صعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر وقراءته القرآن وتفسيره لآياته .
الثانية : لفظ [قُلْ] ميثاق بين الله عز وجل والمسلمين ، لإلحاق المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي الأوامر والنواهي إلا ما دلّ على إرادة الخصوص ، فمثلاً قوله تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ] ( ) .
تقديره :قولوا تعالوا نتلو عليكم ما حرم ربكم عليكم وعلينا ألا نشرك بالله شيئاً وبالوالدين إحساناً.
الثالثة : لفظ [قُلْ] ميثاق بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً ، فالنبي مأمور بتبليغ كل فرد وحصة من المضامين والمسائل والقوانين التي ورد لفظ [قُلْ] بخصوصها .
الرابعة : لفظ [قُلْ] ميثاق بين المسلمين وأهل الكتاب ، وبين المسلمين وجميع أهل الأرض ، وهو شاهد على السلم والرحمة في لغة التبليغ ، وعلى حرمة الإرهاب والترويع العام .
الثاني : [قُلْ تَعَالَوْا] ومعنى لفظ تعالوا أي هلموا وانصتوا ، تعالوا إلى الميثاق والعهد الذي بينكم وبين الله ، ومضامين وبنود هذا الميثاق ، ليس للإنسان أن يعزف أو يعرض عن الميثاق ، ترى ما المقصود من واو الجماعة في [تَعَالَوْا] .
الجواب جميع الناس ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأن تبليغ دعوته لا ينحصر بندائه للناس ، بل يجب على الناس أن يأتوا إليه ، ويقتبسوا ويتعلموا أحكام وسنن الشريعة.
الثالث : ميثاق حرمة الشرك لآيات كثيرة منها قوله تعالى [أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا]( )، والمنع من الشرك من أعظم أفراد الميثاق ، وبه جاء الأنبياء وتلقوا الأذى بسببه ، ومنهم من قُتل في دعوته لنبذ الشرك .
ومن قوانين النبوة أن أي نبي لا يغادر الدنيا إلا ويترك من خلفه أمة من الموحدين تتنزه عن الشرك ، وتدعو الناس إلى نبذه ، نعم عدد أفراد هذه الأمة ودعوتها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الأنبياء أتباعاً وورثة لكلمة التوحيد.
ومن الإعجاز مجئ الآية أعلاه بصيغة الفعل المضارع .
وابتدأ ميثاق التوحيد وحرمة الشرك من عالم الذر لقوله تعالى [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ]( ).
ولم يرد هذا اللفظ إلا في آية الذر وليس من شرك في السموات ولا في الأرض عندما كان الناس في عالم الذر ، لذا لم تذكر الآية مادة الشرك إنما اكتفى الله عز وجل بأخذ الميثاق بالربوبية والتوحيد من الناس وهم بهيئة الذر وأصغر من الذرة.
ولم يرد لفظ [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ] في القرآن إلا في آية الذر مع ذكرها ليوم القيامة لتكون عهداً وميثاقاً بين الله وأجيال الناس المتعاقبة ، إذ قال تعالى [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ]( ).
لتدل الآية الأخيرة أعلاه على ميثاق أخذه الله عز وجل على الناس ، وهو وجوب قطعهم للشرك وإن ورثوه من الآباء وهذا القطع من أفراد أخذ الله الميثاق على كل إنسان في عالم الذر ، لبيان قانون وهو اتصال حرمة الشرك من قبل أن يخلق آدم وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
وهل من صلة بين كل من الآية السابقة وآية البحث بحرمة الشرك ، الجواب نعم ، وهما مجتمعتين ومتفرقتين يدعوان إلى نبذ الشرك بالبيان والتفقه في الدين ، لذا قال تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ]( )، وهل نبذ طائفة من أهل الكتاب الميثاق كما في قوله تعالى [فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ] من الشرك ،المختار لا ، وإن كان معصية وذنباً.
ويتجلى بلحاظ آية البحث قانون بيان الميثاق للناس من مصاديق حب الإنسان أن يحمد بما يفعل لأن هذا البيان على وجوه :
الأول: إنه امثتال لأمر الله .
الثاني : إنه جهاد في سبيل الله بالحجة والبرهان .
الثالث : فيه دعوة للإصلاح .
ويمكن القول بأن أي بيان للميثاق حرب على الشرك وإن كان هذا البيان على نحو القضية الشخصية في أطرافه وهي :
أولاً : الذي يبين الميثاق .
ثانياً : موضوع وأفراد الميثاق .
ثالثاً : الذي يتلقى الميثاق.
الرابع : من الميثاق الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإحسان للوالدين والرفق بهم ، والإنفاق عليهما عند الحاجة إلى هذا الإنفاق ، وليس في حياة الإنسانية ملة أو مذهب أصلح حياة الناس بالرفق بالوالدين مثل القرآن ، وهو من الشواهد على إعجازه ، وصدق نزوله من عند الله عز وجل ، قال تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
إذ يتجدد هذا الأمر القرآني بالبر بالوالدين كل يوم سبع عشرة مرة على نحو الوجوب العيني بتلاوة القرآن في الصلاة وإلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
إذ تكرر في هذه الآية اقتران وجوب التوحيد مع الإحسان للوالدين والبر بهما مع البيان في قوله تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
والواجب عدم الوقوف عند التنزه عن الشرك بل لابد من عبادة الله وإقامة الفرائض من الصلاة والزكاة والصوم والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ويبقي الإحسان للوالدين مقترناً بالعبادة وعدم الشرك بالله عز وجل .
و(عن أم أيمن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بعض أهل بيته فقال : لا تشرك بالله وإن عذبت وإن حرقت ، وأطع ربك ووالديك وإن أمراك أن تخرج من كل شيء فاخرج ، ولا تترك الصلاة متعمداً؛ فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ، إياك والخمر ، فإنها مفتاح كل شر ، وإياك والمعصية؛ فإنها تسخط الله.
لا تنازِعَنَّ الأمر أهله ، وإن رأيت أنه لك ، لا تفر من الزحف؛ وإن أصاب الناس موت ، وأنت فيهم فأثبت ، أنفق على أهلك من طولك ، ولا ترفع عصاك عنهم وأخفهم في الله عز وجل .
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي ، عن أبي أسيد الساعدي قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال رجل : يا رسول الله ، هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به .
قال : نعم . خصال أربع : الدعاء لهما ، والاستغفار لهما ، وانفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما)( ).
لقد أسس القرآن والسنة لمدرسة إجتماعية وأخلاقية تعجز المؤسسات والمخلوقات عن إنشائها وإن أنفقوا الأموال الطائلة ، ومنع القرآن والسنة من الفتن داخل الأسرة المسلمة ومن دخول الشباب أو الآباء السجون بسبب هذه الفتن ونحوها .
لقد كانت طاعة الوالدين في الإسلام مناسبة للإقرار بالتوحيد وأداء الفرائض العبادية والصلاح ونبذ الشرك ، وترك المعاصي ، وتدل آية البحث في مفهومها على النهي عن الإساءة للوالدين والذي جاء صريحاً في آيات أخرى منها قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
الخامس : كما يجب على الولد والبنت البر بالوالدين ، فيجب على الآباء والأمهات العناية بالأبناء من حين الحمل والإنجاب والرضاعة.
إذ تضمنت الآية ميثاق حرمة قتل الأبناء وحرمة الوأد لقوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ]( )، وكان العرب يئدون البنات خشية الفقر والسبي بالغارات فيما بينهم فاخبر الله عز وجل عن وعد منه تعالى [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( )، لبيان قانون وهو مع التقيد بسنن الهدى فان الله عز وجل ينزل النعم على الناس.
وقد ذم الله عز وجل المشركين لقتلهم أولادهم ولأنهم يحجبون عن أنفسهم النعم والرزق الواسع باعراضهم عن الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ]( ).
وعندما يصبح الإنسان أباً تتغير وظائفه بخصوص البر ، إذ يجب عليه أن يبر أبناءه بحسن التربية والكفاية ، وتعاهد الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا]( ).
وجاءت آية البحث ليؤدب الأب أبناءه على عدم إتيان ما يخالف الوظيفة الشرعية ، والفرح بهذا الخلاف عند الإتيان به.
ويعلمهم أن هذا الفرح قبيح بذاته وعلته وسببه ، ويؤدبهم على التصديق بالمعجزات النبوية ، وعلى الإمتناع عن إرتكاب المعاصي ، لأن هذا الإمتناع ينفي الحاجة إلى رجاء المدح على اتيانها من الأصل.
وقد يكون الإنسان أباً وابناً في آن واحد عندما يكون أبوه أو أمه من الأحياء وله أولاد خاصة في هذا الزمان ، وزيادة متوسط عمر الإنسان مما يملي عليه وظائف مركبة من الميثاق ، وكل فرد منها فيه الأجر والثواب العظيم لبيان قانون تولد النعمة الخاصة عن النعمة العامة ، ولتكون هذه النعم مجتمعة ومتفرقة مادة ومناسبة للشكر لله عز وجل.
و(عن ابن مسعود قال : سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أكبر ، قال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت : ثم أي .
قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك .
قلت : ثم أي ، قال : أن تزاني حليلة جارك ، فأنزل الله تصديق ذلكوَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ( ).
ومع ابتداء الآية بالنهي والتحريم إلا أن فصلاً من فصول الآية ورد بصيغة الإيجاب [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ولم تقل الآية مثلاً : ولا تسيئوا إلى الوالدين .
وقد ورد نص لفظ الميثاق بخصوص الإحسان للوالدين واقترانه بعبادة الله بقوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( ).
وهل الشكر للوالدين من الميثاق كما في قوله تعالى [أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( )، الجواب نعم .
وبخصوص آية البحث فانها تدعو الآباء إلى جعل البشارات بالنبوة والتنزيل تركة وميراثاً ، وتعاهد الأبناء لها من الإحسان للوالدين.
السادس : جاءت الآية بقانون ووعد من عند الله عز وجل بأنه سبحانه يرزق الآباء والأمهات وأبناءهم ، ويجري الرزق على وجوه:
الأول : رزق الأبناء بواسطة الآباء .
الثاني : رزق الآباء بواسطة الأبناء ، قال تعالى [نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ]( ).
الثالث : رزق كل من الآباء والأبناء على نحو مستقل.
وأي هذه الوجوه أكثر في حياة الناس ، المختار هو الأول ، وهو ظاهر الخطاب في الآية [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( )، ومنه قوانين الميراث والوصية ، قال تعالى [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
ليتحمل الآباء مسؤولية اصلاح وهداية الأبناء لسواء السبيل واجتناب ما تضمنت آية البحث ذمه من سوء الفعل.
ومن إعجاز القرآن مجيؤه بتنمية ملكة العصمة من القتل وسفك الدماء سواء بخصوص أفراد الأسرة أو الجماعة أو الغير بمنع تصعيد الخصومة والعداوة إلى الإقتتال وسفك الدماء .
ترى لماذا تضمنت الآية أعلاه من سورة الأنعام النهي عن الإقتراب عن الفواحش ، الجواب من معاني الإقتراب في الآية ولوج مقدمات الفواحش ، وتهيئتها والسعي إليها ، حتى إذا ما صارت الفاحشة قريبة يصعب على الإنسان إجتنابها فأراد الله عز وجل للناس عامة وللمسلمين خاصة الإبتعاد عن مقدمات الفواحش والمعاصي.
وعن الإمام الحسن بن علي عليه السلام (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وفي الحديث الآخر : الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس)( ).
و(عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)( ).
ومن إعجاز القرآن أن الله عز وجل نهى عن قتل الأبناء وعن الوأد ووعد بالرزق الكريم مما يدل على قانون وهو ترتب النفع العظيم على التقيد بالنواهي القرآنية والإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه.
ومن النفع ما يكون في الدنيا ، ومنه ما يكون في الآخرة، ومن الرزق الذي يأتي بسبب الإمتناع عن قتل الأولاد ما يكون مشتركاً ينتفع منه الآباء ، كما في ترك الوأد فان ذات البنت قد تكون مؤمنة وصالحة خاصة مع اقتران حرمة الوأد مع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الرجال والنساء للإسلام.
وقد تكون بواسطتها مصاهرة تجلب النفع للأب والأم والإخوان ، وفيه شواهد كثيرة من التأريخ ، لذا قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا] ( ) والوعد الإلهي بالرزق الكريم لا يمنع من الدعاء بل هو باعث على الدعاء والشكر لله عز وجل.
وفي الآية دعوة لكل إنسان للتفكر والتدبر في مجئ موارد له من الرزق على نحو الإعجاز ، أو أنها أكبر من جهده وسعيه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا] ( ).
ويحتمل جعل المخرج للإنسان ورزقه من حيث لا يحتسب وجوهاً :
الأول : إنه خاص بالذي يتقي ويخشى الله عز وجل .
الثاني : إنه شامل للذي يعلم الله عز وجل منه الثواب ، وأنه سيتقي الله في قادم الأيام .
الثالث : إرادة الناس جميعاً البر والفاجر .
المختار أصالة العموم واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فالوعد الوارد في الآيتين أعلاه من سورة الطلاق لا يمنع من إنتفاع عامة الناس من فضل الله عز وجل ونزول المطر وخزائن الأرض ، نعم ما يأتي للمتقي الذي يؤدي الفرائض العبادية ويحرص على الميثاق ولا يحب أن يحمد بما لم يفعل يكون أكثر وأعظم من غيره من الناس ، وفي التنزيل [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ]( ).
وهل تدخل خشية سبي الفتاة كجزء علة للوأد في الإملاق ، الجواب نعم ، فقد يحتاج الإنسان إنفاق أمواله ، وبيع إبله وفرسه كي يفك ابنته من السبي وبعد أن تقضي مدة في أيدي القبيلة الغازية ، فحرم الله عز وجل برسالة النبي أصل وسبب هذا الإملاق إذ منع من الغزو بين القبائل .
وهو من إعجاز القرآن بالربط بين قتل الأنبياء وبين الإملاق في آيتين .
وكان ورودها في سورة الإنعام الآية (151) إشارة إلى هذا الأمر ، مع مجئ آية خاصة بحرمة الوأد والتحذير منه ، والإنذار من عقوبته في الآخرة ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) ليفيد الجمع بين الآيتين أن الأولاد الذين يقتلون يتقدمون بين يدي الله للشكوى ، ولذا ورد في الفقه حرمة إسقاط الجنين إذا كان قد ولجت فيه الروح ، بعد تمام أربعة أشهر من حين بداية الحمل .
ولو كان الأب أنفق أمواله لفكاك ابنته أو زوجته من الأسر في الغزو فهل يعوضه ويرزقه الله البدل ، الجواب نعم ، ولكن هذه المسألة صارت سالبة بانتفاء الموضوع بسيادة أحكام الإسلام ، وتحريم وانقطاع الغزو بين القبائل إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل كان من أسباب حروب قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهجومهم وغزوهم المتكرر للمدينة بسبب رغبتهم في بقاء الغزو بين القبائل ، وأسر وسبي الرجال والنساء والصبيان ، وبيعهم في أسواق مكة باثمان زهيدة ، وحاجة القبائل لوساطة قريش بينها ، واتخاذ هذه الوساطة نوع واقية وسلامة لقوافل قريش التجارية بين مكة والشام ، وبين مكة والمدينة .
المختار نعم ، وهو من أسباب حرب قريش على النبي إذ أن هذه الأسباب أكثر وأعم .
السابع : من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس حرمة الفواحش ، وهل في الآية ونظمها شاهد على تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول.
الجواب نعم ، وقد كان المشركون لا يمتنعون عن الفواحش والمفاسد ، ومنهم من يتجاهر بالزنا وشرب الخمر والسرقة ، ويتفاخر بالقتل وسفك الدماء ، أو يسعى للثأر من غير القاتل ، فجاءت الآية بحرمة ما ظهر من الفواحش على الجوارح ، وما آتاه الإنسان في الخفاء والسر من المعاصي ، ومنه ما ورد في آية البحث من الفرح بكتمان أو إنكار بشارات النبوة ، ومن مصاديق آية البحث عدم حيلولة هذا الكتمان دون إظهار الناس إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أراد الله عز وجل للمجتمع أن يكون معلماً ومرشداً للإنسان فيقومون بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، وأراد سبحانه أن يكون ذات الإنسان رقيباً على نفسه ، قال تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا] ( ) توجهه إلى الفرد (وبعهد الله أوفِ).
والفواحش على شعب :
الأولى : ما يكون فعلاً شخصياً كالسرقة والظلم .
الثانية : ما يكون نوع مفاعلة بين طرفين كالزنا والربا .
الثالثة : ما يشترك به جماعة ، فيكون فعلهم مما ظهر من الفواحش لأنه ظاهر لهم ، وإن كان سراً وخفية ، ليتوجه الميثاق والعهد مع الله إلى كل منهم لإجتناب الفاحشة والظلم والتعدي والبغي ، وهل الغيبة والنميمة من الفواحش التي تذكرها الآية أعلاه من سورة الأنعام( ) ، أم أنها أدنى مرتبة منها ، وإن كانت حراماً .
المختار هو الثاني .
الثامن : حرمة إشاعة القتل ، والإقدام على سفك الدماء ، وإزهاق الأرواح .
ولم تقل الآية (ولا تقتل النفس) وكذا لم تقل (ولا تقتلوا النفوس) إنما ورد الخطاب في الآية بصيغة الجمع ، والنهي عن القتل بصيغة الفرد (النفس) .
ليكون تقدير الآية على جهات :
الأولى : لا تجتمعوا على قتل إنسان واحد بغير حق .
الثانية : لا تشعلوا الحروب وتقتلوا الناس .
الثالثة : إياكم والفتن التي هي مقدمة للقتل وسفك الدماء ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله) ( ).
وفي ذم مشركي قريش وقيامهم باخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة ورد قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( )وقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
الرابعة : صيغة الخطاب الشخصي ، وتقدير الآية : ولا تقتل النفس التي حرم الله لذا فان آية البحث تدفع الفتن والقتل.
وأي هذه الجهات أكثر في تأريخ الإنسانية .
المختار هي الثانية بخصوص إشعال الحروب ، إلى جانب كثرة الجراحات والخسائر المادية في الحروب ، وقد كانت حروب وغزوات كفار قريش ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على المشركين ، وزاجراً للناس عن الغزو والحروب والإقتتال ، ومن إعجاز القرآن إخباره عن الولاية للمقتول ، وإن دمه لا يذهب هدراً ، قال تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا] ( ).
ثم أختتمت الآية بقوله تعالى [ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ]( )، لبيان أن كل فرد من هذه الوجوه والنواهي الثمانية التي تضمنتها الآية بأنها هي عهد أخذه الله على الناس.
وبعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لتثبيتها مجتمعة ومتفرقة ، لذا فان آيات الميثاق والعهد كثيرة ، كما أن الميثاق فيها متعدد ومتفرع ، ومنه الآية أعلاه وهل منه آية البحث ودلالتها ، الجواب نعم .
وبلحاظ آية البحث فان الميثاق مما آتاه الله عز وجل الناس ، فلهم أن يفرحوا به ، ولكن بقيد الإمتثال له ، أي أن الفرح لا يكون بذات تلقي الميثاق والعهد وحده ، وإن كان تشريفاً ورفعة ، وفيه إنتساب إلى أهل الكتاب ، بل لابد من العمل بمضامينه والتقيد بأحكامه ، وإعلان التصديق بالبشارة بنبي آخر الزمان عند بعثته وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين خاتمة آية البحث أن العمل بمضامين الميثاق ليس اختيارياً بل هو واجب ، وأيهما أكثر في الميثاق الأوامر أو النواهي ، المختار أن الأوامر هي الأكثر خاصة مع تجددها ، منها الصلاة خمس مرات في اليوم ، والفرائض الأخرى ، كالزكاة والصيام والحج والخمس ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
ومنها تلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
آيات الميثاق
ورد لفظ [مِيثَاقَ] خمساً عشرين مرة في القرآن ، ولم يرد معرفاً بالألف واللام إلا مرة واحدة منها ، وهو قوله تعالى [الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على العموم والخصوص بين الميثاق والعهد لدلالة العطف بالواو بينهما على الغيرية والتعدد ، وإن تقارب المعنى بينهما لغة .
وكل من الميثاق والعهد والنذر واليمين والعقد أمور ملزمة ، وبينها ترتيب فالميثاق أسمى المراتب ، وقد يسقط النذر مع التعذر وتنتقل الوظيفة في اليمين إلى الكفارة إلا فيما يخص اليمين الغموس أي الكاذبة في الشهادة ونحوها فليس فيها كفارة وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار .
ومن بين الفروق بين الميثاق والعهد أن الميثاق يؤخذ من أحد الطرفين ، أما العهد فقد يكون من المتعاهدين ، لذا فان ورود آية السياق بلفظ [مِيثَاقَ] حجة على الناس بأن الله عز وجل هو الذي أخذ عليهم الميثاق.
ولو دار الأمر بين وجود واسطة في الميثاق أو عدمها ، فالأصل هو عدم الواسطة ، كما في ميثاق الناس في عالم الذر ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] ( ).
نعم ميثاق الذين أوتوا الكتاب وغيرهم يتضمن وجوهاً :
الأول : أخذ الله عز وجل الميثاق من غير واسطة لبقاء مضامين ميثاق عالم الذر في النفوس .
الثاني : الميثاق الذي أخذه الأنبياء على أتباعهم .
الثالث : الميثاق الذي يرد في الكتب السماوية ، فالذي ينتمي إلى ديانة سماوية يجب عليه التقيد بالأحكام التي وردت في الكتاب السماوي ، وكذا بالنسبة للذين يتوارثون الملة السماوية .
ويشمل الميثاق العقيدة والمبدأ وعالم الأفعال والأقوال والتسليم باليوم الآخر ، وعالم الحساب ، وهذا الحساب مقدمة للجزاء الذي يتصف بالدوام والخلود .
لبيان أن الميثاق رحمة ونوع طريق للإقامة في النعيم الدائم للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، وهو حجة على الذين أعرضوا عنه ، وقادوا أنفسهم وأبدانهم بأوزار المعاصي إلى الجحيم الحاطمة.
ومن خصائص الميثاق الإلهي قانون وجوب تعاهد الناس له حالاً بعد حال ، وقد ذم الله عز وجل قوماً نقضوا الميثاق ، قال تعالى [الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( )، وفي قوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
إذ يلزم هذا العهد تطهير المسجد الحرام وصيانته وحفظه ودفع الأذى والنجاسات عنه على نحو يومي متجدد ، و(عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : من دعا إلى الجمل الأحمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا وجدت ، إنما بنيت المساجد لما بنيت له)( ).
وفي تسمية الإنسان ، ورد عن ابن عباس (سمي إنساناً لأنه عُهِدَ إليه فنسي. قال الله تعالى {وعهدنا إلى آدم من قبل فنسي})( ).
وهذا أحد المعاني ، ومنها أنه سمي إنساناً لما اختص به من الأنس والأحسان والشفقة بغيره بما يفوق الحيوانات ولما يتصف به من الجود وسمو الأخلاق ، وسمي الحيوان بهيمة لأنه أبهم وافتقر للعلم والفهم والإكتساب .
وسمي إنساناً لأنه يأنس بالعبادة من الإيناس بها ، كما أنه يأنس باكتساب العلوم ، وفي النبي موسى عليه السلام قال تعالى [إِنِّي آنَسْتُ نَارًا] ( ) ، ويقال (أناس الشئ ، حرّكه) ( ).
إذ يتحرك ويتنقل الإنسان في أرجاء الأرض ، وهو من مصاديق الخلافة فيها ، وصار يتحرك في هذا الزمان نحو الكواكب.
وهل في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) دعوة للناس لإجتناب الصعود إلى الكواكب ، الجواب لا ، بدليل أن آدم وحواء خلقهما الله عز وجل في الجنة ثم أمرهما بالهبوط عندما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل .
ومن آيات الميثاق بين الله عز وجل والعباد :
الأول : قوله تعالى [الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
الثاني : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالث : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]( ).
الرابع : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الخامس : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ).
السادس : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( ).
السابع : قوله تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
الثامن : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
التاسع : قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
العاشر : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الحادي عشر : قوله تعالى [وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
الثاني عشر : قوله تعالى [لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ]( ).
الثالث عشر : قوله تعالى [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
إعجاز الآية الذاتي
من خصائص القرآن وآية البحث فيما يتعلق بالتوحيد أمور :
الأول : القرآن هو الكتاب السماوي الشاهد على الوحدانية ، وهو من أسرار حفظ الله عز وجل له للتخفيف عن الناس ، والمنع من الشرك والضلالة .
الثاني: هل يمكن القول بقانون كل آية من القرآن تدل على الوحدانية ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ، كما يدل إعجاز القرآن على هذا القانون من غير أن يلزم الدور بينهما .
الثالث : القرآن إمام في جذب الناس لمنازل التوحيد ، وعصمتهم من الشرك والضلالة ، ولا يعلم كثرة عدد الذين دخلوا الإسلام بادراكهم أن القرآن كتاب التوحيد النازل من عند الله إلا الله عز وجل نفسه ، وفي التنزيل [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ).
الرابع : بيان آية البحث لقانونين من المشيئة الإلهية ، وكل فرد منهما دليل على الوحدانية وهما :
الأول : ملك الله عز وجل للسموات والأرض ، لتتفرع عنه عدة قوانين وأفراد لا تعد ولا تحصى ، وذكر هذا التفرع أمر مسلّم به عند الموحدين ، ويمكن تأليف مجلدات في ذكر الأفراد التي يملكها الله عز وجل في السموات وحركتها وأنظمتها منها مئات الملايين من الملائكة الذين لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل وتباين أحوالهم وكيفية وهيئة خلقهم ووظائفهم.
وكلهم مشغولون بالذكر والتسبيح ، ومنهم حملة العرش ، وحفظة كل سماء من السموات السبع ، و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجارون إلى الله ، لوددت أني كنت شجرة تعضد)( ).
ومنهم الكتبة الذين يصاحبون الإنسان ويذبون عنه ويكتبون أعماله.
والملك كاتب الحسنات غير كاتب السيئات ، وليس من ملك يكتب ويحصي إلا أعمال فرد واحد من البشر إلا أن يشاء الله ، وليحضروا شهوداً يوم القيامة .
(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : البيت المعمور الذي في السماء يقال له الضراح ، وهو على بناء الكعبة يعمره كل يوم سبعون ألف ملك لم تزره قط ، وإن للسّماء السابعة لحرما على منى حرم مكة) ( ).
و(عن أنس بن مالك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ اله إِلا هُوَ} الآية.. عند منامهِ خلق اللَّه عزَّ وجلَّ له سبعين الف ملك يستغفرون له الى يوم القيامة) ( ).
وهذا من لطف ورحمة الله بالمؤمنين ، إذ يختص كل مؤمن بسبعين ألف من الملائكة خلقهم الله عز وجل للإستغفار له على نحو الخصوص ، وهل يتجدد الخلق والعدد كل ليلة يقرأ فيها آية (شهد الله ) أم أنه خلق متحد لمرة واحدة .
المختار هو الثاني ، ولو إرتد هذا الإنسان هل تستمر الملائكة بالإستغفار له أو تترك الإستغفار أوتواظب على الدعاء له بالتوبة والإنابة .
المختار هو الأخير ما دام في الحياة الدنيا .
ولم يرد لفظ شهد الله في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان أن ملك الله عز وجل للسموات والأرض فرع الوحدانية التي انفرد بها الله عز وجل ، وهو سبحانه وحده القادر على كل شئ .
ترى لماذا لم تقف الآية عند قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] الجواب لبيان أن ملك الله عز وجل ملك مشيئة وتصرف ، ليس له مانع أو منازع مع إمتناع الشريك بدلالة الآيات التي تشهد بالإلوهية لله وحده.
ومن معاني قوله تعالى في آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، البشارة والإنذار في الدنيا والآخرة ، إذ يفرح ويطمئن المؤمن عند تلاوته هذه الآية ويصاب الكافر بالخيبة ، كما تدعو الآية الإنسان إلى استحضارها لجلب المنفعة ، ودفع الضرر.
ويمكن تسمية آية البحث آية [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] وقد ورد هذا اللفظ في القرآن ست مرات ، ومرتين من غير حرف الواو في أوله ، كما ورد بصيغة [أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ].
إعجاز الآية الغيري
تبعث آية البحث المسلمين على التفقه في الدين ، والإرتقاء في المعارف الإلهية ، فلا يخرج عن ملك الله شئ ، وهو سبحانه خالق كل شئ لم يستول على خلق أو ملك لغيره ، إنما كل شئ مملوك له ، وقاصر عن الملك معه ، لإنعدام واستحالة الشريك له سبحانه ، وقد ظهرت الكائنات وعالم الموجودات بمشيئة الله ، وهو سبحانه القوي والصانع المبدع لمعالم الأكوان .
ولقد أنعم الله عز وجل على الأنبياء وأهل الأرض بالتدبر في الأكوان ، لبيان أن الفطرة الإنسانية تقود إلى الإقرار بالتوحيد وإن لم تصل الدعوة النبوية إلى الأفراد والجماعات والقرى ، أو أن مفاهيم ضلالة تمنع من وصولها .
فتبقى الفطرة تلح على كل إنسان للإقرار بالتوحيد ، وقد تجلت في قصة إبراهيم النبي ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، وقد تقدم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكيف أن ملك زمانه نمرود أمر بقتل من يولد من الذكور خشية على ملكه أثر رؤيا رآها.
لقد رأى نمرود أن كوكباً طلع فذهب بضوء الشمس والقمر ففزع ، فدعا السحرة والكهنة والقافة ومفسري الأحلام ، فسألهم ، فقالوا (يخرج من ملكك رجل يكون على وجهه هلاكك وهلاك ملكك ، وكان مسكنه ببابل الكوفة فخرج من قريته إلى قرية أخرى ، وأخرج الرجال وترك النساء ، وأمر أن لا يولد مولود ذكر إلا ذبحه فذبح أولادهم)( ).
مع أن نمرود كان كافراً ظالماً فقد رأى هذه الرؤيا لبيان قانون وهو أن رؤيا الإنذارات تأتي حيث يشاء الله عز وجل وهو من مصاديق آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وأن الإنذار طريق للتوبة ، وحجة على الظالم وسبب في تعجيل هلاكه إن لم يتب.
لقد كان نمرود حريصاً على ألا يقرب الرجال النساء فقد زاول العزل الجماعي من مقامات الرياسة والطغيان وادعاء الربوبية ، وكان ملكه قبل الميلاد بنحو ألفي سنة .
ولم يعلم أن الله عز وجل على كل شئ قدير ولا راد لأمره.
لقد أراد الله عز وجل أن يخزي نمرود ويبين له عجزه في دفع هدم ملكه بانذاره بغلام لم يولد بعد من رعيته وأهل بلدته وليس بجيوش الأعداء.
وكان حكم نمرود في بابل وما حولها من المدن والأمصار.
ويدل قوله تعالى في آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] وعلة خلق الناس للعبادة على وجود أمة مؤمنة في الأرض في كل زمان تقوم بعبادة الله عز وجل وحده ، وقيل حكم نمرود (400) سنة وهو بعيد .
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : ملك الارض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين ، والكافران نمرود وبخت نصر، واسم ذو القرنين عبد الله بن ضحاك بن معد( ) ، وبه قال مجاهد ( ).
والمراد من الدنيا والأرض أنه ملك ما حوله ، وأصبح لا يخشى عدواً أو دولة قوية قريبة منه ، فصار حكمه في مأمن من الأعداء والخصوم فطغى نمرود.
ليكون من إعجاز الآية الغيري دعوة الناس للدعاء وسؤال قضاء الحاجات وكثرة الأموال والملك والزجر عن الغرور والطغيان في الملك.
الآية سلاح
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار الوقاية والآمال يسعى فيها لبلوغ غايات ومقاصد ، وهو في مأمن من الحوادث إلا أن تفاجئه وتقعده ، ويأتي القرآن ليكون حرزاً للمؤمن في تقلب الأحوال .
وواقية من غدر الزمان ، ومانعاً من النفاذ السريع للداء في البدن لأن القرآن كلام الله .
فحينما أخبرت آية البحث عن كون السموات والأرض ملك لله عز وجل ، وأنه سبحانه على كل شئ قدير ، فأنها تدل بالدلالة الإلتزامية على الأمن للناس جميعاً لأنهم في ملك الله عز وجل ، ثم تفضل الله عز وجل وزاد من فضله على المؤمنين ، وأخبر بأنهم [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) لأن الله عز وجل هو المالك لكل شئ ، وهو الذي يأمر الخوف والحزن وأسبابهما بالتنحي عن المؤمن ، والإبتعاد عنه .
وآية البحث واقية من طوارق الحدثان ، وهي الدواهي والمصائب التي تأتي فجأة ، وعلى حين غفلة ، وكان العرب في الجاهلية يعبدون الأصنام خشية هذه الطوارق ، وللأمن من الشدة والضنك في الدنيا فأخبرت آية البحث بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل وهو المالك لكل شئ .
وعن عبد الله بن مسعود قال (كنت مع النبي ليلة صرف إليه النفر من الجن فأتى رجل من الجن بشعلة من نار إلى رسول الله فقال جبريل يا محمد ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وانكب لمنخره قل أعوذ بوجه الله الكريم وكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير يا رحمن) ( ).
لقد جعل الله عز وجل السكينة ملازمة للتنزيل ، إذ تنبعث أسباب الطمأنينة من بين ثنايا القرآن إلى القلوب المنكسرة وتجعلها في أمن وحرز.
ومن الشواهد عليه آية البحث إذ تتضمن الإخبار بأن كل إنسان في ملك الله ، وأن فضل الله عز وجل من اللامتناهي لأن الله عز وجل على كل شئ قدير ، فليس من حصر لفضل الله على الفرد والأسرة والشعب والأمة والناس جميعاً ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
مفهوم الآية
مع قلة كلمات آية البحث فان مضامينها القدسية معجزة خالدة ، وباب هداية وصلاح للناس جميعاً ، لقد نزلت هذه الآية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة سواء على الحساب الشمسي أو القمري ، إذ تزيد السنة الشمسية بنحو أحد عشر يوماً على القمرية .
ولا زالت هذه الآية مناراً وضياءً ينير سبل العمل في الدنيا ، ويجعل المؤمنين والمؤمنات مجتمعين ومتفرقين يسعون في مرضاة الله ، ويجتهدون في إكتناز الحسنات للبث الدائم في النعيم الدائم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ( ) ومن خصائص القرآن أن الذم الذي يرد فيه يتصف بأمور :
الأول : تعلق الذم بذات الفعل ويلحق به بالعرض الإجهار به.
الثاني : شدة قبح الفعل المذموم .
الثالث : ما يرد في القرآن من ذم خاص بالذين كفروا والظالمين والمنافقين .
الرابع : الذم دعوة للتوبة والإنابة ، وكل آية إنذار تقول للناس [فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ] ( ).
الخامس : تحذير المسلمين والناس جميعاً من الذين يتلبسون بالفعل المذموم .
السادس : بيان القرآن لعلة الذم وموضوعه سواء كان متحداً أو متعدداً ، والتعدد في الآية قبل السابقة ، وهو قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( ).
إذ ذكرت الآية وجوب بيان الميثاق وعدم إخفائه ، وجاءت المعصية وموضوع الذم لهم على وجوه :
الأول : التخلف عن الوظيفة الشرعية والأخلاقية باظهار وبيان الميثاق.
الثاني : ترك ونسيان وطرح الميثاق عن عمد ، وإنكار ما بينهم وبين الله من العهود التي جاء بها الأنبياء السابقون لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ] ( ).
الثالث : عدم العمل بالميثاق والإعراض عن الدعوة السماوية لإظهاره والإخبار عنه ، ويلحق الذم الذين كتموه ولم يخبروا عنه ، واختاروا الدنيا وزينتها ، والعناد والحسد .
وقال الثعلبي ({وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا}( )، يعني المأكل {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
قال قتادة في الآية أعلاه : هذا لميثاق الله أخذ على أهل مكة ممّن علم شيئاً فليعلّمه)( ).
والآية أعم سواء في موضوع الشراء ، وإرادة المقصودين من الآية ، إذ أقاموا على حب الدنيا ، والإمتناع عن الإيمان والتصديق بالمعجزت النبوية .
وعن أداء الفرائض العبادية ، وهذا الإمتناع من الثمن القليل الذي اشتروه بلحاظ أنه أمر وجودي ، وتم كتمان واخفاء الميثاق عن عمد وقصد.
وكذا بالنسبة للآية السابقة فان الذم فيها متعدد بلحاظ تعدد المعصية ، والآية السابقة هي [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، ويتجلى التعدد في ضروب الذم للذين كفروا والذين نافقوا في مفهوم الثناء على النبي بتوجه الخطاب الإلهي في الآية إليه ، وهو إكرام له ولأهل بيته وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ، إذ يحجب الذين كفروا عن أنفسهم نعمة تلقي الخطاب الإلهي ، التشريفي مما يتضمن المدح والثناء ، والشهادة على الإيمان.
وقد ورد نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وفيه ترغيب للناس بالإسلام ، وتلقي هذا الخطاب ، أما قوله تعالى في الآية السابقة [لَا تَحْسَبَنَّ] فهو خطاب خاص إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الأمة تلحق به .
وهل من إعجاز وعلل مستنبطة للتباين في الخطاب ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : الخطاب الخاص إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يلحق به غيره من الناس كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) .
الثانية : الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلحق به أجيال المسلمين ، ومنه ما ورد في الآية السابقة [لَا تَحْسَبَنَّ] وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لا تحسبن يا رسول الله .
الثاني : لا تحسبوا أيها المهاجرون والأنصار .
الثالث : لا تحسبوا يا أجيال المسلمين والمسلمات .
الرابع : الخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد الناس جميعاً.
وليس في آية البحث لغة خطاب ، إنما ابتدأت بالحرف الواو ، وهو وإن كان يفيد الإستئناف إلا أنه يتضمن معنى العطف إذ أن تقسيم هذا الحرف إلى قسمين :
الأول : العطف .
الثاني : الإستئناف ، هو تقسيم استقرائي عن علماء النحو والأصل تداخلهما في مواضع كثيرة .
ليكون من معاني الصلة بين آية البحث والآية السابقة لها ، بعث اليأس في قلوب الذين كفروا فمع أنهم جاحدون فان آيات القرآن تخبر عن عجزهم عن الفرار يوم القيامة ، وأن العذاب الأليم بانتظارهم.
ثم تأتي الآيات القرآنية الأخرى لبعثهم إلى التوبة ودعوتهم لكشف البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن مصاديق ملك الله عز وجل المطلق ، وأنه على كل شئ قدير دخول الناس الإسلام حتى مع إخفاء هؤلاء البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فمع هذا الإخفاء والكتمان لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
بينما ورد عن النبي صالح تفضل الله في رزقه الناقة وقيام قومه بقتلها ، كما ورد في التنزيل [فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا]( ) .
لبيان رحمة الله عز وجل العامة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تأتهم آية تحقق فيها هلاكهم إن اعرضوا عنها ، والحقوا بها الهلاك كالناقة .
لقد تناجى رهط من قوم صالح بذبح الناقة فقام قدّار بن سالف بالتصدي لها وهي تمشي فرماها بسهم ، ثم أجهز عليها ، قال تعالى [فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ]( ).
وكانت لا تشرب ماء يوم كامل أي تمنع مواشيهم وإبلهم من الشرب من البئر يومها ، ولكنها تعظيم جليين يكفي لهم جميعاً ، في معجزة حسية يومية متجدد تدعوهم للإيمان .
و(عن عبد الله بن زَمْعَةَ قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الناقة، وذكر الذي عقرها، فقال [إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا] ( )، انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه، مثل أبي زمعة)( ).
إنما جاءت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات قرآنية نفذت إلى القلوب ، وجرت على ألسنة المسلمين وغيرهم ، وخالطت عالم الأفعال ، فمثلاً كانت قريش تعطي المال بالربا ، فنزل قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فامتنع وتنزه المسلمون عن الربا .
وكانت العرب توأد وتقتل البنات في المهد وعند الصغر خشية السبي وما فيه من الذل ، فنزل قوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
وجاءت آية البحث حرباً على الشرك وعبادة الأوثان ، فالوثن ومن صنعه والذي يعبده ويتزلف إليه ، كل فرد منهم مملوك لله عز وجل ، ليكون من عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل الذي أختتمت به آية البحث قطع عبادة الأوثان إلى يوم القيامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الآية لطف
لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ، وجعله الله التفكر والتدبر ، وفي التفكر ببدائع خلق الله عز وجل تنمية لملكة الذكاء عند الإنسان .
وهل العقل من ملك الله ، الجواب نعم ، ليرجو المؤمن الله عز وجل بأن يكون تفكره وعمله في طاعته وفي مرضاته ، إذ أن آية البحث لطف محض، لما فيها من الإخبار عن كون المخلوقات والحوادث وعالم القول والفعل بيد الله عز وجل ، وكذا العقول والقلوب من ملك الله .
وعن جابر بن عبد الله قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك . قلنا : يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك .
فقال : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يقول به هكذا . ولفظ الطبراني : إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله عز وجل ، فإذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه) ( ).
(عن أسماء بنت يزيد : أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُكثر في دعائه : اللهم (يا) مقلَّب القلوب ثبَّت قلبي على دينك.
قالت : فقلتُ : يا رسول اللّه وإنَّ القلوب لتقلب .
قال : نعم ما خلق اللّه من بني آدمَّ من بشر إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه،
وإن شاء أقامه على الحق،
فنسأل اللّه تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا،
ونسألهُ أن يهبْ لنا من لدنه رحمةً إنَّهُ هو الوهاب.
قالت : قلت : يا رسول اللّه ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟
قال : بلى قولي : اللهم ربَّ محمّد النبي،
اغفر لي ذنبي،
واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلاّت الفتن ما أحييتني) ( ).
وتدعو آية البحث الناس جميعاً للجوء إليه في تحقيق الأماني والغايات الحميدة ، وتمنع من الظلم والتعدي فمن ملك الله عز وجل للسموات والأرض بطشه بالظالم ولو بعد حين ، وفي كل مجتمع وقرية وبلدة هناك شواهد على حضور مشئية الله عز وجل في الوقائع والأحداث ، ومن ملك الله عز وجل المطلق أنه تعالى يسمع كل صوت ويرى كل فعل ، وأنه يأخذ بيد العباد نح سبل الهداية ويدفع عن المؤمنين مقدمات المعصية ، وإن إجتمعت هذه المقدمات حجب الله ذات المعصية ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوسل إلى الله عز وجل أن يصرف عنه وعن المسلمين السيئات والمعاصي .
(عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه كان يدعو بهذه الدعوات في أول قوله ، وبها يختم : اللهم أصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، واصرف عنا الفحشاء ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا ، وأبصارنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا ، ومعايشنا ، وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم ، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك مثنين( ) بها ، قابليها)( ).
ويدرك الإنسان رشحات قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، على الحياة اليومية للناس ، والنظم الكونية والإجتماعية بما ينفهم في الدنيا ، ويدعوهم للإنتفاع الأعظم منها في الآخرة .
إفاضات الآية
القرآن كلام الله عز وجل الذي تفضل وجعله بين الناس ، ويتلى من قبلهم ، فحينما يقرأ الإنسان الآية فهو يردد كلام الله ، وليس من نعمة عظمى على العبد مثل جريان كلام الله عز وجل على لسانه وهذه النعمة مباحة للناس جميعاً ، وفي كل وقت يستطيع الإنسان تلاوة وترديد كلام الله .
وشاء الله أن تكون هذه التلاوة على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم والليلة ، وتكون التلاوة في كل مرة مكررة بعدد ركعات الصلاة ، ومن لطف الله عز وجل جمع آية البحث بين أمور :
الأول : إنها آية هداية لما فيها من الحجة والبرهان على وجوب عبادة الله .
الثاني : إستقراء الحاجة الخاصة والنوعية لفضل الله عزو جل وتوالي نعمه في الليل والنهار ، وعلى الفرد والجماعة.
الثالث : آية البحث كنز للعلوم ، وباعث لسبر أغوار بواطن الأرض ، وعالم الأفلاك .
ومن إفاضات الآية منعها من الإفتتان عند تحقق الإكتشافات العلمية في السماء والأرض لأنها جميعاً من ملك الله وللتطابق بين ما يتم اكتشافه وآيات القرآن فبعد نزول آيات القرآن لم يكن عالم الوجود سراً خافياً على الناس.
إذ أخبرت آية البحث بأن كل ما في الأرض والسماء هو ملك لله عز وجل وأنه سبحانه له السلطان التام على ملكه ، وقادر على إيجاد مثله أو إعدامه ، لتكون آية البحث دعوة للجوء إلى الله في حال السراء والضراء ، والتوجه بالثناء عليه سبحانه ، وتسبيحه وتقديسه وشكره شكراً بملئ السموات والأرض وما فيها .
و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ يَتَهَجَّدُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ)( ).
وتبعث آية البحث السكينة في النفوس ، وتجعل المؤمن يتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة لقضاء الحاجات وتحقيق الرغائب ، وصرف الشرور والبلاء.
وتقدير قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : ادعوني فلي ملك السموات والأرض .
الثاني : ادعوني فاني قادر على كل شئ .
الثالث : ادعوني فاني وحدي القادر على تحقيق الرغائب .
الرابع : ادعوني فاني أحب لعبادي سؤالي.
الآية بشارة
من إعجاز القرآن وكونه كلام الله عز وجل تضمن كل آياته البشارة المتعددة الخاصة والعامة ، قال تعالى [تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( )، ولا تختص بشارات القرآن بالمؤمنين ، لما فيها من بيان سعة رحمة الله ، ترى ما هي النسبة بين بشارات الدنيا وبشارات القرآن ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق .
فبشارات الدنيا أعم لأنها من ملك الله عز وجل ، وكذا بشارات ملك الله للناس أعم من بشارات الدنيا لذا فان آية البحث بشارة للناس جميعاً لما فيها من الإخبار عن الإطلاق في ملك الله عز وجل .
وجاءت خاتمة آية البحث لتعضيد هذه البشارات بالإخبار عن قانون وهو قدرة الله على كل شئ وأن هذه القدرة رحمة بالناس ، وسبيل للتخفيف عنهم .
و(عن أبي موسى ، قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلا بالجعرانة ، بين مكة والمدينة ، ومعه بلال ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، رجل أعرابي ، فقال : ألا تنجز لي يا محمد ما وعدتني .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبشر ، فقال له الأعرابي : لقد أكثرت علي من البشرى ، قال : فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان ، فقال : إن هذا قد رد البشرى ، فاقبلا أنتما ، فقالا : قبلنا يا رسول الله ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدح فيه ماء ثم ، قال لهما : اشربا منه ، وأفرغا على وجوهكما أو نحوركما ، فأخذا القدح ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنادتنا أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما في إنائكما ، فأفضلا لها منه طائفة)( ).
ومن خصائص الآية القرآنية تجدد مضامينها وقوانينها في كل زمان لـتأخذ آية البحث بأيدي الناس للسياحة الذهنية والبدنية في ملك الله عز وجل .
ومنه ما يدرك بالحواس كالبحار والجبال والزراعات .
ومن أفراد هذا القسم الحسي ما يظهر ويختفي في نظام دقيق مثل الشمس والقمر ، والليل والنهار ، وإذا كانت هناك ملازمة بين الشمس والنهار ، بقانون العلة والمعلول ، فاذا طلعت الشمس فالنهار موجود ، وإذا غابت الشمس فليس من نهار ، فانه ليس من ملازمة بين الليل والنهار والقمر ، فقد يغيب القمر في الشفق ، والليل موجود ، وقد يطل القمر بديلاً ، وذات الليل موجود ، مع فارق الإنارة ، قال تعالى [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ] ( ) لقانون التذكير اليومي للناس بوجوب عبادة الله .
أي بحساب دقيق وتقدير من عند الله ، وهذا الحساب من ملك الله ، ومن مصاديق قوله تعالى في خاتمة الآية [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
ومنه ما يتوصل إليه الإنسان بالتفكر والتدبر ، قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الآية رحمة
لقد ذكرت آية البحث ملك الله للسموات والأرض ليدخل فيه الناس جميعاً ، ويدخل فيه الملائكة والعرش والكرسي وهل تدخل الجنة والنار في ملك الله ، الجواب نعم .
لتكون آية البحث بشارة للمؤمنين ودعوة لهم للسعي الحثيث في الدنيا للفوز بالإقامة في الجنة ، وإجتناب أسباب دخول النار فيعيش الإنسان في الدنيا في ملك الله ، وكذا في الآخرة ، لا يستطيع الهرب منه ، إنما المؤمن لا يريد هذا الهرب ، بل هو يحب البقاء في ملك الله طوعاً.
أما الكافر فانه يبقى في ملك الله قهراً عليه ، ولا يقدر على الفرار يوم القيامة من الحساب والعقاب.
ليكون من وجوه التباين بين المؤمن والكافر في الآخرة حال الطمأنينة عند المؤمن ، ورغبته للبقاء في مواطن الحساب في الآخرة وهو يعلم أنه لا يغادرها إلا الى الجنة ، أما الكافر فانه يريد الفرار منها.
وفي بعض المواطن يريد البقاء فيها ، وعدم الإنتقال إلى غيرها لأن النار هي العاقبة والجزاء على الكفر والضلالة وإرتكاب المعاصي ، لذا يلهج المسلمون والمسلمات بالقول [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
و(عن أنس رفعه قال : إن ملكاً موكل بالميزان ، فيؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان بن قلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خفت ميزانه نادى الملك : شقى فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً)( ).
وتطرد آية البحث عن النفوس الشك والريب ، وتمنع من عبادة الأوثان ، والإنقياد إلى الطواغيت في موارد الظلم والتعدي ، فان الله عز وجل لا يرضى أن يقع الظلم والتعدي في ملكه.
ينبسط قانون الآية القرآنية رحمة على كل آية من آيات القرآن ، وفيه دعوة للعلماء لإستقراء أفراد ومصاديق الرحمة في الآية القرآنية ، وهل تختص بعض آيات القرآن بالرحمة بطائفة من الناس دون غيرهم ، الجواب لا ، ولكن إنتفاع الناس منها على مراتب متفاوتة.
ونزلت آية البحث لانتفاع الناس الأمثل من آيات القرآن في الحياة الدنيا والآخرة ، وتتضمن الآية الترغيب بالعمل الصالح ، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ]( ).
وسيأتي في هذا الجزء قانون (ترشح الرحمة من هذه الآية) ( )، وسيأتي في الجزء التالي وهو السابع والعشرون بعد المائتين من هذا السِفر قانون (الراحمون يرحمهم الله) وهو شطر من حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال (الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء ، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله ومن قطعها قطعه)( ).
ومن معاني آية البحث قرب رحمة الله عز وجل من الناس إذ يدل جمع الآية بين الملك المطلق لله عز وجل وقدرته المطلقة على قانون وهو أن الله عز وجل قريب من الناس يسمع نجواهم ، ويعلم نواياهم ، ولا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يرضاه.
و(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي]( )، إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني أستجيب لهم)( ).
الآية إنذار
لقد أختتمت الآية السابقة بالوعيد للذين يقابلون نعمة النبوة والتكاليف الشرعية بالإستهزاء ، وكتمان حقائق التنزيل التي جعلها الله عز وجل أمانة ، فتوعدهم الله بالقول[فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) .
وإبتدأت آية البحث بما يدل على أن الله عز وجل القادر على هذا الوعيد وتنجزه وتحققه ، ويدل قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) أنه لا مفر من سلطان الله عز وجل ، وجاءت آيات بالإخبار عن المعاد يوم القيامة ، وبعث الناس من القبور وحضورهم وأعمالهم بين يدي الله عز وجل ، قال تعالى [يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
وتتضمن الآية الإنذار لمن يمتنع عن التسليم بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد الصدق والقطع .
فمن خصائص القرآن أنه كتاب هداية وإرشاد ، ويمكن القول بقانون وهو كل آية قرآنية علة وسبب للإرتقاء في المعارف الإلهية .
وأخبرت آية البحث عن عظيم سلطان الله عز وجل وأنه سبحانه ينفرد بالقدرة على فعل كل شئ ، ومن الإطلاق في قدرته تنجز أمره بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بالإخبار عن كون كل السموات وكل الأرض وجميع ما فيهما وما بينهما ملك لله عز وجل .
ومن أسماء الله عز وجل الملك والمالك والمليك ، قال تعالى [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ]( ).
ولم يرد لفظ [مَلِيكٍ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ولم يرد لفظ [مَالِكِ]( ) في القرآن إلا مرتين وبصيغة الإضافة ، قال تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ) وقال تعالى [ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ..]( ).
أما اسم الجلالة فيرد مطلقاً ، ومنه قوله تعالى [بسم الله الرحمن الرحيم يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ) لبيان أن افراد ملك الله مشغولة بالتسبيح والطاعة لله ، وهذا التسبيح دليل على الإنقياد والعبادة له سبحانه في إرجاء السموات والأرض .
وجاءت الآية أعلاه بلفظ (ما ) لإرادة الإطلاق وقيام الخلائق كلها من ذوي العقول كالملائكة والإنس والجن ، او من البهائم والجمادات كالشجر في التسبيح لله وليكون من وجوه تقدير آية البحث :
الأول : ولله ملك السموات والأرض الذي يسبح بحمده .
الثاني : ولله ملك السموات والأرض المنقطع إلى عبادته وذكره.
الثالث : ولله ملك السموات والأرض فلا تتخلوا عن التسبيح وذكره تعالى .
الرابع : ولله ملك السموات والأرض الذي أكرمكم فجعلكم خلفاء في الأرض ، لبيان قيام الناس بالتسبيح من باب الأولوية ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
فاذا قلت قد ذكرت الآية أعلاه تسبيح ما في السموات والأرض ، ولم تذكر تسبيح ذات السموات والأرض ، والجواب المراد أن كل جزء وفرد من أجزاء وأفراد السموات والأرض يسبح لله عز وجل ، ومنه ذرات الرمل والحصى .
واللام في بداية الآية لام الملك والإختصاص ، فليس من مالك في السموات والأرض إلا الله عز وجل .
وأخبرت آيات أخرى عن كون الله عز وجل هو الذي خلق السموات والأرض، قال تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ] ( ) كما نزلت آيات أخرى بالإخبار عن ربوبية الله المطلقة للسموات والأرض ، وليس لها رب إلا هو سبحانه ولم يجرأ الإنس والجن والملائكة على التسمية باسمه تعالى [رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا] ( ).
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين والمسلمات إذ اخبرهم بأنه ملك السموات والأرض ، وفيه ترغيب لهم بالعبادة والآية عون للناس للتنزه عن عبادة الحجر والأصنام المنصوبة في البيت الحرام ، وفي الجادة العامة، وفي البيوت ، وبعث النفرة منها ، فلا غرابة أن ترى الأمر من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بتلاوة القرآن في أكثر ركعات الصلاة اليومية على نحو جهري لبعث النفرة في نفوس الناس من عبادة غير الله عز وجل .
ولمنعهم من اتخاذ الأرباب والإنقياد الأعمى للطواغيت ، ولم تذكر آية البحث السماء بصيغة المفرد (السماء) إنما وردت بصيغة الجمع لبيان تعددها وانها سبع سموات ، ولملائمة التعدد لما ورد بعده من قدرة الله عز وجل على كل شئ.
وللإشارة إلى تكوينها من أجزاء ارتباطية وغير ارتباطية وأجناس متعددة كلها ملك لله ، حاضرة عنده تعالى مطيعة لأمره ، مشغولة بالتسبيح ، بفرح وسرور بملك الله عز وجل خزائن المطر وكنوز الأرض ، وعالم الحيوان والنبات .
وبعد إخبار آية البحث عن الملك المطلق لله عز وجل للسموات والأرض أخبرت عن قانون وهو عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل ، فكما ينفرد الله عز وجل بالملك المطلق فانه سبحانه ينفرد بأنه قادر على كل شئ من الموجود والمعدوم.
من غايات الآية
في آية البحث مسائل :
الأولى : بيان الآية لبديع صنع الله وعظيم سلطانه ، وقدرته القاهرة لكل شئ .
الثانية : تفقه المسلمين في الحديث ، ومعرفة معالم الكون ، وأسرار الخلق .
الثالثة : محاربة الكفر وعبادة الأوثان .
الرابعة : بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يدعو إلى نفسه ، إنما يدعو إلى عبادة الله عز وجل وحده ، وفي التنزيل [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا]( ).
الخامسة : الإعجاز الذاتي للآية ، فمع قلة كلماتها فانها تتضمن قوانين متعددة من الإرادة التكوينية .
السادسة : الدلالة على حضور المشيئة الإلهية في الوقائع اليومية والأحداث ، ومن إعجاز آية البحث اشتراك وتداخل كل من قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، وقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )، في مصاديق وشواهد غير متناهية ، منها هذه المسألة وهي الدلالة على حضور المشيئة الإلهية في الوقائع اليومية.
السابعة : بعث السكينة في قلوب المسلمين بأن الله يحفظ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، ويصرف عنه شرور وكيد الكفار.
الثامنة : البشارة بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الدفاعية ، فاينما تقع المعركة فهي في ملك الله ، والله عز وجل هو القادر على نصر رسوله ، وأنزل الملائكة ، فمن معاني ذكر السموات والأرض مجتمعة في الآية التداخل وعدم الفصل والإنقطاع بينها .
وهل يدل هذا الإجتماع على صعود الإنسان إلى السماء وعالم الأفلاك ، ليتنقل خليفة الله في ملكه من السموات والأرض ، الجواب لا دليل عليه .
التاسعة : إقامة البرهان على التوحيد ، ووجوب عبادة الله عز وجل .
العاشرة : الترغيب بالدعاء لسؤال الحوائج من عند الله عز وجل لجلب المنفعة ، ودفع الأذى ، وأسباب الضائقة ، فكل الأماني والغايات هي من ملك الله عز وجل وهو سبحانه قادر عليها .
الحادية عشرة : بيان ضعف الإنسان ، وحاجته لرحمة من فضل الله وتوالي فضله ، إذ أنه جزء من ملك الله وفي سلطانه .
الثانية عشرة : بيان قانون وهو إرادة الله عز وجل فوق كل شئ ، وهو سبحانه إذا أراد شيئاً تحقق في الخارج سواء وفق قاعدة العلة والمعلول ، والسبب والمسَبَب أو من دونهما ، وتدل على هذا الإطلاق وعدم حصر تنجز الأمور بالأسباب مضامين الآية الكريمة ، إذ أن الله عز وجل يملك السموات والأرض ملك تصرف ، وهو سبحانه قادر على كل شئ.
ومن معاني الآية أنه قادر على تحقيق ما يشاء بالأسباب والعلل أو بدونها ، ومنها ترغيب الناس باللجوء إلى الله عز وجل ، وهذا اللجوء فرع الإيمان.
الثالثة عشرة : قانون أن مشيئة الله تنفذ في كل شئ ، ولا مشيئة للناس إلا أن يأذن الله عز وجل ، قال سبحانه [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] ( ).
فحينما أراد المشركون غزو مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتاله في معركة بدر ، وأحد ، والخندق مكّن الله عز وجل لهم السير ودخول المعركة لأن الإنسان مخير ، والدنيا دار امتحان واختبار ، ثم كانت عاقبتهم بمشيئة الله الخزي والإنكسار ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ] ( ) لأن مشيئة الله هي الغالبة.
ولتكون عاقبة الكفار تأديباً وزجراً للناس عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ودعوة لهم للهدى والإيمان.
وهل تشمل هذه الدعوة الذين قادوا الجيوش واشتركوا في قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، خاصة وأنهم كانوا يرون المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة .
وفي التنزيل [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
فمن قدرة الله عز وجل أنه لم يكتف بنصرة الملائكة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما يقوم الله عز وجل بتعضيد الملائكة في ساحة المعركة ، لبيان قانون وهو أن قدرة الله عز وجل المطلقة بالأوامر والوسائط ومن غير وسائط ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الخامسة عشرة : من مصاديق ملك الله للسموات والأرض ثناءه على نفسه في بديع صنعه ، وإرادته قيام الناس بالثناء عليه والحمد له سبحانه .
السادسة عشرة : تفضل الله عز وجل بذكر بعض الأماكن والوقائع ، وهي من ملكه إذ أنه سبحانه يملك المكان والزمان ، وما يسمى في هذا الزمان بالبعد الرابع ونظرية النسبية الخاصة بجعل موضوعية للزمن في الفيزياء ، إنما جاء به القرآن .
إذ قالوا أن الجسم كلما اقترب في حركته وسيره من سرعة الصوت يتباطئ الزمن عنده ، وأن سنة واحدة في سرعة الضوء تعادل عشر سنوات على الأرض مثلاً ، وكذا بالنسبة لقوانين الجاذبية ، فان كل كوكب له زمانه الخاص الذي يمتاز به عن الكواكب الأخرى .
وقد ورد في القرآن قوله تعالى [يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ] ( )، وقال تعالى [تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]( ).
قال تعالى [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] ( ).
والمراد بيان فضل العمل في ليلة القدر وأنه أفضل من عمل ألف شهر ، إلا أنه لا يمنع من الإستدلال بها على التباين الزماني في عالم الأكوان .
وهذا التباين من بديع صنع الله عز وجل ، وهو لا يتعارض مع وحدة الكون .
(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه جبريل كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) ( ).
(عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر فأنزل الله { ليلة القدر خير من ألف شهر }( ) قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر) ( ).
لبيان قانون وهو أن الأجر والثواب في النسك والعبادة أضعاف لبس السلاح ، وهو من الشواهد على قانون لم يغز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، هذا القانون الذي صدرت بخصوصه أربعة وعشرون جزءّ من هذا التفسير .
السابعة عشرة :تأكيد قوانين الربوبية المطلقة لله عز وجل ، وتثبيت أقدام المسلمين في مقامات الإيمان والتنزه وعن الرياء .
الثامنة عشرة : التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في محاربة الشرك ومفاهيم الإلحاد بآية البحث ودلالاتها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
التاسعة عشرة : لقد أراد الله عز وجل للمسلم عند مغادرته الدنيا التسليم بأن كل شئ هو ملك لله عز وجل في الدنيا والآخرة ، وأنه سبحانه هو القادر على العفو عنه ومضاعفة حسناته ، ومحو سيئاته .
وهل في هذا التسليم أجر وثواب أم لابد من العمل .
العشرون : آية البحث من أمهات الآيات ، وهي آية محكمة ، ومن إعجاز القرآن أنها تتداخل مع كل آية قرآنية وتكون من الشواهد على صدقها ، فمثلاً قوله تعالى [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ] ( ) لأن الله له ملك السموات والأرض ، فينزل المطر من السماء ، ويمد المؤمنين بالقوة والتمكين .
إذ أنه سبحانه قادر على الإيجاد والخلق والأمطار ، ومن مصاديق آية البحث نزول البركة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) لترغيب الناس بالإنتفاع من فضل الله ، وعدم ظلم النفس بحبس البركات عنها .
الحادية والعشرون : من الإعجاز في آية البحث سهولة حفظها ، ووضوح معانيها مع أنها بيان للإرادة التكوينية ، وهي مع قلة كلماتها إخبار عن عالم الخلق والإنشاء ، وأن القبض والبسط بيد الله عز وجل ، لبيان أن صفة قصر الآيات لا تختص بالسور المكية ، إنما تتجلى هذه الصفة حتى في السور المدنية التي تضئ سبل الهداية للناس جميعاً .
ومن خصائص القرآن تقريب المدركات العقلية بالشواهد الحسية ، ومنه المثل القرآني ، والإحتجاج بما هو ظاهر للعيان .
وفي التنزيل [قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] ( ) لبيان أن أحكام الحلال والحرام من قوانين وأنظمة ملك الله للسموات والأرض ، ويجب عدم التفريط ولا الإفتراء فيها .
الثانية والعشرون : من الغايات والمقاصد السامية لآية البحث بيان وتفسير آيات القرآن الأخرى ، والمنع من الغلو بالأنبياء ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] ( ) لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد لله عز وجل ، وأن الوحي من ملك الله عز وجل ، وبديع قدرته ، فلا تستطيع الخلائق الإيماء إلى أي فرد من الناس بما يفيد صفة النبوة والأمر والنهي بما يقود الناس إلى النعيم الدائم .
الثالثة والعشرون : الترغيب بالدراسات العلمية والمادية لتكون هذه الدراسات وما يترشح عنها من الإكتشافات وهو نوع طريق للإقرار بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل ، وأن الأكوان نشأت بقدرته ، وفيه حرب على الذين ينسبون الخلق إلى الدهر وإلى الطبيعة ، وما يسمى بنظرية التولد الذاتي ، وهو شبهة وليس نظرية.
مثل تكّون بكتريا تفسد أو تأكل الطعام ، والدود على براز الإنسان والحيوان ، ولكن ما أن قام العلماء بعزل هذا الغذاء عن الهواء حتى ماتت البكتريا ، ولم يتعرض الطعام للفساد ، وهو الذي أعتمد في صناعة وحفظ الأغذية في هذا الزمان .
فهذه البكتريا والدود لم تنشأ ذاتياً ، إنما لها أصول دقيقة لا ترى بالعين المجردة .
ثم أن دلالة آية البحث على خلق الإنسان وعالم الأكوان واستدامتها حجة وبرهان عقلي يمنع من الجدال فيه بصغريات نادرة ، وفي التنزيل [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ]( )، أي أن تعاقب الأيام والليالي يجعل الإنسان وأعضاءه تبيد على نحو تلقائي وكأنهم يذكرون ملك الموت وحضوره لقبض الأرواح ، كما فيه إنكار للمعاد وعالم النشور .
والقول بأن الطبيعة لها قدرة الخلق والتوليد ليس جديداً ، إذ واجه الكفار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن الدهر هو الذي يهلكهم ، إذ ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (كان أهل الجاهلية يقولون : إنّما الليل والنهار هو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا، فقال الله تعالى في كتابه [مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ] ( )، فيسبون الدّهر)( ).
لبيان مسألة وهي محاربة آية البحث للإلحاد والوثنية أيام نزولها ، وفي كل زمان إلى يوم القيامة وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف ، وبقاء آياته غضة طرية إلى يوم القيامة بتلاوة كل مسلم ومسلمة لها في الصلاة اليومية الواجبة.
وهل ساهمت آية البحث في تنزيه الأرض التي هل ملك الله من مفاهيم الشرك ، الجواب نعم ، فهي مدد ولها موضوعية في كسر وتهشيم الأصنام .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة يحضر يومياً تقريباً إلى البيت الحرام ، وثلاثمائة وستون صنماً منصوبة في البيت الحرام ، وكان يجاهد من أجل إزاحتها من وجوه:
الأول : صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام ، ويتجلى للناس أن هذه الصلاة خالصة لوجه الله عز وجل ، ومنه تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن أثناء الصلاة ، والتي تذم عبادة الأوثان ، وتتضمن التحدي للمشركين وبيان قبح الكفر منها قوله تعالى [وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ]( ).
الثاني : إحتجاج الله عز جل على رؤساء الكفر من قريش ، ويبين قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )، نفي الولد والزوجة عن الله عز وجل ، لذا قال سبحانه في سورة الزمر وهي مكية [لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( )، وفيها [قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِ * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجادل المشركين بالقرآن ، ومن إعجازه جعل المشركين يجادلون فيه ، ويطلبون التعارض فيه ، ويتجاهرون بهذا الطلب ، فيلقون العجز والخيبة في ذات الوقت ، لبيان قانون وهو الإجماع بأن القرآن هو الفيصل.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (المسجد الحرام وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنماً فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أفحمه.
ثم تلا عليه وعليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}( ) الآيات الثلاث،ثمَّ قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي السهمي فرآهم يتهامسون قال : فيم خوضكم .
فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته،فدعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له ابن الزبعرى : أنت قلت : إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم .
قال : نعم .
قال : قد خصمتك وربّ الكعبة ،أليست اليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم، بل هم يعبدون الشياطين، هي التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى}( ) الآية يعني عزيراً وعيسى والملائكة)( ).
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتج عليه بأن (ما) لغير العاقل.
التفسير
قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]
تتضمن الآية الإخبار عما هو حق وصدق ، فلابد من مالك للسموات والأرض لأنها من عالم الخلق والإمكان ، لذا أخبر الله عز وجل أنه هو الذي خلق السموات والأرض ، قال سبحانه [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ] ( ).
وقد تحدى الله عز وجل الخلائق ببيان قانون وهو أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الإنسان وتكاثره في الأرض وأجياله المتعاقبة ، قال تعالى [لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهل في الآية أعلاه إشارة أنه لو تم إيجاد الإنسان بواسطة الإستنساخ البشري ، والإنسان الآلي الذي يعمل وفق البرمجة والتوجيه ، فان خلق السموات والأرض أكبر ، ولا يستطيع الناس وغيرهم إيجادها أو جزء ضئيل منها ، الجواب نعم .
ومن الآيات في المقام أن حكومات أهل الأرض والمنظمات الإنسانية ونحوها منشغلون بالإحتباس الحراري ، ولا يخفون خوفهم من الأضرار الجسيمة التي تلحق سكان الأرض بسببه والعجز عن تدارك أضرار صعود الغازات في السماء ، والظاهر أن هذا الإحتباس من عمومات قوله تعالى [تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا]( ).
مع البشارة بعدم تحقق هذا الإنفطار بسبب الإحتباس الحراري لأن الفعل (تكاد) من أفعال المقاربة الذي يدل في المقام على الإحتمال والشروع في تشقق السموات .
أما إنشقاق الأرض فمن مقدماته ما في استخراج النفط والمعادن من الأرض بكثافة وكثرة يومية متصاعدة وما يهدد الأرض والجبال معاً.
وهذا المعنى المحتمل لا يتعارض مع موضوع نزول الآية في ذم الذين يقولون خلاف التوحيد بأن السماء تشقق فرقاً وخشية ورهبة من عظمة الله عز وجل .
والضمير (هن) في فوقهن بعدد طبقات السماء .
تتفطر كل سماء فوق التي أدنى منها ، فيكون التشقق من الأعلى وقيل [مِنْ فَوْقِهِنَّ] ( ) أي من فوق الأرضين .
وعن ابن عباس ([تَكَادُ السَّمَوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ] ( )، قال : ممن فوقهن)( ).
لبيان الهول والضرر على أهل السموات لولا فضل الله عز وجل في حفظها ، ومنع إنهيارها .
لقد تقدم قبل بضع آيات إخبار القرآن عن سماع الله عز وجل لقول قوم تباهوا بما عندهم من الأموال وهي من عند الله ، قال تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، فأخزاهم الله وبعث السكينة في نفوس المؤمنين باخبار آية البحث عن ملك الله للسموات والأرض ، ليكون هذا الإخبار على وجوه :
الأول : الجدال والإحتجاج بموضوع آية البحث .
الثاني : دعوة الناس للإيمان بمضامين آية البحث .
الثالث : الترغيب بالإنفاق في سبيل الله ، والصدقة ، والإحسان للفقراء ، قال تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وورد لفظ (تنفقوا) ست مرات في القرآن ، ثلاثة منها في الآية أعلاه ، وواحدة في التي بعدها ، للترغيب في البذل والعطاء في سبيل الله ، وللإخبار بأن خزائن السماء وكنوز الأرض لا تنفد أبداً ، ليكون من وجوه تقدير آية البحث (ولله ملك خزائن السموات وكنوز الأرض والله على زيادتها ومضاعفتها قدير).
الرابع : تأديب المسلمين والناس ، وطرد البخل والشح عن المجتمعات.
الخامس : بيان قانون وهو من ملك الله عز وجل سماعه لكل قول يصدر من الناس .
السادس : قانون كتابة أقوال وأفعال الناس من ملك الله للسموات والأرض .
السابع : من ملك الله عز وجل للسموات والأرض نزول العذاب الشديد بالكفار يوم القيامة ، قال تعالى [كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
الثامن : ابتدأت الآية أعلاه من سورة آل عمران بصيغة الجملة الخبرية [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ] وأختتمت بصيغة المتكلم الجمع : سنكتب ، ونقول ذوقوا.
لبيان أن ما يكتبه الله عز وجل مقدمة للجزاء يوم القيامة ، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة للناس للتوبة من القول السئ ، والفعل القبيح .
الثانية : البشارة للمؤمنين بالأجر وحسن الثواب يوم القيامة على تلاوتهم لكتاب الله ودعوتهم إلى الله .
الثالثة : البعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإطلاق كتابة الله عز وجل لأقوال وأفعال الناس ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
لقد أخبر الله عز وجل عن إحصاء وكتابة الملائكة لأفعال بني آدم ، قال تعالى [أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ]( ).
وعن ضمرة بن حبيب قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله من سلطانه ، فيوحي الله إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي ، وأنا رقيب على ما في نفسه( ).
إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين ، قال : ويصعدون بعمل العبد من عباد الله فيستقلونه ويحقرونه حتى ينتهوا حيث شاء الله من سلطانه فيوحي الله إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي ، وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات ، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئاً ، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة)( ).
ولا يصح حصر معنى ومفهوم قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] في الرد والإحتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ، إذ تضمنت الآية وجوهاً :
الأول : المدح والثناء على الله عز وجل .
الثاني : الترغيب بالتدبر في عظيم خلق الله عز وجل .
الثالث : دعوة المسلمين والناس لرجاء فضل الله ، والدعاء والتضرع إليه سبحانه وسؤال الرزق الكريم من خزائن السموات والأرض.
ولا يختص هذا الدعاء بالمنفرد من الناس إنما يشمل الأسرة والجماعة والأمة ، والناس جميعاً ، سواء الدعاء لهم أو للأجيال التي بعدهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وهل الآية أعلاه من مصاديق آية البحث ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : قانون الناس ملك لله عز وجل ، فأمرهم الله عز وجل بالتوجه إليه بالدعاء .
الثانية : أي شئ في الأرض والسماء هو ملك لله عز وجل ، ويكون الدعاء باباً للإقتناء والإنتفاع الأمثل منه .
الثالثة : من مصاديق قوله تعالى [واللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، قدرة الله عز وجل على استجابة الدعاء مطلقاً ، ولا يقدر على هذه الإستجابة إلا الله عز وجل .
فان قلت وإن سأل الناس الله عز وجل الممتنع ، الجواب لا ، لذا جاءت الآية بمضامين الإيمان [وَقَالَ رَبُّكُمْ] ولقانون ترشح الدعاء عن الإيمان ، وقد ورد في ذم الذين كفروا ، قوله تعالى [قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
قانون الحاجة المستديمة إلى الآية القرآنية
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ولا يقدر على الحياة والكسب إلا بفضل وفيض من عند الله ، وليس بمقدور الإنسان دفع المصائب التي قضيت وكتبت عليه إلا أن يشاء الله ، كما أنه عاجز عن إرجاء أجله لحين تحقق بعض رغائبه ، قال تعالى [َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
وليس من حصر أو تعيين لحاجات الإنسان ، وتصاحبه الحاجة من حين ولادته ، وإذ يغادر الحياة الدنيا بالموت وزهوق الروح فان حاجته حينئذ تكون أكثر وأشد ، لأن الدنيا دار عمل ، أما الآخرة فدار حساب من غير عمل ، ويقف فيها الإنسان بين يدي الله عز وجل ، فيحتاج إلى رحمته وإلى الشفاعة وغفران الذنوب ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ] ( ).
ومن الإعجاز في القرآن أنه بذاته كنز وحجة من وجوه :
الأول : إنه حاجة للإنسان في العبادات والمعاملات .
الثاني : القرآن طريق السعادة والغبطة ، والمؤنس لصاحبه في النشأتين ، وهو حرب على الفقر والفاقة ، وطارد لأثرها على الإنسان .
الثالث : القرآن سلاح حاضر للمؤمن وحجة على الذين كفروا في الدنيا والآخرة ، ومن خصائص هذا السلاح أنه أمن وسلام لكل الأطراف.
وفي فتح باب التوبة للناس جميعاً ، وعدم غلق هذا الباب عن أي إنسان إلى حين مغادرته الحياة الدنيا.
ومن منّ الله عز وجل وإتصال نعمه وبلوغها وإقامتها حجة على كل إنسان تعدد الأسباب التي تدعو الإنسان إلى التوبة ومنها الآيات الكونية التي تصاحبه كل يوم وليلة كالسموات والأرض والشمس والقمر ، والأنهار والجبال والثمار ، قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
وذات خلق الإنسان وموت بعض الناس ممن حوله وتسليمه بأن الموت خاتمة حياته هو الآخر نعمة، وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء والمرسلين لترغيب الناس بالتوبة ، ومن الآيات تحمل الأنبياء المشقة والأذى وهم يدعون قومهم إلى التوبة والإنابة والصلاح .
وفي النبي صالح ورد قوله تعالى [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ]( )أي أن الله عز وجل أرسل النبي صالحاً إلى قومه ثمود وكانوا يسكنون بين الشام والحجاز ، وتطل بيوتهم على البحر الأبيض المتوسط قبل نحو ثمانية قرون من ولادة السيد المسيح ، وذكر أنه دارت معارك بينهم وبين الآشوريين .
وتسمى ديارهم بالحجر لبنائهم البيوت من الجبال ، قال تعالى [وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا…] ( )وقال تعالى [وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي] ( ) ليكون قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) برهاناً على أقسام منها:
الأول : لله عز وجل الحجة البالغة على الذين كفروا في الدنيا .
وهل من صلة بين ملك الله لكل شئ وقدرته على كل شئ كما في آية البحث وبين الحجة المطلقة لله عز وجل ، الجواب نعم ، وهو سبحانه وحده الذي ينفرد بالحجة البالغة على نحو الإطلاق ، وذات الحجة من ملك الله عز وجل .
الثاني : لله عز وجل الحجة البالغة على الناس بسعة رحمته ولطفه وإحسانه إليهم .
الثالث : لله عز وجل الحجة البالغة في صلاح المؤمنين من جهات:
الأولى : هداية الله عز وجل المؤمنين إلى الإيمان والتصديق بمعجزات النبوة ، وفي التنزيل [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ] ( ).
الثانية : لله عز وجل الحجة البالغة في مغادرة المسلمين الحياة الدنيا بصيغة الإيمان والعصمة من الإرتداد ، قال تعالى [فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثالثة : لله عز وجل الحجة البالغة في إرتقاء المسلمين إلى الدرجات الرفيعة .
فمعنى الحجة البالغة في الآية أعلاه من سورة الأنعام أعم من أن تختص بالإحتجاج على الذين كفروا ، فمنها ما يكون حجة للمؤمنين وبياناً لصبرهم وجهادهم في سبيل الله ، وأنهم لم ينالوا مراتب الرفعة إلا بالتقوى وبعد تلقي الأذى في سبيل الله ، وفي التنزيل [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ).
والنسبة بين قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) والقول بحجة الآية القرآنية وإنشاء هذا الباب الخاص به هو العموم والخصوص المطلق ، فمضامين الآية أعلاه أعم في معناه وتأويله ودلالاته ، ويمكن تشريع فروع متعددة في هذا الباب منها :
الأول :الحاجة للآية القرآنية في الحياة الدنيا .
الثاني : الحاجة للآية القرآنية وثوابها في الآخرة .
الثالث : الحاجة إلى الآية القرآنية في العبادات ، كما في وجوبها في الصلاة .
الرابع : الحاجة للآية القرآنية في المعاملات .
الخامس : إتخاذ الآية القرآنية إماماً في صلاح المجتمعات ، وتهذيب الأخلاق وإصلاح ذات البين .
ويبين قانون الحاجة للآية القرآنية شواهد المن الإلهي على الناس ، وفيه دعوة للناس للتسليم بنزول القرآن من عند الله عز وجل ، وفقر الناس ولزوم إنقيادهم لأمره سبحانه .
قانون الإيمان والتقوى مدد
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التغيير النوعي في مفاهيم القتال ونتائجه ، فلم يكن ملاك التفاخر فيه الفروسية والتحدي وطلب المناجزة .
ولا تتوقف فيه الغلبة على الشجاعة إنما الغلبة للإيمان والتقوى ، وهما مدد لصاحبها ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] .
ولقد نصركم الله ببدر لإيمانكم وأنتم أذلة ، لبيان أن المدار على الإيمان وليس على القوة وكثرة الرجال والسلاح والمال ، فان قريشاً أكثر أهل الجزيرة أموالاً ، وهل أموال قريش أكثر من أموال يهود المدينة مجتمعين ، وهم :
الأول : بنو قريظة .
الثاني : بنو النضير .
الثالث : بنو قينقاع .
الجواب نعم ، صحيح أن يهود المدينة كانت عندهم محلات للصياغة وبيع مواد وآلات الزراعة والحرث ، ولكن قريشاً تملك المال والإبل وقوافل التجارة وما يسمى بالسيولة النقدية ، وما يشبه المصارف والبنوك التابعة للأسرة أو الفرد.
فمثلاً أرسل عبد الله بن جدعان (أَلْفَيْ بَعِيرٍ إلَى الشّامِ ، تَحْمِلُ إلَيْهِ الْبُرّ وَالشّهْدَ وَالسّمْنَ وَجَعَلَ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى الْكَعْبَةِ : أَلَا هَلُمّوا إلَى جَفْنَةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ صغيراً ، واستحضر هذه الولائم إذ (قال : لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمى ” أي وقت الظهيرة.
وفى حديث مقتل أبى جهل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لاصحابه : تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإنى تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت فأثرها باق في ركبته ، فوجدوه كذلك) ( ) .
قوانين التعاضد بين آيات القرآن
يتصل موضوع آية السياق بقوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، لبيان قانون على وجوه :
الأول : قانون الآية القرآنية تفسير للآية القرآنية الأخرى .
الثاني : قانون تعضيد الآية القرآنية للآية الأخرى ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا]( ).
الثالث : قانون الآية القرآنية ضياء وصراط للعمل بأحكام الآية القرآنية الأخرى .
الرابع : قانون منع الآية القرآنية من التفريط بمضامين الآية الأخرى .
الخامس : قانون بعث الآية القرآنية الشوق في النفوس لتلاوة الآية القرآنية الأخرى والعمل بأحكامها .
السادس : قانون دلالة الآية القرآنية على الإعجاز في ذاتها ، وفي آيات القرآن الأخرى .
السابع : قانون الآية القرآنية بيان وإيضاح للآية القرآنية الأخرى ، وهل هو جزء وفرد من البيان في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الجواب نعم ، فكما يبين القرآن أمور الدين والدنيا ، ويهدي إلى سواء السبيل ، ويكشف أسرار من علوم الغيب ومواطن وأهوال الآخرة ، فان الآية القرآنية بيان للآية القرآنية الأخرى . وهو من أسرار إمتناع اللفظ القرآني عن التحريف والزيادة والنقيصة .
إن تلاوة كل من آية البحث والسياق ندب للذين ورثوا الكتب السماوية السابقة ، وانتسبوا إلى الأنبياء السابقين مثل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام لإظهار الكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إخفائها أو الإعراض عنها وتركها خلف الظهر ، ومن مصاديق هذا الإظهار الجدال بالأحسن.
وقد وصف الله عز وجل القرآن بأنه أحسن الحديث ، إذ قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ]( ) فتفضل الله عز وجل وسمّى القرآن بأنه حديث ، وقال تعالى [فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ]( ) .
(عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله لو حدثتنا فنزل {الله نزل أحسن الحديث }) ( ).
الثامن : قانون دلالة الآية القرآنية على معاني ومصاديق الرحمة في الآية القرآنية الأخرى .
التاسع : قانون تأكيد الآية القرآنية لمضامين الآية القرآنية الأخرى .
العاشر : قانون التداخل الموضوعي بين الآيتين من القرآن ، وإنتفاء التزاحم والتعارض بينهما.
الإعتزال عن محاربة النبي (ص)
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً من أوسط قريش، وأسناها بيتاً وأرفعها منزلة ، وكان لقريش الشأن والسطوة في الجزيرة ، وأدرك الناس أنه لم يكن محتاجاً إلى المال أو الجاه ، كما أنه لم يجمع المال إلى حين مغادرته الدنيا .
وكان يتصف بالتواضع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وهذه الآية الشريفة تحد يومي متجدد في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها إلى يوم القيامة ، فالسنة النبوية معروضة للدراسة والتدبر واستقراء الدروس والمواعظ منها .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يعتزل الناس بل كان بين ظهرانيهم يلتقي بالناس كل يوم في المسجد الحرام يبين لأهل مكة وجوب عبادة الله ، ونبذ الشرك وتقديس الأوثان ، وإن رآى وافداً إلى مكة جلس لجواره وسأله عن اسمه وقبيلته ثم أخبره بنزول الوحي عليه ، وقرأ له آيات وسوراً من القرآن وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام والإمتناع عن إيذائه .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين أنه لم يعتزل قومه ، وجاهد بنفسه وأهل بيته وأصحابه واجتهد في الدعاء من غير أن يعتزل قومه ليكون من الأدلة على صدق نبوته وعصمته من الإفتتان بالمشركين والأقوال والجاه الذي عرضوه عليه ، قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]( )، بينما ورد في إبراهيم عليه السلام أنه قال [وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا]( ).
وفي مجالسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس المقرونة بالدعوة إلى الله معجزة له بأنه يستعد للهجرة وقتال المشركين له من حين وجود في مكة .
فمن لم يدخل الإسلام من الذين يفاتحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه يعتزل القتال ويمتنع عن نصرة قريش وحلفائها ، وقد حصل هذا الإعتزال من جهات :
الأولى : إمتناع طائفة من أهل مكة من إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وبعدها .
الثانية : اصطفاف بني هاشم مؤمنهم وكافرهم خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وفي الذب والدفاع عنه ، باستثناء أبي لهب عم النبي ، ولا عبرة بالقليل النادر ، وهل كان هذا الإصطفاف من أسباب نزول سورة [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، الجواب نعم ، لقيام الحجة السماوية والبشرية وقواعد صلة القربى عليه .
الثالثة : ميل بعض الأسر والعوائل لأبنائهم الذين دخلوا الإسلام .
الرابعة : إنشغال أهل مكة بالتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : من إعجاز القرآن قانون خصوصية الآية بلحاظ زمان وأوان النزول .
فقد كانت الآيات والسور المكية قصيرة ، وفيه وجوه :
الأول : إنصات الناس للآية القرآنية .
الثاني : سرعة حفظ الآية القرآنية .
الثالث : عدم مغادرة الآية القرآنية الوجود الذهني ، وإن سافر بها الإنسان .
الرابع : إعجاز الآية القرآنية الغيري ببعثتها الإنسان لتلاوتها والتدبر في معاينها وتدل عليه صيغة الوجوب في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( )، وقد تقدم في الجزء السابق وهو الخامس والعشرون بعد المائتين قانون (لام التكليف) وتشمل ستة وجوه وهي :
الأول : لام الوجوب .
الثاني : الإستحباب .
الثالث : لام الإباحة .
الرابع : لام الكراهة .
الخامس : لام النهي والحرمة .
السادس : لام الجزاء ، كما في قوله تعالى [لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
والمختار أن اللام في قوله تعالى [لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ]( )، هي لام الوجوب ، فيجب التدبر في آيات القرآن ومعانيها ودلالاتها وصدق نزولها من عند الله عز وجل.
ومعنى الوجوب لا يتعارض مع المعنى النحوي لحرف اللام في الصناعة النحوية وهو لام التعليل وأيهما أكثر أهمية في تفسير القرآن القول أنها لام التعليل أو اللام المستحدث الآن وهو أنها لام التكليف وإفادتها الوجوب.
الجواب لا تعارض بينهما للتباين الموضوعي بين الوصف وفق الصناعة النحوية ، والمعنى الأصولي.
ترى لمن تعود واو الجماعة في (ليدبروا) الجواب على وجوه :
الأول : إرادة خصوص المؤمنين .
الثاني : المقصود المسلمون والمسلمات جميعاً .
الثالث : إرادة المسلمين والذين أوتوا الكتاب .
الرابع : المقصود الكفار والمشركون لإقامة الحجة عليهم .
الخامس : إرادة الناس جميعاً .
والمختار هو الأخير ، لأصالة الإطلاق ، ودلالة نظم الآيات ولأنها في مقام الإحتجاج وإقامة البرهان.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة حيث تتوافد وفود العرب لأداء مناسك الحج والعمرة ، فاذا امتنعت قريش عن قبول رسالة النبي ، فان قانون الإستغناء هذا يتجلى في المقام من وجوه :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل.
الثاني : استغناء القرآن عن صدود الذين يخفون البشارات بنزوله ، فهو بذاته حجة ، وشاهد على صدق نزوله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : مجئ القرآن بأحكام الحلال والحرام ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الرابع : توالي نزول آيات القرآن ، قال تعالى [وَالضُّحى* وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ).
ومع قلة كلمات هذه الآية فانه لم يرد لفظ [وَدَّعَكَ] و[قَلى] في القرآن إلا فيها لإعانة الناس على حفظها والإلتفات إلى معاني الإعجاز فيها والتفكر في معانيها ، إذ أنها وعد وعيد وتحد ، وعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ووعيد للذين كفروا ، وتحد بأن الله عز وجل يحفظ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وتتوالى عليه آيات القرآن.
وهل يعمل قانون الإستغناء هنا ، بأنه اذا لم تقم بعض الوفود بنقل آيات القرآن فان غيرهم يتولى هذا النقل مع التدبر فيه ، الجواب نعم ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
ومن معاني النعمة الفردية مجئ نعم لأي فرد من الناس لم تأت إلى غيره من أيام آدم عليه السلام الى يوم [نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ] ( ) وهو من مصاديق الوحدانية لله عز وجل ، ومصاديق آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتبين النعمة الفردية وتعددها عند كل إنسان مصداقاً لقدرة الله المطلقة ، وحبه للناس ، وفيه شاهد على أن خلافة الإنسان في الأرض هي إكرام محض من الله عز وجل للناس مجتمعين ومتفرقين ، وتتجلى فيها نعم وخصائص للإنسان تغبطه عليها الخلائق ، وتكون حجة على الناس يوم القيامة ، قال تعالى [فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ] ( ).
وعن الفضيل بن عياض (بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أنعم عليك .
ألم أعطك؟ ألم أسترك؟ ألم .
ألم .
ألم أخمل ذكرك ، ثم قال الفضيل: إن استطعت ألا تُعرَف فافعل، وما عليك ألا يُثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محمودًا عند الله) ( ).
وهل تنقطع النعمة الفردية عند الموت لأن الآخرة عالم حساب بغير عمل ، فيلتقي الفوج والرهط من الناس بنعمة واحدة ، ويحرم الذين كفروا من النعم ، المختار لا ، فان النعم الفردية متصلة في الدنيا والآخرة.
وهل تصيب النعمة الفردية الكفار ، الجواب نعم ، بتخفيف العذاب الذي يستحقون مع بقائه شديداً وأليماً حتى مع هذا التخفيف على فرض حصوله ، ليكون من معاني اسم الله (المنعم ) أنه سبحانه ينعم بالنعم الخاصة والعامة ، وأن كل إنسان يأتيه من النعم ما يختص بها إلى جانب النعم العامة والمتتالية على الناس.
وتحتمل النعمة الخاصة بالنسبة للآخرين وجوهاً :
الأول : الزيادة في نعم الآخرين .
الثاني : لا صلة للنعمة الفردية بالنعم التي تأتي للناس الآخرين.
الثالث : النعمة الفردية سبب في نقصان نعم الآخرين .
والمختار هو الأول أعلاه ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ، ومصاديق الإطلاق في تسميته (المنعم ) لبيان قانون وهو النعمة الخاصة توليدية على ذات الفرد وعلى غيره من أهل زمانه أو غيرهم من الذرية ونحوها .
وعن عائشة قالت (يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقرى الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة .
فقال : لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)( ).
وفي كتيبة بواط عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ومعه مائتان من أصحابه في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة أي قبل معركة بدر كانت هناك قافلة أمية بن خلف الجمحي تسير من الشام إلى مكة وتتألف من ألفين وخمسمائة بعير وليس معها إلا مائة رجل ، ولم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لبيان أصل الإستصحاب لنفي تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلة أبي سفيان التي حدثت بسببها معركة بدر فكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يتعرضوا لقافلة أمية بن خلف فانهم لن يتعرضوا لقافلة أبي سفيان بل من باب الأولوية لأن قافلة أمية بن خلف أكثر من ضعف قفلة أبي سفيان من حيث الإبل المحملة بالبضائع ، وقد إدّعى أبو سفيان رئيس القافلة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتعرضون لها ، كذباً ومكراً ، لإقامتهم على الكفر ، ولما ملأ الله قلوب مشركي قريش من الخوف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإزدياد وأصحابه بعد الهجرة وانقيادهم لطاعة الله وطاعته ، واستعدادهم للتضحية في سبيل الله .
ولم يكن بين القافلتين إلا ستة أشهر مما يدل على إزدهار تجارة قريش ، هذا عدا القوافل التي لم تذكر خلال هذه الأشهر الستة ، إلى جانب قوافل قريش الى اليمن والمدن القريبة مثل الطائف والى بلاد فارس والحبشة.
لقد نزلت الآية السابقة ليجتنب الناس فعل المعصية ، والفرح بها ، وللحض على إظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذا الإظهار طريق للهداية الذاتية ، وهداية الغير ، كما أنها تدعو الناس إلى عدم العناية بالفرح الذي يظهره المشركون والمنافقون في عنادهم واستكبارهم ، قال تعالى في الثناء على القرآن وبيان عموم نفعه وبركته [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
وهل أرادوا بهذا الفرح افتتان الناس بهم ، وجعلهم يميلون إليهم ، خاصة وأن النبي محمداً جاء بالتكاليف العبادية البدنية كالصلاة والصوم والمالية كالزكاة والخمس ، وكان أصحابه مضطرين للدفاع عن النبوة وعن أنفسهم ، وتعرض بعضهم للقتل وأصابتهم الجراحات الشديدة خاصة في معركة أحد ، فجاءت الآية السابقة وآية البحث لوجوه :
الأول : مواساة المؤمنين.
الثاني : الدعوة للتحلي بالصبر في مرضاة الله.
الثالث : الفرح بالنجاة من العذاب الأليم الذي يترشح عن الفرح باخفاء ذخائر التنزيل وودائع الأنبياء التي تيسر للناس سبل الهداية وتحجب عنهم أسباب المنع من الإيمان .
الرابع : البشارة بالأجر والثواب على عدم الإلتفات إلى إخفاء البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من طائفة من الذين ورثوا هذه البشارات ، فمن مصاديق مجئ آية البحث بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وتعقبها لآية الفرح المذموم على كتمان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن أسماء الله تعالى [الْغَنِيُّ] وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ).
ومن معاني فقر الناس في الآية أعلاه أن بشارات النبوة المتوارثة هي من عند الله عز وجل وعظيم فضله ، وأن الذي يظهرها والذي يخفيها كل منهما فقير محتاج إلى رحمة الله عز وجل ، لذا فان الذي يظهرها ويبين صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل له الأجر والثواب ، لأن هذا البيان من معاني الوراثة.
أما الذي يخفيها فهو فقير لا يضر الله شيئاً ، إنما يحرم نفسه من ثواب هذا الإظهار لأنه أمانة ، وقد قال الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] ( ).
وإن لم تؤد طائفة أمانة البشارات فيتجلى العوض والبدل من جهات :
الأولى : هناك طائفة أخرى تظهر وتبين بشارات النبوة وصدق نزول القرآن من عند الله ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ] ( ).
الثانية : إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ ، وإعانة الله عز وجل له بجبرئيل ، والإجابة على أسئلة الناس بالوحي والبشارة والإنذار ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ] ( ).
ومع أن القرآن كله وحي ، وورود مادة [وَحْيِ] في القرآن عدة مرات فانه لم يرد لفظ الوحي في القرآن إلا في الآية أعلاه ، كما ورد منصوباً في قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ] ( ).
الثالثة : توالي المعجزات التي تجري على يد النبي بما يدل على صدق نبوته ، وقد اختص الله عز وجل الأنبياء بما يدل على صدق نبوتهم .
وقد اختص الله عز وجل النبي محمداً بنعمة بأن جمع له أموراً:
الأول : المعجزة العقلية وهي آيات القرآن .
الثاني : الدلائل الإعجازية للجمع بين كل آيتين من القرآن .
الثالث : المعجزات الحسية منها :
الأول : الإسراء والمعراج .
الثاني : تكليم الحجر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة المبيت.
الرابع : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة بعد أن جعلت قريش لمن يأتي به مائة بعير.
الخامس : حنين الجذع.
وهو الجذع : الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب عليه ، قبل أن يصنع له منبر ، وعن أبي بن كعب قال :كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع له منبر فلما قام عليه حن الجذع فقال له (اسكن أن تشأ أغرسك في الجنة فيأكل منك الصالحون وأن تشأ أن أعيدك رطبا كما كنت) فاختار الآخرة( ).
السادس : جعل الزاد القليل يكفي للجماعة الكثيرة في ساعة الرخاء والشدة .
فمن حال أيام السلم ما ورد (عن أنس قال قال : أبو طلحة لأم سليم لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء قالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أرسلك أبو طلحة قلت نعم.
فقال لمن معه قوموا فجئت أبا طلحة فأخبرته.
فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس وليس عندنا ما نطعمهم.
قالت الله ورسوله أعلم.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال هلمي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز فأمر به ففت وعصرت عليه عكة لها فأدمته ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يقول.
ثم قال( ) ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم قال ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلا أو ثمانون) ( ).
كما تجلت بركة الطعام على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال الشدة عدة مرات.
منها ما ورد (عن جابر بن عبد الله، قال: أصاب الناس كديةً( ) يوم الخندق .
فضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاء بماءٍ فصبه عليها فعادت كثيباً.
قال جابر بن عبد الله: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحفر، ورأيته خميصاً، ورأيته بين عكنه الغبار، فأتيت امرأتي فأخبرتها ما رأيت من خمص بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالت: والله، ما عندنا شيءٌ إلا هذه الشاة ومدٌّ من شعير.
قال جابر: فاطحني وأصلحي. قالت: فطبخنا بعضها وشوينا بعضها، وخبز الشعير.
قال جابر: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمكثت حتى رأيت أن الطعام قد بلغ.
فقلت: يا رسول الله، قد صنعت لك طعاماً فأت أنت ومن أحببت من أصحابك.
فشبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصابعه في أصابعي، ثم قال: أجيبوا، جابر يدعوكم، فأقبلوا معه.
فقلت : والله، إنها لفضيحة،فأتيت المرأة فأخبرتها فقالت: أنت دعوتهم أو هو دعاهم.
فقلت: بل هو دعاهم! قالت: دعهم، هو أعلم.
قال : فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر أصحابه، فكانوا فرقاً، عشرةً عشرةً، ثم قال لنا: اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه. ففعلنا فجعلنا نغرف ونغطي البرمة ثم نفتحها، فما نراها نقصت شيئاً، ونخرج الخبز من التنور ثم نغطيه، فما نراه ينقص شيئاً. فأكلوا حتى شبعوا، وأكلنا وأهدينا.
فعمل الناس يومئذٍ كلهم والنبي صلى الله عليه وسلم. وجعلت الأنصار ترتجز وتقول:
نحن الذين بايعوا محمدا … على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة … فاغفر للأنصار والمهاجره)( ).
ومن أسرار المعجزة النبوية وجوه :
الأول : كل فرد منها له منافع متعددة.
الثاني : جذب طائفة من الناس للإيمان.
الثالث : جعل الناس يتناقلون المعجزة فتكون نوع طريق للهداية.
الرابع : الإمتناع عن إعانة المشركين في حربهم ، وقتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل من صلة بين فرح الذين كتموا البشارات وبين هجوم كفار قريش على المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون فرحهم مركباً بالإضافة إلى الفرح بما فعلوا فانهم يفرحون بأن إخفاء بشارات النبوة والتنزيل من أسباب هذا الهجوم ، واستمرار العداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : النصر على المشركين المعتدين الذين يريدون استئصال الإسلام ، وهذا النصر بمعجزة متجددة ، وفي كل مرة ينتصر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هناك معجزات متعددة سواء في معركة بدر ، أو أحد ، أو الخندق ، أو حنين ، وغيرها.
وكانت أكثر كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه من المدينة ليس فيها قتال ، وهو من مصاديق قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) فهل فيها معجزات متعددة أم أن الإعجاز خاص بالكتائب التي وقع فيها القتال ، الجواب هو الأول .
وهل يلزم إجبار الذين عندهم البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إخراجها ، الجواب لا دليل عليه من الكتاب والسنة .
بالإضافة إلى عدم الحاجة إليه ، ولكن هذا الإخراج خير ونفع للذين يعلنونه سواء بالنسبة للبشارات المكتوبة الموروثة من الوحي الذي نزل على الأنبياء السابقين وما دوّنه الأنبياء وأصحابهم وأتباعهم أو البشارات الشفوية الموروثة .
لذا جاءت الآية السابقة بالترغيب باعلان هذه البشارات ، وبالوعيد على إخفائها ، وهل يشمله قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ).
الجواب لا ، لأن هذا الإخفاء وفعل المعصية ليس من الدين نعم الآية أعلاه من مصاديق غنى الله وعدم حاجته للخلائق والناس جميعاً .
الإعجاز العلمي للقرآن
مع قلة كلمات آية البحث فانها تضمنت الإخبار عن الملك المطلق لله عز وجل للسموات والأرض وما فيها ، وأنه تعالى على كل شئ قدير ، فلا يكون في عالم الأكوان ما ليس ملكاً لله عز وجل ، وهو من أسرار انتفاء الشريك لله عز وجل .
وإخبار آية البحث عن ملك الله عز وجل المطلق ، وقدرته على كل شئ شاهد على أن الإختراعات العلمية الحديثة دليل على وجوب عبادته تعالى .
ومن الآيات ما تدل على الإعجاز العلمي للقرآن ، وتأتي الإكتشافات العلمية الجديدة لتدل على هذا الإعجاز من غير أن يتعارض مع المعاني البلاغية والعبادية والإجتماعية الأخرى لذات الآية القرآنية.
لبيان قانون وهو كل آية من القرآن خزينة من العلوم تستخرج منها في كل زمان علوم مستحدثة تكون إضافة للعلوم التي أخبرت عنها من حين وأوان النزول ليكون من معاني المبين في قوله تعالى [الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ]( )، بيان القرآن للظواهر الفلكية والعلمية ودلالته على صدق ما في آية البحث من كون السموات والأرض ملكاً لله عز وجل وأنه سبحانه على كل شئ قدير.
ومن بديع قدرة الله عز وجل تمكين الناس من الإكتشافات العلمية والإنتفاع الأمثل منها ، وهو لا يتعارض مع معاني صفة (مبين) الأخرى للقرآن ، ومنها :
الأول : بيان القرآن لصدق نزوله من عند الله ، فحتى لو أخفى الذين أوتوا الكتاب البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان القرآن شاهد يومي على صدق هذه النبوة.
وهو من الإعجاز في تكليف كل مسلم ومسلمة بتلاوة القرآن سبع عشرة مرة في اليوم خاصة وأن هذه القراءة تجديد وكشف عن إعجاز القرآن وبيانه لذاته وللعلوم المختلفة.
الثاني : بيان القرآن لأحكام الحلال والحرام .
الثالث : بيان القرآن لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه مبعوث من عند الله عز وجل .
الرابع : بيان القرآن لسبل الهدى والرشاد ، قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ).
فحينما أخبر الله عن فاقة الناس وحاجتهم له تعالى كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( )، فان الله عز وجل يمد الناس بالرزق الكريم وأسباب قضاء الحوائج ، ويأمرهم بعبادته ، ويريد من الذين أوتوا الكتاب أيضاً بيان الكتاب والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي مقدمة عبادة الأجيال لله عز وجل .
الخامس : بيان القرآن لعالم الحساب وأهوال الآخرة ، والتضاد بين عاقبة الذين آمنوا ، وعاقبة المشركين ، قال تعالى [يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ]( ).
السادس : يمكن القول بأمور :
أولاً : قانون كل آية من القرآن بيان لذاتها ولغيرها من الآيات والعلوم والشواهد.
ثانياً : قانون الجمع بين كل آيتين من القرآن بيان .
ثالثاً : قانون جملة القرآن بيان .
رابعاً : قانون تلاوة آيات القرآن بيان .
خامساً : أسباب النزول بيان للدلالة على أن قانون البيان مصاحب لنزول آيات القرآن فحالما تنزل الآية القرآنية هناك بيان يتجلى في مضامين الآية القرآنية.
ويستعرض بعض العلماء والباحثين الإعجاز العلمي للقرآن بلحاظ الإكتشافات الجديدة ، وهو أمر حسن وسيكون متجدداً ، ويدرك الجميع أن بيان الصلة بين آيات القرآن وهذه الإكتشافات لا يتعارض مع الإعجاز البلاغي والموضوعي والحكمي لآيات القرآن من أيام التنزيل.
السابع : إعجاز القرآن في علوم الغيب ، وتضمنه لأخبار من قصص الأمم السابقة ، ومنها ما يخص الأنبياء والصالحين ، ابتداءً من آدم وحواء ، ومنها ما يتعلق بالظالمين مثل نمرود وفرعون ، وكيف أن الله أهلكهما ، وأزال حكمهما.
لبيان معجزة أخرى للقرآن ، وهي العبرة والموعظة من علوم الغيب وقصص القرآن ، قال تعالى [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
ومن علوم الغيب ما يتعلق بأحوال الناس في الأحقاب اللاحقة ، ومنها مواطن يوم القيامة.
ومن الإعجاز العلمي في القرآن ما لم يكتشف مصداقه الواقعي بعد ، ليكون من البيان القرآني أنه في كل زمان هناك شواهد هي ترجمة علمية كونية وبدنية لآيات القرآن ، ومنها ما يدركه الناس في كل زمان ، ولكنه يكون أكثر بياناً في زمان لاحق ليبقى إلى يوم القيامة ، ومنه قوله تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، لبيان أن السماء انشأها الله وجعلهاسقفاً بقوته وقدرته إنشاءً متماسكاً لا ينفذ إليه الخلل أو النقص أبداً .
وهذه السموات في توسع مطرد ليكون من الإعجاز في المقام وجوه :
الأول : إنشاء السموات .
الثاني : بناء وإنشاء السموات بقدرة الله عز وجل ، وهو من مصاديق ما ورد في آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالث : التوسعة المستمرة في السماء ، ففي كل يوم هناك شواهد مستحدثة على عظيم قدرة الله .
الرابع : الإنسجام والتوافق بين ما أنشئ من السموات وبين التوسعات الجديدة في الأصل والسنخية والمظهر الخارجي ، فانت ترى البناء في الدنيا إذا أجريت عليه توسعات وأجنحة فانها تكون في الغالب منفصلة عنه ، كما وأنها تختلف عنه من جهة مواد البناء والحداثة والعمر الزمني.
أما في السماء فالأمر مختلف فما ينشئه الله من مخلوقات في السماء تكون جزء منها .
وجاء العلماء في بدايات القرن العشرين بنظرية النسبية وأن الكون غير ثابت وأنه يتمدد ، أي بما يوافق الآية أعلاه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) .
ومن معاني هذه النظرية عدم ثبات وتحديد مفهوم الوقت ، وكان ينظر إلى الزمان والمكان على إنهما مختلفان ،وجاءت هذه النظرية باتحادهما وسمي الزمكان وهذا القول ليس مطلقاً للتباين الموضوعي بين الزمان والمكان بسرعة الجسم وحركته.
وقالت هذه النظرية بأن سرعة الضوء ثابتة أياً كان مصدره ومكانه ، ولكن يمكن أن يأتي العلم بما يجعل ضوءً أسرع من غيره ، أو يتم اكتشاف هذا التباين في الأشياء ، وقالت بأن الضوء ليس بحاجة إلى وسط ناقل.
له من موضع إلى آخر مثلما هو في موجات الصوت ، ولكن لابد من وسط ناقل فمن خصائص خلق الله عز وجل للكون جعل الأشياء بعضها تستند إلى بعض ، فالضوء ليس له قوة ذاتية في الأثر والتأثير .
وهو من عالم الإمكان ، الذي تلازمه الحاجة إلى الغير ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل مخلوق محتاج .
الصغرى : الضوء مخلوق .
النتيجة : الضوء محتاج .
فتتجلى حاجة الأشياء والمخلوقات الى الله عز وجل بالحاجة فيما بينها خصوصاً وأن الله عز وجل ذكر السماء بلفظ البناء [بَنَيْنَاهَا]( )،.
ليتفرع عنه علم الفيزياء الفلكية .
ولا تتعارض البراهين العلمية المستحدثة للآية القرآنية مع نظمها والمعاني المستقرأة من سياقها ولا ينحصر قوله تعالى [لَمُوسِعُونَ] ( ) بذات السموات بل يشمل أيضاً وجوهاً :
الأول : الأرزاق .
الثاني : أهل السموات من الملائكة وعامة الخلق.
الثالث : نزول المطر .
الرابع : السعة في إطلاع الناس على أسرار الكون والفلك.
وهل منه صعود الإنسان الى الكواكب ، الجواب نعم وهناك آيات أخرى تدل عليه ، المختار هو الثاني ، ومنه قوله تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ]( ).
نعم تبين الآية قانوناً وهو لا يقدر على التوسعة في السموات إلا الله عز وجل ، أي أن صعود الإنسان الى السماء وعيش طوائف من الناس منها في تالي الأزمنة لا يؤدي الى التوسعة فيها ، كما أنهم عجزوا عن التوسعة في الأرض إلا أن يشاء الله.
وبعد أن أخبرت الآية أعلاه عن بناء السماء وارتفاعها بقوة وقدرة الله عز وجل ، أخبر الله عن كونه سبحانه خلق الأرض وجعلها فراشاً منبسطاً ، قال تعالى [وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ]( )، لبيان أن فرش وانبساط الأرض مثل خلقها لايقدر عليه إلا الله عز وجل .
وقال تعالى [وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ]( )، واختلف في معنى (أنزلنا) إذ قيل بدلالة الآية على نزول الحديد من السماء وأنزلنا بمعنى الهبوط ، خاصة وأنه غير جنس الأرض وترابها ، وفيه وجوه :
الأول : ما أنزل الله عز وجل مع آدم ، وأخرج بسند ضعيف عن سلمان قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن آدم أهبط إلى الأرض ومعه السندان ، والكلبتان ، والمطرقة ، واهبطت حواء بجدة)( ).
الثاني : أنزل الله الحديد من السماء ، فجاء من خارج الأرض ليتداخل معها .
الثالث : إرادة معنى الخلق والجعل فانزلنا بعنى خلقنا ، وبعلها كما في قوله تعالى [عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( )، وقوله تعالى [وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ]( ).
الرابع : المراد اللجوء إلى السيف بعد إقامة الحجة ومقابلتها بالعناد ، فاذا لم تجد الكتب نفعاً يلجأ إلى الكتائب ، وهذا بعيد ، إذ أن الآية تبين المنافع العامة للناس ، وتدل آية السياق والبحث على كفاية الكتاب وإظهاره من غير حاجة إلى الكتائب والغزو .
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه فان الوجوه الأخرى صحيحة على المختار وأضيف لها وجهاً اخر كمصداق للإعجاز العلمي للقرآن ، وهو أن الأرض كانت ملتصقة بالسماء ففصلها الله عز وجل ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
وقيل أصل الحديد من بقايا الشهب والنيازك التي تنزل وتهوى من السماء على الأرض ، فيصدق عليه نزول الحديد ، وأنه لم يكن موجوداً في الأرض قبل ملايين سنين خلت .
إذ كانت السماء والأرض ملتصقتين ، وإلى الآن تجعل الأرض في الدراسات الفلكية والفيزيائية من المجموعة الشمسية وما يدور حول الشمس من الأجرام وهي حسب البعد عن الشمس :
الأول : عطارد .
الثاني : الزهرة .
الثالث : الأرض .
الرابع : المريخ .
وتسمى الكواكب الصخرية .
الخامس : المشتري .
السادس : زحل .
السابع : أورانوس .
الثامن : نيتون ، وأكتشف هذا الكوكب سنة 1864 وهو كوكب غازي ، وهو يدور حول الشمس مرة كل (165) سنة ، وتدور حول نيتون عدة أقمار .
ونسبة الحديد في قشرة الأرض نحو 5% ولكنها تزيد على 30 % من مجموع كتلة الأرض ، وفي القرآن سورة تسمى سورة الحديد ، وذكر لفظ [الْحَدِيدَ] ست مرات في القرآن منها مرة واحدة في سورة الحديد ، وهو قوله تعالى [وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ).
وآية أخرى جاء لفظ [حَدِيدَ] لوصف حدة البصر يوم القيامة ، إذ قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ) فيرى الإنسان البعث والنشور والحساب وعالم الجزاء ثواباً وعقاباً .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام عن معنى الرقق والفتق في الآية أعلاه قال (كانت السماء رتقا لا تنزل القطر، وكانت الارض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الارض بالنبات)( ).
علم الدراية وبشارات النبوة
علم الحديث من أسمى العلوم إذ يتوثق فيه قول وفعل وتقرير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسنة الشريفة أو صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقول الأئمة عليهم السلام ، كما يشمل الحديث قول الصحابي والتابعي .
والعلم: الإدراك والفهم .
والحديث لغة ضد القديم ، ويطلق في الإصطلاح على الخبر ، ومن منافع هذا العلم إحصاء أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان المتواتر والموثق والضعيف منها .
واسقاط الموضوع والمنسوب إلى النبي من غير دليل وسند معتبر ، وقد يتبين وضعه بمخالفته للقرآن .
ويتفرع علم الحديث إلى شعبتين :
الأولى : علم الحديث رواية يسمى علم الرواية ، ويتعلق موضوعه بوجوه :
الأول : ضبط ألفاظ وكلمات الحديث ، فهذا العلم خاص بمتن الحديث .
الثاني : مناسبة الحديث إن وجدت .
الثالث : القصد والغاية الحميدة من الحديث .
الثانية : علم الحديث دراية ، أو علم الدراية ، ويتعلق موضوعه بأمور:
الأول : سند الحديث.
الثاني : علم الرجال .
الثالث : ترجمة وتواريخ الرجال من جهة الولادة والسكن والوفاة .
الرابع : علم الجرح والتعديل .
وهذا العلم كاشف عن ماهية وحقيقة الرواية وتثبيتها ، وإجتماع شرائط الرواية وعدمه فيها ، وقد يسمى هذا العلم بعلم أصول الحديث .
وفيه إحاطة بسند الحديث ، وترجمة لأحوال جميع رجال السند واحداً بعد آخر إلى أن يصل الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم والصحابي.
مع الفصل بين السند المتصل ، والسند المنقطع ، والحديث المرسل ومن المرسل رواية الحسن البصري وهو من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ووثاقة رجال الحديث أو نعت بعضهم بالضعف أو الكذب أو التدليس أو النسيان والخلط سواء كان بالنقل الشفوي للحديث أو التدوين.
فتجتمع قوانين علم المتون ، وقوانين علم الأسانيد ورجال الحديث ليتجلى المقبول والموثوق من الحديث مع لزوم موافقة مضمونه للقرآن للملازمة بين علوم التفسير وعلوم الحديث بلحظ أن الحديث وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية والتقريرية مرآة وترجمة للقرآن.
وبالنسبة للآيتين السابقتين كيف يكون توثيق رجال سند أخبار البشارات ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( )، الجواب من جهات :
الأولى : الميثاق عام شامل لأهل الكتاب ، فيصدر الإخبار عن البشارات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الكثير منهم مرة واحدة من وجهين :
الأول : التواتر في توارث جماعة وطائفة عن طائفة البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قانون تعدد جهة صدور الإخبار عن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكل من القانونين أعلاه مستحدث في هذا الجزء ، وهو خارج علم الدراية في الإصطلاح ، لأنه يتعلق بتوارث البشارات والأخبار عن رسالة النبي محمد الواردة على لسان الأنبياء السابقين ، وفي الكتب السماوية السابقة.
الثانية : تجلي الإعجاز في الآية أعلاه بخصوص الموضوع المأمور به أهل الكتاب وهو بيان الميثاق ، ليتلقاه الناس ، ولا يجب على الذين أوتوا الكتاب حمل الناس على التصديق ، ولكن البيان تذكير وترغيب وحجة ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثالثة : هذا البيان كشف لحقائق التنزيل ، وتعضيد لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إرادة إفراغ ذمة الذين أوتوا الكتاب بالإمتثال للعهد والميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم .
ومن إعجاز الآية أنها لا تأمرهم بالإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها تدعو إليه ، لما في إعلان البشارات من التسليم بها ، وهناك آيات أخرى لهذا الغرض والحجة ، ولكن هذه الآية تختص بالكشف والبيان ومع أن كل آية من القرآن بيان ، فانه لم يرد لفظ البيان في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( ).
قانون تفضيل النبي محمد (ص) بتعدد كل من البشارة والإنذار
ومن إعجاز القرآن ومضامينه القدسية منحه رتبة البشارة والإنذار للقرآن مثلما نالها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقون ، إذ قال تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ] ( ).
لبيان تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، نعم كانوا مبشرين ومنذرين ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب كونه مبشراً ونذيراً فان القرآن نزل معه مبشراً ونذيراً ليكون عضداً له ، وهو من المعاني والإعجاز العقلي للقرآن بأن كل آية منه تتضمن البشارة والإنذار سواء في منطوقها أو مفهومها ليكون كل مسلم عند تلاوته القرآن بشيراً ونذيراً ، وهو من أسرار وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني.
ومنه قراءة سورة الفاتحة على نحو التعيين في كل ركعة من الركعات السبع عشرة الواجبة في اليوم والليلة .
ومن الآيات تضمن سورة الفاتحة البشارة بسعة رحمة الله والهداية إلى الصراط المستقيم كما في قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، و[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وتضمنها الإنذار والوعيد لكل من [الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ]( )، و[الضَّالِّينَ] ( ).
وقد انتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة يوم الإثنين ساعة الضحى وعمره الشريف ثلاث وستون سنة.
ومن معاني البشارة والإنذار في وفاة النبي ما ورد عن الإمام (علي بن الحسين عليه السلام قال : ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة)( ).
لبيان قانون في إمامة المسلمين في عدم اللهث وراء زينة الدنيا .
لقد رزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المنزلة الرفيعة والوسيلة ، وجعل البشارات والإنذارات التي جاء بها متجددة إلى يوم القيامة.
وكل بشارة وإنذار وتجددها اليومي في عالم التلاوة والفعل من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
قانون النعمة الفردية الخاصة
وهو علم مستحدث لبيان فضل الله عز وجل على كل إنسان بِراً أو فاجراً من الأجيال المتعاقبة من البشر بنعمة أو نعم خاصة لم ولن ينالها غيره من آدم عليه السلام إلى يوم ينفخ في الصور ، وهي كبصمة الأصابع وبصمة العين .
وقد يدركها الإنسان ، وتتجلى للناس جميعاً يوم القيامة وهو من عمومات قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ليكون قول المسلم والمسلمة في الصلاة وخارجها [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] حاضراً في الدنيا والآخرة بخصوص هذه النعمة خاصة وأنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الكثرة والزيادة.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النعم وكذا بالنسبة للآخرة ، ولكن المائز هو إنتفاع الناس جميعاً من النعم الإلهية في الدنيا ، بينما يختص المؤمنون بالنعم في الآخرة ، بالإضافة إلى أن نعم الآخرة أضعاف مضاعفة لنعم الله في الدنيا ، قال تعالى [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ]( ) .
والعدن لغة الإقامة مما يدل على أن المراد من جنات عدن الإقامة في النعيم ، وأن أهلها لا يغادرونها ، وكما أن النعيم لا يفارقهم ولا يغيب عنهم ، بخلاف الدنيا التي تتقلب بأهلها ، وقد تنفر النعمة أو تحجب عن صاحبها على نحو السالبة الجزئية أو الكلية .
و(عن سليم بن عامر( ) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجنة مائة درجة : فأولها من فضة أرضها فضة ، ومساكنها فضة ، وآنيتها فضة ، وترابها مسك . والثانية من ذهب أرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها مسك . والثالثة لؤلؤ أرضها لؤلؤ ، وآنيتها لؤلؤ ، وترابها مسك . وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)( ).
ومن الناس من أحبه الله وتتوالى عليه النعم في الدنيا ، ويسخرها في طاعة الله فتكون له زاداً ومتاعاً ومادة للعبور على الصراط يوم القيامة .
ومن معاني ومصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، ابتداع نعم خاصة لكل إنسان ، فكل فرد من البشر تأتيه النعم بما لا يكون عند غيره من الناس ، وابتدأ هذه الإبتداع في آدم وحواء ، فقد خلقهما الله عز وجل في الجنة وتوجه لهما الأمر من الله عز وجل باجتناب الأكل من شجرة مخصوصة [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( )، ولم يتوجه هذا النهي إلى أحد من الناس غيرهما .
ولما أكلا من الشجرة لم ينتقم الله عز وجل منهما ، ولكن سقط عنهما لباسهما ، قال تعالى [فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، وأخرجهما الله من الجنة ليهبطا إلى الأرض .
النعم الفردية على آدم وحواء
ويلتقي آدم وحواء بكثرة وتعدد وكيفية النعم ومنها ما ينفردان به ، والمختار أن النسبة بين النعم بينهما هو العموم والخصوص المطلق والنعم الإلهية على آدم أكثر منها على حواء ومنها :
الأول : خلق آدم من طين ، وقد خلق الله عز وجل آدم عليه السلام بالكاف والنون ، بما ينفرد به عن الناس جميعاً .
وهل كان خلق عيسى يشبه خلق آدم لقوله تعالى [مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، الجواب نعم ، وهناك فارق رتبي فادم لم يولد في رحم بخلاف عيسى لذا جاءت الآية أعلاه بصيغة التمثيل والتشبيه ومن معانيه أن المشبه به أظهر وأبين من المشبه.
الثاني : اختصاص آدم بنعمة نفخ الروح من عند الله عز جل ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الثالث : تفضل الله عز وجل بتعليم آدم الأسماء كلها من غير واسطة ملك ، لأن الملائكة عجزوا عن معرفتها بعد علمها الله عز وجل لآدم إلى أن علمهم وأخبرهم آدم [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )؟
الرابع : سجود الملائكة لآدم طاعة لله عز وجل .
الخامس : ذكر آدم بالإسم في القرآن.
ومن النعم الأرضية التي انفرد بها آدم عليه السلام ، وجوه :
الأول : آدم أول انسان عمّر الأرض .
الثاني : نال آدم مرتبة النبوة والرسالة .
الثالث : يتصف آدم عليه السلام بأنه أول نبي من الأنبياء و(عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول ، قال : آدم قلت : يا رسول الله ونبي كان ، قال : نعم . نبي مكلم . قلت : كم كان المرسلون يا رسول الله، قال : ثلثمائة وخمسة عشر . جماً عفيراً)( ).
الرابع : لم يكن مع آدم في أول الهبوط إلى الأرض إلا حواء وإبليس .
الخامس : نيل آدم عليه السلام مرتبة الخليفة في الأرض ، وعلى القول أن الخلافة أعم وهو المختار فان آدم عليه السلام أول خليفة لله في الأرض ، والذي بشر به الله وملائكته بقوله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
السادس : أول من تلقى البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو آدم عليه السلام وهذا التلقي قبل الهبوط ، وبقيت هذه البشارة يتوارثها الأنبياء وأتباعهم أن الى بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأخفت طائفة هذه البشارة ومضامينها مثل صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أن الرحمة تتغشى الأرض ببعثته ، فنزلت آية البحث لحضهم على إظهارها ، وإنذارهم ووعيدهم بالعذاب الأخروي الأليم ، ويدل هذا الإنذار في مفهومه على الثناء والمدح لكل من :
أولاً : الذين أظهروا البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكروها .
ثانياً : الذين صدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء للبشارات النبوية السابقة أو مطلقاً .
ثالثاً : أهل التوحيد الذين يصدقون بالنبوة والتنزيل ، لذا ذكرت آية البحث الملك المطلق لله عز وجل ، وليس من مالك غيره ، ومن الآيات التي تجمع بين الشهادة بملك الله والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه وعدم إخفاء البشارات التي وردت بخصوصه قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
السابع : آدم عليه السلام أول من تاب واستغفر وصلى وصام من البشر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثامن : حواء أول من أطلق عليها اسم امرأة .
التاسع : وعن الإمام الصادق عليه السلام ، وفي حديث طويل عنه قال (سمي النساء نساء ، لأنه لم يكن لآدم أنس غير حواء)( ).
ومن وجوه الإلتقاء بين آدم وحواء في النعم ، وجوه :
الأول : لم يكن أي من آدم وحواء في رحم ومخاض وولادة ، وهو من مصاديق آية البحث [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثاني : السكن في الجنة برهة من الزمن ، وهو من مصاديق آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ولبيان وجود أفراد أنسية تجمع بين السماء والأرض ، ولبيان قانون بشارة وهو أن سكن آدم وحواء في الجنة مقدمة لإقامة المؤمنين والمؤمنات في الجنة إقامة دائمة ، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى] ( ).
الثالث : الإختلاط بالملائكة .
الرابع : تلقي النهي من عند الله عن الإقتراب من شجرة مخصوصة.
الخامس : توجه الإنذار والنهي من عند الله لآدم وحواء من الإصغاء إلى ابليس ، وعداوة إبليس لكل منهما .
السادس : استماع آدم وحواء إلى إبليس في مكره وخبثه ليأكلا من الشجرة ، قال تعالى [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
السابع : اشتراك آدم وحواء بالإستحضار واظهار والندم للأكل من الشجرة ، وفي التنزيل [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) .
فمع أن إبليس هو الذي أغواهما للأكل من الشجرة ، فانهما أقرا بنسبة الفعل لهما ، ولم ينسباه إلى إبليس ، لبيان مسؤولية الإنسان عن فعله وعدم الإنشغال بالذريعة والتسبيب مع أن الله عز وجل نسبه الى ابليس كما في قوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ر بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( )، ولأن المقام مقام استغفار وتضرع إلى الله عز وجل .
الثامن : هبوط آدم وحواء إلى الأرض معاً.
التاسع:التحلي بالتقوى وطاعة الله وأمرهما الفرائض العبادية.
العاشر : إنجاب الأولاد ، وتأديبهم وجوب طاعة الله .
الحادي عشر : ليس في الأرض زوجان غير آدم وحواء ، وهل يمكن الإستدلال بهذا الأمر على أن الأصل في الزوجية هو زوجة واحدة وليس التعدد ، الجواب نعم .
الثاني عشر : كثرة الذرية من الأولاد الصلبيين والأحفاد.
قال ابن عباس : لم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً ، ورأى آدم عليه السلام فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد( ).
الثالث عشر : إنفراد آدم وحواء بأنهما زوجان في الجنة قبل الخروج منها ، وبقاؤهما على ذات الزوجية عند الهبوط إلى الأرض من غير حاجة إلى عقد جديد .
الرابع عشر : ورد حديث طويل في اسئلة عبد الله بن سلام الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يعلن عبد الله بن سلام إسلامه .
ومنه (فأخبرني (يامحمد) عن آدم خلق من حواء، أو حواء خلقت من آدم.
قال : بل خلقت حواء من آدم، ولو أن آدم خلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء ولم يكن بيد الرجال. قال: من كله أو بعضه .
قال : بل من بعضه، ولو خلقت حواء من كله لجاز القصاص في النساء كما يجوز في الرجال.
قال : فمن ظاهره أو من باطنه ؟ قال: بل من باطنه، ولو خلقت من ظاهره لكشفت النساء كما ينكشف الرجال، فلذلك النساء مستترات. قال: من يمينه أو من شماله .
قال : بل من شماله، ولو خلقت من يمينه لكان حظ الذكر والانثى واحدا، فلذلك للذكر سهمان، وللانثى سهم، وشهادة امرأتين برجل واحد. قال: فمن أي موضع خلقت من آدم.
قال صلى الله عليه وآله: من ضلعه الايسر)( ).
ومن النعم التي اختصت بها حواء :
الأولى : خلق حواء من ضلع آدم ، وفي ذات الحديث أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عبد الله بن سلام (فمن أين خلقت.
قال : من الطينة التي فضلت من ضلعه الايسر.
قال : صدقت يا محمد) ( ).
الثانية : ينفرد آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض مع التباين المكاني في الهبوط ، وعن ابن عباس قال (أهبط آدم بالهند وحوّاء بجدة ، فجاء في طلبها حتى أتى جمعا ، فازدلفت إليه حوّاء . فلذلك سميت (المزدلفة) واجتمعا بحمع فلذلك سميت : (جمعا)( ).
الثالثة : حواء أول أمراة تحمل وتلد .
و(عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله بعث جبريل إلى حواء حين دميت فنادت ربها جاء مني دم لا أعرفه . فناداها لأدمينك وذريتك ، ولأجعلنه لك كفارة وطهوراً)( ).
وأن أول دم وقع على على الأرض لم يكن سفك دم وقتل وجراحات إنما هو مشيمة حواء .
الرابعة : تلقي حواء الصداق من آدم ، وعن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله لما خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهباً ولا فضة ، فلما أن أهبط آدم وحواء أنزل معهما ذهباً وفضة ، فسلكه ينابيع في الأرض منفعة لأولادهما من بعدهما ، وجعل ذلك صداق آدم لحواء . فلا ينبغي لأحد أن يتزوّج إلا بصداق)( ).
الخامسة : حواء أول امرأة ترى دم الحيض ، وهل انقطعت حواء عن الصلاة أيام الحيض ، أم أنه لم تكن صلاتها مثل التي جاء في شرعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
المختار هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) .
وكما قام آدم الملائكة الأسماء فانه علم حواء الصلاة لأنها من هذه الأسماء ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( .
السادسة : حواء أول امرأة تباشر العمل بيدها مما هو غير شؤون المنزل والطبخ ، إذ قامت بالغزل والنسج .
وفي حديث طويل لعبد الله بن عباس قال (فلما رأى الله عري آدم وحواء أمره أن يذبح كبشاً من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل الله من الجنة .
فأخذ آدم كبشاً وذبحه ، ثم أخذ صوفه فغزلته حواء ونسجته هو ، فنسج آدم جبة لنفسه ، وجعل لحواء درعاً وخماراً فلبساه .
وقد كانا اجتمعا بجمع فسميت جمعاً ، وتعارفا بعرفة فسميت عرفة ، وبكيا على ما فاتهما مائة سنة ، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً ، ثم أكلا وشربا وهما يومئذ على نود الجبل الذي أهبط عليه آدم ، ولم يقرب حواء مائة سنة)( ).
السابعة : في مناداة الميت بعد تسوية التراب عليه ، ورد في حديث عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا مات أحدكم وسويتم عليه التراب فليقم أحدكم عند قبره ثم ليقل: يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة – الثانية – فيستوي قاعدا، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله.
فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته فقال: يا رسول الله، فإن لم يعرف امه .
قال : فلينسبه إلى حواء( ).
الخامس عشر : ليس من أحد يعبد الله في الأرض يومئذ إلا آدم وحواء.
السادس عشر : ليس من أحد يسعى إبليس في إغوائه إلا آدم وحواء ، ولا يستطيع فتنتهما في الأرض كما فعل في الجنة .
ليكون من وجوه الموعظة في الأكل من الشجرة أخذ آدم وحواء الحيطة والحذر من إبليس ومكره .
ولتبدأ عمارة الإنسان للأرض بهذا الحذر ، وفيه حجة على الذين يفرحون بما أتوا من المعاصي بأن الحياة الدنيا لم تبدأ إلا بالتقوى والإمتناع عن المعصية .
السابع عشر : آدم وحواء أول أبوين تنزل بهما مصيبة قتل الولد ، ومن قتل أخيه ، قال تعالى [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) ولم تذكر الآية موضوعية لإبليس في هذا القتل ولكنها وردت في الأخبار الخاصة بالواقعة .
لقد أخبرت آية البحث عن عائدية ملك السموات والأرض لله عز وجل ، وهو سبحانه الذي جعل حياة الناس في الأرض تبدأ باثنين زوج وزوجة ، أبتدأت حياتهما السكن في الجنة ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
أم أن آدم وحواء يخرجان بالتخصيص من مصاديق الآية أعلاه لأنها تذكر بني آدم وليس آدم وحواء من بني آدم ، الجواب هو الأول ، فكانت إقامة آدم وحواء في الجنة إكراماً لأجيال الناس جميعاً وحجة عليهم ودعوة لهم للتقوى وإجتناب المعصية والفرح بها ، ورجاء الثناء بما لم يفعلوا .
الثامن عشر : النسبة بين الناس وبني آدم العموم والخصوص المطلق، إذ أن الناس أكثر عدداً باضافة آدم وحواء .
التاسع عشر : إكرام آدم بتسمية الناس جميعاً بنسبة البِنوة له بقوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ].
العشرون : آدم عليه السلام أول من عطس وقال الحمد لله بتلقين من عند الله عز وجل ، وأول من سلّم بتحية الإسلام ، وكان سلامه على الملائكة.
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن الله خلق آدم من تراب ، ثم جعله طيناً ، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنوناً خلقه وصوّره ، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار ، وجعل إبليس يمر به فيقول : لقد خلقت لأمر عظيم ، ثم نفخ الله فيه من روحه ، فكان أوّل شيء جرى فيه الروح بصره وخياشيمه ، فعطس فلقنه الله حمد ربه فقال الرب : يرحمك ربك .
ثم قال : يا آدم اذهب إلى أولئك النفر فقل لهم وانظر ماذا يقولون .
فجاء فسلم عليهم فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله ، فجاء إلى ربه فقال : ماذا قالوا لك وهو أعلم بما قالوا له .
قال : يا رب سلمت عليهم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله قال : يا آدم هذه تحيتك وتحية ذريتك ، قال : يا رب وما ذريتي .
قال : اختر يدي ، قال : أختار يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين.
فبسط الله كفه فإذا كل ما هو كائن من ذريته في كف الرحمن عز وجل) ( ).
الحادي والعشرون : صيرورة آدم وحواء عبرة لأجيال الناس المتعاقبة ، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ]( ).
لم يرد وصف [أَبَوَيْكُمْ] في القرآن والناس جميعاً إلا على آدم وحواء ، كما في الآية أعلاه التي لم يرد لفظ [أَبَوَيْكُمْ] في القرآن إلا بها .
هل يختص الإبتداع والإنفراد بالنعمة وسنخية الخلق بالإنسان أم يشمل المخلوقات كلها كالأنعام ، فكل شاة مثلاً يأتيها رزق من الله غير الذي يأتي إلى غيرها ، وكذا ما يتعلق بخلقها وسنّها وهيئتها ، المختار هو الثاني ، وكذا بالنسبة لأفراد الأنعام الأخرى ،ومن هذه النعم ما تأكله في المرعى ، وما تسقيه وما تمنحه من اللبن والولد .
وهل في خلق ناقة صالح وانفرادها بخصائص إعجازية دليل عليه ، المختار لا ، إذ أضافها الله عز وجل اليه للتمييز والفصل والحجة ، كما في بيت الله.
وعن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : ألا أحدثك بأشقى الناس.
قال: بلى .
قال : رجلان أحيمر ثمود الذي عَقَر الناقة، والذي يضربك يا عليّ عَلَى هذا -يعني قَرنه- حتى تبتل منه هذه” يعني : لحيته( ).
وحتى سنخية الجبال وبقاع الأرض فيما يسقط عليها من المطر والحرث والزراعة ووقتها وإنتفاء الإنسان منها ، وإنبساط أشعة الشمس عليها ، وأوان حلول الصلوات اليومية عليها ، وعدد الذين يذكرون الله عليها ، وكيفية وأوان ومدة الذكر لبيان أن قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) لا يختص باختراع وخلق والأرض ابتداء من غير مثال ، إنما يشمل الإبتداع في كل أوان .
وعن ابن عباس (قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال ، أحدهما : أنا فطرتها .
يقول : أنا ابتدأتها) ( ).
وعلى القانون الذي أذكره هنا ابتداءً أن قانون الإبتداع في السموات والأرض متجدد في كل يوم ، وكذا بالنسبة للنعم التي تتوالى على الناس.
ومن الآيات أن النعم الإنفرادية تتصل وتنفذ إلى خلقة وهيئة الإنسان وأعضائه وأحشائه الداخلية ، فلا يتشابه الناس فيها سواء في الأعضاء الرئيسية والحيوية عند الإنسان وهي ثمانون عضواً ، إذا حسبت العظام مثلاً عضواً واحداً ، أما إذا حسبت على نحو الإفراد فان عددها هو (205) عظماً ، فيكون مجموع أعضاء الجسم (283) عضواً ، وكذا بالنسبة للأسنان فانها فرد واحد ، وإذا حسب كل سنّ عضواً مستقلاً فان المجموع هو (315) عضواً ، وهو استقراء منها ما يكون زوجياً كالعين ومنها ما يكون فردياً كاللسان .
ومنها ما يكون كبيراً كالمعدة ، ومنها ما يكون صغيراً كالغدة الدرقية ، وزادت علوم المختبر والأنسجة والدراسات المجهرية في بيان أسرار خلق الإنسان .
لقد جعل الله بواطن كل إنسان تختلف عن غيره ، لتكون بصمة الأصابع مرآة وترجمة لهذا الإختلاف .
وهل من موضوعية لهذا الإختلاف في سنخية وماهية النعم التي تأتي للإنسان ، الجواب نعم ، لعلم الله بما ينفع العبد وأسباب إصلاح حاله ، وإستدامة أيامه في الدنيا إلى أن يحين أجله ، ولتلقيه النعم وانتفاعه منها أحسن انتفاع إلا أن يقوم بالتفريط بها .
لقد أبى الله عز وجل أن يجعل له شريكاً في الملك ، والنعم الفردية من الشواهد عليه ، وهو من معاني قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
وتتجلى مفاهيم التوحيد في الآفاق وفي أحوال الناس فتشرق الشمس كل يوم على آيات مستحدثة في الخلق تبين إنفراد الله عز وجل بالربوبية ، ومنها النعم التي يتفضل بها الله عز وجل على كل إنسان.
وهل هذا الإستحداث والتجدد في النعم على الناس من مصاديق إحتجاج الله عز وجل الملائكة على بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )حين تساءلوا عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
ومنهم من يفسد في الأرض ، ومنهم من يعتدي على غيره ، وقد ذكر الملائكة أشد ضروب الإعتداء وهو القتل بغير حق [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
الجواب نعم فان استحداث النعم على الناس من الشواهد على أن ملك السموات والأرض لله عز وجل ، وهذا الإستحداث تنحية للناس عن الضلالة والمعاصي ، وهو طريق لجذبهم إلى الإيمان .
ترى هل نفع قانون استحداث النعم اليومي بخصوص آية البحث ، الجواب نعم ، إذ أنه يدعو الناس إلى إظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلى عدم الرغبة بالثناء على ما لم يفعلوا من الخير ، وإن وجد هؤلاء الذين [َيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا] ( ) فأنهم لا يجدون من يثني عليهم بدون حق ، إذ أن الآية السابقة وآية البحث يختتمان في زجر الناس عن هذا الثناء لأنه نوع تزلف ورياء ، ولا أصل له .
قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
لقد ذكرت آية البحث قانون ملكية الله للسموات والأرض ، وما فيها ولو اكتفت الآية بهذه القانون لربما ظنّ بعضهم أنه ملك استيلاء واستحواذ أو ملك تصرف محدود ، ومقيد ، فنزل وبصيغة العطف على هذا القانون قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
لبيان أن ملك الله عز وجل للسموات والأرض ملك مشيئة ، وأن الله عز وجل له الإرادة والمشيئة التامة في السموات والأرض .
ويتفرع عن قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] علم الله عز وجل بما في السموات والأرض وما يصلحها ، ويجعلها تستديم إلى الأجل الذي يشاء الله .
وتبين الآية قانوناً وهو ليس من شئ إلا وهو طوع أمر الله فلا يمتنع عنه شئ .
ومن قدرة الله عز وجل تجدد وإيجاد أفراد من الخلق في السموات والأرض ، وفي التنزيل [يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وتبين الآية أن الله عز وجل هو القادر على إيصال الخير والنفع إلى الإنسان ، وهو الذي يدفع عنه السوء والشر ، ويمنعه من إرتكاب المعصية ، وإن تهيأت مقدماتها .
لذا فان هذه الآية رد على الجبرية الذين يقولون بأن الإنسان مجبور على فعله ليس له الإختيار فيه ، ورد على القدرية الذين ينفون الإطلاق في مشيئة الله ، ونفاذها وإمضاؤها في كل شئ .
ولما ابتدأت آية البحث بالإخبار عن ملك السموات والأرض أختتمت بالدلالة على أن هذا الملك يلزم قدرة وسلطان وقوة لا تكون إلا عند الله عز وجل ، ومن أسمائه تعالى القوي ، وفي التنزيل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة والبرهان الخارق للعادة ، والذي يعجز الناس عن الإتيان بمثله .
وكذا بالنسبة لمعجزات الأنبياء السابقين ، وزاد الله عز وجل من فضله فجعل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وحسية ، وآية البحث وحدها معجزة عقلية وهي شاهد سماوي على معجزات حسية لامتناهية.
وتبين آية البحث قانوناً وهو أن الآيات وخوارق العادات لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، وأنها جزء من ملك الله عز وجل ، وهو الذي تفضل بها على الأنبياء لهداية الناس .
ومما تجتمع فيه بداية وآخر الآية الكريمة أن كل ما في السموات والأرض منقطع إلى التسبيح لبيان أن التسبيح والتهليل صاعد إلى الله عز وجل من كل الخلائق ، وقد فتح الله عز وجل للناس باب الدعاء والمسألة .
وهو من أسرار كون الإنسان مخيراً في الدنيا ، وأن الوعد مناسبة للأجر والثواب ، وطريق للنجاة يوم القيامة .
وهل يصح القول (أن الله على ما يشاء قدير ) الجواب نعم بشرط التسليم بأن هذه المشيئة فرع القدرة المطلقة لله عز وجل ، لأن قدرة الله عز وجل مطلقة أبدية ولا تختص بالإيجاد وحده ، وبين قوله تعالى [واللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]وبين القول أعلاه أنه على ما يشاء قدير ، عموم وخصوص مطلق .
فليس من مانع يحول دون قدرته ، وليس في القول أعلاه تقييد لقدرة الله لما تقدم من الشرط أعلاه ، ولو على نحو الشرط الإتكازي .
ومن إعجاز القرآن أن الله عز وجل جمع في الخلق والمشيئة بين ملك الله للسموات والأرض وبين قدرته على كل شئ بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ويتضمن قوله تعالى [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] الوعد والوعيد فهوسبحانه قادر على إقامة المؤمنين الذين يعملون الصالحات في الجنة إقامة دائمة ، وأنه تعالى جعل الجنة بقدرته ومشيئته [كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ) وهو سبحانه الذي يأمر بسوق الذين كفروا إلى النار .
وقد أختتمت الآية السابقة بالقول [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
مع أن الآية أعلاه لم تذكر خصال المشركين ، بل ذكرت خصلتين تدلان على الكفر والضلالة وهما :
الأولى : الفرح بالمعصية .
الثانية : إرادة الثناء على التخلف عن الفعل الذي يستلزم المدح.
مما يدل بالأولوية القطعية على أن المشركين خالدون في النار .
بحث أصولي : المطلق والمقيد
المطلق هو الفرد السالم من القيد سواء كان حسياً أو معنوياً ويقال أطلقت الدابة إذا حللت قيدها ، ومن الإطلاق المعنوي أطلقت الأسير إذ فككته من الأسر ، ومنه طلاق الزوجة .
ووردت مادة (طلّق) والطلاق في آيات متتاليات وهي (227-332) من سورة البقرة ، مع تعدد وتكرار هذا اللفظ في قوله تعالى [فَإِنْ طَلَّقَهَا]( ).
والمطلق في الإصطلاح هو الماهية من غير قيد أو شرط أو بصفة تحد وتمنع من شموله لأفراد جنسه.
وقيل : كل شئ يقول الأصوليون إنه مطلق ، يقول النحاة انه نكرة ، وكل شئ يقول النحاة إنه نكرة يقول الأصوليون أنه مطلق.
ولكن النكرة في الإثبات لا تقتضي العموم إلا مع القرينة مثل قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( )، فالمراد هو موسى عليه السلام وليس أي رسول ، ومثل قوله تعالى [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى]( )، فلا يقال بصحة مجئ الرجال كلهم أو أي رجل منهم على نحو العموم البدلي.
وكذا في قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا]( )، فهو زيد مخصوص وهو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يتعدى الى كل من اسمه زيد ، فهذه النكرة في الأسماء لا تفيد العموم.
إلا مع القرينة مثل [لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى]( )، فالجزاء عام يوم القيامة لكل الناس ، وقد تقدم في الجزء السابق أن اللام في (لتجزى) هي لام الجزاء ، وهو اصطلاح مستحدث هنا ، إلى جانب لام التكليف في اقسامها الخمس ( ).
ومنه [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ]( )، وقد يأتي اللفظ بصيغة المفرد ولكنه اسم جنس يراد منه الجمع أو تعريفه بالألف واللام أو الإضافة أو القرينة الدالة على إرادة الجمع ، كما في قوله تعالى [ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ]( )، إذ أن صيغة الجمع جلية وظاهرة في الآية أعلاه سواء في لغة الخطاب (نخرجكم) أو الخبر (لتبلغوا).
وقد جاء الإطلاق في آية البحث لغة واصطلاحاً ، فكل ما هو مخلوق هو ملك لله عز وجل ولا يقدر على هذا الخلق إلا الله عز وجل لذا وردت الآية بصيغة (كل) في [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ولفظ كل هو أقوى وأظهر صيغ العموم إذ يشمل الخلق لكل من :
الأول : العاقل وغير العاقل .
الثاني : المذكر والمؤنث .
الثالث : المفرد والجمع .
الرابع : الموجود والمعدوم .
الخامس : المخلوق والذي لم يخلق بعد .
والمقيد لغة هو المربوط سواء كان الربط والقيد حسياً أو معنوياً.
و(القَيْدُ : معروفٌ ، قَيَّده تَقْيِيْداً. والمُقَيَّد من الساقَيْنِ: مَوضِعُ القَيْدِ، ومَوضِعُ الخَلْخَال من المرْأةِ. وقِيْدَ الرَّجُل قَيْداً: أي قُيدَ. وقِدْتُه أقِيْدُه.
وقَيْدُ السَّيْفِ: هو المَمْدُوْدُ في أصُول الحَمَائِل، وكذلك قَيْد الرَّحْل.
ويُقال للفَرَس الجَوَادِ: قَيْدُ الأوَابدِ؛ أي يَلْحَقُ الوَحْشَ فكأنَما هو مُقَيَّدٌ له حتّى يَلْحَقَه.
وقَيْدُ الفَرَس: من سِمَاتِ الإبل في أعناقِها، قال: كُوْمٌ علن أعْنَاقِها قَيْدُ الفَرَسْ وقَيْدُ الأسْنَانِ: اللِّثَةُ.
والقِيْدُ: القِيْس في المِقْدَارِ، وكذلك القادُ)( ).
والمقيد في الإصطلاح هو ما دلّ على الماهية بقيد لإرادة الحصر ، كما في قوله تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
إذ تجمع الآية بين المطلق والمقيد ، فاجلاً مطلق ، و(أجل مسمى) مقيد مع التباين الموضوعي بينهما ، لدلالة واو العطف على التعدد والمغايرة.
علم المناسبة
لقد تكرر في القرآن لفظ [كُلِّ شَيْءٍ] في تجليات قدرة وسلطان الله عز وجل الذي [أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ]( ) و[أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ]( ) و[وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ]( ) و[إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا]( ).
وقد تكرر لفظ [كُلِّ شَيْءٍ]في آية واحدة مع قلة كلماتها [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]( ) لبيان أن الله عز وجل هو الذي أوجد الخلائق كلها ، وأنه سبحانه المطلع عليها ، وله المشيئة في وجودها أو عدمها .
وقال تعالى [اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ]( ) [إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وقال تعالى [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]( )لبيان أن قدرة الله عز وجل أعم من الخلائق كلها الموجود والمعدوم وأن الذي خلقه الله منها هو من بديع صنع الله ، وفيه النفع العام والخاص .
قانون التلاوة عمل صالح
يدل مفهوم آية البحث على الأجر العظيم للذي يتلو القرآن ، ومن مصاديق العمل الصالح بخصوص القرآن وجوه :
الأول : تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها .
الثاني : ختم القرآن في مدة محدودة حسب الحال ، ومنه ختمة في كل شهر مرة .
الثالث : التدبر في قراءة القرآن .
الرابع : إستحضار آيات القرآن ، وأحكامه في إختيار القول والعمل ، ومنه إجتناب الظلم والتعدي ، والإضرار بالغير ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الخامس : قراءة كتب التفسير ذات النفع .
السادس : نشر علوم القرآن باللطف والبيان .
السابع : إقامة الحجة والبرهان بالقرآن ، وهو من الحكمة في قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثامن : تعليم القرآن وتفسيره ، وعدم إتخاذ القرآن وسيلة لجمع الأموال وملاذ الدنيا .
التاسع : تعلم وتعليم التلاوة .
العاشر : ترجمة كلمات وآيات القرآن .
الحادي عشر : إقامة الدورات والندوات في علوم القرآن ، والإمتناع عن الإختلاف فيه ، إذ أنه واسطة ووسيلة مباركة للوحدة والتآلف والمحبة .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أمرين . أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) ( ).
لقد أنزل الله القرآن عز وجل ليفوز الناس بتلاوته ، فليس من شئ في الدنيا أجمل من ترديد وتلاوة الإنسان لكلام الله الذي تتزين به الأرض ، وتهذب به الألسنة ، ويجعل الله به وبتلاوته القلوب والأركان والجوارح في طمأنينة ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وبين الذكر والتلاوة عموم وخصوص مطلق ، فالذكر أعم ، ويتقوم بالتلاوة ، ويدل ترشح الطمأنينة عن التلاوة على المنافع العظيمة للتلاوة في عالم القول والفعل ، وأنها سبيل لعمل الصالحات ، ووسيلة للإبتعاد عن المعاصي والسيئات وعن الظلم وإيذاء الغير ، وقد صدرت لنا في قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) أجزاء من هذا التفسير وهي :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .
كما صدرت في قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) كل :
الأول : الجزء الثاني والعشرون بعد المائتين .
الثاني : الجزء الثالث والعشرون بعد المائتين .
الثالث : الجزء الرابع والعشرون بعد المائتين .
واختص هذا الجزء بتفسير الآية [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة لأهل الإيمان بتحقيق الغايات الحميدة بالدعاء.
الثانية : تعاهد الفرائض والتحلي بالصبر.
الثالثة : إخلاص النية و(تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم [مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ]الآية( ) . ثم قال : يقول الله : ابن آدم تفرغ لعبادتي ، أملأ صدرك غنى ، وأسُدُّ فقرك ، وإلا تفعل ، ملأت صدرك شغلاً ، ولم أسدّ فقرك) ( ).
الرابعة : التقيد بأحكام الشريعة في الحلال والحرام.
الخامسة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فان الله عز وجل على كل شئ قدير.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب غيره وأنفق ما اكتسب في غير معصية ، ورحم أهل الضعف والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة)( ).
وهل تختص قدرة الله المطلقة بالسموات والأرض ، الجواب انها أعم وأعظم ، وستبين الآية التالية في نظم القرآن بديع صنع الله في الخلق ، وملكه لأفراد الزمان وساعات الليل والنهار ، إذ قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
الجمع بين الخلق والملك والقدرة
وقد تأتي آية قرآنية تجمع بين خلق الله لكل شئ وأنه قادر على كل شئ مما خلق وغيره ، وأنه سبحانه يعلم الكليات والجزئيات في عالم الأكوان وحياة الناس ، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ).
لبيان أن القيمومة المطلقة لله عز وجل ، فهو سبحانه لم يترك الأكوان من حين خلقها ، وهي محتاجة إليه تعالى في كل لحظة من جهات :
الأولى : وجود هذه الأكوان .
الثانية : عدم التصادم بين الكائنات .
الثالثة : النظام البديع لحركة وسير الكواكب والأفلاك ، قال تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( ).
الرابعة : استدامة وجود السموات والأرض وما فيهما من غير أن تخرج قيد أنملة عما عيّن الله عز وجل لها من الوظائف والمسارات .
وقد أثنى الله عز وجل على نفسه ، وقال سبحانه [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]( ).
من خصائص آية البحث مسائل :
الأولى : دعوة الناس للإيمان .
الثانية : التسمك بالتوحيد .
الثالثة : العصمة من مفاهيم الشرك.
فالله عز وجل هو الخالق ، ولم يترك خلقه وشأنهم إنما له المشيئة المطلقة في ملكه ، ولا يحد قدرته شئ فلابد أن تظهر وتستديم كلمة التوحيد ، وعبادة الله عز وجل في الأرض بلحاظ أن هذه العبادة علة للخلق ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
بحث بلاغي
من أفراد البديع (الإنسجام) وهو لغة السيل والدفع بانتظام ظاهر .
(وانسجم الماء والدمع فهو منسجم انصب ، وانسجم الكلام انتظم وهو مجاز وأسجمت السحابة دام مطرها)( ).
والمراد من إنسجام الكلام انتظامه وحسن سياقه ، وهو مجاز لإرادة التناسب والتناسق ، والإنتظام وخلوه من التعقيد والتكلف.
ومن إعجاز القرآن أنه مع وجود الفاصلة بين آياته فان الإنسجام بينها جلي فتكاد الكلمات تسيل سيلاً رقيقاً من غير أن تكون للفاصلة بين الآيات موضوعية في منع هذا الإنسجام والسيل.
وأي كلام يصدر من البشر يجعل بينه تواصل ، فانها تفصل بين معنى اللاحق للفاصلة عن السابق لها ، أو تكون هذه الفاصلة زائدة ولا حاجة لها.
ولم ينحصر الإعجاز في سياق الآيات بالإنسجام ، إنما يشمل ما هو أعظم وهو تعدد المسائل والقوانين المستنبطة من هذا السياق، والصلة بين آيات القرآن.
ولو جئت بآية من سورة البقرة مثلاً وآية من سورة أخرى وجعلتهما متجاورتين فهل يكون بينهما إنسجام أم الإنسجام في جهة واحدة ، دون الجهتين فمثلاً عندما تكون الآية التي من سورة البقرة هي الأولى ، يحصل إنسجام وانتظام ، أما إذا كانت الآية من سورة آل عمران هي الأولى فلا يقع إنسجام.
والمختار أن الإنسجام بينهما مطلق مثلما تتعدد المعاني والدلالات والقوانين المستخرجة من هذا الجمع ، وذات الإنسجام بينهما قانون وشاهد على إعجاز القرآن ، وعصمته من الزيادة والنقيصة ، وفي التنزيل [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( ).
ومن الإعجاز في إنسجام القرآن بلاغته القاهرة ، وسهولة حفظه ، وحضوره في الإحتجاج ، ولقد كان المسلمون الأوائل محتاجين لحفظ القرآن ، فجاءت السور المكية تتصف بالقصر وقلة الكلمات والإنسجام.
لما في هذا الحفظ من الحصانة من مفاهيم الشرك الذي يحيط بهم ووصل إلى البيت الحرام بنصب الأصنام فيه وجعل صنم في كل بيت .
ومن معاني حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الأوائل لآيات وسور القرآن الإحتجاج بها ، وهي من الأحسن في قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
ومن أسرار الإنسجام بين كلمات وآيات القرآن أنها سبب للهداية وتثبيت الإيمان في القلوب وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
وقد تجلى الإنسجام في آية البحث فبعد أن أخبرت عن الإطلاق في ملك الله تعالى ، وقانون ما من شئ في العوالم كلها إلا وهو ملك لله عز وجل ، أخبرت عن عظيم قدرة الله وأن كل الأشياء مستجيبة له.
نعم الإنسجام وفق نظم آيات القرآن أكثر إعجازاً ، وبياناً ودلالة ونفعاً متصلاً إلى يوم القيامة لذا كان جبرئيل عليه السلام حينما ينزل بالآية يقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضعها بين الآية الفلانية والآية الفلانية مما يدل على أن نظم القرآن توقيفي وهو ذاته إعجاز.
كما أن نظم ونسق كلمات الآية الواحدة إعجاز ، وكذا علم المناسبة والمقاربة والتداخل في المعنى والبلاغة وبين آيات القرآن ، وانتفاء التزاحم أو التعارض في كل من :
الأول : الخبر القرآني .
الثاني : أحكام الحلال والحرام .
الثالث : علوم الغيب .
الرابع : القصة القرآنية
وذكر اسم النبي موسى عليه السلام في القرآن مائة وستاً وثلاثين مرة في أربع وثلاثين سورة .
سورة البقرة وفي عدة آيات منها [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( )، وسورة آل عمران بذكره مع أسماء عدد من الأنبياء( ).
وسورة النساء ومنها [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
وسورة المائدة ، وسورة الأنعام ، وسورة الأعراف [وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وسورة يونس ، وسورة هود ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ]( ).
وسورة ابراهيم ، وسورة الإسراء ، وسورة الكهف [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا]( ).
وسورة مريم [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا]( ).
وسورة طه [وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى]( ).
وسورة الأنبياء وسورة الحج ، وسورة المؤمنون ، وسورة الفرقان ، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا]( ).
وسورة الشعراء قال تعالى [وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ]( )، لبيان أن الله عز وجل قادر على نجاة الشعب والأمة من الإرهاب والطغيان والغرور .
فعندما اشتد إضطهاد فرعون وملئه لبني إسرائيل ، وخشي موسى على نفسه وعلى أخيه هارون وعلى الملة وعقيدة التوحيد عزم على الخروج ببني اسرائيل بما يأمن به دينهم ، ويؤدون معه الصلاة وذكر الله مجتمعين من غير منع من الطاغوت.
وسورة النمل ، ورد فيها ذكر موسى عليه السلام مرة واحدة ، قال تعالى [إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ]( ).
وسورة القصص ، وسورة العنكبوت ، وسورة السجدة ، وسورة الأحزاب ، وسورة الصافات ، وسورة غافر ، ومن الإرهاب فعل فرعون كما ورد في التنزيل [وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ]( ).
وسورة فصلت ، وسورة الشورى ، وسورة الزخرف ، وسورة الأحقاف ، وسورة الذاريات ، وسورة النجم ، وسورة الصف ، وسورة النازعات بقوله تعالى [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى]( )، وسورة الأعلى [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( ).
صلح الحديبية من ملك الله
قال تعالى [أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] لبعث المسلمين على تعاهد التقوى ، والتسليم بأن ملك السموات والأرض لله وحده ، وأنه سبحانه قادر على قهر المشركين ودحض مفاهيم الضلالة ، وهو الذي تحقق بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فبعد معارك شديدة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين مشركي قريش وحلفائهم تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، ونزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
وهل صلح الحديبية من ملك الله ، الجواب نعم ، لأن الحوادث والوقائع من ملك الله عز وجل ، ولبيان قانون وهو وقائع وأحداث نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ونفع عام .
سواء في مقدمات الصلح أو في ذات الصلح وبنوده وزمانه ، وأثره ونفعه .
والله عز وجل هو الذي أراد وقوع هذا الصلح ، لذا أمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من المدينة وندب أصحابه لأداء مناسك العمرة ، فلم تتم هذه العمرة ، ولكن تم الصلح ليكون مفتاحاً لأداء المسلمين والمسلمات الحج كل عام وأداء العمرة كل يوم إلى يوم القيامة ، والفوز بالأجر والثواب العظيم .
فحينما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية وبركت ناقته على غير عادتها ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ قَالَ لِلنّاسِ انْزِلُوا ؛ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِالْوَادِي مَاءٌ نَنْزِلُ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ . فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ بِهِ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ . فَغَرّزَهُ فِي جَوْفِهِ فَجَاشَ بِالرّوّاءِ حَتّى ضَرَبَ النّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ) ( ).
لتكون معجزة تدفق الماء هذه مقدمة ليرضى المهاجرون والأنصار بصلح الحديبية ، وفيه بيان للطف الله عز وجل وتخفيفه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومنع الإختلاف بينهم.
فمن شروط الصلح رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الحديبية ، وعدم دخولهم مكة إلا في العام التالي ، وهو العام السابع للهجرة ، إذ سميت العمرة فيه عمرة القضاء .
فمن ملك الله عز وجل للسموات والأرض الذي تذكره آية البحث قطع أجيال المسلمين المسافة الى حج بيت الله وهو من المقدمات العقلية ، بأمن وسلامة من المشركين ، وأداؤهم الحج والعمرة خالصة لوجه الله ليس من أصنام في البيت الحرام ، ولا يقدر المشركون على تولي شؤون الحج والعناية بوفد الحاج إذ كانت ولايتهم قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولاية عرضية غير شرعية ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فنفى الله عز وجل ولايتهم للحرم ، وأخبر بأن منعهم المسلمين من أداء العمرة في الحديبية ظلم ، وليس لهم أن يمنعوا من شاءوا ، ويأذنوا لمن شاءوا ، ولأن الله عز وجل له ملك السموات والأرض فقد نصب بيته وسط الأرض ودعا الناس لحجه ، وأضفى عليه الحرمة والقدسية ومنه قوله تعالى في خطاب لإبراهيم [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، وفيه إعجاز ونوع تحد ورحمة بأن الناس سيتوافدون إلى البيت الحرام ، بقصد القربة إلى الله والقاصد والمقصود كلاهما من ملك الله .
قانون ترشح الرحمة من هذه الآية
لقد نزلت آية البحث [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، لتكون رحمة للناس وتأديباً ، وتعليماً وحجةً ، فمن خصائص الآية القرآنية أنها رحمة وهذه الرحمة على أقسام :
الأول : الرحمة للناس جميعاً ، فمن الإعجاز في وجود كلام الله عز وجل بين الناس الإنتفاع العام منه ، وهو لطف من الله ، وسب لصرف البلاء فلما أخبرت آية البحث بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل فان كلام الله من أسباب الأمن فيها وهذا الأمن من عظيم قدرة وسلطان الله.
الثاني : الرحمة للمسلمين والمسلمات من جهات :
الأولى : تلاوة الآية القرآنية .
الثانية : التدبر في الآية القرآنية .
الثالثة : الصدور عن الآية القرآنية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابعة : الآية القرآنية رحمة بالأموات ، لذا تضمنت آيات القرآن الثناء على الأنبياء وعلى المؤمنين من الأمم السابقة .
الخامسة : الرحمة للأجيال اللاحقة ، وتهيئة مقدمات ضبط عالم القول والفعل .
السادسة : الرحمة التي تصيب الفرد والجماعة .
وكل من شطري آية البحث سبيل ومقدمة للرحمة الخاصة والعامة ، ونوع طريق للرزق الكريم والنسبة بين الرحمة والرزق في المقام هو العموم والخصوص المطلق ، فالرزق فرع الرحمة من الله عز وجل .
وتتجلى الرحمة في آية البحث من جهتين :
الأولى : الجهة العامة : وهي التي تتعلق بصيغة القرآنية وهي على وجوه :
الأول : تلاوة الآية القرآنية ، فهذه التلاوة ترديد لكلام الله عز وجل .
الثاني : سبل الهداية المستقرأة من تلاوة الآية .
الثالث : قانون الآية القرآنية تبعث على العمل بمضامينها طوعاً وقهراً ، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات وسور من القرآن في الصلاة اليومية وجوباً عينياً.
و(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِينَا الأَعْرَابِىُّ وَالأَعْجَمِىُّ فَقَالَ : اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ وَسَيَجِىءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ)( ).
أي أنهم كانوا يقرأون القرآن والظاهر أنهم في المسجد النبوي في المدينة ، وهناك تباين في قراءتهم بين كل من :
الأول : قراءة القرشي.
الثاني : قراءة الأنصار وغيرهم ، وراوي الحديث هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري .
الثالث : قراءة الأعرابي بلهجته .
الرابع : قراءة الأعجمي وهو غير العربي ، وما قد يلحن فيه .
فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه القراءات حسنة وفيها الأجر والثواب ، وفيه شاهد على عدم خشية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علا سلامة القرآن من تعدد القراءات.
ثم أخبر عن أمر من علم الغيب بخصوص قراءة القرآن في آخر الزمان بقول (وَسَيَجِىءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ) والقدح هو السهم الذي يرمى به، (قبل أن يُراش ويُنصَل، وجمعُه قِداح)( ).
إذ يحسنون في أزمنة لاحقة من تابعي التابعين قواعد التلاوة ، والتجويد ، واعطاء كل حرف قرآني حقه من جهة اظهار كل حرف من مخرجه ، والمد والأدغام ، وحفظ اللسان عن اللحن والخطأ أثناء التلاوة ، ولكنهم يطلبون بهذه التلاوة والمحسنات اللفظية الدنيا والمال والجاه ، فيتعجلون الثواب والنفع في الدنيا بعرض زائل ، ولا يرجون بالتلاوة الأجر والثواب يوم القيامة الذي هو من اللامتناهي .
ويدل حديث جابر أعلاه ، على جواز قراءة القرآن مع اللحن غير المقصود ما دامت الغاية رجاء الثواب.
الرابع : قانون الآية القرآنية تهذيب للنفس ، وإصلاح للمجتمع.
الخامس : الأجر والثواب في قراءة الآية القرآنية .
ومن الإعجاز في آية البحث وضوح معانيها ، ودلالاتها ، وهي مع قلة كلماتها تتضمن قانونين من أمهات القوانين في الإرادة التكوينية ، وهما مجتمعين ومتفرقين رحمة عامة للناس ، وهما :
الأول : تخبر آية البحث عن قانون كل شئ هو ملك لله عز وجل ليس له سبحانه منازع ، لبيان إمتناع الشريك له في الملك ليترشح عنه حرمة الشرك ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
الثاني : قانون قدرة الله على كل شئ من الموجود والمعدوم .
ومن إعجاز القرآن انبساط مضامين آية البحث على معاني كل آية من القرآن في المفهوم والدلالة.
إذ يتعلق موضوع هذه الآية بآيات الرحمة والرزق والجزاء بالثواب الحسن أو العقاب ، لأنه من قدرة الله عز وجل الذي لا تستعصي عليه مسألة .
ولما قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، فانه علم بأن ملك السموات والأرض له سبحانه ، ويهب منه من غير أن ينقص وقد قدر الله عز وجل أرزاق الناس وكثرة أفراد استجابته لأدعيتهم قبل أن يخلق آدم ، قال تعالى [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
فمن إعجاز الآية أعلاه أن الله عز وجل جعل نصيباً وفضلاً كثيراً لأهل السؤال والدعاء وخصهم بالذكر قبل أن يخلقوا تشريفاً وإكراماً لهم .
الثانية : الجهة الخاصة : وهي الرحمة المستقرأة من آية البحث رسماً ولفظاً وموضوعاً وحكماً ودلالة ومفهوماً ، وأثراً متجدداً إلى يوم القيامة .
فيدرك معها الإنسان أنه عبد داخر لله عز وجل ، وهو وما يملك وما يتمنى ملك لله عز وجل ، والله عز وجل قادر على توالي وادامة النعم عليه ، وقادر على حجب هذه النعم عنه ، وفيه دعوة للجوء إلى الله تعالى ، والتحلي بالتقوى ، وسيأتي الجزء التالي وهو السادس والعشرون بعد المائتين في قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) وهو الجزء الرابع في هذا الخصوص.
قانون الصلة بين آية (اقرأ) والعلم الحديث
بعد أن بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سنّ الأربعين آتاه الله عز وجل النبوة وأنزل عليه آيات القرآن تباعاً ، وأول آية أنزلت عليه هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ] ( ) لبيان موضوعية العلم في نبوته ، وفيه شاهد على تجلي قانون صدق نزول القرآن كلما ارتقى العلم وأدواته التقنية كما في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة ، وهناك صلة وتناسب بين خلق القلم وبين ابتداء القرآن بذكره ، إذ ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (أول ما خلق الله القلم، فقال له (اكتب) فكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة) ( ).
والقرآن كلام الله المعجز للخلائق بلفظه ومعانيه ودلالاته ، والغايات الحميدة منه ، والمتعبد بتلاوته ، والمنقول لفظه ورسمه بالتواتر طبقة عن طبقة ، وهو المحصور بين دفتي المصحف من سورة الفاتحة إلى آخر سورة منه وهي سورة الناس .
ويمكن تقسيم نزول القرآن إلى مراحل :
الأولى : نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ ، قال تعالى [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ]( ).
ولم يرد لفظ [لَوْحٍ] و[مَحْفُوظٍ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، نعم ورد لفظ [مَحْفُوظًا] مرة واحدة في قوله تعالى [وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ] ( ) وكأن الصلة بين الآيتين تدل على أن القرآن سقف محفوظ لأفعال وأخلاق الناس .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لله لوحاً من زبرجدة خضراء جعله تحت العرش ، وكتب فيه : إني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت ثلاثمائة وبضعة عشر خلقاً ، من جاء بخلق منها مع شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة .
وأخرج عبد بن حميد في مسنده وأبو يعلى بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن بين يدي الرحمن تبارك وتعالى لوحاً فيه ثلاثمائة وخمس عشرة شريعة ، يقول الرحمن : وعزتي وجلالي لا يجيئني عبد من عبادي لا يشرك بي شيئاً فيه واحدة منكن إلا أدخلته الجنة) ( ).
في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التوحيد وموضوعيته كطريق مبارك إلى الجنة شاهد على صدق نبوته ، إذ أنه يخبر عن أحوال الأمم وأهل الملل وكفاية الإقرار بالتوحيد في النجاة من العذاب الأليم الذي أختتمت به الآية السابقة .
الثانية : نزول القرآن إلى السماء الدنيا ، كما في قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ] ( ) وقوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] ( ) ليشهد أهل السموات نزول القرآن ، وحلول أوان رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخاتمة للنبوات وإعانته وتعضيده .
الثالثة : نزول جبرئيل بآيات وسور القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجوماً ، ثم النزول لنصرته في معارك الدفاع ضد المشركين ، وهو من أسرار الإطراد العددي ومضاعفة أعداد الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
فمن إعجاز القرآن توثيق أعداد هؤلاء ، فمع كفاية ملك واحد من السماء لهزيمة المشركين في المعركة ولإبادتهم وهلاكهم جميعاً ، فان الله عز وجل أنزل آلاف الملائكة ولم يقوموا بقتلهم جميعاً ، إنما تم قتل أفراد منهم وأكثرهم بسيوف المسلمين وهم في حال الدفاع .
ولقد نزل ألف من الملائكة في معركة بدر التي وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ولم يأت نزول الملائكة إلا بعد أن استغاث واستجار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار بالله عز وجل وألحوا بالدعاء .
وبعد معركة بدر بثلاثة عشر شهراً كانت معركة أحد فنزل ثلاثة أضعاف عدد ملائكة معركة بدر ليتناسب عددهم على ذات المضاعفة في عدد المشركين ، فقد كان عددهم في معركة بدر ألف رجل ، ثم زحف ثلاثة آلاف منهم في معركة أحد ، ليشرفوا على المدينة بخيلهم وخيلائهم ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ) .
ولم تعهد يثرب هذا العدد في الجيش في ذلك الزمان ، إنما كانت تقع حروب بين الأوس والخزرج ، كما في حرب بُغاث التي سبقت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنوات ، ولو كانت تهجم عليهم الجيوش والغزاة لاتحدوا وتركوا الخلافات التي بينهم .
ثم جاء الوعد الإلهي الكريم بمدد للمسلمين بخمسة آلاف من الملائكة واستمرار زيادة الذين ينزلون منهم ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( )، وهناك مسائل :
الأولى : هل الآيات السابقة طريق للإصلاح.
الثانية : هل آية البحث سبيل هداية للإصلاح .
الثالثة : دلائل الجمع بين الآيتين أعلاه في مسالك ومناهج الصلاح .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، إذ أنها تبعث الناس على إظهار البشارات ، ولا ينحصر هذا الإظهار والدعوة إليه بالذين يرثون البشارات بل هي عامة ، ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا…]( ) وجوه :
الأول : يا أيها الناس لا تفرحوا باخفاء البشارات .
الثاني : يا أيها الناس أخرجوا البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : يا أيها الناس انقلوا وأذيعوا البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد ورد (عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نضر الله امرءا سمع منا حديثا ، فأداه كما سمعه ، فرب مبلغ أوعى من سامع)( ).
و(مُبلَغ) على البناء المجهول أي تلقى البلاغ من السامع أو بالواسطة فالذي يحمل البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير الذي ورثها ، وقد يحمل الفقه من هو ليس من العلماء والفقهاء ، ولكن يحفظه .
لذا ورد في الآية قبل السابقة (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) ( ) فجاءت الألف واللام في لفظ الناس على نحو العموم الإستغراقي لبيان البشارات بالنبوة وأحكام الحلال والحرام للناس جميعاً ليكون هذا البيان نوع عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها .
وقد يسمعها الكافر فيقوم بنقلها وتبليغها لمن حوله ، وقد ينقل الكافر الآية أعلاه إلى من عنده البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيخرجها ويعلنها أو تقوم عليه الحجة .
آيات الثمن القليل
الثمن هو العوض والبدل ، والمقابل المدفوع عن العين ، وقد ورد لفظ (ثمن) اثنتي عشرة مرة في القرآن أما لفظ [ثَمَنًا قَلِيلاً] فورد تسع مرات .
منها آية وردت في الثناء على شطر من أهل الكتاب ، قال تعالى [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
ومنها آيات الترغيب بتعاهد الميثاق وعدم التفريط به ، ومنها قوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ َلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]( ).
ومنها التنبيه والإنذار أو التوبيخ ، ومن آيات الإنذار والتحذير [فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً]( )، [وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن آيات الذم والتوبيخ آية البحث وقوله تعالى [اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
صرف السوء من ملك الله ومن عظيم قدرته
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا محلاً للإختبار وموطناً للإمتحان والإبتلاء ، ومناسبة للجزاء بالأحسن والأكثر أضعافاً مضاعفة لا يقدر على إحصائها إلا الله عز وجل .
وهل هذا الجزاء من فضل الله عز وجل على الإنسان لإختياره [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) والوعد الكريم بالثواب ، وقيام المؤمنين بواجبات ووظائف الخلافة.
الجواب نعم ، وهو أعم لتعلق الأمر بسعة رحمة الله بالخلائق كلها ، ومن موارد الإبتلاء في الدنيا تدافع الصالحات والسيئات نحو الإنسان ، تحاول كل واحدة منهما بالذات والواسطة جلبه إلى ناحيتها ، نعم الحسنات أسرع وأقرب ، ويقف إبليس وجنوده مع السيئات ، أما الصالحات فيمد الله عز وجل الناس بالعون واللطف للتقريب إليها وتقريبها منهم .
لذا فان النبوة والكتب السماوية من هذا اللطف ، ومنه صرف إبليس عن الذين آمنوا ، قال تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين نفي سلطان الشيطان عن المؤمنين وبين صرف السيئات ، المختار هو نسبة العموم والخصوص المطلق ، فصرف وابعاد الله عز وجل السيئات هو الأعم والأكثر .
لعدم إنحصار هذ الصرف بخصوص المؤمنين ولتعدده وكثرته ، وقد يفعل الإنسان المعصية وحينما يقدم على أخرى من جنسها أو غيرها يصرفه الله عز وجل عنها .
وقد تكون هذه النعمة مقدمة لهدايته ، وسبباً لتوبته ، ويصرف عنه الفرد الواحد من السيئة فينصرف عنها وعن غيرها من الفواحش ، وقد لا يلتفت الإنسان إلى أن صرف السيئة تم بفضل ومشيئة من عند الله عز وجل.
وهذا لا يمنع من توالي فضل الله عز وجل عليه بدفع السيئة عنه ، وقد يزيد الله عز وجل عليه بتقريب الصالحات وعملها إليه ، وتهيئة مقدماتها ، ويتجلى له قانون من جهات :
الأولى : قانون فعل الصالحات خير محض .
الثانية : قانون لا يترتب على فعل الصالحات ضرر على الذات والغير .
الثالثة : قانون الأجر والثواب على فعل الصالحات.
وعندما يأتي يوم القيامة يبين الله عز وجل للإنسان سعة فضله ورحمته عليه في بيان أفراد الصالحات التي قربها إليه وتأريخ ومناسبة كل فرد وإن بلغت الملايين.
مع الشهود من أهل الدنيا إن وجدوا ، وكذا شهادة الملائكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) وليس كل أفراد الصالحات التي يقربها الله عز وجل للعبد يعلم بها الملائكة ، وكذا بالنسبة لما يصرفه الله عز وجل عنه من السيئات من جهة الكثرة في العدد والنوع والأفراد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وسيأتي في الجزء التالي وهو السابع والعشرون بعد المائتين كيف أن الله عز وجل ينجي الأنبياء بالهجرة ، وحينما وفد موسى عليه السلام على شعيب في أرض مدين ، وقصّ عليه إرادة فرعون وجنوده قتله ، قال له شعيب [لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، لبيان مصداق من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وشواهد على ملك الله لكل الأرض والبلدان وعجز السلاطين والأمراء عن الإستحواذ على الناس , وإكراههم على الإنقياد لهم ، أو معاقبة كل خصم وعدو لهم ، وفي التنزيل [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
ثم ذكرت الآية قدرة الله على كل شيء لبيان أن الله عز وجل ينجي المؤمنين والمستضعفين عامة ، ويهلك الظالمين ، فلم يستمر ملك فرعون ولا نمرود ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
فمحو السوء وصرف البلاء عن الناس فرد جامع فهو من ملك وسلطان الله في الأرض ، ومن بديع وعظيم قدرته والدلالة على ضعف الطالب والمطلوب ، وفيه دعوة للدعاء .
قانون الآية ثناء على الله
هل يمكن القول بقانون وهو : تدل كل آية من القرآن من ثناء الله عز وجل على نفسه ، الجواب نعم ، فلا يقدر على الآية القرآنية رسماً ولفظ ومعنى ودلالة إلا الله عز وجل من جهات :
الأولى : نزول الآية من عند الله .
الثاني : صفة الآية بأنها كلام الله .
الثالثة : نزول الآية القرآنية من السماء بواسطة الملك جبرئيل ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ] ( ).
الرابعة : اختصاص نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : كل آية قرآنية رحمة متجددة كل يوم إلى يوم القيامة.
السادسة : عدم إختصاص الرحمة الإلهية في آيات القرآن بالذين آمنوا وصدّقوا بنزوله من عند الله ، بل هي رحمة عامة ، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
السابعة : عجز الخلائق عن الإتيان بالآية القرآنية من جهة مضامينها ودلالتها ، وإثارتها طريق الهداية ، والرشاد للناس ، وبعثها الناس التوكل على الله عز وجل ، قال تعالى [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ] ( ).
وأخبرت آية البحث عن الإطلاق في ملك الله عز وجل لكل شئ فلا يخرج من ملكه سبحانه شئ ، وأن قدرته تعالى ليس لها حد أو منتهى ، فلا يمتنع عنها شئ .
ومن ملك الله عز وجل قانون كل فرد ملك الله يثني عليه سبحانه ويشكره ، لقانون الملازمة بين ملك الله والثناء والحمد لله سبحانه ، وتسبح الأجزاء الصغيرة والكبيرة من ذات الشئ ، فذرات الرمل تسبح لله ، وذرات الجبال وقطرات البحار ، كما أن ذات الجبال والبحار تسبح لله عز وجل ، ليكون التسبيح على وجوه :
الأول : العموم الأفرادي ، فكل جزء من المخلوق يسبح لله عز وجل كالقطرة من ماء النهر ، والجزء اليسير من الكواكب والنجم في السماء .
الثاني : العموم الإستغراقي ، إذ تسبح أفراد وأجزاء الذات الواحدة وغيرها في آن واحد .
الثالث : العموم المجموعي ، إذ يسبح المخلوق من الإنس والجن والملائكة والجمادات كالشجر والبحر ، والرعد والمطر لله عز وجل ، وفي التنزيل [وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ] ( ).