المقدمــــــة
الحمد لله الذي هدى القلوب لعشق التنزيل ، وجعل النفوس تميل إلى القرآن طوعاً وانطباقاً ، وهو من أسباب الحجب التي أحاطت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل من معجزات القرآن الغيرية حفظ شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
وقد ورد قول بأن الهاء في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، أن الضمير الهاء في (له) أن المراد بالذكر يعود للقرآن ، وهو المشهور شهرة عظيمة ، ولا مانع من التعدد في المقصود ، ويمكن الإستدلال على حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من آيات أخرى .
وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى ومن وجوه الحفظ في المقام وجوه :
الأول : حفظ مجمل القرآن .
الثاني : كلمات القرآن .
الثالث : حروف القرآن .
الرابع : الفصل بين سور القرآن .
الخامس : الترتيب بين سور القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس من غير تبديل أو تغيير من أيام النزول إلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على حفظ الله عز وجل له ومصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
السادس : المنع من التأويل الخاطئ وأضراره .
السابع : حفظ القرآن في صدور الذين آمنوا رجالاً ونساءً ، وقد ورد لفظ (يا أيها الذين آمنوا) تسعاً وثمانين مرة لتشمل المسلمين والمسلمات فتحفظ المسلمة القرآن كما يحفظه الرجل.
وحفظ القرآن على مراتب اسناها حفظ القرآن كاملاً وجعل الإمام علي عليه السلام عطاء سنوياً لمن يحفظ القرآن.
و(عن أحمد بن سعيد قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : من دخل في الاسلام طائعا وقرأ القرآن ظاهرا فله في كل سنة مائتا دينار في بيت مال المسلمين، إن منع في الدنيا أخذها يوم القيامة وافية، أحوج ما يكون إليها)( ).
الثامن : من حفظ الله للقرآن أمره تعالى لكل مسلم ومسلمة بتلاوة القرآن في الصلاة سبع عشرة مرة ، ويمكن تسمية هذه التلاوة (قانون الحفظ اليومي للقرآن).
التاسع : الأجر والثواب في تلاوة الآية القرآنية ففي تلاوة كل حرف من القرآن عشر حسنات ، وعدد حروف القرآن عن مجاهد (هذا ما أحصينا من القرآن وهو ثلاثُمائِة ألفِ حرف وواحدٌ وعشرون ألفَ حَرْفٍ ومائَةٌ وثمانونَ حرفًا.
وقال الفضل، عن عطاء بن يسار: ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفًا وخمسة عشر حرفًا)( )، فيكون مجموع الحسنات عند ختم القرآن عشرة أضعاف العدد أعلاه.
وتتجدد الحسنات مع كل تلاوة لذات الحرف أو غيره ، ويزيد الله من فضله.
و(عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول ثلاث خلال غيبتهن عن عبادي لو رآهن رجل ما عمل سوء أبداً .
لو كشفت غطائي فرآني حتى استيقن ويعلم كيف أعمل بخلقي إذا أمتهم .
وقبضت السموات بيدي ، ثم قبضت الأرضين ، ثم قلت أنا الملك من ذا الذي له الملك دوني .
ثم أريهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير فيستيقنوا بها ، وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوا بها . ولكن عمداً غيبت عنهم ذلك لأعلم كيف يعملون ، وقد بينته لهم)( ).
لتزجر علوم الغيب ، وإدراك الإنسان عجزه عن درك كنهها ، ومعرفة أسرارها ، عن بث الخوف والرعب بين الناس ، ومن خصائص العمل الإرهابي الفردي في هذا الزمان شيوع خبره في مشارق الأرض ومغاربها مما يبعث الخوف بين الناس ، وتقترن بهذا الخوف النفرة من ذات العمل ، والجهة والطائفة التي ينتسب اليها التي يقوم بالعمل الإرهابي لبيان أن ضرر هذا الفعل عام وبليغ.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الرحمة والتراحم ، ومن أسماء الله الحسنى (الرحمن ، الرحيم) وهو سبحانه أرحم الراحمين لتتجلى مظاهر رحمته في كل شئ.
ومن مصاديق رحمة الله نزول القرآن ، وكل آية منه رحمة عامة للناس ، وخاصة للمؤمنين ، وفيها تنمية لملكة الرحمة في النفوس ، لتكون النسبة بين الآية القرآنية والإرهاب هو التضاد والتباين.
وقد جاءت السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن وهي المصدر الثاني للتشريع ، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ( )، لبيان الوظيفة الشرعية للمسلمين من وجوه :
الأول : نشر شآبيب الرحمة في ربوع الأرض.
الثاني : بعث الطمأنينة في نفوس الناس جميعا.
الثالث : إجتناب الظلم والإرهاب والتكفير والتفجيرات.
الرابع : التنزه عن إشاعة الكراهية.
ومن معاني قوله تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( )، لزوم التعاون بلطف وحكمة وإحسان وإنفاق لوجوه :
الأول : الوقاية من الإرهاب.
الثاني : إستئصال أسباب ، والتي من غيره ، ومن هو على خلاف معه .
الثالث : المنع من مقدمات الإرهاب .
الرابع : تثبيت مفاهيم الرأفة والتسامح.
الخامس : إشاعة فلسفة الحوار التي هي لغة هذا العصر لعموم وسائل الإتصال الإجتماعي والتقنية في البيانات والمعلومات الحديثة التي جعلت المسافات بين الناس شبه معدومة ، لتكون مناسبة لبيان الإشراقة اليومية المتجددة لحمل آيات القرآن لألوية السلام والود والأخلاق الحميدة ، ونبذ العنف والتعدي.
وقد صدرت بفيض من الله سبحانه عدة أجزاء من هذا التفسير بذات عنوان هذا الجزء وهو (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب)( ).
الحمد لله الذي أنزل القرآن لجذب الناس إلى مقامات الهدى ، وبعث الشوق في نفوسهم لأداء الفرائض والمسارعة في العمل الصالح ولينهلوا من رزقه ، وفضله العظيم وهو سبحانه على كل شئ قدير .
وقدر صدر الجزء السابق وهو (226) من التفسير خاصاً بتفسير الآية (189) من سورة آل عمران ، وكله قوانين ومسائل مستنبطة من ذات الآية الكريمة.
الحمد لله الذي أرسل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقوانين الرحمة والرأفة بعامة الناس ، ومنهاج الصلاح والوسط والإعتدال ، وهو ضد الإرهاب والعنف والتطرف ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( ).
ومن معاني الوسط الإعتدال والخصال الحسنة ، والصفات الحميدة البعيدة عن الإفراط والتفريط ، ومنها تبوء المسلمين لمراتب الشهادة على الناس ، وهو نوع تزكية وزعامة وريادة ، ويدل في مفهومه على قيام المسلم بالإصلاح بين الناس ، وعلى التنزه عن العنف والإرهاب.
وقد وردت نصوص جلية في السنة النبوية تبين حرمة قتل الكتابي والمعاهد مطلقاً ، الذي له عهد وعقد عند المسلمين .
و(عن أبي بكرة . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام ، وما من عبد يقتل نفساً معاهدة إلا حرم الله عليه الجنة ورائحتها أن يجدها .
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن ماجه والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً .
وطرأت أمور في المقام من جهات :
الأول : أنظمة المواطنة ، ولزوم تعاهدهاه ، فالناس فيها متساوون أمام القانون .
الثاني : الدستور والقوانين الوضعية ، ووجوب احترامها .
الثالث : شدة العقوبة على القتل العمد ، سواء في القرآن أو في قوانين هذا الزمان ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الرابع : إجماع الدول والشعوب على قبح الإرهاب ، ولزوم الإمتناع عنه ضد الناس مطلقاً.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إلا من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد خفر ذمة الله ولا يرح ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)( ).
ترى ما هي النسبة بين المعاهد وبين الذي تجمع المسلم معه المواطنة وفق التقسيمات الدولية الحديثة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالمواطنة أكبر وأعم ، ويلزم تعاهد قوانينها والصلات الإجتماعية والتعاون التي تترتب عليها .
لقد نزل القرآن بالصبر والزهد والأخلاق الحميدة ، وكل فرد منها واقية من الإرهاب ، ودعوة سماوية للعصمة منه ، والتنزه عن مقدماته ، وقال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
الحمد لله الذي أنزل القرآن بأحكام القضاء ، والحلال والحرام ، وبيّن قانوناً وهو كل فرد مكلف على نحو مستقل وأن الغير لايتحمل وزر عمله ، وإن كان ذرية له ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
وترفض الشعوب بالفطرة على اختلاف الإنتماء الديني والمذهبي الإرهاب سواء كفكر أو منهاج أو فعل ، ولا يرضون به ، وفي هذا الرفض دعوة للشباب للإبتعاد عنه ، وإجتنابه.
ومن خصائص زمان العولمة انتشار المسلمين في قارات الأرض ليذكروا الله ويقيموا الصلاة ويشكروا الله عز وجل على هذه النعمة ويحرصوا على الإمتناع عن الإرهاب وعن تصدير وبث الخوف بين الناس .
ويدل قوله تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( )، على إشاعة المعروف ومنه الإصلاح ، وتثبيت قواعد السلم والدعوة الى السلم ، ومن المنكر الإرهاب والعنف والتكفير ما يبعث النفرة في النفوس.
ومن إعجاز الآية أعلاه أن كل فرد من الخصال الأربعة التي ذكرتها يقرب المسلم من الناس ولا يبعث النفرة في نفوسهم منها ، وتدعو آيات القرآن إلى الخطاب المعتدل ، ولغة الترغيب والبعيد عن التعصب والتطرف .
وقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلّ حضور الدين وعقيدة التوحيد في منتديات عدد من الأمم والشعوب ، وسادت الأخلاق المذمومة ، والقتل والنهب وضعف ذكر الله ، فتفضل الله عز وجل بالقرآن معجزة عقلية تثبت قواعد السلام في الأرض إلى يوم القيامة .
لقد احيى القرآن معجزات الأنبياء الحسية باعطائها صبغة عقلية وهو من إعجاز القرآن الذاتي والغيري لتبقى هذه المعجزات حاضرة بين الناس إلى يوم القيامة ، وهي رسالة مودة وحب من المسلمين إلى النصارى واليهود والناس جميعاً ، ودعوة لسور الموجبة الكلية وهي كلمة التوحيد.
ويتضاد الإرهاب مع هذه الدعوة ، ويضرها كأنه عائق لها من جهات متعددة ، ومن مصاديق الإرهاب ترويع الآمنين وعامة الناس وهو محرم في كل الشرائع السماوية.
وقد يقترن الإرهاب بالمكر والإحتيال والخديعة والتدليس على الناس ، والغدر لأولياء النعمة ، وانكار الجميل.
ومن خصائص القرآن تنقيته للقلوب من أدران الخيانة ، والغيلة والخديعة وآفة الحسد والكذب لذا فان كل من آياته تحارب العادات المذمومة ، وتنهى عن الإرهاب والقتل بغير حق ، وترشح الترويع العام للناس بسبب العمل الفردي من الإرهاب ، وفيه ضرر عام يتنزه الإسلام عنه ، فيكون إجتناب الإرهاب الفردي والتنظيمي من مصاديق قاعدة (لاضرر ولا ضرار في الإسلام) وهذه القاعدة مستقرأة من الحديث النبوي.
ويدعو القرآن جميع المسلمين والمسلمات إلى العصمة من الإرهاب بمفهومه الشائع والمتعارف في هذا الزمان ، إذ تدعو كل آية من القرآن للتقوى والصبر والعدل والإعتدال والحلم والصفح والإحسان فعلاً وجزاء ، واللطف مع الناس والرفق بهم .
ومن الإعجاز في السنة النبوية وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحيوان والرفق به ليكون من باب الأولوية تعاهد حسن الصلات مع الناس .
ومن إعجاز القرآن وحضوره كسلاح ضد الإرهاب ، معرفة كل مسلم ومسلمة معرفة إجمالية لآيات القرآن التي تنهى عن الإرهاب وتدعو المسلم والناس جميعاً ليكونوا في منآى عن الإرهاب وليمتنعوا عن إيذاء الآخر والإضرار به من غير حق .
ومن هذه الآيات [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا]( )، وقال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( )، وقال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، وقال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
وقيل أن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ناسخة لأكثر من مائة آية من القرآن ، ولم يثبت هذا القول إنما موضوع الآية أعلاه ومحصور بأربعة أشهر مخصوصة بعد فتح مكة كما تقدم التفصيل .
ومن إعجاز القرآن أن آيات السلم تحصر وتقيد موضوع الآية أعلاه ، وتمنع من تعدي موضوعها إلى مابعد تلك الأشهر الأربعة.
ويتصف الفعل الإرهابي بأنه حدل( )، وغدر وخلاف مواثيق المواطنة والآداب العامة ، وفيها استعمال ومزاولة للعنف ضد الأبرياء والمدنيين والذين ليس عندهم سلاح مما يزيد في نشر الذعر بين الناس بما هو أعم من الرقعة الجغرافية التي يقع فيها الفعل الإرهابي.
ترى لماذا تزاول مجموعة ما الإرهاب ، الجواب لإرادة تحقيق غايات سياسية معينة ، ومطالب خاصة قد لا تتوافق مع المنهاج والنظام الدولي والمفاهيم العامة ، ولكن الإرهاب أضر بأصحابه ومقاصدهم أكثر من غيرهم .
وصحيح أن الفعل الإرهابي يحدث صدفة في المجتمع إلا أن الأنظمة والمجتمعات تتحد ضده وتصدر قوانين لا تخلو من التضييق والحيطة والخطر له .
ويدعو القرآن في كل يوم الناس للإبتعاد عن الإرهاب ، وهو من مصاديق عنوان هذا الكتاب إذ ينازع القرآن الإرهاب بالكلمة والحجة ويبشر الذين يبتعدون عنه بالأمن ، أما الذين يشيعون الرعب بين الناس ، ويقومون بالتفجيرات والتعدي على الآمنين فان القرآن يحذرهم وينذرهم ويزجرهم ويحارب القرآن الغلو والتطرف والبغي .
وجاء هذا الجزء من تفسيري للقرآن وهو السابع والعشرون بعد المائتين والحمد لله لبيان تنزه القرآن والسنة عن الإرهاب ، ودعوة كل منهما لإجتناب اتخاذ الفرد أو الجماعة المنظمة أو الدولة الإرهاب منهاجاً.
وأنزل الله عز وجل قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وهو شطر آية ليتضمن :
الأول : قانون النهي عن الإعتداء ، والنسبة بين الإعتداء والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالإعتداء أعم أي من باب الأولوية النهي عن الإرهاب .
الثاني : النهي عن أي صنف من أصناف الإعتداء الخاصة والعامة أمس واليوم وغداً ، فقد برزت فجأة ظاهرة الإرهاب في هذا الزمان ، وتمنع آيات القرآن من ولادة ضروب التعدي وإن حدث فان آيات التنزيل تحول دون نمائه وانتشاره.
والإرهاب إبتلاء وامتحان ، وليس هذا أوان تبادل التهم ، والقاء اللوم على مذهب أو ملة مخصوصة بل لابد من معالجته بالحكمة والعلم والبرهان.
وبيان براءة الإسلام والملل والديانات منه والإرهاب ليس سلّماً لتحقيق الغايات ، إنما هو نزول وترد وأذى ، ويجب ألا تكون الموالاة أو الممانعة سبباً للإحتقان والغدر وخطط الإرهاب.
لقد جعل الله عز وجل التوبة سبيل نجاة ، ومدخلاً للعفو وفتح الإنسان صفحة جديدة ، قال تعالى [وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا]( ).
الثالث : بيان قانون عام مصاحب للحياة الدنيا وهو بغض الله عز وجل للذين يعتدون على الناس ، لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وهل يحضر هذا القانون في الآخرة ، الجواب نعم ، ويكون حضوره يومئذ أكثر وضوحاً لأهل المحشر ، وأشد إيلاماً للمعتدين والذين مارسوا الإرهاب وسفكوا الدماء ، وأخافوا الأبرياء في دويرتهم أو غيرها ، وقد أمر الله عز وجل بالسلام والأمن في الأرض ، وجاء بهذا الأمر الأنبياء ، ونزلت به الكتب السماوية .
وقد اثنى الله عز وجل على المؤمنين بذكر بعض خصالهم الحميدة بقوله تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]( )، ومن معاني شهادة الزور هنا حضور مجالس الباطل واللهو وممالئة الإرهاب ، وتزيينه .
وجاء هنا الفعل يشهدون أي يحضرون ، كما يشمل النهي عن شهادة الزور .
ومن معاني [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ] إرادة المعاصي ومقدماتها ، ومنه الحديث والمناجاة التي تتضمن الحضّ على الإرهاب ، أو نصرته ، او تلميع صورته وستر ما فيه الضرر ، وحجب النهي المتعدد عنه.
والتروك من عالم الوجود ومنه تروك الإحرام في الحج مثل صيد الحيوان البري ، ومنها لبس المخيط للرجال ومنها الجدال وهو الخصومة المؤكدة لقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) ( )، فانصراف الناس عن فعل السيئات وعن الأمر القبيح أمر وجودي ، ويستلزم الإرادة والنة والعزم ، وفيه الأجر والثواب ، وهل ترك الإرهاب واجب أم مستحب ، الجواب هو الأول.
وفي التنزيل [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ) ( )، إذ أنقذ الله عز وجل الناس بالنبوة والتنزيل من براثن الوثنية ، التي كانت سائدة في مكة والجزيرة حينئذ ، وما تؤدي إليه من الخلود في النار.
فكان الإنسان الكافر يقترب في كل يوم يمر عليه من النار لشركه بالله ، وعبادته الوثن ، واتخاذه العصبية والحمية منهاجاً ، حتى إذا مات هوى في النار ، ليس عنده عمل صالح فعله بقصد القربة إلى الله يحجب عن الدخول فيها.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فصار طريق المؤمنين إلى الجنة سالكاً وفي التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وقد أدرك الصحابة بهذه النعمة ، نعمة السلامة من الإقتراب من النار والنجاة من الدخول فيها.
إذ ورد عن السائب بن يزيد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم ، فغضبت الأنصار فأتاهم فقال : يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناساً أتالفهم على الإِسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله قلوبهم الإِسلام.
يا معشر الأنصار ألم يمن الله عليكم بالإِيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله وأنصار رسوله؟ ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار.
ولو سلك الناس وادياً وسلكتم وادياً لسلكت واديكم . أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم والشاء والنعم والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا : رضينا . فقال : أجيبوني فيما قلت.
قالوا : يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور ، ووجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك ، ووجدتنا ضلالاً فهدانا الله بك . فرضينا بالله رباً ، وبالإِسلام ديناً ، وبمحمد نبياً.
فقال : أما والله لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت صدقتم ، لو قلت ألم تأتنا طريداً فآويناك ، ومكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وقبلنا ما رد الناس عليك ، لو قلتم هذا لصدقتم . قالوا : بل لله ورسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا)( ).
فقد شكر الأنصار الله عز وجل وشكروا رسوله على نعمة الخروج من ظلمة الكفر إلى نور الهداية ، وعلى النجاة من صيرورة الأجل بداية السقوط في العذاب ، ومنه عذاب القبر .
وعلى نعمة الهداية والعصمة من مفاهيم الضلالة ، وكما قال الله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، فان الشكر لله ورسوله عبادة وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب ومن الشكر لله عز وجل ورسوله إختيار المسلم أموراً :
الأول : إجتناب ترويع الناس على اختلاف مشاربهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفزع إنساناً ولا دابة.
الثاني : الإمتناع عن الإرهاب ، واستعمال السلاح الأبيض او السلاح الناري ضد الناس الآمنيين سواء في الأسواق أو المنتديات أو وسائط النقل أو غيرها.
الثالث : من الشكر لله عز وجل الدعوة إلى الهدى والإيمان بحسن الخلق والسجايا الحميدة ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، بيان حرمة الإرهاب في هذا الزمان وكل زمان .
فالآية أعلاه سلاح ينازل الإرهاب ويتغلب عليه ، وهي شاهد يومي متجدد على قانون هذا الجزء والأجزاء 222 ، 223 ، 224 السابقة وهو (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
لقد أخبر القرآن عن الصراع بين الإيمان والكفر ، ولم يخبر عن صراع ونزاع بين الحضارات ، مع أن الله عز وجل أنزله ليكون منهاجاً ووثيقة سماوية تنير طرق الهداية في كل زمان .
إذ يدعو القرآن إلى ثقافة السلام ، وتنشر آياته الأمن بين الناس ، وهو من أسرار قراءة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن ، والتي من معانيها تنمية ملكة التسامح عند المسلمين وغيرهم.
لذا تبدأ الصلاة بتكبيرة الإحرام ثم البسملة وسورة الفاتحة التي هي مناجاة بين المسلم وبين الله عز وجل ، وكلها دعاء ومسألة وتعظيم لمقام الربوبية ، لتكون عنوان التآخي بين الناس في ظلال العبودية لله عز وجل .
ويترشح منهاج السلام والتسامح عما أوصى به القرآن من الحكمة والتحلي بالصبر ، لذا ورد في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، لبيان قانون وهو تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين نبذ الإرهاب.
وحضور آيات القرآن اليومي لوجوب تلاوتها خمس مرات في اليوم ، على كل مسلم ومسلمة وجوباً عينياً ، لتجعل المسلم في عصمة من الإرهاب .
لقد اصبح الإرهاب ظاهرة عالمية بغيضة ليس بذاته إنما بواسطة ، وسيأتي في الجزء الثامن والعشرين بعد المائتين قانون (نهي القرآن والسنة النبوية المغتربين عن الإرهاب) صبغة العالمية للإعلام المرئي والمسموع في هذا الزمان ، ولابد من الإلتفات إلى الإرتقاء بالتعليم ، وتحسين مستويات المعيشة ، ولابد من اشاعة مفاهيم الإحسان والتراحم والتسامح ونشر المودة ومصاديق التكافل والتعاون ، وإعمار الأرض بالزراعات والتوزيع العادل للمياه ، وانشاء المصانع بما يساعد على تضييق البطالة بين الشباب ، والمنع من تأثير الأفكار السوداء عليهم.
وعن(أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)( ).
وهذا الحديث من جوامع الكلم ، وفيه دلالة على إمكان الإستغفار والإنابة عند ظهور علامات الساعة القريبة وهو لا يتعارض مع مجيئها فجأة.
وقد ورد ذكر هذه السرعة ومجرى الساعة بغتة بالنسبة للذين كفروا في عدد من آيات القرآن منها قوله تعالى [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ]( )،
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (قال عيسى عليه السلام لجبرئيل: متى قيام الساعة ، فانتفض جبرئيل انتفاضة اغمي عليه منها فلما أفاق قال: يا روح الله ما المسؤول أعلم بها من السائل، وله من في السماوات والارض لا تأتيكم إلا بغتة)( ).
وقد حض القرآن على العمل ، وعدم جعل أداء الفرائض سبباً للقعود ، إنما هو باعث لطلب الرزق ، فمع أن يوم الجمعة عطلة في هذا الزمان عند أغلب البلدان الإسلامية ، فقد جاء القرآن بطلب الرزق والسعي للكسب فيه ، لبيان الأولوية في الطلب في غيره من الأيام ، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
حرر في الخامس عشر من شهر صفر الخير 1443
23/9/2021
الإرهاب لغة واصطلاحاً
الإرهاب لغة مشتق من الفعل (أرهب).
ويقال (رَهِبْتُ الشَّيْءَ رُهْباً ورَهَباً ورَهْباً ورَهْبَةً: أي خِفْتَه، وأَرْهَبْتُ فلاناً. والرَّهْبَاءُ: اسْمٌ من الرَّهَب. والإرْهَابُ: الرَّدُّ، أرْهِبْ عنكَ الإبلَ: أي رُدَّها)( ).
(والإرْهَابُ بالكَسْرِ : الإِزعاجُ والإِخَافَةُ)( ).
وفيه شاهد بأن المعنى اللغوي للإرهاب متخلف عن المعنى الإصطلاحي للإرهاب في هذا الزمان ومفهومه ليس الذي يقع عليه أثر الإرهاب ، إنما المراد منه المعنى الأعم من وجوه :
الأول : الذي يقوم بالفعل الإرهابي .
الثاني : الفعل الإرهابي .
الثالث : الذين يقع عليهم الفعل الإرهابي.
الرابع : حال الفزع والخوف التي تعم الناس.
ولا يختص الإرهاب باخافة الآخرين ، إنما يشمل الجناية الخاصة التي تترشح عنها إخافة الآخرين ، فيقع فعل إرهابي في محل مخصوص أو سوق أو في مركبة في بلدة مخصوصة ولكن الخوف يشمل الكثير من الناس فيها وفي مدن أخرى قريبة وبعيدة عنها بسبب عالمية الإعلام ، والقبح الذاتي للفعل ، وإنكار الناس له.
وهناك تباين بين مادة (رَهَبَ) في القرآن وبين مفهوم الإرهاب في هذا الزمان ليكون من إعجاز القرآن أن دعوته للرهبة والخشية من الله من يوم نزوله من عند الله تحذير وإنذار من الإرهاب وإخافة الناس في هذا الزمان ، قال تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ) ، وسيأتي قانون التضاد بين الإرهاب و[وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ].
فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )، والجواب تدل هذه الآية على أمور :
الأول : حرمة الإرهاب.
الثاني : منع صدوره من المسلمين ومن الناس جميعاً.
الثالث : عدم الحاجة إلى الإرهاب .
الرابع : انتفاء النفع من الإرهاب .
الخامس : تأديب الناس للكف عن القتال والإقتتال ، وقد تقدم البيان.
لقد كان المشركون هم الذين يقومون بغزو المدينة والهجوم عليها لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة واستئصال الإسلام ، فأمر الله عز وجل النبي وأصحابه باعداد السلاح والخيل والمؤون للإستعداد للدفاع ضد المشركين للتعيين في قوله تعالى [عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
وبهذا الإستعداد يأمن المسلمون والناس من الإرهاب والعدوان ، ففيه دفاع عن أهل المدينة عامة ومنهم الصحابة والمنافقون واليهود وأموالهم وأعراضهم.
وورد في القرآن إرهاب سحرة فرعون للناس بقوله تعالى [فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ]( )، أي أخافوهم وبعثوا الرعب والفزع في نفوس الناس في مصر ، إذ أنهم القوا حبالاً وعصياً فاذا هي حيات تتحرك وتتقافز وقد ملأت الوادي ، وكانوا قد جعلوا العصي مجوفة ورقيقة بعد غطسها في الزيت ، ثم ملؤها بالزئبق الذي تمدد تحت حرارة الشمس .
(وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيراً موقرة بالحبال والعصي فلما ألقوها تحركت وملأت الوادي يركب بعضها بعضاً)( ).
كيف يكون نزاع القرآن مسلحاً
(ومن المجاز: أخذت إليّ الإبل سلاحها، وتسلحت بأسلحتها إذا سمنت في عينك وحسنت وطلع ذو السلاح وهو السماك الرامح)( ).
فاذا سمنت الإبل فقد تسلحت بسلاح.
والسماك الرامح نجم يطل على الأرض منتصف شهر آذار فيه اشعار بالإعتدال الربيعي وهو نجم براق يتلألأ ، ويختفي بريقه عند الصعود في كبد السماء ، إذ يصل إلى أعلى موضع من وسط السماء نحو الساعة الرابعة فجراً ، ويكون لمعانه أقل من لمعان النجم الشعري ، ونجم سهيل.
وتتضمن مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني ضوابط لإستعمال السلاح ، وتقيد استعمال أسلحة عديدة ، وتحظر أخرى ، ولا زالت هذه القواعد والأنظمة الدولية في بداياتها ، وقد يكون واقع النزاعات والحروب مبتعداً عنها ، ولا يلتفت إليها بينما جاء القرآن بالدعوة الفورية إلى الصلح ، ومعاقبة الذي يمتنع عن الصلح ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
وإذا كانت القعقعة : صوت السلاح ، فان التلاوة صوت القدس الذي يصدح بكلام الله ويدعو إلى محاربة المعاصي والظلم والفجور ، وينهى عن الإرهاب.
وقال ابن الرومي (فيمن يقتني السلاح ولا يدافع عن ماله به ولا يستعمله:
رأيتكم تبدون للحرب عدة … ولا يمنع الإسلاب منكم مقاتل
فأنتم كمثل النحل يشرع شوكة … ولا يمنع الخزاف ما هو حامل)( ).
وهل الرعب سلاح ، الجواب نعم ، قال تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
مما يدل على أن الرعب والخوف والفزع سلاح من عند الله عز وجل يلقيه في قلوب الذين كفروا ، وهناك مسائل :
الأولى : هل يختص هذا الرعب بالكفار الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال.
الثانية : هل هذا الرعب سلاح .
الثالثة : كيف يكون القاء الرعب هذا.
الرابعة : هل من معاني سلاح الرعب آيات القرآن.
أما المسألة الأولى فالجواب لا ، ومن الإعجاز الذاتي في الآية أعلاه بيانها لعلة إلقاء الرعب في قلوب الكفار بأنهم اتخذوا الشريك لله عز وجل.
وهذا الإتخاذ ليس بالإكراه من قبل الرؤساء أو حدث سهواً وغفلة إنما كان عن إدراك منهم ، وليس من حصر للشواهد التي تدل على هذا الأدراك الخاص والعام ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ومن الشواهد نزول آيات القرآن ، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، وهل منها نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)( )، الجواب نعم ، لبيان التضاد بين الفلاح ونفاذ الرعب إلى القلوب.
وأما المسألة الثانية فان الرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا سلاح لمنعهم من مواصلة الهجوم والإستمرار في القتال ، كما أن النعاس الذي يلقيه الله عز وجل في قلوب الذين آمنوا في الميدان أمن وسكينة وتخفيف .
و(عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد ، حدث أنه كان ممن غشيه النعاس يومئذ ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، وسقط وآخذه . فذلك قوله [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]( )، والطائفة الأخرى؛ المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه وأخذ له للحق ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كذبهم إنما هم أهل شك وريبة في الله)( ).
وجاءت السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن ، فقد نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرعب والقاء الخوف في قلوب أعدائه سواء الذين يقاتلونه أو الذين يهمون بقتاله ، إذ ورد (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيتُ خمساً ولا أقول فخراً : بُعثت إلى الأحمر والأسود ، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأُحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي ، ونُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر.
وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمتي يوم القيامة ، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئاً)( ).
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، وبين الحديث أعلاه .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، إذ يأتي الرعب من عند الله عز وجل بوسائل وأسباب متعددة ، كما أنه أعم في موضوعه وزمانه ، وسابق ومصاحب لبعثة النبي محمد ومتأخر عنها.
وأما المسألة الثالثة فان صيغ وكيفية الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الكفار كثيرة ومتعددة ، ومنها مستقرة ، ومنها عرضية زائلة ولا تستعصي على الله عز وجل مسألة .
وقد تقدم في الجزء السابق من التفسير بيان شذرات من تفسير قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتارة يأتي الرعب إلى الكافر على نحو دفعي ومرة واحدة ، وتارة يأتي على نحو التدريج ، وقد ترى الرعب على أي واحد منهم مختلفاً من الآخر في الكم والكيف والمدة ، وكما أن هناك أفراداً من الرعب على نحو القضية الشخصية ، فان هناك أفراداً من الرعب العام عند الكفار في الموضوع والأثر.
وأما المسألة الرابعة فقد أراد الله عز وجل للقلوب أن تكون عوناً للنبوة ، وجعل آيات التنزيل تنفذ إليها ، لبعث الأمن لأهل الإيمان ، والفزع للمشركين الذين يعبدون الأوثان ، ويحاربون الرسول ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان.
فنزول آيات القرآن وتلاوتها مناسبة لالقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ليتجلى قانون وهو الآية القرآنية سلاح للرعب في قلوب الكفار الذين يحاربون النبوة ، وهل كان لآيات القرآن موضوعية في نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم معركة بدر ، إذ قال الله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الجواب نعم ، فلقد كانت آيات القرآن حرباً على الشرك والتعدي ، وهو من الإعجاز في نزول أكثر سور القرآن في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، واتصاف هذه السور بالقُصر ، والبشارة والإنذار ، البشارة للذين آمنوا ، والإنذار للذين كفروا .
ولما احتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، لم يترك الله عز وجل تساءلهم يذهب سدى ، ولم يؤاخذهم عليه وهو سبحانه يعلم أنهم لا يعصونه في أمر ، ولا يقصدون إلا طاعته والتسليم ببديع قدرته ، إنما أخبرهم بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ليترقب الملائكة وجود الإنسان في الأرض ، وأفعال الناس على نحو يومي ، فيتفضل الله عز وجل ويرزق آدم مرتبة النبوة ، فلم يهبط إلى الأرض إلا بعد أن قضى وحواء برهة من الزمن مع الملائكة في الجنة .
وأدرك الملائكة إتصافه بالعقل ، وعمارة الإنسان الأرض بالذكر والصلاة والدعاء وغلبة العقل على الشهوة ، والتضاد بينه وبين الفساد والإضرار بالغير .
وتفضل الله سبحانه بنزول الكتب السماوية ، وما تتضمنه من تعاون الناس في الخيرات ، وفي الإنصراف العام عن الإرهاب ، ولا عبرة بالقليل النادر من الأفراد الذين يتجهون صوب الفعل الإرهابي ، ويبثون الرعب في المجتمعات ، ففعلهم هذا الى زوال ، لمخالفته للقرآن والسنة والعقل والقوانين.
قانون زجر البشارة والإنذار عن الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البشارة والإنذار ، البشارة بالجنة ونعيمها ، والإنذار من عذاب النار ، قال تعالى [أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ]( ).
وليس من نبي إلا وجاء بهذه البشارة والإنذار واجتهد في تبليغ قوانين البشارة والإنذار بين الناس ، لينزل القرآن بأمور في المقام :
الأول : تثبيت قوانين البشارة والإنذار في الأرض.
الثاني : قانون سلامة قوانين البشارة والإنذار من التحريف .
الثالث : قانون وجود أمة في كل زمان تسعى للفوز بالبشارة بالجنة ، والنجاة من عذاب النار .
لقد جعل القرآن المسلم يتساءل هل فعله هذا يقوده إلى رضا الله أم إلى سخطه ، وهل يترتب عليه الثواب أم العقاب ، ومن بديع خلق الإنسان إدراكه أن القيام بالأعمال الإرهابية برزخ دون الإنتفاع من آيات البشارة.
وهل تبتعد البشارات عن الإنسان إن أسرف على نفسه ، الجواب لا ، وهو من الإعجاز في تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن يومياً في الصلاة ، وقيل نزل قوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ]( )، في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس( ).
ومن خصائص الآية القرآنية بشارتها بالجنة من جهات :
الأولى : منطوق الآية بأن تأتي البشارة صريحة في الآية ، وهذه البشارة على قسمين :
أولاً : البشارة الصريحة والنص بذكر الجنة ، والنجاة من النار ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
ثانياً : البشارة على نحو الإجمال ومنه قوله تعالى [وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( )، [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ]( ).
و(عن أبي ذر قال : خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال : من هذا .
فقلت : أبو ذر ، جعلني الله فداك. قال : يا أبا ذر، تعال .
قال : فمشيت معه ساعة فقال : إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله، وبين يديه وورائه، وعمل فيه خيرا.
قال : فمشيت معه ساعة فقال لي : اجلس هاهنا ، قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي : اجلس هاهنا حتى أرجع إليك .
قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل، وهو يقول: “وإن سرق وإن زنى”. قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله، جعلني الله فداءك، من تكلم في جانب الحرة ، ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا.
قال : ذاك جبريل، عرض لي من جانب الحرة فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.
قلت : يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم قلت: وإن سرق وإن زنى .
قال : نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر)( ).
الثانية : مفهوم الآية ، ومنه آيات الإنذار والخسران والخزي والندامة بسبب الشرك والضلالة وقبح الفعل ، وفيه آيات كثيرة ، منها [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ) ، ومنها [وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الثالثة : القرآن كلام الله ، وجعل الله عز وجل في تلاوة آياته ثواباً عظيماً ، وهذا الثواب في الدنيا والآخرة ، ويحجب العمل الإرهابي عن صاحبه الإنتفاع من بشارات الجنة .
وهل من إعجاز القرآن زجر هذه البشارات الناس عن الظلم والإرهاب ، الجواب نعم .
ولا يعلم منافع آيات البشارة بتنزيه الأرض من الإرهاب إلا الله عز وجل ، فهذه الآيات واقية من الإرهاب ، ودعوة يومية متجددة للإمتناع عنه وللصبر على الأذى.
صبر آل ياسر دعوة للتنزه عن الإرهاب
لقد تلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ظلم قريش لهم بالصبر والحلم والإعراض عنهم ولم يلجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العنف ، ولم يأمر بالرد بالمثل.
ولم يطلب من أصحابه اغتيال أبي جهل مثلاً ثأراً لسمية بنت خياط أم عمار بن ياسر التي قتلها أبو جهل تحت التعذيب .
إنما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشكو بثه وحزنه إلى الله عز وجل ، ويمر على آل ياسر فيدعوهم إلى الصبر ويبشرهم بالجنة ، ومن الشواهد على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام محض ، عدم دعوته إلى القتال ، ولم يدع إلى مواجهة كفار قريش بالغلظة بالقول والذم والتوبيخ إنما كان يدعو الذي يلاقون التعذيب إلى الصبر .
(وروى البلاذري عن أم هانئ أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله ابن ياسر وسمية بن عمار كانوا يعذبون في الله فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
فمات ياسر في العذاب وأغلظت سمية لأبي جهل فطعنها في قلبها فماتت، ورمي عبد الله فسقط)( ).
ومن معاني كلمة (صبراً آل ياسر) اجتنبوا رد الإرهاب بمثله ، وإن جزاءكم هو الجنة ، ولم يبشرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح لأن أكثرهم مات تحت التعذيب وهو من الإعجاز في السنة النبوية القولية .
ولم ينحصر تعذيب قريش بآل ياسر إنما شمل عدداً من الصحابة المستضعفين منه بلال ، وصهيب ، وخباب ، وحتى الذين كانت لهم عشائر وبيوتات في مكة لم يسلموا من التعذيب والتضييق والتوبيخ والحضّ على ترك الإسلام ، وعلى الإمتناع عن الإتصال بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يلاقوا هذا الأذى إلا بالصبر ، ولم يترشح عن صبر أهل الإيمان إلا الفرج والفتح .
وياسر هو (ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس بن حصين العنسي ثم المذحجي)( ).
ومنهم من يسميه ياسر بن عامر بن مالك فلا يسقط عامراً .
وقد تقع حوادث شخصية عابرة ولكنها تكون علامة مضيئة أو ندبة سوداء في التأريخ .
ومن الأولى أي المضيئة مجئ ياسر أبي عمار الى مكة بقصد عرضي إذ قدم اليها هو وأخوان له هما :
الأول : الحارث بن عامر .
الثاني : مالك بن عامر .
وتسميته مالكاً شاهد على أن مالكاً هو جده وليس أباه على الأرجح ، ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بمقابلة الإرهاب بالصبر ، مع أنه صاحب الحق ومبعوث من عند الله عز وجل ، ومؤيد بالوحي .
وقد يظن كثير من الناس أن الصبر وعدم الرد بالمثل على الإرهاب ضعف وجُبن ولكنه منعة واحتجاج خاصة وأنه لم يكن بمفرده إنما كان السلاح لمواجهة الإرهاب هو التنزيل وآيات القرآن التي تبين للكفار صبغة القبح التي يتصف بها عملهم ، وتدعوهم إلى كف أيديهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، فلم يتعظوا حتى تم صلح الحديبية وكان بداية لإنقراض سلطانهم ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
قانون هجرة الحبشة فرار من الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الأنبياء أسوة وأئمة للمؤمنين ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هجرة رهط من أهل بيته وأصحابه إلى الحبشة وهو لا يزال في مكة ، وليس أشق على الإنسان في كل زمان ، وفي تلك الأزمنة خاصة وصبغة القبلية والمناطقية فيها من الهجرة عن الديار ، وحال السلب والنهب في الطرق العامة ، والإغتراب في الأمصار البعيدة ، وبجوار أهل ملة أخرى .
وكان ذات السفر والترحال خطراً شديداً وسبباً للتعرض للمهالك ، لقد فرّ هؤلاء الصحابة من إرهاب وبطش قريش لينعم الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالفتح وسيادة الإسلام ليكون من شكرهم لله عز وجل التنزه عن الإرهاب وإجتنابه سواء على نحو القضية الشخصية أو النوعية .
لقد كانت هجرة الصحابة إلى الحبشة قبل حصار قريش لبني هاشم مما يدل على الحكمة في اختيار الهجرة والتي لم تتم إلا بالوحي من عند الله عز وجل .
فلقد كثر عدد المسلمين في مكة ، وصاروا يؤدون الصلاة ويتلون القرآن ، فأخذت قريش تؤذيهم فاختاروا الخروج في النهار إلى بطحاء مكة على نحو الحلقات لتدارس آيات القرآن التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظها ، وإقامة الصلاة الواجبة والمستحبة ، فكانت قريش تلاحقهم وتطاردهم ، وتناجى رؤساء قريش بالتضييق عليهم.
واختاروا التوحيد فصار كفار قريش يؤذونهم بأبدانهم وعقيدتهم والسخرية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، (كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والاهانة البالغة)( ).
ولم ينحصر هذا بالمستضعفين من المسلمين كالموالي مثل آل ياسر ، والعبيد مثل بلال بن رباح ، إنما كان عاماً ، إذ تولت بيوتات قريش تعذيب وسجن ابناءها الذين دخلوا الإسلام .
ومن الإعجاز المتجدد في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بُعث في بلدة مكة وكان أهلها كفاراً يشركون بالله ، يجمعون بين التسليم بأن البيت الحرام هو بيت الله الذي بناه إبراهيم عليه السلام ، وقريش من ذريته ، وبين عبادة الوثن وإرتكاب المعاصي ، والإمتناع عن أداء الفرائض العبادية .
لتمر الأيام فيتوجه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها خمس مرات في اليوم نحو البيت الحرام في صلاتهم ، وليس من نبي نال هذه المعجزة ، قال تعالى [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
فتلقى الملأ منهم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصدود والإعراض ولكن طائفة من أهل البيت وأهل مكة تدبروا في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأدركوا وجوب التسليم بها ، فاختاروا الإسلام ونطقوا بالشهادتين.
ولما صار عددهم في إزدياد ، وتوالى نزول آيات القرآن ، وانتشر خبر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أرجاء مكة وعند القبائل ، ومن يأتي إلى مكة منهم يرجع إلى أهله بتحفة آيات من القرآن تعلن عن نفسها بأنها فوق كلام البشر ، وأنها إشراقة عقائدية تنفذ إلى شغاف القلوب طوعاً وقهراً وانطباقاً.
فقابل رجالات قريش هذا الإختيار بالإرهاب والعنف ، ومن سنن الحياة الدنيا أن الظلم والإرهاب لا يوقف عجلة التأريخ ، والتغيير والإصلاح الذي يريده الله عز وجل ، إنما يكون سبباً للحوق الإثم بالذين يقومون بالفعل الإرهابي ويؤازرونه مع قريش وتعجيل العذاب للظالمين ، قال تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أصحابه مع كونهم حديثي عهد بالآيات فانهم لم يغادروا منازل الإيمان مع شدة تعذيب قريش لهم فصبروا على التعذيب.
واختارت طائفة منهم الهجرة وعجلوا من غير توان للحفاظ على العقيدة وعلى أشخاصهم ، ولولادة ذرية ترث الإسلام بعيداً عن جور وظلم وإرهاب الكفار.
وفيه دعوة لأجيال المسلمين لإجتناب العنف والبطش والإرهاب فمن شكرهم لله عز وجل التنزه عن الإرهاب لمنافاته للمبادئ والأحكام التي نزل بها القرآن ، وللشريعة السمحاء التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن سننها بعث النفرة في النفوس من الإرهاب.
لقد اتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بالأخلاق الحميدة واللطف والود مع الناس ، وإظهار أسمى مراتب الصبر ، وتحمل الأذى ، قال تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
ولم يرد لفظ (فظاً) ولفظ (غليظ القلب) ولفظ (عزمت) ولفظ (شاورهم) في القرآن إلا في الآية أعلاه وبصيغة النفي ثم الإيمان والأمر لبيان قانون وهو من خصال الأنبياء العصمة من الجفاء وشدة الخلق والغلظة في المعاملة .
وتدل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفظاظة وغلظة القلب بالأولوية القطعية على حرمة الإرهاب وسفك الدماء ، وإختيار الهجرة من مصاديق هذه السلامة التي يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتبعه فيها أهل بيته وأصحابه .
لقد اشتد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع توالي نزول آيات القرآن وما فيها من الذم لعبادة الأوثان ، والوعيد بالنار للذين كفروا ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ]( ).
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أصحابه بالهجرة مع تعيين وجهتهم وهي الحبشة وعلة اختيارها إذ (قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا، فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ)( ).
لبيان ضرورة الأمن من الإرهاب ، ويبين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه الملازمة بين العدل والسلامة من الإرهاب والظلم والتعدي ، ليكون المؤمن في شخصه وذاته عادلاً وان لم يتول الحكم والفتوى ، وتكون عدالته بانصاف الناس ، والإمتناع عن الإضرار بهم ، سواء الضرر الشخصي او النوعي .
وهل من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يُظلم عنده أحد) أن الإرهاب ظلم للغير ، الجواب نعم ، لذا كانت قريش ظالمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، مما اضطرهم للهجرة إلى الحبشة فهذه الهجرة فرار من إرهاب قريش الذي كان على وجوه :
الأول : إرهاب أهل الحل والعقد ، إذ كانت السطوة في مكة لرجالات قريش ، وكأنهم يتقاسمون السلطة فكانوا يجتمعون لتبادل الرأي ، وإتخاذ القرارات في دار الندوة التي بناها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تضييق وإيذاء العشيرة لأبنائها الذين دخلوا الإسلام ، والقيام ، بسجنهم وتقييد بعضهم بالسلاسل ، لذا فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المبادرة بالتعجيل بهجرة رهط من أصحابه إلى الحبشة ، قبل أن تظهر معهم قريش أشد ضروب الإرهاب .
الثالث : حينما علمت قريش بمغادرة عدد من الصحابة مكة متوجهين بالسر وخفية إلى الحبشة أرسلت الخيل في طلبهم ، وإعادتهم قهراً إلى مكة بينما كان الصحابة (منهم الراكب ومنهم الماشي) ( )، أي تلزمهم من المدة لقطع المسافة بين مكة وميناء الشعيبة على البحر الأحمر أضعاف ما تحتاج إليه خيل المشركين.
وأبى الله عز وجل إلا نجاتهم ، وسيرهم في طريق الهجرة ووصولهم إلى الحبشة ، لبيان قانون وهو عدم تحقق الغايات من الإرهاب ، إنما هو ضرر محض.
وكانت هجرتهم في رجب سنة خمس من البعثة النبوية أي كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً ، وكذا خديجة أم المؤمنين ، ولا يعني هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مأمن من أذى قريش وإن كان أبو طالب يدفع ويذب عنه ويفتديه بابنائه ، إنما شمل إرهاب قريش أبا طالب نفسه وأهل بيته ، ليتجلى قانون وهو عدم إضرار الإرهاب بالإيمان ومنازله بين الناس .
وحالما وصل الصحابة إلى ميناء الشعيبة وجدوا سفينتين للتجار تريدان الإبحار إلى الحبشة (حملوهم فيهما بنصف دينار وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا)( ).
ويبعد ميناء الشعيبة عن مكة (90) كم ، وكان هو ميناء أهل مكة قبل أن يتم التحول الى ميناء جدة أيام عثمان بن عفان وفق بعض الأخبار ، والظاهر أن النصف دينار أجرة نقل كل واحد منهم.
واختلف في عدد أول من هاجر الى الحبشة على أقوال :
الأول : اثنا عشر رجلاً وامرأتان .
الثاني : عشرة رجال .
الثالث : اثنا عشر رجلاً وثلاث نسوة .
الرابع : اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة ، قاله ابن كثير( ).
الخامس : اثنا عشر رجلاً وخمس نسوة( ).
وهجرة الصحابة إلى الحبشة من مصاديق قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( )، فلم يجهز نصارى الحبشة على المسلمين الأوائل ، ويمنعون ظهور الإسلام ، بل تركوهم يقيمون الصلاة ويتلون القرآن في بلادهم.
لتكون هذه الهجرة مقدمة لهجرة النبي محمد إلى المدينة ، وبداية لإنتشار الإسلام في ربوع الأرض بأمن وسلام ، وفيها شاهد على الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتنزهه والمسلمين عن الإرهاب من جهات :
الأولى : الإعراض عن إرهاب قريش بالخروج من مكة ، وهي أعز البلدان لأهلها في كل زمان وحتى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج من مكة متوجهاً إلى المدينة مهاجراً (وَقَفَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ ( )، وَنَظَرَ إلَى الْبَيْتِ فَقَالَ ” وَاَللّهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَيّ وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت)( ).
الثانية : بيان قانون متجدد في التأريخ وهو إعراض المؤمنين عن الإرهاب ، وفيه النجاة منه .
الثالثة : قانون عدم رد المؤمنين الإرهاب بمثله ، بل يقدم الأولى وهو الحفاظ على الإيمان والنفوس ، ولم تمر السنوات حتى أزاح الله عز وجل سلطان الكفار عن مكة ويتم فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها من غير قتال يذكر.
وهل كان عدد من المهاجرين الأوائل الاثني عشر والنساء اللاتي معهم ، ممن حضر فتح مكة فيما بعد.
الجواب نعم ، ومنهم :
الأول : أم سلمة وقد نالت صفة أم المؤمنين بزواجها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : عثمان بن عفان .
الثالث : عبد الرحمن بن عوف.
الرابع : الزبير بن العوام.
الخامس : عبد الله بن مسعود الهذلي.
السادس : أبو حذيفة بن عتبة .
السابع : سهيل بن بيضاء الذي (مات بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد)( )، أي بعد فتح مكة .
الثامن : حاطب بن عمرو القرشي ثم العامري وهو أخو سهيل بن عمرو ، و(كان حاطب من السابقين ويقال إنه أول مهاجر إلى الحبشة ، وبه جزم الزهري واتفقوا على أنه ممن شهد بدرا وقيل إنه آخر من خرج إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب)( ).
التاسع : قدم السكران بن عمرو من أرض الحبشة.
العاشر : امرأته سودة بنت زمعة ، وتوفى عنها في مكة ، ولما خرجت من العدة خطبها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فقالت: أمري إليك يا رسول الله فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مري رجلا من قومك يزوجك. فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود فزوجها فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد خديجة)( ).
وكان هذا في السنة العاشرة للبعثة النبوية قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا (قالوا: وهاجر حاطب بن عمرو إلى أرض الحبشة في الهجرتين جميعا) ( ).
ولا تعرف لحاطب بن عمرو رواية ، وذكر أنه حضر معركة بدر وأحد ، ولم يثبت أنه حضر فتح مكة .
لقد كانت هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة حرباً على الإرهاب بالإعراض عن أربابه من رجالات قريش ولم تتم هذه الهجرة إلا بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن هذا الإعراض من الوحي ، وأنه درس وموعظة للمسلمين للإبتعاد عن مواطن الإرهاب ، وفي هذا الإبتعاد سلامة ونجاة في البدن والعقيدة.
ترى ماذا لو استمرت إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ودخل أفواج من الناس في الإسلام هل يأمرهم بالهجرة إلى الحبشة أو غيرها ، أم يبقون معه في مكة حتى الإجهاز على الذين كفروا لموضوعية كثرة عدد المسلمين .
المختار هو الأمر لهم بالهجرة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد رفع السيف في وجه أهل مكة أو غيرهم إنما كان يرفع لواء القرآن والسلام ويتلو الآية القرآنية في كل من :
الأول : البيت الحرام .
الثاني : أداء الصلاة في وقتها ، سواء في البيت الحرام أو خارجه.
الثالث : دار الندوة .
الرابع : محافل قريش .
الخامس : منتديات أهل مكة .
السادس : زيارة رجال قريش في بيوتهم .
السابع : المناسبات الإجتماعية .
الثامن : موسم الحج ، ومنازل وفود الحجاج في منى .
التاسع : أسواق مكة الدائمية والموسمية ، وأيهما أكثر نفعاً في نشر الدعوة ، المختار هو الأسواق الموسمية مثل سوق عكاظ والمجنة وذي المجاز.
كما كان أهل البيت والصحابة الأوائل يتلون آيات القرآن ويتدارسونها وهم يلاقون أشد الأذى من قريش في مكة قبل الهجرة ، مما يدل على قانون تأسيس الإسلام للسلام.
قانون التباين بين الإعتدال والإرهاب
الإعتدال لغة الإستقرار والإستقامة وضد الإعوجاج ، ويقال (وغصنٌ معتدلٌ: مُسْتَوٍ. وجارية حسنة الاعتدال، أي : حسنة القامة. والانعدال: الانعراج. قال ذو الرّمة :
وإنّي لأنْحي الطَّرْفَ من نَحْوِ غَيْرِها…حياءً ولو طاوعْتُهُ لم يُعادِل
أي : لم ينعدل)( ).
أما الإعتدال في الإصطلاح فهو منهاج الإستقامة والوسط بين الإفراط والتفريط والإبتعاد عن الغلو والمغالاة ، وقد ورد قوله تعالى في نداء وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ]( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على سلامة مبادئ الإسلام والمسلمين من الغلو ، وتحذير المسلمين منه ، وأن الغلو في الدين غير صحيح ، ويلحق بالغلو التطرف ، والإمتناع عن السماحة والموادعة والصلح .
ويدرك الإنسان منافع منهج الوسط في بدنه ومنطقه وفعله إذ يتضرر جسم الإنسان إذا تعدى الوسط في الأكل والشرب والنوم ، وكذا تعتل صحته إذ انتقص بصورة حادة.
وقد جعل الله عز وجل حدوداً وضوابط لسنخية الإعمال ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]( )، لبيان التقيد بالأحكام وعدم تجاوزها أو العزوف عنها.
ومن حدود الله تعاهد الأمن في الأرض ، وعدم اشاعة فلسفة الخوف والرعب العام ومفاهيم الضلالة.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وسخّر له الأفلاك والنجوم وجعل كنوز الأرض في متناول يده ، لتكون العبادة لله عز وجل والإستعانة به سبحانه لقضاء الحوائج ، فمن خصائص تكرار قراءة كل مسلم ومسلمة قول [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، في الصلاة تنمية ملكة التوكل على الله ، والتنزه عن الإرهاب ليكون من مصاديق الإستعانة قصد الإعتدال وتعاهده وعدم الإبتعاد عنه والإنزلاق في ظلمات الإرهاب وأضراره .
وهل الإعتدال والوسط من الأخلاق المحمودة ، الجواب نعم ، وفيه وجوه :
الأول : تعاهد سنن العفة والمروءة.
الثاني : قهر للنفس الغضبية .
الثالث : الإعتدال إحسان للذات والغير .
الرابع : السلامة من الأضرار العامة والكوارث.
الخامس : الإقتصاد بالنفقات الخاصة والعامة.
السادس : موافقة واجبات المواطنة.
قانون الإرهاب حاجب لولاية الملائكة
من إعجاز القرآن بيانه لإخبار الله عز وجل للملائكة عن خلق آدم وصيرورته وذريته خلفاء في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
لتكون هناك صلات بين الملائكة والناس منها أن الملائكة رسل من عند الله وينزلون بالوحي ، ولا يختص نزولهم بالأنبياء ، فقد أكرم الله عز وجل عباداً وأولياء غير الأنبياء كما في مريم ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( ).
وجاء القرآن بذكر نزول الملائكة على طائفة من الناس ممن يتصفون بالإيمان والصلاح ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] على الفرائض .
وعن ابن عباس [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] (قال : على شهادة أن لا إله إلا الله)( ).
والنسبة بين الإستقامة بمعناها الأعم وبين الإرهاب هو التضاد لبيان قانون وهو الإيمان وإجتناب الإرهاب سبب لنزول الملائكة بالبشارة بالنجاة من عذاب النار ، وفيه بعث للنفرة من الإرهاب ودعوة قرآنية للمناجاة بالإحتراز من مسالكه.
وحينما تساءلت الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وهو يفسد فيها ويسفك الدماء أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل جعل الملائكة يكتبون ما يعمل الناس، وإدراك قانون وهو عدم ذهاب كتابتهم سدىً ، إنما تكون شاهداً وحجة على الناس يوم القيامة ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ]( )، ليتفاخر الملائكة بأهل الإيمان ومسارعتهم في الخيرات ، وتعاهدهم للفرائض العبادية.
وهل يندم معه الملائكة على قولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، بلحاظ ما ذهب اليه علماء التفسير أنه نوع احتجاج ، المختار لا ، فليس من ندم عند الملائكة لأنهم لا يفعلون الا ما يأمرهم به الله عز وجل ، كما أن قولهم أعلاه ليس احتجاجاً إنما هو رجاء الرحمة واللطف بالناس لهدايتهم للتوحيد والعبادة ، والتنزه من المعاصي ومنها الظلم والإرهاب ، ومن إستجابة الله عز وجل لهم أمور :
الأول : نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، ومن بديع صنع الله عدم إختصاص الإنسان بالنفخ من روح الله ، فقد ورد من طريق معاوية بن قرة( ) عن أبيه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طوبى ، شجرة غرسها الله تعالى بيده ، ونفخ فيها من روحه ، تنبت بالحلى والحلل ، وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة)( ).
الثاني : مصاحبة آدم وحواء للملائكة في الجنة .
الثالث : حال العز لآدم وحواء عند وجودهما في الجنة ، بقيام آدم بتعليم الملائكة الأسماء التي لقنه الله عز وجل ، وفي التنزيل [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
وفيه بعث للسكينة في نفوس الملائكة بقيام الإنسان بوظائف الخلافة ، وعمارة الأرض بالتقوى وأن الظلم والإرهاب عرض زائل.
لقد رآى آدم عظيم خلق الملائكة ، وقدرتهم على التشكل بهيئات مختلفة وهم مع هذا منقطعين إلى التسبيح والذكر ويخشون الله عز وجل خشية تفوق خشية الخلائق.
ونزل القرآن بهذا المعنى وبينته السنة النبوية ليقتدي المسلم وغيره بالملائكة في الخشية من الله ، وهذه الخشية واقية من التعدي وعصمة من إتيان الفعل الإرهابي والإضرار بالعباد.
وفي مرسلة عدي بن أرطأة وهو يخطب على منبر المدائن قال (ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ان لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته ما منهم ملك يقطر دمعة من عينه الا وقعت ملكا يسبح.
قال وملائكة سجودا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة.
وركوعا لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة.
وصفوفا لم ينصرفوا عن مصافهم ولا ينصرفون إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم تعالى فنظروا إليه قالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)( ).
وجعل الله عز وجل حضور الملائكة لتدوين أعمال الناس دعوة للمبادرة للعمل الصالح والإمتناع عن فعل السيئات ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
ومع أن الملائكة ترصد وتراقب الإنسان وتكتب ما يفعل فانها تفاجئ بأمور :
الأول : مضاعفة الله عز وجل للحسنات .
الثاني : كتابة السيئة بمثلها .
ومن إعجاز القرآن وما فيه من البيان مجئ الوجهين أعلاه في آية قصيرة واحدة ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
وفيه ترغيب بفعل الصالحات ، واجتناب فعل السيئة وإرتكاب المعصية ، ومنها العمل الإرهابي الذي يصدر من شخص واحد أو من جماعة.
الثالث : محو السيئات التي يعملها الإنسان دفعة واحدة عند لجوئه إلى التوبة والإستغفار .
الرابع : وجود أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وذم وفضح الله عز وجل والنبي والمؤمنين للذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
فان قلت قد تجلى بالآية أعلاه والآيات الأخرى المشابهة فضح الله للمنافقين ، وهل فضحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون ، والجواب جاءت أخبار عديدة من السنة النبوية تتضمن إنذار وتوبيخ المنافقين سواء بالصفة العامة أو على نحو القضية الشخصية.
وعن (أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قوله [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ]( ) ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا.
فقال : قم يا فلان فاخرج ، فإنك منافق ، اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، فأخرجهم بأسمائهم ، ففضحهم ، ولم يكن عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له ، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة ، وظن أن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ، وظنوا أنه قد علم بأمرهم ، فدخل عمر المسجد ، فإذا الناس لم ينصرفوا)( ).
و(أسباط بن نصر الهمذاني الكوفي صاحب السُّدي ليّنه أبو نعيم. وقال ابن معين ثقة، وقال النسائي: ليس بالقويّ، وروى عنه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والنسائي. وتوفي في حدود السبعين والمائة)( ).
وتوقف فيه أحمد.
قال (ما كتبت من حديثه عن أحد شيئا ولم أره عرفه ثم قال : وكيع وأبو نعيم يحدثان عن مشايخ الكوفة ولم أرهما يحدثان عنه)( ).
والمختار أن حديث طرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجماعة من المسجد النبوية ونعتهم بالمنافقين ضعيف سنداً ودلالة.
الخامس : بعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية التي تتعاهد سنن الإيمان في الأرض ، وتزيح الجور والبغي والإرهاب عن الأرض.
إن إدراك الإنسان قانون لحاظ الملائكة له في كل فعل يقوم به باعث للفعل الصالح ، وبرزخ وحاجز دون فعل السيئات .
ولا تنقطع صلة الملائكة عندما تقوم بقبض روحه بأمر وتعيين لأجله من عند الله عز وجل بل تكون حاضرة يوم القيامة للشهادة العامة والشفاعة الخاصة ، وهذا العام والخاص من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رده على الملائكة.
فلا ينحصر موضوع خلق الإنسان بخلافته في الأرض ، إنما هو نوع إختبار وطريق ومزرعة إلى الآخرة حيث يرقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى الخلود في النعيم ، وتقوم الملائكة بعد أن راقبتهم وأحصت أعمالهم في الدنيا ببشارتهم بالنعيم ، وتهنئتهم على المقام الكريم.
وتتعدد هذه البشارة منها [نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : الوعد والعهد بعدم ترك المؤمنين بمفردهم في مواطن وأهوال الآخرة.
الثانية : دعوة كل مسلم ومسلمة والناس جميعاً بالحرص على ضمان ولاية الملائكة لهم في الآخرة ، والإرهاب مانع من هذه الولاية والشفاعة.
الثالثة : غبطة الملائكة بقيام المؤمنين بوظائف الخلافة في الأرض.
الرابعة : حضّ المسلمين على القدوم على عالم الآخرة بشهادة العصمة من الإرهاب والظلم والتعدي.
الصلة بين بعثة إبراهيم وصلح الحديبية والنبذ الدائم للإرهاب
من مصاديق الصلة بين أشهر الحج وصلح الحديبية قانون بناء إبراهيم عليه السلام البيت مقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوته الناس للحج كل عام بأمن مع دعائه وتضرعه إلى الله عز وجل بنزول القرآن ، وهداية الناس بهذه البعثة ، كما ورد حكاية عنه في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وتتضمن الآية أعلاه دعاء إبراهيم عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والناس جميعاً ، والعرب خاصة ، وأهل مكة على نحو الخصوص ، فحتى على فرض أن دعاء إبراهيم هو خاص للعرب أو أهل مكة أو قريش خاصة فان قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، شاهد على صبغة الإطلاق والعالمية في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو فضل الله أعظم من الدعاء.
وإذا كان الله عز وجل يضاعف العوض والبدل والثواب لمن ينفق في سبيل الله كما في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
فهل يضاعف الله عز وجل البدل والأجر للذي يدعوه ويسأله بأن يعطيه أكثر من الذي سأله ، المختار نعم ، ليكون من معاني قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، أدعوني استجب لكم بأكثر من الذي تدعونني فيه .
ولا يختص الأكثر بصاحب الدعاء والمسألة بل يشمل غيره من الموجود والمعدوم ، وهو من الشواهد على عظيم شأن الدعاء في الحياة العامة للناس ، وأمور الدين والدنيا ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل الدعاء وسيلة لإنحسار الإرهاب .
الثانية : هل الدعاء سبب لإرجاء الساعة والنفخ في الصور .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، لما فيه من إصلاح التقوى والهداية للصراط المستقيم ، ولكن الدعاء ليس بديلاً عن العمل العقائدي والفعلي للنهي عن الإرهاب ومقدماته.
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، وهو من أسرار إخفاء أوان قيام الساعة عن الناس مع علم الله عز وجل بها ، وهل ينطبق على تعيين أوانها قانون المحو والأثبات بالدعاء لقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، الجواب نعم .
وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً بتعاهد سنن الأمن واسلام في الأرض ، وأداء الفرائض العبادية التي هي مادة لقبول الدعاء للذات والغير.
و(عن أبي أمامة قال : قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك ، قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام)( ).
ومن الإعجاز في الحديث أعلاه دلالته على فتح دمشق مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غادر الدنيا ولم تفتح الشام بعد .
وهل كانت كتيبة تبوك مصداقاً لرؤيا النبي ، وأنها تتضمن معنى فتح الشام ، الجواب لا ، نعم هي مقدمة من السنة النبوية الفعلية له.
ومن مصاديق إعطاء الله عز وجل للعباد أكثر مما يسألون بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
الأول : لقد سأل إبراهيم عليه السلام بعثة رسول في أهل مكة ، وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً في مكة وليهاجر إلى الطائف ثم إلى المدينة .
الثاني : بعثة الرسول من عند الله عز وجل نعمة عظمى ، فبينما ينشغل الناس في أمور الدنيا ، والمصالح الخاصة والكسب ، والحقوق والأطماع القبلية والدولية يبعث الله عز وجل الرسول لجذبهم إلى عالم التقوى والصلاح ، والتجهز للآخرة ، وفي التنزيل [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : صيرورة آيات وكلام الله بين الناس ، يتلقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الملك جبرئيل ، ويتلوه لتكون تلاوته في الحال شرعاً سواء للناس جميعاً ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف ، والزيادة والنقصان ، إذ تأتي الزيادة على القول في حياة صاحبه أو بعد وفاته ، أو ينقص ويحذف منه أما القرآن فقد عصمه الله من الزيادة والنقيصة لأنه كلام [الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ]( ).
والذي يشيع السلم بين الناس ، ويذهب الضغائن والأحقاد ، ويخفف المصيبة وأثرها .
وسيأتي قانون (التلاوة رافد للسلم) ( ).
الرابع : لم يرد لفظ (ابعث فيهم) في القرآن إلا في الآية أعلاه من سورة البقرة لبيان إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة خاصة ومجيئه على فترة من الرسل ، وحاجة الناس إلى رسالته ونبوته ، أما الفعل (ابعث) وحده فقد ورد في آيتين أيضاً وهما :
الأولى : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، لبيان أن سؤال إبراهيم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنشر الحكمة والسلم المجتمعي المقرون بالتقوى وعدم التعدي أو الظلم.
والنبي في الآية أعلاه الذي سأله بنو إسرائيل متأخر في زمانه على أيام إبراهيم عليه السلام لأن المراد من بني إسرائيل في الآية ذرية إسرائيل وهو يعقوب النبي ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، ووردت الآية بقيد آخر بأنهم بعد موسى ونجاة بني إسرائيل من فرعون ، وسلامتهم في عبور البحر.
وكانت المملكة في سبط يهوذا ، ولكن بني إسرائيل أدركوا أنه ليس في هذا السبط من يقودهم لقتال العمالقة الذين هم أشداء في القتال ، فلجأوا إلى نبي زمانهم وقيل اسمه (سمويل بن بالي) ( ).
وقيدوا طلبهم بأن القتال في سبيل الله ، لأن الأنبياء لا يأذنون بالقتال إلا بشروط منها :
أولاً : الدفاع .
ثانياً : قصد القربة إلى الله .
ثالثاً : الخشية على بيضة الإسلام ، وكلمة التوحيد ، ويجمع هذا الشروط قوله تعالى وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ.
رابعاً : تقديم الموعظة بين الصفين ، والحضّ على صرف القتال وسفك الدماء ، وهذه الموعظة والحضّ من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وينكشف الغطاء وتتجلى الحقائق وعالم المحو والإثبات يوم القيامة وأيهما أكثر :
الأول : ما محاه ومنعه الله من القتال والحروب وسفك الدماء .
الثاني : ما وقع من الحروب وسفك الدماء بالفعل .
الثالث : النقص كماً ومدة في المعارك والقتال .
الرابع : زيادة عدوكم ومدة المعارك والقتال .
والمختار هو الأول والثالث أعلاه ، ومن الشواهد عليه معارك الإسلام الأولى ، فلم تستمر كل من معركة بدر ومعركة أحد إلا شطراً من نهار واحد ، ليلحق الخزي في الحال المشركين لإصرارهم على التعدي والإرهاب.
خامساً : الوحي ، والإذن من الله عز وجل بالقتال ، وهذا الإذن ليس مطلقاً إنما يكون عاماً وخاصاً ، بأن يكون بالتهيئ للقتال وإعداد مقدماته ، وقد لا يحدث قتال ، ومنه قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
ثم الإذن الخاص في كل واقعة وعند ملاقاة المشركين .
وتبين الآية فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن في أيامه هناك ملك ، إنما كان هو النبي والإمام ، وكان يحضر القتال بشخصه ، وهل يمكن القول بلحاظ الآية أعلاه [ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
أن كل آمر سرية من السرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضهم هو بمنزلة الملك من بني إسرائيل الذي إختاره النبي منهم للقتال ، الجواب لا ، فهو قياس مع الفارق .
والمراد من الملأ في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ] هم الأشراف والوجهاء ، ويتجلى التخصيص في قوله تعالى [قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ]( )، وقوله تعالى في فرعون [قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ]( ).
وقال ابن عطية و(الملأ) في هذه الآية جميع القوم ، لأن المعنى يقتضيه ، وهذا هو أصل اللفظة ، ويسمى الأشراف الملأ تشبيهاً)( ).
و(المَلأُ: الجَمَاعَةُ من النّاس يَجتَمِعُوْنَ للتَّشَاوُرِ)( ).
ولكن المراد القادة والزعماء والأشراف والرؤساء.
ولما فرض عليهم القتال لم يصبر إلا القليل منهم .
الثانية : قوله تعالى [قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ]( )، ومن إعجاز القرآن ورود لفظ (حاشرين) فيه ثلاث مرات ، كلها في ذات موضوع فرعون وملئه ، فمع أن فرعون كان يدّعي الربوبية المطلقة فانه كان يستمع لمشورة الوزراء والوجهاء والحاشية لبيان صبغة الإكراه في حشر الناس ضد النبوة ومعجزاتها من أيام فرعون ، إذ أعلن السحرة اسلامهم ، وهل هذا الإعلان معجزة غيرية للرسول موسى عليه السلام ، الجواب نعم.
لبيان فضل الله عز وجل في كون معجزات الأنبياء على قسمين:
الأول : المعجزات الذاتية التي تجري على يدي النبي .
الثاني : المعجزات الغيرية التي تظهر وتنعكس في المجتمع وأحوال الناس ، وهدايتهم إلى سبل الرشاد .
وقد اتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أكثر الأنبياء والرسل في المعجزات الذاتية والغيرية .
وبالنسبة للمعجزات الذاتية فان معجزاته عقلية وحسية بينما كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية مثل ناقة صالح ، ونجاة ابراهيم من الحرق بالنار ، وعصا موسى ، ومعحزات عيسى ، وفي التنزيل حكاية عنه في وصفه لمعجزاته [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]( ).
لقد كانت وستبقى كل آية قرآنية معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا بالنسبة للصلة بين الآية القرآنية والآية الآخرى.
إن كثرة معجزات النبي العقلية دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على هذه النعمة والتدبر فيها ، ونشر الأمن والسلام في الأرض ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
أما بالنسبة للمعجزات الغيرية فمن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصلاح المجتمعات ، وإختيار الناس التوبة والإقامة ، ودخول الإسلام أفواجاً مع تسليمهم بأنه دين الله ، كما في قوله تعالى [ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا]( ).
وليس في دعاء إبراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما هو عنوان للأمن والسلم المجتمعي وضد الإرهاب من جهات:
الأولى : سؤال بعثة الرسول من بين أهل مكة لينزل عليه الوحي بسنن الهدى والرشاد ، وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والناس بنزول آيات القرآن لتبقى دستوراً في الأحكام وضياء واستقامة ، وهي مانع من الإرهاب.
الثانية : سؤال السلامة والأمن لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وبعدها حتى يتم تبليغ رسالته .
الثالثة : نزول الكتاب السماوي بلغة العرب لقوله تعالى [رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ]( )، وورد في آية أخرى قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، لإرادة العرب فهم أمة أمية وقليل منهم يعرفون الكتابة ، إذ أخذت قريش الكتابة من الحيرة والأنبار، أو أنهم أميون لانه لم ينزل عليهم كتاب سماوي قبل القرآن.
الرابعة : رجاء وتضرع إبراهيم أن يكون الذي يبعثه الله عز وجل في مكة رسولاً وليس نبياً فقط ، فمن خصائص الرسول أنه صاحب شريعة مبتدأة .
الخامسة : تلاوة الرسول لآيات الله عز وجل على الناس بما يجعلهم يدركون أنه نبي رسول ، ومبعوث من الله عز وجل لهدايتهم وإصلاحهم ، والأصل منع هذه التلاوة للناس من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن تلاوة الآيات حجة ، وبرهان وبيان لسنن الصلاح .
وفي بيان إستجابة الله لدعاء إبراهيم ، والثناء على النبي ، قال تعالى [رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ]( ).
السادسة : تعليم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس الوحي والتنزيل والفرائض العبادية ، والمناسك وانقاذهم من خبائث الجاهلية والعصبية القبلية .
ومن الآيات مجئ دعاء إبراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند رفعه قواعد البيت وانقطاعه وإسماعيل إلى طاعة الله ، وسعيهما لجذب الناس الى الحج والهدى .
و(عن الضحاك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنا دعوة إبراهيم قال وهو يرفع القواعد من البيت [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ]( )، حتى أتم الآية)( ).
السابعة : لقد سأل إبراهيم الله عز وجل أن يقوم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم الناس الحكمة والتفقه في الدين.
وهناك تباين وتضاد بين الحكمة والإرهاب ، فمن معاني تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب بيان حرمة الإرهاب شرعاً ، ومن معاني تعليم الحكمة تأكيد قبح الإرهاب ، ومنافاته للعقل وإدراك قانون وهو لا يجلب الإرهاب إلا الضرر العام والخزي الخاص لفاعله.
لقد جعل الله عز وجل العقل عند الإنسان وسيلة لإختيار صراط الإستقامة ، وعدم الإضرار بالذات والغير ، وتفضل الله سبحانه وأنعم على المؤمنين بالحكمة والرشاد ، لإدراك أن تحقيق الغايات الحميدة يتم باتباع منهاج البصيرة والإنفاق ، وإقامة الحجة والبرهان ، وأن ينشغل الإنسان باصلاح نفسه وتجهيز المتاع إلى الآخرة.
وقوله تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ) أعم وأوسع من أسباب النزول والتي تخص ، فمن معاني الآية المسارعة في الخيرات ، واقتناء الحسنات ، وعن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة( ).
الثامنة : لقد سأل إبراهيم عليه السلام الله عز وجل أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتزكية قومه وأتباعه وأنصاره وتطهيرهم من الشرك ، ومن العادات المذمومة .
وتبين الآية قانوناً وهو إرتقاء المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإشاعة الفضائل بينهم والعصمة العامة من الإرهاب .
ولا عبرة بالقليل النادر ، والفرد الطارئ هنا أو هناك .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة)( ).
ليكون من معاني تمام النبوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت حرمة الإرهاب والعنف والتطرف في الأرض ، والمنع من سفك الدماء وإشعال الحروب ، وإشاعة الخوف بين الناس لقانون وهو النبوة رحمة .
وأختتم إبراهيم دعاءه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالثناء على الله عز وجل ، وهذه الخاتمة من تعليم المسلمين الحكمة ، وليكون من وجوه إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعاء الأنبياء السابقين له ، ولأمته واستجابة الله عز وجل لهذا الدعاء .
ضعف حديث صلاة النبي (ص) مأموماً في تبوك
لقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة سنة 630م، إلى تبوك في أطراف بلاد الشام ومعه ثلاثون ألفاً من أصحابه .
(وَشَهِدَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنْ النّاسِ وَالْخَيْلُ عَشَرَةُ آلَافِ فَرَسٍ وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ وَهِرَقْلُ يَوْمَئِذٍ بِحِمْصٍ)( ).
وتسمى غزوة تبوك لورود اسم تبوك على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنهاية لمسير الجيش وفي معجزة له من علم الغيب ، بلحاظ عمارة تبوك وصيرورتها مدينة زاهية إذ ورد عن معاذ بن جبل قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام غزوة تبوك فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا.
حتى إذا كان يوما أخر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا.
ثم دخل ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعا.
ثم قال إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء.
قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه و سلم هل مسستما من مائها شيئا .
قالا نعم فسبهما النبي صلى الله عليه و سلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول قال ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء.
وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده ووجهه ثم أعاده فيها.
فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس.
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا)( ).
وتسمى غزوة العسرة لقلة المؤونة وبعد المسافة ، وشدة الحر ، ونقص الدواب وقلة الماء في الطريق ، وهذه القلة من أسباب امتناع الدولة الرومانية والدولة الفارسية عن مكة والمدينة مع تحريض كبار المشركين لهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار أن اسمها كتيبة تبوك وليس غزوة لعدم تحقق الغزو وقصد بلد أو قرية وعدم وقوع قتال فيها .
وموضوعها مجئ أخبار إلى المدينة بأن الرومان قرروا الإجهاز على دولة الإسلام في المدينة ومعهم قبائل عربية متحالفة معهم أو تابعة لهم منهم قُضاعة ، فاجتمع منهم أربعون ألف رجل ولكنهم تفرقوا فيما بعد عندما علموا بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وتبعد تبوك عن المدينة المنورة نحو 600 كم.
وهل كان مجموع هؤلاء الصحابة يقفون في صلاة الجماعة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الفريضة أم أنهم ينقسمون شطرين كصلاة الخوف ، أم أن طائفة منهم ينشغلون بالحراسة ونحوها ثم يصلون جماعة أو فرادى أو أنهم يصلون جماعات صغيرة .
والمختار أن صلاة غالبية جيش المسلمين خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل فريضة خصوصاً وأن صلاة الظهر والعصر والعشاء في السفر قصراً مع شدة الحراسة ، وأن الصحابة فرحون بالشرف العظيم بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم في الصلاة .
أما ما ذكر من صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف في كتيبة تبوك فهو حديث آحاد في قضية نوعية عامة لو كان لبان وشاع بين الصحابة وتناقله التابعون عنهم وهو حديث عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه .
قال ابو داود (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِى يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ عَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَهُ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَعَدَلْتُ مَعَهُ فَأَنَاخَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَتَبَرَّزَ.
ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الإِدَاوَةِ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمَّا جُبَّتِهِ فَأَدْخَلَ يَدَيْهِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا إِلَى الْمِرْفَقِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ عَلَى خُفَّيْهِ.
ثُمَّ رَكِبَ فَأَقْبَلْنَا نَسِيرُ حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ فِى الصَّلاَةِ قَدْ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَصَلَّى بِهِمْ حِينَ كَانَ وَقْتُ الصَّلاَةِ وَوَجَدْنَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً مِنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَفَّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَصَلَّى وَرَاءَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى صَلاَتِهِ.
فَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ فَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ لأَنَّهُمْ سَبَقُوا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلاَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ : قَدْ أَصَبْتُمْ ، أَوْ : قَدْ أَحْسَنْتُمْ)( ).
وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده( )، والبيهقي في سننه الكبرى( )، وابن حبان في صحيحه ( )، وفي مسند عبد بن حميد ( )، في ذات الحديث أن المغيرة قال (فذهبت أؤذنه ، فقال : دعه فصلى النبي صلى الله عليه وسلم معه ركعة ، ثم انصرف ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فصلى ركعة ، ففزع الناس لذلك ، فقال : أصبتم ، أو قال : أحسنتم ؛ يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها)( ).
ورواه الدارمي في سننه( )، والنسائي في سننه ( )، وذكره البيهقي في معرفة السنن والآثار ( ).
ولكنه لم يسق القصة كاملة إنما رواه الى المسح على الخفين ، وذكر جماعة الخبر مختصراً عن المغيرة بخصوص المسح على الخفين ولم يذكروا صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف.
وفيه أمارة على عدم قبولهم لحديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف في الطريق إلى تبوك.
وذكره الطحاوي في مشكل الآثار( )، البيهقي في السنن الصغرى( ).
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط ( )، ولكن الى حد المسح على الخفين ، وكذا روى ابن ماجه في اسناده عن (الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ)( ).
وكذا الدارقطني( )، وكذا رواه إلى حد المسح على الخفين البخاري في صحيحه( ).
ولم يذكره مالك في الموطأ جملة وتفصيلاً.
ولم يروه المغيرة بن شعبة وهو في المدينة أو في البحرين ، أو في الكوفة عند ولايته المتكررة عليها ، خصوصاً وأن التابعين وعامة المسلمين كانوا تواقين لسماع أي خبر من السنة النبوية ،وكان الفقهاء في مسجد الكوفة وغيره ، يكتبون الحديث .
وهناك شواهد عديدة تدل على حرص التابعين وأهل العلم على السماع من الصحابة وأهل البيت عن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية .
و(عن الهروي قال: كنت مع علي بن موسى الرضا عليه السلام حين رحل من نيسابور وهو راكب بغلة شهباء، فإذا محمد بن رافع وأحمد بن الحارث ويحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه وعدة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته بالمربعة فقالوا: بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك، فأخرج رأسه من العمارية، وعليه مطرف خز ذو وجهين.
وقال : حدثني أبي العبد الصالح موسى ابن جعفر قال: حدثني أبي الصادق جعفر بن محمد قال: حدثني أبي أبو جعفر محمد ابن علي باقر علم الانبياء، قال: حدثني أبي علي بن الحسين سيد العابدين قال: حدثني أبي سيد شباب الجنة الحسين قال: حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام.
قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: سمعت جبرئيل عليه السلام يقول: قال الله جل جلاله: إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي)( ).
لبيان قانون النجاة من العذاب بالعصمة بالتوحيد ونبذ الشرك ، وفيه دعوة للتعايش السلمي بين الناس ، ونبذ للعنف والتطرف والتكفير .
وروى عروة بن المغيرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لم يمت نبي حتى يؤمه رجل من قومه( ).
وكيف تقام الصلاة ولا يتساءل المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم وجوده بينهم ، خاصة وأنهم في سفر ومخاطر الطريق.
ثم كيف يترك المهاجرون والأنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المغيرة بن شعبة وحده ، وله سابقة في الغدر .
ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم خلّف عبد الرحمن بن عوف لما ذهب عنه الإحتجاج بهذه الصلاة في يوم الشورى ، ولصار عبد الرحمن بن عوف وأولاده يتفاخرون بامامته للصلاة وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفه ، خصوصاً وأن عبد الرحمن بن عوف توفى (سنة إحدى وثلاثين. وقيل سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن خمس وسبعين سنة بالمدينة)( ).
واستدل بصلاة النبي خلف عبد الرحمن بن عوف على أمور منها جواز اقتداء الفاضل بالمفضول ، ولكن الأمر أكبر إذ تتعلق المسألة بصلاة الرسول خلف أحد أصحابه واتباعه أو عدمها.
والمختار عدم ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف ، وسيأتي مزيد كلام في البحث الأصولي (الحديث الشخصي والحديث النوعي) وهو علم مستحدث.
لقد كانت مدة النبوة ثلاثاً وعشرين سنة وتضرب في عدد أيام السنة ثم في عدد الفرائض اليومية كالآتي :
23×355×5=40825.
ومن المسلمات بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الإمام في الصلاة ، ولم يعهد أنه صلى في احداها مأموماً إلا أن يرد حديث متواتر عن عدد وجماعة من الصحابة وبيان علة وسبب هذا الصلاة ، وهو أمر غير وارد في أخبار السنة النبوية.
ولم يرد أن النبي صلى خلف أحد أصحابه إلا هذه الرواية عن ابن المغيرة.
وقد صار المغيرة بن شعبة والياً على البحرين أيام عمر بن الخطاب فكرهوه ، فعزله عمر ، ثم ولاه على الكوفة ، وبقي فيها مدة من أيام عثمان بن عفان ثم عزله عنها .
ثم ولاه معاوية على الكوفة ، ووقع الطاعون في الكوفة فهرب المغيرة منها ، فلما ارتفع الطاعون عاد إليها المغيرة فأصابه الطاعون فمات .
ولو كان المغيرة منفرداً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق تبوك ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صلى مأموماً لأكثر من ذكر هذا الخبر ، وتناقله عنه التابعون وأكثر المحدثون والذين يتقربون إلى الوالي من سؤاله عنه لأنها واقعة فريدة نادرة .
نعم يستقرأ من هذا الخبر ونحوه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يحرصون على الصلاة في أول وقتها ، وأنهم يصلونها جماعة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع أكثرهم تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن مفاهيم حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إداء الصلاة في أول وقتها جعل المسلمين يتقنون أداء الصلاة ويعتنون بأدائها في وقتها ، وهو واقية من الإرهاب والتعدي والظلم ، وفيه إنصراف عن زينة الدنيا .
لقد كانت كتيبة تبوك شاهداً على تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن السعي للقتال ، إنما كان خروجهم إلى تبوك في شدة الحر ومع بعد المسافة وقلة الزاد محاربة للإرهاب ،ومنعاً للناس من إتخاذ التهديد بجعجعة السلاح ، لكبت والحجر على العقائد السماوية ، وإخافة الناس من الدخول في الإسلام .
وقد توفى المغيرة في الكوفة سنة خمسين للهجرة ( )، ابن سبعين سنة ، ومثل هذه الوقائع العامة لا يكتفى بها بخبر الواحد عن واحد ، مع ورود عدة مسائل على المتن وخصوص علم الدراية.
وكان ابنه عروة بن شعبة راوي الحديث قد استخلفه الحجاج على الكوفة عندما سار الى البصرة( ).
لقد كانت إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في الصلاة اليومية ، وحرصه على هذه الإمامة وأداء الصلاة دعوة لكل مسلم ومسلمة للعناية بالصلاة وإجتناب ما ينافيها ، ومنه الإرهاب والقتل وإخافة الناس إذ أن الصلاة سلم وأمن ، وباعث للطمأنينة في النفوس .
بحث أصولي أقسام الخبر الواحد
يمكن تقسيم الحديث بلحاظ مناسبة الموضوع والواقعة والكم إلى قسمين :
الأول : الحديث الخاص ، وهو الذي يتعلق بموضوع خاص ، ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره لواحد من أهل بيته أو أصحابه أو لعدد قليل منهم .
فمثلاً ورد عن الحسن البصري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ :قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ إِذَا آلَيْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ( ).
(عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي يكنى أبا سعيد أسلم يوم فتح مكة وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه؛ ثم غزا خراسان في زمن عثمان؛ وهو الذى افتتح سجستان وكابل)( ).
وفي سنة اثنتين وأربعين وجهه عبد الله بن عامر إلى سجستان ، وكان قد تولى الإمارة فيها سنة ثلاث وثلاثين ، ثم رجع إلى البصرة ومات فيها سنة أحدى وخمسين للهجرة .
ويقسم خبر الواحد إلى أقسام، وقد يتداخل المتقاربان منها، وأختلف في دلالته على وجوه:
الأول : يفيد الظن.
الثاني : أنه يفيد العلم اليقيني مع وجود القرينة ، وبه قال النظّام.
الثالث : من أطلق وإنه يفيد العلم حتى وإن لم تكن في البين قرينة، وكل قول فيه دليل( ).
وأهم أقسام الخبر الواحد أربعة وهي:
الصحيح : وهو ما إتصل سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم والصحابي بنقل المؤمن العدل عن مثله في جمع الطبقات المتعددة، فبالإتصال يخرج مقطوع السند، وبقيد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج المرسل، ومنهم من قسم الصحيح إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أعلى.
الثاني: أوسط.
الثالث: أدنى.
والأول ما إتصف جميع رواته بالصحة بالعلم أو بشهادة عدلين.
والأوسط ما دل فيه الظن على إتصاف جميع رواته بالعدل.
والأدنى بإعتماد الظن الإجتهادي.
الحسن: وهو ما إتصل سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم بمؤمن ممدوح ولم يرد نص بعدالته، ولم يعارض مدحه بذم سواء كان ذلك في جميع رواته أو في طبقة منهم، والباقي من رجال الصحيح ، لأن الحديث في سنده يتبع أضعف الطبقات.
الموثق: وهو ما نص على توثيق راويه بغض النظر عن الفرقة والمذهب الذي ينتمي إليه.
والحسن أقوى من الموثق على الأظهر، ومنهم من قال بقوة الموثق لأن المدار على الظن بالصدور.
وكل من الصحيح والحسن والموثق يقسم إلى أعلى وأوسط وأدنى.
الضعيف: وهو الذي يكون في طريقه مجروح، أو مجهول حال، ومنهم من جعله أعم من ذلك وإنه يشمل الذي لم يدخل في الأقسام الثلاثة أعلاه وما يتفرع عنها فيكون حينئذ ما دون الضعيف كالموضوع، ولكن الفرق بينهما ليس بالقليل، إذ أن الضعيف يحتمل الصدق والصحة، ويعمل به المشهور في المستحبات وهو المختار، ويعمل المشهور بما جبرته الشهرة منه مطلقاً بينما لا موضوع للموضوع ، قال تعالى[إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
ويسمى (الضعيف المنجبر) ومن وجوه إنجباره :
الأول : الشهرة الرواية ، لذات الحديث وأن تعدد واختلفت بعض ألفاظه .
الثاني : الشهرة في الفتوى لما فيها من الدلالة على تلقي الفقهاء له بالقبول .
الثالث : ورود الخبر الضعيف عن عدة طرق ، كل فرد منها ضعيف .
الرابع : عدم مخالفة الخبر الضعيف للقرآن والسنة .
وعلم الرجال باب ينفرد به المسلمون ، وفيه تنقيح للأخبار ، وحفظ وثائقي للحوادث بأمانة ونزاهة فهو حجة على الناس، ويكفي في ناقل وراوي الحديث أن يكون ثقة عند السامع سواء كان من أبناء ملته أو من غيرها.
والمتتبع لكتب الحديث والتأريخ الإسلامي يجد روح الورع والحرص على عدم الغلو أو المبالغة وإجتناب ما ليس بصحيح ، وصيغ ضبط السند التي تكون مدرسة دائمة للأجيال في الإطلاع على حقبة النبوة وما فيها من المعجزات والحوادث التي تعد شاهداً كريماً على صدق الرسالة، وهو نبراس يدل على مصادر المعارف الإسلامية وطرق تلقيها وأسباب المنعة والحصانة والحيطة التي تلازم الحديث من حين صدوره وحتى وصوله إلى الأجيال في كل زمان، سواء بصيغ التدوين والكتابة، أو بكيفية الأخذ، والسماع من مشايخ الرواية والإجازة.
وستظل القواعد الرجالية ومصاديقها الجزئية إشعاعاً فكرياً مباركاً مترشحاً من مدرسة القرآن وتأديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، وميداناً علمياً يبين حال الإرتقاء والضبط وموضوعيتها في التأريخ الاسلامي، وهي رادع عقائدي وأخلاقي يحول دون التجرأ والكذب والإفتراء في النقل والرواية.
قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) ليكون علم الدراية والرجال حرزاً وواقية للسنة النبوية، ووثيقة في تفسير القرآن، وشاهداً على وجود أمة من المسلمين في كل زمان تتعاهد الأحاديث الشريفة والأحكام الشرعية، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لا يشترط التعدد في كل طبقة في الخبر، فيكفي الواحد إذا إستوفى شروطه، وظاهر الكتاب والسنة على قبول خبر الواحد إلا أن يثبت خلافه أو تكون به أو في متنه علة ، أو في سنده ضعف.
ونسب إلى الشواذ القول بإشتراط العدد، وقال به أبو علي الجبائي وبعض المعتزلة إذ يقولون(إن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا إذا إنضم إليه عدل آخر أو عضدته موافقته لظاهر الكتاب ، أو ظاهر خبر آحاد ، أو يكون منتشراً بين الصحابة أو عمل به بعضهم.
واشترط بعض الحنفية للعمل بخبر الآحاد أن لا يخالف القياس وأكثر المتقدمين منهم لم يقل به.
والذين جعلوا القياس أصلاً منهم قسموا الرواة إلى قسمين :
الأول : الرواة المجهولون .
الثاني : الرواة المعروفون ، وقسموا إلى شعبتين :
الأولى : أصحاب الإجتهاد والفقه والضبط كالخلفاء الأربعة الذين يقبل الحنفية حديثهم ويكون حجة مقدمة على القياس.
الثانية : الصحابي الذي يعرف بالرواية ولم يعرف بالفقه والإجتهاد والفتيا فهولاء إن جاء حديثهم مخالفاً للقياس إختلف الحنفية في قبوله.
وإستدلوا بالتواتر على بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آحاد الناس إلى الأمصار والقبائل (قال ابن حزم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذ إلى الجند وجهات من اليمن، وأبا موسى إلى جهة أخرى.. وأبا عبيدة إلى نجران، وعلياً قاضياً إلى اليمن، وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلماً لهم شرائع الإسلام. وكذلك بعث أميراً إلى كل جهة أسلمت… معلماً لهم دينهم ومعلماً لهم القرآن ومفتياً لهم في أحكام دينهم وقاضياً فيما وقع بينهم وناقلاً إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله، وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم. وبعثة هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد)( ).
وقيل الدليل على قبول خبر الواحد في كتاب الله أكثر من أن يحصى، ومنه :
الأول : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )، وذكرت الآية التبيين كعلة للتبين عند مجئ الفاسق بالخبر، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعليّة، وأنه لو كان الخبر من أخبار الآحاد مانعاً من القبول لم يكن لهذا التعليل فائدة.
وهذه الآية هي أشهر دليل على قبول خبر الواحد في مفهومها.
ويرد عليه بأنها لا تدل على قبول خبر الواحد العدل مع قولنا بقبوله , والرد من جهات :
الأولى : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فالتبين في خبر الفاسق في الآية الكريمة ليس برزخاً ومانعاً من التبين في غيره من أخبار الثقة.
الثانية : لم تكّذب الآية الفاسق في خبره، فليس من تناف وتضاد بين الفسق والخبر الصحيح على نحو السالبة الكلية، فقد يصدق الفاسق، ومن أمثال العرب (إِذا سمعت بسُرى القَيْنِ( )، فإِنه مُصْبِحٌ وهو سَعدُ القَين قال أَبو عبيد يضرب للرجل يعرف بالكذب حتى يُرَدُّ صِدْقُه .
قال الأَصمعي وأَصله أَن القَيْنَ بالبادية ينتقل في مياههم فيقيم بالموضع أَياماً فيَكْسُدُ عليه عمَله فيقول لأَهل الماء إِني راحل عنكم الليلة وإِن لم يُرِدْ ذلك ولكنه يُشِيعُه ليَسْتعمِله من يريد استعماله فكَثُر ذلك من قوله حتى صار لا يُصَدَّق)( ).
الثالثة : طلبت الآية البيان وتبين صدق الناقل للخبر من كذبه قبل العمل بمقتضى قوله.
ومنهم من قال بالعكس وإستدل بهذه الآية بعدم حجية الخبر الواحد .
قال الشيخ الطوسي : وفي الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل، لأن المعنى إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذباً فتوقفوا فيه، وهذا التعليل موجود في خبر العدل، لأن العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذباً في خبره فالامان غير حاصل في العمل بخبره .
وفى الناس من استدل به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا، من حيث انه اوجب تعالى التوقف في خبر الفاسق، فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح( ).
ولكن الآية تدل على لزوم أخذ الحيطة والحذر في خبر الواحد ، والدعوة إلى التأكد والتبين فيه ، وهو من إعجاز القرآن في لزوم الضبط والوثوق ، ومنع الظلم ، وفيه دعوة للفاسق للصلاح وإنذار له من الكذب والإفتراء .
وتدل الآية في مفهومها على الوثاقة من خبر العدل الواحد فقد يكون في تركه تضييع للمصلحة ، أو حدوث ضرر ، نعم إثبات شئ لشئ لايدل على نفيه عن غيره ، فلا مانع من التبين عند ورود خبر الواحد.
وعن ابن عباس وقتادة وإبن أبي يعلى : نزلت الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدقات بني المصطلق( )، خرجوا يتلقونه فرحاً به وإكراماً له، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنهم منعوا صدقاتهم.
وقد استدل المشهور بدلالة مفهوم الآية على حجية خبر الواحد.
وقد ورد عن عبد الله بن مسعود و(عن زيدِ بنِ ثابتٍ قَالَ : سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ” نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً ، فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ؛ فَرُبَّ حَامِلٍ فِقْهٍ إلى مَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)( ).
ويمكن الإستدلال باحاديث النبي عن كتم وإخفاء العلم ، ومنها (عن أنس بن مالك : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)( ).
أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإِسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها.
قلت يا رسول الله : ارجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإِسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إليَّ يا رسول الله رسولاً يبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الابان( ) الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه إحتبس الرسول فلم يأتِ.
فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله فدعا بسروات قومه( ) فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة،
فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم، قالوا : إليك.
قال : ولم ، قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله.
قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته ولا أتاني ، فما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي.
قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله، فنزل {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإ فتبينوا} إلى قوله{حكيم})( ).
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس في قوله [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا]( )، قال: أما المؤمن: فعلي بن أبي طالب عليه السلام، وأما الفاسق: فعقبة بن أبي معيط، وذلك لسباب كان بينهما، فأنزل الله ذلك)( ).
وهل يدل الجمع بين الآيتين أعلاه على الحجة في خبر العدل الواحد ، الجواب نعم.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ويسمع خبر العيون والجواسيس، وفي الحديث: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث عيناً من خزاعة يتخبر له قريش أي يتعرف له أحوالهم).
وقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهادة الأعرابي في الهلال، وقد يقال بأنه يقبل هذه الأخبار بالعلم اللدني والوحي ، الجواب ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : أني أحكم بينكم بالبينات والأيمان).
ومن العلم اللدني أن الحقيقة تنكشف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الواقع العملي وأن الوفد سيأتي ليفضح قول الوليد.
وأن الآية جاءت للتنبيه بخصوص بناء عقلائي متعارف عند المسلمين.
وقد لاتكون الآية دليلاً مستقلاً على خبر الواحد، فأما الآية الأولى فإن التبين يصح حتى مع غير الفاسق، وليس فيه إشارة إلى الإتحاد والتعدد، ويتقوم الدليل إذا كان خاصاً بذات الموضوع وهو خبر العدل الثقة بالمنطوق.
الثاني : [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
وتدل الآية على تفقه طائفة وهم الجماعة , والطائفة من الشيء: القطعة منه، وقوله تعالى[وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، واستدل بالآية أعلاه بأن لفظ الطائفة يطلق على الواحد فما فوقه، ولكن إستعماله في الواحد خلاف الظاهر والمتبادر من اللفظ المتعدد في الأمر المتحد , وهو من علامات الحقيقة، وكذا هو خلاف المنصرف في الأذهان من المراد من الذين يجب أن يتفقهوا ويعلموا الأحكام، فلابد من الرجوع إلى الكتاب الكريم والصدور عنه وهو شاهد على سلامته من التحريف، وأن السنة لا تنسخه.
وفي رواية عبد الله بن أبي يعفور قال: سألت الإمام الصادق عليه السلام عن إختلاف الحديث يرويه من نثق به، ومنهم من لا نثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله عز وجل، أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلا فالذي جاءكم به أولى به)، وفيه تأكيد لأحاديث العرض.
الثالث : قوله تعالى[فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وقيل لو لم يكن القبول واجباً لما كان السؤال واجباً)( ) .
ولكن الآية جاءت بصيغة الجمع مما يدل على إحتمال إرادة المتعدد في السائل والمسؤول خصوصاً وهو الظاهر، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال.
الرابع : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ]( )، وتقريب الإستدلال أن(من أخبر عن الرسول بما سمعه فقد قام بالقسط وشهد لله، وكان ذلك واجباً عليه.
ولكن جاءت الآية بصيغة الأمر وليس الإخبار عن فعل لإرادة القيام بالعدل وبيان الأحكام الشرعية.
الخامس : قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى]( )، وأن الله عز وجل أوعد على إخفاء الهدى فيجب على من سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إظهار وإعلان ما سمعه، ولكن الآية لا تدل على قبول خبر الواحد بدليل مجيئها بصيغة الجمع وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يبلغ أصحابه ويخبرهم ويصعد المنبر.
السادس : العقل هو مستند للخبر الواحد، وبه قال أحمد بن حنبل وابن شريح وأبو الحسن البصري والصيرفي وزاد أحمد : إن خبر الواحد يفيد بنفسه العلم، وحكاه ابن حزم في كتاب الأحكام عن داود الظاهري وغيره.
ومن الإعجاز في أحكام الشريعة الإسلامية عدم التوقف على خبر الواحد، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في خطبة بمنى أو مكة: يا أيها الناس ما جاءكم عني يوافق القرآن فأنا قلته، وما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله)( ).
ويمكن تقسيم خبر الواحد تقسيماً إستقرائياً مستحدثاً وهو:
الأول : خبر الواحد في الموضوعات .
الثاني : خبر الواحد في الأحكام.
الثالث : خبر الواحد في الوقائع .
ويتجلى الفارق بين الأقسام أعلاه أن خبر الواحد في الأحكام ليس مستقلاً بذاته بل يعرض على الكتاب والسنة، أي ليس مجرداً قائماً بذاته، بخلاف الخبر الواحد في الموضوعات.
وينسخ الخبر المتواتر خبر الواحد، وهل يصح العكس بأن ينسخ خبر الواحد المتواتر، الجواب لا مانع له بقيود.
الأول : صحة سند ورجال الخبر.
الثاني : تأخر خبر الواحد على المتواتر.
الثالث : موافقة خبر الواحد للكتاب والمدار على الشواهد والمصاديق، ولابد من إحصاء أخبار الأحاد التي تنسخ الخبر المتواتر وموضوعاتها ، ومناقشة كل حديث على نحو مستقل.
الرابع : عدم صدور الخبر المتواتر عن الحضور النوعي ، فمثلاً خبر الواحد لا ينسخ ما ورد في خطبة النبي في فتح مكة ، وفي حجة الوداع وفي بيعة الغدير مثلاً ، ويبين علم الرجال ، وتحقيق العلماء في رواة الحديث ، وموضوعية العدالة والوثاقة فيهم لزوم إتخاذ المسلم طريق الهدى والرشاد ، وعدم إتباع القول والتحريض على الظلم والإرهاب.
حديث عفيف الكندي
لقد صلى في البيت الحرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفريضة إماماً من الأيام الأولى لبعثته إذ كان يؤم الإمام علي عليه السلام وخديجة على مرآى ومسمع من مشركي مكة .
وفي رواية عن عفيف الكندي (قال : كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر فيبيعه أيام الموسم)( ).
ومن خصائص موسم الحج وإلى هذا الزمان نشاط تجارة العطور في مكة.
وعفيف هذا هو أخو الأشعث بن قيس الكندي لأمه ، وكان ابن عمه .
وعندما توجه وفد الحاج إلى منى خرج معهم عفيف وكان برفقة العباس بن عبد المطلب لصلة الصداقة بينهما ، والضيافة الخاصة وعندما ارتفعت الشمس في السماء شاهد عفيف رجلاً شاباً أتى عند العباس .
ويدل الخبر على أن بني هاشم لهم منزل خاص في منى.
وهذا الشاب هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتوضأ واسبغ الوضوء ثم صار ينظر إلى السماء وكأنه يبحث عن جهة مخصوصة ، ثم استقبل الكعبة بمقاديم بدنه .
قال عفيف (فلبث مستقبلها ، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما)( ).
وفي رواية الطبري (فخرجت امرأةً فتوضأت وقامت تصلي ثم خرج غلام قد راهق، فتوضأ، ثم قام إلى جنبه يصلي)( ).
وفي الحديث شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستقبل الكعبة في صلاته عندما كان في مكة قبل الهجرة وقوله (فلبث مستقبلها) يقصد أن النبي محمداً أحرم للصلاة وابتدأ بالقراءة ، والقراءة في صلاة الظهر بالإخفات وفيه شاهد على حضور النبي وخديجة والإمام علي عليهما السلام .
لقد كانت أيام الحج من الأشهر الحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( )، إذ يمتنع فيها الناس عن القتال والتعدي ، فيظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور :
الأول : إعلان نبوته وإخبار الناس بأنه رسول من عند الله ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الثاني : بيان أن النبوة ووظائفها منسك محض.
الثالث : خلو الرسالة السماوية من القتال وإشهار السيوف ، وهي ضد الحروب والإقتتال وسفك الدماء والإرهاب.
وحينما ركع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركع الإمام عليه وخديجة من خلفه إقتداء به وتسليماً بامامته لتكون هذه الصلاة نواة صلاة الجماعة اليومية في الأمصار ولبيان أن الإسلام دين الأمن والسلام في النشأتين ، ثم سجدوا جميعاً ، وهو أمر لم يعهده وفد الحاج ويتنافى مع عادات الجاهلية في تقديس الأصنام ، والإمتناع عن السجود ، قال تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ]( ).
عندئد التفت عفيف إلى العباس بن عبد المطلب وسأله مستغرباً : يا عباس أمر عظيم ، إذ أدرك عفيف التحول النوعي في حياة الناس الذي يترشح عن عبادة التوحيد وفق انضباط عام ، وإخلاص نية ، كما شعر عفيف بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيواجه المشركين وسلطانهم ، وأنهم لن يرضوا بالإنقياد له وإتيان ضروب العبادة التي هو عليها ، والتي يظهر أنها واجبة بأجزائها وأركانها .
فقد لاحظ رجالات قريش أداء النبي صلى الصلاة خمس مرات وفي أوقات معلومة من النهار والليل وبأفعال متشابهة تدل على الخشوع والخضوع لله.
وكانت قريش أهل تجارة عامة ، ولا يتورعون عن إرتكاب المعاصي ، بينما كانت آيات القرآن تنزل بتوبيخ أهلها ، والوعيد على فعلها في الدنيا والآخرة , قال تعالى [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ]( )، وبعد التذكير بحتمية الموت مع الإنشغال بجمع الأموال ، قال تعالى في ذات السورة [لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ]( ).
وما كان العباس إلا أن اتفق معه وأيده بأن الأمر عظيم.
لبيان أن العباس يدرك ما يلحق أهل البيت من الأذى بسبب نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن عفيفاً لم ير إلى فرداً واحداً من الصلاة .
أما العباس فكان يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن ، والتي تتضمن وجوب التوحيد ونبذ الشرك وذم الذين يعبدون الأوثان .
ثم سأل عفيف العباس عن حقيقة الأمر ، وتأويله ، وتفاجئ حينما قال له العباس أن هذا هو ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأنه يزعم أموراً وهي :
الأول : إن الله عز وجل بعثه رسولاً .
الثاني : إن كنوز كسرى ستفتح له .
الثالث : إن خزائن قيصر ستكون في متناول يده ، وذكر الكنوز والخزائن دلالة دخول فارس وبلاد الشام الإسلام ، وفيه ترغيب لقريش بدخول الإسلام وصيرورة الخزائن والكنوز بأيديهم من غير عناء الإرتحال في الصحراء في قوافل التجارة إلى الشام واليمن وهو من معاني التذكير ووجوب اتخاذ قريش التوحيد عقيدة ومنهاجاً في سورة قريش [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
ليكون من معاني وتقدير الآية فليعبدوا رب هذا البيت فيغنيهم عن تجارة القوافل وأخطارها والعناء والتعب والمضاربة واحتمال الخسارة فيها مع تذكيرهم بشواهد من النعم وهذا المعنى مستحدث هنا في تأويل السورة هنا .
وقول العباس (يزعم أن الله تعالى بعثه) شاهد على أنه لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد.
ثم قام العباس بالتعريف بالإمام علي عليه السلام بأنه ابن أخيه أبي طالب وأن المرأة هي خديجة زوجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تابعاه على دينه .
ثم قال العباس (وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة)( ).
ورجع عفيف إلى اليمن ثم صارت أخبار النبوة والهجرة تترى بسرعة ، ووقوع القتال بين قريش والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالى نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجلى للناس إرهاب قريش وقبحه ، وعجزهم عن تحقيق غاياتهم الخبيثة ، وصار الناس يدخلون الإسلام جماعات وأفواجاً.
ودخل عفيف الإسلام ، وحسن إسلامه ، خصوصاً وأنه رآى معجزة حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلاته وزوجه والإمام علي عليه السلام بين جموع المشركين في منى.
(قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الإسلام في قلبه: يا ليتني كنت رابعاً)( ).
وهل كانت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام ، وفي منى حرباً على الإرهاب ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : الصلاة سلام ودعوة للأمن .
الثاني : في الصلاة احتجاج سلمي على عبادة الأصنام .
الثالث : بيان منهاج الهدى والسلامة في النشأتين بالتقوى.
الرابع : في الصلاة كف عن إيذاء الغير .
الخامس : تجديد حنيفية إبراهيم ، الذي رفع قواعد البيت ودعا الناس إلى الحج ، وهو سلام محض ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الحديث الشخصي والحديث النوعي (علم جديد)
يقسم علم الحديث إلى قسمين :
الأول : علم الحديث رواية وهو نص الحديث نفسه ومنه كتب الحديث المعتبرة ، وضبطه ، وتحرير الفاظه ونقله ، بما اضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام المعصوم والصحابي والتابعي .
الثاني : علم دراية وهو الذي يتعلق بأحوال رجال سند الخبر ووثاقتهم وكيفية تحمله ، وشروط الرواية وأحكامها وهو لا يرتقي إلى مرتبة العلم المستقل لأن العلم قواعد كلية تعرف بواسطتها الجزئيات المتكثرة ، وهذا العلم لايدرك بالحواس والإدراكات العقلية.
ومن علم الرواية تقسيم الحديث إلى أقسام وهي :
الأول : الحديث الصحيح وهو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى أن يبلغ جهة الصدور ، كما في صدور الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تقدم البيان في (أقسام خبر الواحد).
الثاني : الحديث الحسن وهو الذي اتصل سنده بنقل عدل ولكنه قليل الضبط ، ولم يرتق إلى ضبط راوي الحديث الصحيح .
الثالث : الحديث الضعيف وهو الحديث الفاقد لشرط من شروط الحديث الصحيح أو الحسن .
أما من جهة السند فينقسم الحديث إلى أقسام منها :
الأول : الحديث المتواتر : وهو الذي نقله جماعة عن جماعة مع إنتفاء التواطئ بينهم على الكذب.
ويرد التواتر في السنة القولية بسماع جماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قيامهم برواية الخبر ، ويرد في خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر ، وأيضاً خطبته في حجة الوداع ، أو في ميدان القتال والدفاع بالدعوة إلى التوحيد ، وترك القتال ، ومحاربته للإرهاب.
ويرد في السنة الفعلية إذ يشهد عدد من الصحابة فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وقيل الإحتجاج بالحديث المتواتر بمرتبة الإحتجاج بالقرآن ، ولكن مرتبة الإحتجاج بالقرآن أظهر وأعلى رتبة مع القول بأن الحديث المتواتر يقيد المطلق ، ويخصص العام ، فلا يرتقي الحديث إلى الإحتجاج بالقرآن ، نعم هو بيان وتفسير لآيات القرآن.
وهل ينسخ الحديث المتواتر الآية والحكم القرآني ، المختار لا ، وهذا الإمتناع من أوجه التباين الرتبي بين الإحتجاج بالقرآن، والحديث المتواتر .
والمختار أن النسبة بين الحديث النوعي العام وبين الحديث المتواتر هو العموم والخصوص المطلق فالحديث النوعي أعم ، لحضور عدد كثير من المسلمين وسماعهم له ، وإن وردت روايته عن ثلاثة أو أربعة من الصحابة.
الثاني : الحديث المشهور : وهو الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحابي أو اثنان ولم يبلغ حد التواتر في طبقته الأولى مثلاً، ثم رواه جمع من الصحابة والتابعين سمعوا من الراوي الأول وبما يمتنع معه تواطؤهم على الكذب ، فهذا الحديث يلحق بأحاديث الآحاد للنظر لأضعف حلقات اسناده ، وقيل له مرتبة وسط بين الحديث المتواتر والآحاد.
الثالث : الحديث المستفيض : وسمي به لإشتقاقه من إفاضة الماء ، وهو الذي لم يصل عدد رواته إلى المتواتر ، ومنهم من قال بأن الحديث المستفيض هو نفسه الحديث المشهور ، ومنهم قال بأنه أخص ، ومنهم من جعله أعم من المشهور .
الرابع : خبر الواحد : وهو الذي رواه شخص واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عدد قليل لا يصل إلى حد التواتر ، واستمر بذات النسبة في طبقات الحديث اللاحقة .
وهناك أقسام أخرى من الحديث مثل :
الأول : الحديث المتروك ، ومنه اتهام راويه بالكذب مثلاً.
الثاني : الحديث المنكر ، كما في مخالفته لرواية الثقة العدل ، ولعلم الدراية.
الثالث : الحديث المطروح وهو المعلول الذي لا يؤخذ به ، وإن ارتفع عن الحديث الموضوع.
الرابع : منها الحديث المرفوع .
الخامس : الحديث الموقوف .
السادس : الحديث المقطوع .
السابع : غريب الحديث ، وهناك القرائن والمرجحات خاصة عند الإختلاف .
الثامن : الحديث المجهول الذي يرد في سلسلة إسناده رجل مجهول غير معروف عند الرجاليين وعلماء الحديث أو يكون في إسناده عدد من المجاهيل.
التاسع : الحديث الشاذ الذي يرويه الثقة ولكنه مخالف لنص القرآن وعامة الحديث النبوي ، وما هو أوثق منه .
العاشر : منه الحديث الفرد , وهو الحديث الذي ينفرد به راو واحد ، وحديث عروة بن المغيرة في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف في كتيبة تبوك من هذا النوع في قضية ومجتمع عام .
ومن الآيات أن جيش المسلمين في كتيبة تبوك أكثر جيش في تأريخ النبوة ، ليكون من مصاديق قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) أنه لما ازداد عدد المسلمين وصاروا بعشرات الآلاف فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج بهم إلى قتال ، إنما لتعظيم شعائر الله ، وضبط الصلاة والتخلي عن زينة الدنيا ، وإرادة الأجر والثواب .
ويمكن تقسيم الحديث بلحاظ عدد الحضور إلى قسمين :
الأول : الحديث الشخصي ، الذي حضره واستمع له فرد واحد ، أو أفراد قليلون
ومنه مثلاً ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير .
اللهم اجعل في سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي قلبي نوراً.
اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، وأعوذ بك من وسواس الصدور ، وتشتت الأمور ، وعذاب القبر.
اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، وشر بوائق الدهر)( ).
ومنه ما ورد عن ثوبان قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر) ، والإرهاب ضد للبر والصلاح ليدل الحديث في مفهومه على حقيقة وهي أن الإرهاب سبب لإنخرام العمر ، وعدم الإنتفاع من فضل الله في زيادة الأعمار.
وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة : اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول : اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك رب تدآبي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر ، اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الريح وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح)( ).
ولا أقصد بالحديث الخاص أنه على نحو القضية الشخصية أو أنه موجه إلى فرد مخصوص من أهل البيت أو الصحابة أو غيرهم ، إنما المقصود أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكره أمام جمع كبير بحضورهم.
الثاني : الحديث النوعي وهو الحديث الذي ورد في مناسبة وحضور جمع وعدد من المسلمين ، كما في خطبة النبي محمد في صلاة الجمعة وصلاة العيد .
ومنه خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة ، ومنه مخاطبته برفق لأهل مكة الذين آذوه وأرادوا قتله ، وحاربوه وجهزوا الجيوش لغزو المدينة ، وسقط عمه حمزة وعدد من المهاجرين والأنصار قتلى ، وقد اجتمع رجالات قريش في البيت الحرام يوم الفتح وهم في حال خوف وفزع .
فخاطبهم جميعاً من حضر منهم إلى البيت ومن لم يحضر يومئذ بقوله (يا أهل مكة، ماذا ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاء)( ).
وهل كان خوفهم يومئذ من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( )، الجواب نعم ، لبيان أن عاقبة الذي يقوم بالإرهاب وإخافة الناس عامة هو الخوف واستقرار الرعب والحسرة في نفسه.
ومنه خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع إذ خطب في يوم عرفة قبل الصلاتين .
وعن عبد الله بن عمرو (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يومئذ في وادي عرفة، ثم ركب. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى الناس أن يقفوا إلى عرفة)( ).
قال الواقدي (وكان من خطبته يومئذ: ” أيها الناس، إني والله ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا بعد يومكم هذا! رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه! واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا! واعلموا أن الصدور لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم.
ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضع كله، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب.
اتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح؛ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله تبارك وتعالى ، وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون.
قالوا : نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت .
ثم قال : بإصبعه السبابة إلى السماء، يرفعها ويكبها ثلاثاً: ” اللهم، اشهد ، قال : فحدثني محمد بن عبد الله. عن عمه الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بالهضاب من عرفة فقال: كل عرفة موقف إلا بطن عرنة، وكل المزدلفة موقف إلا بطن محسر، وكل منى منحر إلا خلف العقبة.
قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من هو بأقصى عرفة.
فقال : الزموا مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم)( ).
ليمنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفتنة والإختلاف بين المسلمين في الأجيال اللاحقة في أداء مناسك الحج ، وليترشح قانون عن أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العامة المتواترة وهو عصمة المسلمين من الاختلاف في أداء الفرائض كالصلاة والصوم والزكاة والحج ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
وهل يشمل الحديث أعلاه صلاة القصر في السفر ، صلاة الخوف ، ومقدمة الصلاة كالتيمم عند فقد الماء ، الجواب نعم .
وهذه السماحة والتخفيف في الصلاة تأديب للمسلمين ، للسلامة من النفس الغضبية ، وعدم استحواذها على الأركان.
كما خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في مِنى وبين للناس مناسك الحج وأحكاماً في الحلال والحرام .
فهذه الخطب من الحديث النوعي ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمرهم بأن يبلغ الشاهد الغائب ومنه حديث الغدير ، وقد ورد عن أبي سعيد الخدري قال (لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم فنادى له بالولاية ، هبط جبريل عليه بهذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ( ).
و(عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم ماذا ينجي العبد من النار .
قال : الإيمان بالله
قلت : يا نبي الله مع الإيمان عمل
قال : أن ترضخ مما خولك الله أو ترضخ بما رزقك
قلت : يا نبي الله فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ قال :
يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر
قلت : إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر
قال : فليعن الأخرق
قلت : يا رسول الله أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع
قال : فليعن مظلوما
قلت : يا نبي الله أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما
قال : ما تريد أن تترك لصاحبك من خير ليمسك أذاه عن الناس
قلت : يا رسول الله أرأيت إن فعل هذا يدخله الجنة
قال : ما من مؤمن يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة)( ).
لبيان أن الإمتناع عن إيذاء الناس حسنة وفيه أجر وهو طريق إلى الخلود في النعيم ليكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الإمساك عن إيذاء الناس طريق إلى الجنة .
الصغرى : الإرهاب إيذاء للناس .
النتيجة : الإمساك عن الإرهاب طريق إلى الجنة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله)( ).
والنسبة بين إماطة الأذى عن الطريق وبين الإرهاب وهو التضاد والتنافي ، فذات الفعل الإرهابي أذى للناس والطريق لبيان نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه.
و(لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد قال في خطبته : يا معشر النساء تصدَّقْنَ ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار.
وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار)( ).
وفي الحديث دعوة لكل امرأة مسلمة أو غير مسلمة بالصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن المعروف إعانة الزوج وغيره في نشر ألوية الرحمة ولغة الحوار.
ومنه تأديب الأبناء والأخوة على نبذ الإرهاب ، وعلى التنزه منه ومن النهي عن المنكر النهي عن مقدمات الإرهاب وعن المفاهيم التي تؤدي إليه ، ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث النساء إلى الصدقة للترغيب في الإنفاق في سبيل الله ، وهل منه الإعانة لصرف الإنسان عن الإرهاب ، الجواب نعم.
النسبة بين أجزاء التضاد وأجزاء النزاع من هذا التفسير
وقد صدرت أجزاء من هذا التفسير خاصة بالتضاد بين القرآن والإرهاب وهي :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .
لقد تجلت مفاهيم الصلح ودفع أسباب القتال في منهاج أهل البيت عليهم السلام إقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة لعموم المسلمين بنبذ العنف والتطرف والسب والشتم.
و(في حلية الاولياء : قال أبو مجلر : قال علي بن أبي طالب عليه
السلام : عابوا علي تحكيم الحكمين وقد حكم الله في طائر حكمين. عن إبانة أبي عبد الله بن بطة : ناظر ابن عباس جماعة الحرورية فقال: ماذا نقمتم على أمير المؤمنين .
قالوا : ثلاثا إنه حكم الرجال في دين الله فكفر به، وقاتل ولم يغنم ولم يسب( )، ومحى اسمه من إمرة المؤمنين.
فقال : إن الله حكم رجالا في أمر الله مثل قتل صيد فقال [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ]( )، وفي الاصلاح بين الزوجين قال [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا]( ).
وفي مناظرة عبد الله بن عباس لجماعة الحرورية قال :
وأما إنه أي الإمام علي عليه السلام قاتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة ثم تستحلون منها ما يستحل من غيرها فلئن فعلتم لقد كفرتم وهي أمكم وإن قلتم ليست بأمنا فقد كذبتم لقوله [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( )، وأما أنه محى إسمه من إمرة المؤمنين فقد سمعتم بأن النبي صلى الله عليه وآله أتاه سهيل بن عمرو وأبو سفيان للصلح يوم الحديبية فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله القصة ووالله لرسول الله صلى الله عليه وآله خير من علي وما خرج من النبوة بذلك.
فقال بعضهم: هذا من الذين قال الله تعالى(بل هم قوم خصمون) ( ))( ).
قانون الصلة بين الأنبياء
لقد شاء الله عز وجل أن يكون الناس [خُلَفَاءَ الأَرْضِ] ( ) وقد بينت الآية التي اختص بتفسيرها الجزء السابق قانونين من الإرادة التكوينية وهما :
الأول : لله ملك السموات والأرض .
الثاني : الله على كل شئ قدير .
ويدل هذان القانونان مجتمعين ومتفرقين على إمضاء مشيئة الله وإنعدام المانع دونها .
ليشكر الناس الله عز وجل على توالي وإتصال النعم ، ومن هذه النعم تعاقب بعثة الأنبياء ، ونزول الكتب السماوية ، ومن بديع صنع الله عز وجل وجود صلات سماوية وثيقة بين الأنبياء ، وإن تعاقبت أزمانهم وتباعدت أماكن بعثتهم.
ومن أهم هذه الصلات شهادة الكتب السماوية لهم بالنبوة ، قال تعالى [وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الأنبياء أسمى الناس مرتبة في العلم والوحي ، إذ فضلهم الله عز وجل بالتنزيل والإيحاء لهم بواسطة الملائكة ، وهذا الوحي نجاة للناس من الفتنة والإرهاب والظلم في الدنيا ، ومن العذاب في الآخرة ، لذا قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، للتمسك بأحكام التنزيل وآيات القرآن في ميدان القتال والعمل .
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال : الأنبياء إخوة لعلاّت شتّى ودينهم واحد ، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم ؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه نبّي( ).
أي أنهم كأبناء الرجل الواحد من أمهات شتى.
فالأصل هو الوحي وعبادة الله وحده وعدم الإشراك به ، والإختلاف في الشرائع كما في اختلاف الأمهات ، وكما أن لكل نبي معجزة فان هناك إعجازاً في الصلة بين الأنبياء ، ووجوه الإلتقاء بينهم من جهات :
الأولى : الإختيار من عند الله لمرتبة النبوة .
الثانية : العصمة من فعل الرذائل والقبيح .
الثالثة : إعلان الأنبياء التبرأ من الإرهاب ، ودعوتهم لنبذه وتركه .
الرابعة : محاربة الأنبياء للظلم وعبادة الأوثان .
الخامسة : يرفع كل نبي لواء التوحيد وجهاده في سبيل بناء صرح الإيمان بالله عز وجل .
السادسة : التحلي بأعلى مراتب الصبر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( )، لبيان تلقي الأنبياء الأذى الشديد من قومهم ، ومقابلتهم له بالصبر والتحمل والعفو والصفح ، لأنهم يدعون إلى الله ، ويرجون هداية الناس جميعاً ، فلا يتخذون ما يسبب صدودهم.
ترى ما هي النسبة بين العزم والصبر الذي يتصف به الأنبياء ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالعزم أعم ، ومن وجوهه الثبات في الدعوة إلى الله ، والسعي بين الناس بسنن التوحيد ، وأحكام الحلال والحرام فلا يحجبهم إيذاء الكفار وإرهابهم ، وحال العوز والمرض والشدة من هداية الناس إلى الإيمان وسبل الرشاد.
لقد أظهر الأنبياء أسمى مراتب الصبر ليكون صبرهم دعوة لأجيال المسلمين للإمتناع عن الإرهاب والظلم ، وهو من أسرار وراثة المسلمين لهم ولمنهاج النبوة.
فمن وجوه العزم الصبر ، كما أن الصبر وتحمل الأذى لم يمنع الأنبياء من الدعوة إلى نبذ الشرك والأخلاق المذمومة ، وبالعزم يضطر الكفار إلى الإمتناع عن إيذاء الأنبياء.
السابعة : شدة ابتلاء الأنبياء في أنفسهم وأهليهم وأصحابهم ، وفي تلقي الأذى من قومهم موعظة للمؤمنين بعدم إتخاذ إيذاء الناس وسيلة للدعوة أو طريقاً للثأر ونحوه.
وعن سعد بن أبي وقاص (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أشدّ بلاء فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، فيبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك ، ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة)( ).
لتتجلى مصاديق يومية متعددة لقانون الأنبياء أسوة في الصالحات ، ولبيان موعظة وقانون وهو التضاد بين الصبر والإرهاب ، كما سيأتي بيانه .
وقد نزل القرآن بذكر شواهد جلية من الأذى الذي لاقاه الأنبياء مثل نوح وصالح وهود ويونس وإبراهيم وموسى وعيسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وحتى آدم عليه السلام تلقى الأذى وأظهر الصبر ، مع أنه لم يكن معه في الأرض إلا أولاده وأحفاده ، والذي ليس من زوجة أخرى يجوز له الزواج منها .
فالموجود من الناس على الأرض كلهم أبناؤه باستثناء حواء ، والظاهر أن هذا الحصر والإنفراد في صفة الزوجية لحواء من إكرامها لأنها خلقت في الجنة ، وكلمت الملائكة ، فأبى الله عز وجل أن تكون لها ضرة من أهل الأرض وهل فيه ترغيب بالزوجة الواحدة ، الجواب نعم ، عند تعذر التعدد أو فقد أسبابه ، ومما لاقاه آدم من الأذى فقد رآى أحد ولديه يقتل أخيه .
و(عن ابن عباس قال : لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكّة أشتال الشجر وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه : وأمرّ الماء واغبرّت الأرض.
فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا بقابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول،
وهو أوّل من قال الشعر :
تغيرت البلاد ومن عليها
ووجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم
وقلّ بشاشة الوجه الصبيح)( ).
(وعن عبد الرحمن بن ذهل قال : كان وزير عيسى عليه الصلاة والسلام ركب يوماً فأخذه السبع فأكله فقال عيسى : يا ربّ وزيري في دينك ، وعوني على بني إسرائيل ، وخليفتي من سلّطت عليه كلبك فأكله.
قال : نعم كانت له عندي منزلة رفيعة ، لم أجد عمله بلغها فأبتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة)( ).
ولا دليل على هذا المعنى ، فالله عز وجل هو الرؤوف الذي يرزق المؤمن أسمى المراتب ويمد في عمره ويمحو عنه البلاء ويكتب له أجر من أصيب بالبلاء .
والظاهر أن الراوي هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، كما ورد في تفسير القرطبي( ).
وهو تابعي ، مدني ، مولى عمر بن الخطاب ، وله تفسير (وهو ضعيف كثير الحديث)( ).
توفى سنة اثنتين وثمانين ومائة ، وكان يذكر الأخبار والأقوال من غير أن يرفعها أو يذكر السند ، بل أنه يجاهر بعدم النسبة مثلاً (حدثنا الجروي حدثنا الحرث بن مسكين حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: يقال إنه ليكون في المجلس الرجل الواحد يحمد الله فيقضي الله لأهل ذلك المجلس حوائجهم كلهم.
وبإسناده حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : ذكر بعض أهل العلم أن في بعض الكتب التي أنزل الله عز وجل ” إن الله جل جلاله قال : بشروا عبدي المؤمن ” فكان لا يأتيه شيء يحبه إلا قال : الحمد لله الحمد لله ما شاء الله .
قال : الله روعوا عبدي المؤمن قال: فلا تطلع عليه طليعة من طلائع المكروه إلا قال: الحمد لله فقال: الله عز وجل ” إن عبدي يحمدني حين روعته كما يحمدني حين سررته ادخلوا عبدي كما يحمدني على كل حالاته الجنة)( ).
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء وعامة المؤمنين في الحياة الدنيا وبشرهم بالنعيم الدائم في الآخرة ، وفيه زجر لهم وللناس جميعاً عن الإرهاب .
ومن أظهر الصلات بين الأنبياء حرصهم على نشر ألوية السلم والموادعة بين الناس ، مع بيان قانون وهو إمكان ولزوم الجمع بين أمور :
الأول : علو ورفعة لواء التوحيد .
الثاني : إقامة الفرائض العبادية .
الثالث : التعايش السلمي بين الناس .
الرابع : خلو المجتمعات من الإرهاب .
الخامس : محاربة الظلم ، وهذه المحاربة واقية من الإرهاب والتعدي .
ومن الصبر التنزه عن الظن بأن الإبتلاء عقوبة من عند الله ، أو أن البلاء وشدته هوان واهانة للعبد ، فقد ابتلي الأنبياء ومنهم أيوب ويحيى وزكريا ، ونزلت سورة كاملة في نبي الله يوسف عليه السلام وشدة إبتلائه وابيه يعقوب النبي ، ودخل يوسف السجن لمدة سبع سنين ، قال تعالى [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وكذا فان الإبتلاء يأتي على الأولياء والأصفياء وأحباء الله مع درجاتهم السامية وكذا أبتلي أهل البيت في كربلاء بقتل الإمام الحسين عليه السلام وأخوته وابنائه وأصحابه ، وسيقت بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا إلى الشام ، مع أن الإمام الحسين عليه السلام عرض على أهل الكوفة كتبهم ورسائلهم في طلبه ، ثم طلب منهم أن يتركوه بأن يرجع إلى المدينة أو يذهب إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فأبوا إلا القتال والإرهاب لمن خلفه.
ولم يجد هذا الإرهاب نفعاً فقد تكررت الثورات من بعده فلابد من نشر وإشاعة لغة الحوار ، وإنصاف الآخرين ، والرضا بالصلح ، وقد تفضل الله عز وجل وسمّى صلح الحديبية فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
قانون التضاد بين الإستقامة والإرهاب
الإستقامة لغة هو الطريق الذي يكون على خط مستو ، وفي الإصطلاح هو منهاج الحق والهدى .
ووردت مادة ( استقام ) في آيات متعددة من القرآن ، وبصيغة الفعل والاسم ، وقال النبي عليه السلام (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ ذَلِكَ ، يَا نَبِيَّ اللَّه .
فَقَالَ : لأَنَّ فِيهَا : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ }( )) ( ).
ومن إعجاز القرآن أن كل كلمة منه قانون متجدد إلى يوم ينفخ في الصور ، وهي حاضرة في مواطن الحساب بأبهى حلة ، لتشهد للذين آمنوا ، وتشفع لهم ، وتواسيهم وتخفف عنهم أهوال مواطن الحساب ، ليكون حضور الآية القرآنية يومئذ من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ومن الإستقامة التي تذكرها الآية أعلاه بلحاظ عنوان هذا الجزء أمور :
الأول : العصمة من الإرهاب والتعدي.
الثاني : المناجاة بإجتناب الإرهاب والظلم .
الثالث : الدعوة إلى التراحم والصفح والتحلي بالصبر .
الرابع : النهي عن الإرهاب وتمويله ومقدماته .
الخامس : التبرأ من الإرهاب .
السادس : إجتناب إخافة الناس .
وتبين الآية أعلاه أموراً :
الأول : قانون حاجة الإنسان إلى الأمن والسلامة من الخوف .
الثاني : قانون حاجة الإنسان للعصمة والوقاية من الحزن وأسبابه .
الثالث : قانون لايقدر على المنع من الخوف والحزن إلا الله عز وجل .
الرابع : قانون من سبل الأمن من الخوف والحزن وهو الإيمان والإستقامة .
الخامس : قانون التضاد بين الإستقامة وبين الإرهاب الذي هو خوف لصاحبه وإخافة للناس ، وسبب للحزن لصاحبه وعائلته وذويه ، وحزن للذين يتضررون من الإرهاب وغيرهم .
السادس : قانون (قول ربنا الله) عصمة من الإرهاب وزعزعة النظام العام ، وفي التنزيل [فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
فمن الإستقامة الحفاظ على النظام العام والقوانين التي تضبط سلوك الفرد والجماعة .
وهل يتقيد مضمون الآية أعلاه بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( )، بأن تأتيهم البشارة بعدم الخوف على لسان الملائكة ، وأن المراد هو الأمن يوم القيامة ، المختار المعنى اأعم ، فالمقام ليس من المطلق والمقيد ، إنما من المتعدد والتجلي في الآخرة لقاعدة نؤسسها هنا وهي لو دار الأمر بين التقييد لنعمة الله وبين إطلاقها فالأصل هو الثاني ، فتبقى الآية أعلاه من سورة الأحقاف على إطلاقها ، وتقديرها :
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) في الدنيا وفي الآخرة .
ولا يعلم ما يصرف الله عز وجل عن المؤمنين ، والناس جميعاً من الأذى والضرر إلا الله عز وجل.
والإستقامة سور الموجبة الكلية في الأقوال والأفعال ، وهي حاضرة في كل آن وتزيح ضدها عن البصر والبصيرة.
ومن مصاديق الإستقامة بلحاظ عنوان البحث هذا وجوه :
الأول : تعاهد عقيدة التوحيد ، وطاعة الله .
الثاني : أداء الفرائض العبادية .
الثالث : إتيان ما أمر الله عز وجل به ، وإجتناب ما نهى عنه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الرابع : ترك الظلم والتعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى]( ).
ومن الطغيان المنهي عنه الخروج عن حدود الله ، ومنه إتخاذ النعمة الإلهية وسيلة للإضرار بالغير.
قانون سبق الدعاء لدفع الإرهاب
من رحمة الله عز وجل بالناس سبق أسباب الهداية لهم قبل خلق آدم ، وتقدم دعاء الملائكة لهم بالصلاح وإجتناب الفساد والإرهاب .
ليكون من معاني إخبار الله عز وجل للملائكة بخلق الإنسان دعوتهم للدعاء للناس جميعاً بالسلامة من الفساد ومن سفك الدماء، ولا يعلم ما صرف الله عن الناس منهما بسبب دعاء وتعضيد الملائكة إلى الله عز وجل .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل مع كل إنسان ملكين ، قال تعالى [إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ] ( ) وقال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] ( ).
وعن عبادة بن الصامت (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن الله أمر الحافظين فقال لهما رفقاً بعبدي في حداثته فإذا بلغ الأربعين فاحفظا وحققا) ( ).
لقد أكرم الله عز وجل الناس بأن جعل الملائكة يسبقون هبوط آدم إلى الأرض بالدعاء للناس جميعاً ، وقد ورد قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بصيغة الجملة الاسمية التي تفيد الثبوت والقطع ، ولكن الملائكة توسلوا إلى الله عز وجل بجعل الناس يعمرون الأرض بالتقوى والعبادة ، والإبتعاد عن الظلم والفساد والإرهاب ، وتقدير قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، على وجوه :
الأول : اجعل فيها من لا يفسد فيها ولا يسفك الدماء .
الثاني : خلافة الإنسان بشارة لنا نحن الملائكة فاجعل الناس مثلنا في الطاعة والإنقطاع إلى الذكر ، لقد تبادر إلى أذهان الملائكة أن منصب الخلافة باب لكفالة الرزق من الله عز وجل ، مما يملي على الناس التقوى والإجتهاد بالذكر والتسبيح ، قال تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثالث : اللهم نزه الأرض من الذين يفسدون في الأرض .
الرابع : لم تعرف الملائكة القتل وسفك الدماء في السماء فسألوا الله عز وجل أن تكون الأرض مثل السماء ، ويدل بالدلالة الإلتزامية على شهادة الملائكة بأن الأرض والسماء ملك لله عز وجل .
الخامس : اللهم اصرف الناس عن الإرهاب ومقدماته .
السادس : اللهم احجب عن أهل الأرض شرور الإرهاب .
السابع : اللهم انا نسلم بان قلوب العباد بيدك ، وفي سلطانك ، وأنه لا يقع فعل إلا بأذن منك فاجعل الدنيا دار الصلاح والأمن والسلامة من الإرهاب وما فيه من سفك الدماء .
الثامن : اللهم اجعل الناس يظهرون بشارات النبوة ، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .
التاسع : من خصائص الملائكة أنهم [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ) فأرادوا للناس ذات الخصال ، وملكة العصمة من الإرهاب فرعها.
وهل خشي الملائكة من دبيب الفساد وسفك الدماء إليهم ، الجواب لا ، فقد جعلهم الله عز وجل عقولاً بلا شهوة ، وعصمهم عن المعاصي مطلقاً ، كما أن سنخية السكن في السماء لها خصوصية ، وهي تنزه أهل السماء من المعاصي وفعل السيئات ، لذا كان إبليس مع الملائكة في الطاعة وسنن التقوى ، وصلى ركعتين بستة آلاف سنة ،من قبل أن يخلق الله آدم ويأمره الله بالسجود لآدم .
ومن وجوه التخفيف عن الملائكة وعن ابليس تفضل الله عز وجل بتوجيه الأمر بالسجود لآدم إلى الملائكة جميعاً ، وكان إبليس معهم ، ليقتدي بهم ، ويمتنع عن معصية أمر الله عز وجل ، ولو سجد إبليس مع الملائكة ، هل يمتنع عن إغواء آدم وحواء بالأكل من الشجرة ، وهل يبقى آدم وحواء وابليس في الجنة أم يتكرر الإبتلاء والإمتحان .
الجواب هو الثاني ، لأن الله خلق آدم للخلافة في الأرض ، وما خلق حواء معه إلا مقدمة للهبوط إلى الأرض .
ولكن هل يكون إبليس طرفاً في تكرار الإبتلاء إلى أن يهبط مع آدم وحواء ، ويكون فتنة لبني آدم.
والمختار في هذه المسألة الإفتراضية وجوه :
الأول : لابد من هبوط آدم وحواء .
الثاني : عدم إنحصار الهبوط بالمعصية في الأكل من الشجرة أو غيره لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ، وهل يحتمل وجود فرد آخر من الجن ونحوهم غير إبليس كان مع الملائكة في السكن في الجنة ، وإذا امسك إبليس عن إغواء آدم وحواء يمكن أن يقوم هو باغوائهما بذات الأكل من الشجرة أو غيره ، المختار نعم ، والعلم عند الله.
فلو إجتاز آدم وحواء الإمتحان وامتنعا عن الأكل من الشجرة وغيره من الإمتحان وأسباب الإفتتان ليهبطا بمصاحبة الملائكة لهما مودعين ، وربما كان في الهبوط تخفيف كثير عنهما .
ولكنه لا يمنع من وجود أسباب للإفتتان في الأرض بدليل قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الثالث : لو سجد إبليس لآدم عليه السلام طاعة لله عز وجل فالأقوى أنه لا يأتيه ليغويه بالأكل من الشجرة .
ولما هبط إلى الأرض وأمهله الله إلى يوم القيامة لينزل به العذاب الأليم والعلم عند الله ، قال تعالى [قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ] ( ) أي أن إبليس سأل الله تعالى أن يمهله ويؤخره ولا يميته ولا يعذبه إلى أن يفنى الناس ، وتطوى أيام الحياة الدنيا ، ويقف الناس للجزاء .
وهل لإبليس فعل وأثر في جعل طائفة من الناس يفرحون بالمعصية ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا كما في آية البحث ، الجواب نعم .
وإبليس ليس من جنس الملائكة إنما هو من الجن ، لذا أخرجه الله عز وجل منها لإمتناعه عن السجود لآدم وإغوائه له بالأكل من الشجرة ، كما أخرج الله عز وجل آدم وحواء منها لأكلهما من الشجرة بعد تلقيهما النهي من الإقتراب منها بقوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
لقد تعلم آدم عليه السلام من مدرسة الملائكة مواعظ تركها لذريته منها:
الأولى : الإنقطاع إلى طاعة الله .
الثانية: المواظبة على الفرائض العبادية .
الثالثة : الإمتناع عن الظلم والتعدي والإرهاب .
وقد جاء الأنبياء بالأخلاق الحميدة التي تقرب الإنسان من مراتب الملائكة .
ومن إعجاز القرآن أنه أبقى الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي متصلة ومتجددة ، وبيّن انقطاع الملائكة إلى العبادة وشدة خشيتهم من الله عز وجل ، بما يهدي الناس إلى سبل التقوى والإمتناع عن الفساد والظلم والإرهاب .
ومع عصمة الملائكة من الذنوب كبائرها وصغائرها ، فقد قال تعالى [وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ] ( ) وجاءت السنة النبوية لتفسير الآيات التي تخص الملائكة ولتوثيق قوانين وسنن مما هم مأمورون به من العبادة والطاعة ،ومن غير مشقة أو عناء عليهم .
(عن حكيم بن حِزَام قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، إذ قال لهم: “هل تسمعون ما أسمع.
قالوا: ما نسمع من شيء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شِبْر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم) ( ).
قانون صلاة الجماعة مؤاخاة ومانع من الإرهاب
الجماعة لغة الكثرة .
(والفُسْطاط: مُجْتَمعُ أهل الكُورةِ حَوالَي مسجدهم، وهم الجماعة، ويقال: هؤلاء أهل الفسطاط)( ).
واللّمة : الجماعة من الرجال ، ومن النساء .
والفِئام : الجماعة من الناس وغيرهم.
ويسمى المسجد بالجامع لأنه يجمع الناس ، وقد يختص هذا الاسم بمسجد البلد.
والجماعة رحمة ومناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووسيلة للصلاح ، والعصمة من الفساد ، و(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ أَوْ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)( ).
وسميت صلاة الجماعة لوجوه :
الأول : أداء الصلاة من قبل اثنين أو أكثر ، فتصح الجماعة من الإمام والمأموم وإن كان منفرداً .
الثاني : وحدة مكان صلاة الجماعة .
الثالث : اتحاد زمان الصلاة .
الرابع : الإلتقاء والإشتراك في أداء أفعال الصلاة ، فحينما يُكبر الإمام تكبيرة الإحرام يُكبر المأمومون ثم تتوالى أفعال الصلاة بالتتابع .
ترى ما هي النسبة بين صلاة الجماعة ومؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي ، وكل فرد منهما مؤاخاة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهي على شعبتين :
الأولى : الأخوة في الصلاة أعم من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
الثانية : المؤاخاة أعم من أخوة الصلاة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين والإختلاف بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، في آية علمية عقائدية وأخلاقية في تأديب المسلمين وإصلاحهم للصبر والدفاع ، والعمل والأمرة ومحاربة مفاهيم الكفر والضلالة والإرهاب.
ولقد بذل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوسع في تنمية ملكة تعاهد صلاة الجماعة عند المسلمين .
وعن(جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ الْعَامِرِىُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَجَّتَهُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ فِى مَسْجِدِ الْخَيْفِ.
قَالَ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ وَانْحَرَفَ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِى أُخْرَى الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ : عَلَىَّ بِهِمَا ، فَجِىءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا .
فَقَالاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِى رِحَالِنَا. قَالَ فَلاَ تَفْعَلاَ إِذَا صَلَّيْتُمَا فِى رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ.
قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ مِحْجَنٍ الدِّيلِىِّ وَيَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِىُّ وَالشَّافِعِىُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالُوا إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ وَحْدَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا فِى الْجَمَاعَةِ وَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْمَغْرِبَ وَحْدَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ قَالُوا فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا مَعَهُمْ وَيَشْفَعُ بِرَكْعَةٍ. وَالَّتِى صَلَّى وَحْدَهُ هِىَ الْمَكْتُوبَةُ عِنْدَهُمْ)( ).
ولم تكن صلاة الجماعة أمراً مستحدثاً في الشريعة الإسلامية بل جاء بها الأنبياء ، وتعاهدها الأولياء والصالحون ، وفي خطاب إلى مريم ورد في التنزيل [وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، لبيان قانون وهو الركوع ركن في الصلاة قبل الإسلام وبعده ، وهذه الركنية توطئة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لتكون الدعوة لكل مسلم بتعاهد صلاة الجماعة ، وهذا التعاهد عنوان الأخوة ، وفيه نشر للمحبة واشاعة للمودة بين المسلمين أنفسهم ، وبينهم وبين الناس ، وصلاة الجماعة واقية يومية من الإرهاب .
فمن الإعجاز في الصلاة أداؤها خمس مرات في اليوم ، ووقوف المسلمين والمسلمات بين يدي الله بخشوع وخضوع لتنبسط هذه الحال على ألسنتهم وجوارحهم خارج الصلاة وفيما بين الفرائض الخمس.
قانون البسملة حرب على الإرهاب
من وجوه التحدي والإعجاز في القرآن إخبار الله عز وجل بأن القرآن كلامه الذي أنزله على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
والمختار أن النسبة بين الإعجاز والتحدي هو العموم والخصوص المطلق ، فالإعجاز أعم ، مع تعدد وجوه التحدي في اللفظ والآية القرآنية.
ومن خصائص القرآن أن كل آية منه رحمة للناس ، وقد ذكرتُ في باب الآية رحمة من الجزء السابق (ينبسط قانون الآية القرآنية رحمة على كل آية من آيات القرآن ، وفيه دعوة للعلماء لإستقراء أفراد ومصاديق الرحمة في الآية القرآنية ، وهل تختص بعض آيات القرآن بالرحمة بطائفة من الناس دون غيرهم ، الجواب لا ، ولكن إنتفاع الناس منها على مراتب متفاوتة)( ).
ومن أسماء الله عز وجل (الرحيم) و(الرحمن) وقد لازمت حرب الاسماء الحسنى على الإرهاب البعثة النبوية وبداياتها وهو من الإعجاز من وجوه :
الأول : إبتداء السورة القرآنية بالبسملة فكل سورة من القرآن تبدأ بالبسملة سواء في الرسم أو التلفظ والنطق بها أو المعنى والدلالة.
الثاني : قصر السور المكية وهي السور التي نزلت من أول بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى حين هجرته إلى المدينة في السنة الثالثة عشرة للبعثة ، وفي يوم هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل هو السابع والعشرون من شهر صفر من السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية الشريفة ويوافق الشهر التاسع من عام 622 ميلادي .
وبعد أن لبث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام في غار ثور ، الجمعة والسبت والأحد ، انطلق نحو المدينة إذ وصل إلى قباء يوم الاثنين الثامن من شهر ربيع الأول ، ودخل المدينة المنورة في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول .
لتبقى تركة النبوة في المدينة آيات وسور القرآن وإنجذاب الناس لها على نحو التوالي ، ومن معاني قوله تعالى [وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى]( )، أنها بسم الله الرحمن الرحيم( ).
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الأوائل آيات القرآن واجهارهم بالبسملة في أول سورة.
لقد أراد الله عز وجل للبسملة أن تكون دعوة للهداية والصلاح ، ونبذ العنف فهي حجاب وبرزخ دون تعدي الذين كفروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ومن خصائص البسملة زجر المشركين عن منع الناس من دخول الإسلام ، فصحيح أن قريشاً قامت بتعذيب طائفة من المسلمين الأوائل خصوصاً المستضعفين وحبسوا بعضهم إلا أن موارد التخفيف في المقام لا يعلمها إلا الله .
وفي البسملة واستحضارها في عالم الأقوال والفعال بركة وهي مادة للتنمية ، ورحمة عامة وعصمة من الإرهاب ، ودعوة للمسلم لإجتناب.
قانون البسملة في صلح الحديبية استئصال للإرهاب
عقد صلح الحديبية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفد مشركي قريش برئاسة سهيل بن عمرو في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
وعندما حضر وفد مشركي قريش عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجرى التفاوض وتم الإتفاق على الصلح (دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام فَقَالَ اُكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَالَ فَقَالَ سُهَيْلٌ لَا أَعْرِفُ هَذَا ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ فَكَتَبَهَا ؛ ثُمّ قَالَ اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولَ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ؛ قَالَ فَقَالَ سُهَيْلٌ لَوْ شَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللّهِ لَمْ أُقَاتِلْك ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ اسْمَك وَاسْمَ أَبِيك ؛ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو)( ).
وفي قول سهيل بن عمرو (لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك) شاهد على أن المشركين هم الذين بدأوا القتال ومستمرين عليه ، ويدل التوثيق التأريخي عليه كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، ومع أن المشركين هم الغزاة فانهم الذين يبدأون القتال في كل مرة ، إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون مشغولين بالإنشغال بالبسملة والتسبيح والذكر في القول والعمل .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ قَالَ أَقْطَعُ)( ).
لقد أراد عز وجل لنبوة محمد أن تكون رحمة متصلة للناس جميعاً ، وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البسملة في صلح الحديبية ، ويكون فيه مسائل :
الأولى : إنه نوع عهد وميثاق اضافي يترشح عن ذكر الله .
الثانية : اضفاء البركة واليمن على الصلح.
الثالثة : بيان الصبغة الإيمانية للصلح ، وقد أدرك سهيل بن عمرو هذا المعنى فاحتج على ذكر البسملة ، وكتابتها في عقد الصلح لتمر الأيام ويدخل سهيل بن عمرو الإسلام ويتلو البسملة خمس مرات في اليوم ، وفيه شاهد بأن الصبر على الأذى نشر للأمن المجتمعي.
الرابعة : بصلح الحديبية دخلت البسملة مكة ، فان منعت قريش دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة وأداءهم مناسك لعمرة فان البسملة تدخل في ميثاق إلى مكة .
الخامسة : لقد كانت قريش تخشى وتخاف من البسملة عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في بداية قراءته القرآن سواء في الصلاة أو عند الإحتجاج ، فأراد الله عز وجل لها أن تكون في أول عقد الصلح .
وهل إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في المسجد الحرام وتلاوته آيات القرآن في مكة قبل الهجرة من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( )، أم أن القدر المتيقن من الآية هو معركة أحد وما بعدها ، الجواب هو الأول بدليل علة إلقاء هذا الرعب وهو اتخاذهم الشرك منهاجاً.
السادسة : البسملة سفير إلى أهل مكة لدخول الإسلام .
السابعة : بيان مسألة وهي أن امضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلح الحديبية بأمر من عند الله عز وجل ، وفيه دعوة لأصحابه للصبر ، ورسالة إلى المسلمين والمسلمات في مكة بقرب الفتح، لبيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي صيرورة صلحه مع مشركي مكة وسيلة لفتحها وإزاحة الأصنام وسيادتها منها ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام استدامة هذه الإزاحة إلى يوم القيامة.
ومع موضوعية البسملة في عقد الصلح الحديبية ، والنفع العام منها فان المشركين احتجوا وامتنعوا عن كتابتها في أول العقد ترى لماذا رضي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إبدالها (باسمك اللهم) الجواب من جهات :
الأولى : إرادة وحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اتمام الصلح وهو من مصاديق تقديم الأهم على المهم.
وهل الألف واللام في [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، للعهد وخصوص موضوع الآية من الإصلاح بين الزوجين ، أم أنه للجنس وينبسط على أفراد الزمان الطولية.
الصحيح هو الثاني لبيان الترغيب به والنهي عن العزوف عنه والنسبة بين الصلح والإرهاب هو التضاد ، فالصلح مناسبة لإزاحة الضغائن ، وللتنمية والبناء.
الثانية : بيان قانون هو ما يشاءه الله عز وجل لابد وأن يظهر في الوجود والواقع ، فحينما قال النبي (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فانه لم يقله إلا عن وحي من عند الله ، وإذ حال العناد وجهالة المشركين دونه فان الله عز وجل يظهره بصيغ أخرى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )،تغشي البسملة لجميع أقطار الأرض ، وانتفاء المانع من انتشارها وجريانها على الألسن في كل زمان لأنها نعمة من عند الله ، وإذا أنعم الله عز وجل على الناس بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها وجاءت نعمة البسملة من وجوه :
الأول : البسملة من كلام الله .
الثاني : البسملة سفير النبوة .
الثالث : البسملة من الوحي .
الرابع : جزئية البسملة من القرآن سواء بابتداء سورة الفاتحة بها أو ابتداء كل سورة بها عدا سورة التوبة وهو المختار أو بورودها في سورة النمل حكاية عن بلقيس ملكة سبأ [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
الثالثة : قد تم توثيق أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم لتدركه الأجيال المتعاقبة من المسلمين وغيرهم ، لبيان أن النبي محمداً نبي الرحمة والرأفة والإنسانية.
ضعف خبر رجم القردة
لقد ورد خبر بأن القردة قامت برجم واحدة منها قد زنت ، والحديث ضعيف رواية ودلالة ، ونسب من حيث زمان وقوعه إلى أيام الجاهلية.
وقال (نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ رَأَيْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ ، فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ)( ).
روي عن (نعيم بن حماد: حدثنا هشيم عن أبي بلج، وحصين، عن عمرو بن ميمون، قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها، فرجمتها معهم.
وعن عبد الملك بن مسلم حدثنا عيسى بن حطان، قال: حدثنا عمرو بن ميمون، قال : كنت في حرث، فرأيت قرودا كثيرة قد اجتمعن، فرأيت قردا وقردة اضطجعا ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد واعتنقها وناما، فجاء قرد فغمزها، فنظرت إليه، وانسلت يدها من تحت رأس القرد ثم انطلقت معه غير بعيد، فنكحها وأنا أنظر، ثم رجعت إلى مضجعها.
فذهبت تدخل يدها تحت عنق القرد، فانتبه، فقام إليها، فشم دبرها، قال: فاجتمعت القردة، فجعل يشير إليها فتفرقت القردة، فلم ألبث أن جئ بذلك القرد بعينه – أعرفه فانطلقوا بها وبه إلى موضع كثير الرمل، فحفروا لهما حفيرة فجعلوهما فيها، ثم رجموهما حتى قتلوهما)( ).
والذي أخبر عن رؤيته الواقعة هو عمرو بن ميمون ، وقد ورد في اسناد بعض الإخبار مثل :
ومما رواه (عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ,”أَنَّ مُوسَى عليه السلام حِينَ أَسْرَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَغَ فِرْعَوْنَ فَأَمَرَ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ, قَالَ: لا يُفْرَغُ مِنْ سَلْخِهَا حَتَّى تَجْتَمِعَ إِلَيَّ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ, فَانْطَلَقَ مُوسَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ, فَقَالَ لَهُ: انْفَرِقْ.
فَقَالَ لَهُ الْبَحْرُ: لَقَدِ اسْتَكْبَرْتَ يَا مُوسَى, وَهَلِ انْفَرَقْتُ لأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ فَأَفْرُقَ لَكَ؟ قَالَ وَمَعَ مُوسَى رَجُلٌ عَلَى حِصَانٍ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ.
قَالَ : مَا أُمِرْتُ إِلا بِهَذَا الْوَجْهِ هَذَا الْبَحْرِ فَأَقْحَمَ فَرَسَهُ فَسَبَحَبِهِ, فَخَرَجَ فَقَالَ: أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟, قَالَ: مَا أُمِرْتُ إِلا بِهَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ : وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلا كُذِبْتَ, ثُمَّ أَقْحَمَ الثَّانِيَةَ فَسَبَحَ ثُمَّ خَرَجَ ثُمَّ.
قَالَ : أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ , قَالَ: مَا أُمِرْتُ إِلا بِهَذَا الْوَجْهِ, قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلا كُذِبْتَ.
قَالَ : فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلَقَ, فَكَانَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ يَتَرَاءَوْنَ فِيهِ.
فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى تَتَامَّ أَصْحَابُ فِرْعَوْنَ الْتَقَى الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمْ)( ).
وعبد الله أعلاه الذي يروي عنه عمرو بن ميمون هو عبد الله بن مسعود لقاعدة وهي إذا ذكر عبد الله وحده فهو عبد الله بن مسعود وليس عبد الله بن عباس أو عبد الله بن عمرو أو عبد الله بن عمرو.
وعمرة بن ميمون الأودي ، أبو عبد الله أسلم في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلقه ، إذ أبطأ في منازل قبيلته بني أود من بطون قبيلة مذحج.
و(قال عمرو بن ميمون: قدم علينا معاذ الشام فلزمته، فما فارقته حتى دفنته، ثم صحبت ابن مسعود. وهو معدود في كبار التابعين من الكوفيين)( ).
وجعل من التابعين لأنه لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلتق معه ، وهو ثقة ، وروي أنه حج وأعتمر ستين مرة ، ومات سنة خمس وسبعين للهجرة.
وروى (عمرو بن ميمون. عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب : أنت ولي كل مؤمنٍ بعدي)( ).
وخبر رجم القردة أعلاه ضعيف سنداً ودلالة ، وقيل نعيم بن حماد متروك ، كما ورد في سند الحديث كل من عبد الملك بن مسلم وعيسى بن حطان ولا يحتج بهما .
ولم يرفع هذا الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما قضية في واقعة في أيام الجاهلية ، وليس على البهائم ومنها القرود تكليف وإقامة حدود ، إنما التكليف على الإنس والجن .
وتنفي وقوع حادثة الرجم هذه دراسات عالم الحيوان في هذا الزمان ، فقد تتزاوج القردة الواحدة مع أكثر من فرد ، لبيان فضل الله عز وجل في نظام الأسرة في المجتمع البشري ولزوم تعاهده ، والإعتناء بوحدة العائلة ، وعدم إدخال الفزع لها بالإرهاب والعنف والتكفير.
وعلى فرض صحة الخبر فانه يحمل على جنس من الجن ، أراد الله عز وجل أن يراها من سيدخل الإسلام ، والمختار أن هذا الخبر منكر لا أصل له.
قانون الإحتباك حرب على الإرهاب
الإحتباك اصطلاح بلاغي ، ومعنى الإحتباك هو حذف النظير بين جملتين من الحبك وهو التثبيت والإحكام إذ يحذف النظير من الأول تخفيفاً لوجوده في الثاني ، مثل قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ]( ).
ففي الآية حذف من الأول لدلالة الآخر عليه ، وتقدير الآية ، قد كان لكم آية في فئتين فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى كافرة تقاتل عدواناً وظلماً وجحوداً .
ويدخل الإحتباك في تقدير الآية بخصوص تنزيه التنزيل ، وحربه على الإرهاب في أغلب آيات القرآن ، فمثلاً بالنسبة لسورة الفاتحة يكون التقدير على وجوه :
الأول : بسم الله [السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ]( ).
الثاني : بسم الله الرحمن الرحيم الذي يأمر بالرحمة بين الناس.
الثالث : الحمد لله الذي جعل الأرض ملكاً له ودار سلام .
الرابع : [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، إذ يلتقي الناس والخلائق بالعبودية لله عز وجل .
وهذه العبودية سور الموجبة الكلية الذي يبعث على التوادد بين الناس.
الخامس : الله هو [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، الذي يدفع الإرهاب وضرره عن الناس.
السادس : الله مالك يوم الدين فيعاقب الذين قاموا بالإرهاب والإضرار بالناس .
السابع : قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، إياك نعبد ونتنزه عن الإرهاب ، وإياك نستعين بالعصمة من الإرهاب .
الثامن : قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، اهدنا الصراط المستقيم الخالي من الإرهاب ، والبعيد عن التعدي والظلم .
التاسع : قوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ]( )، وتقديره : صراط الذين أنعمت عليهم بابتعادهم عن الإرهاب ، وأبعدت الإرهاب عنهم .
ومن خصائص الإرهاب لحوق الندم لصاحبه ، ولا عبرة بالقليل الذي يبقى مصراً على فعله ، وحتى هذا البقاء فهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الكم والكيف والمدة الزمانية إذ أنه آخذ بالتناقص مع تقادم الأيام والتدبر والأسى في الأضرار الفادحة التي تنزل بالآخرين بسبب العمل الإرهابي ، وعدم وجود أصل شرعي له.
وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (التأنّي من الله ، والعجلة من الشيطان ، وما شيء أكثر معاذير من الله ، وما شيء أحب إلى الله من الحمد)( ).
ومن خصائص الإرهاب أنه تعجل ويفتقر إلى التدبر والحكمة .
ليكون من الإعجاز في فرض الصلاة خمس مرات في اليوم اللجوء إلى الله عز وجل في أوقات الصلاة وهو قاطع للعجلة بالفعل ، وسبب للإمتناع عن الفعل المنافي لطاعة الله ورجاء فضله ورحمته.
قانون الأسماء الحسنى برزخ دون الإرهاب
لقد اختص الله عز وجل لنفسه بالأسماء الحسنى التي تدل على سعة سلطانه ورحمته ، وقدرته على كل شئ ، وأنه هو الخالق والمحيي والمميت ، وفي التنزيل [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاسماءُ الْحُسْنَى]( ).
والأسماء الحسنى أسماء مدح وثناء وتمجيد لله عز وجل ، ونعت كمال له سبحانه ، وصفات إكرام وأفعال إحسان متصل وحكمة غير متناهية ، وعدل تام ومطلق في النشأتين .
وقد سمّى الله عز وجل نفسه بهذه الأسماء فجرت على ألسنة الأنبياء ، وردت في الكتب السماوية ، ومنها ما استأثر الله عز وجل به لنفسه .
وسميت بالحسنى لوجوه :
الأول : الأسماء الحسنة صفات كمال مطلق وحسن تام .
الثاني : لا يعلم كنهها ودلالتها إلا الله عز وجل .
الثالث : الأسماء الحسنى ملجأ في الدعاء والتوسل إلى الله ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الاسماءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على حرمان الذين كفروا أنفسهم من الإنتفاع من الأسماء الحسنى ودلالتها .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أصابه هم أو حزن فليقل : اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي في يدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك .
أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور بصري ، وذهاب همي ، وجلاء حزني.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما قالهن مهموم قط إلا أذهب الله همه وأبدله بهمه فرجاً . قالوا : يا رسول الله أفلا نتعلم هذه الكلمات؟ قال : بلى ، فتعلموهن وعلموهن)( ).
الرابع : لقد كان المشركون يتغنون بأسماء الأوثان ويتزلفون إليها ، ويقدسونها اسماً ومسمى.
وعن ابن عباس (قال : اشتقوا العزى من العزيز ، واشتقوا اللات من الله)( ).
الخامس : الإخبار عن كون الأسماء الحسنى لله دعوة للمسلمين والناس إلى إجتناب الشرك ، والإمتناع عن عبادة الأصنام والتغني بأسمائها ، وأسماء الطواغيت.
وهل كان الملأ من قوم فرعون يمجدون اسمه ، بعنوان الربوبية من دون الله وهل كان هذا التمجيد من أسباب هلاكهم غرقاً.
المختار نعم ، فحينما قال فرعون كما ورد على لسانه في التنزيل [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ). فلابد من وجود استجابة من قومه ولو على نحو السالبة الجزئية.
وفي قوله تعالى [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ]( ) (قرأ ابن مسعود وابن عباس وبكر بن عبد الله (الشعبي) والضحاك وابن أبي إسحاق : إلهتك بكسر الألف أي (إلهك) فلا يعبدك كما تعبد. قالوا : لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبد)( ).
لذا نزل القرآن بذم قوم فرعون الذين لم يغرقوا معه إلا بعد قيام الحجة عليهم ، قال تعالى [فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن ذكر الأسماء الحسنى ، وجاءت السنة النبوية في بيانها والترغيب في إحصائها وحفظها والتدبر في معانيها .
و(عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله تسعة وتسعون اسماً ، من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن)( ).
وقد تقدم ذكرها عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلم وغير المسلم التدبر في معاني الأسماء الحسنى وأنها خير محض ، وعنوان رحمة ورأفة بالناس جميعاً.
وفي إحصاء الأسماء الحسنى وذكرها ، وتلاوة الآيات التي تتضمنها مانع من الإرهاب ، وهي سيف زاجر عن الظلم والتعدي.
ومن إعجاز القرآن ورود عدد من الأسماء الحسنى في آية واحدة ، قال تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
و(عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله السموات السبع والأرضين السبع في قبضته ، ثم يقول : أنا الله ، أنا الرحمن ، أنا الملك ، أنا القدوس ، أنا السلام ، أنا المؤمن ، أنا المهيمن ، أنا العزيز ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً ، أنا الذي أعيدها ، اين الملوك ، أين الجبارون)( ).
ليكون من معاني الأسماء الحسنى تثبيت معالم الإيمان في الأرض ومحاربة الشرك والظلم ، لقد أراد الله عز وجل امتلاء قلب المسلم بالخشية من الله ، وهذه الخشية واقية وحصن من مزاولة الإرهاب ، للتضاد بين الخشية والإرهاب ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
مدرسة الأسماء الحسنى واقية من الإرهاب
من معاني الأسماء الحسنى الملك المطلق لله عز وجل في الدنيا والآخرة ، وأن البعث حق ، والجنة حق والنار حق ، وأن العصمة من إرهاب وظلم الغير والتعدي على الناس طريق إلى اللبث الدائم في النعيم ، وهو من الشواهد على عنوان هذا الجزء وهو (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) وقانون إزاحة القرآن للإرهاب من الأرض.
وأخبرت السنة النبوية عن قانون التوسل إلى الله عز وجل بالأسماء الحسنى إذ أن كل اسم منها مدرسة جامعة في سبل الهداية ، وباب للتقرب إلى الله .
و(عن عبد اللَّه بن مسعود قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ ، إذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنُ : اللَّهُمَّ ، إني عَبْدُكَ وابْنُ عَبْدِكَ وابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسم هُوَ لَكَ؛ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوِ استأثرت بهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ صَدْرِي ، وَجَلاَءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي ، إلاَّ أذْهَبَ اللَّهُ غَمَّه وَأبدَلَه مكَانَ حُزْنِهِ فَرَحَاً ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : يَنْبَغي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذِهِ الكَلِمَاتِ ، قَالَ : أَجَلْ ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ)( ).
ويبين هذا الحديث فضل الله عز وجل بتعليم الأنبياء عدداً من الأسماء الحسنى .
وهل يختص هذا التعليم بالأنبياء أم يشمل الائمة المعصومين والأولياء الذين رزقهم الله الاسم الأعظم واستجابة الدعاء.
المختار هو الثاني ، وهو من اسرار العموم في الحديث (أو علمته أحداً من خلقك) وهو أعم من الأنبياء لبيان سعة فضل الله عز وجل على الناس ، وصيرورة الأسماء الحسنى قريبة منهم على اختلاف مشاربهم ، ويمكن القول بوجوه :
الأول : قانون : كل اسم من الأسماء الحسنى زاجر عن الإرهاب ، فأسم الجلالة (الله) دال على الذات المقدسة ، وهو اسم على مفرد لا تثنية أو جمع له ، وانفرد به الله عز وجل وخصّ به نفسه ، وصرف الناس عن التسمية به ، وجعله الله سبحانه حصناً وملاذاً.
واسم السلام نشر للأمن والسلم بين الناس وهو سبحانه المنزه عن النقص والعيب ، وفيه منع من الإرهاب.
ولا يقال مثلاً الله من أسماء العزيز ، ولكن يقال : العزيز من أسماء الله.
الثاني : قانون الأسماء الحسنى تمنع من الإرهاب وهو من أسرار تعدد الأسماء الحسنى وذكرها في القرآن ، والكتب السماوية السابقة ، وإحاطتها في المعنى والدلالة بمعالم الخلق والإنشاء وتوالي الفضل والنعم من الله وبما يفيد استقراء قوانين النفع العام منها.
فمثلاً اسم (الرحمن) و(الرحيم) لبيان أن رحمة الله عز وجل تتغشى الخلائق كلها ، وإفادة التضاد من جهتين :
الأولى : عامة بالتضاد بين رحمة الله بالناس وبين الإرهاب والإضرار بهم .
الثانية : خاصة بالتضاد بين القرآن والإرهاب ، كما يدل عليه قوله تعالى [حم* تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
ويدل اسم الوهاب على أن الله عز وجل هو المنعم على العباد بغير حساب ولا يرجو العوض أو البدل ، والذي يعطي من سأله ومن لم يسأله ، وعن حاجة الناس أو من غير حاجة ، ومن يرجو تحقيق غايات له فان الله عز وجل هو الوهاب فلا تصل النوبة إلى الإرهاب والعنف والتفجيرات العشوائية .
وهذه الغايات فرع الرحمة التي تذكر في قوله تعالى [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
لبيان أن يوم القيامة أوان الحساب والجزاء على عالم القول والفعل ، فلابد أن يتخذ الإنسان طريق الإحسان ، وأن يأمن العباد من شروره وأذاه.
الثالث : قانون كل اسم من الأسماء الحسنى تأديب وتعليم للناس عامة ، وللمؤمنين خاصة ، وفيه تهذيب للسلوك ، وتنقية للصلات ، ودعوة للحوار ، وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
بين الرحمة والعفو
من أسماء الله عز وجل (الرحيم) و(العفو) وهو الذي يمحو الذنوب ، ويترك المؤاخذة عليها ، ويغفر الخطايا والسيئات ، وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ]( ).
ويهدي الله عز وجل إلى التراحم والعفو بين الناس ، قال تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ويبين القرآن أن العفو عن الآخرين وتعديهم سبب للفوز بالعفو والرحمة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن أسماء الله تعالى (المنتقم) و(القهار) إذ ينتقم الله من الظالم بعد أن يقيم عليه الحجة المتعددة ، ولا راد لبطشه وعقابه ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( ).
وقال تعالى [فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا]( )، لتكون إقامة الصلاة والعصمة من الإرهاب واقية من الإنتقام الإلهي.
والنسبة بين الرحمة والعفو من عند الله عز وجل هو العموم والخصوص المطلق فالرحمة أعم ، وهل تأتي الرحمة كيلا تصل النوبة إلى العفو بوقاية العبد من المعصية ، الجواب نعم.
وقد ورد في الجزء السابع والأربعين بعد المائة من هذا السِفر (بيان قانون وهو أن الرحمة على أقسام منها :
أولاً : قانون الرحمة العامة .
ثانياً : قانون الرحمة التي تتغشى أمة وطائفة .
ثالثاً : قانون الرحمة الخاصة بفرد أو أفراد .
رابعاً : قانون الرحمة بخصوص موضوع معين .
خامساً : قانون الرحمة التوليدية التي تتفرع عنها ضروب ومصاديق من الرحمة ، وإن كان الأصل أن كل فرد وقسم من أقسام الرحمة توليدي.
سادساً : قانون الرحمة الخاصة بأهل موضع مخصوص من الأرض.
سابعاً : قانون الرحمة التي تأتي لأهل زمان معين.
ثامناً : قانون الرحمة التي تصاحب النبوة.
تاسعاً : قانون الرحمة التي تلازم أي نبي على نحو مخصوص، وهو الذي يتجلى في قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
عاشراً : قانون الرحمة الواقعية من فعل قبيح ومذموم، ومنها ما ورد في قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( ).
لقد بعث الأنبياء على ترك الفرح بما فيه الضرر الخاص والعام ومنه إخفاء بشارات ومعجزات النبوة بلحاظ أن التروك هي الأخرى من عالم الوجود ، وتتضمن العزم والإرادة( ).
وفي التنزيل [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( ) ( )،
قانون ارحموا من في الأرض
لقد ذكر الله عز وجل أصحاب الميمنة بالثناء والإكرام والبشارة بالثواب العظيم والسعادة في مقابل أصحاب المشأمة الذين يصيرون ومن حيث الدخول في القبر في أشق الأحوال ، وملاقاة أهوال الآخرة واشتقت اليمين من اليُمن وهو الخير والبركة ، ولبيان أن أصحاب اليمين هم أهل الجنة .
وقد بيّن الله عز وجل خصال أصحاب الميمنة على نحو الإيجاز ذي البيان والدلالة بقوله تعالى [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ]( ).
ليكون نيل مرتبة أصحاب اليمين يسيرة وعمل من جهات :
الأولى : الإيمان .
الثانية : الصبر والمناجاة فيه .
الثالثة : الرحمة والتراحم ، والدعوة إلى الرحمة العامة للذات والغير ، والنسبة بين هذا التراحم وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العموم والخصوص المطلق فالأمر والنهي أعلاه هو الأعم.
ويتجلى في الآية أعلاه مع قلة كلماتها التباين والتضاد بين ما يوصي به المؤمنون بعضهم بعضاً وبين الإرهاب ، وفيه شاهد على حرمته والمنع منه ، ومن معاني المرحمة وجوه :
الأول : السعة في الرحمة ، وقصد رحمة الناس على اختلاف مشاربهم وأوطانهم وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : الزيادة في الرحمة .
الثالث : عدم صيرورة الأذى من الطرف الآخر سبباً للإمساك عن رحمته والرفق به.
الرابع : المبالغة في الرفق والعطف على الفقير واليتيم ، وصاحب الحاجة.
الخامس : الصفح والعفو ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
السادس : قهر النفس على الرحمة للغير ، وعدم البخل أو الشح بالرحمة.
ومن الرحمة الإنفاق في سبيل الله ، وإخراج الزكاة والخمس ، والحقوق الشرعية ، ودفعها إلى مستحقيها ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
قانون التوبة طاردة للإرهاب
من أسماء الله عز وجل (التواب) وهو سبحانه الذي يرّغب بالتوبة ، ويقرب الناس إليها ، ويقربها من الناس للتنزه عن الإرهاب والبطش ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
وأسباب نزول هذه الآية خاصة إلا أن موضوعها أعم وهي باعث على التوبة ، والتفقه في سننها واستحضار منافعها في الدنيا والآخرة ، واقترن التطهر بالتوبة لبيان لزوم هجران العمل القبيح ، والظلم والتعدي .
و(عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا أحب الله عبده لم يضره ذنب ، ثم تلا [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( )، قيل : يا رسول الله وما علامة التوبة ، قال : الندامة)( ).
و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مرّ رجل ممن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر اليها فقال : أي ربّ أنت أنت ، وأنا أنا ، أنت العوّاد بالمغفرة ، وأنا العوّاد بالذنوب ، ثم خرّ ساجداً.
فقيل له : ارفع رأسك فأنا العوّاد بالمغفرة ، وأنت العوّاد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له)( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التضرع والتوسل وسؤال الحاجة من الله عز وجل ، وهذا التضرع ضد للإرهاب ، ومانع من غلبة النفس الغضبية .
ترى ما هي النسبة بين التضرع وسؤال الحاجة من الله وبين الحكمة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالحكمة أعم ، فيجب الدعاء والمسألة ، قال تعالى [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
لبيان أن الحكمة والهداية وحسن السمت والإختيار غنى وثروة عظيمة أكبر من المال .
وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأمته بالحكمة ، وفي خطاب إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا]( ).
والنسبة بين الحكمة والإرهاب هو التنافي والتضاد لبيان قيام الحجة بلزوم وراثة المسلم والمسلمة الحكمة والتقيد بسننها ، والصدور عنها ، ومن مصاديق هذا الصدور قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وإشاعة فلسفة التوبة والتدارك أمر حسن ، وفيه تهذيب للأخلاق وعصمة من التعدي.
قانون السلم سور جامع
السلم حال خال من القتال ، فالسلم نقيض الحرب ، والنسبة بين السلم والصلح هو العموم والخصوص المطلق ، فالسلم أعم ، وقد يتحقق من غير صلح ، إذ قد يتعقب الصلح الحرب والقتال ، أما السلم فهو مطلق ، فجاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، لإرادة اجتناب القتال ، ومن السلم الإطمئنان للطرف الآخر ، وإجتناب الغدر والغيلة والإرهاب.
وأول من نادى بالسلم العام للناس هم الملائكة إذ سألوا الله عز وجل منع نزيف الدم في الأرض ، وهو أعم من رجاء وقف الإقتتال ، إذ يشمل لزم إجتناب الناس الخصومة التي تفضي إلى الجرح والقتل على نحو القضية الشخصية ، لقد أرادوا أن تكون الحياة الدنيا وردة زاهية تبعث العطر والطيب في الأرض والسماء .
وقد رفع الملائكة لواء السلم العالمي قبل أن يهبط آدم إلى الأرض لتكون مناشدتهم لله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، دعوة للملوك والأمراء وعامة الناس بتعاهد السلم في الأرض ، فأخبرهم الله عز وجل باحاطة علمه بكل شئ من الموجود والمعدوم ، وقال لهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : تفضل الله ببعثة الأنبياء ليكونوا دعاة للسلم .
الثاني : نزول الكتب السماوية لتثبيت قواعد السلم وتنحية الناس عن الحروب ومقدماتها ، ولا يعلم مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، في دفع الله عز وجل الإقتتال عن الناس ببركة الكتب السماوية المنزلة إلا الله عز وجل .
وهل من معاني (البيان) في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، بيان القرآن للقبح الذاتي للإقتتال وسفك الدماء.
الجواب نعم ، ومنه سؤال وتساؤل الملائكة أعلاه ، وجاءت السنة النبوية باجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القول والعمل بمنع الإقتتال ، ويدل عليه إظهاره الإستعداد للرضا بشروط قريش في صلح الحديبية قبل أن يفدوا عليه للتفاوض .
لقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسائل طمأنينة إلى قريش بأنه لم يأت للقتال ، إنما جاء وأصحابه لأداء العمرة وزيارة البيت الحرام الذي جعله الله عز وجل للناس جميعاً [سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي]( ).
مقدمة صلح الحديبية زجر متجدد عن الإرهاب
حينما أشرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على موضع الحديبية وبركت ناقته القصواء قال نفر من الصحابة (خلأت القصواء).
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما خلأت القصواء وما ذاك لها لخلق ولكن حبسها حابس الفيل)( ).
والقصواء اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، و(خلأت) أي حزنت وبركت وتصعبت وامتنعت عن النهوض.
فاجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها لم تخلأ وليس هو من خلقها وعادتها ولكنها أمارة ودعوة للتوقف عن المسير فلو دخل المسلمون إلى مكة وهم في حال إحرام ربما أجهز عليهم كفار قريش وتُسفك الدماء وتقع الفتنة ونهب الأموال ويفسد موسم الحج.
فأراد الله عز وجل للمسلمين الإقامة في الحديبية مع الضمان والعهد منه تعالى بتحقيق الغايات الحميدة التي جاءوا من أجلها ، وضمان الأجر والثواب.
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا تسأله قريش خطة ومنهاج عقد وما يسمى في هذا الزمان خريطة طريق بحيث يكون فيها تعظيم شعائر الله أو حفظ حرمة البيت الحرام إلا أجبتهم وأعطيتهم ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هم أولياء البيت على نحو الحقيقة ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهذا القول من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : درء الفتنة .
الثانية : منع الإختلاف بين الصحابة بخصوص الصلح .
الثالثة : تهيئة أذهان الصحابة لقبول الصلح وشروط قريش فيه.
الرابعة : توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة إلى أجيال المسلمين بلزوم الميل إلى الصلح والصبر على الأذى .
الخامسة : المنع النبوي من الإرهاب والإرهاب الموازي ليحمل هذا المنع النهي والتحريم .
السادسة : تأديب المشركين وجذبهم إلى لغة الحوار .
السابعة : الرأفة بقريش بعد أن أنهكتهم الحروب ، وأنفقوا أموالهم في غزو المدينة وأطرافها ، وهل رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )، الجواب نعم.
ثم زجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناقة فوثبت ونهضت للدلالة على أنها لم تخلأ ولم تتصعب ، ولتكون هذه الواقعة مقدمة لرضا المسلمين بالإقامة في الحديبية ، إذ نزل على مشارف الحرم (على ثمد قليل الماء)( ).
قليل ليس له مادة ، مع أن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ألف وأربعمائة كما في رواية جابر بن عبد الله الأنصاري( ).
الثالث : تفضل الله عز وجل بالنفخ من روحه في آدم.
ومن مصاديق وجر صلح الحديبية عن الإرهاب وجوه :
الأول : مجئ الصلح بعد معارك عديدة بين النبي والمشركين ، ومنها معركة بدر وأحد ، والخندق .
الثاني : إقرار المشركين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أمة .
الثالث : عدم إغارة المشركين على المدينة وأطرافها بعد الصلح ، إذ أن هذه الإغارة إرهاب متكرر ، فابدلها الله بالصلح ، وهو دعوة وزجر متجدد عن الإرهاب سواء من طرف المسلمين أو غيرهم.
الرابع : إرادة حرية الفكر وإختيار العقيدة بعد الصلح ودخول من يرغب في عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يدخل الإسلام .
وفيه حضّ على التقيد سنن المواطنة وقوانين البلد الذي ينتمي إليه الفرد والجماعة أو أنهم يقيمون فيه .
وعن محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، فدخلت خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش)( ).
قانون الفطرة أصل مانع من الإرهاب
أصل الفطرة الشق ، لبيان أن خلق الإنسان إبتداع من عند الله ، وكذا وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وفي التنزيل [لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي]( ).
ويتنافى الإرهاب مع فطرة الإنسان وما جلبه الله عز وجل عليه ، والميثاق الذي أخذه عليه في عالم الذر ، وكذا مواثيق الأنبياء ، وفطرة الإنسان على جهات :
الأولى : التحلي بالأخلاق الحميدة .
الثانية : المناجاة بسنن التوحيد وإتباع الأنبياء ، وفي التنزيل [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
الثالثة : النفرة من سفك الدماء ، والنسبة بينه وبين الإرهاب هو العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابعة : نصر الله عز وجل للأنبياء وورثة وأتباع الأنبياء ، لأن هذا النصر حاجة لأهل الأرض عامة ، والمؤمنين خاصة ، وليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، في المقام جهات :
الأولى : ولقد نصركم الله ببدر لحاجة الناس لهذا النصر .
الثانية : ولقد نصركم الله ببدر لحاجتكم لهذا النصر .
الثالثة : ولقد نصركم الله ببدر لصرف القتل يومئذ عن النبي وعنكم .
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقصد نفسه بلفظ (العصابة) في دعائه كما ورد عن الإمام علي عليه السلام (قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك الليلة ليلة بدر ، ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد)( ).
الجواب كان النبي يقصد نفسه والمهاجرين والأنصار ، فقد فوّض النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره وأمر أصحابه إلى الله ، مع الإجتهاد بالدعاء والمسألة فنزل ألف من الملائكة لنصرتهم ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ليفتح الله عز وجل بهذا النصر أبواب الرحمة وسبل الهداية لأجيال الناس والى يوم القيامة ، مما يلزم معه الشكر لله عز وجل على هذه النعمة بالإمتناع عن الإرهاب والعنف والتفجيرات التي تؤدي بحياة أفراد أبرياء ، وتسبب الهلع والخوف والنقمة والسخط عند الناس جميعاً.
ولا تفصل طائفة من الناس بين الذي يقوم بالعمل الإرهابي وبين الجهة أو الملة التي ينتسب إليها مع براءتها من هذا الفعل .
وهل مسؤولية حفظ الأمن والسلم والتعايش المجتمعي تقع على الناس جميعاً بعرض ودرجة واحدة لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أم هناك تباين في هذه الوظيفة.
المختار هو الثاني.
ومن الذين تقع عليهم أعباء كثيرة ومتعددة في المقام :
الأول : الأنبياء والرسل فهم القادة والأئمة في مسالك السلام والدعوة إليه ، ولما قضى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الفتن في الجزيرة ، واستئصل أسباب الفتنة والوأد ، وهدم الأصنام في ربوع الجزيرة ، وصار الناس يدخلون في الإسلام جماعات وقبائل دفعة واحدة نزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لبيان أن ترك الإرهاب من كمال الدين ، والشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان ، ومن مصاديق هذا الشكر التحلي بالصلاح ، وبعث المؤمن الطمأنينة والأمن في نفوس الناس منه .
الثاني : الملوك والرؤساء والوزراء والنواب .
الثالث : العلماء والذين هم ورثة الأنبياء ، إذ يلزم عليهم إخراج علومهم .
الرابع : أهل الحل والعقد ، كما في شورى الملأ من قوم فرعون ضد بني إسرائيل ، وكما في شورى قوم نمرود في حرق إبراهيم ، وفي التنزيل [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن تحذيره من بطانة السوء ، ووليجة النفاق وبيان أضرارها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الخامس : المؤمنون والمؤمنات [الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وهل الإمتناع عن الأرهاب والظلم والإضرار بالناس من حفظ حدود الله ، الجواب نعم .
السادس : أهل الصلاح مجتمعين ومتفرقين.
وفي هذا الزمان صارت موضوعية للمؤسسات والمنظمات فلابد من السعي والإجتهاد لنشر ثقافة السلم والسلام ، وهذا السعي وأثره وما يترتب عليه من النفع من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن خصائص الأنبياء أنه لم يغادر النبي الحياة الدنيا إلا وقد زرع السلم في ناحيته ، وجعل الناس ينفرون من القتال ، ويتجنبون سفك الدماء ، ومن الآيات في المقام أن معجزة النبي صارفة للناس عن الفتنة والإقتتال .
ومن لم يتعظ بالمعجزة يلقى الخسارة ، ويصيبه الندم ومن يتعدى على المعجزة ، فهو ممن يحارب الله ورسوله فيعجل الله عز وجل لهم الهلاك ، كما في قوم صالح حينما عقروا الناقة .
و(عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب الناس فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات ، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله إليهم الناقة .
فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج.
فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام ، وكان وعداً من الله غير مكذوب ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله .
فقيل : يا رسول الله من هو؟ قال : أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه)( ).
لبيان مصداق من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ببيان القرآن لهذه القوانين ، ولزوم إمتناع الناس عن الكفر بنعمة المعجزة خاصة تلك التي سألوها فاستجاب الله عز وجل للنبي فيها ، مثل ناقة صالح .
ومن مصاديق الرحمة العامة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجب مشركي قريش من إقدامهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلامتهم من الإصابة بالهلاك والإبادة العامة .
ومن مصاديقها إدراك كل مسلم حرمة الإرهاب ، ولزوم إجتنابه .
قانون التلاوة رافد للسلم
لقد بيّن القرآن أن السلم المجتمعي طريق للبناء ، وأن النبي محمداً رسول الأمن إلى بقاع الأرض ، ونزل القرآن بذم الحروب والإقتتال إلا على نحو الإضطرار ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ..]( ) ولا يعلم الحاجة إلى التعايش السلمي وموضوعيته في الإستقرار العام والإزدهار الإقتصادي واستدامة خلافة الإنسان إلا الله والذين ذاقوا ويلات الحروب وما تسببه من الخسائر في الأرواح والأموال ، حيث يدرك كل طرف أن ما اكتسبه من الحرب لا يعادل تلك الأموال والوقت والجهد الذي بذل فيها ، وتبقى النفوس والدماء التي سالت ليس لها عوض إلى جانب ما يترشح عنها من اليتم والترمل ، لبيان شدة ضرر الإرهاب من باب الأولوية لإنعدام المكاسب فيه .
وكذا بالنسبة للإرهاب والتفجيرات ، فليس فيها نفع عاجل أو آجل ، وما تخلفه من المآسي يعود بالضرر على الجميع .
وهل في السلم المجتمعي والسلامة العامة من الإرهاب مناسبة ودعوة للجوء إلى الله عز وجل ، ونشر سنن الإيمان والتقوى ، الجواب نعم .
ويبين القرآن معجزة من الإرادة التكوينية في تقسيم الناس إلى شعوب وقبائل ، وإلى أوطان وديار خاصة بهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
ومن الغايات في هذا التقسيم التراحم ، والتعارف بسجايا الخلق الحميد ، وتثبيت وتوارث سنن الإيمان.
وقيل معنى ({لِتَعَارَفُوا} يعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب، وبعده لا لتفاخروا)( ).
ولعل هذا القول هو المشهور في علم التفسير ، ولكن معنى التعارف أعم فمن مصاديقه وجوه :
الأول : التراحم بين الناس .
الثاني : الإنتساب للأنبياء ، فيقال مثلاً أمة عيسى عليه السلام وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : التعايش المجتمعي والسلم العام.
الرابع : التوادد بين أفراد القبيلة والشعب وأبناء الوطن الواحد ، وبينهم وبين غيرهم من الأمم والشعوب ، ويدل على هذا العموم أول الآية في ندائها وخطابها إلى الناس جميعاً ، وتقديرها لتعارفوا يا أيها الناس جميعاً.
الخامس : من المتعارف الأمر بالمعروف والتعاون في أداء الفرائض ، والنهي عن المنكر.
وهل من مصاديق هذا التعارف المذكور في القرآن المنظمات الدولية ذات النفع العام ، الجواب نعم ، فقد جعل الله عز وجل الناس تميل إلى هذا التوادد والتفاهم والسلم بالفطرة .
قانون الآية بُلغة ومنهاج للإصلاح
لقد أختتمت الآية التي اختص بتفسيرها الجزء قبل السابق بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] وتدل الواو أعلاه على حقيقة وهي ان العذاب معطوف على غيره ، وهذا الغير عذاب أيضاً ،لبيان البلاء الشديد الذي يلاقيه الذين كفروا ويخفون البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويفرحون بهذا الإخفاء في الدنيا وهو سبب لحزنهم في الآخرة.
وصحيح أن الوعيد في الآية لا يشمل الذين آمنوا إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية على الزجر للناس جميعاً عن أمرين :
الأول : إرتكاب المعصية .
الثاني : الفرح بهذه المعصية .
وهو من إعجاز القرآن في تصدّيه لمن يحارب الله ورسله أيام التنزيل ، ويتحقق النصر عليهم بظهور الإيمان والتقوى لتبقى مضامين ذات الآية القرآنية رحمة ونعمة و(بلغة سماوية) وإصطلاح البلغة هذا مستحدث في هذا السِفر ، نذكره لأول مرة في هذا الجزء.
(والبُلغة: القوت يتبلّغ به الإنسان) ( ).
(والبُلْغَة: ما يتبلّغ به الإنسان من قوت) ( ).
(والبُلْغَةُ : ما يُتَبَلَّغُ به من العَيش. وتَبَلَّغَ بكذا، أي اكتفَى به)( ).
(والبُلْغَةُ : بالضَّمِّ : الكِفَايَةُ وما يُتَبَلَّغُ بهِ منَ العَيْشِ زادَ الأزْهَرِيُّ : ولا فَضْلَ فيه تَقُولُ : في هذا بَلاغٌ وبُلْغَةٌ أي : كِفَايَةٌ) ( ).
ومن إعجاز القرآن الكفاية بآياته وأحكامه لبيان الحلال والحرام ، وحل الخصومات ، بل وللمنع منها ، كما في آيات الميراث مثلاً وتقسيمه بقوانين سماوية ثابتة، إذ جاءت على جهات :
الأولى : الميراث في الطبقة الأولى بين الوالد والولد وإن نزل كالحفيد عند غياب الولد الصلبي ، قال تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
الثانية : الميراث بلحاظ الزوجية ، قال تعالى [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ]( ).
وتبين هذه الآية التوارث بالمصاهرة وسبقتها آية الوراثة بالنسب لبيان أولوية وموضوعية النسب في الميراث ، ومنافع الابن في الإستغفار لأبيه سواء كان الابن ذكراً أو أنثى.
الثالثة : وراثة الطبقة الثانية وهم الأخوة والأخوات والأجداد عند عدم وجود الأبوين والأولاد وان نزلوا سواء كانوا ذكوراً أو اناثاً ، متعددين أو منفردين.
الرابعة : وراثة الطبقة الثالثة من الأخوال والأعمام عند غياب وانعدام الطبقة الأولى والثانية( ).
ومن مصاديق دعوة القرآن للسلم والصلاح ، ومنعه من الفرقة والفتنة والتشتت في الأسرة ومقدمات الإرهاب ضبطه لقوانين الإرث ومجئ السنة النبوية ببيانه.
حديث : إذا مات الإنسان زاجر متجدد عن الإرهاب
لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث بصيغ متقاربة :
الأول : (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به ، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له) ( ) .
الثاني : (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
الثالث : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات المؤمن
انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
ويدل هذا الحديث في مفهومه على الزجر عن الإرهاب ، من جهات :
الأولى : الإرهاب ليس صدقة جارية إنما هو ضرر جار ومتصل فيقوم الإنسان بالعمل الإرهابي ، وسواء مات في هذا الفعل أو لم يمت فيه فان ذكره بالذم بين الناس متصل سواء في دويرته أو خارجها ، ومن أهل ملته ومذهبه وغيرهم .
الثانية : النسبة بين الصدقة والإرهاب هو التضاد ، وكذا بين الأثر المترتب عليها ، فلا يخلف الإرهاب إلى الإضرار الخاص والعام ، وسقوط الضحابا ، وحال اليتم والترمل أو وفاة الزوجة والأم والأخت إلى جانب الأضرار المادية .
الثالثة : لقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه عن الشأن الرفيع للعلم ، وبقائه نافعاً ناقصاً للناس ، لبيان قانون وهو حجب العلم الناس عن الإرهاب فربّ عالم يموت وينتقل إلى دار الآخرة ولكن ما خلفه من علم يمنع من الإرهاب ، ويزجر عنه .
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقصد في الحديث أعلاه النهي عن الإرهاب بأن يقوم العلماء بترك ما ينتفع منه عامة الناس ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتتجلى نسبة التضاد في المقام من وجوه :
الأول : التضاد بين العلم والإرهاب فالذي عنده علم وفقه لا يقدم على العمل الإرهابي إنما يدرك قانون كفاية الحجة والبرهان لتحقيق الغايات الحميدة .
الثاني : التضاد بين العالم والإرهابي ، فلا يقوم العالم بالحضّ على الإرهاب بالتصريح أو التلميح ، أو تمويله ، وتهيئة مقدماته ، فمن أبجديات العلم معرفة القبح الذاتي للإرهاب ، وأضراره الحالة واللاحقة ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ).
الثالث : التضاد بين الإرهاب وأثر العلم ، فهذا الأثر مدرسة وتأديب ، لذا فان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه ليس فقط من جوامع الكلم ، إنما هو معجزة لإرادة بعث العلماء على التحقيق والبحث العلمي والتأليف بما فيه تعظيم شعائر الله ، والنفع العام للإنسانية ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه]( )، وجوه :
أولاً : فمن يعمل مثقال ذرة في باب العلم والتحصيل .
ثانياً : فمن يعمل مثقال ذرة تبقى تركة علمية من بعده خيراً يره.
ثالثاً : فمن يعمل ويترك علماً خيراً يره .
بأن يأتيه ثواب مستحدث بعد وفاته بانتفاع الناس من علمه سواء في أيام حياته أو بعد مغادرته الدنيا .
رابعاً : من يترك علماً ينتفع منه من الناس يرحمه الله في الدنيا والآخرة .
ومن الإعجاز في الحديث النبوي صبغة الإطلاق في العلم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (أو علم ينتفع به) فلم يخصص أو يحدد نوع العلم ، ولو دار الأمر بين تقييده بأنه علم اللاهوت وأحكام الشريعة أم العلم مطلقاً بما ينفع الناس في أمور الدين أو الدنيا ، فالمختار هو الثاني ، وقد تجلى في هذا الزمان انتفاع الناس عامة من علوم رياضية وهندسية وصناعية وتقنية في باب البناء والنقل والصناعات والزراعات والمكاسب وحتى في أداء الفرائض كالحج، وهو من مصاديقه قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الرابعة : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقانون وهو عدم إنقطاع عمل الإنسان في الدنيا إذا خلّف من بعده ولداً صالحاً يدعو له ، وقد يتبادر إلى الذهن إنحصار نفع الميت بدعاء ولده له ، ولكن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من جوامع الكلم فقد قيدّ الولد بأنه صالح ، أي مؤمن مواظب على أداء الفرائض العبادية يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، كما أنه يحرص على إجتناب الظلم والإرهاب ، للتضاد بينهما وبين الصلاح.
فهل يكون لفظ المؤمن في الحديث الثالث أعلاه مقيداً للإطلاق في لفظ (الإنسان ) ولفظ (ابن آدم).
المختار لا ، لسعة رحمة الله عز وجل ولعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، خاصة وأن الحديث لا يتضمن الوعد بالفوز بالنعيم والبراءة من النار بالنسبة لمن ترك من بعده إحدى الخصال الثلاث أعلاه.
فمن الإعجاز في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبغة العموم فيه ، وهي عدم إنقطاع عمل الإنسان بعد وفاته ، وفيه حضّ للمسلمين والناس جميعاً إلى أمور:
الأول : الإقرار باليوم الآخر ، والبعث بعد الموت ، وهل هذا الإقرار طريق للإصلاح ، الجواب نعم ، لبيان قانون تعدد طرق الإصلاح بالآية القرآنية من جهات :
الأولى : رسم وألفاظ الآية القرآنية .
الثانية : مضامين الآية القرآنية .
الثالثة : تلاوة المسلمين للآية القرآنية .
الرابعة : الإتعاض الخاص والعام من الآية القرآنية .
الخامسة : نزول الآية القرآنية بالأوامر والنواهي إصلاح للنفوس والمجتمعات .
السادسة : منع الآية القرآنية من الإرهاب .
السابعة : جذب الناس إلى منازل الهدى وخصال الإيمان ، لقانون كل آية قرآنية لطف من عند الله عز وجل .
الثامنة : الأجر والثواب في تلاوة الآية القرآنية ، وقصد الثواب في التلاوة عزوف وتنزه عن الإرهاب ومقدماته.
وعن ابن عمر (قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ قَالَ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ .
قَالَ نَعَمْ قَالَ صَدَقْتَ.
قَالَ فَمَا الْإِحْسَانُ قَالَ تَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَا تَكُ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُحْسِنٌ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ صَدَقْتَ قَالَ فَمَا الْإِيمَانُ قَالَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْقَدَرِ كُلِّهِ قَالَ فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُؤْمِنٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ صَدَقْتَ ) ( ).
الثاني : الترغيب بالإيمان وانجاز العهد ووصية الميت .
الثالث : التعاون في نشر الصالحات ، وأسباب المودة بين الأحياء وبينهم وبين الأموات التي تتجلى بالإستغفار لهم ، وأداء ما فاتهم من الفرائض والعبادات كالصلاة والصيام والزكاة والخمس والحج ، وذكر محاسنهم كما يثني الناس على الميت لحسن سمت ولده ذكراً كان أو انثى ، ومن حسن السمت التنزه عن الإرهاب ومقدماته.
الرابع : بيان قانون وهو موضوعية الصدقة الجارية ، وإنتفاع الإنسان منها بعد وفاته .
الخامس : تربية وإعداد الولد الصالح .
الثالثة : ثم جاءت آية الكلالة وهي آخر آية من سورة النساء [يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وموضوعها ميراث الإخوة والأخوات للذي يموت ولم يترك أباً وأماً أو ولداً وحفيداً له ، وأختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) .
لبيان الأجر والثواب على التقيد بقسمة الميراث وفق قواعد الشريعة ، ولحوق الإثم بمن يغتصب حق بعض الورثة ، ويستولي عليه بالغلبة أو المكر والحيلة ، كما أنذر الله عز وجل الناس بقوله تعالى [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا] ( ).
وتدل خاتمة الآية أعلاه على قانون وهو عدم خفاء شئ على الله عز وجل لبيان قانون في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وهو اقتران العلم المطلق بالملك المطلق ، إذ يعلم الله عز وجل كل ما في ملكه وشؤونه ، وحركته ، وأفراده، وجزئياته ، والموجود منها والمعدوم ، وفيه دعوة للإيمان ، والإنتفاع الأمثل من آيات القرآن لأنها سبيل النجاة والوسيلة في النشأتين .
ومن دلائل قانون الآية بلغة ومنهاج للإصلاح قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) فحينما جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وجعل الدنيا مزرعة للآخرة فانه سبحانه سخّر للإنسان سبل العمل الصالح ، والطريق إليه ، بما يكفل له النجاة في الأولى وفي الآخرة ، فانزل القرآن ليكون وسيلة الهداية والفلاح والوقاية من السيئات ، ومنه الظلم والإرهاب وإخافة عامة الناس بغير حق.
قانون الإكرام الخاص زاجر عن الإرهاب
لقد أكرم الله عز وجل الناس جميعاً بالخلق والخلافة في الأرض والعقل ، وتوالي النعم ، وتسخيرها لهم ، وصيرورتها قريبة منهم .
كما أكرمهم في الزوجية ، والذرية والصلات الإجتماعية ، والأخلاق الحميدة ، وكل فرد من هذه الخصال دعوة للتنزه عن الإرهاب الذي هو خلاف الفطرة والسنخية العامة لخلق الإنسان.
وتفضل الله عز وجل وأكرم الناس باختيار طائفة منهم لمرتبة النبوة والرسالة ، وأنزل عليهم الوحي الذي هو رحمة عامة تتغشى أجيال الناس إلى يوم القيامة.
فلا تختص نعمة البعثة والوحي بأشخاص الأنبياء إنما هي هبة ولطف من عند الله عز وجل بالناس جميعاً ، وهذا اللطف ليس واجباً على الله ، إنما هو فضل منه تعالى ، وليس من حصر لوجوه اللطف من عند الله ، وفي التنزيل [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ]( )، لبيان تغشي لطف الله للناس جميعاً ، ولا تحجب المعصية عن فاعلها لطف الله عز وجل لإقامة الحجة على الإنسان بأن لا يرتكب عملاً إرهابياً إنتقاماً لمعصية إنما يدعو الله عز وجل الإنسان إلى الصبر والتفكر في لطفه وإحسانه به والإنعام إليه.
ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) قانون الإكرام الخاص من عند الله لكل إنسان ، فكما تتعدد وتتباين بصمات أصابع وعيون الناس ، فكذا هناك نعم وصيغ إكرام لكل شخص تختلف عن النعم التي جاءت لغيره من الناس ، وهل ينحصر هذا التباين بأهل البلد أو الجيل الواحد ، الجواب لا ، إنما هو عام ، لتكون مقدمة ليوم الحشر حيث يمتاز كل إنسان بخصال وصفات في خلقه وهيئته وهو من بديع صنع الله ، وأسباب معرفة وتعيين الملائكة للأشخاص .
فهناك فرد من الإكرام والنعم يختص بها كل إنسان غير موجودة عند غيره من البشر إلى يوم القيامة وهو من بديع صنع الله عز وجل وعظيم قدرته وسعة سلطانه ، واستجابة الأشياء كلها له سبحانه ، وفي التنزيل [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( )، لبيان قانون وهو علم الله عز وجل بخلقه لطف منه تعالى ، وسبيل إلى إصلاح الخلائق ، والرأفة بها.
ولقد اختلف العلماء هل يدل (من) في الآية أعلاه على الله عز وجل فيكون فاعلاً وفق الصناعة النحوية ، أم المراد من (من) الخلق فيكون مفعولاً به ، المختار هو الثاني ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود إلى الله عز وجل ، وفيه مسائل :
الأولى : نظم آيات القرآن إذ تدل الآية السابقة من علم الله عز وجل بما يقول ويفعل الناس ، ويعلم النوايا والمقاصد ، والعزائم فمن باب الأولوية أن يعلم بما يقول الناس وما يتناجون به .
الثانية : التبادر من علامات الحقيقة ، إذ يتبادر إلى الذهن إرادة علم الله عز وجل بالخلائق ، وجاءت الآية بصيغة التمثيل ، ولابد أن يعلم الصانع بجزئيات ما صنعه .
الثالثة : تبين الآية قانون وهو علم الله عز وجل بالإنسان ككائن متحد ، ومركب من روح وجسد وتأليف الجسد من أعضاء وعظام وأغشية وغدد ، ودم سائل ونحوه ، لبيان فضل الله بأن فقد بعض الأعضاء لا يهلك معه الإنسان.
الرابعة : لم تأت الآية بـ(ما) التي تأتي على وجوه :
الأول : إرادة غير العاقل ، وهو الغالب في استعمالها .
الثاني : إرادة العاقل وهو قليل ، كما في قوله تعالى [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا]( ).
الثالث : إرادة المعنى الأعم الشامل للعاقل وغير العاقل وكما في قوله تعالى [يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ]( )، وقوله تعالى [ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ]( ).
فقد يعبد الكافر والوثن ، وقد يعبد الطاغوت .
وهل يدرك الإنسان هذا الإكرام الخاص يوم القيامة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( )، بما يبهر الناس يوم القيامة ، ويجعل المؤمن يأسف لتقصيره في طاعة الله والذكر والتسبيح.
ويجعل الكافر يندم ويتحسر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
وهل يمكن القول بقانون إجتماع الإكرام الخاص والعام في زجر الإنسان عن الإرهاب ، الجواب نعم ، إذ يدعو فضل الله عز وجل الناس إلى التنزه عن الظلم والإرهاب ، ويتجلى قانون وهو الإمساك عن الإرهاب مقدمة لتوالي فضل الله .
ولا يتعارض الإكرام الخاص للإنسان مع إنتفاعه بالنعم التي تأتي للأسرة ، إنما يكون هذا الإكرام في طولها .
وهل قول المسلم والمسلمة في الصلاة اليومية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، يتضمن الشكر لله عز وجل على فرد أو أفراد من الإكرام الخاص.
الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل ، وحينما ينكشف للمسلم يوم القيامة هذا الإكرام يكون في مقابله قلة شكره وحمده لله عز وجل ، لبيان فضل الله عز وجل في قبول الحمد له سبحانه على النعمة الظاهرة ، وعلى النعمة الباطنة.
والنعمة الخاصة من مصاديق الأفراد الظاهرة والباطنة في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً]( ).
ولم يرد لفظ (باطنة) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهل لتلاوة القرآن نعمة باطنة ، الجواب نعم ، لما في التلاوة من صحة البدن ، ومحو البلاء ونحوه بالناس وهل في هذه التلاوة صرف عن الإرهاب وهل هذا الصرف من النعمة الظاهرة أم الباطنة ، الجواب هذا الصرف من النعمة الظاهرة إذ أنه خلق حميد ، وسمت حسن ، ولطف وتعاهد للتعايش السلمي ، ودلالة على أن التلاوة دعوة لترجمة عملية لما في القرآن من آيات الرفق والود والموادعة والصبر.
ويتلقى كل إنسان النعمة الخاصة ، وينهل من النعمة العامة التي يتفضل بها الله عليه وعلى غيره ، وهو من مصاديق العبودية لله.
وفيه دعوة للمسلم للإمتناع عن البطش بالغير ، وتعريضه للإرهاب والإخافة والفزع العام والخاص ، فكما ينتفع كل انسان من النعم العامة والخاصة ، فيجب عدم ظلمه وتعريضه للإخافة والفزع العام والخاص.
وتدل نعمة [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، على موضوعية السلامة من الخوف في حياة الفرد والجماعة والأمة ، ولزوم تهيئة أسباب الطمأنينة للناس فهم في ملك الله عز وجل.
وقد تجلت الخشية من الله عز وجل بالعصمة من الإرهاب ، منذ أيام أبينا آدم إذ ورد عن هابيل بن آدم في رده على وعيد أخيه قابيل بقتله [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
والآية أعلاه من حرب القرآن على الإرهاب في كل زمان ، إذ تبين منهاج التقوى ، واختيار تحمل الضرر على القيام بالعمل الإرهابي ولئن قُتل هابيل ظلماً فقد جاءت البشارة للمسلمين بقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( )، وفيه حجة ودعوة للإبتعاد عن الإرهاب ومقدماته.
وجاءت السنة النبوية بالإخبار عن حصول الإبتلاء للمؤمن ، وما فيه من الأجر العظيم.
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما يصيب المؤمن من نصب ، ولا وصب ، ولا هم ، ولا حزن ، ولا أذى ، ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله من خطاياه)( ).
وهل هذا التكفير للذنب من ملك الله عز وجل المطلق ، أم أنه من قدرة الله عز وجل على كل شئ ، الجواب إنه منهما معاً مجتمعين ومتفرقين ، وهو من سعة رحمة الله عز وجل .
و(عن بريدة الأسلمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما أصاب رجلاً من المسلمين نكبة فما فوقها حتى ذكر الشوكة إلا لإحدى خصلتين : إلا ليغفر الله من الذنوب ذنباً لم يكن ليغفر الله له إلا بمثل ذلك ، أو يبلغ به من الكرامة كرامة لم يكن يبلغها إلا بمثل ذلك .
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن الوجع لا يكتب به الأجر ، إنما الأجر في العمل ، ولكن يكفِّر الله به الخطايا)( ).
وتدل آيات القرآن والسنة النبوية على عموم الإبتلاء في الدنيا ، وأن النبي وعامة المؤمنين ليسوا في حصن أو استثناء من هذا الإبتلاء ، وفيه دعوة للتقوى والذكر والصلاح الذي هو نوع علة وسبب لمحو الإبتلاء ، ودعوة لإجتناب إنزال البلاء بالناس عامة ، ومن هذا البلاء المنهي عنه أمور :
الأول : الإرهاب .
الثاني : التفجيرات وسفك الدماء.
الثالث : إصابة بعضهم بالعاهات.
الرابع : الإخافة العامة للناس .
ليكون من إعجاز القرآن تهيئة أذهان المسلمين للإبتلاء وصيرورته سبباً للتراحم ، والإمتناع عن إيذاء الغير.
ومن الإكرام الخاص الميثاق للأنبياء وأهل الكتاب والمسلمين ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] ( ).
قانون الراحمون يرحمهم الله
عنوان هذا القانون شطر من حديث نبوي شريف ، إذ ورد عن عبد الله بن عمرو ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ)( ).
ومن خصائص ومعاني هذا الحديث صيغة الإطلاق في كل من:
الأول : الراحمون ، فلم يقيد الحديث انتماء الراحمين وإرادة خصوص المؤمنين .
الثاني : نزول الرحمة من الله للراحمين ، ومن الإعجاز في الحديث ذكر الله عز وجل بصفة (الرحمن) .
فمن معاني هذا الاسم أنه عام للناس جميعاً ، بينما خص اسم الرحيم المؤمنين بقوله تعالى [وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا]( )، ومن فضل الله عز وجل عدم حصر معاني الرحمة بالأسماء الحسنى ، فقد وردت آيات عديدة تبين سعة رحمة الله ، وشمولها للناس جميعاً ، قال تعالى [وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً]( ).
الثالث : خطاب وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ارحموا) من جوامع الكلم .
الرابع : تجلى التضاد بين الرحمة والإرهاب ، فمن يرحم الناس لا يقوم بالظلم والتعدي والإرهاب .
الخامس : مع قلة كلمات الحديث فانه يتضمن :
أولاً : الإبتداء بقانون من الإرادة التكوينية والأصل أن الله عز وجل يرحم الناس جميعاً سواء رحموا غيرهم أم لا ، بدليل تسمية الله عز وجل في هذا الحديث بـ(الرحمن) أي أنه سبحانه يرحم الإنسان على كل حال .
يبين الحديث أن رحمة إضافية تأتي من عند الله للذين يرحمون الناس ، وهل يدل هذا الحديث على حجب هذا الرحمة الإضافية عن الذي يقوم بالإرهاب ، الجواب نعم ، إلا أن يشاء الله .
ثانياً : الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين والناس بالرحمة بأهل الأرض جميعاً ، وتقدير هذا الحديث : يا أيها الناس أرحموا من في الأرض .
ثالثاً : البشارة والوعد الكريم بأن الله عز وجل يرحمه الذين يرحمون الناس ، وفي الحديث ترغيب بالتراحم الذي هو واقية من الإرهاب .
ويحتمل المراد به وجوهاً :
الأول : خصوص الصحابة من المهاجرين والأنصار .
الثاني : إرادة المسلمين والمسلمات .
الثالث : توجه خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، خصوصاً وأن الحديث في الرحمة والتراحم بين الناس.
وتقدير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ارحموا) على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا أرحموا .
الثانية : يا أهل الكتاب ارحموا .
الثالثة : يا أيها الناس ارحموا من في الأرض .
الرابعة : يا أيها الملوك والحكام ارحموا من في الأرض.
لبيان أن رحمة الملوك والرؤساء لا تختص بدائرة سلطانهم إنما هي عامة ، من معانيها إجتناب القتال والحروب والفتن وإرهاب الدولة.
وجاء الحديث بصيغة فعل الأمر (ارحموا) وقد نزل القرآن بوجوب طاعة الله ورسوله ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
وليس من تزاحم أو تضاد بين نشر شآبيب الرحمة وبين التقيد بقواعد الحقوق والواجبات .
السادس : من معاني هذا الحديث النبوي منع الإعتداء على الآخر ، والنهي عن الإرهاب والبطش والتفجيرات لمنافاتها للرحمة العامة.
وهل من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ارحموا من في الأرض) ارحموا أنفسكم ، الجواب نعم ، بأن ينجو الإنسان برحمته للآخرين من الشقاء والعذاب يوم القيامة ، وهذه النجاة من الشكر من الله للعبد .
وحتى في الدنيا فان صدور الرحمة من الإنسان لغيره باعث للسكينة والطمأنينة في النفوس ، وقيل أن الرحمة في الحديث مقيدة بالكتاب والسنة.
والجواب هذا صحيح ، ولكن الحديث أعم في موضوعه لإرادة اشاعة الرحمة بين الناس من المسلمين وأهل الكتاب والكفار ، فحتى الذي لم يصدق بالنبوة والتنزيل يتوجه إليه الخطاب في هذا الحديث ليكون برزخاً دون الإرهاب والإرهاب الموازي .
ومن خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها استئصال للإرهاب .
السابع : من معاني الرحمة في الحديث الصبر على الأذى ، وعدم مقابلته بالمثل ، ومنها الإحسان للناس ، والمواساة والبذل والفضل على البر والفاجر .
وهل من الرحمة الشفقة على الحيوان والطير ، الجواب نعم ، وقد ورد الحديث بصيغة العاقل (مَن) (ارحموا من في الأرض).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة)( ).
الثامن : تنمية ملكة الرحمة في النفوس ، فبدل الإرهاب والإرهاب الموازي تكون الرحمة والرحمة الموازية ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموضوعيتها والحاجة إليها ، وتجلي المنافع العامة منها في كل زمان.
التاسع : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للجزاء من الله على الرحمة لأهل الأرض على اختلاف مشاربهم ، ومذاهبهم بأن الله عز وجل هو الذي يجازيهم بالرحمة وهذا البيان من علم الغيب ، والوحي من الله عز وجل لإفادة الخبر النبوي القطع والصدق .
كما ورد عن جرير بن عبد الله قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)( ).
لبيان التضاد والتنافي في الفعل ، وفي الجزاء المترتب عليه ، فحينما يرحم الإنسان عامة الناس تنزل عليه شآبيب الرحمة.
قانون (رحمة للعالمين) عصمة من الإرهاب
لقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمراتب من التفضيل باحسان من عند الله ، وليكون هذا التفضيل تشريفاً له وللمسلمين ودعوة للناس للهداية والإيمان ، ولطفاً لإبعادهم عن مواطن العنف والإرهاب ، ومن هذه المراتب نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة البعثة وأنها رحمة عامة للناس لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ الكلمات أعلاه آية مستقلة ليشكر المسلمون والناس الله عز وجل على هذه النعمة ، والتقائهم بالإنتفاع منها ، نعم هذا الإنتفاع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة من جهة تلقيهم لهذه النعمة بالقبول والرضا ، أو بالصدود عنها .
وهل يحجب هذا الصدود الرحمة النبوية عن الذي يختاره ، الجواب لا ، فلابد أن تصل إليه هذه الرحمة ، وينهل منها ، وهو الذي تجلى ومن السنين الأولى للبعثة النبوية ، ومنها :
الأولى : حضور كلام الله عز وجل بين الناس ، بتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة لآيات القرآن.
الثانية : بعث النفرة من الأصنام وتقديسها .
الثالثة : هجران الناس لوأد البنات ، ودفنها من حين الولادة خشية وقوعها عندما تكبر في السبي ، وما فيه من الشماتة ، أو لإجتناب الفاقة والضيق ، والمجاعة العائلية ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا]( ).
ومن معاني [نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ] بيان أن هذا الرزق الكريم من الرحمة التي بعث الله بها النبي محمداً .
وهل كان من أسباب منع قتل الأبناء ذكوراً وإناثاً دخولهم الإسلام ، وإن أقام الأب على الكفر والشرك ، الجواب نعم .
لتكون سلامة الأبناء من القتل رحمة لهم ولأهلهم وذراريهم الذين ما كانوا ليولدوا لولا نزول آيات القرآن لإنخرام النسل من الأصل بقتل الموءودة والموءود .
إذ ذكرت الأنثى في الوأد في القرآن للفرد الغالب ، والا فان حال الوأد عند بعض القبائل العربية شامل للذكر والأثنى ، وسيأتي قانون الوأد من الإرهاب.
فقد كان الوأد من أشد ضروب الإرهاب وتأسيساً له ، ويحتمل الوأد بلحاظ احتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وجوهاً :
الأول : الوأد من الفساد .
الثاني : وأد وقتل البنت من قبل أبيها عند الولادة وهي صغيرة من سفك الدماء .
الثالث : إنه جامع للوجهين أعلاه .
الرابع : إنه ليس من الفساد ولا من سفك الدماء .
والصحيح هو الوجه الثالث أعلاه ، لذا فهو إرهاب لبيان قانون استئصال القرآن للإرهاب سواء في الأسرة أو الوطن أو في عموم الأرض.
ومن إعجاز القوانين القرآنية الإستدامة والحضور النافع في كل زمان ومكان ، ومنها قانون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين أي في كل زمان ومكان ، فهذه الرحمة لا تنقطع ولا تنقص مع كثرة تحقق مصاديقها وأفرادها فهي نعمة متجددة على الإنس والجن ، ومنها تنزيه الأرض من الإرهاب لأنه ضرر محض ، وضد الرحمة.
ولابد من مصاديق يومية لهذه الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يذّكر الناس بهذه النعمة ، ويهديهم للإنتفاع الأمثل منها ، ولا تختص هذه النعمة بذات البعثة إنما تشمل وجوهاً:
الأول : نزول الآية القرآنية رحمة للعالمين .
الثاني : العمل بأحكام آيات القرآن ، فهذا العمل رحمة للذي يعمل بأحكام الآية وغيره .
الثالث : البركة المصاحبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء المسلمين الفرائض ، فلا تختص هذه البركة بالذي يؤدي الفرائض ، إنما هي عامة تشمل الناس كلهم ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
الرابع : زجر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الإرهاب والعنف والبطش ، وبعد أن أسرف مشركو مكة بتعذيب الكثير من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله في فراشه نزل جبرئيل بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة.
وهذه الهجرة من أعظم النعم على المسلمين وأهل الأرض ، وحتى على الذين كفروا لنجاتهم من أوزار قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
تقدير آية [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ]
يتضمن قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الشهادة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه هو الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عنده لتدل الآية بالدلالة التضمنية على المدد من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته ، وسلامته من الإرهاب ، لتكون هذه السلامة حجة على المسلمين ومناسبة لشكرهم لله عز وجل على هذه النعمة بالعصمة من الإرهاب وإعانة الناس في إجتنابه ، ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه كثيرة منها :
الأول : وما أمرناك بالهجرة إلا رحمة للعالمين .
الثاني : وما انشأت المسجد النبوي إلا رحمة للعالمين .
الثالث : وما هاجرت طائفة من الصحابة الأوائل إلى الحبشة إلا رحمة للعالمين .
الرابع : وما صبرت على أذى قريش إلا رحمة للعالمين.
الخامس : وما نزل ذم وتوبيخ أبي لهب عم النبي إلا رحمة للعالمين ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
السادس : وما أرسلناك خاتماً للنبين إلا رحمة للعالمين .
السابع : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، الا رحمة للعالمين .
الثامن : وما أرسلناك الا رحمة للعالمين [لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ]( ).
التاسع : وما أرسلناك بالحق إلا رحمة للعالمين .
العاشر : [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً]( )، رحمة للعالمين .
الحادي عشر : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، [فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
الثاني عشر : وما أرسلناك إلا بالوحي والتنزيل رحمة للعالمين .
الثالث عشر : وما أرسلناك بحرمة الخمر والربا إلا رحمة للعالمين .
الرابع عشر : وما أرسلناك بالنهي عن عبادة الأصنام إلا رحمة للعالمين.
فان قلت قد احتج بعض الكفار كما ورد في التنزيل [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ]( )، والجواب لا عبرة بالجاحدين الذين صار جدالهم حجة عليهم ، فتاب أكثرهم.
و(عن عمر بن الخطاب في قوله [وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ]( )، الآية . قال : أقبلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم ما يمنعكم من الإِسلام فتسودوا العرب.
فقالوا : يا محمد ما نفقه ما تقول ، ولا نسمعه ، وإن على قلوبنا لغلفا .
وأخذ أبو جهل ثوباً فمده فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد [قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ] ( ).
قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى خصلتين . أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإني رسول الله . فلما سمعوا شهادة أن لا إله إلا الله [وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا]( )، وقالوا [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ]( )، وقال بعضهم لبعض [امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا]( ).
وهبط جبريل فقال : يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول : أليس يزعم هؤلاء أن على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر فليس يسمعون قولك؟ كيف [وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا] ( )، لو كان كما زعموا لم ينفروا ولكنهم كاذبون يسمعون ولا ينتفعون بذلك كراهية له.
فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أعرض علينا الإسلام ، فلما عرض عليهم الإِسلام أسلموا عن آخرهم ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحمد الله ، ألستم بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفاً ، وقلوبكم في أكنة مما ندعوكم إليه ، وفي آذانكم وقراً وأصبحتم اليوم مسلمين.
فقالوا : يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كان كذلك ما اهتدينا أبداً ، ولكن الله الصادق والعباد الكاذبون عليه ، وهو الغني ونحن الفقراء إليه)( ).
الخامس عشر : وما أرسلناك بحرمة الظلم والإرهاب إلا رحمة للعالمين ، فيتقيد المسلم بأحكام الشريعة ، ويجتنب الإرهاب فينتفع الناس جميعاً من هذا الإجتناب .
السادس عشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين إذ تنشر المودة والأخاء بين الناس .
السابع عشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بالإقرار بالكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل .
الثامن عشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .
التاسع عشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، ومنهم الكفار من جهات :
الأولى : دعوة الكفار إلى التوبة والإنابة .
الثانية : بعث الكفار على ترك عبادة الأوثان .
الثالثة : بيان حرمة الزنا والمعاصي .
الرابعة : التجديد اليومي لدعوة الكفار إلى الإيمان .
الخامسة : نبذ الأخلاق المذمومة .
العشرون : وما أرسلناك إلا رحمة لأجيال الناس المتعاقبة.
الواحد والعشرون : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين لقطع النزاعات والإقتتال.
ولما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وإشاعته القتل ، أخبرهم الله بعلمه المطلق بما يفعله الناس وعاقبتهم ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، علم الله في المقام بتفضله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للإنس والجن .
الثاني والعشرون : وما أرسلناك إلا بالأخلاق الحميدة رحمة للعالمين.
الثالث والعشرون : وما أرسلناك إلا رحمة للمسلمين وأهل الكتاب والمشركين .
الرابع والعشرون : وما أتبعك أهل البيت والمسلمون الأوائل إلا رحمة للعالمين.
الخامس والعشرون : وما بايعك وفد الأوس والخزرج في العقبة إلا رحمة للعالمين .
فصحيح أن آية البحث تخبر عن كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين إلا أنه لا يمنع من تحقق مصاديق هذه الرحمة .
السادس والعشرون : وما قاتلت المشركين دفاعاً إلا رحمة للعالمين.
السابع والعشرون : وما تم صلح الحديبية إلا رحمة للعالمين لذا سماه الله عز وجل فتحاً مبينا ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الثامن والعشرون : ما دخل الناس في الإسلام أفواجاً إلا رحمة للعالمين ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
ومن خصائص دخول أفواج من الناس الإسلام توارث الإيمان ، وحرمة الإرتداد ، والإمتناع عنه طوعاً وانطباقاً ، وهو من معاني أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح والذكر والشكر لله عز وجل على توارث الإيمان.
التاسع والعشرون : وما أرسلناك بالسنة القولية والفعلية إلا رحمة للعالمين ، وتنهى السنة النبوية عن الإرهاب والعنف ، وتمنع من التكفير .
الثلاثون : [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، رحمة للعالمين ، لتأسي واقتداء المسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن أبجديات الخلق العظيم الذي تذكره الآية أعلاه التنزه عن كل من :
الأول : الإرهاب ومقدماته.
الثاني : سفك الدماء .
الثالث : التفجيرات العشوائية .
الواحد والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، لإرادة وجوب الإنقياد لأمر الله وطاعته في السر والعلانية .
الثاني والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لتكون للناس أسوة حسنة.
الثالث والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] لينزل الخير والبركة على أهل الأرض لقانون مصاحبة البركة للنبوة ، ويكون من أسرار تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، بقاء القرآن حكماً سماوياً ثابتاً في الأرض ، واستدامة البركة ومصاحبتها له ، ومن أضرار الإرهاب حجبه البركة عن أهله.
الرابع والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] بكمال الدين وتمام النعمة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامس والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] باحياء الذكر في العالمين .
السادس والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] بالحكم بين الناس بما أنزل الله عز وجل ، ومن حكم الله حرمة الإرهاب مطلقاً.
السابع والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] بصلح الحديبية وفتح مكة ، وكسر ثلاثمائة وستين صنماً كانت فيها .
الثامن والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] لأن الكتاب والسنة يحرمان الإرهاب والتعدي .
التاسع والثلاثون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] باخراج الزكاة والخمس والحقوق الشرعية ، ودفعها للمستحقين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
ولم يكن الناس يعرفون الإخراج المنظم للصدقات فجاء القرآن والسنة بأحكام وثيقة في الزكاة ووجوبها وأحكامها ، وقرنها الله عز وجل بالصلاة من جهة الوجوب والأداء في آيات عديدة من القرآن ، منها قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الأربعون : [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، رحمة حرب يومية متجددة على الإرهاب في مشارق الأرض ومغاربها.
الواحد والأربعون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]لتثبيت سنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار ذكر (العالمين) في الآية أعلاه على نحو الإطلاق ، وإفادة قصد الأجيال المتعاقبة .
الثاني والأربعون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] بنشر ألوية الأمن والأمان في ربوع الأرض ، وفيه دعوة للمسلمين لتحمل أعباء ومسؤولية هذا النشر بالقول والفعل ، والتحلي بالصبر والحكمة .
الثالث والأربعون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] فلم تختر الغزو إنما كنت مدافعاً ، واختيار الدفاع من الوحي ، ويدل عليه أول آية نزلت في الدفاع والقتال ، وهو قوله تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] ( ).
الرابع والأربعون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] اليوم وغداً وإلى يوم القيامة .
الخامس والأربعون : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ويتضاد الإرهاب مع الرحمة العامة والخاصة ، لذا تدل الآية أعلاه على حرمته والزجر عنه.
بحث أصولي
في خطاب إلى المسلمين قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( )، وكما ثبت في علم الأصول بأن الأمر بالشئ على وجوه :
الأول : الأمر بمقدمات الشئ ، كالأمر بالوضوء مقدمة للصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وإذا كان الوضوء مقدمة شرعية للصلاة فان المشي وقطع المسافة لأداء الحج مقدمة عقلية ، وهي واجب أيضاً ، وهو مستحب في المشي لصلاة الجماعة لأنها مستحبة لتبعية المقدمة لذيها.
الثاني : الأمر بذات الشئ والفعل ، وقد يأتي الأمر بصيغة الجملة الخبرية ، كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثالث : الأمر بما لا يتم الواجب إلا به .
ومنه قوله تعالى [وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً]( )، والنسبة بين ما لا يتم الواجب إلا به ، وبين مقدمة الواجب عموم وخصوص مطلق ، فالأول أعم من المقدمة ، التي منها قطع المسافة لأداء صلاة الجمعة ، والحج.
وهناك فرق بين ما لا يتم الوجوب إلا به ، وبين ما لايتم الواجب إلا به ، وبينهما عموم وخصوص مطلق .
فمثلاً ما لا يتم الوجوب إلا به الإستطاعة للحج وهي ليست واجب ، وملك وشرط النصاب في الزكاة ولا يجب على المكلف تحصيله .
وكذا تمام الحول ، وحضور العدد في اللازم في صلاة الجمعة ، فلا يجب على الإمام جمع العدد على إختلاف في العدد ، على أقوال منها تنعقد صلاة الجمعة باثنين الإمام والمستمع ، ومما استدل به ما ورد (عن مالك بن الحويرث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا حضرت الصلاة فاذنا ثم اقيما ثم ليؤمكما اكبركما)( ).
ولكن القدر المتيقن من الحديث أعلاه هو صلاة الجماعة ، وهي أعم من صلاة الجمعة وشروطها إذ ورد النص القرآني الخاص بها كما في قوله تعالى [إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
وقول تنعقد صلاة الجمعة بثلاثة لصيغة الجمع في (فاسعوا) والاثنان أقل الجمع ، وقد ورد عن أبي الدرداء (قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من ثلاثة في قرية ولا بدو ولا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية)( ) ( ).
والمختار في صلاة الجمعة شرط العدد خمسة أحدهم الإمام .
ومن الشرط العقلي ترك الضد للمأمور به ، فالمأمور به نشر شآبيب الرحمة بتلاوة القرآن وأداء الفرائض العبادية ، واشاعة الأخلاق الحميدة والتحلي العام والخاص بها ، أما الإرهاب والعنف فهو ضد لها لذا يكون حكمه الحرمة.
وتتفرع عن هذه القاعدة الأصولية مسائل فقهية عديدة ، منها ما يتعلق بالعبادات ، ومنها بخصوص المعاملات.
فمثلاً غسل الجنابة واجب ، قال تعالى [وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا]( )، فلا تتم الطهارة الواجبة إلا بمقدمات توفير الماء وتسخينه إن لزم من غير التعرض للضرر وإلا تنتقل الوظيفة إلى الطهارة الترابية.
ومنه تحري معرفة جهة القبلة لأداء الصلاة كشرط استقبال البيت الحرام ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( )، وهل منه معرفة المرجع الذي يجب تقليده في المسائل المستحدثة ونحوها ، المختار نعم .
ومنه إيصال الحق الشرعي إلى أهله ، ومنه تحري رؤية هلال شهر رمضان ، لوجوب الصوم عند رؤية الهلال ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وكذا بالنسبة للإدلاء بالشهادة عند الحاكم .
ومنه تهيئة مقدمات الحج في هذا الزمان قبل وقت كاف لمن تحققت عنده الإستطاعة ، ووجب عليه الحج مثل إكمال الجواز ، والشروط والضوابط الصحية ، وتعلم بعض واجبات وأركان الحج بلحاظ قاعدة سبق العلم للعمل على فرض الحاجة إلى هذا التعلم قبل التوجه إلى حج البيت الحرام ولم تثبت هذه الحاجة شرعاً وعقلاً .
ومنه وجوب التكسب بالحلال والطيب للإنفاق على النفس والزوجة والأبناء ، لأن الإنفاق عليهم واجب ولا يتم الإنفاق إلا بالكسب والعمل في الغالب فيلزم هذا العمل ولا يصح التفريط والقعود .
فان قلت قد يرث الإنسان تركة وأموالاً تغنيه عن التكسب ، وهذا صحيح وهو من فضل الله إلا أن تعاهد التركة وحفظ المال وحسن التصرف فيها من العمل ، ومن مصاديق تعاهد تركة الإيمان الإمتناع عن الإرهاب.
ومنه الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة ، وطبع الكتب الإسلامية التي تنمي عقيدة الإيمان ، وتمنع من الإرهاب وتصرف الإنسان عن العنف ، ومنه حسن توظيف وسائل وسبل الإتصال الحديثة بما ينشر الصلاح والمودة بين الناس ، قال تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
ومنه اللقاحات الدورية والتي ضد الأوبئة ، وأخذ العلاج النافع الذي فيه شفاء المرضى وتهيئة الأطباء ووجوب إخلاصهم في العمل ، وإنشاء المستشفيات العامة على نفقة الدولة لوجوب تعاهد سلامة الفرد والمجتمع ، فان قلت قد جاء قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
والجواب تبين هذه الآية نسبة المرض إلى الإنسان نفسه ، ولا يعني هذا أنه يختار المرض ويترك العافية ، ولكن لبيان اعتلال البدن مع تقادم سني العمر ، وطرد أسباب الوهن والعجز والسقم ببعض الأعضاء .
وجاءت الآية ضمن احتجاج إبراهيم عليه السلام وذمه لقومه لعبادتهم للأصنام ، وتأكيده بأنها لا تنفع ولا تضر .
وقال كثير من المفسرين بأن نسبة إبراهيم المرض إلى نفسه تأدب منه ، وأنه قال [وَإِذَا مَرِضْتُ] رعاية للأدب ، ولكن الآية أعم إذ تخبر الآية بالدلالة التضمنية على أن أسباب المرض قد ترجع إلى الإنسان نفسه.
ليأتي العلم والطب الحديث ببيان أن نوع الأكل والعمل وحركة البدن وموضوعية إختيارات الإنسان في جلب أو دفع المرض ، وتبين الآية حاجة الإنسان إلى الدعاء ، والإمتناع عن الإضرار بالناس.
لذا ففي الآية رجاء الشفاء ، والإطعام والإسقاء والكسوة من الله عز وجل ، وجاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )، لبيان ورجاء محو الله عز وجل للمرض عن الإنسان قبل أن يصل اليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهل مزاولة الإرهاب وترويع الناس عامة مرض ، المختار نعم ، وقد إرتقى الطب النفسي في هذا الزمان.
ومن خصائص الشريعة الإسلامية مؤازرة علم الفقه وعلم الأصول لآيات القرآن في المقام من جهات :
الأولى : بيان القبح الذاتي للإرهاب .
الثانية : التضاد بين القرآن والإرهاب.
الثالثة : قانون إبعاد أحكام الشريعة للمسلمين والناس عن الإرهاب.
الرابعة : بيان قانون وهو الإرهاب ضرر محض ، وليس فيه نفع للفرد أو الجماعة أو الملة.
الخامسة : في التفقه في الدين إنصراف عن الإرهاب ، وإمتناع عن مقدماته ، لدلالة أحكام الفقه على حرمة الإرهاب والتعدي والظلم ، وقد تقدم أن النسبة بين كل من التعدي والإرهاب ، وبين الظلم والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق.
وهل هذا التفقه من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الجواب نعم ، لذا وردت الآية أعلاه بصيغة الإرسال والرسالة وليس النبوة والبعث ، لبيان أن الرسالة من الله دليل على الشريعة المستحدثة ، وعدد الرسل هم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أما عدد الأنبياء فهو مائة وأربعة وعشرون نبياً ، وكل رسول هو نبي وليس العكس.
لقد جاءت آية الخلافة مطلقة وبصيغة التنكير ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ جاء ذكر (خليفة) بصيغة التنكير واختلف في النكرة في مقام الإثبات إذا ورد بوصف عام يوافق كل فرد ومصداق من أفراد الموصوف هل يفيد العموم .
والذي قال بالعموم في المقام استدل بقوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]( )، فيشمل العبد أو الأمة ، والصغير والكبير ، والمؤمن والكافر .
وقد خصّ العموم في آية أخرى بقوله تعالى [رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ( )، فخرج العبد الكافر والأمة الكافرة بالتخصيص وكذا في قوله تعالى [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ]( ).
ولا يختص تعيين المراد من الخليفة في الآية أعلاه بمسائل علم الأصول أو علم الكلام إنما يجب الرجوع إلى آيات القرآن الأخرى والسنة القولية والفعلية.
ويملي قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) على المسلمين خاصة والناس جميعاً لزوم التنزه عن الإرهاب وإجتناب سفك الدماء ، وإشاعة القتل ، فمن معاني الخلافة توالي النعم على الإنسان وتعاهدها ، وتحقيق الغايات الحميدة .
وتدل خلافة الإنسان في الأرض على حب الله عز وجل للناس ومن معانيها عمارة الأرض بما يريد الله من الناس من الذكر والعبادة والتسبيح ونشر الرحمة والرأفة بين الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويتعارض الإرهاب مع كل فرد من أفراد الخلافة هذه .
ومن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أن الله عز وجل هو الذي يتعاهد هذه الخلافة ، ويمنع من التعدي على قواعدها وسننها .
ولم ينل الإنسان مرتبة الخلافة في الأرض إلا بعد أن نفخ فيه من روحه ، ومنحه نعمة العقل ليكون هذا النفخ عضداً ومؤازراً للعقل والجوارح والنفس الإنسانية.
ثم عضّد الله عز وجل الناس بالنبوة والتنزيل لحفظ معالم الإيمان في الأرض ، وعدم الخروج عن قوانين الخلافة لأن هذا الخروج سبب للعذاب الأليم.
وقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع هذا الخروج سواء على نحو القضية الشخصية أو العامة .
وإذا كان الفرد أو الجماعة أو الطائفة يفتكون بالناس فانهم يبتلون في الدنيا وتنتظرهم الجحيم في الآخرة ، أما إذا ابتعد الناس جميعاً عن عبادة الله ، وذكره ، وقواعد الخلافة فهو نذير الساعة والنفخ في الصور .
ونزل القرآن ليصاحب الناس ويدفع عنهم العذاب وضروب الإبتلاء وهل يمكن القول بأن تلاوة القرآن تبعد أوان الساعة ، الجواب نعم ، ليكون من أسباب هذا الإبعاد الإمتناع عن الإرهاب والظلم والتعدي.
ليتجلى قانون وهو التنزه عن الإرهاب رحمة للذات والغير مما يلزم تعاون المسلمين والناس جميعاً في إصلاح النفوس والإنصراف عن الإرهاب ، وإدراك قانون وهو التعارض والتنافي بينه وبين المنزلة الرفيعة التي امتاز بها الإنسان وهي الخلافة في الأرض .
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لتسود نعمة الأمن في الأرض ولمنع الفساد ، وأسباب الدمار والهلاك .
حواء في القرآن والسنة
لقد إبتدأ وجود الإنسان في الأرض بالنبوة وتعضيدها ، فآدم هو أول من وطأ الأرض من البشر وهو نبي ، وقامت حواء بتعضيده في نبوته وأداء الفرائض العبادية والأوامر والنواهي التي يكون تلقي حواء لها على وجوه :
الأول : ما تلقته حواء هي وآدم وهما في الجنة كما في الأمر والنهي في قوله تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
إذ ورد الأمر والنهي المشترك إلى آدم وحواء معاً بقوله تعالى [وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا].
وهل في الآية إشارة إلى استحباب تنازل الإنسان طعامه مع عياله ، الجواب نعم ، وهل هذا التناول والتدبير من أسباب الوقاية من الجنوح إلى الإرهاب ، الجواب نعم ، لما فيه من تنمية ملكة الرحمة في القلوب.
وتقدير الآية : وكل يا آدم ، وكلي ياحواء من الجنة رغداً ولا تقرب يا آدم ولا تقربي يا حواء هذه الشجرة فتكون يا آدم من الظالمين ، وتكوني يا حواء من الظالمين لبيان الإستقلال في التكليف.
الثاني : تلقي حواء الأمر من عند الله عز وجل بالهبوط إلى الأرض بعد إغواء إبليس لها ولآدم بالأكل من الشجرة ، قال تعالى [اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا]( ).
ولم تقل الآية : أهبط يا آدم أنت وزوجك ، كما في الإنذار [فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ]( )، أو قوله تعالى [فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى].
لقد أخبر القرآن أن قيام آدم وحواء بالأكل من الشجرة [فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ]( )، فجاء الأمر بالهبوط لكل منهما على نحو مستقل لإبتداء التكليف في الأرض.
الثالث : فضل الله في دعوة آدم وحواء إلى التوبة ، والترغيب بها ، والندب اليها وبيان النفع العظيم منها ، قال تعالى مخاطباً لهما ، وبواسطتهما الذرية والأجيال المتعاقبة من أبنائهما [فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
الرابع : توبة الله عز وجل على حواء ، فصحيح أن القرآن لم يذكر إلا توبة آدم كما في قوله تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( )، إلا أن توبتها بالإلحاق والتبعية وقد أكرمها الله عز وجل بذكر المعصية بخصوص آدم كما في قوله تعالى [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]( ).
وكانت حواء تؤدي الحج مع آدم ، ومن معاني اسم عرفة لأن آدم عرف حواء عند عرفة.
ولم يرد ذكر حواء في القرآن إلا بصفة الزوجية لآدم والتكليف ، وفيه دعوة للنساء لأمور :
الأول : عدم العزوف عن الزواج .
الثاني : تعاهد قانون حسن التبعل .
الثالث : ترغيب الآباء والأمهات في تزويج بناتهم من غير إكراه نعم وردت نصوص بالزواج من الكفئ وهو النظير والمساوي على خلاف في شرائط الكفئ سعة وتضييقاً.
بين الكفاءة في الدين وحده وإليه ذهب مالك.
وبين ستة شروط وهي الدين والنسب والحرية والصناعة والبراءة من العيوب ، والمال ، وإليه ذهب الشافعي ، واختلاف في بطلان العقد أو عدم بطلانه بفقدها.
والأصل في الكفاءة ، الإسلام ، والإيمان .
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : النكاح بولي في كتاب الله ، ثم قرأ [وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا]( )، لدلالة الآية على موضوعية الولي في نكاج ابنته مثلاً و(عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه ، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض . قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه ، قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه ثلاث مرات)( ).
واختلف في أبي حاتم المزني هل هو صحابي وبه قال الترمذي وابن حبان أم تابعي وبه قال أبو داود ، والمختار أنه تابعي.
وهل هو حجازي أم مدني .
ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الحديث أعلاه.
واستدل على شرط القدرة على النفقة بقوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ]( ).
وهذه الآية خطاب للرجال إلا أن ترضى المرأة بنكاج الفقير لذا يمكن الجمع بينها وبين قوله تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (الكفو أن يكون عفيفا وعنده يسار)( ).
وتدل عليه قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، وقاعدة نفي الجهالة والغرر ، وقاعدة منع الحرج في الدين.
الرابع : قيام الزوجة بنهي الزوج عن الظلم والإرهاب ، وهل وظيفة الأم أزاء ابنها بذات الرتبة أم أقل أم أكثر ، الجواب هو الأخير ، فيجب أن تؤدب الأم ابنها على الإبتعاد عن الإرهاب ، ومفاهيمه وتعضيده بالقول أو الفعل.
ولا يحق للولي أن يعضل المرأة ويمنعها من الزواج .
وعن عائشة زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبَنَّى سَالِمًا ، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَهْوَ مَوْلًى لاِمْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ( ).
والمرأة من الأنصار هي بثينة بنت يعار الأنصارية.
وكان الوليد بن عتبة قد قتل كافراً في معركة بدر ، لبيان سوء عاقبة الكافر، وحرمانه من أهله وعياله ، وفضل الله في دخول أبنائه الإسلام وصيرورة أبي حذيفة بن عتبة من الصحابة الأوائل ، وقد هاجر إلى الحبشة هو وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو .
وأبوها سهيل هو الذي رأس وفد قريش لمفاوضة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية وسالم هذا هو الذي اشتهر بخصوص حديث (رضاعة الكبير) واجماع علماء الإسلام إلا القليل على أن الرضاع الذي تجاوز السنتين سنّ الرضاعة لا ينشر الحرمة .
وعن الإمام علي عليه السلام : لا رضاع بعد الفطام ، وكذا عن عبد الله بن مسعود .
ومنهم من حمل الحديث على قضية عين والفرد الخاص ، ومنهم من قال بنسخ هذا الحكم ، ولا أصل لموضوعه ، فلا تصل النوبة إلى النسخ.
ولم يأخذ العلماء بهذا الحديث ، ويترتب على الأخذ به مفاسد كثيرة ، وهو خلاف الأدلة والنصوص الأخرى القاطعة بعدم نشر الرضاع للحرمة إذا كان بعد الحولين ، قال تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ]( ).
فمن إعجاز الآية أعلاه ذكرها للحد الأعلى للرضاعة وهو تمام سنتين إلى جانب التفصيل الوارد في ذات الآية .
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان من حين الولادة بالرضاعة وتقييد مدتها وشروطها لضبط نظام الأسرة وصحة الولادات ، والمنع من المفاسد خاصة وقد ذكر الله عز وجل حرمة نكاح الأم والأخت من الرضاعة إذ ورد في التنزيل [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ]( ).
وورد عن عائشة نفسها أنها قالت : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ قَالَ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ شَقَّ عَلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْظُرْنَ مَا إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ( ).
أي أن الرضاع للصغير على نحو الحصر لما فيه من رد لوعته ، والمختار أن الحديث تقييد لموضوع الرضاعة وأنه ليس للتعارف والتوادد وإحداث الصلات بين الأفراد والأسر بالرضاعة لما فيه من نشر الحرمة مثل التي ينشرها النسب ، وكأن النبي يقول لا تلجأوا إلى ارضاع المرأة لغير ابنها إلا عند الحاجة والضرورة ونحوها ، والعلم عند الله.
وعندما عرض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الزواج من ابنة عمه حمزة بن عبد المطلب قال (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة)( ).
إذ أرضعت كلاً منهما ثويبة وهي أمة لأبي لهب إذ أرضعت أولاً حمزة ثم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أبا سلمة.
لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفت أمه وهو صغير.
إخوة النبي (ص) من الرضاعة
لم يكن له أخوة بالنسب فلم يتزوج أبوه عبد الله بن عبد المطلب غير آمنة بنت وهب ، ولم تتزوج آمنة غير عبد الله ، ولم يولد لهما إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فليس للنبي محمد أخ شقيق أو غير شقيق .
نعم كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إخوة وأخوات من الرضاعة وهم :
الأول : حمزة بن عبد المطلب .
الثاني : أبو سلمة وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو (عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي المخزومي، أبو سلمة زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. أمه برة بنت عبد المطلب بن هاشم.
قال ابن إسحاق: أسلم بعد عشرة أنفس فكان الحادي عشر من المسلمين هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة. قال مصعب الزبير: أول من هاجر إلى أرض الحبشة أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم شهد بدراً)( ).
وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة حينما خرج في كتيبة العشيرة في شهر جمادي الأولى من السنة الثانية للهجرة ( )، وتوفى أبو سلمة في شهر جمادى الآخرة من السنة الثالثة للهجرة بعد أن انفجر عليه جرح اصيب به في معركة أحد ، وكان قد قال عند الإحتضار (اللهم اخلفني في أهلي بخير، فأخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجته أم سلمة فصارت أماً للمؤمنين وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيب بنيه: عمر وسلمة وزينب) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أم سلمة بعد أن توفى أبو سلمة وأخذ يذكر لها ما رزقه الله من النبوة وسمو المرتبة والشأن ، وكان يتحامل على يده حتى أثر الحصير في يده مما يحدثها ، ويرغبها بالزواج منه.
وذكرت خصالاً عندها تمنعها من الزواج ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خفف عنها ووعدها خيراً.
وأم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم ، واسم أبي أمية سهيل ، ويقال له : زاد الراكب ، لأنه يتولى نفقة من يسافر معه .
وعن أم سلمة أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( يقول : ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها قالت : فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة ، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له)( ).
قالت أم سلمة : لما انقضت عدتي من أبي سلمة أتاني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ، فكلمني بيني وبينه حجاب فخطب إلي نفسي فقلت: أي رسول الله وما تريد إلي، ما أقول هذا إلا رغبة لك عن نفسي، إني امرأة قد أدبر مني سني وإني أم أيتام وأنا امرأة شديدة الغيرة وأنت يا رسول الله تجمع النساء.
فقال رسول الله: فلا يمنعك ذلك، أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها الله، وأما ما ذكرت من سنك فأنا أكبر منك سنا.
وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله. فأذنت له في نفسي فتزوجني، فلما كانت ليلة واعدنا البناء قمت من النهار إلى رحاي وثفالي فوضعتهما وقمت إلى فضلة شعير لأهلي فطحنتها وفضلة من شحم فعصدتها لرسول الله، فلما أتانا رسول الله قدم إليه الطعام فأصاب منه، وبات تلك الليلة، فلما أصبح قال: قد أصبح بك على أهلك كرامة ولك عندهم منزلة فإن أحببت أن تكون ليلتك هذه ويومك هذا كان، وإن أحببت أن أسبع لك سبعت، وإن سبعت لك سبعت لصواحبك، قالت: يا رسول الله افعل ما أحببت( ).
إذ أن السنة هي القسمة للثيب إذا تزوجها على الأخرى ثلاثة أيام ، وللبكر سبعة أيام ثم يدور على أزواجه ومع أن أم سلمة ثيب فقد عرض عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم البقاء عندها سبع ليال ولكن يبقى مثلهن عند كل زوجة من زوجاته.
وقد فازت أم سلمة بمرتبة أم المؤمنين قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( )، لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرّغب بالنكاح .
الثالث : عبد الله بن الحارث ، وأمه حليمة السعدية .
وأخوات النبي من الرضاعة :
الأولى : انيسة بنت الحارث .
الثانية : حذافة بنت الحارث وهي الشيماء وأمهما حليمة السعدية .
قانون التنافي بين الإصلاح والإرهاب
لقد أغدق الله عز وجل على الناس بالنعم ، وهي تتوالى عليهم ، فمع النعمة المستديمة كالرزق والأمن تأتي النعم العرضية والموسمية في باب الإجتماع والإقتصاد والسياسة وإقالة العترة وصرف البلاء والفتن.
ويدل قوله تعالى [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]( )،على مجئ النعم ابتداء وفضلاً من عند الله عز وجل وأن الشكر لله عز وجل سبب لزيادة النعم .
وهل استدامة النعم الإبتدائية من هذه الزيادة ، المختار لا ، إنما تأتي الزيادة إضافة لها لأن الله عز وجل إذا أعطى فانه يعطي بالأتم والأوفى فلا تغادر النعمة الأرض ، وإذا قام الناس بالشكر لله عليها فانه سبحانه يضاعفها وينزل غيرها.
وهناك تباين وتضاد بين الشكر لله وبين الإرهاب الذي هو ضرر عام وفساد في الأرض.
ولا ينحصر الكفر في الآية أعلاه بالجحود بالربوبية والنبوة والذي هو ضد الإيمان ، إنما يشمل نكران النعمة وليس كفر عقيدة ، ومن الكفر إرتكاب المعاصي والإجرام والإعراض عمداً عن سنن التقوى ، قال تعالى [يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا]( ).
ومن الكفر إرتكاب الفساد ، قال تعالى [مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ]( ).
لقد نزل القرآن بما يبعث الشوق في النفوس لعمل الصالحات ، وما ينذر من الفساد ويبين سوء عاقبته وأنه كفر بالنعمة ، وقال تعالى [أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ]( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : : من أُلْهِمَ خمسة لم يحرم خمسة ، من ألهم الدعاء لم يحرم الاجابة؛ لأن الله يقول [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ومن ألهم التوبة لم يحرم القبول؛ لأن الله يقول [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ]( )، ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة؛ لأن الله تعالى يقول [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، ومن ألهم الاستغفار لم يحرم المغفرة؛ لأن الله تعالى يقول [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا]( )، ومن ألهم النفقة لم يحرم الخلف ، لأن الله تعالى يقول وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ( ).
(قالوا وبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأَشْياءُ قال رجل جاهلي من طيئٍ :
مُعْلَنْكِسٌ شَبَّ لَها لَوْنَها … كما يَشُبُّ البَدْرَ لَوْنُ الظَّلام
يقول كما يَظْهَرُ لَوْنُ البدرِ في الليلةِ المظلمةِ وهذا شَبُوبٌ لهذا أَي يزيد فيه ويُحَسِّنُه.
وفي الحديث عن مُطَرِّف أَن النبي صلى اللّه عليه وسلم ائْتَزَرَ ببُرْدَةٍ سَوْداءَ فجعلَ سَوادُها يَشُبُّ بياضَه وجعل بياضُه يَشُبُّ سَوادَها قال شمر يَشُبُّ أَي يَزْهاه ويُحَسِّنُه ويوقده)( ).
وقد نزل القرآن بذم الذي يدّعون الإصلاح زوراً ونفاقاً ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )، ومن الفساد الذي ورد النهي عنه في الآية أعلاه وبلحاظ عنوان هذا الجزء وجوه :
الأول : الكفر وعبادة الأوثان ، ويجعل الكفر الإنسان لا يتورع عن الإرهاب.
الثاني : فعل المعاصي ، والنسبة بينها وبين الإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالمعاصي أعم ، وفعل الإرهاب فرد منها.
الثالث : الحرب على النبوة والتنزيل ، وغواية الناس وترهيبهم ، وإخافتهم وفقدان الأمن.
الرابع : إثارة الفتن ، والإرهاب فتنة وسبب للخصومات والضغائن ، وإشاعة الأحقاد وظهورها في عالم الفعل والمعاملات ، لذا قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، ومن معانيه لا تقابلوا الكراهية بمثلها ، ولا الحقد بالحقد ، ولا الإرهاب بمثله ، وفيه بالمفهوم النهي عن الإرهاب ابتداءً.
الخامس : الإمتناع عن طاعة الله ، والنسبة بين هذا الإمتناع وبين الإرهاب العموم والخصوص المطلق ، فالإرهاب فرع منه ، لذا اجتهد الأنبياء في حجب الناس عن هذا الإمتناع ، وإزاحتهم عن مستنقعاته.
ترى كيف يكون الإمتناع عن طاعة الله فساداً ، الجواب لقبحه الذاتي ولأنه خلاف علة خلق الإنسان ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
السادس : الإستهزاء بالذين آمنوا وبأداء الفرائض والعبادات ، وبالذين يتحلون بالصبر والذي هو عبادة ، فقد يظن مرتكب الإرهاب أنه يفعل أمراً حسناً بخروجه عن قواعد الشريعة ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
السابع : إشاعة الكذب والإصرار عليه .
الثامن : دعوة الناس لعدم التصديق بمعجزات النبوة .
التاسع : إشاعة الفوضى وإعاقة النظام وقواعد الضبط العام والفساد وهو التغير والإنحراف عن الاستقامة.
العاشر : نشر الأخلاق المذمومة وكثرة الجنايات والسرقة وضروب الشر.
ويدل قوله تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، على قانون إقامة الله عز وجل الحجة على الناس باصلاح الأرض ، والمنع من الإفساد فيها ، لذا ترى الإرهاب أمراً طارئاً وعلى نحو القضية الشخصية ولا يلبث حتى ينحسر وتدل الآية أعلاه على نفرة الناس العامة من الإرهاب.
وذكرت الآية (الأرض) بلحاظ الظرفية ، وعموم الجنس والبلدان وهل فيه تحذير من الإرهاب والظلم والتفجيرات وسفك الدماء في مشارق الأرض ومغاربها ، وفي داخل البلاد الإسلامية وغيرها ، المختار نعم .
ومن خصائص المجتمعات أنها إذا استقرت تنفر من الأفعال التي تعكر هذا الإستقرار وتعرضه للخطر والأهوال ، إنما يكون هذا الإستقرار مناسبة لبيان الحجة والبرهان على صدق دعوى النبوة ، وأداء الفرائض والعبادات بسلام .
وتبين الآية العموم في الإصلاح وأنه يشمل الأرض والناس جميعاً ، وقد أخبر القرآن عن قانون وهو [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ]( ).
و(عن مجاهد في قوله [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )، قال : إذا ركبوا معصية فقيل لهم لا تفعلوا كذا ، قالوا إنما نحن على الهدى)( ).
و(عن عباد بن عبدالله الأسدي قال : قرأ سلمان هذه الآية [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( )، قال : لم يجىء أهل هذه الآية بعد)( ).
لبيان موضوعية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح النفوس والمجتمعات والوقاية من الخراب والدمار ، الجواب نعم ، وفيه دليل على وجوب قيام المسلمين والمسلمات بتعاهد الإصلاح في الأرض ، وفيه الأمن والبركة ، قال تعالى [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (مصلحون) في القرآن إلا في الآيتين أعلاه لبيان أن الإفساد عرض زائل لا يضر عامة الناس ، إذ تعاهدوا مسالك الصلاح ، وسعوا في الإصلاح .
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إقامة الحدود وتثبيت الأحكام ، وتنمية ملكة التقوى عند الناس.
ويبعث قول الله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، المسلمين على المناجاة للتنزه عن الإرهاب وترويع الناس لأنه تتنافى مع التقوى.
قانون هجرة الأنبياء نفع عام
قد يتبادر إلى الذهن أن الوحي إلى الأنبياء يختص بالوظائف العبادية من الأوامر والنواهي ، ولكن الوحي أعم ، وهل الوحي للأنبياء من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة ، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، كماً وكيفاً وموضوعاً .
المختار هو الثاني ، وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمى مراتب الوحي ، إذ قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ويلتقي الأنبياء في قانون (هجرة الأنبياء وحي) فلا يغادر أي نبي القرية أو البلدة التي بعثه الله فيها نبياً إلى غيرها من الأمصار أو القرى إلا بأمر ووحي من عند الله عز وجل لما في الهجرة من منافع خاصة وعامة منها :
الأولى : سلامة النبي بشخصه من القوم الكافرين ، فحينما خرج موسى عليه السلام من مصر وتوجه إلى أرض مدين ، وأعان ابنتي شعيب في سقاية غنمهما ، وعودتهما لأبيهما بسرعة ، أمر شعيب إحدى ابنتيه أن تدعو موسى عليه السلام إليه .
فلما قصّ عليه ما لاقاه من فرعون وقومه ، وطلبهم له لقتله ، قال شعيب [لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، فليس لفرعون وجنوده سلطان على أهل مدين ، وهم ليسوا من أهل مملكته ، لبيان مصداق من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وهو عجز الملوك والسلاطين عن إكراه الناس على العمل بطاعتهم ، وعن معاقبة كل خصومهم وإن كانوا من عامة الناس ، ومن معاني ملك الله عز وجل أن الذي لا يرضى بسنخية الحكم والنظام في بلده أو مدينته فله أن يغادرها إلى غيرها ، ولا يتجه للعبث بالنظام العام ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
الثانية : من خصائص هجرة الأنبياء والمؤمنين أنها سبيل نجاة لأشخاصهم في طول سلامة الدين التي هي الأصل في الهجرة ، وليبتلي الله عز وجل الظالمين بالهلاك وزوال سلطانهم ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ] ( ).
وتبين الهجرة مصداقاً متعدداً لقوله تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، فيعجز الكفار وسلطانهم عن منع الهجرة بالدين ، ويضطر النبي وأصحابه إلى الهجرة إلى موطن وبلد آخر تكون فيه السلامة في الدين .
الثالثة : من الأنبياء الذين هاجروا صالح ، ويونس ، وشعيب ، وإبراهيم ، وموسى ، ويعقوب ، كما هاجر يوسف عليه السلام وان كانت هجرته قهرية ، إذ تحكي هجرة كل نبي صفحة من الجهاد والصبر ومحاربة الإرهاب بالإعراض عنه ولم يهاجروا إلا للفرار بالدين وملة التوحيد.
فمن الناس من يهاجر في طلب العلم أو الأمن أو في طلب الرزق والمصالح الدنيوية .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)( ).
وكانت هجرة الأنبياء خالصة لوجه الله ، وللحفاظ على عقيدة التوحيد ، ونشر ألوية الإيمان ، وإيجاد أتباع في أمصار أخرى غير التي بعثوا فيها ، فتارة يصدّ أكثر أهل البلد عن النبي إذا تفاجأوا ببعثته وإن كان يأتي بمعجزة في علم أو من معروف في زمانهم بما يقهر أهل الصنعة كما في مجئ موسى بالعصا لتأكل عصي السحرة ، وكما في قيام عيسى بابراء الأكمه والأبرص في زمان اشتهر فيه الطب.
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الأذى من قريش أيضاً ، الجواب نعم ، فكان يتلقاه من عمه أبي لهب وزوجته ومن رجالات قريش ، وكانوا يقومون بخنقه حتى تكاد تزهق روحه .
لقد كان إيذاء المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من إرهاب الرؤساء ، وهو منزلة وسط بين إرهاب الدولة وإرهاب الأفراد والجماعات المنظمة.
ومن الإعجاز في صبر الأنبياء تحملهم الأذى من كل من :
الأول : ظلم وشدة أذى الملوك للأنبياء كما في إرادة فرعون قتل موسى عليه السلام.
الثاني : تحريض الملأ للملك على النبي كما في إبراهيم عليه السلام ، إذ حضّوا نمرود على حرقه في النار ثأراً ونصرة للأصنام التي قام بتهشيمها قالوا [حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ]( ).
الثالث : ظلم وأذى الأمراء والوكيل في البلدة عن الملك ، كما في قيام بيلاطس البنطي بالأمر بجلد ثم صلب عيسى عليه السلام .
الرابع : الأذى الذي أتي للنبي من بعض أفراد العامة فمثلاً كان بعض الأفراد من قوم نوح يضربه ويدميه حتى يغمى عليه .
ومن مصاديق كون قصص الأنبياء موعظة وعبرة كما في قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، وجوب تحمل المسلم وغيره الأذى بصبر وعدم اللجوء إلى الإرهاب.
لماذا ورد ( يثبتوك ) مرة واحدة في القرآن
لقد وثّق القرآن الأذى وأسباب الضرر التي لاقاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات منها قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، وفي الآية مسائل :
الأولى : ورد لفظ (يثبتوك) مرة واحدة في القرآن ، وفي الآية أعلاه ، لبيان شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين ، وفيه شاهد بأنه من بين الأنبياء لاقى أشد ضروب الإرهاب ، ولم يقابله إلا بالصبر ليكون من باب الأولوية امتناع المسلم عن العمل الإرهابي ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الثانية : ورد لفظ (يقتلوك) مرتين في القرآن إذ وردت الثانية بخصوص موسى عليه السلام ، وقيام مؤمن آل فرعون بتحذيره وإنذاره ، وفي التنزيل [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ]( ) .
ومن إعجاز الآية وصدق الإيمان أن مؤمن آل فرعون لم يسكت عندما سمع حاشية فرعون يتناجون في قتل موسى وتشاورهم وهمهم بقتله.
بل جاء (يسعى) أي مسرعاً ، لإخبار موسى بما ينوون فعله ، ولم يكتف بهذا الإخبار ، إنما أمره بالخروج الفوري من المدينة وهي مدينة مُنْف محل قصر ودار حكم فرعون .
ويدل حرف الفاء في (فاخرج)على الفورية ، وهل مجئ مؤمن آل فرعون مسرعاً ليخبر موسى ويأمره بالنجاة شاهد على صدقه ، وهل اعتمد موسى عليه السلام هذه العلامة والأمارات الخاصة وغادر مصر أم أنه غادرها بالوحي ، المختار هو الثاني .
وتكون هذه العلامة في طوله وحجة في المقام ، فلا يقول بعض بني إسرائيل أن موسى عليه السلام تركهم.
وجاء التنكير في جهة الخروج والمراد مغادرة الديار التي تخضع لحكم فرعون ، ومن الإيمان التسليم بأن الأرض كلها ملك لله عز وجل وهو من مصاديق الآية الكريمة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، والتي اختص الجزء السابق من هذا السِفر بتفسيرها .
ومن مصاديق إيمان مؤمن آل فرعون في المقام وجوه :
الأول : السعي الحثيث والمشي بسرعة لتبليغ موسى عليه السلام بقرار قتله .
الثاني : ترجيح كفة الإيمان وإفشاء سر المشركين في مجلس الحكم الخاص بهم ، إذ لا حرمة لسرهم في قصدهم قتل النبي الرسول .
الثالث : من معاني قوله تعالى ( يسعى) أنه يبحث ويفتش عن موسى ، ويقصد الأماكن ومظان وجوده فيها ، مع الحرص على السرية والكتمان في هذا التفتيش لما فيه من تعريض نفسه وموسى عليه السلام للقتل .
الرابع : التسليم بأن فرعون وجنوده عاجزون عن الإضرار بالنبي ، وأن ملكهم محدود مكاناً وزماناً .
الخامس : بيان التباين بين الإيمان والإرهاب ، ورفض المؤمن للإرهاب وإن كان صادراً من ذات طائفته وجماعته والوجهاء في دولته ، فليس من عاطفة في المقام ، فلابد من التحلي بالنفرة من الإرهاب ، والمنع من وقوعه والإعراض عن أهله .
وإذ نصح مؤمن آل فرعون موسى بالخروج فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أكرمه الله عز وجل باخباره عن عزم كفار قريش البطش به ، ثم نزل قوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ]( ).
ثم تفضل الله عليه بنزول جبرئيل يأمره بالهجرة والمغادرة إلى المدينة .
السادس : لقد رزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تقيد أهل مكة وعرب الجزيرة عامة بالأشهر الحرم ، واجتناب القتال والتعدي فيها ومن أيام إبراهيم عليه السلام ، فكانت مناسبة لزيارة وحج بيت الله الحرام ليتصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوفود العرب القادمين إلى مكة في سعي ضمن جهاد النبوة ذي الصبغة السلم من جهات :
الأولى : دعوة وفود الحاج إلى الإسلام ، وهل هذا الدعوة خاصة لهم ، الجواب لا ، إذ أنها تشمل الذين من خلفهم من أهليهم وعشائرهم.
الثانية : عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزاته وتلاوة آيات القرآن عليهم.
الثالثة : بيان قبح الشرك وعبادة الأوثان .
الرابعة : البشارة بالثواب والفوز بالجنة للذين يؤمنون برسالته ، ويعملون الصالحات ، والتخويف من الإقامة على الكفر ، قال تعالى [أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ]( ).
الخامسة : التوطئة لمنع القبائل من الإشتراك مع قريش في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنهي عن تعضيدهم لها في المال والسلاح ونحوه.
السادسة : الإنتفاع الأمثل من الأشهر الحرم ، وإجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بالدعوة إلى الله ، وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتصر بالسيف إنما انتصر بالحجة والبرهان والتبليغ ، وأن الله هو الذي هيئ له مقدمات وأسباب هذا النصر ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
ولم يكن عند قوم فرعون وأهل مصر حكم الأشهر الحرم ، نعم لزمتهم بعد الإسلام ، ليكون من بركات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مفاهيم وعمومات قوله تعالى [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ).
فصحيح أن الآية أعلاه نزلت في يعقوب وأولاده أيام وزارة يوسف عليه السلام إلا أنها تدل في مفهومها على البشارة بفتح مصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير قتال ، وأنها تكون دار أمن وسلامة وبركة لأهلها المسلمين ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وهناك تباين بين الأمن الذي تذكره الآية أعلاه وبين الإرهاب ، لتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الزمان وهي سلامة مصر من الإرهاب ، فلا غرابة أن تجدها من أكثر أسماء المدن والبلدان ذكراً في القرآن.
السابع : لقد خرج موسى عليه السلام خائفاً من فرعون وقومه ، ولم يقصد جهة مخصوصة في مسيره ، مما يعرضه لمهالك الطريق ، واحتمال الإستعباد أو التيه في الصحراء أو الموت عطشاً أو القتل من بعض البدو ونحوهم فهداه الله عز وجل للرحيل إلى أرض مدين ، واللقاء بالنبي شعيب في معجزة نبوية فريدة .
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد توجه إلى أنصار وصحابة يؤونه ويذبون عنه ، فقدتمت بيعة العقبة الأولى في موسم الحج في السنة الثانية عشرة للبعثة النبوية وكان عدد الأنصار فيها اثني عشر رجلاً ، عشرة من الخزرج واثنين من الأوس وهما :
الأول : عويم بن ساعدة .
الثاني : أبو الهيثم مالك بن التيهان.
و(عن عبادة، وهو ابن الصامت، قال: كنت ممن حضر العقبة الاولى، وكنا أثنى عشر رجلا: فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.
فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر)( ).
والعقبة موضع يبعد نحو (500) م فقط عن جمرة العقبة الكبرى.
لقد كان النبي يطوف على وفود القبائل في موسم الحج في أسواق مكة مثل سوق مجنة وعكاظ ، ويأتي إلى منازلهم في مِنى ، وهو يتلو عليهم آيات القرآن ويخبرهم عن نبوته ، ويدعوهم إلى التوحيد ، وهو السور الجامع وعلة حضورهم موسم الحج.
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري قال (إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبِثَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتّبِعُ النّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ وَمَجَنّةَ وَعُكَاظَ يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي .
مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَى أُبَلّغَ رِسَالَاتِ رَبّي وَلَهُ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ الْيَمَنِ إلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ لَهُ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْك وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ.
(أي أشد مما كان يفعل قوم نوح ، إذ كان الأب يحذر ابنه من نوح عليه السلام ، أما أهل الموسم فيحذر بعضهم بعضاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن معجزته العقلية آيات القرآن حاضرة معه).
حَتّى بَعَثَنَا اللّهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ.
وَبَعَثَنَا اللّهُ إلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وَقُلْنَا : حَتّى مَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُطَرّدُ فِي جِبَالِ مَكّةَ وَيَخَافُ فَرَحَلْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ .
فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعُقْبَةِ فَقَالَ لَهُ عَمّهُ الْعَبّاسُ يَا ابْنَ أَخِي مَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ جَاءُوك إنّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَاجْتَمَعْنَا عَنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ فَلَمّا نَظَرَ الْعَبّاسُ فِي وُجُوهِنَا قَالَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ)( ).
فكانت بيعة العقبة الثانية في ذات الموضع في موسم الحج من السنة الثالثة عشرة للهجرة والموافق سنة 622 ميلادي ، وقد حضرها ثلاثة وسبعون رجلاً ، وامرأتان وكلهم من الأوس والخزرج من أهل المدينة (يثرب).
ولم يلتفت شباب الأنصار إلى ما قاله العباس بن عبد المطلب يومئذ ، ولعلهم علموا بأنه ليس مسلماً ، إنما حضر للنسب والقربى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يؤخذ بشكه .
قال جابر (فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ ، قَالَ : تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ.
وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ.
وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ)( ).
لبيان أن هذه البيعة ذات صبغة سلمية ، وليس فيها إذن بالقتال والحرب ، وفيها وقاية من الإرهاب الذي يمارسه الكفار يبنى بعد تقادم السنين على موضع البيعة في العقبة في سنة 144 هجرية مسجد ، وسُمي مسجد البيعة ، ويطل هذا المسجد على مِنى من جهة الشمال وهو مزار.
قانون دخول أفواج في الإسلام استئصال للإرهاب
حينما هاجرت طائفة من المسلمين الأوائل إلى الحبشة هل دخل بديل لهم للإسلام من أهل مكة ، المختار نعم .
أي دخول مثل عددهم بسبب هجرتهم وهو غير دخول أناس أخرين الإسلام ، ليكون من معاني الأفواج في قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا]( )، على وجوه :
الأول : فوج يدخل الإسلام لإعجاز القرآن .
الثاني : فوج يدخل الإسلام للمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : يدخل فوج الإسلام للبشارات الواردة في الكتب السماوية السابقة بنبوته .
الرابع : يدخل فوج من الناس الإسلام لأنه سلام وأمن .
الخامس : يدخل فوج من الناس الإسلام لأنه حرب على الإرهاب ، والواسطة السماوية لإستئصاله من الأرض .
السادس : فوج من أهل الكتاب يدخلون الإسلام .
السابع : يدخل فوج من الناس الإسلام لنصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، لما في هذا النصر من الشواهد الإعجازية .
الثامن : تدخل طائفة من الناس الإسلام حباً لله عز وجل ولرسوله ، ولإدراك قبح عبادة الأوثان .
التاسع : نزل قوله تعالى [ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا]( )، بعد صلح الحديبية ، وعدم الخشية من قريش وتسخيرها الأموال في محاربة الذين يدخلون الإسلام خصوصاً وأن الحروب أنهكت قريشاً أقتصادياً ، وأضعفتها سياسياً وإجتماعياً ، فحتى لو لم يتم صلح الحديبية فان هيبة قريش عند القبائل أخذت بالتلاشي والضمور ، وظهر عليها الوهن والضعف وقلّت قوافلها التجارية ، قال تعالى [ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
وهذه القلة من وجوه :
الأول : طول المدة الزمنية بين كل قافلة وأخرى ، فمثلاً إذ كانت قريش تسيّر كل شهرين قافلة فانها صارت تسيّر كل أربعة أشهر قافلة .
الثاني : النقص في عدد إبل القافلة ، فكانت بعض قوافل قريش فيها ألف وخمسمائة بعير كما في قافلة أمية بن خلف ( )، أو ألف بعير كما في قافلة أبي سفيان التي كانت سبباً لمعركة بدر ، لقد هلكت وذبحت قريش كثيراً من الإبل في معاركها ضد النبوة والتنزيل ، ومنها ما جعلوه أداماً للجيوش ففي الطريق إلى معركة بدر كانوا يذبحون في كل يوم عشرة أو تسعة من الإبل ، لبيان أن الإنفاق في الإرهاب خسارة.
الثالث : قلة عدد المشاركين في تجارة القافلة من قريش ، فمثلاً كانت بيوتات قريش كلها تقريباً قد بعثت الأموال في قافلة أبي سفيان.
لبيان أن الإنفاق في محاربة النبوة والتنزيل والصد عن سبيل الله ، يورث الندامة والحسرة في الدنيا والآخرة ، وحتى الذين أسلموا منهم فانهم يندمون على انفاق أموالهم في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه زجر على الإنفاق في الإرهاب .
العاشر : يتوب الذين كفروا وانفقوا الأموال في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيدخلون الإسلام أفواجاً .
الحادي عشر : أداء فريضة الحج بعد صلح الحديبية مناسبة لدخول الناس الإسلام أفواجاً لذا جاءت آية السيف لتمنع المشركين من صدّ الناس عن دخول الإسلام بعد فتح مكة ، وآية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والقدر المتيقن منها خصوص شهر شوال وذو القعدة وذو الحجة من السنة التاسعة للهجرة ، وشهر محرم من السنة العاشرة ثلاثة منها حرم وقيل سميت حرماً في الآية أعلاه تغليباً للأكثر ، وقيل هي شهر ذي الحجة إلى ربيع الثاني .
والمختار المراد من الآية أربعة أشهر تنتهي عند انتهاء الأشهر الحرم الثلاثة منها .
وتقدير الآية فاذا انسلخ الأشهر الأربعة شوال والأشهر الحرم الثلاثة التي بعده .
لبيان دخول الناس أفواجاً في أشهر الحج وليس للكافرين عذر بعدها ، فينحصر موضوع آية السيف بأيام النزول .
والمختار أنها لا تنسخ آيات السلم والموادعة والعفو والرأفة ، وقيل أنها نسخت أكثر من مائة آية منها ، ولا أصل لهذا القول خصوصاً وأن الصبغة الدائمة للإسلام هو السلم والموادعة والصبر.
الثاني عشر : ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً في فتح مكة وفي حجة الوداع .
الثالث عشر : وعد من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يدخل الناس في الإسلام أفواجاً قبل مغادرته الحياة الدنيا ببيان أن هذا الدخول إكرام وتفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ينله أحد من الأنبياء السابقين.
لذا تجد الأنبياء ومن أيام أبينا آدم يبشرون بنبوته ، والملائكة تتطلع لأوانها ، والعلماء من أهل الكتاب ينظرون في العلامات الكونية التي تدل على قرب بعثته ، ويشيرون إلى البلد الذي يبعث فيه وهو مكة ، والبلد الذي يهاجر اليه وهو المدينة .
ومن إعجاز سورة النصر ذكرها لدخول الناس [في دين الله]( )، مما يدل على نسبة التساوي بينه وبين الإسلام ، وفيه ترغيب لعامة الناس بدخول الإسلام وبيان قانون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : دين الله يحرم الإرهاب.
الصغرى : الإسلام دين الله .
النتيجة : الإسلام يحرم الإرهاب.
ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين قال تعالى [أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ]( ).
وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة إظهار وعز الإسلام بآية من عنده ، مما يدل على الإستغناء عن الإرهاب وحرمته.
وبينما كانت قريش تحشد وتجمع الجيوش للهجوم على المدينة وغزوها فمثلاً استطاعت قريش أن تزحف بجيش قوامه عشرة آلاف رجل لتحاصر المدينة في معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة وأكثرهم من القبائل في الإسلام ويعجز رؤساء الشرك عن تأليبهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما صاروا اتباعاً له ، وهذه التبعية ليست في القتال ، إنما في أحكام الشريعة وأداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدل في مفهومه على استئصال الإرهاب من الجزيرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
قانون التضاد بين الإرهاب والخلافة الخاصة والعامة
لقد جعل الله عز وجل الأرض أمانة بيد الناس ، يتصرفون فيها ، وينهلون من خزائنها ، ويتنقلون في أرجائها ويعمرونها بالذكر والصلاح ، ويحتمل لفظ (خليفة) في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وجوهاً :
الأول : إرادة العهد وأن المقصود شخص آدم عليه السلام ، فمثلاً ، قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً] ( )، فان المراد من الألف واللام العهدية في الرسول هنا هو موسى عليه السلام.
الثاني : المقصود التعدد المشروط وأن المراد هم الأنبياء ، فكل نبي هو خليفة في الأرض .
الثالث : إرادة الحكام والملوك والأمراء والعلماء .
الرابع : المقصود الجنس وإرادة النوع وأن الناس خلفاء لله في الأرض.
ونبين هنا مسألة مستحدثة وهي لا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من أسرار مجئ لفظ (خليفة) بصيغة التنكير في مقام الإثبات .
فهناك معنى خاص ، ومعنى عام للخليفة ، ويدل عليه القرآن إذ ورد الخاص في داود عليه السلام كما في قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى]( ).
مما يدل بالأولوية القطعية على خلافة آدم ، وخلافة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل الأربعة الآخرين أولي العزم ، وهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم السلام .
لقد ورد لفظ خليفة في القرآن مرتين إحداهما في الآية أعلاه ، والأخرى ، في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، في إخبار من الله عز وجل للملائكة عن خلافة الإنسان في الأرض قبل أن يهبط آدم إلى الأرض .
لبيان الصلة والتداخل بين أهل السماء والأرض ، وعظيم منزلة الإنسان عند الله عز وجل كما ورد لفظ خلفاء بصيغة الجمع في كل من :
الأولى : قوله تعالى [أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ]( ).
ووردت بصيغة الجمع خلائف في القرآن في كل من :
الأولى : قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
لبيان خلافة أجيال الناس جيلاً بعد جيل في الأرض يتصرفون في الأرض بناء وعمارة ، وتنقلاً وانتقالاً مع بقاء الأرض على حالها لم تتغير لتكون آية للناس في لزوم الإيمان ، والإبتعاد عن الشرك والضلالة ، وبيان أن المالك للأرض هو الله عز وجل ، قال تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وأن خلافة الناس محدودة ومقيدة ومشروطة محدودة في المكان ، ومقيدة بسنخية العمل في الأرض ، ومشروطة بالإيمان والتقوى لنسبة جعل الخليفة إلى الله عز وجل فهو الذي نصّب الإنسان في الأرض لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على حفظ الله لجنس الإنسان في الأرض من الفناء ، الجواب نعم.
لقانون ما جعله الله عز وجل لا تستطيع الخلائق تغييره ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : إني ضامن لوجود الإنسان في الأرض .
الثاني : إني رازق الناس في الأرض .
الثالث : اني حافظ لجنس الإنسان من أي منافس في الأرض سواء من الجن أو غيرهم .
الرابع : خلافة الإنسان مقرونة بلزوم الصلاح ، وتعاهد سلامة الأرض ، والتنزه عن الظلم والإرهاب.
الخامس . قانون الخلافة أمانة ، ومنها العهد والفرائض العبادية وواجبات المواطنة وأحكام الدستور والقوانين الوضعية.
السادس : من وظائف الخلافة التنزه عن الإرهاب وعن التعدي والظلم وإزهاق الإرواح ويدل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، على أن الذي يخرج عن حدود الخلافة لا يفلت عن عقاب الله ، فالخليفة والخلافة وموضوعها ومحلها وزمانها كلها في قبضة الله .
وتبين الآية أعلاه خشية الملائكة من الله ، وخوفهم على الإنسان إذا ظلم وتعدى ونقض قواعد وشروط الخلافة ، ولم يبعث الله عز وجل رسولاً إلا بالتوحيد ، والنهي عن الإخافة العامة للناس التي هي من آثار الإرهاب فيأتي عمل إرهابي بفعل منفرد ولكنه يشيع الخوف بين عامة الناس .
والله عز وجل الرؤوف الرحيم ، ولا يرضى أن يتغشى خلفاء الأرض خوف عام من غيره سبحانه ، و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه آواه الله في كنفه ، وستر عليه برحمته ، وأدخله في محبته . قيل : وما هن يا رسول الله ، قال : من إذا أعطي شكر ، وإذا قدر غفر ، وإذا غضب فتر)( ).
وفي الحديث زجر عن الإرهاب ، وبيان التضاد بين الإيمان والإرهاب.
ويخاطب القرآن المسلمين والناس في كل يوم بقوله تعالى [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ]( )، أي جيلاً بعد جيل ، وخلفاً بعد سلف وخلف ، والابن بعد أبيه ، والأمير بعد الأمير ، والمرجع بعد المرجع ، فلا يضر الإرهاب بالخلافة في الأرض ، إنما يضر الذي يقوم بالإرهاب نفسه وغيره ، ولا يفلت من عقاب الله عز وجل ، لأن الله عز وجل يحاسب ويعاقب الذي يتعدى على قوانين الخلافة في الأرض وحرمات هذه الخلافة .
وهل من معاني قوله تعالى [جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ]( )، نهي عن الإرهاب ، الجواب نعم ، لأن وظيفة الخليفة الإصلاح واستتباب الأمن ، والإرهاب ضد له.
قانون الثواب مانع من الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الأجر والثواب ، فمن لطف الله عز وجل بالإنسان أنه يقربه إلى فعل الخير والصلاح ، ويدني هذا الفعل منه ثم يثيبه عليه أضعافاً مضاعفة ويزيح الموانع عنه.
وهل الإمتناع عن فعل السوء وعن الإرهاب فيه أجر وثواب ، أم لابد من المصداق والفعل الخارجي للعمل الصالح ، الجواب هو الأول .
فيرزق الله عز وجل المؤمن الأجر والثواب من جهات :
الأولى : قانون التنزه عن الإرهاب .
الثانية : الإمتناع عن إخافة الناس .
الثالثة : ترك مقدمات الإرهاب .
الرابعة : القيام بالأمر بالإستقامة ونشر الأمن ، والنهي عن الإرهاب وسفك الدماء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
لقد رغّب الله عز وجل بالعمل الصالح ولزوم السعي الحثيث لجني الحسنات وذات الإيمان حسنة ، وباب لجلب الأجر والثواب .
و(عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عجبت للمؤمن أن أعطي قال : الحمد لله فشكر ، وإن ابتلي قال : الحمد لله فصبر ، فالمؤمن يؤجر على كل حال ، حتى اللقمة يرفعها إلى فيه)( ).
ترى كيف يمنع الثواب من الإرهاب ، الجواب من وجوه :
الأول : الوعد من الله عز وجل بالأجر والثواب على الإيمان والعمل الصالح ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( )، وليس في الإرهاب إلا الشر والإثم والضرر الآني واللاحق .
الثاني : سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقيصة لتبقى بشارات القرآن بالثواب واقية من الإرهاب ، وحاجزاً دون الهم بالظلم والتعدي على الآخرين .
الثالث : تلقي المؤمنين من أيام أبينا آدم الوعد بالثواب بالقبول والرضا والسعي في إرتقاء الدرجات .
الرابع . السعي لنيل الثواب والأجر ، وذخيرة من الحسنات ليوم القيامة ، قال تعالى [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الخامس : تفقه المسلمين في الدين ، وإدراك قانون وهو لزوم تعاهد الحسنات ، فأداء الفرض من الصلاة اليومية حسنة فيجب ألا يبطله أو ينقص ثوابه عمل منكر منهي عنه ، ومنه الظلم والجور والتعدي ، وضروبه المستحدثة في زمن العولمة ، كالإرهاب والتفجيرات العشوائية ، وهل من ثواب على الصبر في المقام ، الجواب نعم.
فالصبر شعبة من الإيمان وقهر للنفس الشهوية والغضبية ، ومن اللطف الإلهي بالناس أن الترغيب بالثواب عصمة من الظلم والإرهاب ، إذ أنه خطاب موجه إلى العقول والجوارح والأركان بالسعي في سبل الصلاح واتخاذ الدنيا تنمية ومزرعة لجني الصالحات ومنها الصبر وصلة الرحم والسعي في حوائج الناس ، وبعث الأمن والطمأنينة في نفوسهم ليكون من معاني قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، أي يطمئن قلب الذي يذكر الله عز وجل ، ويطمئن له غيره ، ويأمن الناس غوائله ، لذا فهناك تناف وتضاد بين الصلاة وبين الإرهاب ، بل بين ذكر الله مطلقاً وبين الإرهاب ، فالذكر وثيقة وعهد للأمن العام والخاص ، لذا جاء القرآن والسنة بالحضّ على الإكثار من الذكر، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
ومن خصائص الثواب من عند الله عز وجل مجيؤه في الدنيا والآخرة ، وعدم إنحصاره بعالم الآخرة ، ليكون الثواب الدنيوي المترتب على العمل الصالح برزخاً ومانعاً من الإرهاب ، وسبباً لصرف ودفع الله عز وجل الإرهاب عن الإنسان لذا أمر الله عز وجل بالمبادرة إلى فعل الخير ، والمسارعة في الخيرات ، والتسابق إليها ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
وليس في الأرهاب ، ولا في البغي خير ، إنما هو ضرر ، فمن يبادر إلى فعل الخير يثيبه الله.
ومن الثواب ابعاد الذات والغير عن الإرهاب ، ليكون هذا الإبعاد مقدمة للإبعاد عن العقاب والعذاب في الآخرة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( ).
قانون الإرهاب ضد إخلاص العبودية
لقد أخبر الله عز وجل عن نفسه بأنه خالق كل شئ ، وما من شئ في الوجود إلا وهو محتاج إلى رحمته في وجوده واستدامته ، وتكرر في القرآن الخطاب من الأنبياء إلى قومهم بوجوب عبادة الله ، وعدم الإشراك به، ومنه خطاب السيد المسيح [وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( ).
وقد خاطب الله عز وجل المسلمين والمسلمات بقوله [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا]( ).
وهناك ملازمة بين الخلافة في الأرض والعبادة ، والإرهاب ضد للعبادة ولا يجتمع معها مما يدل على عدم وجود سبب أو علة أو عذر للإرهاب فهو أجنبي عن حياة الناس في الأرض لذا تجد نفرة عامة الناس عند حدوث فعل إرهابي وسفك دماء وتفجير عشوائي.
وهل هذه النفرة من مصاديق الفطرة بقوله تعالى [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]( )، أم أنها من فعل السلطة والإعلام ، المختار هو الأول ، ويكون الثاني في طوله .
ومن خصائص المؤمن عدم الخروج عن سنن وآداب الفطرة ، فيجب التنزه عن الإرهاب ومقدماته ، والإمتناع عن تمويله وإظهار الرضا به.
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأعمال عند الله سبعة : عملان موجبان ، وعملان أمثالهما ، وعمل بعشرة أمثاله ، وعمل بسبعمائة ، وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا لله . فأما الموجبان : فمن لقي الله يعبده مخلصاً لا يشرك به شيئاً وجبت له الجنة ، ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار.
ومن عمل سيئة جزي بمثلها ، ومن هم بحسنة جزي بمثلها ، ومن عمل حسنة جزي عشراً.
ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم بسبعمائة والدينار بسبعمائة ، والصيام لله لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل)( ).
ومن فضل الله في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محاربته للظلم والإرهاب من أول أيام البعثة .
لقد كان أهل الجزيرة العربية في خوف متصل ، بسبب الإقتتال والثأر بينهم ، فنزل القرآن ليدخل كل بيت من بيوتهم ، وهو يدعوهم إلى التوحيد ، ويمنع من ضده ونقيضه من الشرك بالله والظلم والجور ، والإرهاب فرع الظلم .
وقد جاء الأنبياء بالتوحيد ، ومنه خطاب نوح لقومه [أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ]( )، ومنه [وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ]( )، ومنه في النبي صالح واجتهاده في دعوة قومه للإيمان بالله ، قال تعالى [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، لتكون المعجزة وسيلة مباركة وعوناً لجذب الناس للإيمان ، ولحجبهم وصدّهم عن الإرهاب ، والبطش بالنبي وأصحابه.
وكذا في النبي شعيب والذي بعثه الله عز وجل إلى قومه مدين ، وهم عرب يقطنون في شمال الجزيرة العربية ، قريباً من أرض فلسطين ، وقد وصف الله عز وجل قومه بأنهم أصحاب الأيكة أي أصحاب أشجار وبساتين لبيان النعم التي كانت عندهم.
وقيل أن مدين مدينة تطل على البحر الأحمر في محاذاة تبوك .
و(عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ان مدين وأصحاب الأيكة ، أمتان بعث الله إليهما شعيباً)( ).
ويتصف شعيب بالفصاحة والصوت الجهوري ، وكثرة الخطابة وسمي خطيب الأنبياء لإقامة الحجة على الناس ، والخطابة والإعلام مطلقاً وسيلة تغني عن الإرهاب ، فهي خير وخالية من الضرر ، أما الإرهاب فانه ضرر خال من النفع لبيان التضاد بينهما بالذات والأثر.
ولما أصرّ أهل الجحود على الكفر نجّى الله عز وجل شعيباً والذين آمنوا معه وهذه النجاة من الجزاء العاجل على الإيمان ، قال تعالى [وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ]( ).
كما ورد في إبراهيم قوله تعالى [وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
وقد أخبر الله عز وجل بأنه رحم الناس ببعثة الأنبياء ، ولم يترك أمة من غير رسول منه يتلقى الوحي من عنده سبحانه ، ويعلم الناس أحكام الشريعة ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ]( ).
ترى لماذا يؤكد الأنبياء والرسل على وجوب التوحيد ، الجواب من جهات :
الأولى : التأكيد على خلق الناس وتكاثرهم ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية : إقرار الناس بالتوحيد سبب للرزق الكريم .
الثالثة : التوحيد بناء لصرح الأخلاق الحميدة.
الرابعة : التسليم بالعبودية لله عز وجل من سنن التوحيد ، وهو واقية من الظلم والتعدي والإرهاب .
الخامسة : توالي الرزق الكريم على الناس بالتوحيد وعبادة الله.
السادسة : إعانة الناس على تعاهد عبادة الله ، والتنزه عن مفاهيم الضلالة.
السابعة : التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل طريق إلى اللبث الدائم في النعيم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
قانون معجزة العصا هدى متجدد
من فضل الله عز وجل على الأنبياء والناس تعدد المعجزة التي يأتي بها النبي والرسول .
وهل يمكن القول بالتباين الرتبي بين معجزة الرسول ومعجزة النبي بما فيه تفضيل الرسول من وجوه :
الأول : كثرة معجزات الرسول بالقياس إلى معجزة النبي .
الثاني : تعدد أفراد المعجزة المتحدة للرسول ، فمثلاً كانت ناقة الرسول صالح يدر منها الحليب ما يكفي لأهل القرية كلهم ، في كل يوم من بين يومين متتاليين كما في قوله تعالى [هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ]( ).
لتكون فيه دعوة للناس للتوبة والإنابة وعبادة الله ، وهل انتفع شطر من الناس من هذه الدعوة ، الجواب نعم .
فحتى لو كانت معجزة الرسول متحدة فانها تتكرر وتتجلى بأكثر وأظهر من معجزة النبي.
و(عن أبي كبشة الأنماري قال : لما كان في غزوة تبوك تسارع قوم إلى أهل الحجر يدخلون عليهم ، فنودي في الناس ، إن الصلاة جامعة؛ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول علام يدخلون على قوم غضب الله عليهم؟ فقال رجل : نعجب منهم يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا انبئكم بأعجب من ذلك ، رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم ، استقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئاً ، وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئاً)( ).
وهل المناجاة باجتناب الإرهاب ، والتنزه عنه من الدفع عن النفوس ، الجواب نعم ، لما فيها من إشاعة للصلاح ، وهي نوع عبادة لله عز وجل ومقدمة للعبادة .
الثالث : تعدد وظائف المعجزة الواحدة ، كما في عصا موسى عليه السلام ، التي كانت على جهات :
الأولى : طول عصا موسى عشرة أذرع ، وفي طرفها الأعلى شعبتان .
الثانية : كان موسى إذا أراد أن يغترف ماءً من البئر تطول عصاه إلى أن تصل إلى الماء ، ويتحول رأسها إلى دلو لينجيه الله وأهله في الطريق من مدين إلى مصر وكذا في التيه.
الثالثة : إذا كان موسى عليه السلام في الصحراء وليس من بئر فانه يغرزها في الأرض فينبع الماء بفضل ورحمة من عند الله ، إذ أراد الله عز وجل لموسى أن يتم رسالته ، ويقوم بتبليغ التوراة وأحكام الشريعة .
الرابعة : إتكاء موسى عليه السلام على العصا ، وإتخاذها وسيلة ليخبط بها ورق الشجر فيتساقط فترعاه غنم موسى لقوله تعالى [وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي]( )، والهش : الشئ الذي فيه رخاوة ، (والهَشُّ: جذبك الغصن من أغصان الشجرة وكذلك إن نثرت ورقها بعصا، هَشَّه يَهُشُّه هَشًّا، فيهما، وفي التنزيل [وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي])( ).
لبيان أن رحمة الله برسالة النبي تتغشى حتى الحيوان ، فترعى غنمه بأفضل وأكثر من غيرها ، وهل تحس غنمه بهذه النعمة والتفضيل ، المختار نعم ، ولكن بحدود إحساس الحيوان النامي .
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على إمكان أخذ موسى من ثمر الأشجار ليأكل منها ، ترى لماذا لم تذكره الآية ، المختار من وجوه :
أولاً : زهد النبي واكتفائه بالقليل من الحليب ونحوه.
ثانياً : دلالة الآية عليه.
ثالثاً : يعود أكثر الشجر المثمر للناس ، وهي مملوكة لهم ، لبيان عفة وتنزه موسى عليه السلام .
رابعاً : التقية وإجتناب الفتنة وحسد الآخرين ، والتعدي على موسى عليه السلام وخطف العصا منه .
الخامسة : كان موسى يركز عصاه في الأرض ، فتنبت وتورق وتثمر معجزة له.
إذ أن احتفاظه بها معجزة أخرى له.
فحينما التهمت عصا موسى عليه السلام عصي السحرة ، لم يأمر فرعون جنوده بالإجهاز على العصا أو الإستحواذ عليها فان قلت قد أصابهم الفزع والخوف يومئذ فهذا صحيح ، ولكن أوامر السلطان أعم من أن تختص بأوان الفعل وأثره ، وقد بقي موسى عليه السلام بين ظهرانيهم ، ولم يسجنه فرعون إلى أن عزموا على قتله ، فخرج إلى أرض مدين.
السادسة : صيرورة عصا موسى حية مرة ، وأخرى ثعباناً لبعث الخوف في قلوب فرعون وقومه ، وتوبيخه لإدعائه الربوبية والتهامها لعصي السحرة ودخولهم الإسلام لإدراكهم المعجزة.
لقد جعل الله عصا موسى عليه السلام رحمة لبني اسرائيل ، ودعوة للناس جميعاً للإيمان ، ووسيلة نجاة بانفلاق البحر لموسى لما ضربه بذات العصا ، قال تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ).
السابعة : يركز موسى عليه السلام عصاه في الأرض ليلق ملابسه عليها ويستظل تحتها من شدة الشمس ، سواء عندما يرعى الغنم أم مطلقاً .
الثامنة : ضرب موسى عليه السلام البحر بعصاه لينفلق البحر وينقسم إلى اثني عشر طريقاً يابساً ، ويعبر موسى وقومه وذكر أن عددهم (ستمائة ألف وعشرون ألفاً لا يُعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة) ( ).
وقيل هذا العدد كثير ، ولا يتناسب مع مدة السنين وعدد البطون القليلة بين يعقوب النبي وهو إسرائيل وبين موسى عليهما السلام .
ليدخل فرعون وجنوده خلفهم البحر فتكون عاقبتهم الهلاك غرقاً ، وقيل أن موسى عليه السلام كنّى البحر حينما ضربه أبا خالد ، وأن هذه الكنية بالوحي (فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل : انفلق أبا خالد بإذن الله عزّ وجل) ( ).
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق البحر؟ قلت : بلى . قال : اللهم لك الحمد وإليك المتكل وبك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله : قال ابن مسعود : فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم)( ).
التاسعة : استسقاء موسى لقومه بضرب الحجر بعصاه فينفجر ماء ، قال تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ]( ).
وكانت عصا موسى (من آس الجنّة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان متّقدتان في الظلمة نوراً واسمه غليق،
وكان آدمج حمله معه من الجنة الى الأرض فتوارثته الأصاغر عن الأكابر حتى وصل الى شعيب فأعطاه لموسى)( ).
لقد جعل الله عز وجل المعجزة النبوية رحمة للناس المعاصرين لها ولغيرهم من الأجيال اللاحقة ، وكانت معجزات الأنبياء حسية مثل ناقة صالح وعصا موسى ، وهي عرضة للنسيان والإنكار من الناس بعد تقادم السنين عليها وانقراض وموت الذين صاحبوها وشاهدوها ، بل حتى في أيام المعجزة وحضور النبي هناك من ينعتها بالسحر ، كما في قوم فرعون إذ نعتوا موسى بأنه ساحر ، وورد حكاية عنهم في التنزيل [ قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ]( ).
أرادوا أنه أكثر خفة ومهارة وحذاقة من سحرة فرعون ، وأن الفارق بينه وبينهم رتبي ، مع أنه أراهم آيات أخرى غير العصا وصيرورتها ثعباناً والتي يأخذها موسى فترجع عصا كهيئتها الأولى.
فكان يدخل يده في جيبه فتخرج لهم بيضاء كلون الثلج ولها شعاع .
فأنزل الله عز وجل القرآن حجة عقلية خالدة ، ووثق فيه توثيقاً سماوياً معجزات الأنبياء الحسية لتبقى خالدة مصاحبة للناس ، تمنع من إنكارها ، لبيان قانون وهو دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن عن الأنبياء السابقين ، فالقرآن في نزاع يومي مع أهل الجحود ، وهو يتوجه بلطف من عند الله عز وجل الى المؤمنين ، فيزيد إيمانهم ، والى الذين يحصرون تصديقهم بالأمور الحسية والمادية وما قبلته عقولهم ، والذين انكروا العلوم الغيبية لأنها خارج دائرة إدراكهم الحسي .
فمن إعجاز القرآن جعل المدركات العقلية بمنزلة الأمور الحسية ، وتثبيت معجزات الأنبياء الحسية بين الناس إلى يوم القيامة ، لتأتي العلوم التقنية والصناعات في هذا الزمان وتبين أن كثيراً من الأمور الواقعية خارج حواس الإنسان من البصر والسمع ونحوه ، مثل الكهرباء وجريانها في الإسلاك .
ومن بديع صنع الله عدم إنحصار مصاديق الحجة والبرهان في كل زمان فهذا الهواء الذي هو عصب الحياة للإنسان والدواب والشجر لا يراه الإنسان .
ومع معجزة القرآن العقلية فقد جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المعجزات الحسية مثل نبع الماء من بين أصابعه ، وانشقاق القمر ، واكثار الطعام القليل ليكفي للكثير من الناس .
وحديث الإسراء الذي هو معجزة حسية وجعل منه الله عز وجل معجزة حسية عقلية بالإخبار عنه في القرآن ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( )، لبيان عظيم فضل الله بجعله المعجزة الحسية معجزة عقلية متجددة إلى يوم القيامة.
ولبيان أن سرعة وسهولة تنقل المسلم وغيره في الأرض نعمة عظيمة ، ومن الشكر لله عز وجل إجتناب الإرهاب وبث الرعب بين الناس.
ويشكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الله عز وجل على نعمة توثيق القرآن لمعجزة عصا موسى وعظيم النفع منها وتأكيدها في القرآن ، وترشح تسليم المؤمنين بها .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)( ).
ومن معاني تبعية المسلمين للنبي محمد في الحديث أعلاه العصمة من الإرهاب والإقتداء بالأنبياء وتنزههم عن الإرهاب ، وتحملهم الأذى في سبيل الله بالصبر ، فلم يبعثوا النفرة بين الناس من دعوتهم إلى الله ، ولم يتركوا للظالمين عليهم سبيلاً في هذا الباب .
فيدرك العقل أن الإرهاب قبيح ، وأنه يؤلب الناس على صاحبه ، وقد يجعلهم يميلون إلى جانب الظالم احتجاجاً وازدراءً للإرهاب .
وقد أقام الله الحجة فجعل معجزة القرآن الخالدة حاضرة بين الناس ومن منافعها في المقام :
الأول : قانون انتفاء النفع من الإرهاب.
الثاني : قانون معجزات الأنبياء ضياء ينير مسالك الهداية .
الثالث : قانون وجوب الجمع بين التقوى والصبر ، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.
الرابع : إدراك قانون حب الله عز وجل للعباد ، وسخطه على الذي يقوم بالإضرار العام .
قانون الحضور الدائم للنبوة
لما قال الله عز وجل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فانه سبحانه أمدّ الناس بالعقل وجعله وسيلة التدبر في الخلق وصناعة الأكوان فتفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء لهداية الناس ويتفرع عن الهداية العدل والتنزه عن الظلم .
وهناك تضاد بين الظلم والإرهاب من جهة وبين أحكام النبوة من جهة أخرى ، فلم تكن حرمة الإرهاب منحصرة بأحكام الإسلام أو بالقوانين الوضعية ، إنما هي موجودة من يوم خلق الله عز وجل آدم.
فمن مصاديق وأفراد الأسماء في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، بلحاظ عنوان هذا الجزء وجوه :
الأول : قبح الظلم والنهي عنه .
الثاني : انتقام وبطش الله بالظالمين .
الثالث : التباين والتضاد بين الإيمان والإرهاب .
الرابع : الزجر عن الإرهاب .
الخامس : الأضرار الخاصة والعامة للإرهاب .
السادس : عدم ترتب النفع على الإرهاب .
لقد كان قتل قابيل لأخيه هابيل من الإرهاب ، فهل أخبر الله عز وجل آدم وهو في الجنة باسم القتل وسفك الدماء ، الجواب نعم ، وهل أخبر آدم في الجنة أن ابنه قابيل سيقتل هابيل أو أن الملائكة أخبروه بالأمر ، فليس في الجنة إلا الخير وأسباب السعادة.
لقد علّم آدم أبناءه أن سفك الدماء والقتل حرام ، وأن اخافة وترويع الناس حرام ، إنما يجب الخوف والخشية من الله عز وجل لذا وردت آيات التقوى في القرآن ، ووعد الله عليها اللبث الدائم في الجنة [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ]( ).
وكانت الحوادث والوقائع اليومية تعضيداً للأنبياء في دعوتهم الى الله سبحانه.
وبخصوص أهل مأرب ذكر أنه (رأى عمرو( ) في النوم سيل العرم، وقيل له: إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعفٍ النخل، فذهب إلى كَرَب النخل وسعفه فوجد الحصباء قد ظهرت فيها، فعلم أن ذلك واقع بهم، وأن بلادهم ستخرب، فكتم ذلك وأخفاه.
وأجمع أن يبيع كل شيء له بأرض سبأ، ويخرج منها هو وولده، ثم خشي أن يستنكر الناس ذلك، فصنع طعاماً وأمر بإبل فنحرت ، وبغنم فذبحت، وصنع طعاماً واسعاً، ثم بعث إلى أهل مأرب أن عمراً صنع يوم مجد وذكرٍ فاحضُرُوا طعامه.
ثم دعا ابناً له يُقال له مالك، ويُقال: بل كان يتيماً في حجره، فقال : إذا جلستُ أطعم الطعام الناس فاجلس عندي ونازعني الحديث، واردده علي، وافعل بي مثل ما أفعله بك، وجاء أهل مأرب ، فلما جلسوا أطعم الناس وجلس عنده الذي أمره بما أمره به، فجعل ينازعه الحديث، ويرد عليه ، فضرب عمرو وجهه وشَتَمه، فصنع الصبي بعمرو مثل ما صنع به.
فقام عمرو وصاح: واذلاه يوم فخر عمرو ومجده يضربُ وجْهَه صبي، وحلف ليقتلَنَه، فلم يزالوا بعمرو حتى تركه ففي ذلك قال حاجز الأزْدِي :
يارب لطمة غَدْرٍ قد سخنت بها … بكف عمرو التي بالغمر قد غرقت
ثم قال: والله لا أقيم ببلد صنع هذا بي فيه، ولأبيعن عقاري فيه وأموالي، فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو، واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى، فابتاع الناس منه جميع ماله بأرض مأرب، وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العَرِم، فخرج ناس من الأزد وباعوا أموالهم، فلما أكثروا البيع استنكر ذلك الناس، فأمسكوا بأيديهم عن الشراء.
فلما اجتمعت إلى عمرو بن عامر أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم، فقال أخوه عمران الكاهن: قد رأيت أنكم ستمزقون كل مُمَزَّق ، ويباعَدُ بين أسفاركم ، وقد ورد في التنزيل [فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ]( ).
وإني أصف لكم البلدان فاختاروا أيها شئتم، فمن أعجبه منكم صفة بلد فليصر إليها.
من كان منكم ذا هَم( ) بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد، فكان الذين نزلوهُ أزد عمان.
قال : ومن كان منكم ذا هم غير بعيد، وجمل غير شديد ومزاد غير جديد فليلحق بالشعب من كرود، قال: وهي أرض همدان ، فلحق به وادعة بن عمرو، فانتسبوا فيهم.
وقال الكاهن، ومن كان منكم ذا حاجة ووطر وسياسة ونظر، وصبر على أزمات الدهر، فليلْحَقْ ببطن مَرً، وكان الذين سكنوه خزاعة سميت بذلك لانخزاعها في ذلك الموضع عمن كان معها من الناس، وهم بنو عمرو بن لَحي، فتخزعت هنالك إلى هذه الغاية، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
ولَمّا هَبَطْنَا بطنَ مَر تَخَزعَتْ … خزاعة منا في ملوك كراكر
في شعرٍ له طويل ومالك وأسلم ومَلْكان بنو قصى بن حارثة بن عمرو مزيقياء .
وقال الكاهن: ومن كان يريد الراسيات في الرحل، المطعمات في المَحْل ، فليلحق بيثرب ذات النخل، وهي المدينة، وكان الذين سكنوها الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء.
قال الكاهن : ومن كان يريد منكم الخمر والخمير، والديباج والحرير، والأمر والتدبير، فليلحق ببصرى وحفير، وهي أرض الشام فكان الذين سكنوها غسان.
قال الكاهن : ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيول العتاق، والكنوز والأرزاق، فليلحق بالعراق، وكان الذين لحقوا بالعراق منهم مالك بن فهم الأزْدِي وولده، ومَنْ كان بالحيرة من غسان، على حسب ما قدمنا آنفاً فيما سلف من هذا الكتاب.
وقال هشام بن الكلبي: وأما أبي فكان يقول: إنما نزل بالحيرة من غسان)( ).
ولابد من وجود سكان وأهل وعمار لها ، ونشرت هذه الأخبار من غير تحقيق ، وليس لها طريق اسناد متصل سواء كان متواتراً أو آحاداً ، حسناً أو ضعيفاً ، ولكن آيات القرآن تشير إليه ويتلقاها الناس بالقبول لأنها متوارثة جيلاً بعد جيل.
لقد نشأت واستغرقت المجتمعات بتعاقب الأحقاب وتفرع الذرية وتشعب الفروع .
والسور الجامع لها هو النبوة ووجوب عبادة الله عز وجل وحده إذ يتفضل الله عز وجل ويبعث الأنبياء لهداية الناس إلى سبل الصلاح ومسالك الرشاد ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
ولكن هذه الأوصاف الحسنة للبلدان ، وما فيها من الأرزاق الكريمة تجعل الناس يهاجرون إليها ويقيمون فيها من غير أن يروا انهيار سدّ مأرب وغرق أراضيهم ، نعم كانت النعم في اليمن كثيرة ومتعددة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ]( )، ولكنهم ظلموا أنفسهم بالجحود والطغيان ، قال تعالى [فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ]( ).
وفي هذه الآيات تحذير للمجتمعات المستقرة بالتفريق إذا كانت مقيمة على الشرك والجحود ، فان قيل وإن كان العدل هو السائد عندهم ، الجواب نعم .
فالمدار في استمرار دوام النعم والنهل المتصل منها هو الإيمان بدليل أن كسرى كان عادلاً لكنه جحد النعمة فازاح الله ملكه.
فقد بعث له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام بيد الصحابي عبد الله بن حذافة بن قيس وفيه :
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بداعية الله عزوجل، فإني أنا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الناس كافة، لانذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك “. فلما قرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله شققه وقال: يكتب إلي بهذا الكتاب وهو عبدي)( ).
ولما قام بتمزيق كتاب النبوة الداعي إلى الله ، ونعته النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عبد له ، توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله بالدعاء والذي ورد بصيغ متعددة :
الأولى : (اللهم مزق ملكه)( ).
الثانية : مَزق الله ملكه( ).
الثالثة : (مُزق ملكه) ( )، أي على سبيل القطع والحثم .
الرابعة : الله ممزقه وممزق ملكه( ).
فعندما قام دحية الكلبي بابلاغ هرقل كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعث هرقل رجلاً من نصارى العرب من قبيلة تتوخ وبعثه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلقاه ويسأله ويحفظ عنه ثلاث مسائل ، والذي حدّث فيما بعد ، قال (فدفع إلي هرقل كتابا فقال : اذهب بكتابي إلى هذا الرجل فلما سمعت من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال : انظر هل يذكر صحيفته إلى التي كتب بشيء و انظر إذا قرأ كتابي فهل يذكر الليل ؟ و انظر في ظهره هل به شيء يريبك.
قال : فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء فقلت : أين صاحبكم ؟ قيل : ها هو ذا ( أي أنه لم يقل أين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يغضب الصحابة ، ولم يسألوه سؤالاً إنكارياً ، وعن مراده ولم يخشوا منه ، إنما أشاروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان وجوب التنزه عن الغضب الذي يكون مقدمة للإرهاب).
قال : فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره.
ثم قال : ممن أنت ، فقلت أنا أخو تنوخ : قال : هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيك إبراهيم.
قلت : إني رسول قوم و على دين قومي لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم فضحك.
وقال [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( )، (وفي استدلال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآية أعلاه ترجيح لعدم نزولها بخصوص أبي طالب ، فهو كافل وناصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، خلافاً لما إدعاه سعيد بن المسيب والأعمش( )).
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أخا تنوخ إني كتبت بكتاب إلى كسرى والله ممزقه وممزق ملكه.
وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مخرق ملكه وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير.
قلت : هذه إحدى الثلاث التى أوصاني بها صاحبي)( ).
وتجتمع الخلافة الخاصة والعامة بحضور النبوة بين الناس في الوقائع والأحداث ، ويكون صدور الناس عنها على وجوه :
الأول : الذين تأدبوا بآداب النبوة وأحكامها ، ويستحضرون آيات التنزيل في أقوالهم وأفعالهم .
الثاني : الذي يصدرون عن النبوة عن قصد أو غير قصد واختيار ، لبقاء تراث النبوة بين ظهرانيهم.
الثالث : الذين يأتون بالأفعال الحميدة بالفطرة والسجية الإنسانية ، وحب الأمر الحسن ، وإجتناب الأمر القبيح ، وهو من مصاديق نفخ الروح من عند الله في آدم ، وفي التنزيل [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، لبيان قانون وهو نفع النفخ من روح الله في الإنسان قبل نفع النبوة والتنزيل .
الرابع : الذين تتصف أقوالهم وأعمالهم بما يخالف ما جاء به الأنبياء مع حضور النبوة وحجة هذا الحضور ، ومن منافعه بعث النفرة في نفوس الناس من الأفعال المخالفة للنبوة ، ومنها الإرهاب والجور والعنف وشدة كراهية الآخر ، ومحاولة الإيقاع والإضرار به ، والبطش به .
وهل يضر هذا الإعراض عن النبوة والشرائع التي جاءت بها بحضورها اليومي بين الناس .
الجواب لا ، فهي حاضرة في البيوت والمساجد والمعابد والكنائس والمنتديات والأسواق ، قال تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
خصائص التسلح بالقرآن
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ويحتاج الإنسان فيها التزود ليومه ولقادم الأيام ، وللوقائع والأحداث ، ومنها ما يأتي راتباً ، ومنها ما يكون عرضاً مفاجئاً لا طاقة للإنسان بتحمله إلا مع الإدخار أو التعضيد الخاص والعام .
ومن معاني وأسباب تسمية الإنسان أنه يأنس بغيره لتكون النسبة بين هذا الأنس وبين اتخاذ المؤونة والتسلح لأمور الدين والدنيا العموم والخصوص المطلق ، وهناك مصاديق لقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، منها :
الأول : قرب المؤونة والسلاح من الفرد والجماعة.
الثاني : وجوب تسخير المؤونة والسلاح في مرضاة الله ، وعدم اتخاذه للإضرار بالغير ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثالث : الأجر والثواب على الإستعداد لمشاق الحياة وفق قواعد الشريعة والعدل والإنصاف .
الرابع : النفع من المؤونة والسلاح المنفرد في أكثر من موضوع ومناسبة.
ومنه التسلح بالقرآن فهو غذاء للروح ، وواقية للذات والغير ، وضياء ينير سبل الهدى ويقود إلى الفلاح ، ومن خصائص التسلح بالقرآن أمور :
الأول : الخلو من الضرر لحامله ولغيره من الناس ، إذ ينبعث منه أريج الرحمة .
الثاني : دعوة القرآن إلى السلام والأمن فهو يدعو إلى السلم والتراحم ، وفي الثناء على القرآن ووظائفه العامة قال تعالى [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
ومشهور علماء التفسير أن المراد من (سبل السلام) أن السلام هو الله وأن معناه دين الله ، وبه قال الحسن البصري ( )، ومما يدل عليه قوله تعالى [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
والمختار أن الآية أعم خاصة وأن الضمير الهاء [اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ] يعود إلى الله عز وجل ، ولم تقل الآية (يهدي به الله من اتبع رضوانه وسبله).
وأن النسبة بين الآيتين أعلاه هو العموم والخصوص المطلق ، فسبل السلام أعم ، ويتجلى فيها البيان والتفصيل ، وإرادة نشر الأمن والسلام ، ونبذ العنف والإرهاب.
وهل الإرهاب وسفك الدماء بغير حق من الظلمات التي تذكرها الآية أعلاه ، الجواب نعم.
الثالث : يتقوم التسلح بالقرآن بصيغ العفو والتسامح والمودة والنصيحة.
الرابع : من أظهر مصاديق التسلح بالقرآن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
قانون استدامة أحكام القرآن
لقد تساءل الملائكة عن جعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع قيام شطر من الناس بالفساد وتلويث الأرض بدماء الأبرياء في الحروب أو في الإرهاب .
وهل تشاوَرَ الملائكة فيما بينهم قبل النطق بهذا التساؤل ، أو ما يسميه كثير من علماء التفسير بالإحتجاج أم أن الملائكة جنس يتصف بالعقل وحده دون الشهوة ، فيأتي الرأي منهم جميعاً لإتحاد السنخية .
المختار هو التشاور بينهم واستحضروا عمل الناس في الأرض ، بما كشف الله عز وجل لهم ، وعمل الجن من قبل ، ونوع النسناس ثم توجه الملائكة إلى الله عز جل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليرى الملائكة في كل يوم مصاديق غير متناهية من علم الله عز وجل هذا الذي ورد في الآية اعلاه.
وتدل هذه المصاديق على حكمة الله عز وجل من وجوه :
الأول : خلافة الإنسان في الأرض .
الثاني : عمارة الإنسان الأرض بالذكر والعبادة والتسبيح .
الثالث : بعث الله عز وجل للأنبياء ونزول الملائكة أنفسهم بالوحي.
الرابع : عدم إنقطاع الصلة بين السماء والأرض ، ومن مصاديق هذه الصلة نزول الملائكة لهزيمة إرهاب كفار قريش في معركة بدر ، إذ خاطب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالقول [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الخامس : نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ليبقى الإنسان منجذباً إلى الله عز وجل .
السادس : التعاضد والتعاون بين الناس لمنع شيوع وكثرة الإرهاب ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
السابع : من إعجاز القرآن تضييقه على الإرهاب ، وجعل المسلمين يكرهون الإرهاب ، وتنفر نفوسهم منه ، ويعلم الناس جميعاً براءتهم منه أمس واليوم وغداً .
الثامن : تدوين الملائكة الحسنات للذي يجتنب الإرهاب ، وكتابتهم السيئة للذي يقوم بالإرهاب ، ويسعى في مقدماته ، وتمويله ، ومن يرضى به بالقول أو الفعل .
ومن علم الله عز وجل الذي أخبر الله به الملائكة تفضله بتعاهد حفظ القرآن رسماً وحروفاً وكلمات وآيات ، وفيه دلالة على سلامته من التحريف والتشويه .
ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، عجز أرباب الإرهاب عن إيجاد آية تعذرهم في فعلهم ، ومنعهم من تحريف معاني آيات القرآن فقد اختصر ذكر مادة (رهب) في القرآن بأمر سلبي مع امساك عن الفعل ، وهو الإستعداد لدفع عدوان المشركين بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
أما الإرهاب فقد يزاول ضد المسلم الذي ينطق بالشهادتين وضد النصارى وعامة أهل الكتاب وضد الناس الأبرياء إبتداءً من غير مقدمات.
لتكون تلاوة كل مسلم ومسلمة اليومية الواجبة وجوباً عينياً دعوة للتنزه عن الإرهاب وإعلاناً بأن القرآن وعامة المسلمين بريئون من الإرهاب ، ولايرضون أن يزاول من بين ظهرانيهم أو ضدهم أو أن يتخذ وسيلة لإخافتهم والتعدي عليهم بالقول أو الفعل .
ومن الإعجاز أن كل مسلم ومسلمة يقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة ومن معانيها في هذا الزمان أنها سلام وأمن .
موضوع الجزء السابق دافع للإرهاب
صدر الجزء السابق وهو السادس والعشرون بعد المائتين خاصاً بتفسير الآية الكريمة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، ولا زلت والحمد لله في تفسير سورة آل عمران وفق نظم القرآن ابتداءً من سورة الفاتحة .
إذ أخبرت الآية أعلاه عن عدة قوانين من الإرادة التكوينية تتصف بالإطلاق ، لا يقدر عليها وعلى إطلاقها إلا الله عز وجل وهو سبحانه الخالق والمالك والمتصرف بالأرض والسماء ، وفيه جذب للناس لمنازل الرق والعبودية لله عز وجل .
إذ أخبرت آية البحث عن قانون وهو لابد من مالك للأرض إذ يتنافس ويتسابق ويتصارع الناس على ملكية متر أو أمتار معدودة من الأرض ، ثم لا يلبثون أن يغادروها جميعاً الطالب والمطلوب والشاهد والكاتب ، وصاحب الحق وغيره لتبقى ملكاً طلقاً لله عز وجل .
وتدعو آية البحث وأخبارها عن سعة ملك الله عز وجل واستدامته المسلم والكتابي وغيرهما إلى الإمتناع عن الظلم والعنف والإرهاب .
وهل يذكر إخبار الآية عن ملك الله للأرض والسماء أنه على كل شئ قدير بعالم الآخرة ، ووقوف الناس بين يدي الله للحساب ، الجواب نعم ، قال تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ).
لبيان أن قانون إعادة الأجساد للأرض تأكيد لخلق الناس منها ، ومقدمة لبعثتهم يوم القيامة منها .
وأن الناس لا يخرجون عن ملك الله أحياءّ وأمواتاً ، وفيه حضّ على الخشية من الله ، ويتنافى الإرهاب مع هذه الخشية ، من جهات :
الأولى : المبنى الفكري للإرهاب ، والمغالطة والخلل فيه .
الثانية : مقدمات الإرهاب .
الثالثة : تمويل الإرهاب ، إذ يحرم الإنفاق فيه ، لوجود المانع وانتفاء المقتضي له.
الرابعة : كما تتنافى إعانة الإرهاب باليد والقلم واللسان ولغة الكراهية للآخر مع الخشية من الله عز وجل .
الخامسة : الرصد والتخطيط للعمل الإرهابي .
السادسة : القيام بالعمل الإرهابي وحدوث الغدر بسببه .
السابعة : ومما يتنافى مع الخشية من الإرهاب تأييد الفعل الإرهابي ، وإظهار الفرح ونحوه به .
وفي قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ترغيب للمسلم وغيره بالسعي في الأرض ، وبالهجرة إلى حيث الرزق والكسب والأمن ، قال تعالى [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( ).
ولقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إلى المدينة ، كما هاجرت طائفة من الصحابة إلى الحبشة ، ولم تكن هجرة قتال وعدوان ، إنما هي طلب للسلامة والأمن من القتال والإرهاب .
لبيان قانون في التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، بأن تكون الهجرة والسعي في الأرض خالياً من الإضرار بالناس ، وفيه شكر لله عز وجل على سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ، وتعليمه المسلمين بأن الهجرة للأمن وتعظيم شعائر الله ، وأداء الفرائض ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وحتى الذي لا يهاجر من أرضه وبلدته فهو باق في ملك الله ، يتغشاه الله برحمته كل ساعة من ساعات حياته ، ويجعله يتنعم بالعيش بين أهله وأقرانه ، ويجب عليه ألا يكدر صفو هذا العيش بالظلم والتعدي والإرهاب ، ومن معاني قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وجوه كل فرد منها واقية من الإرهاب ودعوة لنبذه ، منها :
الأول : الآية أعلاه ثناء على الله عز وجل وحضّ للمؤمنين والناس للتدبر في بديع صنع الله عز وجل .
الثاني : في الآية عهد من الله عز وجل بانعدام الشريك له في الدنيا والآخرة .
الثالث : ليس من مالك للأرض أو شطر أو جزء منها إلا الله عز وجل ، فاينما يكون الإنسان فهو في ملك الله عز وجل الذي يعلم ما يفعل العباد.
الرابع : من معاني [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، أن المشيئة المطلقة فيها له سبحانه ، وأن الظلم والإرهاب لا يغيران من سنن الله عز وجل في الأرض ، ويصرف الله عز وجل البلاء بالدعاء والتقوى.
الخامس : بيان قانون وهو أن الأفعال الفردية والقبلية والدولية لا تضر في ملك الله عز وجل ، وأنها سرعان ما تتلاشى في ذاتها وأثرها ليبقى التنزيل وسنن النبوة أوتاداً وأعلاماً في الأرض إلى يوم القيامة.
ولم يكتف الله عز وجل بالإخبار عن ملكيته للأرض ، في آية البحث بل أخبر بأنه يملك السموات أيضاً ، وهي أعظم بملايين المرات من ملك الأرض ، وكلها في قبضة الله فيجب أن يكون الإنسان في قبضة الله ومشيئته ، وقد أنار الله له سبل الهدى ، وحرم عليه التعدي والإرهاب والجور.
وقد ذكرت في الجزء السابق (ولا يصح حصر معنى ومفهوم قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] في الرد والإحتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ، إذ تضمنت الآية وجوهاً :
الأول : المدح والثناء على الله عز وجل .
الثاني : الترغيب بالتدبر في عظيم خلق الله عز وجل .
الثالث : دعوة المسلمين والناس لرجاء فضل الله ، والدعاء والتضرع إليه سبحانه وسؤال الرزق الكريم من خزائن السموات والأرض.
ولا يختص هذا الدعاء بالمنفرد من الناس إنما يشمل الأسرة والجماعة والأمة ، والناس جميعاً ، سواء الدعاء لهم أو للأجيال التي بعدهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( ).
وبلحاظ الوجه الأول أعلاه فان الثناء على الله عز وجل تأديب للمؤمنين وبيان وجوب تعاهدهم للبقاء في مقامات العبودية لله عز وجل ، والإقرار باستحالة الخروج عن سلطانه ، وهم مجتمعين ومتفرقين لا يريدون الخروج عن سلطانه وقدرته في الدنيا والآخرة لذا وردت البشارة لهم بالأمن في النشأتين.
ولم ينحصر هذا الأمن بالأنبياء والمؤمنين إنما ورد الخطاب والبشارة عامة من أيام أبينا آدم بقيد التقوى والخشية من الله ، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ويتعارض الإرهاب مع إتخاذ الثناء على الله منهاجاً وسجية فمن يثني على الله ويقر بملكيته للسموات والأرض يرضى بقدره ويصبر على قضائه ، ولا يضر غيره .
وبلحاظ الوجه الثاني أعلاه فان التدبر في عظيم خلق الله إنشغال عن الإرهاب ومقدماته ، وباعث للنفرة في النفس منه ، لذا فقد نزلت آيات القرآن بما يجعل المسلم يتسلح ضد الإرهاب بالتفكر في بديع خلق الله ، والخشية منه ، وحبه.
وتحبب آية البحث للناس الدعاء وتقرنه بالأمل بالتنجز القريب فلا تستعصي على الله مسألة.
وفي دعاء الجوشن عن الإمام الحسين عن الإمام علي عليه السلام (يا من لا يرجى إلا فضله، يا من لا يسئل إلا عفوه، يا من لا ينظر إلا بره، يا من لا يُخاف إلا عدله، يا من لا يدوم إلا ملكه، يا من لا سلطان إلا سلطانه، يا من وسعت كل شئ رحمته، يا من سبقت رحمته غضبه، يا من أحاط بكل شئ علمه)( ).
وجاء الشطر الثاني والأخير من الآية ببيان عظيم قدرة الله ، وسعة سلطانه وهو [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، لبيان خضوع الكائنات كلها لله ، فمن باب الأولوية أن يخضع الناس لمشيئة الله التي تتجلى في كلامه المنزل ، وما جاء به الأنبياء من الشرائع السماوية .
والله هو يحب أن يعطي عباده عن مسألة ودعاء وتضرع فان همّ الإنسان بالتعدي والإرهاب عرض له الدعاء وألح عليه ليدرك بلطف من الله عز وجل أن ما يأتي بالدعاء أعظم وأحسن وأفضل.
وأما على الوجه الثالث فان الآية عيد يومي متجدد للمؤمنين والناس جميعاً ، فليس من منافس لهم في الخلافة في الأرض لأن الذي رزقهم هذه المرتبة السامية هو الله مالك الأرض كلها ، ولا تنزل ملائكة أو كائنات فضائية لاستعباد الناس أو قتلهم وفنائهم لأن الله عز وجل هو أيضاً مالك السموات وما فيها [فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
وأما الوجه الرابع فانه يتضمن البيان لقانون انتفاء النفع من الإرهاب والعنف والتعدي على الناس ، وإلحاق الضرر بأنفسهم وأموالهم.
ومن أراد الإصلاح والتغيير نحو الأحسن في النظام والمجتمع فليتوجه إلى الدعاء ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
وأما الوجه الخامس فانه يبين قانون التدبر في الأكوان يزيد في الإيمان.
وهذه الزيادة مانع من الإقدام على فعل إرهابي.
وقد تضمن الجزء السابق قوانين متعددة مع شرحها ، ومنها ما يتعلق بموضوع هذا الجزء منها :
الأول : التخفيف في آية السياق( ) : وهي الآية السابقة لآية البحث وهو قوله تعالى [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )،
فلا يفرح الذي يقوم بالفعل الإرهابي ولا يرجو المدح من عامة الناس لما في هذا الفعل من الضرر والآثار العامة التي تبعث الكدورة في النفوس.
الثاني : قانون الإستغناء( )، أي الإستغناء عن كتم وإخفاء طائفة من الناس البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدود كفار قريش مع ما لهم من الشأن بين الناس .
وكما جعل الله عز وجل رسوله في غنى عن الحاجة إلى الذين جحدوا برسالته فان الله عز وجل رزقه المعجزات التي أسلم معها أكثر الناس تباعاً ، لبيان أن المعجزة سلاح ضد الإرهاب أيام النبوة وبعدها ، وهي عصمة للمسلم من التعدي على الغير لأنها تدعوه للشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان ، وكل آية من القرآن معجزة ودعوة سماوية لإجتناب تخويف الناس وترويعهم .
الثالث : تضمن الجزء السابق أبواباً ثابتة في تفسير كل آية في هذا السِفر وكل باب منها تفقه في الدين ، وإبعاد للمسلم عن الإرهاب ، ومن هذه الأبواب :
الأول : إعجاز الآية الذاتي( ).
الثاني : إعجاز الآية الغيري( ).
الثالث : الآية سلاح( ).
الرابع : مفهوم الآية( ).
الخامس : الآية لطف( ).
السادس : إفاضات الآية( ).
السابع : الآية بشارة( )، ومن بشارات الآية القرآنية بخصوص السلامة من الإرهاب جهات :
الأولى : نزول الآية من عند الله ، بواسطة الملك جبرئيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها إكرام للمؤمنين ، ومن الشكر لله عز وجل على هذا الإكرام التنزه عن التعدي والإرهاب.
الثانية : مجئ الآية القرآنية بالبشارة على العمل الصالح ، أما الإرهاب فهو ضد العمل الصالح.
الثالثة : تلاوة المسلم للآية القرآنية حصانة من الإرهاب .
الثامن : الآية رحمة( )، ومن رحمة الله عز وجل في آية البحث إخبارها للمسلمين والمسلمات والناس جميعاً بأن كل شئ في الكون هو ملك له سبحانه وأنه على كل شئ قدير ، فهو تعالى لا يرضى بايذاء العباد ، ولا السعي في الخراب وتلف المال الخاص والعام ولا تعطيل الأعمال ، وتعطيل الزراعات والأسواق ونحوه مما يكون الإرهاب في هذا الزمان سبباً في وقوعه ، قال تعالى [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ]( ).
ولم يرد قوله تعالى [لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وعن ابن عباس (النسل نسل كل دابة والناس أيضاً) ( ).
وعن الإمام الصادق (ما انتصر الله من ظالم إلا بظالم، وذلك قول الله وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( ).
وجاء الحديث لبيان أفراد من بطش الله ولزوم ترك التعدي والإرهاب ، فقد ينتقم الله من الظالم بآية من عنده ، وبداء وسقم وآفة أرضية أو سماوية.
التاسع : الآية إنذار( ).
العاشر: الصلة بين أول وآخر الآية( ).
الحادي عشر : من غايات الآية( ).
الثاني عشر : التفسير( ).
توثيق أجزاء هذا السِفر
بعد أن قدمت كتابي الموسوم تفسير سورة يوسف إلى وزارة الإعلام في بغداد أواخر الثمانينات من القرن الماضي وحجبت عنه الموافقة ، ثم قدمته مرة أخرى فحصلت الموافقة عليه وتم طبعه سنة 1991 بألفي نسخة ( ).
ثم توالى صدور عدة كتب لي في علم التفسير والكلام والفقه حتى صدر الجزء الأول من هذا السِفر في سنة 1996( ).
ومن فضل الله عز وجل تعددت العلوم التي تصدر فيها كتبي مع استمراري في التدريس في الحوزة العلمية للرسالة العملية وكتاب شرائع الإسلام ، واللمعة الدمشقية ، وقد صدرت أجزاء من (دار السلام في شرائع الإسلام) ، وإشراقة اللمعة الدمشقية ، ولا تزال أكثر تلك الدروس والبحوث مخطوطة.
ففي سنة 1999 بدأتُ باعطاء البحث الخارج يومياً عدا يومي الخميس والجمعة في مكتبي في جوار مرقد الإمام علي عليه السلام في النجف الأشرف ، وكان البحث متعدداً أيضاً في كل من :
الأول : علم الفقه .
الثاني : علم الأصول .
الثالث : علم التفسير .
وأحياناً محاضرات في علم الأخلاق ، وكان المكتب لا يكفي لعدد الفضلاء الذين يحضرون البحث ، وقد دونت أسماء أكثرهم في الطبعة الاولى للجزء الرابع من هذا التفسير.
وتوالى صدور أجزاء التفسير وكما أضفت على الأعداد الأولى أبواباً وفصولاً ، وقمت بتنقيحها .
فمن فضل الله عز وجل أني أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح لكتبي بمفردي ، وصدرت عدة أجزاء لبحثي الخارج في الفقه (كنوز الشرائع).
وأجزاء لبحثي الخارج في الأصول (معراج الأصول) والحمد لله ولا تزال أجزاء منهما مخطوطة مع ما فيها من النفع العام وكان الجزء من هذا التفسير يصدر في بضع آيات.
ثم صار يصدر في آية واحدة وقد يصدر جزءان أو أكثر من هذا التفسير في آية واحدة ، فمثلاً صدرت خمسة أجزاء في تفسير الآية الكريمة [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ) ( )،
وصدرت أربعة أجزاء في تفسير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ( )،كما يأتي بيانه.
وصدرت ثلاثة أجزاء في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
كما تعددت موضوعات أجزاء التفسير منها أجزاء خاصة بالصلة بين آيتين ، وصدرت أجزاء خاصة بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] كما مبين في الصفحات التالية.
ولم ينحصر موضوعها بسياق ونظم آيات القرآن بل شمل قراءة قرآنية وقوانين علمية في مستحدثات المسائل بما يتجلى معه إعجاز القرآن.
فصدرت أجزاء القرآن في موضوعها كالآتي( ) :
الجزء الأول : سورة الفاتحة .
الجزء الثاني : سورة البقرة / الآيات (1-9).
الجزء الثالث : سورة البقرة / الآيات (10-20).
الجزء الرابع : سورة البقرة / الآيات (21-28).
الجزء الخامس : دراسات قرآنية .
الجزء السادس : دراسات قرآنية .
الجزء السابع : سورة البقرة / الآيات (29-34).
الجزء الثامن : سورة البقرة / الآيات (35-40).
الجزء التاسع : سورة البقرة / الآيات (41-45).
الجزء العاشر : سورة البقرة / الآيات (46-54).
الجزء الحادي عشر : سورة البقرة / الآيات (55-61).
الجزء الثاني عشر : سورة البقرة / الآيات (62-68).
الجزء الثالث عشر : سورة البقرة / الآيات (69-78).
الجزء الرابع عشر : سورة البقرة / الآيات (79-86).
الجزء الخامس عشر : سورة البقرة / الآيات (87-92).
الجزء السادس عشر : سورة البقرة / الآيات (93-100).
الجزء السابع عشر : سورة البقرة / الآيات (101-105).
الجزء الثامن عشر : سورة البقرة / الآيات (106-110).
الجزء التاسع عشر : مفاهيم قرآنية.
الجزء العشرون : مفاهيم قرآنية .
الجزء الحادي والعشرون : سورة البقرة /الآيات (111-119).
الجزء الثاني والعشرون : سورة البقرة / الآيات (120-126).
الجزء الثالث والعشرون : سورة البقرة/الآيات (127-133).
الجزء الرابع والعشرون : سورة البقرة /الآيات (134-142).
الجزء الخامس والعشرون : سورة البقرة /الآيات (143-149).
الجزء السادس والعشرون : سورة البقرة /الآيات (150-157).
الجزء السابع والعشرون : سورة البقرة / الآيات (158-164).
الجزء الثامن والعشرون : سورة البقرة /الآيات (165-173).
الجزء التاسع والعشرون : سورة البقرة /الآيات (174-177).
الجزء الثلاثون : سورة البقرة / الآيات (178-182).
الجزء الحادي والثلاثون : سورة البقرة /الآيات (183-185).
الجزء الثاني والثلاثون : سورة البقرة /الآيات (186-189).
الجزء الثالث والثلاثون : سورة البقرة /الآيات (190-194).
الجزء الرابع والثلاثون : سورة البقرة / الآيات (195-198).
الجزء الخامس والثلاثون : سورة البقرة / الآيات (199-205).
الجزء السادس والثلاثون : سورة البقرة / الآيات (206-210).
الجزء السابع والثلاثون : سورة البقرة /الآيات (211-215).
الجزء الثامن والثلاثون : سورة البقرة / الآيات (216-219).
الجزء التاسع والثلاثون : سورة البقرة / الآيات (220-226).
الجزء الأربعون : سورة البقرة / الآيات (227-233).
الجزء الحادي والأربعون : سورة البقرة /الآيات (234-240).
الجزء الثاني والأربعون : سورة البقرة / الآيات (241-254).
الجزء الثالث والأربعون : سورة البقرة / الآيات (255-258).
الجزء الرابع والأربعون : سورة البقرة /الآيات (259-261).
الجزء الخامس والأربعون : سورة البقرة / الآيات (262-266).
الجزء السادس والأربعون : سورة البقرة /الآيات (267-272).
الجزء السابع والأربعون : سورة البقرة /الآيات (273-275).
لجزء الثامن والأربعون : سورة البقرة /الآيات (276-281).
الجزء التاسع والأربعون : سورة البقرة / الآية (282).
الجزء الخمسون : سورة البقرة / الآيات (283-286).
الجزء الحادي والخمسون : سورة آل عمران /الآيات (1-12).
الجزء الثاني والخمسون : سورة آل عمران /الآيات (13-20).
الجزء الثالث والخمسون : سورة آل عمران /الآيات (21-31).
الجزء الرابع والخمسون : سورة آل عمران/ الآيات (32-39).
الجزء الخامس والخمسون : سورة آل عمران /الآيات (40-47).
الجزء السادس والخمسون : سورة آل عمران /الآيات (48-51).
الجزء السابع والخمسون : سورة آل عمران /الآيات (52-55).
الجزء الثامن والخمسون : سورة آل عمران/الآيات (56-61).
الجزء التاسع والخمسون : سورة آل عمران/ الآيات (62-68).
الجزء الستون : سورة آل عمران / الآيات (69-75).
الجزء الحادي والستون : سورة آل عمران /الآيات (76-78).
الجزء الثاني والستون : سورة آل عمران /الآيات (79-81).
الجزء الثالث والستون : سورة آل عمران /الآيات (82-86).
الجزء الرابع والستون : سورة آل عمران /الآيات (87-93).
الجزء الخامس والستون : سورة آل عمران /الآيات (94-97).
الجزء السادس والستون : سورة آل عمران /الآيات (98-102).
الجزء السابع والستون : سورة آل عمران / الآية (103).
الجزء الثامن والستون : سورة آل عمران / الآية (104).
الجزء التاسع والستون : سورة آل عمران /الآيات (105-106).
الجزء السبعون : سورة آل عمران /الآيات (107-109).
الجزء الحادي والسبعون : سورة آل عمران / الآية (110).
الجزء الثاني والسبعون : سورة آل عمران /الآيات (111-112).
الجزء الثالث والسبعون : سورة آل عمران /الآيات (113-116).
الجزء الرابع والسبعون : سورة آل عمران / الآية (117).
الجزء الخامس والسبعون : سورة آل عمران / الآية (118).
الجزء السادس والسبعون : سورة آل عمران /الآيات (119-120).
الجزء السابع والسبعون : سورة آل عمران /الآيات (121-122).
الجزء الثامن والسبعون : سورة آل عمران /الآيات (123-124).
الجزء التاسع والسبعون : سورة آل عمران / الآية (125).
الجزء الثمانون : سورة آل عمران / الآية (126).
الجزء الحادي والثمانون : سورة آل عمران / الآية (127).
الجزء الثاني والثمانون : سورة آل عمران /الآية (128).
الجزء الثالث والثمانون : سورة آل عمران / الآية (129).
الجزء الرابع والثمانون : صلة الآية (110) بالآيات (101-109) سورة آل عمران.
الجزء الخامس والثمانون : صلة الآية (110) بالآيات ( 94 -102) سورة آل عمران .
الجزء السادس والثمانون : صلة الآية(110) بالآيات (85- 93) سورة آل عمران .
الجزء السابع والثمانون : صلة الآية (110) بالآيات (78- 84) سورة آل عمران .
الجزء الثامن والثمانون : صلة الآية (110) بالآيات (70- 77) سورة آل عمران .
الجزء التاسع والثمانون : القسم الأول من تفسير الآية (130) سورة آل عمران .
الجزء التسعون : القسم الثاني من تفسير الآية (130) سورة آل عمران .
الجزء الحادي والتسعون : القسم الثالث من تفسير الآية (130) سورة آل عمران .
الجزء الثاني والتسعون : القسم الرابع من تفسير الآية (130) سورة آل عمران .
الجزء الثالث والتسعون : صلة الآية (110) بالآيات (64-69) سورة آل عمران .
الجزء الرابع والتسعون : سورة آل عمران /الآيات (131-133).
الجزء الخامس والتسعون : سورة آل عمران / الآية (134).
الجزء السادس والتسعون : القسم الأول من تفسير الآية (135) سورة آل عمران.
الجزء السابع والتسعون : القسم الثاني من تفسير الآية(135) سورة آل عمران.
الجزء الثامن والتسعون : القسم الثالث من تفسير الآية (135) سورة آل عمران.
الجزء التاسع والتسعون : سورة آل عمران /الآية (136).
الجزء المائة : سورة آل عمران / الآية (137).
الجزء الواحد بعد المائة : القسم الأول من تفسير الآية (138)سورة آل عمران.
الجزء الثاني بعد المائة : القسم الثاني من تفسير الآية(138) سورة آل عمران.
الجزء الثالث بعد المائة : القسم الثالث من تفسير الآية(138) سورة آل عمران.
الجزء الرابع بعد المائة : القسم الرابع من تفسير الآية(138) سورة آل عمران.
الجزء الخامس بعد المائة : القسم الخامس من تفسير الآية (138) سورة آل عمران.
الجزء السادس بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (139).
الجزء السابع بعد المائة : القسم الأول من تفسير الآية (140) سورة آل عمران.
الجزء الثامن بعد المائة : القسم الثاني من تفسير الآية (140) سورة آل عمران.
الجزء التاسع بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (141).
الجزء العاشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (142).
الجزء الحادي عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (143).
الجزء الثاني عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (144).
الجزء الثالث عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (145).
الجزء الرابع عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (146).
الجزء الخامس عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (147).
الجزء السادس عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (148).
الجزء السابع عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (149).
الجزء الثامن عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (150).
الجزء التاسع عشر بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (151).
الجزء العشرون بعد المائة : صلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران .
الجزء الحادي والعشرون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (152).
الجزء الثاني والعشرون بعد المائة : القسم الأول من تفسير الآية (153) سورة آل عمران ، صلة شطر من الآية 153 بشطر من الآية 151 .
الجزء الثالث والعشرون بعد المائة : القسم الثاني من تفسير الآية (153) سورة آل عمران ، صلة الآية 153 بالآية 152 .
الجزء الرابع والعشرون بعد المائة : القسم الثالث من تفسير الآية (153) سورة آل عمران.
الجزء الخامس والعشرون بعد المائة : القسم الأول من تفسير الآية (154) آل عمران ، صلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 .
الجزء السادس والعشرون بعد المائة : القسم الثاني من تفسير الآية (154) سورة آل عمران .
الجزء السابع والعشرون بعد المائة : القسم الثالث من تفسير الآية (154) سورة آل عمران .
الجزء الثامن والعشرون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (155).
الجزء التاسع والعشرون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (156) .
الجزء الثلاثون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (157).
الجزء الحادي والثلاثون بعد المائة : تفسير نداء الإيمان / القسم الأول.
الجزء الثاني والثلاثون بعد المائة : تفسير نداء الإيمان / القسم الثاني.
الجزء الثالث والثلاثون بعد المائة : سورة البقرة /الآية (282).
الجزء الرابع والثلاثون بعد المائة : تفسير نداء الإيمان / القسم الثالث.
الجزء الخامس والثلاثون بعد المائة : تتمة تفسير الآية 190-191سورة البقرة.
الجزء السادس والثلاثون بعد المائة : آيات غير منسوخة.
الجزء السابع والثلاثون بعد المائة : تفسير نداء الإيمان / القسم الرابع.
الجزء الثامن والثلاثون بعد المائة : تفسير نداء الإيمان / القسم الخامس.
الجزء التاسع والثلاثون بعد المائة : تفسير نداء الإيمان/القسم السادس.
الجزء الأربعون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (158).
الجزء الحادي والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (159).
الجزء الثاني والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (160).
الجزء الثالث والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (161).
الجزء الرابع والأربعون بعد المائة : صلة شطر من الآية (161) بشطر من الآية (164).
الجزء الخامس والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران/الآية (162).
الجزء السادس والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (163).
الجزء السابع والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (164).
الجزء الثامن والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (165).
الجزء التاسع والأربعون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (166).
الجزء الخمسون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (167).
الجزء الحادي والخمسون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (168).
الجزء الثاني والخمسون بعد المائة : القسم الأول من تفسير الآية (169) من سورة آل عمران.
الجزء الثالث والخمسون بعد المائة : القسم الثاني من تفسير الآية (169) من سورة آل عمران.
الجزء الرابع والخمسون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (170).
الجزء الخامس والخمسون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (171).
الجزء السادس والخمسون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (172).
الجزء السابع والخمسون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (173).
الجزء الثامن والخمسون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (174).
الجزء التاسع والخمسون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الحادي والستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثاني والستون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (175).
الجزء الثالث والستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الرابع والستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الخامس والستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء السادس والستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء السابع والستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثامن والستون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (176).
الجزء التاسع والستون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء السبعون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (177).
الجزء الحادي والسبعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثاني والسبعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثالث والسبعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الرابع والسبعون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (178).
الجزء الخامس والسبعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء السادس والسبعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء السابع والسبعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثامن والسبعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء التاسع والسبعون بعد المائة : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء الثمانون بعد المائة : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء الحادي والثمانون بعد المائة : سورة آل عمران / الآية (179).
الجزء الثاني والثمانون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثالث والثمانون بعد المائة : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء الرابع والثمانون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (180).
الجزء الخامس والثمانون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء السادس والثمانون بعد المائة : الصلة بين الآية 180 والآية 181 من سورة آل عمران .
الجزء السابع والثمانون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (181).
الجزء الثامن والثمانون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء التاسع والثمانون بعد المائة : فهارس الاجزاء .
الجزء التسعون بعد المائة : فهارس الاجزاء / القسم الثاني .
الجزء الحادي والتسعون بعد المائة : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء الثاني والتسعون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثالث والتسعون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (182).
الجزء الرابع والتسعون بعد المائة : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء الخامس والتسعون بعد المائة : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء السادس والتسعون بعد المائة : سورة آل عمران/الآية (183).
الجزء السابع والتسعون بعد المائة : سورة آل عمران /الآية (184).
الجزء الثامن والتسعون بعد المائة : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء التاسع والتسعون بعد المائة : فهارس الاجزاء / القسم الثالث .
الجزء المائتان : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الواحد بعد المائتين : قانون (آيات الدفاع سلام دائم).
الجزء الثاني بعد المائتين : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء الثالث بعد المائتين : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء الرابع بعد المائتين : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء الخامس بعد المائتين : سورة آل عمران /الآية (185).
الجزء السادس بعد المائتين : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء السابع بعد المائتين : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء الثامن بعد المائتين : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء التاسع بعد المائتين : سورة آل عمران /الآية (186).
الجزء العاشر بعد المائتين : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء الحادي عشر بعد المائتين : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء الثاني عشر بعد المائتين : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء الثالث عشر بعد المائتين : إحصاء قوانين أجزاء هذا التفسير / القسم الأول.
الجزء الرابع عشر بعد المائتين : قانون (آيات الدفاع سلام دائم) .
الجزء الخامس عشر بعد المائتين : قانون (آيات الدفاع سلام دائم) .
الجزء السادس عشر بعد المائتين : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء السابع عشر بعد المائتين : سورة آل عمران /الآية (187).
الجزء الثامن عشر بعد المائتين : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الجزء التاسع عشر بعد المائتين : إحصاء قوانين الأجزاء/ القسم الثاني.
الجزء العشرون بعد المائتين : قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الجزء الحادي والعشرون بعد المائتين : قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الجزء الثاني والعشرون بعد المائتين : قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الجزء الثالث والعشرون بعد المائتين : سورة آل عمران / الآية (188).
الجزء الرابع والعشرون بعد المائنتين : سورة آل عمران / الآية (189).
الجزء الخامس والعشرون بعد المائتين : قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الجزء السادس والعشرون بعد المائتين : (لم يغز النبي (ص) أحداً).
وجوه حديث (صَلُّوا)
ورد عن (مالك بن الحويرث قال : أتينا النبي صلى الله عليه و سلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه وكان رقيقا رحيما فقال (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم)( ).
كما ورد الحديث بالفاظ أخرى مقاربة للحديث أعلاه .
واستدل المجلسي في البحار بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني اصلي) ، إذ قال (ما رواه كعب بن عجرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: في صلاته اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد فتجب متابعته لقوله صلى الله عليه وآله: صلوا كما رأيتموني اصلي) ( ).
ويدل على أصل ومضمون الحديث قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
إذ يشمل موضوع الآية أعلاه أداء الفرائض والعبادات ، وذات الكيفية التي بها أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن وجوه تقدير الحديث :
الأول : صلوا كما رأيتموني أصلي في الحضر .
الثاني : صلوا كما رأيتموني أصلي صلاة الصبح ركعتين .
الثالث : صلوا كما رأيتموني أصلي صلاة الظهر أربع ركعات .
الرابع : صلوا كما رأيتموني أصلي صلاة العصر أربع ركعات .
الخامس : صلوا كما رأيتموني أصلي المغرب ثلاث ركعات .
السادس : صلوا كما رأيتموني أصلي العشاء أربع ركعات .
السابع : صلوا كما رأيتموني أصلي الفريضة بأول وقتها .
الثامن : صلوا كما رأيتموني أصلي فان الصلاة واجب ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
التاسع : صلوا كما رأيتموني أصلي جماعة ، لبيان أن الأمر (صلوا ) يحمل الوجوب في حالات والإستحباب في حالات أخرى ، ويمكن للفقيه التفكيك بينها ، فصلاة الجماعة مستحبة .
العاشر : صلوا كما رأيتموني أصلي بخشوع وخضوع .
الحادي عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي بابتداء الصلاة بتكبيرة الإحرام .
الثاني عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي بتلاوة وركوع وسجود وتشهد وتسليم .
الثالث عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي ففي أداء الصلاة أجر عظيم ، وكذا في الحرص على محاكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أفعالها .
الرابع عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي في السفر قصراً كماً وكيفاً ، قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) .
الخامس عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي في حال الخوف ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ) فمع شدة الخوف يسقط الإستقبال .
السادس عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي بوضوء ، وبالتيمم بالتراب عند تعذر الماء للوضوء ، ومن إعجاز القرآن مجئ آية واحدة تجمع بين الطهارة المائية ، ووجوب غسل الجنابة والطهارة الترابية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
السابع عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي في الرخص والتخفيف كصلاة المريض عن جلوس ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بعثت بالحنيفية السمحة ) ( ).
الثامن عشر : يا أيها الذين آمنوا صلوا كما رأيتموني أصلي .
التاسع عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي وأقرأ جهراً في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، وبالإخفات في صلاة الظهر والعصر .
العشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي الواجبة والنافلة .
الحادي والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي بالتخفيف في النافلة .
الثاني والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي فان الصلاة واقية من الإرهاب .
الثالث والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي فان الله أمركم بالصلاة وترك التعدي والظلم .
الرابع والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي ليغفر الله لكم (عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب يجري عند باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ، فماذا يبقى عليه من الدرن)( ).
الخامس والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي واجتنبوا مبطلات الصلاة .
السادس والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي وأقرؤا في الصلاة سورة الفاتحة (عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً)( ).
السابع والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي بطمأنينة .
الثامن والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي بترتيب الأركان ، فيأتي القيام قبل الركوع ، والركوع قبل السجود.
وفي حج البيت الحرام أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن قدّم بعض أفعال الحج خلاف الترتيب سهواً ، كتقديم الحلق على الذبح سهواً ، وكذا تقديم الذبح على الرمي ، وعن الإمام علي الهادي عليه السلام قال (إن رسول الله لما كان يوم النحر أتاه طوائف من المسلمين فقالوا: يا رسول الله ذبحنا من قبل أن نرمي وحلقنا من قبل أن نذبح، ولم يبق شئ مما ينبغي لهم أن يقدموه إلا أخروه، ولا شئ مما ينبغى لهم أن يؤخروه إلا قدموه، فقال رسول الله صلى الله عليه واله: لا حرج لاحرج)( ).
أما في الصلاة فتبطل الصلاة بالمخالفة في أتيان الأركان .
التاسع والعشرون : صلوا كما رأيتموني أصلي ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثلاثون : وعن مالك بن حويرث راوي الحديث قال في حديث آخر (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه إلى فروع أذنيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع) ( ) .
الواحد والثلاثون : صلوا كما رأيتموني أصلي في صلاة الآيات (عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال كسفت الشمس ونحن إذ ذاك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فخرج فزعا يجر ثوبه فصلى ركعتين أطالهما فوافق انصرافه انجلاء الشمس .
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم من ذلك شيئا فصلوا كأحدث صلاة مكتوبة صليتموها) ( ).
تقدير الحديث بلحاظ الغايات الحميدة منه
وفيه وجوه :
الأول : صلوا كما رأيتموني أصلي فهو من مصاديق طاعتكم لله ورسوله .
الثاني : صلوا كما رأيتموني أصلي ففيها الرحمة العامة والخاصة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : صلوا كما رأيتموني أصلي لسلامة القرآن من التحريف ، ففي تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن عدة مرات في كل يوم.
وفيه مسائل :
الأولى : تعاهد آيات القرآن .
الثانية : ضبط رسم وحركات كلمات القرآن .
الثالثة : العناية بالفواصل بين الآيات .
الرابعة : معرفة سور القرآن ، واستقلال كل سورة .
الخامسة : التدبر في معاني ودلالات الآية القرآنية.
الرابعة : صلوا كما رأيتموني أصلي لتشهد لكم الملائكة ، وفي التنزيل [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) .
الخامس : صلوا كما رأيتموني أصلي ولكم الأجر والثواب .
السادس : صلوا كما رأيتموني أصلي ، واتركوا ما يخالف الصلاة من الظلم والتعدي وإخافة الناس .
السابع : صلوا كما رأيتموني أصلي فاني عبد الله آتاني النبوة .
الثامن : صلوا كما رأيتموني أصلي فان صلاتي وحي .
التاسع : صلوا كما رأيتموني أصلي واتركوا الصلاة إرثاً لأولادكم .
العاشر : صلوا كما رأيتموني أصلي فهذه الصلاة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الحادي عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي فصلاتكم مصداق للإيمان ولاتباعي .
الثاني عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي تفوزون بحب الله لكم ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثالث عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي فلا يدخل الخلاف بينكم.
ومحاكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
الرابع عشر:صلوا كما رأيتموني أصلي فهذه الصلاة حرب على الإرهاب
الخامس عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي لبيان صبغة السلام في الإسلام .
السادس عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي فان الصلاة تنشر الأمن في الأرض .
السابع عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي فان صلاتي زاجر عن المعاصي والظلم والتعدي ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] ( ).
الثامن عشر:صلوا كما رأيتموني أصلي لله سبحانه[الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا]( ).
التاسع عشر : صلوا كما رأيتموني أصلي فاني رسول الله اليكم بهذه الصلاة وكيفيتها ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
استفتاء
سماحة المرجع آية الله الشيخ صالح الطائي “دامت بركاته”
السلا م عليكم ورحمة الله وبركاته …
م/ استفتاء
ما هو حكم وصية المجنون اذا اتصل جنونه بالوفاة ، واذا لم يتصل بالوفاة (اي افاق) وما هو حكم وصية السفيه ووصية الصغير المميز وفق مذهب الإمام ابي عبد الله الصادق سلام الله عليه .
علماً ان الإجابة ستوثق ضمن رسالة الماجستير (دور الإرادة في انشاء الوصية) والتي تكتب في معهد العلمين للدرسات العليا في النجف الأشرف.
نسأل الله ان يسدد خطاكم ويجعل فيها الصلاح والنجاح في خدمة الأمة الاسلامية .
حسين مصطفى الشريفي
طالب دراسات عليا في قانون الأحوال الشخصية العراقي
معهد العلمين للدرسات العليا في النجف الأشرف
عدم صحة وصية المجنون
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ( )، ومنه ضمان الحقوق وضبط المواريث ومنع الفتنة والظلم عند موت المورث ، وهذا المنع حضّ للإنسان للسعي والكسب في الدنيا ، وتأمين حياة أولاده من بعده ، وفيه دعوة للشكر لله عز وجل باخراج الزكاة والحقوق الشرعية من المال الخاص قبل مغادرة الدنيا ، قال تعالى [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( ).
وقد ذكرت الوصية في آيات عديدة منها ثلاث آيات متتاليات [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقيدت الآيات الوصية بأنها حق وواجب على المتقين الذين يخشون الله عز وجل ويرجون رحمته.
والمجنون عاجز عن بلوغ مرتبة التقوى لفقده العقل والتمييز بين الحق والباطل .
وفيه شاهد بعدم إنحصار موضوع التقوى بالعبادات والفرائض ، إنما تشمل المعاملات ، وجلب المصلحة ودفع المفسدة عن الذات والغير ، وفق أحكام الشريعة ومنه عدم الجور في الوصية .
ولفظ المجنون مأخوذ من معنى الإستتار ، لاستتار وغياب عقله ، ومنه لفظ الجن لاستتارهم عن العيون ، والجنين لاستتاره في بطن أمه .
ولا يحق الوصية بأكثر من ثلث المال إذ يذهب الثلثان طوعاً وقهراً وانطباقاً إلى الورثة حسب الحصص الثابتة في الشريعة ، ومنها قوله تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
ولم يرد لفظ (يوصيكم) في القرآن إلا في الآية أعلاه وهذه الوصية من الله وتتعلق بتقسيم عام للإرث وليس هي الوصية بمعناها الإصطلاحي ، لبيان وجوب تعاون المسلمين علماء وحكاماً وأهل الحل والعقد في تثبيت قسمة أموال الميت وفق أحكام الشريعة.
فمن وجوه تقدير الآية : يوصيكم الله في أولاد الذي يموت منكم بأن يكون للذكر منهم مثل حظ البنتين.
فتأخذ البنت مثل نصف حصة أخيها لأنها واجبة النفقة على زوجها ومن يعيلها ، وليس فيه انتقاص للمرأة في الإسلام ، وكان العرب لا يجعلون للبنت ميراثاً وحصة في المال ، وكذا في ملل عديدة ، وشعوب أخرى ، فجاء الإسلام وجعل سهاماً معلومة للبنت والنسبة بين لفظ (أولادكم) في الآية أعلاه وبين اليتامى عموم وخصوص مطلق وليس التساوي .
فالأولاد هنا أعم لأنه يشمل الكبير والصغير ، كما يشمل الأغنياء وأصحاب الأموال .
و(في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام قال : يا علي ، لا يتم بعد احتلام) ( ).
والوصية على قسمين :
الأول : الوصية التمليكية : بأن يوصي الإنسان بأن يكون جزء من ماله بعد وفاته لشخص آخر .
الثاني : الوصية العهدية : بأن يعهد الإنسان لشخص آخر بأمر في شأن يخصه أو يخص غيره كالقيمومة والعناية بأولاده الصغار أو قضاء العبادات الفائتة عنه أو التولية على صدقة جارية ، ونحوها .
ولا تصح الوصية بقسميهما أعلاه من المجنون لشرط العقل وعليه النص وإجماع علماء الإسلام وليس إجماع علماء مذهب مخصوص وحدهم ، كما لا تصح وصية السكران والمغمى عليه .
ولا تصح الوصية إلى الصبي والى المجنون ، أما الصبي فلعدم البلوغ ، وأما المجنون فلفقدان شرط العقل فيفتقران إلى حسن التصرف بالمال.
وفي باب ثبوت الوصية بخبر الثقة ورد عن اسحاق بن عمار قال أنه سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام (عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا ، فقال لي : إن حدث بى حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي : إنه أمرني أن أقول لك انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين ولم يعلم أخوه ان عندي شيئا ، فقال : أرى أن تصدق منها بعشرة دنانير)( ).
وظاهر الرواية أن أمضاء الشهادة في الجزء من الوصية وليس كل الوصية.
وفي مرسلة (محمد بن جمهور ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إن فاطمة بنت أسد ام أمير المؤمنين عليه السلام كانت أول امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ) من مكة إلى المدينة على قدميها ـ إلى أن قال : وقالت لرسول الله صلى الله عليه وآله ) يوما : اني اريد أن أعتق جاريتي هذه ، فقال لها : إن فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار ، فلما مرضت أوصت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأمرت أن يعتق خادمها ، واعتقل لسانها ، فجعلت تومئ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله إيماء فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وصيتها)( ).
وقد أفرد صاحب الوسائل باباً اسمه : عدم جواز وصية السفيه والمجنون.
و(عن حنان بن سدير ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : دخلت على محمد بن علي بن الحنفية وقد اعتق لسانه فأمرته بالوصية فلم يجب ، قال : فأمرت بطشت فجعل فيه الرمل فوضع فقلت له : خط بيدك ، فخط وصيته بيده في الرمل ونسخت أنا في صحيفة)( ).
ولا تكفي كتاية الوصية عنده بل لابد من نطق الموصي بها ، أو قراءتها له واقراره بها ، ، نعم مع تعذر النطق يجوز كتابة الوصية كما يؤخذ بالوصية المكتوبة إلا عند الوثوق بصدورها وهو عاقل مختار ولا يثبت اقرار المجنون.
أطراف الوصية
والوصية نوع مفاعلة وأطرافها :
الأول : الموصي الذي يقوم بالوصية لغيره.
الثاني : شهادة البينة على الوصية في مضمونها وأفرادها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ]( ).
ولم لفظ (اثنان) في القرآن إلا في الآية أعلاه وكأنه تأكيد لوجوب حضور البينة للوصية .
وهناك مسألة من وجوه :
الأول : هل تجزي الوصية عند كاتب العدل في هذا الزمان فلا يرى في الوصية إلا ختم كاتب العدل ، ومنه الشهادة بأن الموصي كان عاقلاً بالغاً حراً مختاراً أثناء الوصية ، وعدم شموله بالحجر لسفه ونحوه .
الثاني : لزوم حضور شاهدين عند كاتب العدل اثناء كتابة الوصية .
الثالث : حضور شاهد واحد ، والآخر كاتب العدل .
الرابع : كفاية كاتب العدل وحده ، ولكن البينة للإحتياط .
الخامس : كفاية كاتب العدل وحده ، إذا كان كاتب العدل ثقة ، وعدلاً .
والمختار هو الثالث أعلاه ويكون الوجه الثاني أعلاه من باب الإحتياط.
ولو تمت كتابة الوصية بإمضاء كاتب العدل وحده وفق قوانين وضعية فالأصل صحتها ، إلا مع القرينة والدليل على عدمها.
الثالث : الموصى به سواء تمليكاً أو عهداً وقابلية الأعيان والمنافع للتمليك مع صحة تعلق الوصية بها ، وعمومات قاعدة الناس مسلطون على أموالهم .
الرابع : عدم تجاوز الوصية الثلث من مجموع المال ، ولا تنفذ فيما زاد على الثلث ، و(عن سعد قال : مرضت مرضا شديدا فعادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه و آله فقال لي : ” أوصيت ” فقلت : نعم ، أوصيت بمالي كله للفقراء ، و في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله : أوص بالعشر” فقلت : يا رسول الله ، إن مالي كثير و ذريتي أغنياء ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و آله يناقصني و أناقصه ، حتى قال : أوص بالثلث ، والثلث كثير)( )، ورواه البخاري ومسلم وابو داود والترمذي .
و(عن علي بن يقطين قال : سألت الإمام الكاظم عليه السلام : ما للرجل من ماله عند موته ، قال : الثلث ، والثلث كثير)( ).
وهل يحتسب الثلث الموصى به من مجموع المال حال الوصية أو عند الموت ، والمختار أنه عند الموت ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ، فل كان ماله عشرة آلاف دينار واوصى بالثلث منه ، ولكن عندما مات كان ماله ستة آلاف دينار تنفذ الوصية في الثلث وهو ألفان ، وإذ لم يف هذا المقدار بموضوع الوصية فلابد من حلّ وإلا فالرجوع إلى الحاكم الشرعي ، مثلاً أوصى بثلث ماله لبناء مسجد في محلة معينة ثم صار هذا الثلث عند وفاته غير كاف لتشييد المسجد ، فاما أن يبنى به المسجد إلى حيث يكفي المال ، أو يُبنى مسجد بذات المال في محلة تكون فيها الأرض والبناء أرخص وأقل كلفة ، وإذا لم يكف المبلغ في الحالتين ، فالأقرب والأقرب في موارد الخير وتعظيم شعائر الله .
الخامس : الموصى له بأن يكون عاقلاً مع شروط الوصي عليه وكذا بالنسبة للبلوغ وأن لا يكون قاتلاً للموصي .
أما بخصوص وصية الصبي المميز فلا تصح ، نعم وردت النصوص بصحة وصية الذي بلغ من العمر عشر سنوات أي هلالية .
والفرق بين السنة الشمسية والهلالية نحو أحد عشر يوماً .
وفي صحيحة زرارة عن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال (إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف وحق فهو جائز)( ).
وقيد الإمام وصية الذي يبلغ عشر سنوات بأنها على حد معروف وأن تكون حقاً وخالية من التفريط وتضييع حقوق الورثة ، لذا ورد البيان في صحيحة أبي بصير عن محمد بن الوليد ، عن أبان الأحمر ، عن أبي بصير ، وأبي أيوب عن الصادق عليه السلام في الغلام ابن عشر سنين يوصي ، قال : إذا أصاب موضع الوصية جازت( ).
أي لا تصح وصية هذا الصبي مطلقاً بل لابد أن يكون لها رجحان .
والنسبة بين المميز والذي يبلغ عشر سنوات عموم وخصوص مطلق إذ يصدق على الذي عمره ست سنوات مثلاً أنه مميز ، ولم يقل أحد من الفقهاء بصحة وصيته.
ولو كتب المجنون وصية في حال جنونه ثم آفاق قبل الوفاة فلابد من إقراره بها من جديد بحضور البينة لأن البينة لا تشهد على وصية المجنون التي تقع من الأصل باطلة ، ليكون هذا الإقرار كالوصية المستحدثة وهناك فرق بين الجنون المطبق على الإنسان وبين الجنون الإدواري ، إذ تصح المجنون أدوارياً الوصية عند إفاقته وإتصافه بالعقل ، ولكن لو قال وهو في حال الجنون وبعد الوصية بأنه رجع عن هذه الوصية على نحو السالبة الكلية أو الجزئية فهل يؤخذ بقوله ، المختار لا ، على أن تشهد البينة بأن رجوعه كان في حال جنونه وعدم امتلاكه عقله.
لأن المجنون لا يعي ما يقول ولا يتصرف باتزان ، ووصيته أو نقضها كالهذيان.
12 صفر الخير 1443هـ