المقدمــــــة
الحمد لله على آلائه المتجددة ، ونعمه المتصلة على الفرد والجماعة والنوع ،وهو من اللطف الإلهي ومصاديق قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
الحمد لله الذي يُعطي إبتداءً ، وتعجز الخلائق عن الإحاطة بمعشار عطائه وهباته في الليل والنهار ، وخصائص وأعراض وأسباب ومنافع هذا العطاء ، إذ يعطي الله عز وجل ابتداء ويعطي بالدعاء ، وليس من تزاحم بينهما ، فما يأتي بالدعاء والشكر والعمل الصالح لا يحجب ما كتب الله عز وجل للإنسان من الخير والرزق والنفع ابتداء من فضله ، ليتساوى الناس جميعاً في العطاء الإبتدائي من عند الله عز وجل ، ويشتغل المؤمنون وأصحاب الدعاء والشكر لله عز وجل بنعمة الزيادة في الخير والنعم من الله ، وتوالي الفضل عليهم ،وعن (ابن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من أعطي الشكر لم يحرم الزيادة؛ لأن الله تعالى يقول {لئن شكرتم لأزيدنكم}( ) ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول؛ لأن الله يقول {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده }( ))( ).
وهل ينتفع الكفار مثلاً من النعم التي تأتي للمؤمنين بالتقوى ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ، وأسرار بعثة الأنبياء وهداية طائفة من الناس لتصديق نبوتهم وأتباعهم ، وفي انتفاع الذين يؤذون الأنبياء والصالحين من النعم التي تأتي بسببهم أو عدمه وجوه:
الأول : إنحصار انتفاع الذين يؤذون الأنبياء بالنعم العامة والبركة التي تصاحب بعثة النبي ، وعمل الأنصار التابعين له بأحكام شريعته ، وتحتمل النعم التي للمؤمنين والأتباع بعد مغادرة النبي الحياة الدنيا إلى الرفيق الأعلى من جهة الكم والكيف جهات :
الأولى : تكون النعم التي تأتي لطبقات التابعين للنبي أكثر من التي كانت في أيام حياته .
الثانية : التساوي في الكم دون الكيف بينهما .
الثالثة : التساوي في الكيف دون الكم .
الرابعة : ما يأتي من النعم للتابعين للنبي بعد وفاته أقل مما جاءت في أيام حياته .
الخامسة : ليس من قانون ثابت في المقام ، فقد تكون النعم بعد وفاة النبي أكثر منها في حياته ، وقد تكون أقل .
والمختار هي الجهة الأولى أعلاه ، وهو من فضل الله عز وجل ، فانه سبحانه اذا أنعم بنعمة لا يرفعها ، ثم تتوالى النعم بعدها ببركة النبوة وتعاهد المؤمنين لها .
الثاني : يأتي الأذى والضرر للذين كفروا في مقابل إيذائهم للأنبياء.
الثالث : قد تكون النعمة العامة وبالاً وحزناً عليهم ، وتضيق صدورهم ، ويكدحون للأكثر من غير تلذذ بالنعم التي عندهم ، قال تعالى [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
والمختار هو الوجه الأول ، وتدل عليه صيغة العموم في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله الذي جعل نعمه تتصف بالإطلاق في جنسها ونوعها وكمها وكيفها ومقدارها والإنتفاع منها .
الحمد لله الذي جعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضياءً يشع خمس مرات في اليوم على مشارق الأرض ومغاربها .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية أن إبتداء نبوته من جوار البيت الحرام ، ثم صيرورة أداء الصلاة في كل يوم في مشارق الأرض ومغاربها مع التسليم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل أداء الصلاة في ربوع الأرض اليومية جماعة وفرادا من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) الجواب نعم .
فالصلاة رسالة الأنبياء والسلاح إلى الهدى والإيمان ، وفيها غنى عن الغزو والقتال ، ومن تصدوا وقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش تابوا وأقاموا الصلاة ، والذين ماتوا على الكفر [فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ] ( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن شاهداً سماوياً على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) .
وسيأتي مصداق في قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ) لبيان أن تقييد ونعت خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر بأنه بالحق دليل على أنه لو أراد قافلة أبي سفيان لما فاتته ، إذ يعترض طريقها في الوقت والموضع المناسب ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وهل يمكن القول أن الكفار كانوا يريدون إبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إبادة جماعية عامة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق مكرهم في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الحمد لله الذي لم يجعل مقاليد الأمور إلا بيده سبحانه لأنه الرؤوف الرحيم الذي يهب ويعطي من سأله ومن لم يسأله .
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ومن مصاديق هذه الرحمة تفضل الله عز وجل بجعله غير محتاج للغزو لتبليغ رسالته مع تحمله أشد الأذى بصبر .
الحمد لله الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، والذي جعل علوم القرآن من اللامتناهي ، وينهل منه الناس جميعاً ، وينشغل العلماء بالبيان والتفسير ، وتأسيس قواعد مستحدثة لتأويل آياته في كل زمان من غير أن تنفد خزائن علومه وهو من أسرار نعته بأنه معجزة عقلية .
الحمد لله الذي جعل الذين يصدرون عن القرآن لا ينالون إلا الفلاح والتوفيق والرشاد .
الحمد لله الذي سهّل للعلماء سبل علوم التفسير في الوقت والسعة والرزق ، وازاح عنهم الموانع التي تحول دونه .
الحمد لله الذي جعل كل إنسان يدرك التقصير في عبادته وطاعته مع أنه سبحانه يرضى بالقليل .
الحمد لله بعدد ملائكة السماء ، وبعدد تسبيحهم مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى في الثناء عليهم [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ] ( ).
الحمد لله الذي أحاط بكل شئ علماً ورحمة لتملأ السكينة عالم الأكوان والنفوس ، وجعل قلوب العباد بيده يقلبها كيف يشاء ، فيمنع سبحانه من إستحواذ وشيوع مفاهيم الشرك في الأرض ، لمعارضتها للعلة الغائية في خلق الناس كما في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ].
وهل في الآية أعلاه وعد للرسل بظهور وعلو شأن الإيمان وأداء الفرائض ، الجواب نعم ، وهو من الشواهد على عدم الحاجة إلى الغزو والقتال ولتبقى السنة النبوية القولية والفعلية ترجمة عملية لآيات السلم والسلام في القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب القبر من ذكر الله)( ).
وسيأتي مزيد كلام في آيات البرزخ ، وكيف أن السبيل للنجاة من عذاب البرزخ بذكر الله وأداء الفرائض العبادية وليس بسفك الدماء أو الإضرار بالغير ، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وهذا الجزء هو التاسع والعشرون بعد المائتين من تفسيري للقرآن (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ويختص هذا الجزء بمسائل وأدلة وشواهد من القرآن والسنة وهو قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ).
ومن فضل الله أقوم بمفردي بالتأليف والمراجعة والتصحيح لأجزاء التفسير ومؤلفاتي الأخرى في الفقه والأصول والكلام والأخلاق وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، فلا يطلع على الكتاب حتى يصدر أحد عدا التنضيد ويقوم به في الغالب ولدي.
ومن مضامين هذا الجزء عدم ثبوت إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه التعرض لقافلة أبي سفيان ، ويمكن استقراء هذه الحقيقة بوجوه استدلالية وإحصاء وشواهد من جهات:
الأولى : عدد الكتائب التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة .
الثانية : عدد معاهدات الصلح والموادعة التي عقدها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين ، وهي من الشواهد على عدم إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزو أو الإستيلاء على قوافل خاصة ، وأن لأكثر تلك القبائل عهوداً ومواثيق وأحلافاً .
الثالثة : بيان آيات القرآن لإنتفاء قصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقافلة أبي سفيان ، ومنها تقييد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر بأنه بالحق وللحق ، قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ) لبيان صحبة الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين خروجه من بيته وعدم مفارقته لحين عودته من معركة بدر .
الرابعة : وقائع معركة بدر ، فحينما استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالقتال دفاعاً لم يذكروا قافلة أبي سفيان علة للخروج ، وإذا تبدل الموضوع تغير الحكم .
الخامسة : السنة النبوية وكتائب وسرايا النبي محمد بعد معركة بدر ، فلم يتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى قوافل قريش إلى أن تم صلح الحديبية.
ويتضمن هذا الجزء علم مستحدث جديد وهو الدراسة المقارنة بين كل معركتين من معارك الإسلام ، ووجوه الإلتقاء ووجوه الإفتراق بينهما ، وذكرت هنا مثالاً للمقارنة بين معركة بدر ومعركة أحد ، كما تقدم موجز لهذه المقارنة في الجزء السادس والعشرين بعد المائة ( ).
السادسة : لم يكن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في معركة بدر بقصد القتال ، لذا تخلف طائفة من الصحابة ، كما أن عدداً من الصحابة خرج وهو لا يحمل سيفاً ودرعاً وبيضة (خوذة) أما في معركة أحد فانهم استعدوا وخرجوا من المدينة لإرادة الدفاع .
السابعة : لقد وقع الخلاف والخصومة بين رؤساء جيش المشركين يوم بدر ، إذ امتنع بعضهم عن القتال ، وأشار عدد منهم إلى لزوم إجتنابه ، وهناك جمع رجعوا من وسط الطريق إلى بدر خاصة عندما وصل رسول من أبي سفيان يدعوهم للرجوع ، بينما لم يقع بينهم خلاف معتد به يوم معركة أحد .
وتضمن هذا الجزء قراءة في بعض الآيات التي نزلت بخصوص واقعة بدر ، وقد اختصت الأجزاء 169-170-171 من هذا التفسير بقراءة بعض الآيات التي تتعلق بمعركة بدر ، وهي :
الآية الأولى : [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ) ( ).
الآية الثانية : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
الآية الثالثة : [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ) ( ).
الآية الرابعة : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
الآية الخامسة : [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) ( ).
الآية السادسة : يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ.
الآية السابعة : وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
الآية الثامنة : [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ) ( ).
الآية التاسعة : [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]( ) ( ).
الآية العاشرة : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
الآية الحادية عشرة : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
الآية الثانية عشرة : [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ( ).
الآية الثالثة عشرة : [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ) ( ).
الآية الرابعة عشرة : وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
الآية الخامسة عشرة : [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ) ( ).
الآية السادسة عشرة : [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ) ( ).
الآية السابعة عشرة : [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ( ).
الآية الثامنة عشرة : وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
الآية التاسعة عشرة : هَذَان خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ.
الآية العشرون : [وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ) ( ).
الآية الحادية والعشرون : وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.
لقد كانت معركة بدر أول معارك الإسلام وهي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات كثيرة منها :
الأولى : أسباب المعركة ، وأن المشركين هم الذين أرادوا القتال واختاروا أوانه ومكانه .
الثانية : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بأمر من الله عز وجل ، ومصاحبة الوحي له .
الثالثة : إجتهاد النبي بالدعاء عشية وصبيحة يوم المعركة .
الرابعة : إخلاص وتفاني الصحابة في الدفاع عن النبوة والتنزيل.
الخامسة : سرعة انقضاء المعركة ، وهو من الشواهد على نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : نتائج المعركة .
السابعة : النعم التي ترشحت عن معركة بدر كما سيأتي البيان ، ومنه قانون تخلف الناس عن إحصاء النعم في معركة بدر( ).
الثامنة : دلالة مقدمات ووقائع معركة بدر على قانون لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، وهو الذي اختص به هذا الجزء بعد أن صدرت أربعة وعشرون جزءً من هذا السفر خاصة بهذا القانون والحمد لله .
إن نعت المسلمين بأنهم أذلة أوان معركة بدر شاهد على عدم طلبهم أو سعيهم للقتال والغزو ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ]( ).
حرر في السابع عشر من شهر ربيع الأول 1443
24/10/2021
من معاني آية الخلافة
الحمد لله الذي جعل الأنبياء رسل السلام والأمن بين الناس لقانون النبوة حرب على الإرهاب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ليكون تقدير هذا الشطر من آية الخلافة على وجوه :
الأول : إني جاعل في الأرض خليفة يأتي بالسلام .
الثاني : إني جاعل في الأرض خليفة يتلقى الوحي من عنده .
الثالث : إني جاعل في الأرض خليفة يتعقبه خليفة .
الرابع : لم يترك الله الأرض من غير خليفة .
الخامس : لقد شرف الله عز وجل الأرض بالخليفة ، وشرف الإنسان بالخلافة في الأرض .
السادس : إني جاعل في الأرض خليفة أحبه وأرزقه وأنعم عليه.
السابع : إني جاعل في الأرض خليفة يمنع الفساد وسفك الدماء ، وهو من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
الثامن : إني جاعل في الأرض خليفة أخرج له كنوزها .
التاسع : إني جاعل في الأرض خليفة تكون الجنة محل سكنه الدائم.
العاشر : إني جاعل في الأرض خليفة يمتنع عن الغزو والسلب والنهب وموضوع وعنوان هذا الجزء هو قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) مع أدلة وشواهد وفق نظم ونسق في الأجزاء الخاصة بهذا القانون .
الحادي عشر : إني جاعل في الأرض خليفة هو آدم عليه السلام.
الثاني عشر : إني جاعل في الأرض خليفة نبياً بعد نبي .
الثالث عشر : إني جاعل في الأرض خليفة ولا راد لأمري .
وتقدير الآية بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : إني جاعل في الأرض خليفة وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إني جاعل في الأرض خليفة أنزل عليه القرآن .
الثالث : إني جاعل في الأرض خليفة يصبر على أذى الذين كفروا.
الرابع : إني جاعل في الأرض خليفة يستأصل عبادة الأوثان من الأرض ، وقال (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) ( ).
الخامس : إني جاعل في الأرض خليفة يكون أتباعه أكثر أتباع الأنبياء .
السادس : إني جاعل في الأرض رسولاً بشر به الأنبياء السابقون.
السابع : إني جاعل في الأض خليفة لا يغزو أحدا .
الثامن : إني جاعل في الأرض خليفة بشريعة متكاملة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
التاسع : إني جاعل في الأرض خليفة بمعجزات عقلية وحسية .
وهل هناك ملك أو سلطان أكثر تابعاً من النبي ، الجواب لا ، إذ ينقطع اتباع الملك بموته وإنقضاء ملكه ورئاسته ، أما النبي فله أتباع في أيام حياته وأتباع بعد وفاته .
نعم يمكن القول بانطباق هذا الإختصاص على الرسل أولي العزم الخمس ، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد كان نوح يلاقي الأذى والضرر من قومه ، وينعتوه بالمجنون خاصة بعد أن أخذ بصنع السفينة ، وكان الأب يحذر ابنه منه ويقول له إن أبي حذرني منه.
وألقى إبراهيم في النار إذ تناجوا بينهم بقتله باشد ضروب القتل ، وفي التنزيل [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ).
ولقد كان موسى عليه السلام وقومه مستضعفين في قوم فرعون وأرادوا البطش بهم عندما فروا من سلطانه لولا أن أنجاهم الله عز وجل بأن كشف لهم الأرض التي تحت بحر القلزم ، وهو البحر الأحمر فصبروا ثم كثر اتباع موسى وتوارثوا ملته ، أما عيسى عليه السلام والذي اسمه المسيح بن مريم فقد صار اتباعه من أعظم الأمم .
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد بدأ دعوته في مكة ، وقريش تؤذيه ، فهاجر فاعرض عنهم ، وهذه الهجرة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
معجزة ملائمة المكان والزمان لبعثة النبي (ص)
وهي معجزة مستحدثة نبينها هنا بالدليل مع ذكر شطر من المنافع المترشحة عنها ، فلقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بين قومه وعشيرته الذين هم من ذرية إبراهيم خليل الله ، وكانوا مع شركهم يتفاخرون بهذا النسب ، ويعرفون دلالته ، وأنه عنوان الإيمان ، ولزوم ترشح الهداية والصلاح عن جوار البيت الحرام ، وهل كانت قريش تعلم بأخبار بشارات بعثة رسول في مكة على نهج إبراهيم ، وأن أيامه قد حلّت ، وعلاماته ظهرت ، الجواب نعم ، وفيه أمور :
الأول : التخفيف عن أهل مكة .
الثاني : الترغيب بدخول الإسلام .
الثالث : تهيئة مقدمات تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته .
الرابع : إتخاذ الأشهر الحرم مناسبة لنشر وتبليغ آيات القرآن وجعلها التحفة التي يرجع بها وفد الحاج إلى مدنهم وقراهم وقبائلهم ، وهو من الإعجاز باجتماع جهات :
الأولى : وقوع حج بيت الله الحرام ومقدماته في أشهر حرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا..] ( ) والمراد من الأشهر الحرم حرمة القتال والقتل والإرهاب والثأر والنهب والسلب والغزو ونحوه فيها ، والأشهر الحرم من حيث الإنفراد والإتحاد على قسمين :
الأول : شهر رجب ، وهو منفرد ، وهو الشهر السابع من أشهر السنة القمرية .
الثاني : شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ، وهي أشهر متصلة زمانياً ، وذوالقعدة هو الشهر الحادي عشر وذو الحجة هو الشهر الثاني عشر من أشهر السنة القمرية ، أما شهر محرم فهو الشهر الأول من السنة القمرية فتتصل هذه الأشهر الحرم .
وتقع أركان الحج في اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة أي يسبق الحج بنحو أربعين يوماً ابتداء من أول ذي القعدة حرماً يسير فيها الناس في الجادة العامة وفي أراضي القبائل المتصالحة والمتحالفة أو المتحاربة بأمان سواء من جاء للحج أو من لم يأت له ، لذا تعمر أسواق مكة الدائمية والموسمية في هذه الأيام مثل سوق عكاظ وسوق ذي المجنة ، وسوق ذي المجاز .
ليكون من الإعجاز في هذه الأسواق ونظمها أنها تثبيت لحرمة الأشهر الحرم ولزوم تعاهد هذه الحرمة من قبل الأفراد والقبائل ليكون هذا التعاهد مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتتعقب أداء الحج نحو سبع وأربعين يوماً حرماً إلى نهاية محرم يستطيع وفد الحاج تأدية المناسك والعودة بسلام إلى أهله قال تعالى [سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ]( )، وببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صاروا يعودون بأمور ونعم مستحدثة من وجوه :
الأول : أنباء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجوار البيت الحرام ، ومن أوسط وأسنى بيوت قريش ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، ليأتي الناس إلى مكة فيلتقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعوا أخباره ومعجزاته ، وينقلوا إلى أهليهم أنباء نبوته ودلائل صدق رسالته.
ومثلما هو في هذا الزمان بأن مناسبة حج البيت أكبر تجمع للمسلمين ، فكذا قبل الإسلام من بعد أيام إبراهيم عليه السلام ، فقد كان حج البيت الحرام أكبر تجمع للناس يومئذ ، ليكون مقدمة لنشر دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأمصار .
وهل يمكن القول بعدم إنحصار أسباب ومقدمات هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ببيعة العقبة الأولى والثانية ، وأشخاص الذين حضروها من الأوس الخزرج ، الجواب نعم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في سني إقامته في مكة أهلها والوافدين إليها إلى الإسلام .
وقد ورد لفظ [أَنْذِرْ النَّاسَ] مرتين في القرآن ، وكلاهما خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محمد بخصوص الدنيا والآخرة ، وهما:
الأولى : قوله تعالى [أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ] ( ) .
الثاني : إخبار العائد من الحج لأهله وأصحابه عن رؤيته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والخصال الحميدة التي يتصف بها وعلامات النبوة الظاهرة .
الثالث : أخبار اللقاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي دعوته للإسلام ، ورواية معجزاته الحسية .
الرابع : نقل آيات القرآن ، والتي سمعها وفد الحاج من وجوه :
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن بحضرة عدد من الحجاج ، وفي التنزيل [وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطوف في موسم الحج على القبائل في منازلها ، ويجلس إليهم ويدعوهم إلى الإسلام ، ويسألهم إيواءه للنجاة من قريش الذين كانوا يؤذونه ويريدون الفتك به وقتله .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحمل تهديد قريش بقتله على محمل الجد ، وهل هذا الحمل من الوحي أم من معرفته بسجايا قريش وشدة قهرهم وبطشهم ، وعدم خشيتهم من سلطان أو قانون فهم أسياد مكة ، فحينما كانوا يخططون لقتل النبي فانهم يكتفون إن وقع هذا القتل بدفع دية إلى بني هاشم .
الجواب منهما جميعاً.
ومن خصائص الوحي كشف الحقائق ، وطرد الغفلة.
وقد أخبر الله عن عزم قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تلاوة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على وفد الحاج إذا أحسوا بالأمان والوثاقة بالسامع ، وقد كان كثير من شيوخ وأفراد القبائل يحلون ضيوفاً على رجالات قريش ، وعلى عموم أهل مكة ، فاذا كان في البيت فرد مسلم فانه ينتهز فرصة مناسبة للإخبار عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتلو القرآن على مسامع وفد الحاج ، وإذا اطمأن لهم فانه يخبرهم عن إسلامه ، ويدعوهم لدخول الإسلام ، وكان العرب يتصفون بسرعة الحفظ بالإضافة الى قانون سهولة حفظ القرآن ، وهل هذه السهولة من المعجزات الذاتية للقرآن ، الجواب نعم.
الثالث : حديث عامة أهل مكة عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخصائصها وأحكام الشريعة التي جاء فيها ، وصحيح أن أكثر آيات الأحكام نزلت في المدينة إلا أن شطراً من الأحكام نزل في مكة ، منه وجوب الصلاة وحرمة الوأد وسفك الدماء .
والنسبة بين الإرهاب والوأد هو العموم والخصوص المطلق ، لبيان قانون وهو مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن الإرهاب ، وعن مصاديقه وأفراده ، وإن تعددت ، فمن خصائص النبوة والتنزيل أمور:
الأول : تنزيه الأرض من الشرك ، قال تعالى [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
ومن مصاديق هذا الفصل ، وهو معجزة ملائمة المكان والزمان لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجة البيت الحرام ووفد الحاج والناس إلى إزاحة الأصنام حول البيت والتي كانت في إزدياد مطرد.
الثاني : إشاعة السلام ، ونشر مفاهيم المودة بين الناس ، وإتخاذها وسيلة للصلاح.
الثالث : مطاردة الأخلاق المذمومة ، وملاحقة المعاصي حتى يبعث النفرة في النفوس منها ويزيحها عن المجتمعات .
قانون نهي القرآن عن الأخلاق المذمومة
لقد أخبر القرآن بأن الله عز وجل [خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ]( ) و[إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ) و[هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ) وأنه الذي يحيي ويميت ، ويتسالم الناس على هذه القوانين التي هي من الإرادة التكوينية ، وبين المسلمين وعامة الناس في التسالم في المقام عموم وخصوص مطلق ، إذ يتسالم المسلمون على أن تقسيم الناس إلى شعوب وإلى قبائل إنما هو بآية ومعجزة من عند الله ، فان قيل إنما تم وفق أنظمة الحياة وتوالي الإنشطار ، وتعدد الفروع.
الجواب لم تتم هذه الأنظمة صدفة وإتفاقاً ولا وفق مسار طبيعي إنما بمشيئة وعناية ولطف من عند الله ، ليكون هذا التقسيم وسيلة للتوادد وإشاعة فلسفة التراحم ونشر ألوية السلم بين أفراد الشعب الواحد والشعوب والقبائل كافة ، لذا توجه الخطاب إلى الناس جميعاً في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
والآية أعلاه دعوة للتآلف وتعاهد مفاهيم المواطنة ، والحرص على التقيد الخاص والعام بقوانين الدولة التي تجمع أفراد الشعب والقبيلة تحت لوائها ، وسور الموجبة الكلية للمواطنين وضوابطها بما يفيد الأمن والنفع ومنع الظلم والجور والتعدي ، وهذا المنع من علل بعثة الأنبياء والمرسلين ، لذا ترى بصمة ورشحات النبوة جلية في جميع القوانين الوضعية في العالم الحديث .
من إعجاز القرآن ذكر أفرادها ومصاديقها في القول والفعل سواء من الكبائر أو الصغائر بما يفيد تفقه المسلمين في الدين ، وبعث النفرة في قلوبهم ، وقلوب عامة الناس منها :
الأولى : مفاهيم الكفر .
الثانية : النفاق .
الثالثة : الغيبة ، قال تعالى [أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ..]( ).
الرابعة : إتباع النفس الشهوية والغضبية ، والغدر .
الخامسة : ترك الصلاة والواجبات العبادية .
السادسة : بذاءة اللسان ، وقلة الحياء ، وسوء الخلق ، وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام : يا خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مع الأبرار ، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي ، وأن أسقيه من حظيرة قدسي ، وأن أدنيه من جواري) ( ).
السابعة : أكل المال الحرام والغش والتطفيف ، قال تعالى [وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ] ( ) (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إبليس لربه تعالى : يا رب قد أهبط آدم ، وقد علمت أنه سيكون كتاب ورسل ، فما كتابهم ورسلهم.
قال : رسلهم الملائكة والنبيون ، وكتبهم التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان . قال : فما كتابي.
قال : كتابك الوشم ، وقراءتك الشعر ، ورسلك الكهنة ، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه ، وشرابك كل مسكر ، وصدقك الكذب ، وبيتك الحمام ، ومصائدك النساء ، ومؤذنك المزمار ، ومسجدك الأسواق) ( ) .
الثامن : الكذب ، وهو في موضوعه من الكلي المشكك ، فقد يكون من الكبائر ، ومنه الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنه شهادة الزور ، ومنه الكذب في الصغائر ، ومنه في المزاح (عن أبي أُمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) ( ) .
التاسع : الأمر بالمنكر والترغيب فيه ، وتهيئة مقدماته ، والتجاهر فيه ، والنهي عن المعروف، والإمتناع عن إتيانه .
وقد صدر الجزء السابق وهو الخامس والعشرون بعد المائتين (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) في قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) وقد صدرت قبله بذات العنوان الأجزاء ( 222-223-224) في آية وعلم مستحدث يبين جهاد القرآن لصيرورة المسلمين أئمة في العصمة من الإرهاب ولتنزيه الأرض منه .
وهل كانت كثرة الأصنام المنصوبة في البيت الحرام من الأسباب الملائمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، فلا يرضى الناس بقطع المسافات وتحمل المشاق ، وتعطيل الأعمال ، والتعرض لأهوال الطريق للوصول إلى مكة ، فتكون النتيجة الطواف بالأصنام والتوسل العام والخاص اليها ، ولكن الناس يحتاجون التنبيه والإنذار وبيان قبح عبادة الأصنام ، فنزل القرآن في مكة بذم الذين يتزلفون إليها ، والوعيد عليه وعلى الإقامة على الشرك بالخلود في النار .
ويمكن القول بأن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حربه على عبادة الأصنام من وجوه :
الأول : نزول آيات القرآن التي تنهى عن عبادة الأصنام ، وتبين قبحها وسوء عاقبتها .
الثاني : ما جمعت بين الإحتجاج والتوبيخ للكفارعلى العكوف على الأصنام لأن الإنسان هو المكلف ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن التي تذم عبادة الأصنام حال نزولها ، وتخبر عن سوء عاقبة الذين عبدوها بما فيه تعريض بآباء المعاصرين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قريش.
وفي سورة الفرقان وهي مكية نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى[وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا] ( ).
قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا] ( ).
وفي سورة فاطر وهي سورة مكية أيضاً وردت آيات أخرى في ذم الكفار لعبادتهم الأوثان وإختيارهم العذاب الأليم في الآخرة .
قانون تجدد الإنذار السماوي من فتنة الشيطان
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار الإنذارات ، بل إبتدأت هذه الإنذارات من حين إقامة آدم وحواء في الجنة ، إنذرهما الله عز وجل من أمرين :
الأول : الأكل من شجرة مخصوصة بقوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) .
الثاني: الإصغاء إلى إبليس والذي أبلس وإنحرف عن طاعة الله ويأس من رحمة الله ، قال تعالى [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) وكان اسم ابليس بالسريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث .
ومن إعجاز القرآن ذكره للشيطان بصيغة التحذير والإنذار على وجوه :
الأول : إنذار آدم وحواء من الشيطان .
الثاني : إنذار الأنبياء من الشيطان ، قال تعالى [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ] ( ).
الثالث : استعاذة الأولياء من الشيطان لإدراكهم أنه يحرض على الفساد ، وورد حكاية عن أم مريم في التنزيل [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) .
الرابع : بيان فتنة وإغواء الشيطان لبعض أبناء الأنبياء ، كما ورد في التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] ( ) .
لبيان قانون في سنخية أخلاق الأنبياء ، وهو مع شدة أذى الأخوة والأهل لهم فانهم ينسبون هذا الأذى إلى الشيطان ، وأنه السبب ذو الأثر والتأثير في إثارة الفتنة.
ولم يقل يوسف عليه السلام بعد أن نزغ الشيطان بإخوتي ، إنما جعل يوسف عليه السلام نزغ الشيطان بالإيقاع بينه وبين إخوته مع أن الأذى والضرر جاء من طرف واحد وهم إخوته.
وهل يعلم يوسف عليه السلام بأن القرآن سينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكشف وتوثيق هذه الحقيقة ، وتثبيتها إلى يوم القيامة ، المختار نعم ، وهو من مصاديق بشارة الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورجاء بيان صدق نبوتهم ، وصبرهم في ذات الله ، وقهرهم لنزغ الشيطان وإغوائه للناس .
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإِنس .
قال : يا نبي الله وهل للإِنس شياطين.
قال : نعم {شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً})( ).
ترى ماذا كان يوسف عليه السلام يقصد من لفظ الشيطان في قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي] ( ) فيه جهات :
الأولى : إبليس .
الثانية : أحد شياطين الجن.
الثالثة : شيطان من الإنس .
الرابعة : النفس الشهوية والغضبية .
والمختار هي الأولى ، لقاعدة نؤسسها وهي لو دار الأمر بين إرادة إبليس أو غيره من لفظ الشيطان إذا ورد مطلقاً ، فالصحيح هو إبليس ، وأن الألف واللام في الشيطان هنا للعهد ، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ]( ).
الخامس :إنذار المؤمنين والمؤمنات من الشيطان ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) لبيان أن الإعراض عن منهاج السلم من خطوات الشيطان ، وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
السادس : إنذار الناس جميعاً من الشيطان ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( )ومنه قوله تعالى[أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ويقصد من موضوع الإنذار من إبليس فتنته ومكره وحيله وجنوده من الإنس والجن .
وتسمى الآية [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) آية الإنذار ، إذ نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة حين جمع بني عبد المطلب ودعاهم إلى الإسلام ، وإنذرهم من الإقامة على الكفر.
وهل من صلة بين فتنة الشيطان وصدود كثير من الناس عن دعوة الأنبياء ، وإشهار قريش السلاح بوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك متتالية منها معركة بدر وأحد والخندق .
الجواب نعم ، فلقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإمتحان والإبتلاء ، فيغوي إبليس الناس ، ويزين لهم المعاصي ، ويرغبهم بعبادة الأصنام ، وكان فيها تبدد للآمال .
فيبعث الله عز وجل النبي لدعوة الناس للإيمان ، ويأبى الله عز وجل إلا وجود طائفة من الناس تتلقى دعوة النبي بالتصديق لبيان أن سلطان الشيطان محدود ، وهو عرض يزول مع أدنى تفكر وتدبر ، ولكن الكفر أرسى مفاهيمه ، وضرب أطنابه( ) في مكة وعامة الجزيرة .
قانون جحود قريش عدوان
لم تبدأ الخصومة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش بالقتال في معركة بدر وأحد ، إنما ابتدأت من أول أيام البعثة النبوية ، فعندما أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته كان تلقي قريش لها على وجوه :
الأول : التصديق والإستجابة .
الثاني : التعضيد كما في ذب أبي طالب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه .
الثالث : الحياد وانتظار ما يؤول إليه أمر نبوته .
وكان هذا رأي بعض رجالات قريش ، ولكن أصوات الجاحدين ظهرت عندما وردت رسالة أبي سفيان يستنفر قريشاً لنصرة قافلته بذريعة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتصدون لها ، ويريدون الإستيلاء عليها .
وفي (يَا قَوْمِ إنْ يَكُ مُحَمّدٌ كَاذِبًا يَكْفِيكُمُوهُ ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ ، ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ صَعَالِيكُ الْعَرَبِ ، وَإِنْ يَكُ مَلِكًا أَكَلْتُمْ فِي مُلْكِ ابْنِ أَخِيكُمْ وَإِنْ يَكُ نَبِيّا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ يَا قَوْمِ لَا تَرُدّوا نَصِيحَتِي، وَلَا تُسَفّهُوا رَأْيِي) ( ).
الرابع : الإعراض والصدود من غير إضرار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامس : الإمهال والرصد والترقب .
السادس : عدم التعجيل في إختيار قبول الدعوة أو الجحود بها .
السابع : التدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تترى ، لقانون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي هذه المعجزات .
الثامن : العزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا لشئ إلا لأنه نبي يقوم بالتبليغ عن الله عز وجل بالحجة والبرهان.
التاسع : تجهيز وتسيير الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله والذين آمنوا بالرسالة السماوية من المهاجرين والأنصار.
وأيهما أكثر معجزاته الحسية أم العقلية ، الجواب هو الثاني ، فكل آية من القرآن معجزة عقلية توليدية ، ومتجددة إلى يوم القيامة تنفذ إلى شغاف القلوب ، وتجعل الناس ينتفعون منها ، ولو على نحو الموجبة الجزئية ، ومن يعرض عنها لا تغادره ولا تسخط عليه ، بل تتودد إليه ، وتجعله في حال ندامة ، وتدعوه إلى التوبة والإنابة ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ).
لقد نزلت آيات القرآن بالإنذار من اتباع خطوات الشيطان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وهل قيام قريش بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الخطوات ، الجواب نعم ، إذ كانت عداوة الكفار للأنبياء من هذه الخطوات ، وهي إمتداد لإجتهاد إبليس في إغواء آدم وحواء بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها .
اختيار عثمان بن أبي العاص معجزة
لما أسلمت ثقيف وكتب لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابهم وما فيه من الوصايا ووجوه الإعفاء أمر عليهم عثمان بن أبي العاص ، وهو احدثهم لما أظهره من الحرص على تعلم القرآن والتفقه في الدين ، والتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بالسؤال ، والأصل في اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له إماماً لقومه هو الوحي من عند الله عز وجل، لعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
وتتجلى مصاديق لحسن إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، فبقي على الطائف في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيام أبي بكر ، وسنتين من حكم عمر بن الخطاب ، إذ عزله عن الطائف (وولاه سنة خمس عشرة على عمان والبحرين وسار إلى عمان ووجه أخاه الحكم بن أبي العاص إلى البحرين وسار هو إلى توج ففتحها ومصًرها وقتل ملكها شهرك وذلك سنة إحدى وعشرين) ( ).
لقد اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن العاص على ثقيف وهو أصغرهم سناً مع وجود وجهاء وأشراف القوم ، ولهم مع النبي معرفة شخصية وسبق وان دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام.
لتمر الأيام ويحول عثمان بن أبي العاص دون ردة ثقيف عندما سمعوا بالردة وقد ارتدت العرب ولثقيف ثارات مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يوم حنين ، فمما قاله لهم :
(يا معشر ثقيف كنتم آخر الناس إسلاماً فلا تكونوا أول الناس ردة) ( ).
وقام عثمان بتجييش الجيوش لقتال أهل الردة وأمر عليهم أخاه عبد الرحمن ( ).
وروى عثمان بن أبي العاص الثقفي عن أمه فاطمة بنت عبد الله أنها قد (شهدت ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين وضعته أمه آمنة.
وكان ذلك ليلاً قالت: فما شيء أنظر اليه من البيت إلا نور وإني لأنظر إلى النجوم تدنو مني حتى إني لأقول لتقعن علي) ( ) .
كما تولى عثمان بن أبي العاص البصرة أيام عمر بن الخطاب ، وتزوج عثمان هذا خالدة بنت أبي لهب عم النبي ومات عثمان بن أبي العاص في البصرة في السنة الواحدة والخمسين للهجرة .
ويختص هذا الجزء بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) وهو عنوان بكر وخلاف الشائع والمتوارث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غزا ستاً وعشرين غزوة أو أكثر قليلاً على اختلاف بين الرواة والمؤرخين .
وقد صدرت بخصوص هذا القانون أجزاء متعددة وهي :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
الرابع والعشرون : الجزء الواحد والعشرون بعد المائتين .
وجاءت هذه الأجزاء بذكر سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية بلحاظ معارك الإسلام المتعاقبة مع تجلي مصاديق هذا القانون ، وشواهد متعددة في ميدان القتال وخارجه ، تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد غزو بلدة أو قرية أو حتى جيش ، نعم قد يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجمع قوم وتحشيد جيوش للهجوم على المدينة .
فيخرج إليهم فيسمعون بقدومه فيتفرقون ، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم) ( ).
لقد كان لأداء واتقان الصلاة موضوعية في إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمراء ، مما يدل على أنه لا يبغي تجييش المجتمع ، ولا إختيار الشجاع والقائد في خطط للغزو ، فالصلاة سبيل النجاح والنجاة في النشأتين ، وطريق عقائدي لهداية الناس ، وخطاب للعقول بوجوب الخضوع والخشوع لله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
قانون الملازمة بين اتباع الشيطان والخسارة
لقد أنزل الله عز وجل آيات عديدة من القرآن تحذر من إتباع خطوات الشيطان ، ومن المقاصد السامية لهذا التحذير منع قتال المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وزجرهم عن غزو مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنهم أصروا على الغزو ، فلحقهم الخزي والخسارة سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) .
لبيان قانون وهو لحوق الخسارة والخزي لمن يتبع خطوات الشيطان ويتخذ الظلم والتعدي منهاجاً.
وهناك مسألتان :
الأولى : هل محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر من إتباع خطوات الشيطان ، وبخصوص واقعة بدر ، وتحريض الشيطان للذين كفروا ورد قوله تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) .
وعن (ابن عباس قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين فلما رأى جبريل انتزع يد ، وولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة انك جار لنا.
فقال {إني أرى ما لا ترون} وذلك حين رأى الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب}( ).
قال : ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين فقال المشركون : وما هؤلاء {غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}( ))( ).
الثانية : هل خسارة الذين يتبعون الشيطان في الآخرة حصراً أم في النشأتين ، وما هي الشواهد القرآنية والنبوية عليه .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، لأن هذه المحاربة كفر ، وأما المسألة الثانية فان خسارة الذين يتبعون الشيطان تشمل أمور الحياة الدنيا العاجل والآجل منها ، وتشمل عالم البرزخ والآخرة، إذ يلحق الخزي والفاقة والحسرة الذين كفروا في الدنيا .
وقد تجمع آية قرآنية ما يلقاه المشركون في الدارين كما في قوله تعالى [مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ] ( ).
قانون تخلف الناس عن إحصاء النعم في معركة بدر
لقد كانت معركة بدر معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت سنن الإيمان في الأرض إلى يوم القيامة ، ومع أنه وأصحابه لم يطلبوا القتال فيها ، ولم يسعوا إليه ، إنما كانت المعركة باختيار وإصرار من كفار قريش ، فان المغانم العقائدية والإجتماعية والإقتصادية التي كسبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المعركة لا تعد ولا تحصى إلا من عند الله.
وهل يمكن تقدير قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، (وان تعدوا نعمة الله في معركة بدر لا تحصوها إن الله لغفور رحيم).
الجواب نعم ، ومن معاني تخلف المسلمين والناس عن عدّ وإحصاء النعم الإلهية في معركة بدر وجوه :
الأول : إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإبتداء بالقتال ، وكان يأمر أصحابه بعدم رمي المشركين بالسهام وعدم التقدم بين الصفين للمبارزة مع شجاعتهم واستعدادهم للتضحية .
الثاني : كان شطر من الصحابة يكره الخروج من المدينة ، إذ كانوا يتنعمون بأداء الفرائض العبادية , ورؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمس مرات في اليوم في صلاة الجماعة والإستماع له في تلاوته القرآن ، وبيانه الأحكام.
فلما عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر اعتذروا له ، لبيان وحدة الموضوع في تنقيح المناط بين إظهار الأنصار في ميدان معركة بدر الإستعداد للدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبين إعتذار الذين تخلفوا عن الخروج إليها لأنهم لا يعلمون أن قتالاً سيقع ، وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج من المدينة للغزو ونحوه ، وتدل استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنصاره معركة بدر على أنهم لا يعلمون عشية بأنه سيقع قتال ، فمع حصول هذا العلم لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخشى عدم نصرتهم لأنهم تعهدوا بالذب والذود عنه وعن أصحابه المهاجرين عند وصولهم إلى المدينة مع تقديم شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الذود عنه ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
ومن بنود بيعة العقبة الثانية ورد عن جابر عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فقمنا إليه (فبايعناه) وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم) ( ).
الثالث : توثيق القرآن لنسبة نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر لله عز وجل ، وفيه دعوة لأجيال المسلمين والمسلمات المتعاقبة للشكر لله عز وجل على هذه النعمة ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وبنعمة النصر هذه ثبّت الله عز وجل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وأحكام الشريعة في الأرض إلى يوم القيامة.
الرابع : نعمة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في معركة بدر ، وهذه السلامة معجزة حسية .
الخامس : إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية ونهار يوم معركة بدر لهداية المسلمين إلى سلاح الدعاء ، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً] ( ).
السادس : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولحوق الخزي بابليس ومن اتبعه ، و(عن رفاعة بن رافع الأنصار قال : لما رأى إبليس ما يفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه.
فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك ، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر ، فرفع يديه فقال : اللهم إني أسألك نظرتك إياي)( ).
ومن وجوه تخلف الناس عن احصاء النعم في معركة بدر تفرعها وتجددها في كل زمان ، وإنتفاع أجيال المسلمين والناس جميعاً منها وإلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون الخروج إلى بدر وحي ودفاع
قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ) ( ) هذه الآية من سورة الأنفال سميت به لما فيه من البيان في توزيع الغنائم التي تركها المشركون المعتدون والتي تسمى أيضاً باسمين آخرين :
الأول : سورة بدر لأن أكثر آياتها نزلت بعد معركة بدر ، وتتعلق بموضوعها ، وتتضمن الحاجة إلى الدفاع ، والبشارة بالنصر وعن سعيد بن جبير (قلت لابن عباس : سورة التوبة.
قال : هي الفاضحة ما زالت تنزل : ومنهم، ومنهم ، حتى ظنوا أنها لم تُبْق أحدا منهم إلا ذكر فيها، قال: قلت سورة الأنفال.
قال : تلك سورة بدر) ( ).
الثاني : سورة الجهاد لأن وقائع معركة بدر جهاد في سبيل الله ، ولعله لترشح موضوع الأنفال والغنائم في الجهاد ، ولا أصل لتسمية السورة باسم سورة الجهاد خاصة وان السورة بعد أن ابتدأت بآية الأنفال كان موضوع الآية الثانية من السورة بيان لإتصاف المؤمنين بالخشية والوجل من الله عند ذكره تعالى .
قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ( ) ثم ذكرت الآية إقامتهم للصلاة جماعة وفرادا ، وأداءهم للزكاة ، وإنفاقهم في سبيل الله إذ ورد في الآية الثالثة من السورة [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ) والنسبة بين الأنفال التي تذكرها الآية أعلاه وبين الزكاة هو العموم والخصوص المطلق .
فمن إعجاز الآية تحقق صدق صفة الإيمان على الذي ينفق القليل إن تعذر عليه شرط النصاب في الزكاة ، بالإضافة إلى حقيقة وهي من المؤمنين والمؤمنات من يستحق الزكاة ، ويقبضها ولا يقدر على إخراجها فليس له مال يخرج منه الزكاة ، كما في قوله تعالى [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
لذا حينما وصفت هذه الآيات المؤمنين لم تقل الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، إنما ذكرت الأنفال مطلقاً وتحقق مصداقه بالقليل والكثير ، وتقييده بأنه جزء مما رزقهم الله عز وجل .
لبيان مسألة وهي إذا قلّ الرزق وصار بما يكفي للمؤونة فيسقط الإنفاق ، لقاعدة كل ما غلب الله عز وجل عليه فالله أولى بالعذر ، وجاءت الأنفال في معركة بدر لإقامة الحجة من الله عز وجل في المقام ، وهي رزق كريم .
إذ صار بوسع المؤمنين الإنفاق لبيان قانون وهو إذا أمر الله عز وجل بأمر فانه سبحانه يهيئ أسبابه ومقدماته ، ومنه وقوع سبعين أسيراً بيد المسلمين في معركة بدر ، ودفع قريش البدل والعوض عن أكثرهم .
ومن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يستلم عوض الأسرى ، ولم يأخذ سهماً منه ، إنما ترك لكل من أسرّ أسيراً من المشركين بيان مقدار العوض وكيفية قبضه ، أو فكاك الأسير من غير عوض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
مقدمة الخروج إلى بدر
يدل قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( )، خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة وهل تدل الآية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عزموا على الخروج إلى بدر وهم في المدينة ، الجواب لا ، إنما تبين الآية قانوناً وهو لا يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلا بالوحي ، وأن هذا الخروج حق ، وفيه تزكية لقول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه كما يتعلق هذا الخروج بمعركة بدر من وجوه:
الأول : ورود الآية في سورة الأنفال ، ومن أسمائها سورة بدر كما عن ابن عباس ، وهذه الآية هي الآية الخامسة منها .
الثاني : دلالة خاتمة الآية على إرادة الخروج إلى بدر لبيانها لكراهية فريق من المؤمنين .
فمن إعجاز الآية نعتهم بالمؤمنين أي أنهم ليسوا منافقين أو ضعيفي الإيمان .
وقيل أنها تشمل معنى الكراهية بخصوص صرف وتوزيع الغنيمة( )، وهي من مصاديق قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لبيان أنهم كرهوا القتال خشية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ولكن المشركين أصروا عليه .
الثالث : ذكر كل من آية البحث والآية التالية لها لفظ [الحق ] إذ بينت آية البحث خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحق ، والمراد من (الحق) في الآية معنى متحد .
وتبين الآية عدم إنقطاع حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصبر حتى بعد الهجرة ، وإحاطة الصحابة به ، وإقرارهم بنبوته ، فمع هذا الإقرار هل يجب الإمتناع عن جدال ومخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يختار بالوحي.
الجواب نعم ، قال تعالى [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) ، ولكن هذا الجدال لا يخرجهم عن مرتبة الإيمان ، وهو من فضل الله عز وجل، والمختار حمله على التطلع لوحي مستحدث يتضمن وجهة أخرى غير القتال ولمعان السيوف لأنهم غير مهيئين للقتال وللتسالم بأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام محض.
الرابع : كان ثلاثمائة وثمانون مهاجراً في ميدان معركة بدر من المهاجرين ، وفي معسكر المشركين آباء وإخوان لهم ، فأرادوا صرف القتال بينهم.
وهل يتضمن تقييد الخروج بأنه بـ[الحق ] الوعد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر في معركة بدر ، الجواب إنه وعد كريم ولكنه لا ينحصر بالنصر ، فقد يشمل عدم وقوع قتال لإرادة فضل الله عز وجل في كتابة الثواب للصحابة بتلقي أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا والإمتثال ، خاصة وأن الآية الأولى من سورة الأنفال تتضمن الأمر للمسلمين بوجوب هذه الطاعة ، وفيها [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
ليكون من دلائل نظم القرآن ، وسياق الآيات المدد للمسلمين لإختيار القول والفعل الأحسن ، والإمتناع عن جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وقد أختتمت الآية الثانية من سورة الأنفال بدعوة المؤمنين إلى التوكل على الله ، وتفويض الأمر له سبحانه ، وهي مقدمة لصرف الصحابة عن جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بخصوص معركة بدر بل مطلقاً .
لقد كان القتل قريباً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لإصرار مشركي قريش على القتال ، وعزمهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات ، وصيرورة أصحابه بين قتيل وأسير يدخل مكة موثقاً بالحبال ، لذا كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة حاجة ، ويمكن القول بقانون إجتماع الحاجة والمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودفع الضرر والأذى الخاص والعام .
ومن إعجاز الآية أنها لم تذكر جهة الخروج إنما ذكرت محل إبتداء الخروج ، وهو بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مما يدل على أن أول الخروج لم يكن التوجه إلى بدر أو إلى القتال على نحو الخصوص ، وفيه شاهد بأن معركة بدر لم تكن غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
دلالة لفظ (بيتك) في القرآن
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة بدر مع أن طائفة من الصحابة كارهون لهذا الخروج لقوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( ).
ونبين هنا مسألة في تأويل الآية أعلاه ، وخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة نحو جهة آبار بدر بالوحي والحق من عند الله ، أنه لو لم يخرج بأصحابه من المدينة فان المشركين يهجمون عليها ويغزونها ، ويقتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من الصحابة ويسبون النساء إن لم يكن في أيام معركة بدر فبعد حين ، ويتحكم كفار قريش باتخاذ القرار فيمن يقتلون من الصحابة ، ومن يدخلونه إلى مكة أسيراً مقيداً بالحبال.
ولم يرد لفظ [أَخْرَجَكَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه من سورة الأنفال ولم يرد لفظ [بَيْتِكَ] إلا مرتين مرة بخصوص البيت الحرام ، إذ ورد في دعاء إبراهيم عليه السلام ومناجاته لله عز وجل ليكون جهاده وسعيه في بناء البيت ودعاءه مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( )، والأخرى في هذه الآية الإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل يدل إختصاص لفظ (بيتك) في القرآن بالبيت الحرام وبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على البشارة بصيرورة المسجد النبوي مزاراً ، المختار نعم.
ومن دلالات لفظ (بيتك) في الآية أعلاه من سورة الأفعال وجوه:
الأول : صيرورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل المدينة.
الثاني : تشريف المدينة (يثرب) برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيته .
الثالث : المواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفقده جوار البيت الحرام وبيته وبيوت آبائه في مكة .
الرابع : البشارة بعودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته سالماً من معركة بدر ، لأن الإنسان إذا مات أو قتل فان ملكه وبيته ينتقل إلى الوارث طوعاً وقهراً.
الخامس : إرادة وقصد ذات الخروج من المدينة وليس الغزو والهجوم ، فمن إعجاز قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ] ( )، موضوعية ذات الخروج ، وإما لم تكن هناك غاية مكانية .
ليكون من وجوه التشبيه بين خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً وبين خروجه إلى بدر أنه لاينوي ولا يريد القتال في أي منهما ، وإذا كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته بالحق والوحي والحفظ من الله فهل العودة إليه كذلك ، الجواب نعم ، ليكون من معاني الكاف في (كما أخرجك) كما أخرج ربك من بيتك بالحق فانه يعيدك إلى بيتك بالحق، وهذا التعدد في معاني الكاف من أسرار مجيئها مطلقة وبصيغة التنكير.
وهل فيه بشارة الشأن الرفيع للمسجد النبوي أيام النبوة وبعدها ، المختار نعم .
ولم يذكر إبراهيم في دعائه في الآية أعلاه الإنفاق وإخراج الزكاة ،وفيه وجوه :
الأول : لقد سأل إبراهيم الغنى لعامة ذريته الذين يسكنون مكة بقوله تعالى [وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ ] ( ).
الثاني : قانون إتيان الزكاة والإنفاق في سبيل الله من الإيمان .
الثالث : ورود آيات أخرى تتضمن معنى الزكاة في أدعية إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
فمن تعليم الكتاب إقامة الصلاة وإخراج الزكاة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ) ومنه تزكية للنفوس ، ولا تنحصر أحكام الشريعة الإسلامية وما فيها من الواجبات والمحرمات بدعاء إبراهيم عليه السلام أو بالأفراد التي ذكرت منه في القرآن .
فمن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين نزول القرآن عليه ، ومجيؤه بالشريعة المتكاملة ، قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
إعجاز (كما أخرجك ربك)
من إعجاز قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( ) مسائل :
الأولى : ابتداء الآية بحرف التشبيه الكاف في ذكر المشبه به وهو خروج وتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر ، فلابد من وجود مشبه أو أن الخروج هو المشبه ليدل على وجود مشبه به ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : كما أخرجك الله من بيتك في مكة بالهجرة إلى المدينة متوجهاً إلى بدر .
الثاني : كما أخرجك الله من بيتك من مكة بالوحي فان الله أخرجك إلى معركة بدر بالوحي ، والصحابة كارهون لهذا الخروج لما فيه من إلتقاء الصفين والقتال .
الثالث : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً من بيته من مكة ، ويكون معنى الآية التذكير بفضل الله ونعمة الهجرة ،وتقدير الآية : كما أخرجك ربك من بيتك في مكة ونجوت من القوم الظالمين فانك تخرج اليوم إلى بدر لبيان نجاة النبي في الأحوال التالية:
الأولى : ما قبل ليلة المبيت ، ومجئ جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره بالهجرة في تلك الليلة إذ كان رجال قريش يتناجون بقتل النبي أو سجنه خاصة بعد وفاة أبي طالب في السنة السابعة للبعثة النبوية .
الثانية : ليلة الهجرة ومبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينما كان المشركون على بابه ينتظرون ساعة السحر للإجهاز على النبي وتقطيعه بعشرة سيوف مهندة من فتية قريش في آن واحد ، كي يعجز بنو هاشم عن الأخذ بثأره ، فيقبلون الدية ، ولكن الله عز وجل نجاه من هذا الكيد والخطط الخبيثة ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
وكانت بيوت أهل مكة صغيرة بحيث يسمع الذي في الداخل ما يجري في الخارج ، كذا العكس ، حتى إذا اقتحموا البيت وهجموا على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يظنون أنه لا يزال نائماً نهض الإمام علي في وجوههم ، فبهتوا وسقط ما في أيديهم ، ويكون تقدير الآية : كما نجاك الله عز وجل ليلة المبيت ينجيك في خروجك إلى بدر .
الثالثة : حالما علمت قريش بفقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه تحرت الأمر ، فاستعانوا بالقّافة الذين يتبعون الأثر وجعلوا جعلاً مائة ناقة لمن جاء به حياً أو ميتاً ، مما جعل جماعة كثيرة تخرج من مكة وإلى جهات متعددة ، فكانت معجزة غار جبل ثور ، إذ خرج المشركون في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كمن وصاحبه في غار جبل ثور ، فجاء المشركون وأشرفوا على الغار ، فأعمى الله عز وجل أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجعوا ، ونزل قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
الرابعة : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، الذي أتبع أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في طريق الهجرة إلى المدينة.
قال ابن الأثير (وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ديةً ، فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم وهم في أرض صلبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب ، فقال ( لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا) ( ) ودعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان.
فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلص، فعاد في تبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى .
فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي، فادع لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب.
فدعا له فخلص وقرب من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له: يا رسول الله خذ سهماً من كنانتي وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك.
فلما أراد أن يعود عنه قال له رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى .
قال: كسرى بن هرمز .
قال: نعم. فعاد سراقة فكان لا يلقاه أحد يريد الطلب إلا قال: كفيتم ما ها هنا، ولا يلقى أحداً إلا رده)( ).
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بدخول مشركي قريش الإسلام ، وفتح بلاد فارس .
وكان سراقة شاعراً فوثق المعجزة التي رآها بالشعر ، والذي تضمن ذم الكفار ، إذ قال سراقة مخاطباً أبا جهل :
(أبا حكم والله لو كنت شاهداً … لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً … رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني … أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم … بأن جميع الناس طراً يسالمه) ( ).
(أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لسراقة بن مالك: ” كيف بك إذا لبست سواري كسرى.
قال : فلما أتي عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة فألبسه وكان رجلاً أزب كثير شعر الساعدين فقال له: أرفع يديك وقل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة الأعرابي)( ).
ولم تقل الآية : كما أخرجك الله إنما قالت (ربك) للبشارة بسبل النجاة والأمن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الخروج ، لذا جاءت الآية بعد التالية بالوعد الكريم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ).
معاني باء (بالحق)
كل أمر أو نهي من عند الله هو حق ، ولكن لماذا قيدت الآية الخروج بأنه بـ(الحق) الجواب من وجوه :
الأول : هذا الخروج جزء من الرسالة ، كما في قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) ليكون من معاني الآية : يا أيها المهاجرون والأنصار اتبعوا هذا الخروج لأنه جزء من الرسالة وتبليغها .
الثاني : من أظهر معاني حرف الباء (الإلصاق ) ، وهو معنى لا يفارقها سواء على نحو الحقيقة ، كما في قوله تعالى [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ..] ( ) أو على نحو المجاز كما في آية البحث ، ومع كثرة معاني الباء ، اقتصر سيبويه على إفادته الإلصاق .
والباء في قوله تعالى [بِالْحَقِّ] تفيد الإلصاق ، وأن الحق والوحي مصاحب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند التهيئ للخروج إلى بدر ، وفي الطريق والمسير وفي ميدان المعركة ، وإلى حين العودة إلى المدينة.
ليكون من معاني قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ] ( ) عدم طلب النبي لقافلة أبي سفيان ، فلو كان يطلبها فلابد أن يعترضها في المكان والزمان المناسب لأن الحق والوحي معه ، لتكون هذه الآية من مصاديق الإحتجاج بالقرآن بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد قافلة أبي سفيان .
الثالث : تفيد الباء في قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ]( )، الإستعانة ، إذ تدخل الباء على المستعان به، كما في آية البحث ، لبيان أن المراد في الآية المدد والعون من عند الله ، وأن هذا الخروج بأمر من عند الله مما يدل على أنه خير محض ، وفيه النفع العام الذي تجلى بالنصر في معركة بدر ، ولم يذكر هذا النصر إلا بعد أن تحقق بدلالة مجئ آية ببدر بصيغة الماضي [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
الثالث : من معاني الحق في الآية الوحي ، وتقدير قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ] ( ) أي كما أخرجك ربك من بيتك بالوحي .
وهل يختص الوحي بما ينزل به جبرئيل ، الجواب إنه أعم.
الرابع : السببية لبيان سبب الفعل ، كما في قوله تعالى [وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ] ( ) ولوجوب خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو بدر لوجود المقتضي وفقد المانع .
ومن معاني السببية أن خروج النبي لإحقاق الحق ، وإزاحة الباطل ، وعبادة الأوثان ، وتحتمل السببية في الآية وجوهاً :
الأول : الحق سبب لذات الخروج نحو بدر .
الثاني : الخروج إلى بدر سبب للحق وإحقاقه .
الثالث : الجامع المشترك للوجهين أعلاه ، وهو المختار ، وهو من الإعجاز في قانون إجتماع الضدين بمعنى الحرف أو الكلمة الواحدة في القرآن .
ولقد كان رؤساء قريش ونحوهم يدعون الناس إلى عبادة الأوثان بما يقرب من الإملاء والأمر ، إذ كانت ثلاثمائة وستون صنماً منصوبة في البيت الحرام.
ولو قام شخص بتكسيرها خاصة لقتلوه ، خاصة مع التجرأ على سفك الدماء آنذاك ، وأن كثيراً من هذه الأصنام تعود إلى قبائل كبيرة ، وربما احتسبوا كسر صنمهم تعدياً عليهم ، فابتدأت الدعوة النبوية بالحكمة والموعظة والبشارة لمن أمن وأهتدى ، والإنذار لمن يقيم عبادة الأوثان .
من معاني التشبيه في آية (كما أخرجك ربك)
ومجئ الآية بلحاظ كونها مشبهاً به على وجوه :
الأول : كما أخرجك ربك من بيتك إلى معركة بدر فان الله عز وجل سيخرجك إلى معركة أحد لذا ورد بخصوص معركة أحد [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) لبيان فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن الصحابة كارهين للخروج إلى معركة أحد مع أنها تختلف عن معركة بدر التي كان القتال فيها أمراً محتملاً وليس قطعي الوقوع لقوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]( ).
وكما ورد لفظ [أَخْرَجَكَ] مرة واحدة في القرآن ، فان لفظ [غَدَوْتَ] ورد مرة واحدة أيضاً ، لتبين آية البحث إعجازاً في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خروج الصحابة كارهين إلى معركة محتملة وهي معركة بدر .
ثم خروجهم بعدها بسنة إلى معركة أحد بشوق مع أن جيش المشركين ثلاثة أضعاف جيشهم في معركة بدر ، وقد صاروا على مشارف المدينة ، لا يبغون إلا القتال والفساد ليكون من معاني إحتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل عن جعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إذ [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) هجوم المشركين على المدينة لقتل خاتم النبيين وأصحابه ، أي أن الملائكة فزعوا ولجأوا إلى الله عز وجل لصرف شر كفار قريش ، فأجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ، ليكون من علمه تعالى نزول الملائكة أنفسهم لدفع القتل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع الهزيمة عن أصحابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) .
ومن إعجاز القرآن إنه لم يرد لفظ [آلاَفٍ] ولفظ [ثَلاَثَةِ آلاَفٍ] ( ) و[خَمْسَةِ آلاَفٍ] ( ) في القرآن إلا في آيتين متجاورتين بخصوص نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هما :
الأولى : قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ويحتمل احتجاج الملائكة جهات :
الأولى : إرادة وسؤال الصلاح لأهل الأرض مقدمة على جلب المصلحة.
الثانية : دفع المفسدة عن أهل الأرض ، إذ أنه مقدمة على جلب المصلحة .
الثالثة : إرادة وسؤال الوجهين أعلاه ، وهو الصحيح لأنهم تضرعوا إلى الله بأن يكون أهل الأرض مثلهم من حيث الإنقطاع إلى عبادة الله عز وجل لقانون يسأل الملائكة الله عز وجل بما هو أعم وأحسن .
وفي حديث لابن شهاب وغيره عند نزول جيوش المشركين منزلها في جبل أحد (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر وحضوره : يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنَّا جبُنَّا عنهم وضعفنا .
فقال عبد الله بن أبي : يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم .
فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر ، وإن دخلوا قاتلهم النساء والصبيان والرجال بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا خائبين كما جاؤوا .
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلبس لامته وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم .
وقد ندم الناس وقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل) ( ).
الثاني : إرادة التشبيه العام بالسابق واللاحق لتجمع الآية بين خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بيته من مكة مهاجراً إلى المدينة وبين خروجه إلى بدر ، ومن ثم خروجه إلى معركة أحد والخندق ، والبشارة بخروجه إلى مكة فاتحاً .
الثالث : إرادة المشبه المحذوف في الآية هو كراهة الصحابة لكيفية تقسيم الغنائم .
وكان الإمام علي عليه السلام يوم بدر يحمل لواء أسود واسمه العقاب.
و(روي أن سعد بن عبادة ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسهمه وأجره، وقال حين فرغ من القتال ببدر: لئن لم يكن شهدها سعد بن عبادة، لقد كان فيها راغباً. وذلك أن سعد بن عبادة لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في الجهاد، كان يأتي دور الأنصار يحضهم على الخروج، فنهش في بعض تلك الأماكن فمنعه ذلك من الخروج، فضرب له بسهمه وأجره.
وضرب لسعد بن مالك الساعدي بسهمه وأجره، وكان تجهز إلى بدر فمرض بالمدينة فمات خلافه وأوصى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. وضرب لرجلٍ من الأنصار، وضرب لرجلٍ آخر، وهؤلاء الأربعة ليس بمجتمعٍ عليهم كاجتماعهم على الثمانية.
حدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضرب لقتلى بدر، أربعة عشر رجلاً قتلوا ببدر.
قال زيد بن طلحة: حدثني عبد الله بن سعد بن خيثمة قال: أخذنا سهم أبي الذي ضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حين قسم الغنائم، وحمله إلينا عويم بن ساعدة.
حدثني ابن أبي سبرة عن المسور بن رفاعة، عن عبد الله بن مكنف، قال: سمعت السائب بن أبي لبابة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسهم لمبشر بن عبد المنذر، وقدم بسهمه علينا معن بن عدي.
وكانت الإبل التي أصابوا يومئذٍ مائة بعير وخمسين بعيراً، أي من مجموع إبل قريش في ميدان معركة بدر وهي نحو سبعمائة ، ويدل الجمع بينها وبين عدد الخيل التي جلبوها للمعركة على أن المشركين جاء ركباناً ، بينما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتعقبون على الإبل كل ثلاثة أو أكثر أو أقل على بعير واحد ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام ومرقد بن أبي مرقد يتعاقبون على ركب بعير واحد من المدينة الى موضع معركة بدر نحو (150) كم.
وكان معهم أدمٌ كثير حملوه للتجارة، فغنمه المسلمون يومئذٍ. وكانت يومئذٍ فيما أصابوا قطيفة حمراء، فقال بعضهم: ما لنا لا نرى القطيفة؟ ما نرى رسول الله إلا أخذها. فأنزل الله عز وجل [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( ) إلى آخر الآية.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله، إن فلاناً غل قطيفة. فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الرجل، فقال: لم أفعل يا رسول الله! فقال الدال: يا رسول الله، احفروا ها هنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فحفروا هناك فاستخرجت القطيفة. فقال قائل: يا رسول الله، استغفر لفلان! مرتين أو مراراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دعونا من آتي جرم ، وكانت الخيل فرسين، فرسٌ للمقداد يقال لها سبحة، وفرسٌ للزبير ، ويقال لمرثد.
فكان المقداد يقول: ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يومئذٍ بسهمٍ ولفرسي بسهم. وقائل يقول: ضرب رسول الله يومئذٍ للفرس بسهمين ولصاحبه بسهم)( ).
ليكون من معجزات النبي محمد أنه خرج هو وأصحابه إلى معركة بدر بسبعين بعيراً وعددهم (313) بينما عاد من المعركة بمائة وخمسين بعير غنائم من المشركين المعتدين وهو من من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ولعله أيضاً لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون بدل الأسير لمن قام بتأسيره خاصة وأن بعض الصحابة كانوا في حراسة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو قاتلوا ولحقوا بالمشركين عند فرارهم يوم بدر لأصابوا بعض الأسرى ، ولأن مبلغ البدل كبير وهو أربعة آلاف درهم فضة ، ويعادل آنذاك أربعمائة دينار ذهب ، وكل دينار مثقال عيار ثماني عشرة حبة نحو مائة ألف دولار وفق عملة مشهورة في هذا الزمان.
لقد قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يوم بدر (ومن جاء بأسير فله كذا . فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين ، فقال : يا رسول الله إنك قد وعدتنا) ( ).
فأراد أبو اليسر جعلاً وهبه من أنفال وغنائم معركة بدر عن كل من الأسيرين .
ومنه خروج (مطلب بن وداعة بفداء أبيه، فأخذه بأربعة آلاف درهم.
ثم خرج مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، فلما انتهى إلى رضاهم في الفداء، قالوا: هات، قال: ضعوا رجلي مكانه وخلوا سبيله يبَعث إليكم بالفداء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: أفد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو، فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك إن يكن ما ذكرت حقاً فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، وكان معه عشرون أوقية حين أخذ، فقال: احسبها لي في فدائي، قال: لا، ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك، قال: فليس لي مال، قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل، ليس معكما أحد.
ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا، قال: والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإني أعلم أنك رسول الله حقاً، ففدى نفسه وابني أخيه وحليفه) ( ) .
كما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطلاق عدد من الأسرى من غير عوض ، فمثلاً (كان في الأسارى أبو العاص بن الربيع، زوج زينب، وكانت زينب قد آمنت برسول الله، فأقام أبو العاص على شركه معها، فخرج يوم بدر فأسر، فبعثت زينب في فدائه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رقّ لها رقة شديدة .
وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه، وردوا عليها ذلك) ( ).
وكما في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان بدل الأسير تعليم عشرة من صبيان الأنصار القراءة والكتابة .
الرابع : الكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف وتقديره على وجوه منها :
أولاً : حال كراهتهم لتوزيع الأنفال .
ثانياً : حال كراهتهم خروجك نحو بدر مع أن هذا الخروج بالحق وهو أمر ووحي من عند الله .
ثالثاً : كراهتهم عند التقاء الجمعين.
قوله تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ] ( )
من الآيات التي نزلت بخصوص معركة بدر الآية أعلاه ، وقد ورد [يُجَادِلُونَكَ] في القرآن مرتين ، إذ ورد في قوله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( ) .
مع التباين في موضوع الجدال وجهة صدوره ،فتتعلق الآية أعلاه من سورة الأنعام في أسباب نزولها بكفار قريش ، وهو ظاهر إذ يفترون على القرآن ، ويقولون إنه أساطير الأولين .
ويحدث هذا الإفتراء وجهاً لوجه مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق إيذائهم له ، ولبيان الحلم والصبر الذي يتصف به.
ترى لماذا لم يكتف المشركون بالجدال ونعت القرآن بأنه أساطير الأولين وحكايات لا أصل لها ، الجواب من جهات :
الأولى : توالي دخول أفراد وجماعات من الناس في الإسلام .
الثانية : دخول الإسلام إلى بيوت رؤساء قريش ، فمثلاً اسلم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وهاجر هو وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو .
وقتل عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة يوم بدر كفاراً وأسر المسلمون يومئذ سهيل بن عمرو ، وكان أبو حذيفة إلى جوار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معجزاته الدفاعية .
وكان أبو حذيفة ومعه زوجته قد هاجر إلى الحبشة (وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية والمشاهد كلها وقتل يوم اليمامة شهيداً وهو ابن ثلاث أو أربع وخمسين سنة.
يقال: اسمه هشيم وقيل مهشم وقيل هاشم وكان رجلاً طوالاً حسن الوجه أحول أثعل والأثعل الذي له سن زائدة تدخلها من صلبها الأخرى وفيه تقول أخته هند بنت عتبة حين دعا أباه إلى البراز يوم بدر:
فما شكرت أبا رباك من صغر … حتى شببت شباباً غير محجون
الأحول الأثعل المشؤوم طائره … أبو حذيفة شر الناس في الدين
بل كان من خير الناس في الدين وكانت هي إذ قالت هذا الشعر من شر الناس في الدين)( ).
الثالثة : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستمراره في دعوته إلى الله ، ونبذ الشرك وعبادة الأوثان رغم تهديد قريش بقتله أو سجنه أو إخراجه من مكة .
الرابعة : توالي نزول آيات القرآن والتي تتضمن البشارة لأهل الإيمان ، والوعيد للذين كفروا ، والذم لمن يموت على الشرك وحب وتقديس الأوثان.
الخامسة : هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة في إحتجاج سلمي على قريش ، وتأكيد للتمسك بالإيمان وعقيدة التوحيد .
ولم تكن هذه الهجرة على نحو دفعي واحدة ، ولم يكن عدد المهاجرين قليلاً إذ كان عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً ، وأربع من النسوة ، وأغلبهم من بيوتات قريش .
وهل كانت هذه الهجرة سبباً لأذى اضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته وأصحابه الذين بقوا في مكة ، الجواب نعم ، فبدل أن يتفكر رجال قريش بمعجزة هجرة ابنائهم إلى البلاد البعيدة بديانة التوحيد ، والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشتد أذاهم له ولأصحابه ، وفرضوا أشد أنواع الحصار على أهل البيت ، إذ كان حصاراً إقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً ، ومحاولة لإزدراء وإهانة بني هاشم ، ولكنهم نالوا السمو والشرف ، وصار هذا الحصار سبباً لخزي قريش ، واستهجان العرب لفعلهم هذا ، لبيان قانون وهو الإستضعاف بسبب الإيمان سبب لجلب العز والنفع.
وهل كان هذا الحصار من إرهاب شبه الدولة ، إذ كان الحل والعقد بيد قريش ، وهل كان من المقاصد في الحصار قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
فهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ونبوته وتوالى نزول آيات القرآن إلى المدينة .
لقد كان المشركون يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة كما في آية البحث [حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ).
ومن معاني الأسطورة الخرافة والقصص من نسج الخيال ، وأضافوها إلى الأولين ، لبيان أنها متوارثة في افتراء على قصص الأنبياء التي وردت في القرآن ، لذا نزل القرآن بالدفاع عنها ، كما في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
لقد نسب الله عز وجل هذه القصص إلى نفسه وأنه هو الذي أنزلها ، ويقصها وهو من إعجاز القرآن ، فلم تقل الآية : نحن ننزل عليك أحسن القصص ) بل أن الله عز وجل لم يستح أن يكون هو الذي يقص هذه القصص بنفسه .
وفيه دعوة للناس جميعاً وأجيالهم المتعاقبة للإتعاظ واقتباس الدروس منها ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
وهل تبين هذه القصص النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ، والذي صدرت بخصوصه أجزاء من هذا السِفر المبارك وهي :
- الجزء الثاني والعشرون بعد المائتين .
- الجزء الثالث والعشرون بعد المائتين .
- الجزء الرابع والعشرون بعد المائتين .
- الجزء السابع والعشرون بعد المائتين .
ومن إعجاز الآية قيام الحجة على الذين يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنها ذكرت بيان وتجلي الحق لهم ، بما يلزمهم بالإنصياع والطاعة لله ولرسوله لقوله تعالى [بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ] إذ اتضح صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحاجة إلى الخروج من المدينة والدفاع عن كل من :
الأول : الدفاع عن النفوس ، وأهل المدينة قاطبة رجالاً ونساءً ، مسلمين ويهوداً ، وأموالهم ، وهل يشمل هذا الدفاع الكفار من أهلها الذين لم يسلموا بعد أم أن المشركين لو غزوا المدينة يفرقون بينهم وبين المسلمين ، ويتركون أموالهم ويمتنعون عن نهبها .
الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فحالما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً ساد الأمن وشآبيب السلام ، فبعد أن كان الأوس والخزرج يتقاتلون بينهم ، وتنشأ بينهم المعارك صاروا إخوة تحت لواء النبوة ، يقفون في صف واحد في الصلاة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمس مرات في اليوم ، فلا يستطيع الشيطان أن ينفذ لإيقاع الفتنة بينهم ، لبيان قانون وهو صلاة الجماعة واقية من فتنة الشيطان .
لقد ورد لفظ [يُجَادِلُونَكَ] في القرآن خمس مرات ، كلها في ذم الذين كفروا ، الذين يجادلون في الله وآياته ، ويمتنعون عن الإستجابة لدعوة النبوة والتنزيل ، ومنه قوله تعالى [الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ] ( ).
أما لفظ [يُجَادِلُونَكَ] فلم يأت في القرآن إلا مرتين ، ويتوجه الخطاب فيهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : احداهما آية البحث أما الثانية فهي [وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ).
والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : توجه الخطاب من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع ، ولم يرد لفظ [يُجَادِلُونَكَ] بصيغة الماضي في القرآن (جادلوك)، ومن معاني صيغة المضارع في الآية تجدد وإستدامة مجادلتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : لم تنسب هذه الآيات الجدال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو مجادَل بالفتح وليس مجادِلاً ، لبيان صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يلاقيه من الأذى من الكفار .
وليس في القرآن لفظ (تجادل) إلا في آية واحدة بصيغة النهي ، قال تعالى [وَلاَ تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا] ( ).
وليس عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الإمتثال التام للأوامر والنواهي الإلهية .
الرابع : كل جدال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو جدال في الحق ، إذ أنه لم يأت إلا بالحق .
أما مادة الإفتراق فهي من وجوه :
الأول :التباين بين الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث وهم مؤمنون ، وبين الذين جادلوه في الآية أعلاه من سورة الأنعام وهم مشركون .
الثاني : مجئ لفظ [يُجَادِلُونَكَ] في أول آية البحث ، أما الآية من سورة الأنعام فجاء لفظ [يُجَادِلُونَكَ] في وسطها .
الثالث : نزلت آية البحث في معركة بدر ومقدمات القتال ، أما آية [يُجَادِلُونَكَ] الأخرى فنزلت في الذين كفروا .
الرابع : جدال المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تساؤل .
أما جدال الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو الخصومة وإثارة الشبهات والقدح في التنزيل ، وسعيهم في مقدمات الفتنة و(كان النضر بن الحارث يعارض القرآن بإخبار اسفنديار ورستم) ( ).
وقال الحسن البصري أنهم كانوا يجادلونه بما ذكره الله تعالى قوله عنهم .
وقال عبد الله بن عباس (هو قولهم : تأكلون ما قتلتم ولا تاكلون ما قتل ربكم) ( ).
لقد كان جدال المشركين بالباطل ، وفي التصدي للحق وإثارة الشبهات في التنزيل ، ولكن جدال الصحابة من منازل الهدى والإيمان ، فيكون الجدال في التفاصيل والكيفية والحال ، لتدل الآية على وجوب إرتقاء الصحابة إلى منازل الإمتثال للأوامر الإلهية التي تأتي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني الحق في قوله تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ..] ( ) وجوه :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى بدر .
الثاني : إرادة الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج إلى بدر ، ثم اعتذروا عند عودته ، فهم الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون تقدير الآية (يجادلك الذين تخلفوا عن الخروج إلى معركة بدر في الحق)
الثالث : القتال ، عن مجاهد( ).
الرابع : إرادة المعنى الأعم ، وتكرار هذا الجدال في الكتائب والسرايا وغيرها ، وهذا الوجه بعيد لذكر الآية لبيان وتجلي الحق بقوله تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ].
الخامس : تعدد وتكرار الجدال وعدم إنحصاره في موضوع واحد ، وهو من أسرار ورودها بصيغة الفعل المضارع (يجادلونك).
والمختار أن الجدال بخصوص القتال في معركة بدر وكان سببه على وجوه :
الأول : عدم استعداد الصحابة للقتال ، وقلة عددهم والنقص في اسلحتهم ، وليس معهم إلا فرسان ، بينما جاء المشركون بمائة فرس مع سبعمائة من الإبل.
الثاني : قوة شوكة المشركين ، ومجيؤهم للإنتقام والبطش .
الثالث : التباين في العدد .
ومع أن كلمة [يُسَاقُونَ] تتضمن الإنذار والوعيد ، ومع كثرة آيات الإنذار فلم يرد لفظ [يُسَاقُونَ] في القرآن إلا في آية البحث ، وعلى نحو التشبيه وعدم حدوث السوق إلى الموت واقعاً ، ولم يخسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر إلا أربعة عشر شهيداً من أصحابه ، نزلت البشارة من السماء بأنهم أحياء عند الله عز وجل ، قال سبحانه [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل كأنما يساقون إلى القتل ، أو إلى الشهادة ، لبيان مسألة وهي قد يكون القتل بالإختيار والرضا دفاعاً عن النبوة والتنزيل ، ولا يعني هذا ضعفاً في الإيمان ، ولكنه عدم الإستعداد للمعركة ورجحان كفة المشركين ، ورغبة الصحابة في الإستحواذ على القافلة ، كما في قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ).
فهذا الود كيفية نفسانية ، وكذا بالنسبة للتشبيه بالسوق إلى الموت.
وتحتمل جهة صدور الجدال في الآية وجوهاً :
الأول : كل الصحابة .
الثاني : خصوص الأنصار لأنهم اشترطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذبوا ويدافعوا عنه عندما يصل إلى المدينة .
الثالث : المهاجرون ، لأن القتال سيكون مع آبائهم ، وإخوانهم ، وأفراد عشيرتهم .
الرابع : فريق وجماعة من الصحابة .
الخامس : طائفة من المنافقين ، وتنفي الآية السابقة هذه الوجه لأنها تصف الذي كرهوا الخروج بأنهم مؤمنون .
وهناك تباين بين الحق الذي يجادلون فيه وبين حال التشبيه وهي كأنهم يساقون إلى الموت ، فالحق غير موضوع هذا التشبيه ، وإن كان الجدال فيه ، وهل تدل الآية على أن حال الخوف والفزع تبعث الإنسان إلى الجدال والإحتجاج على ما هو حق وصدق خشية أسباب الخوف ، الجواب نعم .
ومن إعجاز القرآن نفيه لضعف الإيمان عنهم إذ وصفهم في ذات الآية بالمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( ).
وابتدأت الآية بالفعل يجادلونك ، ويحتمل تعلق واو الجماعة بوجوه :
الأول : إرادة المؤمنين الذين وصفتهم الآية السابقة بأنهم كارهون.
الثاني : الصحابة الذين تأخروا في المدينة ، ولم يخرجوا إلى معركة بدر .
الثالث : المراد الكفار في دعوتهم إلى الإسلام ، عن ابن زيد وهو خلاف نظم هذه الآيات ، وقد وردت آيات كثيرة في ذم وتبكيت الكفار ، وجحودهم بالرسالة ، نعم ورد لفظ [كَارِهُونَ] بخصوص الكفار ، ولكن كراهيتهم للحق والتنزيل مطلقاً ، قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ] ( ) .
وسورة المؤمنون من السور المكية أي السور التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل هجرته إلى المدينة المنورة .
ويحتمل المراد من الضمير (هم) في (أكثرهم) وجوهاً :
الأول : أكثر الناس .
الثاني : أكثر الكفار .
الثالث : أكثر أهل مكة .
والمختار هو الوجه الثاني أعلاه ، والتقييد بالأكثر ، وليس العموم للبشارة بأن فريقاً منهم يدخلون الإسلام ، وحتى هذا الأكثر هل يبقى على كراهته للحق ، الجواب لا ، لأن كلاً من ذات نسبة الأكثر والكراهة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
نعم نزلت الآية بقانون وهو (أكثر الكفار كارهون للحق) وهذا صحيح ، ولكن عدد وجماعة الكفار في نقصان متصل ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فاذا أصاب النقص الكل نقص الشطر والجزء وهو من الإعجاز في هداية النبوة والتنزيل الناس إلى الهدى والإيمان.
ومن الشواهد عليه زحف عشرة آلاف مشرك في الهجوم على المدينة في معركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، ويكون بالضد منه دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة فاتحاً في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، ومعه عشرة آلاف من الصحابة ، وليس من مقاومة تذكر .
ترى ما هي النسبة بين الذين للحق كارهون وبين عدد المشركين في معركة الخندق والمعارك الأخرى ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالكارهون للحق أكثر من الذين يخرجون لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
والحق الأمر المطابق للواقع والحقيقة ، ولكنه في الإصطلاح أعم فيشمل الوحي ، والتنزيل ، والأوامر والنواهي من عند الله ، والسنة النبوية القولية والفعلية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الحق الذي تذكره الآية أعلاه ، والحق الذي ورد في آية البحث ، الجواب هو العموم والخصوص من وجه ، أما مادة الإلتقاء فهي من جهات :
الأولى : كل من الآيتين قرآن .
الثانية : ذكر الحق .
الثالثة : كراهية طائفة من الكفار للحق ، والذي يدل في مفهومه على حب وإنقياد المؤمنين للحق .
الربعة : في تلاوة كل من آية البحث والآية أعلاه أجر وثواب .
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : آية البحث مدنية أما آية البحث فهي مكية .
الثانية : التباين في موضوع الحق ، فالكفار يكرهون التنزيل ، أما الصحابة فهم يحبون التنزيل ، ويتقيدون بأحكامه ،ولكن موضوع الكراهية أمر عرضي زائل.
الثالثة : وردت الآية أعلاه في ذم وتوبيخ الذين كفروا ، أما آية البحث فأنها تأديب وتعليم .
الرابعة : ثناء آية البحث على الصحابة بنعتهم بالمؤمنين .
الخامسة : صيغة الإطلاق في كراهية الذين كفروا للحق ، بينما وردت كراهية فريق من الصحابة للحق في قضية في واقعة بخصوص الخروج إلى معركة بدر .
معجزة الجدال في بدر مقدمة للإستجابة في أحد
لقد تضمن قوله تعالى[كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : إبتداء الآية بحرف التشبيه الكاف ، ولابد من صلة بينه وبين الآية السابقة والمختار تعلق التشبيه بالآية السابقة في بيان صفات المؤمنين والثناء عليهم، ويكون تقدير الجمع بين الآيات بلحاظ التشبيه على وجوه منها:
الأول : المؤمنون لهم درجات عند الله، ودرجة الذين لم يجادلوا بالحق أعلى وأسمى من درجة الذين يجادلونك .
الثاني : كما كرهوا خروجك من بيتك بالحق فأنهم يجادلونك في الحق.
الثالث : كما كرهوا خروجك إلى بدر وهو حق فأنهم يجادلونك فيه.
الرابع : كما أن خروجك من بيتك حق كذلك وقوفكم أمام جمع المشركين.
الخامس : كأنهم يساقون إلى الموت في الخروج إلى معركة بدر كذلك في كراهيتهم لهذا الخروج.
السادس : الخروج إلى بدر مقدمة للنصر على المشركين ، وهذا النصر حق ، ومع هذا يجادلك الذين كفروا .
الثانية : كراهية الخروج عند فريق من المؤمنين ليست عن جحود وإنما هي بسبب الطبع، وعدم الإستعداد للقاء المشركين.
الثالثة : بيان قانون وهو عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حين خروجه من بيته في المدينة متوجهاً إلى معركة بدر فليس في هذا الخروج حب للدنيا.
الرابعة : تقدير الآية كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأخرج أصحابك من بيوتهم بالحق، أما كفار قريش فأنهم لم يخرجوا إلا عدواناً وظلماً، وهذا من وجوه التباين بين المؤمنين والكفار حتى في مقدمات المعركة.
وهل هو من مصاديق الفرقان في قوله تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، الجواب نعم.
الخامسة : هذه الآية مقدمة للخروج إلى معركة أحد، فإذا كانت معركة بدر نصراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فقد تعرض وأصحابه إلى خسارة جسيمة في معركة أحد بسقوط سبعين شهيداً مع كثرة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، فأراد الله عز وجل تهيئة أذهان الصحابة وعامة المسلمين في أجيالهم المتعاقبة إلى هذه الخسارة إذ ذكر الله عز وجل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته إلى معركة أحد كما في قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ( )، ليكون تقدير الآية أعلاه بلحاظ جمعها مع آية البحث على وجوه :
الأول : وإذ غدوت من أهلك بالحق.
الثاني : وإذ غدوت من بيتك بالحق .
الثالث : وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال بالحق.
وهل يمكن تقدير الآية: وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد بالحق) الجواب نعم .
وهل يمكن تقدير آية الخروج إلى معركة أحد (وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون) الجواب لا ، لوجوه :
الأول : التباين بين الخروج إلى معركة بدر والصحابة لا يعلمون بوقوع قتال وخروجهم إلى معركة أحد.
الثاني : موضوعية ومنافع النصر في معركة بدر .
الثالث : إنتفاء حال الذلة التي كان عليها الصحابة في معركة بدر.
الرابع : شوق الصحابة الذين لم يحضروا معركة بدر للقاء العدو ، وهذا الشوق ليس عن رغبة في القتال ، إنما هو دفاع محض إذ صار المشركون على مشارف المدينة ، ويرسلون إشارات غزوها ويقومون برمي من يرون خارجاً من المدينة بالسهام ، وقد جاء بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاكياً.
وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تكون معركة بدر مقدمة معركة أحد بما يمنع الخصومة والخلاف، ويتجلى هذا المنع بالآية أعلاه[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ، فليس من كراهة أو تردد في الخروج إلى معركة أحد .
ومع كثرة قريش وحلفائهم من المشركين في معركة أحد ، إذ كان عددهم ثلاث آلاف قد استعدوا للمعركة لأكثر من سنة ، فأنهم حينما أشرفوا على المدينة إذ نزلوا بسفح جبل أحد وسرّحوا خيلهم وإبلهم في زروعها .
قالت طائفة من المؤمنين خاصة ممن لم يشهد واقعة بدر (قد ساق لله علينا امنيتنا)( ) .
المقصود خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ، ويحتمل المراد من [غَدَوْتَ] من حيث الوقت والحال وجوه :
الأول : إرادة خصوص خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بيته إلى أصحابه في المسجد وحواليه .
الثاني : مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالخروج قبل الصلاة .
الثالث : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة بعد صلاة الجمعة في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة.
معجزة رؤيا النبي خارطة طريق
ومن الإعجاز في رؤيا الأنبياء حضورها بالملمات وبيانها لمناهج عمل في الأمد القصير ، وما يسمى بخارطة الطريق ، وعن الإمام الباقر عليه السلام في الفرق بين الرسول والنبي والمحدث قال (الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا ” فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبي فإنه يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم، ونحو ما كان رأى رسول الله من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة، وكان محمد صلى الله عليه وآله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها
قبلا “، ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه، يأتيه الروح فيكلمه ويحدثه من غير أن يكون رآه في اليقظة، وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه) ( ).
وبين رؤيا الأنبياء وعامة الناس عموم وخصوص مطلق ، إذ يلتقي النبي مع الناس في الرؤيا الصالحة ورؤيا البشارة والإنذار ، والرؤيا المكروهة ، وأضغاث الأحلام ، ولكنه ينفرد عنهم برؤيا الوحي ، ويدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رؤياه هذه وحي ، فيتقيد بالإمتثال لها ، ومنها رؤيا إبراهيم [يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى] ( ).
وكان قدوم جيوش المشركين أمراً مخيفاً ، وخطراً يهدد النبوة والتنزيل ، وأصل الإسلام واستدامته ، إذ كان التنزيل يتقوم بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والإغتيال ، لذا يمكن القول بأن كل يوم كان يمر ، فيه مسائل :
الأولى : توالي نزول آيات القرآن ، ويمكن القول بأن نزول القرآن بالتدريج وعلى نحو النجوم كان بشارة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والإغتيال إلى أن يتم نزول آيات القرآن لذا لما نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( )قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعيت لي نفسي ، وسميت هذه السورة سورة التوديع.
الثانية : بيان أحكام الحلال والحرام .
الثالثة :تثبيت سنن الشريعة .
الرابعة : تجلي معالم متجددة من السنة النبوية القولية والفعلية في كل يوم يمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو بين ظهراني المسلمين .
الخامسة : دخول أفراد وجماعات الإسلام كل يوم وكل أسبوع ، وكل شهر ، فقد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار ، بينما خرج معه إلى صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ألف وأربعمائة ، وإلى فتح مكة من السنة الثامنة للهجرة عشرة آلاف .
السادسة : كل يوم يمر على المسلمين مناسبة لإرتقائهم في سلم الإيمان .
السابعة : تجلي البركة الظاهرة بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
إذ يصرف الله عز وجل العذاب عن المشركين ما دام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم مع أنهم يستحقون العذاب لكفرهم وجحودهم ، وشدة ايذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان معجزة له ، وهي صرف الله العذاب عن المشركين مع إيذائهم له بسبب وجوده بينهم ، فقد أرجأ الله العذاب عن كفار مكة كرامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يختص الأمر بوجوده في مكة كما ذهب إليه المفسرون ، الجواب إنه أعم ، فالمراد أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويتحدث كتّاب السيرة والمفسرون عن عدد غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الإختلاف فيها ، ونبين هنا موضوعية رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، وهو من الشواهد على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً( ) .
ومن معاني قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) الإشارة إلى محذوف وتقديره : وإذ غدوت ساعة الغداة والصبح ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أصحابه صبيحة يوم الجمعة ، أنه رأى رؤيا وقال لهم (إنّي قَدْ رَأَيْت وَاَللّهِ خَيْرًا ، رَأَيْتُ بَقَرًا ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا ، وَرَأَيْتُ أَنّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوّلْتُهَا الْمَدِينَةَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ رَأَيْت بَقَرًا لِي تُذْبَحُ .
قَالَ فَأَمّا الْبَقَرُ فَهِيَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ وَأَمّا الثّلْمُ الّذِي رَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ، فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ) ( ).
وقد ورد خبر هذه الرؤيا عن أنس وعن ابن عباس وعن أبي موسى الأشعري .
وروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري الذي كان آنذاك حاضراً في المدينة ، وإن لم يخرج إلى معركة أحد لأن أباه خرج لها ، وطلب منه أن يبقى مع أخواته.
إذ قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : رأيت ، وفي لفظ أريت أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة: يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا – وفي لفظ سيفي ذا الفقار – فانقطع صدره – وفي لفظ: رأيت في ذباب سيفي ثلما – فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، قال عروة: وكان الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه.
وقال ابن هشام: وأما الثلم في السيف فهو رجل من أهل بيتي يقتل، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع كلمة المؤمنين، ورأيت فيها والله خيرا، رأيت بقرا تذبح والله خير، فإذا هو النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر .
وروى الامام أحمد والنسائي والبيهقي، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، قال ابن عباس: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، قال: وكان مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ قبل أن يلبس الاداة، إني رأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، وأني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقرا تذبح فبقر، والله خير، فبقر والله خير) ( ).
وكأن تعدد طرق رؤيا النبي هذه من المتواتر ، وفيه وجوه :
الأولى : موضوعية الرؤيا .
الثانية : إدراك المسلمين لقانون وهو رؤيا النبي وحي .
الثالثة : قانون الإنتفاع الأمثل من الرؤيا الصادقة ، وهل رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) الجواب نعم ، إذا كانت من رؤيا النبوة والوحي ، وتأويله لها .
الرابعة : اتباع الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقهم بما يخبر عنه ، وإجتماعهم على طاعة الله ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) .
الخامسة : دلالة رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأويلها على قانون (لم يغز النبي(ص) أحداً) وهو القانون الذي أختص هذا الجزء ببيان شذرات منه.
تأويل النبي للرؤيا
لقد لجأ الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تأويل الرؤيا ، إذ سألوه عن تأويلها فأجابهم بما تحقق مصداقه في الواقع ، ولو لم يقع هذا التأويل فان الرؤيا صادقة وحق أيضاً ، إذ أن عدم التحقق لعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) لقد قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان قتله خسارة كبيرة بعد أن أغرى المشركون وحشياً ، ووعدوه بالعتق إن قتله أو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قتل الإمام علي عليه السلام
كما قتل كبش القوم ، وهو طلحة بن أبي طلحة حامل لواء المشركين .
ترى لماذا سمّي كبشاً في الرؤيا ، الجواب من جهات :
الأولى : المراد من الكبش الرجل الشجاع وكأنه ينطح بقرنين .
الثانية : إنه حامل لواء المشركين يوم أحد .
الثالثة : تحدي طلحة هذا المسلمين وسط الميدان، وتكراره هذا التحدي بمرأى ومسمع من عموم أفراد الجيشين ، وهو من مصاديق [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يصلي صلاة الصبح يلتفت لأصحابه ويقول لهم (من رأى منكم رؤيا ) ( ) لينمي ملكة العناية بالرؤيا عند أصحابه وعامة المسلمين .
واقتباس المواعظ منها والتذكير بلزوم الإستغفار بخصوص وقائع تتعلق بالماضي ، أو تدعو إلى العمل والحيطة والحذر في المستقبل مع موضوعية الدعاء في تقريب النعمة والبشارة وصرف النقمة ، لتكون الرؤيا والوقائع المحتملة المترشحة عنها من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ،ولم يعهد أهل الجزيرة الإلتفات الموضوعي إلى الرؤيا والوقوف عند الاحلام واستظهار الدروس منها .
فنزل القرآن للتأكيد عليها من جهات :
الأولى : رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ…] ( ) وقال تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً…] ( ) .
الثانية : رؤيا إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده .
الثالثة : رؤيا يوسف عليه السلام كما في قوله تعالى [إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ( ) ولم يرد لفظ أحد عشر في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الرابعة : رؤيا ملك مصر ، وفي التنزيل [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ] ( ).
الخامسة : رؤيا كل من صاحبي يوسف في السجن ، كما في قوله تعالى [قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
والرؤيا الصالحة جزء من سته وأربعين جزء من النبوة ، وفي قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن ، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة ، فمن رأى ذلك فليخبر بها وادّاً ، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه ، فلينفث عن يساره ثلاثاً وليسكت ولا يخبر بها أحداً) ( ) .
وبينما قصّ يوسف رؤياه في صغره على أبيه فانه قام بتأويل رؤيا الرجلين اللذين كانا معه في السجن .
وهل كان هذا التأويل من الوحي ، المختار نعم ، لأنه نوع طريق للنفع الخاص والعام ، أما الخاص فنجاة يوسف وخروجه من السجن ، وأما العام فتولي يوسف عليه السلام الوزارة في مصر ، وفرض النظام في خطة زراعية بعيدة المدى ، وإدخار لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلاً .
إذ تم خزن القمح والحبوب مدة سبع سنوات متتالية في كل سنة تدّخر الدولة كميات هائلة من الحبوب من الحنطة ونحوها في سنابلها لقوله تعالى [فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ] ( ) لبيان معجزة للقرآن وهي خزن الحبوب بسنابلها يسلمها من الفساد ومن التلف والتسوس ، وهو وسيلة لحفظ قيمته الغذائية لمدة طويلة ، والإنتفاع من قشورها في السنوات اللاحقة عند إخراجها من المخازن لعلف الحيوانات ، ويؤلف القشر أو الغلاف الخارجي لحبه القمح نحو 9% من وزنها ، ثم تولي تقسيمها في سبع سنوات أخرى تتصف بالجدب حصصاً على الناس بما يدفع عنهم المجاعة والهلاك ، لبيان وجوب تعاهد الدولة لحياة عامة الناس ، وصرف الفاقة عنهم .
وهل كان تأويل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤيا ةالتي رآها ليلة الجمعة قبل الخروج إلى معركة أحد من الوحي أم من الإجتهاد في تفسير الرؤيا ، المختار هو الأول لعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
هل مبادرة الإمام علي (ع) من مصاديق نصرة الملائكة
لقد تقدم طلحة بين الصفين وصار ينادي (أنا قاصم من يبارز برازا فلم يخرج إليه أحد .
فقال : يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم) ( ).
لبيان مصداق من وسط الميدان التعدي وصدق قيام المشركين بالغزو.
وكان هذا التحدي أمراً عصيباً ، فبرز إليه الإمام علي عليه السلام ، فاختلفا ضربتين فضربه علي عليه السلام فقتله ، ويدل اختلافهما في الضرب على أن القتل كان قريباً من الإمام علي عليه السلام ساعتئذ ، ولم يبرز له غيره ، فكفى الله عز وجل المؤمنين شر كبش الكتيبة .
وفيه شاهد بأن المسلمين كانوا في حال دفاع في أصل المعركة ، وفي أفرادها المتعاقبة ، لذا حينما انسحب المشركون لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بملاحقتهم .
ترى هل قتل الإمام علي عليه السلام لطلحة بن أبي طلحة من مصاديق وعلة نزول الملائكة يوم معركة أحد لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الجواب نعم ، خاصة وأن بروز الإمام علي عليه السلام لطلحة عنوان لأمور تذكرها الآية أعلاه وهي :
الأول : الصبر لقوله تعالى [إِنْ تَصْبِرُوا].
الثاني : التقوى والتقرب إلى الله ، والخشية منه ، وبذل النفس في سبيله لقوله تعالى [وَتَتَّقُوا].
الثالث : زحف ومجئ جيش المشركين ، وإضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار للقتال، كما في قوله تعالى في الآية أعلاه [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ] لتكون هذه الآية من الشواهد على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) الذي اختص هذا الجزء ببيان شذرات وبراهين في بيان صحته .
قراءة في قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
لم يرد لفظ [يَعِدُكُمْ اللَّهُ] و[إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ] و[تَوَدُّونَ]و[ذَاتِ الشَّوْكَةِ]و[يَقْطَعَ] إلا في آية البحث .
ومن الإعجاز في آية البحث أعلاه إخبارها عن وعد كريم من عند الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعداً عاجلاً قريباً عظيماً ينالونه عند خروجهم بكتيبة من المدينة وقبل العودة إليها ، والطائفتان هما :
الأولى : قافلة أبي سفيان المحملة بالبضائع والقادمة من الشام .
الثانية : جيش قريش الخارج من مكة بذريعة حماية القافلة ، بعد أن بعث لهم أبو سفيان رسالة يدعوهم للتدارك وإنقاذ القافلة من النبي وأصحابه ، وقد تقدم الكلام أنه لا أصل لهذه الدعوى والدعوة من أبي سفيان ، إنما هو نوع تزوير (والتَزْويرُ: تَزْيينُ الكَذِبِ. وزَوَّرْتُ الشيءَ: حَسَّنْتُهُ وقوّمته) ( ).
كما يأتي التزوير بمعنى إكرام الزائر مأخوذ من لفظ الزيارة .
ويستقرأ من هذا الوعد مسائل عديدة منها :
الأولى : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعودته سالماً إلى المدينة سواء وقعت معركة بدر أم لم تقع .
الثانية : حضور المشيئة الإلهية ومصاحبة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا حينما وقعت المعركة تم النصر للمسلمين من عند الله عز وجل لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
الثالثة : شدّ عضد الصحابة وإبعاد الخوف والهلع عنهم ، إذ يدرك الجميع قوة وشدة بطش قريش وأنهم زحفوا للإنتقام ، ويكون هذا الهلع عند حدوثه سبباً للضعف والوهن ، وقد يكون مادة للفرقة والخصومة خاصة وأنه مع تباين وتجلي الحق كان نفر من الصحابة يجادلون النبي لقوله تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ] ( ) .
الرابعة : نزول الوعد من عند الله لمنع صدور التجاوز من بعض الصحابة ، لقد أكرمهم الله عز وجل والمراد منه إستدامة طاعتهم لله والرسول ، وجعل هذه الإستدامة تأتي باللطف والإحسان منه تعالى ، ومنه الوعد الكريم بالفوز باحدى الطائفتين .
الخامسة : ابتدأت الآية بحرف العطف وظرف الزمان (إذ) وقيل أنه في محل نصب متعلق بالفعل المقدر اذكروا لبيان صدور الوعد من عند الله عز وجل ، وهل يمكن إحتساب (إذ ) في الآية حرفاً يفيد المفاجئة أو التعليل ، الجواب نعم ، وحينئذ لا يكون له محل من الإعراب .
السادسة : ترى ما هي كيفية الوعد الإلهي تحتمل وجوهاً :
الأول : نزول قرآن بالوعد .
الثاني : قوله تعالى في آية البحث [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) هي الوعد من عند الله.
الثالث : توالي نزول آيات بهذا الوعد الإلهي .
الرابع : مجئ الوعد بالسنة النبوية .
الخامس : رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الثاني والثالث والرابع أعلاه ، ومن الآيات قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) فلم تقل الآية (أني وعدتكم) بصيغة الماضي لإستقراء نزولها بعد المعركة ، ومن السنة النبوية شواهد عديدة منها:
الأول : حينما تقارب الصفان يوم بدر ، وصارت المعركة قريبة بإظهار قريش إصرارها على القتال ، لقد سبق وأرادت قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ليلة المبيت ، وخرج مع صاحبه شريداً خائفاً منهم ، واذا هو الآن إمام وزعيم ، ومعه مئات الأصحاب ، وهم في إزدياد مستمر .
ولعله الصحابة الذين تخلفوا عن معركة بدر أكثر من الذين خرجوا معه لأنهم لم يعلموا باحتمال دخول المعركة ، وعدّته قريش فرصة للإنقضاض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، حينئذ رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه بالدعاء ، وقال (اللهم هَذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، جَاءَتْ تُحَادّك ، وَتُكَذّبُ رَسُولَكَ ” ، وَقَامَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاسْتَنْصَرَ رَبّهُ وَقَالَ اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللّهُمّ إنّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ) ( ).
الثاني : عندما علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخروج قريش من مكة بجيوشهم وعزمهم على قتاله ، استشار أصحابه وخاصة الأنصار لأنهم كانوا قد تعهدوا بالدفاع عنه في المدينة ، إذا دهمهم عدو ، وليس خارجها كما في فعل معركة بدر ، ولكنهم أظهروا النصرة وحسن الإتباع ، وطاعة الله ورسوله ، وكانت هذه الإستشارة قريباً من موضع معركة بدر .
إذ فطن الأنصار لإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إسماعهم الإستشارة على نحو الخصوص، فقال له سعد بن معاذ (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله .
قال : أجل ، قال : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله) ( ).
وسعد يومئذ سيد الأوس ، وقد أسلم على يد مصعب بن عمير عندما بعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سفيراً إلى المدينة يثرب .
واستبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجواب سعد ، وقال (سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ) ( ).
مما يدل على أن الوعد الإلهي جاء بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، لبيان الإنتفاع الأمثل والوعد الإلهي بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالسير والتوجه إلى ميدان المعركة ولقاء المشركين .
الثالث : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية) ( ) .
والمراد من القوم الصرعى من قريش يوم بدر.
الرابع : رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملائكة يوم بدر ، وإخباره لأصحابه ، إذ قال النبي (هذا جبريل متعمم بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والارض، فلما نزل إلى الارض تغيب عني ساعة، ثم طلع على ثناياه النقع يقول: ” أتاك نصر الله إذ دعوته) ( ) .
الخامس : استغاثة ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكره لوعد الله عز وجل له بالنصر (وَقَدْ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ فَأَقْبَلَتْ فَلَمّا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَصَوّبَ مِنْ الْعَقَنْقَلِ – وَهُوَ الْكَثِيبُ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ إلَى الْوَادِي .
قَالَ اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ) ( ).
ومع الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه امتنع عن إبتداء القوم بالقتال ، وكان ينظر إلى ما يحدث داخل معسكرهم على أمل رجوعهم عن القتال .
ليكون من وجوه تقدير آية البحث : وإذ يعدكم الله في هذه الآية.
السابعة : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للشكر لله عز وجل على نعمة هذا الوعد ، ومجيئه وهم بأشق الأحوال .
الثامنة : طرد اليأس والقنوط عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) وهل الإيمان من الإحسان ، الجواب نعم ، فإيمان الفرد إحسان لذاته ولغيره ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ]( ).
مدح آية [وَإِذْ يَعِدُكُمْ] للصحابة
يفيد التعريض بكراهة طائفة من الصحابة إنما تتضمن مدح الصحابة والثناء عليهم من جهات :
الأولى : خروج الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو معركة بدر بالحق والوحي ، وتقدير قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ..] ( ) كما اخرجك ربك من بيتك وأصحابك من بيوتهم بالحق .
الثانية : إتباع الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج في الكتائب حول المدينة .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الخروج في الكتائب والسرايا آنذاك ليس أمراً سهلاً على الصحابي لما فيه من المخاطر ، والأذى والمشقة والعناء ، وتعطيل الأعمال ، قال تعالى [وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الرابعة : الفوز بالإمتثال لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج من المدينة ، مع إحتمال ملاقاة المشركين سواء بورود أخبار بزحفهم نحو المدينة أو أن هذا الزحف يحدث بعد خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة ، كما حصل في معركة بدر .
وهل التفت أبو سفيان والمشركون إلى هذه المسألة عندما أعلنوا النفير في مكة في ثلاثة أيام بعد أن وصلهم رسول أبي سفيان وكأنهم يقولون أخرجوا لقتل محمد وطائفة من أصحابه وهم بعيدون عن المدينة قبل أن يأتيهم المدد منها .
الجواب نعم ، ويحتمل هذا المكر في أوانه وجوهاً :
الأول : من حين علم أبو سفيان وأصحابه في القافلة وهم في الطريق من الشام إلى مكة .
الثاني : لقد سبق هذا التخطيط والمكر معركة بدر ومن قبل وقوعها بنحو سنة ، ومن حين يبلغ قريشاً أن النبي محمداً صار له مسجد في المدينة يخرج في كتائب حولها ويبتعد عنها .
ومن كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي سبقت معركة بدر :
الأولى : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبواء في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة( ).
الثانية : توجه النبي إلى نجد يريد غطفان في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة أيضاً ، وتسمى غزوة الفرع ، والمختار أنها كتيبة الفرع.
والنزاع لفظي ولكنه ليس صغروياً.
الثالثة : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بواط في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة .
الرابعة : خروج النبي إلى ما يسمى بدر الأولى في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة .
الخامسة : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذي العشيرة في شهر جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وقوع قتال في كل هذه الكتائب ، ومع هذا تسمى في كتب التفسير والسيرة والتأريخ غزوات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقال مثلاً غزوة الأبواء ، وغزوة بواط ونحوه .
ولا عبرة بهذه التسمية لمخالفتها للواقع إنما هي من عمومات قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) والذي هو موضوع وعنوان هذا الجزء من التفسير .
خطبة عتبة بن ربيعة يوم بدر
لم تكن قريش كلها عازمة على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وظهر التردد بتخلف طائفة منهم عن الخروج من مكة مع الجيش ، وهل الذين أرسلوا بدائل عنهم من هذه الطائفة أم ينحصر التخلف عن المعركة بهم ، الجواب هو الأول .
وإرسلت قريش عمير بن وهب يوم بدر ليتطلع عدد وحال المسلمين ، وكان يتصف بحدة البصر واستقرأ عند طوافه حول مخيم المسلمين وإستطلاعه لحالهم ثباتهم وعزمهم على ملاقاة المشركين إن أصروا على القتال فقد أدركوا التضاد بين المعسكرين ، وأن الله عز وجل ناصرهم على الكفر والكفار.
فلما رجع إلى معسكر المشركين وسألوه إن كان قد رأى مدداً للمسلمين فقال: ما رأيت شيئاً، ولم يعلم أن الملائكة ينزلون بطرفة عين من السماء إلى الأرض، وهل صدور وهبوط المركبات الفضائية في هذا الزمان مرآة عاكسة لهبوط وصعود الملائكة الجواب نعم ، وإن كان هناك بون شاسع في الموضوع والكيفية والسرعة ، إذ تفوق سرعة الملائكة سرعة الفضائيات أضعافاً.
فصحيح أن هذه المركبات أسرع من الصوت وقد تصل إلى 700 ألف كم في الساعة إلا أنها تبقى دائماً متخلفة بمراتب كثيرة عن سرعة الملائكة لأنهم يهبطون ويصعدون في السماء بمصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وورد عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} قال: يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار)( ).
وفي الآية أعلاه ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فإذا صلى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر اثبتت له مرتين: أثبتها ملائكة الليل وملائكة النهار)( ).
وبعد أن أخبر عمير بن وهب قريشاً بعدم وجود أي مدد للمسلمين، منعهم من الطمأنينة، ومن الإندفاع نحو القتال إذ بيّن لهم عزم الأنصار على الدفاع حتى الموت أو النصر.
إذ قال لهم (ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم والله ما أرى ان يُقتل رجل منهم حتى يُقتل رجل منكم فإذا اصابوا منكم عدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم)( )، وقد حضر معركة بدر:
ثلاثة وثمانون من المهاجرين .
واحد وستون رجلاً من الأوس .
مائة وسبعون رجلاً من الخزرج ( ).
أي أن عدد الأنصار نحو مائتين وواحد وثلاثون رجلاً، مما يعني إنذار وتحذير عمير بن وهب لقريش أنهم سيقتل منهم مثل عدد الأنصار هذا أي ربع جيش قريش عدا من يقتله المهاجرون ، ومن يقع بالأسر أو يجرح منهم.
ومع شدة خبث عمير فأنه لجأ إلى البيان وصرخ في وسط مجتمع رؤساء قريش أن قتال المسلمين ليس أمراً سهلاً، وهل كان يشير إلى قلة خبرة قريش بالمبارزة والمسايفة لأنهم أهل تجارة وغضارة عيش ودعة، وإنشغالهم بضيافة الوافدين إلى مكة وبكثرة النكاح ، الجواب نعم ، بينما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحرمة الربا والزنا، وبتحديد عدد الزوجات.
ومن إعجاز نظم الآيات وأحكام الحلال والحرام مجيء عدة آيات متتاليات من سورة الإسراء تتضمن النهي والزجر وهي:
الأولى : [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( ).
الثانية : [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا]( ).
الثالثة : [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( ).
الرابعة : [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا]( ).
الخامسة : [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع بواو الجماعة لجمع المذكر، والمراد المعنى الأعم وشمول الذكور والأناث.
وبخصوص واقعة بدر هل يدل قوله تعالى[وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا]( ) على جواز قتل الكفار وإن لم يبدأوا القتال، وأن هذا القتل من الحق الذي تذكره الآية أعلاه.
الجواب لا، وتدل عليه السنة النبوية في عدم قتل الكفار والمشركين سواء عندما كان في مكة قبل الهجرة أو هو في المدينة، وفي رواية قال عمير (رأَيت الحَوايا عليها المَنايا)( ).
والنواضح جمع ناضح ويطلق على بعير السقي.
وهل أراد عمير بن وهب التعريض والإستهزاء بالأنصار، الجواب لا، إنما أراد أن يقول لقريش لا تظنوا أن الأوس والخزرج مزارعون لا يفقهون القتال والدفاع.
وقد (حجَّ معاوية فلما قرب من المدينة تلقّته قريش على اثني عشرَ ميلاً وتلذقّته الأنصار على ميلين فعاتبهم فشكَوا الأَثَرَة، فقال: فأين أنتم عن النواضح .
فقال له قيس بن سعد: تركناها لقومك عامَ قتلنا حَنْظَلَةَ.
فقال معاوية: واحدةٌ بواحدة والبادىء أظلم)( ).
والمراد حنظلة بن أبي سفيان أخو معاوية، الذي قُتل في معركة بدر كافراً لبيان أن الأنصار هجروا الزراعة وتركوا مورد رزقهم في الدفاع عن النبوة والتنزيل ضد كفار قريش، وأن المقام الذي صار فيه معاوية هو من جهادهم وصبرهم في بدر بينما كان أبو وأخو وجد وخال معاوية يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ .
وهل هذه المحاربة من الشواهد على قانون عدم عزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، الجواب نعم.
استطلاع قريش مكر
لم تدخل قريش المعركة ابتداء ومن غير تخطيط واستكشاف ، إذ بعثوا أحدهم يستطلع جيش المسلمين ، وهو عمير بن وهب الجمحي ، وقالوا له (احرز لنا أصحاب محمد)( ).
وهل ينحصر هذا الأمر بارادة العدد فقط ، الجواب لا ، إنما المراد أحوالهم وهيئتهم القتالية ، وأسلحتهم وخيلهم .
فطاف عمير حول مخيم المسلمين ، ولم يقم أحد منهم برميه بالسهام لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منعهم من الرمي والتقدم للمبارزة وشن الهجوم ونحوه ، كانت سهام الإسلام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
فرجع عمير إلى قريش وقال لهم ، إن عدد المسلمين (ثَلَاثُ مِئَةٍ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ) ( ).
لقد كان تقدير عمير دقيقاً ، وفيه شاهد بأن المسلمين كانوا مكشوفين ليس من سواتر أو مواقع يتحصنون فيها ، وليس عندهم خيم يستظلون بها.
ثم أبعد عمير في الوادي ، ونظر ببصره الحاد فلم ير شيئاً ، بما يطمئن معه أنه إذا ابتدأت المعركة ، فحتى إذا كان هناك مدد للمسلمين فانه لا يصل إليهم بسرعة للدلالة على أن قريشاً ومنهم عمير هذا كانوا ينوون الهجوم السريع على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
فان قلت طلب عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة المناجزة وسط الميدان على خلاف هذا الأمر ، الجواب لم يكن طلبهم هذا إلا بعد أن شنوا الهجوم الأول العام ، وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ملاقاتهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
لقد أخبر عمير قريشاً عن قرائن وظواهر تدل على عزم الأنصار على القتال والدفاع ، والتضحية ، وبما يدل على صدق العقيدة .
لقد بيّن عمير من حيث لا يعلم رسوخ الإيمان في قلوب الأنصار ، ترى لماذا لم يذكر المهاجرين الجواب من جهات :
الأولى : كان الأنصار أكثرعدداً من المهاجرين في معركة بدر .
الثانية : بيان عمير لحال جيش المسلمين بذكر الأكثر .
الثالثة : الحاق المهاجرين بالأنصار من جهة العزم على الدفاع ، لصيرورة المهاجرين من أهل المدينة عرفاً، لبيان أن تقسيم الصحابة إلى المهاجرين والأنصار مكرمة ونعمة عظمى من عند الله باقية ومتجددة إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
إن طواف عمير بن وهب واستطلاعه لمخيم المسلمين شاهد بأن النبي محمداً لم يغز المشركين ، ولم يقصد بلادهم ، فان قلت هم أيضاً لم يقصدوا المدينة في معركة بدر.
والجواب هذا صحيح ولكنهم أصروا على القتال يومئذ ، وجاء تحذير عمير حجة عليهم ، ودعوة لهم للتدارك والتراحم ، وكان تحذيرهم سبباً لإمتناع طائفة منهم عن القتال ، وحدوث الإختلاف بين الذين بقوا في الميدان ، وهو من أسباب الضعف والوهم ,
إذ سمع حكيم بن حزام وهو ابن أخ خديجة أم المؤمنين ما قاله عمير ، فمشى في الناس يدعوهم إلى إجتناب القتال خاصة وأن نافلة أبي سفيان قد توجهت إلى مكة بسلام ، وهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند آبار بدر لم يتعرضوا للقافلة ، ولم يسلكوا الطريق الذي سارت فيه.
ثم توجه إلى عتبة بن ربيعة على نحو الخصوص ، قال له (يَا أَبَا الْوَلِيدِ إنّك كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، وَالْمُطَاعُ فِيهَا ، هَلْ لَك إلَى أَنْ لَا تَزَالَ تُذْكَرُ فِيهَا بِخَيْرِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ .
قَالَ وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ)( ).
أي كيف السبيل إلى فعل الخير والأمر الممدوح في كل زمان ، وأراد عتبة التأكد هل يتعلق الأمر بواقعة بدر وطلب القتال فيها ، أو الإمتناع عنه ، أي أن حكيماً يريد أمراً آخر ، كما كان يدعوه أن يدخلا الإسلام معاً .
وهما يعلمان بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وأدركا أن هذا الجمع من الصحابة لا يكون إلا عن معجزة ، وهذه مسألة مستحدثة في علم الكلام ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن إبتداء التقاء الصفين سبب لهداية طائفة من قريش لما رأوا من جمع المسلمين.
ومن إعجاز القرآن في المقام أنه لم يسم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه جيشاً ، إنما نعتهم بأنهم جمع ، كما في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
وقد تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ، إذ ورد بخصوص معركة أحد أيضاً ، كما ورد اللفظ [الْجَمْعَانِ] مرة أخرى بخصوص خروج موسى عليه السلام وأصحابه من مصر ، وملاحقة فرعون وجنوده لهم ، قال تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] ( ) فحالما رآى أصحاب موسى عليه فرعون وجنوده أظهروا الخوف والفزع ، فانجاهم الله عز وجل بعبورهم بسلام بحر القلزم ، وهو البحر الأحمر .
أما أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد التقوا مع جيش المشركين ، وليس فقط تراءوا لهم ، ثم أظهر الصحابة العزم على ملاقاة القوم ، قال تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ]( ).
(عن ابن عباس . أن الله أوحى إلى موسى : أن أسر بعبادي . وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون حلياً وثياباً .
إن لنا عيداً نخرج إليه فخرج بهم موسى ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف ، فذلك قول فرعون [إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ]( ).
وخرج فرعون ومقدمته خمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب ، فلما انتهى موسى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه ، فمشى على الماء ، واقتحم غيره بخيولهم فوثبوا في الماء.
وخرج فرعون في طلبهم حين أصبح وبعدما طلعت الشمس ، فذلك قوله {فأتبعوهم مشرقين ، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون}( ) فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه وقيل له : اضرب بعصاك البحر ففعل [فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( )، يعني الجبل . فانفلق منه اثنا عشر طريقاً فقالوا : انا نخاف أن توحل فيه الخيل . فدعا موسى ربه فهبت عليهم الصبا فجف ، فقالوا : انا نخاف أن يغرق منا ولا نشعر ، فقال بعصاه فنقب الماء فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر .
وأقبل فرعون حتى انتهى إلى الموضع الذي عبر منه موسى وطرقه على حالها فقال له أدلاؤه : إن موسى قد سحر البحر حتى صار كما ترى ، وهو قوله {واترك البحر رهواً}( ) يعني كما هو . فخذ ههنا حتى نلحقهم وهو مسيرة ثلاثة أيام في البحر .
وكان فرعون يومئذ على حصان ، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة ، ففرقوا الناس وتقدم جبريل فسار بين يدي فرعون وتبعه فرعون ، وصاحت الملائكة في الناس : الحقوا الملك .
حتى إذا دخل آخرهم ولم يخرج أولهم؛ التقى البحر عليهم فغرقوا .
فسمع بنو إسرائيل وجبة البحر حين التقى فقالوا : ما هذا؟ قال موسى : غرق فرعون وأصحابه . فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل) ( ).
لقد أرسلت قريش عميراً للإستطلاع ، ومعرفة عدد المسلمين فجاءهم فزِعاً مرعوباً ينطق بكلمات الإنذار ويحذرهم من القتال وسفك الدماء.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في رد وإجابة الله عز وجل على الملائكة حينما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..]( ) الجواب نعم ، فان الله عز وجل يجعل الإنذارات حاضرة في بداية كل معركة ، وما صرف من المعارك بين الناس بهذه الإنذار أكثر مما وقع منها ، وهو ظاهر حتى في هذا الزمان ، إذ يبلغ التهديد والإستعداد للقتال بين بعض الدول والقبائل والأفراد أشده ثم يصرف الله عز وجل القتال والقتل .
لقد التفت بعض العقلاء في معسكر قريش إلى تحذير عمير لأمور:
الأول : عدم وجود سبب لمعركة بدر .
الثاني : قانون خلو هذه المعركة من النفع لقريش .
الثالث : قانون صيرورة هذه المعركة مادة لنقمة القبائل على قريش .
الرابع : قانون دخول طائفة من الناس الإسلام إذا وقعت معركة بدر .
الخامس : بيان قانون من قوانين الفطرة وهو كراهية سفك الدماء.
وبعد أن أثنى حكيم بن حزام على عتبة بن ربيعة ، ونعته بأنه كبير قريش ، وأن كلامه لا يرد طلب منه أن يرجع بالناس إلى مكة ، ويتجنب القتال ، ويدرء الفتنة بدفع دية حليفه عمرو بن الحضرمي الذي سبق وأن قتله أحد المسلمين الذين كانوا في سرية عبد الله بن جحش للإستطلاع في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة ، وكان عدد أفراد السرية ثمانية كلهم من المهاجرين .
(وقال يونس عن ابن إسحاق ، كان ثمانية وأميرهم التاسع).
وتدل قلة عددهم هذه على أنهم لم يخرجوا لقتال.
وحينما قدموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعهم اسيران وعمير (ما امرتكم بقتال في الشهر الحرام فوقف العير والاسيرين وأبى ان يأخذ من ذلك شيئا فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سقط في أيدى القوم وظنوا انهم قد هلكوا وعنفهم اخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.
وقالت قريش إذا استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم واخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال.
فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة انما اصابوا ما اصابوا في شعبان) ( ).
وأطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسيرين وأسلم أحدهما وهو الحكم بن كيسان من ساعته ، ولم يغادر المدينة ، وبقي مصاحباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قتل في بئر معونة ، وأما الأسير الآخر وهو عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ومات فيها كافراً ، ولابد أنه نقل لقريش بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرض بقتل عمرو بن الحضرمي .
وهل قتل ابن الحضرمي سبب لمعركة بدر ، الجواب لا ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستعد لدفع دية القتيل ولأنه لم يرض بما فعل الصحابي واقد من عبد الله التميمي برميه عمرو بن الحضرمي سهم .
ولم يكن عند العرب آنذاك أن تنشب معركة وحرب بسبب قتل شخص واحد بين طرفين ، إنما تطلب الدية أولاً ، فان امتنعوا قتلوا شخصاً ثاراً له ، ولا يشترط أن يكون هو ذات القاتل بل يطلبون أي فرد من قبيلته منهم، نعم حدثت بعض المعارك الكبرى في الجزيرة مثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء .
وقد أتخذ العرب مثل هذه المعارك عبرة وموعظة واستحضرها بعض أشرافهم لمنع قريش من إيذاء ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في أبي قيس بن الأسلت الوائلي (وَوَاقِفٌ وخَطْمَةُ إخْوَةٌ مِنْ الْأَوْسِ) ( ).
إذ القى أبو قيس هذا قصيدة يبين فيها حرمة البيت الحرام ، ويخبر قريشاً بلزوم التنزه عن الحرب والقتال وعن الخصومة فيما بينهم لما لهم من الفضل ودفع الله عز وجل عن مكة أصحاب الفيل.
وكان أبو قيس صهراً لقريش ، ومقيماً عندهم ، وينهاهم عن قتال وحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال قصيدته :
(يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضْت فَبَلّغَنْ … مُغَلْغَلَةً عَنّي لُؤَيّ بْنَ غَالِبِ
رَسُولُ امْرِئِ قَدْ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ … عَلَى النّأْيِ مَحْزُونٌ بِذَلِكَ نَاصِبِ
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مُعَرّسٌ … فَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي
نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ … لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاَللّهِ مِنْ شَرّ صُنْعِكُمْ … وَشَرّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسّ الْعَقَارِبِ
وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ … كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقّ صَائِبِ
فَذَكّرْهُمْ بِاَللّهِ أَوّلَ وَهْلَةٍ … وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظّبَاءِ الشّوَازِبِ
وَقُلْ لَهُمْ وَاَللّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ…ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ فِي الْمَرَاحِبِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا ، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً … هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ
تُقَطّعُ أَرْحَامًا ، وَتُهْلِكُ أُمّةً … وَتَبْرِي السّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ
وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيّةِ بَعْدَهَا … شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ الْمُحَارِبِ
وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا … كَأَنّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ الْجَنَادِبِ
فَإِيّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنكُمْ … وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرّ الْمَشَارِبِ
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمّ يَرَوْنَهَا … بِعَاقِبَةِ إذْ بَيّنَتْ أُمّ صَاحِبِ
تُحَرّقُ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا ، وَتَنْتَحِي…ذَوِي الْعِزّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصّوَائِبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ..فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ فِي حَرْبِ حَاطِبِ
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوّدٍ … طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ غَيْرُ خَائِبِ
عَظِيمِ رَمَادِ النّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ … وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمِ الْمَضَارِبِ
وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ كَأَنّمَا … أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصّبّا وَالْجَنَائِبِ
يُخْبِرُكُمْ عَنْهَا امْرُؤُ حَقّ عَالِمٍ … بِأَيّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ التّجَارِبِ
فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبٍ وَاذْكُرُوا … حِسَابَكُمْ وَاَللّهُ خَيْرُ مُحَاسِبِ
وَلِيّ امْرِئِ فَاخْتَارَ دِينًا ، فَلَا يَكُنْ … عَلَيْكُمْ رَقِيبًا غَيْرَ رَبّ الثّوَاقِبِ
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا فَأَنْتُمْ … لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى بِالذّوَائِبِ
وَأَنْتُمْ لِهَذَا النّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ … تُؤَمّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
وَأَنْتُمْ – إذَا مَا حُصّلَ النّاسُ – جَوْهَرٌ … لَكُمْ سُرّةُ الْبَطْحَاءِ شُمّ الْأَرَانِبِ
تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عَتِيقَةً … مُهَذّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ أَشَائِبِ
يَرَى طَالِبُ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ … عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنّ سَرَاتَكُمْ … عَلَى كُلّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ
وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا ، وَأَعْلَاهُ سُنّةً … وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقّ وَسَطَ الْمَوَاكِبِ
فَقُومُوا ، فَصَلّوا رَبّكُمْ وَتَمَسّحُوا … بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ … غَدَاةَ أَبَى يَكْسُومُ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسّهْلِ تُمْسِي ، وَرِجْلُهُ … عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
فَلَمّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدّهُمْ… جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ
فَوَلّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ … إلَى أَهْلِهِ م الْحُبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ
فَإِنْ تَهْلِكُوا نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمُ..يُعَاشُ بِهَا ، قَوْلُ امْرِئِ غَيْرِ كَاذِبِ)( ).
وهل من أثر لمثل هذه القصيدة والدعوة صبيحة معركة بدر ، وفي ميدان المعركة ، الجواب نعم ، وعندما أظهره حكيم بن حزام ، واستجابة عتبة بن ربيعة لطلبه بتحمل دية عمرو بن الحضرمي والرجوع إلى مكة من غير قتال ، ولكن بعض رؤساء قريش كانوا يعدون معركة بدر مناسبة للإجهاز على الإسلام ، وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات وسور القرآن والتي تتضمن شتم آبائهم لعبادتهم الأوثان.
وجوه عديدة لعامل (إذ)
يذكر في علم النحو أن عامل (إذ ) محذوف وتقديره اذكروا ، وفيه مسائل :
الأولى : تصح قراءة الآية من غير محذوف ، وفيه معنى تام .
الثانية : يتعدد تقدير العامل المحذوف ،ومن وجوه :
الأول : وإذ يرحمكم ويعدكم الله .
الثاني : وإذ يبشركم ويعدكم الله .
الثالث : وإذ بالوحي يعدكم الله .
الرابع : ومن فضل الله إذ يعدكم الله .
فان قلت إنما العامل يتقدم على إذ فيكون التقدير على وجوه :
الأول : واستجيبوا إذ يعدكم الله .
الثاني : واحسنوا إذ يعدكم الله .
الثالث : واشكروا الله إذ يعدكم الله .
الرابع : [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( ) إذ يعدكم الله .
الخامس : [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ] ( ) إذ يعدكم الله .
السابع : وتدبروا إذ يعدكم الله .
الثامن : كفوا عن الجدال إذ يعدكم الله .
ولا يختص تعدد وجوه التقدير هذا بآية البحث ، إنما هو شامل لكل آية ورد فيها لفظ (إذ) مع التباين بلحاظ أمور :
الأول : موضوع الآية .
الثاني : الأحكام الواردة في الآية .
الثالث : تقدير البشارة والإنذار في الآية القرآنية .
الرابع : تقدير العامل المحذوف بحسب الآية السابقة .
الخامس : تقدير العامل بحسب نظم الآيات .
السادس : تقدير العامل بحسب موضوع آية البحث والآيات المجاورة لها.
السابع : تقدير العامل المحذوف بلحاظ شطر من آية البحث خصوصاً أولها .
الثامن : تقدير المحذوف بالجمع بين آية البحث والآيات ذات الصلة الموضوعية معها .
التاسع : تقدير المحذوف بحسب الآية التالية لآية البحث ، وهناك مسائل:
الأولى : لزوم إحصاء كلمة (إذ ) الواردة في القرآن مما قد يجوز معه تقدير عامل محذوف .
وقد وردت في القرآن مما يجوز معه تقدير عامل محذوف ، وقد وردت في القرآن نحو (167) مرة .
الثانية : منافع تقدير المحذوف .
الثالثة : الإعجاز في البيان المستقل بعدم تقدير محذوف ، فحتى لو لم يكن هناك محذوف فان للآية معان ودلالات متعددة .
الرابعة : المسائل المستنبطة من تقدير المحذوف في كل آية ، فقد يستلزم كتابة صفحات متعددة في كل مرة ورد فيها لفظ (إذ ) وهل هذه المسائل من تفسير ذات الآية الكريمة ، الجواب نعم .
الخامسة : قد يأتي المحذوف قبل كلمة تسبق (إذ ) كما في قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ] ( ) وتقديره : واذكروا يوم حنين إذ أعجبتكم ) ومن معاني هذا التقدير السعة والمندوحة في المعنى فلا يذكر المسلمون خصوص إعجابهم بكثرتهم بل يذكرون أموراً منها :
الأول : أسباب هذه المعركة .
الثاني : مقدمات المعركة .
الثالث : دلالات تعقب معركة حنين لفتح مكة ، والأصل هو دخول الناس الإسلام بعد فتحها ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ).
الرابع : مباغتة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في وادي حنين .
الخامس : دلالة المعركة على قانون (لم يغز النبي(ص) أحداً).
السادس : رجحان عدد جيش المشركين على عدد جيش المسلمين في المعركة .
إذ (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة فكانوا اثنى عشر ألفا) ( ).
السابع : القصائد التي أنشدت في معركة حنين منها :
منها قصيدة عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ :
أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا غُولُ قَوْمِهِمْ … وَسْطَ الْبُيُوتِ وَلَوْنُ الْغُولِ أَلْوَانُ
يَا لَهْفَ أُمّ كِلَابٍ إذْ تُبَيّتُهُمْ … خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
لَا تَلْفِظُوهَا وَشُدّوا عَقْدَ ذِمّتِكُمْ … أَنّ ابْنَ عَمّكُمْ سَعْدٌ وَدُهْمَانُ
لَنْ تَرْجِعُوهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجَلّلَةً … مَا دَامَ فِي النّعَمِ الْمَأْخُوذِ أَلْبَانُ
شَنْعَاءُ جُلّلَ مِنْ سَوْآتِهَا حَضَنٌ … وَسَالَ ذُو شَوْغَرٍ مِنْهَا وَسُلْوَانُ
لَيْسَتْ بِأَطْيَبَ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ … إذْ قَالَ كُلّ شِوَاءِ الْعَيْرِ جُوفَانُ
وَفِي هَوَازِنَ قَوْمٌ غَيْرَ أَنّ بِهِمْ … دَاءَ الْيَمَانِيّ فَإِنْ لَمْ يَغْدِرُوا خَانُوا
فِيهِمْ أَخٌ لَوْ وَفَوْا أَوْ بَرّ عَهْدُهُمْ … وَلَوْ نَهَكْنَاهُمْ بِالطّعْنِ قَدْ لَانُوا
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا … مِنّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
أَنّي أَظُنّ رَسُولَ اللّهِ صَابِحَكُمْ … جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ غَيْرَ تَارِكِكُمْ … وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادَ اللّهِ غَسّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ … وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ … وَفِي مُقَدّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ) ( ).
ترجمة العباس بن مرداس
جده عامر بن حارث من بني سليم ، أسلم قبل فتح مكة بقليل ، وكان أبوه مرداس حليفاً لحرب بن أمية ، وشريكاً له في التجارة ، وقال مرداس في هذا الحلف :
(لهم نسب وحالفهم أبونا … بمكة حيث تختلف الزجاج
وقال أيضاً: البسيط
إني أخذت بني حرب وإخوته … إني بحبل شديد العقد دساس
إني اقوم قبل الأمر حجته … كيما يقالب ولي الأمر مرداس
قال: ثم تقطع هذا الحلف ) ( ).
(وكان أبوه مرداس تزوج الخنساء وولدت منه) ( ).
وقيل قتلتهما الجن جميعاً ، وحرب بن أمية والد أبي سفيان ، وكان أسم أبي سفيان صخراً .
(وممن قتلته الجن مرداس بن أبي عامر السُّلَمي، وهو أبو عباس بن مرداس السُّلَمي، ومنهم الغريض المغني، بعد أن ظهر غناؤه وحمل عنه، وقد كانت الجن نهته أن يغني بأبيات من الشعر، فغناها فقتلته.
قبر حاتم طي يقرئ الضيف
حدث يحيى بن عقاب، عن علي بن حرب، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عن منصور بن يزيد الطائي ثم الصامتي قال: رأيت قبر حاتم طي ببقة، وهو أعلى جبل له واد يُقال له الخابل، وإذا قدْرٌ عظيمة من بقايا قدور حجر مكفأة في ناحية من القبر من القدور التي كان يطعم فيها الناس.
وعن يمين قبره أربعِ جوار من حجارة، وعلى يساره أربع جوار من حجارة، كلهن صاحبة شعْر منشور محتجرات على قبره كالنائحات عليه، لم ير مثل بياض أجسأمهن وجمال وجوهن، مَثَّلهن الجن على قبره، ولم يكنَ قبل ذلك.
والجواري بالنهار كما وصفنا، فإذا هدأت العيون أرتفعت أصوات الجن بالنياحة عليه، ونحن في منازلنا نسمع ذلك، إلى أن يطلع الفجر فإذا طلع الفجر سكتن وهدأن، وربما مر المار فيراهن فيفتتن بهن فيميل إليهن عجباً بهنَ؛فإذا دنا منهن وجدهن حجارة)( ).
وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عباس بن مرداس من غنائم حنين من سهم المؤلفة قلوبهم ، كما في قوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
ولم يرض عباس بعطائه فقال :
(أتجعل نهبي ونهب العبيد … بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس … يفوقان مرداس في مجمع
في أبيات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهبوا فاقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رضي؛ وكان شاعراً محسناً. وكان العباس بن مرداس ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية) ( ) .
وهل لهذا التحريم موضوعية في إستجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطلبه ، ومضاعفة عطائه أم لأنه شاعر ونحوه .
المختار هو الوجهان معاً .
أسباب تخطيط قريش لمعركة بدر
هل كانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ونشوء دولة الإيمان في المدينة من أسباب تخطيط قريش لمعركة بدر، الجواب نعم ، وعلى فرض هذا القول المستحدث ، ومن هذه الأسباب :
الأول : إدراك مشركي قريش لقانون وهو خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب جذب للناس للإيمان.
الثاني : عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العهود والمواثيق مع عدد من القبائل التي يمر عليها ، منها عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اتفاق أمان مع مخشي بن عمرو الضمري ، وقال ابن حزم ثم خرج أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (خرج غازياً في صفر المؤرخ، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، حتى بلغ ودان، فهي غزوة الأبواء، فوادع فيها بني ضمرة بن عبد مناة ابن كنانة، وعقد ذلك معه سيد بني ضمرة: مخشي بن عمرو؛ ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ولم يلق حرباً. وهي أول غزاة غزاها بنفسه) ( ).
وقد كرر المؤلف مادة غزا أربع مرات :
الأولى : خرج غازياً .
الثانية : فهي غزوة الأبواء .
الثالثة : أول غزاة.
الرابعة : غزاها .
مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد قوماً أو قرية أو بلدة ولم يقاتل ، ولم يستول على أموال وأنعام ، إنما عقد موادعة ومصالحة مع سيد قومه في أيامه ، وهو من المشركين ، وكانت بنود هذه المصالحة :
أولاً : عدم قيام بني ضمرة بغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : لا يكثر بنو ضمرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمعاً ، وفيه دلالة على رجحان هجوم قريش له على المدينة .
ثالثاً : إمتناع بني ضمرة عن إعانة عدواً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء بالهجوم على المدينة أو بمده بالسلاح والرجال ، أو عندما يكون النبي وأصحابه ، أو أصحابه وحدهم في سرايا ، وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع مخشي بن عمرو كتابا بهذه الموادعة ، وكانت مدة غيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة (خمس عشرة ليلة ) ( ).
وفيه قطع لآمال قريش باستمالته إلى جانبها في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل هناك موضوعية لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في أفواء القرى والطرق العامة ، وتجليات معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إبرام هذه القبائل العهود مع أهلها ، الجواب نعم.
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن صلاته وأصحابه في مداخل القرى سبب ووسيلة لدخول أهلها الإسلام دفعة أو على التوالي .
وهذه الموادعة ونحوها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويحتمل خروج كتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في الأصل والمدرك وجوهاً :
الأول : إنها بالوحي من عند الله ، وليكون قوله تعالى [كما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ..] ( ) شاملاً لكتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم اختصاصه بمعركة بدر .
الثاني : هذه الكتائب بإجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة أصحابه ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ..]( ).
الرابع : مجئ أخبار إلى المدينة تستلزم خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامس : التفصيل تارة يكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ، وتارة بإجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المشورة أو الأخبار الموجبة .
والمختار أن كل كتائب وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ، وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله .
تقدير(التقى الجمعان)
لقد ورد هذا اللفظ في القرآن ثلاث مرات وهي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتختص الأولى والثانية بمعركة أحد ، أما الثالثة فهي بخصوص معركة بدر ، مع إرادة المعنى الأعم لملاقاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين وهو في جميعها في حال دفاع واضطرار.
ومن معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، جهات :
الأولى : يوم التقى جمع فيه رسول الله وجمع فيه رؤساء الشرك في الجزيرة .
الثانية : يوم التقى الجمعان في بدر .
الثالثة : يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة التقى الجمعان ، وهل من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) صيرورة تأريخ المعركة بالحساب وفق تأريخ هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
وهل تبدل حساب التواريخ إلى الهجري من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ) خاصة وأن ضبط التأريخ والتقويم يتعلق بالأيام والأشهر والسنين وتعاقبها ، الجواب نعم .
الرابعة : يوم التقى جمع المؤمنين وجمع المشركين.
الخامسة : يوم التقى جمع قليل من الصحابة وجمع للمشركين أكثر من ثلاثة أضعاف جمع المؤمنين .
السادسة : يوم التقى الجمعان في بدر ولن يلتقوا به إلى يوم القيامة .
السابعة : يوم التقى الجمعان باصرار من المشركين على القتال ، إذ أن قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) أعم من وقوع القتال.
وقد حصل هذا اللقاء قبل معركة بدر وتفرق الجمعان ، ليكون من معاني الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ…] ( ) إنذار المشركين من العودة إلى قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنهم لم يتعظوا ، وعادوا في معركة أحد ونزل قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) مرتين في سورة آل عمران لإقامة الحجة على المشركين .
من معاني الكاف لغة
بخصوص الكاف في [كَمَا أَخْرَجَكَ] فان حرف الكاف من الحروف المهموسة ومخرجه من أقصى اللسان أسفل من مخرج القاف قليلاً ، وأختلف فيه على وجوه :
الأول : إنه حرف دائماً .
الثاني : إنه اسم دائماً .
الثالث : إنه مشترك فتارة يكون حرفاً وأخرى اسماً .
والمختار والمشهور هو الأخير فهي من الحروف الأحادية التي تجمع بين معنى الحرف والاسم ، ولا يدخل فيها معنى الفعل ، ومن هذه الحروف الألف ، والتاء ، والنون ، والياء .
والكاف كحرف تكون جارة وغير جارة ، أما الكاف كاسم فتكون جارة.
وهي في آية البحث اسم بمعنى مثل ، ويكون لها محل من الإعراب .
وهل يمكن أن تأتي الكاف في موضع واحد من القرآن بمعنى الاسم ، وأحد معاني الحرف وإرادة التشبيه كما لو قلت الآية كالميثاق ، ومعنى التعليل والإستيلاء والتعجب ، الجواب نعم ، فان تقسيم الكاف إلى حرف واسم ، وتقسيم الحرف إلى عامل وغير عامل ، إنما هو تقسيم استقرائي ، ومن إعجاز القرآن أن معنى الحرف واللفظ فيه أعم من التقسيمات الإستقرائية للعلوم المختلفة .
والمختار أن إخراج الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر والمذكور في الآية الكريمة هو على قسمين :
الأول : المشبه.
الثاني : المشبه به ،وهو من إعجاز القرآن بتجدد معنى اللفظ القرآني وتضمنه المعاني المتضادة بلحاظ أمور :
الأول : القرائن الحالية والمقالية .
الثاني : الشواهد التأريخية .
الثالث : أسباب النزول .
الرابع : علم الناسخ والمنسوخ.
الخامس : المحكم والمتشابه.
السادس : المطلق والمقيد .
السابع : العام والخاص ونحوه .
الخامس: تفسير القرآن بعضه لبعض ، والصلة بين كل آيتين من القرآن .
وقد صدرت لي والحمد لله أجزاء بخصوص هذه الصلة وهي :
- الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
- الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
- الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
- الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
- الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
وتدل آية البحث على قانون (لم يغز النبي(ص) أحداً) والذي أختص هذا الجزء ببيانه والإستلال عليه .
ليتعلق المشبه به بأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل ، وهو من إعجاز القرآن وإحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث.
الثالث : كما أخرجك ربك في الكتائب السابقة كما في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة الأبواء وتسمى غزوة ودان( )، في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة ، ولم يلق قتالاً .
وكما في توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نجد وهي كتيبة الفرع في ذات الشهر من السنة الثانية ، ولم يلق قتالاً أيضاً ، وكما في توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بواط .
وتوجه إلى بدر الأولى في شهر ربيع الأول من السنة الثانية ، ولم يلق قتالاً ، إذ فرّ العدو من أمامه .
وكما في توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذي العشيرة في شهر جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة ، ولم يلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً ، إنما عقد ميثاق عدم اعتداء مع بني مدلج.
وهذه هي الكتائب التي خرج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة بدر ، والتي تسمى من قبل المفسرين وكتاب السيرة بالغزوات ، ولا أصل لهذه التسمية .
جمع الآية بين البشارة والتذكير بفضل الله
لقد جاء التشبيه في قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( )، لبيان مسائل :
الأولى : تعدد المشبه به ، وهل يكون المشبه متحداً ، الجواب لا .
الثانية : حضور المشبه به في الوجود الذهني واليومي للمسلمين .
الثالثة : إرادة قانون البشارة بنجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوجه إلى معركة بدر ، وتقدير الآية : كما أخرجك ربك بالحق من بيتك في الكتائب السابقة ، وعدت سالماً فكذا ستعود سالماً في هذا المسير .
ترى لماذا هذه البشارة ، الجواب للتباين بين الخروج في الكتائب السابقة وبين الخروج إلى معركة بدر التي سيكون فيها قتال شديد .
وهل كانت هذه البشارة حاجة ، الجواب نعم .
إذ بعث الله السكينة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفوس أصحابه ، وهو من عمومات قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ]( ).
وهل السكينة مطلوبة بذاتها أم تترشح عنها غايات حميدة أخرى ، الجواب فهي نوع وسيلة ومقدمة لتنجز منافع عظيمة كما يدل عليه قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ).
و(عن الزهري قال : لما نزلت هذه الآية { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}( ) قالوا : يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص.
قال : إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا : يا رسول الله فهل لذلك دلالة في كتاب الله.
قال : نعم . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} فالإنقلاب نقصان لا كفر) ( ).
لقد كانت معركة بدر سبباً لزيادة الإيمان ، كماً وكيفاً من جهات:
الأولى : تثبيت إيمان المهاجرين والأنصار لرؤية معجزة النصر على المشركين ، فان قلت هل كل نصر معجزة ، الجواب لا ، إنما كان هذا النصر في معركة بدر خارج قاعدة السبب والمسبب ، والمقدمة وذيها ، وقواعد وفنون الحرب ، إذ يميل النصر إلى كفة الأكثر عدداً وعدة والسكينة حال من الطمأنينة تملأ القلب ، وتكون واقية من الإضطراب والإرتباك والكآبة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد بالدعاء وسؤال السكينة قبل بدر ، وبعدها للدلالة على الحاجة إليها في أمور الدين والدنيا .
ويؤدب أصحابه على سؤال نزول السكينة للنبي فهي مفتاح النجاح ، وواقية من الزلل ومن استحواذ النفس الغضبية والشهوية .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة، ولكن تبعًا لقول أصحابه، فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون:
لاهُمَّ لوْلا أنت مَا اهْتَدَيْنَا مَا اهْتَدَيْنَا … وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنزلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا … وَثَبِّت الأقْدَامَ إنْ لاقَيْنَا
إنّ الألى قَدْ بَغَوا عَليْنَا … إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا)( ).
ومعنى (لاهُمَّ) أعلاه بالله.
قانون الشكر العام على نعمة نجاة النبي ليلة المبيت
دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت على نعمة نجاته في المقام من وجوه :
الأول : نعمة حضور الوحي لخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إذ أنحصرت النجاة بالوحي ، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتاداً على الرواح إلى بيته ليلة ، فاتفق المشركون على قتله في تلك الليلة لولا أن منّ الله عز وجل عليه وعلينا بنزول جبرئيل يأمره بالهجرة في تلك الليلة ، ليكون أوان الهجرة هذا معجزة حسية مستقلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشاهداً على نبوته .
الثاني : إعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين بالهجرة من غير قتال .
الثالث : عدم إصرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على البقاء في مكة وأنها دار آبائه .
الرابع : تهيئة مقدمات خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وجعل غشاوة على أبصار المشركين فلم يروه حين خروجه .
وكانت قريش تشاورت في دار الندوة لإختيار كيفية العمل لوقف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام ، واقترحوا عدة وجوه ، إلى أن اقترح أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة (572-624) م (52ق.هـ – 2 للهجرة ).
اختيار شاب نهد جَلد من كل قبيلة ، ويعطى له سيف صارم فيضربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ضربة رجل واحد .
وقال (فَيَتَفَرّقُ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ فَلَا تَدْرِي بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ تَصْنَعُ وَلَا يُمْكِنُهَا مُعَادَاةُ الْقَبَائِلِ كُلّهَا وَنَسُوقُ إلَيْهِمْ دِيَتَهُ) ( ).
فأرتضى الملأ من قريش هذا الرأي، ولم تكن فترة بين الإقتراح وقبوله وبين ساعة التنفيذ التي جعلوها بذات ليلة اليوم الذي اجتمعوا فيه وقبلوا هذا الإقتراح لجهات :
الأولى : خشية تسرب الخبر وبلوغه إلى بني هاشم وإلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، خاصة وأن قريشاً صارت تعلم بدخول الإسلام إلى بيوتهم .
الثانية : إجتناب رجوع بعض القبائل عن تنفيذ هذه الجريمة ، وما فيها من لحوق العار بقريش بين القبائل .
الثالثة : غلبة النفس الغضبية على قريش ، وميلها للإنتقام والبطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : صبغة الإرهاب التي يتصف بها المشركون عند تولي الرياسة والأمرة ، وفي هذا المكر والخطأ خيانة لولاية البيت الحرام ، لذا قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الخامسة : الشكر لله عز وجل على نزول جبرئيل في الحال من وجوه :
الأول : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما قررته قريش في إجتماعها .
الثاني : ضرورة الهجرة ومغادرة مكة لإتمام الرسالة ، وهو من مصاديق آية البحث [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ] ( ) .
الثالث : الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يبيت في مضجعه إنما يبيت فيه علي عليه السلام .
السادسة : الشكر لله عز وجل على تهيئة مقدمات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والإقرار بأن الهجرة حقن للدماء ، فيتحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأذى ، ويتعرضون للأخطار سواء في الهجرة إلى الحبشة أو إلى المدينة لإجتناب الصدام والقتال مع المشركين .
السابعة : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة وأهوالها المحتملة عادة ، والطارئة الناتجة عن محاربة المشركين وسعيهم في اللحوق به ، وإعادته إلى مكة .
الثامنة : وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً إلى المدينة من طريق الهجرة خاصة ، وأن الأنصار تعهدوا بالذب والدفاع عنه في حال وصوله إلى المدينة [يثرب] أي أنهم غير مسؤولين لما يتعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأخطار في طريق الهجرة .
فجاءت آية البحث لتخبر بأن الله عز وجل هو الذي حماه وذبّ عنه ونجاه في طريق الهجرة ، وقد تقدم البيان وفيه نجاة للنبي ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ) الجواب نعم ، والآية أعلاه من سورة الزمر وهي مكية نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من معانيها البشارة بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت بنزول جبرئيل ، ونجاته في طريق الهجرة ، وهل كان جبرئيل مصاحباً للنبي في هذا الطريق ، المختار نعم ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو أعظم إذ قال كما في آية الغار [لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] ( ) ومن معاني المعية هنا الوقاية والعصمة والأمن والسلامة والنجاة . .
التاسعة : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة نجاته في المقام ، ووصوله سالماً إلى المدينة من طريق الهجرة ، خاصة وأن الأنصار تعهدوا بالذب والدفاع عنه في حال وصوله إلى المدينة (يثرب) ، أي أنهم غير مسؤولين لما يتعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأخطار في طريق الهجرة , فجاءت آية البحث لتخبر بأن الله عز وجل هو الذي حماه وذب عنه ونجاه في طريق الهجرة ، وليكون يوم وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة عيداً للمسلمين.
من تفسير الآية 101 سورة آل عمران
ابتدأت الآية السابقة بالخطاب التشريفي للمسلمات والمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة , والنسبة بين [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وبين الخطاب اعلاه عموم وخصوص مطلق ، لبيان إكرام المسلمين بتلقى الخطاب العام مع الناس ، ثم الخطاب لهم والذي يتضمن تارة الأمر كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فمع قلة كلمات هذه الآية أربعة أوامر ، مما يدل على أهلية المسلمين لخطاب التشريف هذا ولمنزلة الخلافة في الأرض ، وكون شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة في أحكامها للشرائع ،وأختتمت الآية بالبشارة بالفلاح والنجاح .
ومن إعجاز الآية السابقة مجيؤها بصيغة الجملة الشرطية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ) ، ولم تقل بما يدل على طاعة المسلمين للذين أوتوا الكتاب ، وفيه إكرام أضافي للمسلمين .
وقد حذّر الله عز وجل المسلمين من إتخاذ وليجة وبطانة من دونهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) ثم ابتدأت آية البحث بحرف العطف الواو للبيان ، وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع بما يدل على عدم تحقق الكفر في الواقع للتضاد بين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وبين الكفر .
قانون نَهي القُرآنِ والسُّنَةِ المُغتربينَ عَن الإرهابِ
من خصائص الكتاب السماوي أنه كتاب أوامر ونواهي ، وهو من أسباب محاربة رؤساء الشرك للأنبياء ، وسعيهم لمنعهم من التبليغ، وتجلى هذا القانون المركب برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ نزل القرآن بالأوامر والنواهي ، وقيل أن عدد آيات الأحكام خمسمائة آية( )، ولابد من إحصاء عدد الأوامر وعدد النواهي في القرآن .
عن الزبير بن العوّام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : العباد عباد الله والبلاد بلاد الله ، فحيث وجدت خيراً فأقم واتق الله( ).
عن أبي ذر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع : بحب المساكين وأن أدنو منهم ، وأن لا أنظر إلى من هو فوقي ، وأن أصل رحمي وإن جفاني ، وأن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز تحت العرش ، وأن أقول الحق وإن كان مرًّا ، ولا أخاف في الله لومة لائم ، وأن لا أسأل الناس شيئاً.
للبعث على الذكر والتواضع ، والتقيد بأحكام الشريعة والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة وجاء أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي ذر بحب المساكين والدنو منهم مطلقاً من غير تقييد بملة دون أخرى وفيه مواساة للفقراء ، وشاهد على لزوم الإمتناع عن الإضرار بالغير من باب الأولوية القطعية.
وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول الحق إذا رآه وتابعه ، فإنه لا يقرِّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق ، أو أن يذكر بعظيم( ).
والنسبة بين قول الحق والإرهاب هي التضاد ، ومن قول الحق بالنسبة للمغترب الصدق والأمانة والوفاء بالعهد وبيان قبح واضرار الإرهاب والنهي عنه.
وأخرج أحمد وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالًا ثُمَّ لَا يَقُولُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ فَيَقُولُ رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ فَيَقُولُ وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى)( ).
لبيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه في المقام الأمر بالتقيد بقواعد المواطنة ، وقوانين البلد الغربي والنهي عن الخروج عليها ، والمنع من الإرهاب ، ولابد من زجر الذين يسعون في الإرهاب ومقدماته والنصح وكشف بطلان الإرهاب ، وأنه خلاف سنن الإسلام.
وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب سواء كان الدولة ومؤسساتها أو الأفراد أو المجتمع الذي يستقبل المغترب.
وبسند ضعيف عن النعمان (بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ، والجماعة رحمة)( ) ( ).
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل)( ).
ومنه ما ورد عن ثوبان قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر.
وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء)( ).
ويبين سلاح الدعاء التضاد بينه وبين الإرهاب بالذات والأثر ، فالدعاء نفع وخير محض للداعي وغيره ، والإرهاب ضرر على الذات والغير ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا]( ).
الإستغراب
لقد ظهر في السنوات الأخيرة علم يسمى علم الإستغراب ، وقد لا يرقى إلى مرتبة العلم ، وهو على نحو الضد من الإستشراق الذي يعني رؤية الشرق من الذات ، بلحاظ الآخر وهو الغرب ، (والإستغراب لغة الإفراط في الضحك ) (في ترتيب الضحك التبسم أول مراتب الضحك ثم الإهلاس، وهو إخفاؤه، عن الأموي ثم الافترار والانكلال وهما: الضحك الحسن، عن أبي عبيد ثم الكتكتة أشد منهما ثم القهقهة ثم القرقرة ثم الكركرة ثم الاستغراب ثم الطخطخة، وهي أن يقول: طيخ طيخ ثم الإهزاق والزهزقة، وهي أن يذهب الضحك به كل مذهب، عن أبي زيد وابن الأعرابي وغيرهما.) ( ).
ومن معاني الإستغراب هنا دراسة الشرق والغرب بموضوعية وحيادية وليتحول الغرب من دارس من مرتبة من مراتب العلو ورشحات الإستعمار إلى موضوع مدروس .
وهناك معنى آخر للإستغراب وهو الميل والشغف بثقافة الغرب ، والسعي لمحاكاتهم ، ليكون الإستغراب بهذا المعنى فرع الإستشراق ، ومن نتائجه ، فالمستغرب هنا تلميذ المستشرق .
فتراه يتكلم لغة شرقية وورث ثقافة قومه وأمته ، ولكنه مفتون بثقافة وحضارة الغرب ، فتكون عنده النفرة من القديم والتقليد ويربوا بينها وبين الجمود والتخلف من لا اصل له .
والميل إلى التحرر من الضوابط الشرعية وقواعد الأعراف المتوارثة ، مع إظهار مصطلحات الحداثة وثقافة العصر .
إذن هناك معنيان متضادان لإصطلاح الإستغراب ، ولابد من إختيار مصطلح آخر للمعنى المستحدث للإستغراب دراسة الشرق للغرب مثل التغريب ، ويصح أن يكون مركباً مثل دراسة الغرب .
ترى ما هي الصلة بين المغتربين والإغتراب بشقيه ، الجواب ليس من صلة موضوعية كبيرة في المقام ، إذ يغلب موضوع المواطنة والإنضباط وفق القوانين ، ولزوم التفقه في ثقافة البلد وإيجاد العذر لهم ، وعدم ترك العنان للنفس الغضبية والحسد .
وهناك روابط إجتماعية وأخلاقية بين أبناء الوطن الواحد تملي عليهم مجتمعين ومتفرقين تعاهد السلم الأهلي ، والحفاظ على الأنظمة القائمة من غير تعطيل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكرة بشرط سلميته وعدم معارضته مع القوانين والأنظمة والأعراف السائدة في البلد .
تقدير تعلق [لَكَارِهُونَ]
من إعجاز آية البحث تقييد محل الكراهة للخروج بأنها عند فريق من المؤمنين ، وليس كلهم ، وهل يحتمل إضافة المنافقين معهم ، الأقرب أنه لم تكن قبل معركة بدر طائفة منافقين ، ولكن الآية لم تمنع من وجود كراهة عند المسلمين الذين لم يرقوا إلى مرتبة خاصة في الإيمان والتقوى ، وأن الإيمان أسمى وأرقى مرتبة من الإسلام ، فخص الله عز وجل المؤمنين بالذكر، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
والكراهية كيفية نفسانية ليكون من إعجاز الآية صدق نزولها من عند الله عز وجل لأنها تخبر عن السرائر التي لا يعلم بها إلا الله عز وجل ، وإن أخبرت الآية التالية عن قيامهم بجدال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والظاهر ترشح الجدال عن هذه الكراهية.
وقد ورد لفظ [ كَارِهُونَ] في القرآن ست مرات ، ولم يرد باضافة اللام في أوله [لَكَارِهُونَ] إلا في آية البحث .
واللام هي المزحلقة ، جاءت هنا للتوكيد ، و[كَارِهُونَ] خبر إن مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : لكارهون الخروج من المدينة .
الثاني : لكارهون قطع مسافة طويلة في المسير إذ يبعد موضع بدر عن المدينة نحو (150) كم ، وفي حديث لأبي أيوب الأنصاري قال (قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بالمدينة وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا ، فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتعادّ ففعلنا ، فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
فأخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدّتنا ، فسر بذلك وحمد الله وقال : عدة أصحاب طالوت .
فقال : ما ترون في القوم فانهم قد أخبروا بمخرجكم؟
فقلنا : يا رسول الله لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم إنما خرجنا للعير)( ).
إذ أخبر أبو أيوب بأنهم ساروا يومين ، ولا زالوا في الطريق ، لقد كان بعض الصحابة يمشي على رجليه .
الثالث : لكارهون للقتال .
الرابع : لكارهون لطلب المشركين ، قاله السدي( ) ، وليس من دليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطلب المشركين عند خروجه من المدينة ، ولو تردد الأمر بين الخروج من المدينة لطلب قتال المشركين وبين عدمه ، فالأصل هو الثاني لجهات :
الأولى : دليل الإستصحاب إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخرج وأصحابه حول المدينة ، ويبتعدون عنها ، ولم يلقوا قتالاً .
الثانية : أصالة البراءة .
الثالثة : ورود النصوص بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يدركوا وجود جيش المشركين إلا قريباً من معركة بدر.
الرابعة : كان تحشد وجمع جيش قريش الخارج إلى معركة بدر في ثلاثة أيام.
الخامسة : تجلي مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الخامس : لكارهون للمشقة وأهوال السفر .
السادس : كارهون قلة ما أصابهم من الغنائم ، لذا قيدت الآية موضوع الكراهة بأنه عند طائفة من المؤمنين .
وقيل الكارهون في الآية أبو أيوب الأنصاري ومن الذين لم يكرهوا المقداد ، ولعله لما أخرج عن أبي أيوب الأنصاري قال (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بالمدينة وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال : ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا ، فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتعادّ ففعلنا ، فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدّتنا ، فسر بذلك وحمد الله وقال : عدة أصحاب طالوت .
فقال : ما ترون في القوم فانهم قد أخبروا بمخرجكم؟
فقلنا : يا رسول الله لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم إنما خرجنا للعير ، ثم قال : ما ترون في قتال القوم؟
فقلنا مثل ذلك ، فقال المقداد : لا تقولوا كما قال أصحاب موسى لموسى [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] ( )، فأنزل الله [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( )، إلى قوله [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ]( )، فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين أما القوم وأما العير – طابت أنفسنا ، ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إني أنشدك وعدك .
فقال ابن رواحة : يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ورسول الله أفضل من أن نشير عليه إن الله أجل وأعظم من أن تَنْشُدَهُ وعده . فقال : يا ابن رواحة لأنْشُدَنَّ اللهَ وعده فإن الله لا يخلف الميعاد ، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجوه القوم فانهزموا ، فأنزل الله وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى( ).
ولكن وصول نبأ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يكن في يوم أو يومين كما في الخبر أعلاه فبعد أن قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه به مسافة وبلغ أبا سفيان وقافلته نبأ خروجهم بعث رسولاً إلى قريش وهو ضمضم بن عمرو ليقطع على بعيره مسافة نحو (300)كم ويبلغ قريشاً ، فيخرجوا في ثلاثة أيام ، ويلزم بضعة أيام كي يصل خبر خروجهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، نعم كان علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخروج بالوحي ، من حين خروجهم .
وعلى فرض أن المراد من الكراهة في المقام أنه القتال ، فيكون تقديره على وجوه :
الأول : لكارهون الخروج من المدينة لما في الخروج من الأهوال.
الثاني : لكارهون الخروج لأن فيه احتمال للضرر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تعهد الأنصار بالذب عنه في المدينة ، وأتسع هذا التعهد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي المعجزات على يديه .
الثالث : لكارهون الخروج وترك العيال والأهل .
الرابع : لكارهون تعدد الخروج في كتائب وسرايا من المدينة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليهم لأن هذا الخروج أمر مستحدث.
الخامس : لكارهون لقاء العدو والقتال ، وهذه الكراهة لأسباب:
الأول : قلة عدد الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، بينما كان عدد المشركين نحو ثلاثة أضعاف هذا العدد .
الثاني : كثرة عدد الخيل عند المشركين ، إذ كان عندهم يوم بدر مائة فرس( ) ، بينما لم يكن عند المسلمين سوى فرسين .
الثالث : النقص الظاهر في المؤون والسلاح عند المسلمين .
الرابع : عدم استعداد الصحابة للقتال ، ولم يتمرنوا على الرماية والمسايفة ، إنما كان همّهم إتقان أفعال الصلاة ، وأداءها في أول وقتها جماعة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق نعتهم بالذلة ، وأسباب نصرهم يوم بدر ، قال تعالى [ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الخامس : كراهية الصحابة للقتال وسفك الدماء مطلقاً .
السادس : لكارهون إصرار الذين كفروا من قريش على القتال.
السابع: كارهون إبتداء المعارك والقتال بين المسلمين والكفار لوجوه :
الأول : احتمال قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن قريشاً يريدون قتله .
الثاني : كراهية المؤمنين للقتال مطلقاً ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
الثالث : تفقه الصحابة في الدين ، ومعرفتهم بأن الناس يدخلون الإسلام بتوالي المعجزات .
الرابع : كارهون للمشركين الذين يطلبون يوم بدر قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تجلت معجزاته لهم ، فالكفار الذين هجموا في معركة بدر إنما هم عشيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لتكون هذه الكراهة سبباً في صبر ودفاع الصحابة عنه.
الخامس : كارهون لمن يكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
السادس : كارهون لعدم مطاردة وملاحقة كفار قريش عند هزيمتهم .
السابع : كارهون بقاء أسرى الكفار ، ولم يقتلوا .
الثامن : كارهون الكيفية التي تم فيها تقسيم الغنائم .
التاسع : كارهون لإحتمال تجدد القتال ، وطلب قريش الثأر ، فحالما رجعت قريش من معركة بدر إلى مكة أعلنوا الإستعداد والتهيؤ للثأر.
ومن إعجاز آية البحث ذكرها حصول الكراهة عند فريق من المؤمنين ، وفيه مسائل :
الأولى : الكراهة كيفية نفسانية ،وليس فعلاً وعملاً ، ولكن الآية التالية أخبرت عن جدالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : حدوث الكراهة عند طائفة من المؤمنين لبيان أنهم ليسوا منافقين ، وليس من نفاق قبل معركة بدر ، إنما حدث النفاق بعدها وعندما ظهرت منعة الإسلام ، وصار قوياً , فأظهرت جماعة الإسلام وأداء الصلاة مع أنهم يبطنون الكفر ، ومما يدل على حال الضعف عند المسلمين أيام معركة بدر قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ..]( ).
الثالثة : يحتمل موضوع الكراهة في المقام وجوهاً :
الأول : كارهون بقاء قريش على الكفر.
الثاني : كارهون لتكرار الخروج في الكتائب والسرايا .
الثالث : كارهون ترك المدينة وإقامة الصلوات اليومية الخمس فيها .
الرابع : كارهون ملاقاة جيش المشركين .
الخامس : كارهون الكفار والمشركين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والأصل فيها هو الوجه الرابع أعلاه ، وتقدير الآية أن المؤمنين سلّموا بالخروج من المدينة ولكن حينما قرب التقاء الصفين كرهوا هذا اللقاء.
وكما ذكرت آية البحث إنحصار وجوه الكراهة عند فريق من المؤمنين.
قانون نصر الرسل من غير غزو
يحتمل النصر والغلبة في قوله تعالى [لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي]( ) وجوهاً :
الأول : المراد خصوص الرسل من الله ، وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
الثاني : إرادة شطر من الرسل والأنبياء ممن دخلوا المعارك مع المشركين ، كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
وعن الإمام الباقر عليه السلام (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي) ( ).
الثالث : المقصود من قوله تعالى [لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي] ( ) جميع الأنبياء ، فقد يأتي لفظ الرسل ويراد منه عموم الأنبياء والمرسلمين.
الرابع : المراد جميع الرسل من البشر ومن الملائكة .
الخامس : إرادة الأنبياء وأتباعهم الذين على نهجهم ، وإن تعاقبت وتباعدت الأجيال .
والمختار هو الأخير ، لذا قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
ومن معجزات النبي مسائل :
الأولى : عدم حصول الإنشقاق عليه .
الثانية : عدم قتاله لأهل الإيمان ، وأتباع الأنبياء السابقين ، والذين عندهم كتاب سماوي .
الثالثة : لا يقاتل النبي والرسول إلا دفاعاً واضطراراً لذا فان النبي محمداً لم يغز أو بلدة، نعم إذا بلغه أن قوماً يستعدون لقتاله والإغارة على المدينة سار إليهم ليتفرقوا ، وكان يحرص على إخفائه هذا المسير .
ومن أسرار إتصاف معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها عقلية وجوه :
الأول : عدم لجؤء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغزو .
الثاني : عجز المشركين عن إلحاق الهزيمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تجدد نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تفرق جموع المشركين الذين يريدون غزو المدينة .
من أدلة الدفاع في السنة النبوية( )
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة بني المصطلق والتي تسمى غزوة بني المصطلق لمنع جيوش المشركين من غزو المدينة ، إذ (بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ وَقَائِدُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ، زَوْجِة رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِهِمْ خَرَجَ إلَيْهِمْ حَتّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُرَيْسِيعُ ، مِنْ نَاحِيَةِ قَدِيدٍ إلَى السّاحِل ِ فَتَزَاحَفَ النّاسُ وَاقْتَتَلُوا ، فَهَزَمَ اللّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَنَفّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأْفَاءَهُمْ عَلَيْهِ)( ) .
ولم يخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حين بلغه خبر الحشود لغزو المدينة ، إنما أرسل لهم بُريدة الذي تظاهر بأنه جاء لإعانتهم وجلب أفراد من قبيلته لنصرتهم ، وقد تقدم التفصيل .
وذكر الطبراني أن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار قد قتل في المعركة ، ولم يثبت هذا القول ، فقد أصبح من الصحابة ، وهو والد أم المؤمنين جويرية .
وكان بنو المصطلق ممن اشترك مع المشركين في غزو مشارف المدينة المنورة في معركة أحد بعد أن بلغتهم الدعوة إلى الإسلام ، لذا خرج إليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبعمائة من أصحابه فيهم ثلاثون فارساً .
وكانت ديار بني المصطلق في القديد ، وهو وادي طويل يبعد أوله عن مكة نحو (150) كم ، وفيه أدرك سراقة بن مالك النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لإرادة قتله أو أخذه أسيراً لقريش لقبض مقدار ديته ودية صاحبه من قريش .
فأنجاه الله عز وجل ليعود إلى ذات الوادي في السنة الخامسة للهجرة في سبعمائة من أصحابه مدججين بالسلاح ، لا يبتغون إلا رضوان الله ، قال تعالى أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
ترى لماذا خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق ، الجواب من وجوه :
الأول : المنع من قتل المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : هذا الخروج من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما احتجوا على جعل خليفة في الأرض بأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، إذ أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى بني المصطلق منع للفساد ونهب وسلب أهل المدينة ، وسفك الدماء فيها من الطرفين.
الثالث : تفرق بني المصطلق حالما سمعوا بقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما أصابهم من الرعب ، وهو سلاح يغني عن الغزو.
لقد نجى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة المبيت في مكة ، وهاجر حينئذ إلى المدينة ، ولكن عزم وقصد المشركين قتله لم ينقطع بل تعدد من جهات :
الأولى : إرادة المشركين قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال .
الثانية : التخطيط لإغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثالثة : عزم المشركين من غير قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : تكرار محاولات اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصرف شرورها بمعجزة من عند الله .
الخامسة : التواطؤ بين الكفار وغيرهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل كان المنافقون يسعون أو ينتظرون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم لا .
الجواب لم يكن المنافقون على مرتبة واحدة من الضلالة ، والمختار هو أن طائفة منهم كانت تنتظر قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه كما في معركة أحد .
ماذا لو تُرك بنو المصطلق يجمعون الجيوش
ولقد كان بنو المصطلق في تحشيد الجيوش يرومون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، لذا كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ضرورة ولدفع المفسدة ، لذا بادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخروج إليهم خشية مباغتتهم لأهل المدينة في ليلة من الليالي ، كما اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوصول إلى ديارهم وهم غارون أي ذاهبون في غارة لمنع إلتقاء الجيوش ، ووقوع الخسائر في الطرفين.
فمن إعجاز النبوة تأديب المسلمين في تعاهد السلم ، وقاعدة تقديم الأولى ، إذ تقدم الحاجات الضرورية وتقدم المصالح العاجلة، كما يقدم درء المفسدة على جلب المصلحة .
ولحاظ قاعدة تقديم الأهم على المهم ، وموضوعية الصبر في مناهج النبوة ، والتدرج بالتكاليف والأعمال ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
وهل من صلة بين قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) وبين كتيبة بني المصطلق ، الجواب نعم ، فلم يكن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم غزواً ، إنما هو منع للغزو ، وتشتيت الجموع ، وجعلهم يرجعون إلى ديارهم وأعمالهم في الزراعة والرعي والكسب ، ويتفكرون في النبوة ومنافعها في النشأتين ، وعبادة الأوثان وأضرارها.
ولو ترك بنو المصطلق وشأنهم لأغاروا على المدينة وقت السحر من أكثر من جهة واستفادوا من تجربة فشل قريش في معركة بدر ومعركة أحد ، إذا جاءت قريش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو مكشوف ، وفي النهار ظناً منهم أن كثرتهم وأسلحتهم تقضي عليه وعلى أصحابه وتوقف نزول آيات القرآن ، فصار الكفار يفكرون بالمكر والحيلة في كيفية الهجوم ، واعتماد صيغة المباغتة .
فكان الوحي حاضراً بالأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسير لهم وتفريق جمعهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، لما في هذا التفريق من حقن للدماء ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما تساءلوا عن خلافة الإنسان في الأرض مع فساده وسفك للدماء ، إذ يبين هذا التفريق ، ورضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعده بصلح الحديبية على قانون وهو وظيفة الأنبياء حقن الدماء ومنع الغزو والنهب والسلب .
ولو دار الأمر في سبب قيام بني المصطلق بجمع الجيوش لغزو المدينة بين إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصرة لقريش وعبادة الأصنام ، وبين خشيتهم من إنتقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم لمؤازرتهم قريشاً في معركة أحد وغيرها.
فالصحيح هو الأول ، فلم ينتقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش نفسها سواء قبل كتيبة بني المصطلق أو بعدها ، وهو الذي إختار الصلح ورضي بشروط قريش يومئذ ، ليكون هذا الرضا والقبول على وجوه :
الأول : إنه مصداق لقوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
الثاني : إمتثال وعمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين الآية القرآنية وهو من شرائط الإمامة .
الثالث : إمتناع التعارض بين آيات القرآن والسنة النبوية .
الرابع : هذا الرضا شاهد على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
ثم أن بني المصطلق بطن من خزاعة ، وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويوادونه ، ويتألمون لما يصيبه من الأذى ، وكانوا على حلف مع بني هاشم ، ولكن بني المصطلق انساقوا وراء المنافع المالية والتجارية التي تربطهم مع قريش ، مع عصبيتهم للصنم الذي يعبدون وهو (مناة) وإدراكهم لحقيقة وهي أن سيادة الإسلام تزيحه ، قال تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) .
والآية أعلاه من سورة النجم وهي مكية ، واللات لأهل الطائف ، والعزى لقريش ، أما مناة فهي في قديد محل سكن بني المصطلق.
وكان الأوس والخزرج يعبدونها ، ولم يطق بنو المصطلق صيرورة الأوس والخزرج يتنزهون بالإيمان والصحبة عن التقرب أو التزلف لها ، مع استعدادهم لهدمها ، وتوجيه اللوم لمن يعبدها ، ويتقرب إليها ، وبيان أنها حجارة لا تنفع ولا تضر .
(وقال بعضهم : اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها) ( ).
وقالوا أنها بنات الله ، واشتقوا لها أسماء من الأسماء الحسنى ، فاللات من اسم الله ، والعزى من اسم العزيز ومناة من المنان ، وهو من مصاديق ذمهم الوارد في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا] ( ) .
والظاهر أنها سميت مناة لما يمنى عندها من دم النسائك ، إذ كانوا يذبحون النذور ونحوها عندها.
وكما تجهز قبيلة بنو المصطلق الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاعاً عن الصنم (مناة ) فان القبائل الأخرى تحذو حذوها في الدفاع عن أصنامها .
لذا فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يخشى مثل هذه الحشود وموضوعها ، ولم يهادن حتى يستتب له الأمر ، ثم يقوم بالتدرج في النهي عن عبادة الأصنام ، ثم إزاحتها ، إنما نزلت السور المكية بذم الأصنام ، وأخبرت بأن عبادتها طريق لدخول النار ، فتفضل الله عز وجل على المسلمين وأنزل سورة الفاتحة في مكة ، وأمر بأن يقرأها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل مسلم ومسلمة في صلاتهم اليومية ، وفيها التضرع والدعاء ، [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بصيغة القرآنية.
وهل نفعت هذه التلاوة المسلمين في التنزه والتخلص السريع من شوائب الوثنية ، الجواب نعم ، وهو من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه شاهد بأن الإسلام قام وساد باعجاز القرآن والحكمة وتنقية القلوب وليس بالغزو .
ومن الحكمة وعدم ميل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القتال أنه لم يتوجه نحو بني المصطلق حالما جاء الخبر بقيامهم بجمع الجيوش ، ويمكن أن يتوجه إليهم بالوحي ، عندما بلغه خبرهم أو قبل أن يبلغه ، وفيه مسائل:
الأولى : يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم الحجة.
الثانية : يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين موضوعية البينة.
الثالثة : خروج المسلمين مع النبي من غير جدال أو إحتجاج.
الرابعة : فيه معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعد أن كره فريق من الصحابة الخروج إلى بدر ، وجادلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القتال مع أنه دفاع ، إذ ورد قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ] ( )، خرجوا معه إلى بني المصطلق من غير جدال.
وكان عدد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ، بينما خرج معه سبعمائة إلى بني المصطلق مستجيبين من غير كراهة أو جدال ، قال تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
وهل يحتسب تفريق جمع المشركين ، ومنعهم من غزو المدينة الوحيدة في الأرض للإسلام غزواً وغزوة ، الجواب لا .
قانون البسملة رحمة عامة
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بجعل البسملة في أول كل سورة من القرآن باستثناء سورة التوبة ، ليكون هذا الإستثناء دعوة لكل مسلم ومسلمة لإستقراء المسائل من عموم البسملة ومن هذا الإستثناء .
جاءت البسملة في قوله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، لبيان قانون وهو البسملة آية من القرآن ، وإن اختلف العلماء في كون البسملة في أول كل سورة آية أو جزء آية ، أو ليس بآية إنما هي للفصل أو أنها آية فقط في سورة الفاتحة دون غيرها .
والمختار أنها آية مستقلة من كل سورة عدا سورة التوبة (براءة) ليبعث (قانون البسملة آية من القرآن) السكينة في النفوس ، ويبعد عنها مقدمات الإرهاب والعنف .
وحتى في ذبح الشاة ونحوها لا ينطق الذابح ببسم الله الرحمن الرحيم إنما يذكر اسم الله فتحل الذبيحة ، قال تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ]( )، لبيان أن اسم الله عز وجل يذكر على الذبيحة ، مقدمة ليأكل منها الناس جميعاً من المسلمين وغيرهم .
مما يدل على التنافي بين البسملة وبين التعدي والظلم والإرهاب.
وقد اختلف هل البسملة آية من كل سورة أو لا ، على عشرة أقوال ، ولكن الإجماع على أنها آية من سورة الفاتحة ، وآية من سورة النمل .
ويجب أن لا يكون هذا الإختلاف هو الموضوع الأهم في البسملة إذ أن دلالاتها ومنافعها اليومية كثيرة ومتعددة للفرد والجماعة وفي أمور الدين والدنيا .
و(عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشتكى فأتاه جبريل فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، من كل كاهن وحاسد ، والله يشفيك)( ).
والرحمة ضد القسوة والشدة ، وقد ورد في البسملة اسم الجلالة ، لبيان القطع والوعد من الله عز وجل بسعة رحمته وشمولها للخلائق كلها ، ولبعث السكينة في نفوس الناس باللجوء إليه ، إذ لا يجدون إلا الرحمة في الدنيا والآخرة ، وليس من انقطاع لرحمة الله عز وجل من العبد وإن كان كافراً.
ترى ماهي الصلة بين رحمة الله ورسالة النبي محمد ، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالنبوة من رحمة الله عز وجل أما الصلة بين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين البسملة ، فالمختار أنها العموم والخصوص المطلق ، إذ جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبسملة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لتكون البسملة واجبة في الصلاة ، ومسنونة عند افتتاح كثير من الأفعال العبادية كالوضوء والغسل والتيمم ، وقراءة القرآن وفي المستحبات والمباحات.
وعن (عمر بن أبي سلمة قال : كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال : يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك)( ).
ونزلت آيات بالحضّ على البسملة في فعل مخصوص ويراد منه المعنى الأعم ، والإتيان بالبسملة في عالم الفعل ومنها شواهد تدل على تعاهد وجهاد الأنبياء بذكر وإشاعة البسملة ، وتأديب الناس عليها ، وفي نوح عليه السلام ورد قوله تعالى [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ولم يرد لفظ (اركبوا) و(مجراها) إلا في الآية أعلاه ، وقال تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، واختلف في النسبة بين الاسم والمسمى على وجوه:
الأول : الاسم هو المسمى ، وبه قال أبو عبيدة وسيبويه والباقلاني ، والفخر الرازي في مقدمة تفسيره ، ولم يقصدوا أن الاسم كلفظ يعني الذات التي هي عين والظاهر أن المراد هو أن مدلول الاسم عين المسمى وتخريج هذا المعنى لا يخلو من تكلف ومنه دلالة الاسم كلفظ على المعنى المجرد من الزمان.
الثاني : الاسم نفس المسمى وغير التسمية ، وبه قال الأشعرية وآخرون .
وهو لا يبتعد من الوجه الأول أعلاه .
الثالث : الاسم غير المسمى ونفس التسمية ، ونسب إلى المعتزلة.
الرابع : الإسم غير المسمى وغير التسمية ، وهو المختار .
فمعنى التسمية هي وضع الاسم أزاء معنى مخصوص وتكون نوع عنوان له ، والعنوان غير المعنون.
البسملة إصلاح
ليس قانون من حصر لوجوه رحمة الله بالناس ، ومنها ما جاء بواسطة الأنبياء مثل البسملة التي هي تأديب لعلماء وحكام المسلمين بالإبتداء بالبسملة في المعاملة وإشاعة التسامح مع أهل الكتاب وعامة الناس ، وهي لطف محض ودعوة للإحسان المتبادل ومانع من الإرهاب ، ولكن إن أصر أحد الأطراف على إبدالها بأحد مصاديق التسمية فيجوز هذا الإبدال فأي تسمية لله عز وجل تكفي في المقام.
والتسمية على وجوه منها قول : بسم الله ، ومنها القول الذي فيه ذكر الله ، أو التكبير ، أو التهليل ، أما البسملة فهي على شعبتين:
الأولى : قول بسم الله ، أي أنها مؤلفة من كلمتين : باسم ، الله ، على صيغة النحت.
والنحت لغة هو نحت النجار للخشب والعود إذا هذب أطرافه وسطوحه ، وكذا النحت في التماثيل وفي الحجر مطلقاً ، قال تعالى [وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ]( ).
الثانية : قول بسم الله الرحمن الرحيم.
أما النحت في الإصطلاح فهو الجمع والإختصاص لكلمتين أو أكثر متعاقبة وجعلها كلمة واحدة من مجموع حروفها ومنه مثلاً (الحيعل) وهي منحوتة من ثلاث كلمات مثل حي على الصلاة ، وحي على الفلاح ، وحي على خير العمل .
وقد يتألف النحت من المضاف والمضاف إليه ، ويقال مثلاً (عبدري) بالنسبة إلى عبد الدار .
ومن منافع النحت في اللغة الإيجاز والاختصار والتيسير في المنطق والتعبير ، وفيه زيادة في مفردات اللغة ويتوجه العالم الآن إلى الإختصار في العناوين والأسماء بأخذ الحرف الأول من كل كلمة من العنوان .
ومنهم من زاد في التفصيل بتعدد ضروب النحت وجعله على أقسام مع ذكره الأمثلة منها :
الأول : النحت الفعلي : بنحت فعل من ذات الجملة يكون دليلاً مختصراً عليها مثل (بسمل) من (بسم الله الرحمن الرحيم).
الثاني : النحت الوصفي .
الثالث : النحت الاسمي : بأن توجه اسماً من الجمع بين كلمتين مثل جلمود من (حمد ، وجلد).
الرابع : النحت النسبي : بان تنسب شخص الى بلدتين ، أو مذهبين معاً ، فمثلاً إذا كان شخص منسوباً إلى بغداد والبصرة تقول (بغدصري).
الخامس : النحف الحرفي : مثل (لكن) فهي منحوتة من لكن ، أن ، كما عن الفراء ، طرحت الهمزة للتخفيف ، ونون (لكن) للساكنين ، وقال غيره الأصل فيها (لا) و(أن).
السادس : النحق التخفيف .
وقيل لـ(عَبْدِ الأَعْلَى القاصّ حِينَ قِيلَ لَهُ : لِمَ سُمِّىَ العُصْفُور عُصْفُوراً ، قالَ : لأّنَهُ عَصَى وفَرّ)( )، ولا دليل عليه.
ومن النحت، هلّل : أي قال ، لا إله إلا الله .
وحمَدل أي قال الحمد لله.
والسمعلة مأخوذة من السلام عليكم ، وان كانت قريبة من سمع الله لمن حمده.
وقد تتعدد الكلمات المنحوتة مثل لا حول ولا قوة إلا بالله ، فانها تنحت في (حوقل).
والنحت في البسملة على شعبتين :
الأولى : النحت من كلمتين وهما : بسم ، الله .
الثانية : النحت من أربع كلمات وهي بسم الله الرحمن الرحيم.
ولابد من الفصل والتمييز في العنوان والمصطلح بين بسم الله ، وبين بسم الله الرحمن الرحيم ، ويحتمل أن يكون على وجوه :
الأول : يبقى باسم الله على حاله في الوصف من غير نحت ، ومنه قوله تعالى [بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا]( )، ويكون نحت البسملة خاصاً ببسم الله الرحمن الرحيم .
الثاني : إيجاد عنوان ومصطلح خاص لكل من باسم الله ، ومن بسم الله الرحمن الرحيم.
الثالث : اختصاص البسملة ، ببسم الله الرحمن الرحيم ، وهو المختار.
الثانية : بسم الله الرحمن الرحيم.
والنسبة بين التسمية والبسملة العموم والخصوص.
وكل من بسم الله ، وبسم الله الرحمن الرحيم ، نداء للسلام ، ومن الآيات مجيؤه في ابتداء الكلام والفعل ، وقد صاحبت البسملة الأنبياء ووردت في قصة نوح بما يدل على أنها سبيل نجاة ، وواقية لسفينته ومن يركب فيها ، وفي التنزيل [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وتصاحب البسملة الولد من حين تعلق النطفة.
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً)( ).
لتكون هذه المصاحبة واقية من الإرهاب ومن الظلم صدوراً أو تلقياً ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وافتتان ، فيقوم الإنسان بتحصين ولده ذكراً أو أنثى من حين الولادة ، حتى إذا ولد الإنسان وقارب سن الرشد والبلوغ توجه إلى الله بالدعاء وسؤال سلامته من الظلم والتعدي ، ظالماً أو مظلوماً.
و(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يَقُولُ : بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَزِلَّ أَوْ أَضِلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ)( ).
ومن معاني الإصلاح في البسملة وجوب تلاوة المسلم والمسلمة لها في الصلاة اليومية والترغيب بافتتاح الأعمال بها لتكون تنزيها للنفوس واستحضاراً لذكر الله وواقية من الفواحش ، ومن نزغ الشيطان .
وتتضمن البسملة الإخبار عن سعة رحمة الله وأنه تعالى رحيم بالناس جميعاً ، وفيه دعوة للتراحم والتوادد ونبذ الخصومات والظلم والتعدي ، وهي فيها دعوة للصلح والوئام ، الجواب نعم.
فهي باعث للسكينة في النفوس ، وهل اتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة إلى الإيمان ، الجواب نعم ، فهي تغزو القلوب وتنشر شآبيب الرأفة ، وتنفي الحاجة إلى الغزو.
قانون كل آية ثناء على الله
يمكن القول بقانون وهو كل آية من القرآن تتضمن الثناء على الله عز وجل في منطوقها أو مفهومها ، لذا ابتدأت سورة الفاتحة التي هي أول السور في نظم القرآن بالبسملة ثم الثناء والحمد لله عز وجل ، وقول [رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، ثناء على الله سبحانه في منطوقه ومفهومه مما يدل على أنه حتى الآية التي تتألف من كلمات قليلة تتضمن الثناء المتعدد على الله .
لإفادة قانون صيرورة الحياة الدنيا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دار الثناء اليومي المتكثر على الله عز وجل ، إذ يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، لوجوب قراءة سورة الفاتحة في الصلاة ، كما يرد الثناء على الله عز وجل في آيات سورة الفاتحة الأخرى وآيات السورة التي تقرأ مع الفاتحة ، وهل الإجتهاد في الصلاة والثناء على الله برزخ وصارف عن الغزو ، الجواب نعم.
فالقرآن مدرسة التأديب على الثناء على الله عز وجل ، وهو سبحانه يحب أن يسمع من الناس الثناء عليه ، وهذا الثناء شكر قليل منهم له سبحانه على النعم غير المتناهية التي تفضل الله عز وجل بها.
و(عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس شيء أحب إليه الحمد من الله ، ولذلك أثنى على نفسه فقال {الحمد لله})( ).
ومن الإعجاز في آيات القرآن أنها ثناء محض على الله عز وجل مع ذكر عظيم صنعه وبديع قدرته ، وفيها بعث لكل إنسان بأن يشكر الله عز وجل ويمدحه ويثني عليه ، وهذا الثناء تهذيب للنفوس ، ومانع من الإرهاب.
إن نزول الآية القرآنية من عند الله ، ووصفها بأنها كلام الله ، وجريانها على الألسن تأكيد للثناء على الله ، ويدرك معها العبد وجوب قيامه بالثناء على الله عز وجل ، وليس من حصر لوجوه هذا الثناء وبركته وما يترتب عليه من الثواب ، ومنه التسبيح والتهليل والشكر له تعالى ، وأداء العبادات والإمتناع عن المعاصي ، ومنها تلاوة الآية القرآنية مثل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وما فيها من الشهادة والإقرار بأن كل شئ في السموات والأرض هو ملك لله عز وجل ، وهو سبحانه على كل شئ قدير.
وهناك قاعدة في الفلسفة وهي : ما من عام إلا وقد خصّ .
وتدل آية البحث على عدم إطلاق هذه القاعدة في كبريات المسائل ، فالله عز وجل هو مالك السموات والأرض ، لا يخرج عن ملكه شئ ، وهو سبحانه على كل شئ قدير ، فلا تستعصي عليه مسألة ، ومن وجوه عدم إطلاق هذه القاعدة قوله تعالى[اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]( )، و[وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا]( )، [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
إذ تتضمن الآية أعلاه من سورة الزمر أمر من عظيم صنع وقدرة الله كل واحد منهما يشمل الكم والكيف وأفراد الزمان الطولية ، والمكان العرضية ، ولا يقدر عليهما إلا الله سبحانه.
والوكيل هو الذي يتوكل عليه ويتكل عليه ، ويلجأ إليه وتفوض الأمور إليه ، ولا يقدر على هذه الأمور إلا الله عز وجل سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة وفي كل زمان ومكان فليس من تخصيص في تفويض الأمور إلى الله ، وكفايته سبحانه للناس جميعاً ، وهذه الكفاية مطلقة أيضاً ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ومنها ما من نبي إلا والله عز وجل هو الذي بعثه ، وأن الله عز وجل يوحي اليه للملازمة بين النبوة والوحي.
وما من كلمة وآية من القرآن إلا وقد أنزلها الله عز وجل ، وما من غيث ومطر ينزل من السماء إلا بأمر من الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( )، ويتعدد الإطلاق الذي ينفرد به الله في هذا الآية من وجوه عديدة.
لبيان عموم فضل الله عز وجل وسعة رحمته ، وتوالي النعم منه سبحانه.
ومن منافع تعاهد الثناء على الله تنمية ملكة الأخلاق الحميدة ، وتهذيب المنطق ، وإشاعة لغة العفو والتسامح .
وهل يمكن القول بأن أول سورة نزلت من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، ونزول سورة الفاتحة في مكة ، قبل الهجرة وتلاوتها في الصلاة دعوة لجعل الثناء على الله مادة للصبر والتحمل ومانعاً من الغزو عند إزدياد عدد المسلمين وأسلحتهم وقوتهم ، الجواب نعم.
وليكون من معاني ودلالات نعت المسلمين بأنهم أذلة في معركة بدر مسائل :
الأولى : بيان ثواب الثناء على الله في جلب النصر.
الثانية : الشكر لله عز وجل على جمع المتضادين وهما النصر والذلة ، خلافاً لما قاله الفلاسفة من امتناع إجتماع الضدين ، وقواعد القتال.
الثالثة : دعوة المسلمين لتعاهد الثناء على الله عز وجل ، وهل الدعاء مطلقاً ، واجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشية وصبيحة بدر بالدعاء من الثناء على الله عز وجل ، الجواب نعم .
الرابعة : وجوب عصمة المسلمين من الظلم والتعدي شكراً لله سبحانه على نعمة النصر مع الذلة والإستضعاف والفاقة.
مصاديق الذلة في آية ببدر
هل من صلة بين الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل في مكة وبين النصر والذلة اللذين تذكرهما الآية الكريمة [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الجواب نعم ، فمن معاني الذلة في الآية أعلاه وجوه :
الأول : ابتداء الإسلام غريباً بين قوم مشركين ، فيقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة في البيت الحرام وفي مِنى عند زوال الشمس عن كبد السماء ، ويقف خلفه الإمام علي عليه السلام وخديجة أم المؤمنين ويُكبر ويكبران ، ويقرأ القرآن وينصتان ، ثم يركع ويركعان ، ويسجد ويسجدان ليشاهد أهل مكة والوافدون إليها لأداء الزيارة والعمرة أو الحج هذه المعجزة الحسية ، معجزة الصلاة جماعة التي هي حرب عملية سلمية ضد الإرهاب ، وعبادة الأصنام.
ويصيب الذين كفروا الذهول لماذا يحاكون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في أفعال الصلاة ، دون التلاوة إذ ينصتون طوعاً عندها ، كما ينصت الكفار قهراً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
ثم يعلم المشركون عدم انحصار أداء الصلاة بالنبي محمد وأهل بيته فالذين أسلموا من قريش وعامة أهل مكة يخرجون إلى البطحاء ، خارج مكة لأداء الصلاة ، وتلاوة القرآن والتدبر في معانيه ودلالاته ، وهو معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( )، ذكر أنها نزلت في أبي جهل ، إذ كان ينهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة ، ويؤذيه ويرمي عليه الأقذار وهو ساجد ويحرض قريشاً عليه ، وهو يقول لأصحابه (هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم) أي هل يسجد على الأرض وكانت أرض المسجد من التراب غير مفروشة بالجص أو البلاط فيجيبونه ، نعم.
فلم يرض عليهم ، ولكنه لم يوبخهم بل توعد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إن رآه يسجد على الأرض ، و(قال : فو الذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته.
قال فما (فجأهم) منه إلاّ يتقي بيديه وينكص على عقبيه)( ).
وموضوع الآية أعلاه أعم ، ومن معاني النهي في الآية أعلاه الإرهاب وهو من المستجد ، أو الإرهاب الموازي مع براءة الصلاة من موضوع الإرهاب.
الثاني : قيام المشركين بايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه اثناء الصلاة وخارج الصلاة ، ومناجاتهم بالإستخفاف بالقرآن والتنزيل .
لبيان قانون غنى النبوة عن الرد على الإرهاب ، لأن الله عز وجل هو الذي يرد كيد الكافرين إلى نحورهم ، وفي التنزيل [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )،
الثالث : وجود دول عظمى حول الجزيرة ، فمن المشرق دولة فارس التي يمتد سلطانها إلى اليمن ، وفي أطراف الجزيرة من جهة الشمال دولة الروم والتابعين لها من بعض القبائل العربية .
فلم يبق إلا جهة البحر الأحمر ، ولم يعتد المسلمون الأوائل والعرب عامة ركوب البحر ، أو القتال فيه .
ومع هذا ركبه المهاجرون الأوائل متوجهين إلى الحبشة وفي هذا الأذى واقتحامهم الأهوال شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسليمهم بوجوب اتباعه.
(وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين إثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان)( ).
الرابع : حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة قلة العدد ، والنقص في الأسلحة والمؤن ، والظهر وما يركبون فلم يكن عندهم يوم بدر سوى فرسين ، أما كفار قريش فقد كان عندهم مائة فرس.
الخامس : قلة عدد مجموع المسلمين من المهاجرين والأنصار ، أزاء كثرة عدد الكفار من قريش وغيرهم.
السادس : قيام قريش بارسال وفد إلى النجاشي يطلبون منه رد المهاجرين والمهاجرات إليهم وحدث هذا الإرسال مرتين ، إذ أرسلوا في الأولى عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط وقيل عمارة بن الوليد.
، فارسلوا في الثانية عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وكانت الثانية بعد معركة بدر لإرادة الثأر منهم لقتلى قريش السبعين في معركة بدر .
كما روي عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس وغيرهم في رواية محمد بن إسحاق ودخول (حديث بعضهم في بعض. قالوا : لما هاجر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة.
وقالوا : إنّ لنا في الذّين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأراً بمن قتل منكم ببدر. فاجمعوا مالاً واهدوه إلى النجاشي لعلّهُ يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم وقولهم (لعله) لمعرفتهم بعدل النجاشي ورجحان عدم تسليم المهاجرين ، ولكن أرادت قريش وقف الهجرة.
فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أُبي معيط بالهدايا ، الأدُم وغيره.فركبا البحر وأتيا الحبشة ؛ فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له، وسلّما عليه .
وقالا له : إنّ قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبّون ، وإنّهم بعثونا إليك ؛ لنحذّرك هؤلاء القوم الذّين قدموا عليك لأنّهم قوم رجل كذّاب خرج فينا فزعم أنّه رسول اللّه، ولم يبايعه أحد منّا إلا السفهاء.
وإنّا كنّا قد ضيّقنا عليهم الأمر. وألجأناهم إلى شعب أرضنا لا يدخل إليهم أحد. ولا يخرج منهم أحد( )، قد قتلهم الجوع والعطش.
فلما اشتد عليه الأمر. بعث إليك ابن عم له( )، ليفسد عليك دينك وملكك ورعيّتك .
فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا :
وآية ذلك أنّهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها النّاس رغبة عن دينك وسنّتك)( ).
وكانت الحبشة تسمى مملكة اكسوم ، واسم النجاشي (أصحمة بن بحر)( )، ومعناه بالعربية عطية .
لتمر الأيام وتزول هذه الذلة ، ويوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلح الحديبية كتاباً إلى النجاشي يدعوه فيه إلى الإسلام وفيه (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة سلم أنت فاني أحمد اليك الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن.
وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده.
وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فاني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى)( ).
ولما مات النجاشي في السنة التاسعة للهجرة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة عليه مع أنه مات في الحبشة.
وعن أنس قال (لما مات النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلوا عليه قالوا يا رسول الله نصلي على عبد حبشي . فأنزل الله وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ( ).
وفيه تنمية لملكة المودة بين المسلمين والنصارى ، ومنع من الإرهاب والتعدي والظلم.
وعن جابر بن عبد الله في الآية أعلاه نزلت في النجاشي ، لما مات نعاه جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله فجمع الناس في البقيع، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه.
فقالت المنافقون في ذلك فجاءت الاخبار من كل جانب أنه مات في ذلك اليوم في تلك الساعة ،وما علم هرقل بموته إلا من تجار رأوا من المدينة ( ).
لقد كانت هجرة الحبشة عنواناً للذلة والإستضعاف ، والقهر ومع تحلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصبر في تلقي الأذى.
وهي شاهد تأريخي على إرهاب قريش ، ثم زادوا في تماديهم في الغي بأن أرسلوا إلى النجاشي يطلبون تسليم الصحابة اللاجئين ، لتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بامتناع النجاشي عن تسليمهم ، لتتحول الذلة إلى عزة وأمن ومناسبة لتثبيت السكينة في نفوس المهاجرين، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وهل فيه ترغيب لباقي الصحابة للهجرة إلى المدينة (يثرب) خاصة وأن عدداً منهم خرجوا إليها قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وذات الهجرة والإضطرار إليها جهاد وصبر وتضحية وعز ودعوة عملية للسلم.
بين العام والخاص (بحث أصولي)
اللفظ العام هو الذي يدل على الإستغراق والشمول دون تقييد أو حصر بجنس أو عدد معين ، أما الخاص فهو المنفرد ، يقال : خصّ الله بالحمد أي أفرده به دون غيره.
والخاص في الإصطلاح : اللفظ المتحد الذي ينطبق في دلالته على فرد واحد أو نوع أو عدد محصور بحيث لا يصلح لغيره مثل الشمس والقمر والنجوم .
وهو على قسمين :
الأول : الخاص الحقيقي ، وهو على شعب :
الأولى : الخاص الشخصي مثل اسم (زيد) (حسن) .
الثانية : الخاص النوعي مثل لفظ (الحيوان ) (النبات) .
الثالثة : الخاص الأعتباري والمجازي ، مثل القراءة والأمية ، والحركة والسكون ، والحياة والموت ، والعلم والجهل .
وليس من ملازمة بين الخاص والمقيد ، ولكنهما ليسا من الضدين كما في المطلق والمقيد ، والعام والخاص.
فقد يأتي الخاص مطلقاً كما في لفظ الإنسان ، كخاص نوعي أو يأتي مقيداً بوصف ، أو يكون أمراً أو نهياً .
وتتناول الدراسات في علم الأصول : المطلق والمقيد ، والعام والخاص ، كلاً على حدة ، والمطلوب أن تكون هناك دراسات جامعة لهما مجتمعين ، وذكر الصلة أو التباين بين كل من :
الأول : المطلق والعام .
الثاني : المطلق والخاص .
الثالث : العام والمقيد .
الرابع : المقيد والخاص .
مع ذكر الأمثلة البيانية لكل منها ودلالات الصلة بينهما ، ولا أصل لمقولة ما من عام إلا وقد خُص .
بل لو دار الأمر بين عدد العام الذي لم يخص وبين العام الذي خصّ ، وأجريت إحصائية لتبين التقارب بينهما في آية من بديع خلق الله عز وجل.
قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، موضوع محاضرتنا هذه هو (أيهما أكثر العام الذي لم يخص أم العام الذي قد خصّ ، إذ ورد في الفلسفة أنه ما من عام إلا وقد خص ، فجئت بهذا التساؤل لنفي هذه المقولة ، وفتح آفاق الدراسة في بديع صنع الله عز وجل .
واليوم هو السادس والعشرون من شهر صفر الخير من السنة 1443 من الهجرة النبوية الشريفة ، وقد صدر لي والحمد لله الجزء السابع والعشرون بعد المائتين من تفسيري للقرآن ، وهو خاص بتفسير هذه الآية الكريمة لبيان ودلالة كل كلمة منها على عام متعدد سالم من التخصيص وهي كالآتي :
الأول : لفظ مُلك ، فكل شيء هو ملك لله عز وجل لا يخرج عن ملكه شئ سواء في أفراد الزمان أو المكان وفي الدنيا أو الآخرة .
وقد ورد في آية أخرى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، لبيان ملك الله للعاقل وغير العاقل ، وتشمل الخلائق كلها ، وخزائن المطر والسحاب ، ونسائم الهواء والنبات وأسباب الرزق .
ومن الفلاسفة من قال بأن الله عز وجل يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات لتنزهه عنها وأحوال الأشخاص لانها متغيرة ومتشكلة ، وقالوا ان سلب علم الله عنها صفة كمال لأنها تدرك بالحواس والله عز وجل منزه عن الحواس إنما يعلم الله أسبابها وعللها.
ولا أصل لهذا القول ، فالله سبحانه يعلم كل شئ والأشياء كلها صغيرها وكبيرها حاضرة عنده ، مستجيبة لأمره ، وهي ملك له ، ومن خصائص ملك الله عز وجل للأشياء أنه يعلم بها قبل وجودها واثناء وجودها وبعد إعدامها ، وهو القادر على إحيائها وإعادتها بذات هيئتها أو بغير هيئة ومنه البعث والنشور.
ومنهم من نعت الذي يقول بأن الله لا يعلم بالجزئيات بالكفر ، ولا تصل النوبة إلى التكفير ، إنما هو فهم خاطئ وقاصر ، قال تعالى [وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] فالآية شاملة للكل والجزء ، والسبب والعلة والأصل والفرع.
وقيل كل عام قد خصّ إلا علم الله عز وجل بالأشياء واستدل بالآية أعلاه ، فمثلاً قوله تعالى [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ]( )، قالوا قد دخل عليه التخصيص لأن الله ليس خالقاً لنفسه ، وأن صفاته ليست مخلوقة ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، والمراد كل شئ من المخلوقات.
قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، وورد (كل شئ) أربع مرات في آيتين متجاورتين ، قال تعالى [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]( ).
الثاني : ملك السموات ، فليس من مالك للسموات وما فيهن إلا الله عز وجل وقد جاء العلم الحديث لبيان عظيم مخلوقات الله ، وعجز الناس مع العلوم التقنية المتطورة عن الإحاطة بالسموات وما فيهن وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسافات بين السموات بتقدير السير بينها ، منه ما ورد (عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : هل تدرون ما هذا .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : هذا العنان هذا روايا الأرض يسوقه الله عزّوجل إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك.
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ.
قال : فكم تدرون بينكم وبينها.
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة.
قال : هل تدرون ما فوق ذلك .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن فوقها سماء أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع سماوات بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء السابعة مثلما بين سماءين.
ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم.
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإنها الأرض.
قال : فهل تدرون ما تحتها .
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن تحتها أرضاً أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ثم قرأهُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( ).
ولو حسبنا مسيرة فرس تصعد في السماء مدة خمسمائة سنة فهل يتوافق مع المسافات التي ذكرها العلم الحديث بين الأرض والقمر ، وهو (385000)كم ، والمسافة بين الأرض والمريخ هي (225) مليون كم وقيل أكثر.
ولو حسبنا أن البعير يقطع نحو 50كم في الساعة فنضرب 50×355 عدد أيام السنة ×500سنة=213,000,000 .
لبيان التقارب بين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما اظهرته الإكتشافات العلمية الحديثة.
الثالث : ملك الأرض : إذ أن تقدير الآية (ولله ملك السموات وملك الأرض ، فالله عز وجل هو مالك الأرض والجبال والبحار وجريان الأنهار وموازين نزول المطر فهو ملك مشيئة وتصرف واستدامة ، فلا يقدر على استدامة الأرض وما فيها من الأرزاق إلا الله عز وجل .
ترى لماذا لم تقل آية البحث (ولله ملك السموات ولله ملك الأرض) الجواب جاءت الآية بصيغة الحذف البلاغي التي تزيد الكلام بهاء وجمالاً لما فيه من الإيجاز ، ودلالة الترك والحذف على الذكر والبيان والسعة ، والحذف في الآية القرآنية أعم من المعنى البلاغي.
فمن معاني الحذف في الآية مسائل :
الأولى : وحدة ملك السموات والأرض مع سعة كل منهما .
الثانية : الدلالة على التداخل بين السماء والأرض.
الثالثة : بيان سعة السموات وأنها أكبر من الأرض ، فنزلت الآية بتقديمها.
الرابعة : من في السموات أطول عمراً ممن في الأرض ، وكل منها بمشيئة من الله عز وجل .
الخامسة : تأكيد تخلف وعجز الناس عن الإحاطة بالمخلوقات وملك الله عز وجل في السموات والأرض.
الرابع : ذكر الآية للأشياء جميعاً كبيرها وصغيرها.
ونسب إلى المالكية والشافعية والحنابلة القول بأن أكثر العمومات مخصوصة.
تقدير معنى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( )
لم يرد لفظ (مخرجاً) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن معاني المخرج في المقام المخرج من الشدة والبأساء إلى الرخاء والسعة .
وورد عن ابن عباس (ان الله ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (إن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( )، أغلقوا الابواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فأرسل إليهم، فقال :ما حملكم على ما صنعتم ، فقالوا: يا رسول الله صلى الله تكفل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب)( ).
و(عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( )، فِي رَجُلٍ مِنْ أَشْجَعَ، أَصَابَهُ جَهْدٌ وَبَلاءٌ، وَكَانَ الْعَدُوُّ أَسْرُوا ابْنَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ:”اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ”، فَرَجَعَ ابْنٌ لَهُ كَانَ أَسِيرًا قَدْ فَكَّهُ اللَّهُ، فَأَتَاهُمْ وَقَدْ أَصَابَ أَعْنَزًا، فَجَاءَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلَّنِبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ:”هِيَ لَكَ)( ).
وبلحاظ معركة بدر وجوه :
الأول : المخرج من الذلة إلى عز ومنعة الإيمان والتقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : منه المخرج من قلة الرجال والظهر والسلاح إلى كثرتها بما يجعل قريشاً وحلفاءها يمتنعون عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثالث : دحر النفاق ، وصرف أذى المنافقين .
الرابع : المخرج للمسلمين من الفاقة والضيق إلى السعة .
الخامس : المخرج من الخوف من غزو المشركين وكثرة المعارك ووقوع القتل فيها إلى الأمن .
السادس : هل صلح الحديبية من مصاديق [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( )، الجواب نعم ، لبيان وجود مصاديق عاجلة وآجلة للآية القرآنية ودلالة تحقق أفراد من الجملة الشرطية التي تخص رفعة الإيمان ، ويكون تقدير الآية أعلاه بلحاظ صلح الحديبية على جهات منها :
الأولى : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً من القتال وسفك الدماء بالصلح.
الثانية : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً من الخوف إلى الأمن والصلح .
الثالثة : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً من كيد ومكر وغزو الكفار الى قبولهم بالصلح ، وهذا المخرج من مصاديق مكر الله لقوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الرابعة : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً بتعضيده بدخول طوائف من الناس الإسلام بعد صلح الحديبية.
الخامسة : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ولصيرورة صلح الحديبية فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
السادسة : ومن يتق الله يجعل له ولغيره مخرجاً لقانون إنتفاع عامة الناس من المتقين ، ليكون من المعنى الأعم لقوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، هدىً للمتقين واقتباس الناس منهم ووجود طائفة تتبعهم وأخرى تكرمهم وتجتنب إيذاءهم.
السابعة : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ونجاة من الفساد ومقدماته ، وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، احتجوا بفساد طائفة من الناس ، وقيام بعضهم بالقتل ، وإشعال الحروب فاحتج عليهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله سبحانه أن يجعل للمتقين مخرجاً وصارفاً وواقية من الفساد.
منع قريش النياحة
لقد تلقت قريش رسالة أبي سفيان بتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلته بالمناجاة للهجوم والقتال.
ولم يكن النبي وأصحابه قد رأوا القافلة ، ولم يلتقوا بها ، فهل كانت هذه الرسالة من المكر والدهاء وإرادة الفتنة والقتال ، خاصة وأن العامة يفزعون عند تلقي الخبر من غير أن يقوموا بالتمحيص والتدقيق .
لقد كانت أغلب بيوت ونساء قريش قد بعثوا بضائع وأموالاً بهذه القافلة ، فهل كان جمعهم هذا وترغيبهم بالمشاركة فيها مقدمة للخروج لمعركة بدر ، المختار نعم.
ولكن لو لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج من المدينة في كتيبة فهل يرسل أبو سفيان في ذات الوقت رسالة إلى قريش يستنهضهم للقاء النبي وقتاله ، المختار لا، ولكن مكرهم لا ينقطع لعمومات البيان والكشف في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، فلم يتوقف كيد ودسائس قريش ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجرته إلى المدينة.
ولكن قوافل قريش إلى الشام والرجوع منه كانت تترى وتتعاقب محملة بالبضائع والأموال كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج حول المدينة ويبعث السرايا لنشر ألوية الإسلام ، ولبيان صبغة السلم التي تتصف بها النبوة والتنزيل .
وهل يمكن اعتماد أصل الإستصحاب لبيان صبغة السلم في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج من مكة مهاجراً لإجتناب الفتنة والإقتتال مع قريش ونستصحب هذا القصد والنية في وجوده في المدينة وأنه لا يريد القتال مع قريش ولا غزو أحد ، الجواب نعم .
وحينما دخلت فلول قريش إلى مكة علم أهلها بأمور :
الأول : كثرة القتلى من المشركين الذين غادروهم الى معركة بدر ، إذ سقط سبعون منهم في ميدان المعركة .
الثاني : أسر المسلمين لسبعين من المشركين ، ولا يعلم أهل مكة مصيرهم ، خاصة مع شدة أذى قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه واحتمال الثأر والإنتقام منهم.
الثالث : هزيمة قريش في المعركة خلافاً لقاعدة السبب والمسبب ، إذ كانت الكفة لترجيح جيش قريش من جهة كثرة العدد والعدة والإستعداد للقتال .
ويعلم أهل مكة بقلة عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنقص في أسلحتهم ، ولم يكونوا أهل حرب ، فمن المهاجرين من كان مستضعفاً كما أن الأنصار من الأوس والخزرج أهل فلاحة.
فأدرك الناس في الجزيرة بمعركة بدر ونتائجها أن الرجحان للإيمان ، وهو سبيل النصر والغلبة ، ونزل القرآن ، بتوثيقه ونشر أنبائه.
قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وفيه وجوه :
الأول : التأكيد السماوي للنصر النبوي .
الثاني : دعوة المسلمين والمسلمات للشكر لله عز وجل على نعمة النصر.
الثالث : قانون نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر معجزة تتجلى معالمها لأهل كل زمان ، وهو من أسرار نسبة النصر إلى الله عز وجل.
الرابع : بيان قانون وهو منع القرآن للتحريف في الوقائع والأحداث ، فلا ينحصر إعجاز القرآن في منعه للتحريف في كلماته وحروفه وتأويله ، إنما يمنع التحريف والتغيير في كل من :
الأولى : الوقائع ونتائجها.
الثانية : الترغيب بتوثيق تفاصيل الأحداث وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى ، لتكون مادة للدراسة في كل زمان .
الثالثة : أسباب نزول الآيات .
الخامس : تأكيد قانون الإيمان علة النصر على المشركين .
السادس : زجر المشركين عن غزو المدينة .
السابع : بيان شواهد من قانون لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً.
الثامن : دعوة المسلمين للتوكل على الله ، واتباع الرسول ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]( ).
وذكرت الآية أعلاه ذلة وضعف الصحابة مع معرفة الناس بحال المنعة والجاه وكثرة المال والخيل والسلاح عند قريش ، وتقدير الآية : ونصركم الله على أهل القوة والجاه والمال وأنتم أذلة.
الرابع : تجلي معجزات حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وفيها اصطلاح مستحدث في هذا التفسير (السنة الدفاعية).
قانون توثيق القرآن للنصر معجزة
من خصائص القرآن أنه ملجأ لضبط الأحداث بما يفيد العلة والموضوع والنتيجة مثلما هو مصدر للأحكام الشرعية وتوثيق القرآن لمعارك النبوة نعمة عظمى إذ أنها تكشف صبغة السلم والسلام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشدة بطش واستكبار المشركين ، وتوليهم شؤون الرياسة بعتو وظلم للذات والغير .
ونزول آيات القرآن في توثيق نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نعمة ورحمة فان قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، وثيقة سماوية متجددة تشهد في كل زمان على تحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة ، ومن دلالات المعجزة في المقام نسبة النصر إلى الله [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ] .
وهل يمكن القول بقانون : كل نصر من الله هو معجزة حسية ظاهرة ، الجواب نعم ، وهل يمكن القول بقانون كل معجزة نصر ، الجواب نعم ، من غير أن يلزم الدور بينهما.
ومعجزة النصر من وجوه :
الأول : أسباب النصر ، ومنه الدعوة إلى الله ، والتحلي بالتقوى.
الثاني : قانون نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل أخبرت الآيات المكية عن قانون نصر الله للأنبياء أو خصوص نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن وقع القتال بينه وبين المشركين ، الجواب هو الأول .
ومن هذه الآيات :
الأولى : قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الثالث : مسائل في النصر خارج قانون العلة والمعلول.
بين أبي حذيفة وأبيه عتبة بن ربيعة
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعدد سنخية ومراتب الذين دخلوا الإسلام في أيامه الأولى ، من وجوه :
الأول : دخول الأب قبل الابن في الإسلام .
الثاني : دخول الابن قبل الأب في الإسلام .
الثالث : دخول الأب والابن الاسلام معاً.
الرابع : دخول الابن ووالديه الإسلام دفعة , قال تعالى [نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وكل هذه الوجوه لها مصاديق في بداية الدعوة والظاهر أن الوجه الثاني أعلاه هو الأكثر لبيان تلقي الشباب معجزات النبوة بالتدبر والتسليم ، والإقرار بنزول آيات القرآن من عند الله ، وهذا الإقرار مقدمة للعمل بأحكامه ، ومنها الصبر على أذى الوالدين ، قال تعالى [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( ).
وقد وقف أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، بينما يتقدم جمع المشركين أبوه عتبة بن ربيعة وأخوه الوليد بن عتبة ، وعمه شيبة بن ربيعة وهم يطلبون النزال والمبارزة .
ودعا أبو حذيفة (أباه عتبة بن ربيعة إلى البراز فقالت أخته هند بنت عتبة لما دعا أباه إلى البراز:
الأحول الأثعل المشؤوم طائره … أبو حذيفة شر الناس في الدين
أما شكرت أبا رباك من صغر … حتى شببت شبابا غير محجون)( )،
إنما هو المبارك الذي كتب له التأريخ إسلامه وصحبته وجهاده بأحرف خالدة ومتجددة كل يوم ، ومنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مبارزة أبيه ، مع أن ملاك الرحمة الأبوية قد تجعل الأب يضعف في ملاقاة ولده ، ويسهل قتل عتبة وهو من رؤساء جيش المشركين يومئذ.
إنما جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه يعملون بقوله تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
لقد هاجر أبو حذيفة هو وزوجته سهلة بنت سهيل إلى الحبشة.
وهل مثل هذه الهجرة سبب في نقمة قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
وحينما أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسحب قتلى المشركين إلى القليب .
وتم سحب عتبة بن ربيعة وكان رجلاً جسيماً ليطرح في القليب نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وجه أبي حذيفة بن عتبة فعرف الكراهة في وجهه ، فلم يتركه وشأنه ، بل سأله قائلاً : يا أبا حذيفة كأنك كاره لما رأيت.
فاجابه (لا والله يا رسول الله، ولكني رأيت لأبي عقلاً وشرفاً، كنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام، فلما أخطأه ذلك ورأيت ما أصابه غاظني)( ) فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد حضر أبو حذيفة مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ، واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة وله من العمر ثلاث وخمسون سنة.
قانون لا يبدأ النبي القتال
من خصائص النبي محمد عدم الإبتداء بالقتال أو رمي السهام ، إنما كان يبادر بدعوة المشركين إلى كلمة التوحيد.
وكان ينادي بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
وهو ذات النداء الذي كان يكرره على مسامعهم في مكة وكان يتلو معه آيات القرآن وما فيها من الإنذار والوعيد.
فلما وقعت معركة بدر إجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه ، وبالنداء بينه وبين المشركين حتى إذا ما انتهت المعركة بهزيمة المشركين ، وفرارهم وترك سبعين جثة خلفهم ، قام أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدفنهم في قبر جماعي هو القليب أي البئر الذي جف ماؤه .
وفي جوف الليلة التي أعقبت واقعة بدر قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبة قتلى قريش قائلاً (يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ خَلَفٍ ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، فَعَدّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا ، فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيّفُوا ، قَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنُ يُجِيبُونِي)( ).
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسماء بعض رؤساء قتلى قريش ، والمراد جميع المشركين الذين قتلوا يومئذ لبيان أن الملائكة تلقتهم بالعذاب وضغطة القبر ، وشدة حساب منكر ونكير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه وجد النصر الذي وعده الله ، والذي أخبرت به آيات القرآن لبيان قانون وهو بشارة الآية القرآنية للمؤمنين إنذار في مفهومها للذين كفروا ودعوة لهم للإنزجار عن الغزو , وعن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد بعث الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ، وقد قاتل عدد منهم المشركين في زمانهم كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، مع تجلي قانون وهو لا يقاتل النبي إلا المشركين ، ويحتمل عدد الأنبياء الذين قاتلوا وجوهاً:
الأول : عدد الذين قاتلوا من الأنبياء أكثر من الذين لم يقاتلوا .
الثاني : عدد الذين لم يقاتلوا من الأنبياء أكثر من الذين قاتلوا .
الثالث : التساوي بين عدد الأنبياء الذين قاتلوا .
والصحيح هو الثاني وهو من الرحمة والتخفيف عن الأنبياء وأصحابهم وعن الناس .
ولو أحصيت الأيام التي قاتل فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه والسرايا التي بعثها لوجدتها جزءً ضئيلاً من مجموع أيام بعثته المباركة التي استمرت ثلاثاً وعشرين سنة فهي أيام معدودة ، باستثناء حصار المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة الخندق والتي كانت فيها مناوشات ورمي بالسهام إلى جانب المبارزة الكبرى بين الإمام علي عليه السلام وعمرو بن ود العامري ، ويستقرأ نعتها بالكبرى من وجوه أسماها نزول قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
ثم هروب الذين عبروا الخندق معه ، وقتل أحدهم ، وهو (نوفل بن عبدالله بن المغيرة اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك وطلبوا جسده بثمن كبير)( ) فدفعه لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأخذ منهم شيئاً .
ومن الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ قتالاً ما روي عن بدايات معركة أحد قال ابن سعد (من أنشب الحرب بينهم أبو عامر الفاسق، طلع في خمسين من قومه فنادى: أنا أبو عامر، فقال: المسلمون: لا مرحبا بك ولا أهلا، يا فاسق!
قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ومعه عبيد قريش، فتراموا بالحجارة هم والمسلمون حتى ولى أبو عامر وأصحابه، وجعل نساء المشركين يضربن بالأكبار والدفوف والغرابيل ويحرضن ويذكرنهم قتلى بدر ويقلن :
نحن بنات طارق … نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق … أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق …
قال: ودنا القوم بعضهم من بعض والرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل فتولى هوازن، فصاح طلحة بن أبي طلحة صاحب اللواء: من يبارز ، فبرز له علي بن أبي طالب عليه السلام عنه، فالتقيا بين الصفين فبدره علي فضربه على رأسه حتى فلق هامته فوقع، وهو كبش الكتيبة، فسر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بذلك وأظهر التكبير، وكبر المسلمون)( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد وأمهاتنا شتى)( ).
أي أن كل واحد منهم جاء بشريعة التوحيد وأحكام الحلال والحرام وان تعددت الفروع وصار بينها النسخ ولكن قانون عدم ابتداء النبي أو الرسول بالقتال مع المشركين عام في منهج النبوة إذ رزق الله عز وجل النبي المعجزة وجعله رحمة.
قانون معركة بدر إصلاح للتأريخ
من إعجاز القرآن تسمية يوممعركة بدر بأنه يوم الفرقان ، كما في قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ولا يختص الفرقان في الآية أعلاه بالتفريق بين الحق والباطل ، كما يذهب إليه المفسرون ، إنما يشمل تجلي الحق والإيمان ، وإماتة الباطل ودحر الكفر ، ومن مصاديق البيان بخصوصه قوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( ) .
ومع أن الكفار هم الذين أشعلوا معركة بدر فقد كانت بداية عهد جديد يتصف بالصلاح وثبوت الإيمان وإلى يوم القيامة .
وهل تعني الآية أنه ليس من يوم فرقان قبل وبعد يوم معركة بدر ، وأن هذا الاسم خاص به ، الأقرب لا ، قال تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
لقد كانت معركة بدر هي الأولى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين الذين تمثلوا بقريش ، إذ أعدت قريش للخروج خلال ثلاثة أيام ،فلم تستطع إبلاغ كل حلفائها من القبائل.
وظنت قريش عدم حاجتهم للإستعانة بالحلفاء لأنهم على علم بقلة عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يخرج لقتال أو غزو أو استيلاء على قافلة أبي سفيان.
وظنت كفاية عددهم وعدتهم للإجهاز على النبوة والتنزيل ، وهذا الخطأ تأريخي متوارث عند الكفار في محاربتهم للأنبياء ، وظنوا أن معجزة النبي ثابتة ومحصورة ، ولم يعلموا بتفضل الله بقانون استحداث معجزة للنبي أي نبي أو رسول في ميدان القتال ، بما يؤدي الى أمور :
الأول : نجاة النبي من القتل .
الثاني : تلقي المشركين الخزي .
الثالث : تثبيت الإيمان في قلوب الذين آمنوا بالنبوة .
الرابع : دخول طائفة من الناس في الإسلام ، واتباع النبي ، بما فيهم عدد من الذين وقفوا في الميدان لمحاربة النبي ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )، يوم التقى الجمعان فتدخل طائفة من الذين كفروا الإسلام.
وكان مجموع عددهم ألفاً أو أقل قليلاً بخلاف معركة أحد إذ تجهزوا لها لنحو عام ، فكان عددهم ثلاثة آلاف باشتراك عدة قبائل معهم في الهجوم منها :
الأولى : عامة قريش وغلمانهم.
الثانية : الأحابيش .
الثالثة : ثقيف .
الرابعة : كنانة .
الخامسة : نساء قريش يضربن بالدفوف.
وعندما لحقت الهزيمة جيش قريش قامت بعضهن بالقتال.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطى أبا دجانة سيفاً ليقاتل به.
قال ابن اسحاق وعن الزبير بن العوام فجعل أبو دجانة (لَا يَلْقَى أَحَدًا إلّا قَتَلَهُ . وَكَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَنَا جَرِيحًا إلّا ذَفّفَ عَلَيْهِ( ) فَجَعَلَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ . فَدَعَوْتُ اللّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، فَالْتَقَيَا ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَ الْمُشْرِكُ أَبَا دُجَانَةَ فَاتّقَاهُ بِدَرَقَتِهِ فَعَضّتْ بِسَيْفِهِ وَضَرَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ ثُمّ رَأَيْتُهُ قَدْ حَمَلَ السّيْفَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَة ، ثُمّ عَدَلَ السّيْفَ عَنْهَا.
قَالَ الزّبِيرُ فَقُلْتُ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ : رَأَيْت إنْسَانًا يَخْمُشُ النّاسَ خَمْشًا شَدِيدًا ، فَصَمَدْتُ لَهُ فَلَمّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ السّيْفَ وَلْوَلَ فَإِذَا امْرَأَةٌ فَأَكْرَمْت سَيْفَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً) ( ).
ولقد سقط لواء المشركين بعد مقتل حملته من بني عبد الدار بالتعاقب ، وغلامهم صؤاب , فبقي في الأرض مطروحا يدعو قريشاً للفرار ، ويؤكد خزيهم وخسارتهم المعركة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، لولا ثغرة ترك أغلب الرماة من الصحابة مواضعهم لرؤية طلائع النصر قد بانت وبدأت هزيمة المشركين ، فجاءت خيل المشركين من الخلف.
وقال حسان بن ثابت شعراً يوبخهم ويوثق الواقعة في قصيدة مطلعها:
فَخُرْتُمْ بِاللّوَاءِ وَشَرّ فَخْرٍ … لِوَاءٌ حِينَ رُدّ إلَى صُؤَابِ
جَعَلْتُمْ فَخْرَكُمْ فِيهِ بِعَبْدِ … وَأَلْأَمُ مَنْ يَطَأُ عَفَرَ التّرَابِ( ).
ثم أخذت اللواء (عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به)( ).
وباسناد الطبري عن أبي رافع قال : لما قتل علي بن أبى طالب أصحاب الالوية أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلى احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبد الله الجمحى قال ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جماعتهم( ).
ويدل هذا الخبر على أن الإمام علي عليه السلام قتل كل حملة لواء المشركين يوم أحد بالتعاقب واحداً بعد آخر .
وهذا الأسناد أوثق من مرسل ابن سعد الذي ينسب قتل جملة اللواء الى عدد من الصحابة ومنهم الإمام علي إذ قال ابن سعد (فصاح طلحة بن أبي طلحة صاحب اللواء: من يبارز؟
فبرز له علي بن أبي طالب، عليه السلام عنه، فالتقيا بين الصفين فبدره علي فضربه على رأسه حتى فلق هامته فوقع، وهو كبش الكتيبة، فسر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بذلك وأظهر التكبير، وكبر المسلمون وشدوا على كتائب المشركين يضربونهم حتى نغضت صفوفهم، ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة أبو شيبة وهو أمام النسوة يرتجز ويقول:
إن على أهل اللواء حقا … أن تخضب الصعدة أو تندقا .
وحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه بالسيف على كاهله فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره وبدا سحره، ثم رجع وهو يقول: أنا بن ساقي الحجيج.
ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فأدلع لسانه إدلاع الكلب فقتله .
ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتله، ثم حمله الحارث بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت فقتله .
ثم حمله كلاب بن طلحة بن أبي طلحة فقتله الزبير بن العوام، ثم حمله الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله.
ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم حمله شريح بن قارظ فلسنا ندري من قتله.
ثم حمله صواب غلامهم وقال قائل: قتله سعد بن أبي وقاص، وقال قائل: قتله علي بن أبي طالب، وقال قائل: قتله قزمان)( ).
وكان معهم مائتا فرس وسبعمائة درع وعدد كثير من الإبل .
لقد استأجر أبو سفيان ألفين من الرجال في معركة أحد ، وهل من صلة بين هذا الإستئجار وبين بعثه رسولاً إلى قريش قبيل معركة بدر للتحريض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذريعة نيته الإستيلاء على القافلة التي كان أبو سفيان رأسها ، المختار نعم .
لقد بكت قريش رجالاً ونساءً بحرقة وأسى على قتلاهم يوم بدر لوجوه:
الأول : بعض القتلى من الرؤساء ومن أشهرهم :
الأول : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .
الثاني : عقبة بن أبي معيط .
الثالث : أمية بن خلف ، وقتل معه ابنه علي بن أمية .
الرابع : زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد ، وقتل معه أخوه عقيل بن الأسود وابنه الحارث بن زمعه .
الخامس : النضر بن الحارث بن كلدة .
السادس : أبو جهل بن هشام , وقُتل معه أخوه العاصي بن هشام.
السابع : أبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وهو أخو خالد بن الوليد.
الثامن : منبه بن الحجاج ، وقتل معه أخوه نبيه .
التاسع : حنظلة بن أبي سفيان بن حرب
ومن أبرز أسرى المشركين يومئذ :
الأول : العباس بن عبد المطلب .
الثاني :عقيل بن أبي طالب .
الثالث : عمرو بن أبي سفيان بن حرب.
الرابع : سهيل بن عمرو بن عبد شمس (القرشي العامري يكنى أبا يزيد كان أحد الأشراف من قريش وساداتهم في الجاهلية أسر يوم بدر كافراً وكان خطيب قريش فقال عمر: يا رسول الله انزع ثنيته فلا يقوم عليك خطيباً أبداً فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” دعه فعسى أن يقوم مقاماً تحمده ” . وكان الذي أسره مالك بن الدخشم فقال في ذلك: المتقارب
أسرت سهيلاً فما أبتغي … أسيراً به من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى … سهيلاً فتاها إذا تصطلم
ضربت بذي الشفر حتى انثنى … وأكرهت سيفي على ذي العلم) ( ).
فصحيح أن أبا سفيان لم يشترك في المعركة إنما أشعل فتيلها ، فقد قتل أحد أبنائه وأسر الثاني ، كما قتل والد زوجته عتبة بن ربيعة مع أخيه وابنه ، وعدد من بني عبد شمس ، وحلفائهم بين قتيل وجريح وأسير.
وبعد أن ناحت وبكت قريش على قتلاهم أياماً إلتفتوا وبذلوا الجهد للتدبر فيما يجب عمله بعد الصدمة والذلة والهوان ، وهل يلاحقهم الكفر والضلالة في سنخية الإختيار ، الجواب نعم ، فقد أصدروا أوامر منها :
الأول : منع أهل مكة من البكاء على القتلى ، وقالوا إن هذ البكاء (يَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ)( ).
وفيه ذم إضافي للذين قتلوا في المعركة من قريش ، فبعد أن كانوا سادة ويحملون الناس على الخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم صار أهلهم مستضعفين ، يعجزون عن البكاء والنياحة عليهم ، لبيان سوء عاقبة عبادة الأوثان ، ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الفطرة سعي الناس لجلب المصلحة ، ودفع المفسدة ، وأولوية دفع المفسدة عند حصول التزاحم بينهما .
أما الذين يحاربون النبوة فانهم يجلبون لأنفسهم الشر والمفسدة ، ويدفعون عنها النفع والمصلحة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثاني : إنما كانت مقاصد قريش أعم وأخبث مما أظهروه ، فقد كانوا يرومون الإستعداد للثأر والهجوم بدليل أنهم لم يقوموا بتوزيع تجارة قافلة أبي سفيان على أهلها مع أنها كانت تتألف من ألف بعير لحملة بالبضائع النفيسة ومنها الذهب والفضة إذ أرادوا لتسخيرها لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجعلوا حصة منها لفداء الأسرى .
الثالث : التريث في البعث إلى المدينة لفكاك الأسرى حتى حين ، كيلا يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مبالغ كبيرة لفكاكهم ولعل علة هذا التريث رغبتهم بقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقتل عدد من الأسرى لتعديهم واجهازهم على عدد من المسلمين في معركة بدر أو قيام الصحابة بالإنتقام والثأر من قتلاهم الأربعة عشر بقتل الأسرى فيحدث هياج عام في مكة يكون سبباً للنفير وتجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنع أسباب القتال قيامه بفكاك عدد منهم من دون عوض أو بدل وطلبه من كل واحد من الأسرى يعرف القراءة والكتابة تعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة عوضاً لفكاكه من الأسر ، في معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر ألوية التعليم وأن نزول القرآن كان حقاً فلا يخشى وجود فئة متعلمة من المسلمين عليه ، لعصمته من النقص أو التزاحم أو التعارض بين آياته في كل من :
الأول : مواضيع آيات القرآن .
الثاني : أحكام القرآن ، ومنها أحكام الحلال والحرام .
الثالث : قوانين الميراث .
الرابع : قصص القرآن ، ومن مصاديق تسميتها أحسن القصص أنها حق وصدق وخلاصة السيرة وعلم التأريخ إذ قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
الخامس : علوم الغيب ، وأهوال عالم الآخرة.
السادس : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصدق رسالته.
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعليم الأسرى المشركين لصبيان المسلمين من غير خشية على دينهم ، وتعلم القراءة والكتابة ونشر العلم في المدينة المنورة وبين المسلمين من مصاديق قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ]( ).
وهل هذا التعليم من وجوه تسمية يوم بدر يوم الفرقان ، الجواب نعم ، وهو مقدمة لإكتساب العلوم ،ومعه نقض ونسخ لزمان الجهل والوثنية .
قانون منع قريش النياحة وهن
وحينما منعت قريش النياحة والبكاء على قتلاهم في معركة بدر هل تقيد عامة الناس بهذا المنع ، الجواب نعم .
وفيه حجة على رجالات قريش وأنهم نوع دولة وحكم وليس ولاية للبيت الحرام وحدها ، وإن كانت هذه الولاية شأناً عظيماً إذ جاء نفي ولايتهم للبيت بقوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وهل دولتهم وأمرهم ونهيهم في مكة غير شرعي ولا عن استحقاق ، الجواب نعم .
ولقد تقيد أهل مكة بأوامر رؤساء قريش بالإمتناع عن النياحة والبكاء على القتلى ، وهو أمر عجيب في ذلك الزمان بأن تصل الأوامر والنواهي إلى البكاء على الميت ، والتقيد العام بهذا الأوامر، مع عدم وجود علة وسبب عقلاني لهذه الأوامر ، ولا تكفي ذريعة (لا تبكوا على القتلى كي لا يشمت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه )، نعم كانت قريش تخشى من هذا البكاء أموراً :
الأول : الهياج العام على رؤساء قريش .
الثاني : محاسبة أبي سفيان والرؤساء الذين كانوا السبب في معركة بدر ولحوق الخسارة بقريش .
الثالث : علو أصوات المسلمين والمسلمات الذين لازالوا في مكة.
الرابع : استحضار الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة ، إذ أدركوا أن نصره في معركة بدر معجزة له .
الخامس : دخول طوائف جديدة في الإسلام .
السادس : نقل المعتمرين وزوار مكة إلى المدن والقرى حال الهوان والذل التي صارت عليها قريش .
السابع : الإقامة على البكاء توهين وباعث للعجز والضعف .
الثامن : إرادة قريش التخطيط والإستعداد للثأر والإنتقام .
التاسع : منع رؤساء قريش للناس للنظر إلى القادم من الأيام وإتساع ونشر الإسلام ، وعدم الإنشغال بالماضي القريب ذي الأحزان والأشجان .
العاشر : لقد كانت نتائج معركة بدر مناسبة لإستحضار الناس لأيات القرآن التي نزلت في مكة وإخبارها ولو بالمفهوم والدلالة عن نتيجة معركة بدر ، وبعثهم على استقراء مضامين ومعاني الآيات والسور المدنية.
الحادي عشر : إنشغال رؤساء قريش في الإستيلاء على أموال قافلة أبي سفيان لتسخيرها لمعركة أحد ، إذ كانت مؤلفة من ألف بعير ، ومجموع المال خمسون ألف دينار ، وكل دينار مثقال ذهب عيار ثماني عشرة حبة ، فيكون مقدار أموال البضائع التي تحملها القافلة بسعر الدولار هذه الأيام هو نحو 11,750,000 دولار .
فارادها بعض رؤساء الكفر أن تكون فتنة في ذاتها بقيام معركة بدر ، ثم جعلها وقوداً ومادة لمعركة أحد ، وعلى فرض الكيد من أبي سفيان وأصحابه باستنفار قريش لمعركة بدر من غير سبب يستلزم هذا الإستنفار.
وهل كان رجال قريش الذين صاحبوه في القافلة ، يشاركونه بهذا المكر ، خاصة وأن فيهم عمرو بن العاص المعروف بالمكر والدهاء ، وشدة محاربته النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل دخوله الإسلام .
وقد يقال لو كان لبان وانكشف خاصة وأن كثيراً منهم دخلوا الإسلام .
ومنهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص ، الأقرب أن هذا المكر خاص بأبي سفيان والخاصة من رجاله لذا قام باستئجار شخص لا يعلم الوقائع وطريق سير القافلة وما صاحبها وهو ضمضم بن عمرو ليبعثه إلى قريش ، خاصة وأن قريشاً يعرفون الطرق فاذا سألوا أحد أفراد القافلة سيجيبهم بالواقع والحال وبما يدل على عدم وجود قرينة أو أثر على تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقافلة أبي سفيان ، وكانت قريش وغيرهم يعلمون بكتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول المدينة وطرق مسيرها .
(وقال ابن عقبة وابن عائذ في اصحاب أبى سفيان هم سبعون رجلا وكانت عيرهم ألف بعير ولم يكن لحويطب بن عبد العزى فيها شئ فلذلك لم يخرج معهم) ( )، أي لم يخرج معهم إلى معركة بدر.
منع الأسود من البكاء على قتلى بدر
لقد تقيد أهل مكة بأوامر رؤساء قريش بالإمتناع عن النياحة والبكاء على قتلى بدر بل مطلقاً ، أي حتى إذا مات ميت لا يبكون عليه بكاء كيلا تتجدد أحزان معركة بدر ، ويرجع الناس إلى ندب قتلاهم.
ومما يدل على هذا التقيد ان الأسود بن عبد المطلب بن أسد قُتل له ثلاثة أولاد في معركة بدر وهم :
الأول : زمعة بن الأسود .
الثاني : عقيل بن الأسود .
الثالث : الحارث بن زمعة .
والأسود هذا ابن عم خديجة بنت خويلد زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان من أشد المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، وقام مع جماعة من قريش بتكليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعدل عن دعوته فأبى عليهم ، وهو ممن عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعبد ألهتهم سنة ، ويعبدون الله سنة ، فنزل قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
ومن الإعجاز في السورة أعلاه نعتها لهؤلاء النفر بأنهم كافرون فماتوا على الكفر .
و(هم :
الأول : أبو جهل.
الثاني : الوليد بن المغيرة .
الثالث : العاصي بن وائل .
الرابع : الأسود بن المطلب .
الخامس : أمية بن خلف .
السادس : أبى بن خلف .
السابع: منبه بن الحجاج) ( ).
والفرق بين ذكرهم وذكر أبي لهب بالذم أن أبا لهب ذكر في القرآن باسمه ومات على الكفر أيضاً .
وكان زمعة بن الأسود شديداً على الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن محمد بن إسحاق قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه إلى الإِسلام وكلمهم فابلغ إليهم فيما بلغني ، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب ، والنضر بن الحارث بي كلدة ، وعبدة بن عبد يغوث ، وأبي خلف بن وهب ، والعاصي بن وائل بن هشام : لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك ، فأنزل الله في ذلك من قولهم { وقالوا لولا أنزل عليه ملك}الآية) ( ).
معجزة حبس البكاء دون فكاك الأسرى
لقد عادت قريش من معركة بدر بخيبة وذل وهوان لم تشهد له مكة مثيلاً لبيان مصداق لعدم أهليتهم لولاية البيت الحرام ، وقرب إزاحتهم عنها إن لم يتوبوا ، لقانون وفق القياس الإقتراني وهو :
الكبرى : عدم إجتماع الضدين .
الصغرى : نصب الأوثان في البيت الحرام ضد لولايته.
ولآن بيت الله باق فلابد من إزاحة الأصنام من البيت الحرام وإن أدى الأمر إلى إزاحة الذين نصبوها لوجوب المقدمة لوجوب ذيها فلابد أن يذب الله عز وجل عن بيته ، ويبقيه خالصاً له ، يسأل الناس فيه حاجاتهم ، ويحجون إليه ، قال تعالى في خطاب إلى إبراهيم [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ]( ).
وليس من منافع في نصب الأوثان سواء لأهل مكة أو لوفد الحاج ، إنما هي باب للشرك والضلالة ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً لتنزيه البيت الحرام من الأصنام والى يوم القيامة وهذا العموم لأفراد الزمان الطولية المتعاقبة من معجزاته والشواهد على كون معجزته عقلية متجددة.
وكان في البيت الحرام يوم فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ثلاثمائة وستون صنماً.
و(عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( )، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ( ).
هذا عدا الأصنام الكبيرة التي وضعت في المدن والقرى والجادة العامة يلجأ إليها الناس ، وينذرون لها النذور إذ قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بارسال سرايا لهدمها فلم يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تلك المدن والقرى غزاة إنما دخلوها لهدم الأصنام وإنقاذ الناس والأجيال المتعاقبة من الوثنية وأضرارها وحجبها للرزق وجلبها للفتن والفساد .
ليكون هذا الهدم من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عند احتجوا على أن الإنسان يفسد في الأرض ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
فمن الآيات إزاحة أفراد ومصاديق من الفساد في موضوع متحد برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأول : هدم الأصنام .
الثاني : وقف عبادة الأوثان .
الثالث : تنزيه البيت الحرام من الأصنام ، ليكون من مصاديق دعاء ابراهيم [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
الرابع : جعل الطرق العامة المؤدية الى البيت الحرام خالية من الأصنام
وكان من مصاديق السلام والأمن في القرى والطرق والمدن القريبة من مكة ، كما في قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ]( ).
إخبار النبي (ص) عن مبادرة فكاك الأسرى من علم الغيب
لا يختص الأمر بعدم البكاء على قتلى بدر القضية الشخصية وبكاء الفرد أو المرأة الواحدة ، إنما يشمل المنع من إقامة العزاء ومجالس النياحة والمشي بين البيوت للمواساة ، وذكر قتلاهم عند المسجد الحرام ومنتديات قريش .
وفي حين التزم أهل مكة بأوامر رؤساء قريش بعدم البكاء على قتلاهم في معركة بدر فانهم لم يلتزموا بالتأني في فكاك الأسرى ، مع أن التعجيل بفكاكهم يستلزم بذل الأموال .
فمثلاً كان بين الأسرى (أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ ضُبَيْرَةَ السّهْمِيّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّ لَهُ بِمَكّةَ ابْنَا كَيّسًا تَاجِرًا ذَا مَالٍ وَكَأَنّكُمْ لَهُ قَدْ جَاءَكُمْ فِي طَلَبِ فِدَاءِ أَبِيهِ)( ).
وفي قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا مسائل :
الأولى : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر من علوم الغيب فلا يعلم ما يجول في نفس ابن أبي وداعة من النوايا.
الثانية : طرد البأس من قلوب الصحابة بخصوص بدل فكاك الأسرى ، فحينما يستبطئون قدوم قريش فانهم يخفضون قيمة البدل ، فجاء قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه بابقاء البدل على حال وهو أربعمائة دينار .
الثالثة : جعل المشركين يبعثون لفكاك أسراهم .
الرابعة : حدوث الفتنة بين المشركين بأن ينقض كلام رؤسائهم بمجئ الأفراد لفكاك الأسرى .
الخامسة : إطلاع كفار مكة عن السنن العقائدية والعبادية والإجتماعية في المدينة .
السادسة : رؤية المشركين حسن معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للأسرى ، قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
السابعة : إنتقال المسلمين الأخبار التي يأتي بها أهل مكة ممن يريد فكاك أسيره ، بماذا يخطط رؤساء قريش.
الثامنة : تنمية ملكة الصبر في نفوس الصحابة بخصوص المال والحصول عليه .
التاسعة : زيادة إيمان الصحابة ، قال تعالى [وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى] ( ) ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيتها للإيمان في النفوس ، وفي قوله تعالى [ قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ…] ( ) بيان بأن الإيمان مرتبة لاحقة للدخول للإسلام وهي أعلى وأسمى ، وفيها الأجر والثواب العظيم ، فبين المسلم والمؤمن عموم وخصوص مطلق ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، فكان نزول آيات القرآن على نحو التدريج تنمية لملكة الإيمان .
العاشرة : تأكيد قانون وهو عدم أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدل فكاك الأسرى ، فكل من قام بتأسير أسير فله بدل وعوض فكاكه ، فيأتي أهل مكة للتفاوض معه مباشرة .
وفيه تنزيه لمقام النبوة ، وإخبار لقريش بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يملي ويطلب منهم مالاً ، وهل فيه دلالة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقصد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، الجواب نعم.
الحادية عشرة : ترغيب الصحابة بدخول المعركة إن زحف المشركون مرة أخرى ، وهو الذي حصل في معركة أحد ، وان كانت أسباب إظهار عزم كثير من الصحابة على لقاء المشركين عند قدومهم ووصولهم لمشارف المدينة أعم من مسألة الأنفال وفكاك الأسرى .
فكاك أسرى بدر دعوة للإيمان ونبذ القتال
حالما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قادما من معركة بدر أذن بفكاك الأسرى وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وكان المطلب ابن أبي وداعة الذي حينما سمع رؤساء قريش ينهون عن التعجيل بفداء الأسرى أجابهم : صدقتم لا تعجلوا.
وهو ينوي مخالفتهم وعدم الإصغاء لقولهم ، فلم يتخلف بل إنسل في الليل خارجاً من مكة متوجهاً إلى المدينة (فَأَخَذَ أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَانْطَلَقَ بِهِ)( ).
لتتحقق المسائل أعلاه بمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وبعد بضعة أيام دخل مع أبيه الأسير مكة فاجتمع عليه أهلها ، وصاروا يسألونه عن أمور :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : دلائل النبوة والمستحدثة .
الثالث : معجزة أداء الصلاة خمس مرات في اليوم .
الرابع : السؤال عن المهاجرين من قبل أهليهم وذويهم ، وسلامتهم من القتل يوم معركة بدر.
وكان مجموع القتلى من المهاجرين يوم معركة بدر ستة ، وفي معركة أحد أربعة ، وهذه القلة عنوان خزي لكفار قريش ، فعندما توجهوا إلى معركة أحد وعدوا أهل مكة بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمجئ بالمهاجرين أسرى مقيدين بالحبال فخاب سعيهم .
الخامس : سؤال المسلمين والمسلمات الذين في مكة عن أحوال المهاجرين والمهاجرات لإستقراء السبيل إلى الهجرة.
السادس : حال الأسرى في المدينة .
السابع : وصايا الأسرى التي حمّلوها إلى أهليهم ، ومنها التعجيل بفكاكهم من الأسر لإستصحاب ما فعله المطلب والإقتداء به ولم يمنع الأسرى في المدينة من لقاء بعضهم بعضاً.
ترى هل انتفع المشركون وكفار قريش خاصة من بعث الأشخاص والوفود لفكاك الأسرى ، الجواب من جهات :
الأولى : مجئ الأشخاص والوفود مناسبة للإطلاع على النظم الجديدة في دولة النبوة .
الثانية : نقل آيات وسور القرآن المدنية إلى أهل مكة ورب ناقل لسنن الإيمان وهو ليس مؤمن ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالثة : نقل أخبار المهاجرين ، وكيف أنهم بحال حسن .
الرابعة : عرض صور تشبيه للمسجد النبوي في بنائه ، وحضور المسلمين فيه ، وأداء الصلاة للدلالة على قبح نصب الأصنام في البيت الحرام.
ومن الآيات أن الناس جميعاً لم يخشوا منافسة المسجد النبوي للبيت الحرام ، ولكنه من مصاديق قوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
الخامسة : الدلالة على قانون أن الأرض كلها ملك لله عز وجل وأن المسلمين يتنقلون فيها ويستقرون حيث الأمن وأداء الوظائف العبادية ، وهو من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...
قانون مصاحبة البلاء للكفر
من الإعجاز في النبوة لحوق الإبتلاء والأذى العام للذين يحاربون النبي والتنزيل ، وهو الذي تجلى في معركة بدر من جهات :
الأولى : المشركون هم الذين أصروا على القتال وابتدأوا به .
الثانية : تقدم ثلاثة من رؤساء قريش لطلب المناجزة وسط الميدان ، وهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة .
ليقتل الثلاثة جميعاً في ذات المبارزة ، وليس فيما بعد ، أي أنهم أصروا على القتال بين الصفين فخروا صرعى ، وصاروا من أسباب هزيمة جيش المشركين ، ونزل قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ] ( ) ، وقد تقدم قراءة في الآية أعلاه في الجزء الثالث والسبعين بعد المائة من هذا التفسير( ) .
الثالثة : دخول الحزن لكل بيت من بيوت مكة .
الرابعة : صيرورة الرجال والنساء يتنقلون بين البيوت لتقديم التعازي ، ولإظهار السخط على رؤساء قريش بسبب كل من :
الأول : مقدمات معركة بدر .
الثاني : إنتفاء الحاجة لإستمرار تقدم وزحف جيش قريش بعد مجئ رسالة من أبي سفيان تتضمن الإخبار بسلامة القافلة ، واقترابها من مكة ، ويطلب من الجيش الرجوع وهو المشهور .
الثالث : إطلاع عامة الناس على حقيقة وهي أن سبب المعركة هو بغي قريش وإصرارهم على القتال ، ومن غير حاجة للقتال.
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث هن رواجع على أهلها ، المكر ، والنكث ، والبغي ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ]( )، [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( )، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ( ).
الرابع : تجلي قانون وهو عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم بدر وإن إجتمعت مقدمات هذا القتل ، بكثرة وقدرة جيش قريش .
ليكون سخط أهل مكة وغيرهم على رؤساء قريش بسبب معركة بدر من مصاديق مكر الله بهم في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
فمن مكر الله عز وجل برؤساء الحرب والفتنة جعل الناس يسخطون عليهم ، لذا فمن أسباب منع رؤساء قريش النياحة على قتلى بدر الخشية من غضب وسخط وتجرأ الناس عليهم ، وفقدانهم الشأن في مكة وخارجها فلجأوا إلى إشغال الناس بالإستعداد والتهيئ للقتال في معركة أحد ، وعسكرة البلد الأمين ، وفيه حجة عليهم.
وهل من موضوعية لهذا السخط باصابة المشركين بالضعف والوهن في معركة أحد ومقدماتها ، الجواب نعم.
والإبتلاء والبلاء من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فيزداد البلاء كماً وكيفاً على الكفار عند محاربتهم النبوة والتنزيل ، لذا توالت المصائب والمحن على كفار قريش ولحقهم الذل وأصاب تجارتهم النقص والإنكماش.
لماذا استأجر أبو سفيان رسولاً إلى قريش
لقد رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعد البيت الحرام لتكون مكة مركز إيمان وأمن ، وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
فلما عبدت قريش وهم من ذرية إبراهيم الأصنام ، وفقدت مكة الأمن بعث الله عز وجل النبي محمداً لهدايتهم وإعادتهم إلى جادة الصواب والتنزه عن عبادة الأصنام ، ولكنهم أصروا على عبادتها وسعوا في قتله ، فاعرض عنهم مهاجراً فخرجت الجيوش العظيمة من مكة لقتاله بما لم يحدث في تأريخ مكة من قبل ، فلم تعهد مكة أن يخرج منها عشرة آلاف رجل لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الخندق.
فجاءت استجابة أخرى من عند الله عز وجل لإبراهيم ودعائه من وجوه عديدة منها صلح الحديبية وفتح مكة ، وفي هذه الإستجابة شاهد على أن النبي محمداً لم يغز أحداً.
ومن مفاهيم قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، لحوق الهزيمة والذل لكفار قريش ، ومن مصاديقه كثرة القتلى في صفوفهم ، مع سبعين أسيراً صاروا في المدينة يطلعون على صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خمس مرات في اليوم ، ويتلون القرآن ، بما يجعل الأسرى يدركون إنتفاء السبب لقتالهم ، فليس من مقتض لقتالهم ولكن رؤساء قريش لم يتعظوا من هذه النتيجة.
وكان عليهم لا أقل السكوت والرضا بما لحقهم ، وإرسال الوفود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسؤاله ترك قوافلهم تسير في طريقها إن كانوا يخشون عليها .
ومن الآيات بعد معركة بدر توافد المشركين على المدينة من غير أن يمنعهم أو يتعرض لهم أحد وكانوا يصلون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويستمعون له ، ويسألونه.
وقد ورد لفظ (يسألونك) خمس عشرة مرة في القرآن ، فهل منها سؤال أو اسئلة للمشركين ، المختار نعم ، خاصة وأن كل فرد من هذه الأسئلة يتكرر من قبل الناس ، وقد يسأله مرة المسلم وأخرى الكتابي ، وأخرى الكافر.
نعم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة حذرين من الذين يبتغون إغتيال النبي ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
لقد وصل أبو سفيان مع قافلته إلى مكة قبل وصول فلول قريش من معركة بدر ، وكان وغيره يدركون أنه سبب هذه الفتنة ببعثته ضمضم بن عمرو إلى مكة يخبرهم بأن محمداً وأصحابه يتعرضون لأموالهم ، ولم يثبت هذا التعرض.
وفي طريق عودة قافلة أبي سفيان إلى مكة ، وعندما دنا (من الحجاز جعل يتحسس الاخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمدا قد استنفر لك ولعيرك، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا، فبعثه إلى مكة)( ).
ترى لماذا يرسل أبو سفيان أحد رجال قافلته إلى مكة واستأجر ضمضم الجواب من جهات :
الأولى : سرعة ضمضم .
الثانية : الوثاقة من ضمضم .
الثالثة : خشية أبي سفيان من رجالات قريش ألا يقوموا بتبليغ رسالته ، وأنهم سينقلون الحقيقة ، وهي ليس من أثر لجيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يثبت هذا التعرض ، وبلحاظ الخبر أعلاه كان أبو سفيان يكثر من السؤال للركبان إلى أن وجد أحدهم يخبره بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استنفر له ، ولم يذكر اسم هذا القائل ، ولا وثاقته.
الرابعة : تظاهر أبي سفيان بحاجته للرجال عند المواجهة.
الخامسة : خشية أبي سفيان من دخول بعض أفراد القافلة الإسلام وإخفائهم هذا الدخول فلا يوصلون ما يوصي به .
السادسة : رجال القافلة من قريش ولا يريدون اشعال الفتنة .
السابعة : يعلم أبو سفيان أنه يملي على الأجير ما يقول ، وبما يحقق الغايات الخبيثة التي يروم.
وقد أوصى أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري بوصايا يقول بها عندما يدخل مكة :
الأولى : الخروج سريعاً لا يلوي على شئ .
الثانية : أن يجدع بعيره أي يقطع أنفه .
الثالثة : أن يحول رحله ، ويجعله إلى الوراء ، لبيان أنه في مصيبة وذل.
الرابعة : أن يشق قميصه من قبله ومن دبره.
الخامسة : استنفار قريش ، وندبهم إلى أموالهم .
السادسة : الإعلان بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد عرّض للقافلة ، والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على أنهم قد لا يدركون القافلة إلا وقد استولى عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
السابعة : الصراخ في بطن الوادي ، وهو واقف على بعيره.
وقد فعل ضمضم ما أمره به أبو سفيان ، ولعله لم يدفع أجرته له عشرين مثقالاً إلا بعد العودة من مكة والتأكد من قيامه بكل ما أمره .
وحينما وصل ضمضم بن عمرو إلى مكة جدع بعيره وحَوّلَ رحله ، وشق قميصه وهو يقول (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، اللّطِيمَةَ اللّطِيمَةَ أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا ، الْغَوْثَ الْغَوْثَ)( ).
لقد أحكم أبو سفيان الخطة بما يمنع قريشاً من التفكر والتأني والشك في الأمر ، إذ أحدث هياجاً عاماً يحجب صوت العقل.
ومع هذا فان رجالاً وعشائر امتنعوا عن الخروج إلى بدر ، ومنهم من استعملت معهم قريش التبكيت والتعيير لحضهم على الخروج ، فمثلاً أظهر أمية بن خلف عزمه على القعود وعدم الخروج إلى بدر ،(وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا ثَقِيلًا ، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ بِمِجْمَرَةِ يَحْمِلُهَا ، فِيهَا نَارٌ وَمِجْمَرٌ حَتّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا أَبَا عَلِيّ اسْتَجْمِرْ فَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ النّسَاءِ .
قَالَ قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ مَا جِئْت بِهِ قَالَ ثُمّ تَجَهّزَ فَخَرَجَ مَعَ النّاسِ)( ).
فكان فيه حنفه هو وابنه علي بن أمية ، ولعل من أسباب إمتناع أمية وبعض رجالات قريش إدراكهم بأن إخبار واستنفار أبي سفيان مكر ومكيد.
وعلى الفرض الذي أختاره وهو إرادة أبي سفيان المكر والكذب واشعال الفتنة بدعوى تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقافلته ، هل كان أبو جعل وهو في مكة متواطئاً معه ولو على نحو القصد الإرتكازي ، خاصة وأنه صار يحرض الناس على الخروج ، وحتى في ميدان المعركة امتنع عن دعوة عتبة بن ربيعة لإجتناب القتال ، الجواب لا دليل عليه.
لقد كانوا يعرفون الخلق الكريم الذي يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كانوا يسمونه قبل النبوة (الصادق الأمين) وهو أمين على ما في يده.
وربما يدل قيام أبي سفيان بارسال رسول إلى قريش رجلاً من غفار من خارج رجال القافلة الذين كان عددهم نحو ثلاثين عدا الغلمان والرعاة على مكر وكيد ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، على ابتداء مقدمات معركة بدر من طرف المشركين ، وهم الذين أرادوا القتال وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز قريشاً ولم يطلب القتال ، ولم يهيج الكفار لقتاله ، ويدل عليه نعت المسلمين بالذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
فلا يقول أحد أن المسلمين لما صاروا ذوي قوة ومنعة وكثر عددهم ساروا نحو معركة بدر ، إنما كان أذلة مستضعفين وقليلي العدد حتى في يوم المعركة ، ويدل عليه قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ).
لماذا استأجروا الفي رجل لمعركة أحد
لقد جعل الله سبحانه الحياة الدنيا دار إنذار وموعظة وعبرة ، وهي مملوءة بأسباب الحكمة والهداية ، لذا تفضل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لإختيار السبيل القويم ، والطريق الذي فيه الفلاح ، إذ تداهم الإنسان عشرات أو مئات المسائل الإبتلائية في اليوم.
وعن سعد بن أبي وقاص (قال قلت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس أشد بلاء قال الانبياء ثم الامثل فالامثل يبتلي العبد على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاءه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الارض ما به خطيئة)( ).
فتفضل الله عز وجل وبعث الإنبياء للجوء إليه في الإختيار والإنتقاء والإبتعاد عن نية الضرر وأسباب المفسدة ، فقد جعل الله عز وجل النبوة رحمة عامة ، ومنافعها متجددة.
وتفضل الله عز وجل وأنزل القرآن معجزة عقلية خالدة تتضمن منهاج الهداية ، لذا ورد في الحديث القدسي (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين )الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه :
(يقول : العبد : الحمد لله رب العالمين،
فيقول الله : حمدني عبدي،
ويقول العبد : الرحمن الرحيم،
فيقول الله : أثنى عليَّ عبدي،
فيقول العبد : مالك يوم الدين،
فيقول الله : مجّدني عبدي،
يقول العبد : إياك نعبدُ وإياك نستعين،
قال : هذه الآية بيني وبين عبدي،
يقول العبد : اهدنا الصراط إلى آخره،
يقول الله : فهذا لعبدي ولعبدي ما سأل) ( ).
لم يخرج النبي (ص) للتعرض لقافلة أبي سفيان
لقد كان رؤساء قريش يجتمعون في دار الندوة على نحو دوري ، وعندما تأتي القوافل من التجارة ، وفي موسم الحج ، وعند الملمات ، ومنه المناجاة لمعركة بدر والتحريض العام على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما جاء رسول أبي سفيان الى مكة يندبهم لقتاله .
وقال ابن حزم (فأقام رسول صلى الله عليه وآله وسلم من السنة الثانية، ثم اتصل به عليه صلوات الله تعالى وسلامه عيراً لقريش عظيمة فيها أموال كثيرة مقبلة من الشام إلى مكة، فيها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش، عميدهم أبو سفيان بن حرب، أو قيل: أربعون رجلاً.
من جملتهم : مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاصي .
فندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه العير، وأمر من كان ظهره حاضراً بالخروج، ولم يحتفل في الحشد، لأنه إنما قصد العير، ولم يقدر أنه يلقى حرباً ولا قتالاً.
فاتصل بأبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارج إليهم، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى أهل مكة مستنفراً لهم إلى نصر عيرهم، فنهض إلى مكة، واستنفر، فنفر أهل مكة، وأوعبوا إلا اليسير)( ).
والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج من المدينة طلباً للعير والأموال ، إنما كان يخرج وأصحابه على نحو دوري حول المدينة ، ويمر بالقرى ويقيم الصلاة في الطرقات العامة .
ويدرك الناس ما صار عليه المسلمون من المنعة ، فيرغبون في الإسلام ، ويمتنعون عن الإعتداء عليهم وعن نصرة قريش في حربها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجوم قريش ، وعدم صبرهم عليه وعلى انتشار الإسلام أكثر وأظهر من علمه بقدوم قافلة أبي سفيان لذا فانه يحتاط لهذا الهجوم المحتمل بالخروج المتكرر .
لقد قام النبي ومنذ أن كان في مكة قبل الهجرة بالسعي المتصل في تلاوة آيات القرآن والتي تتضمن بيان أحكام الشريعة والتذكير بالمعاد.
وتبليغ الناس من أهل المدن والقرى برسالته ، ويلتقي بهم بنفسه خاصة في موسم الحج ، وهذه اللقاءات من الشواهد على صدق نبوته ، إذ أنه لا يحتجب عن الناس ويبعث أهل بيته وأصحابه للدعوة والتبليغ مع أن هذه الكيفية نوع طريق لتلقي الضرر ولإحتمال القتل عند التبليغ أو بمكر وكيد كفار قريش .
وقد أقدموا على خنقه ، وهو ساجد في البيت الحرام ، كما أرادوا اغتياله في ليلة المبيت والهجرة التي تصادف هذه الأيام ( ).
وهل كان إرسال أبي سفيان رسولاً إلى قريش لندبها للخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكيدة ومكراً ، إذ أنه علم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خارج المدينة ، المختار نعم ، وقد يقال لماذا لم يلتفت لهذا المسألة بل هناك شبه إجماع في الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج للقاء قافلة أبي سفيان.
وعلى فرض هذا القصد فان اعتراض القافلة أعم من الإستيلاء عليها ، ولعله لإخافة قريش ، وجعلها تأذن بهجرة المسلمين والمسلمات الذين في مكة ، وتخفف عنهم العذاب والضرر ، فهذا الخروج من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
ومن الشواهد على أن لقاء القافلة أعم من الإستيلاء عليها سرية حمزة بن عبد المطلب والتي كانت قبل سنة من معركة بدر فبعد مضي سبعة أشهر على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقد لواء أبيض لعمه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين من الصحابة كلهم من المهاجرين (ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقى أبا جهل في ثلاثمائة رجل من قريش، فحجز بينهم مجدي بن عمرو، ولم يكن بينهم قتال) ( ).
وحتى هذا القول وجعل التعرض للقافلة عرضة لخروج سرية حمزة بن عبد المطلب يحتاج إلى تحقيق وتدقيق ، والمختار الأصل ، وهو خروج السرايا والكتائب من المدينة ليس بقصد الإستيلاء على القوافل ، لوجوه :
الأول : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : رأفة وعناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مكة ، وأكثرهم أهله وعشيرته ، وكانوا رجالاً ونساءّ يشتركون في أموال وتجارة القوافل .
الثالث : لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، بدعوة قريش للإسلام وإنذارهم ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
الرابع : حال الزهد التي كان عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والثقة بفضل الله ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
الخامس : تحلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصبر حتى بخصوص الدور والأموال التي استولت عليها قريش.
ورد عن أسامة بن زيد (أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين تنزل غدا ، فقال : وهل ترك لنا عقيل من رباع)( ).
و(عن أبي رافع قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تنزل منزلك من الشعب ، فقال : وهل ترك لنا عقيل منزلا ، وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك، فابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : لا أدخل البيوت ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا، وكان ياتي المسجد لكل صلاة من الحجون)( ).
فنسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد داره ودور بني هاشم إلى قيام عقيل ببيعها ، فلا يختص الأمر بوراثة المسلم من الكافر أو عدمها ، فعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه استولى المشركون على أملاكهم وأموالهم.
وهل كان هذا الإستيلاء والظلم سبباً لعزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على التعرض لقافلة أبي سفيان ، الجواب لا دليل عليه ، إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو إسلام قريش وهدايتهم ، وغيرهم من أهل الجزيرة ، وقال تعالى مخاطباً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة الأمر [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يجتنب إثارة النفرة في قلوب الناس أزاء الإسلام ، فان قلت من أوائل آيات القرآن نزولاً ما تتضمن الإنذار والوعيد للذين كفروا مع بيانها لسوء عاقبة الذين ماتوا ويموتون على عبادة الأوثان ، مما جعل المشركين يؤولون الآيات بأنها ذم لآبائهم ، وكان الأولى بهم التدبر في حالهم والشكر لله عز وجل على نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من سبل الهداية إلى الإيمان والرشاد.
ومن خصائص النبوة والتنزيل امتناع الناس عن الغيظ والحنق أزاء النبي ، ولا عبرة بالقليل النادر من رؤساء الكفر لذا تجد أكثر أفراد جيش المشركين يلاقي النبي وأصحابه بالسيوف ، ولكن قلوب بعضهم مع النبي ، والبعض الآخر غير راض على محاربته ، بل أن طائفة من جيش المشركين كانوا يخفون إسلامهم.
وهل كان أبو سفيان برسائله إلى قريش ، وأبو جهل وسهيل بن عمرو ونحوهم حين ذهابهم إلى بدر كانوا يعلمون هذا الأمر ، المختار نعم ، إلا أنهم كانوا يراهنون على أمور :
الأول : العصبية القبلية ، والقتال عن اسم قريش وعشائرها .
الثاني : قتال الأبناء المسلمين تحت ألوية آبائهم الكفار .
الثالث : كثرة جيش قريش .
الرابع : قيام قريش بالحرب السريعة الخاطفة ، ولكن الله عز وجل أخزاهم.
الخامس : التعجيل باستئصال الإسلام قبل تزايد ومضاعفة عدد المسلمين وهو الذي تدل عليه شواهد وأمارات عديدة ولما ذكر القرآن كراهة فريق من الصحابة للقتال كما في قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( )، فان قلت الكراهة وأشد منها موجودة في معسكر المشركين من باب الأولوية القطعية لأنهم يدركون بأنهم يقاتلون على الباطل.
قانون إجتماع المعجزة العقلية والحسية بمصداق واحد
تقسم المعجزة إلى قسمين :
الأول : المعجزة الحسية وهو سور الموجبة الكلية عند الأنبياء ، وكانت معجزات الأنبياء حسية مثل سفينة نوح ، وناقة صالح ، وعصا موسى ، وإبراء عيسى الأبرص والأكمه .
الثاني : المعجزة العقلية وهي القرآن ، كما كانت معجزات حسية عديدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها حديث الإسراء والمعراج ، وإنشقاق القمر ، جريان الماء من بين أصابعه ، وكفاية الطعام القليل للحشود الكثيرة.
ومنها معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، ويمكن القول بأن بين معجزاته ومعجزات الأنبياء الآخرين عموم وخصوص مطلق ، فمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم كماً وكيفاً.
وهذا المصطلح مستحدث في هذا التفسير ، وكذا مصطلح السنة التدوينية .
ويتجلى قانون وهو إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين المعجزة العقلية والحسية ، فليس من نبي من الأنبياء فاز بالمعجزة العقلية إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن معجزاته إظهاره وتوثيقه بالكتاب المنزل عليه وبجهاده وبالمسلمين والمسلمات .
ونذكر هنا قسيماً ثالثاً للمعجزات العقلية والحسية وهو :
الثالث : قانون إجتماع المعجزة العقلية والحسية بمصداق وفرد واحد من الوقائع والأحداث ومنه خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لميدان المعركة ، ومنه خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وإلى معركة أحد ، إذ ورد بخصوص معركة بدر قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( ) يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يسارعون إلى الموت وهم ينظرون ، وبخصوص معركة أحد ورد قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وهل في خاتمة الآية بذكر ثلاثة من الأسماء الحسنى تذكير بجدالهم في واقعة بدر ، الجواب نعم ، ولم يرد لفظ [أَخْرَجَكَ] و[غَدَوْتَ] إلا في هاتين الآيتين .
عدد كتائب النبي محمد (ص) والتي تسمى غزوات
اختلفوا في عددها على جهات :
الأولى : ثماني عشرة غزوة .
الثانية : تسع عشرة غزوة .
الثالثة : إحدى وعشرون .
الرابعة: أربع وعشرون.
الخامسة : خمس وعشرون غزوة ،وهو الذي نسب إلى المشهور.
السادسة : ست وعشرون غزوة .
السابعة : سبع وعشرون غزوة ( ).
الثامنة : ثلاث واربعون كما عن قتادة( ).
وقد يذكر أحد التابعين عددين مختلفين لغزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال الزهري (سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانى عشرة غزوة.
وسمعته مرة أخرى يقول: أربعا وعشرين.
فلا أدرى أكان ذلك وهما أو شيئا سمعه بعد ذلك) ( ).
(وقال محمد بن إسحاق: وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الكريمة سبعا وعشرين غزوة:
الأولى : غزوة ودان وهى غزوة الابواء .
الثانية : غزوة بواط من ناحية رضوى.
الثالثة : غزوة العشيرة من بطن ينبع .
الرابعة: غزوة بدر الاولى يطلب كرز بن جابر .
الخامسة : غزوة بدر العظمى التى قتل الله فيها صناديد قريش.
السادسة : غزوة بنى سليم حتى بلغ الكدر .
السابعة : غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب .
الثامنة : غزوة غطفان وهى غزوة ذي أمر .
التاسعة : غزوة بحران معدن بالحجاز .
العاشرة : غزوة أحد .
الحادية عشرة : حمراء الاسد .
الثانية عشرة : غزوة بنى النضير .
الثالثة عشرة : غزوة ذات الرقاع من نخل.
الرابعة عشرة : غزوة بدر الآخرة .
الخامسة عشرة : غزوة دومة الجندل .
السادسة عشرة : غزوة الخندق .
السابعة عشرة : غزوة بنى قريظة .
الثامنة عشرة : غزوة بنى لحيان من هذيل.
التاسعة عشرة : غزوة ذى قرد .
العشرون : غزوة بنى المصطلق من خزاعة.
الحادية والعشرون : غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون.
الثانية والعشرون : غزوة خيبر.
الثالثة والعشرون : عمرة القضاء .
الرابعة والعشرون : غزوة الفتح .
الخامسة العشرون : غزوة حنين.
السادسة والعشرون : غزوة الطائف .
السابعة والعشرون : غزوة تبوك.
قال ابن إسحاق: قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف) ( ).
(وَكَانَتْ السّرَايَا سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَرِيّةً وَاعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ) ( ).
المختار أن ما يسمى غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي كتائب .
وقد يقال أن الأختلاف بين لفظ غزوات وكتائب صغروية لأنه لفظي ، ولكنه نزاع عقائدي في الأصول تبتني عليه وتتفرع منه مسائل كثيرة إلى يوم القيامة .
وقد ورد ذكر عدد من كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن ، وليس فيها اسم غزوة وهي :
الأولى : معركة بدر ، وورد ذكرها في سورة آل عمران وسورة الأنفال ، ومنه قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
الثانية : معركة أحد ورد ذكرها في سورة آل عمران ،ومنه قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
الثالثة : صلح الحديبية الذي تم في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وقد سمّاه الله عز وجل فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( )وقال تعالى بخصوص هذا الصلح أنه فتح لبيان أن الجهاد والقتال ليس العلة الغائية ، إنما الغاية هي المغفرة والرحمة من عند الله عز وجل والفوز بالأجر والثواب العظيم.
أسماء الثمار التي ذكرت في القرآن
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه بيان فضل الله عز وجل على الناس ، وليس من حصر لفضله سبحانه على الفرد والمجتمع ، ومنه نزول الغيث والمطر، وتعدد وكثرة النباتات والأشجار والثمار ، وترى ذات الحب أو الثمر له عشرات أو مئات الأنواع من ذات الجنس ، كما في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ( ) ولم ينحصر ذكر القرآن للناس بخصوص ما يزرع في الحجاز أو المنطقة العربية بل ذكر القرآن ثماراً تزرع في المناطق الحارة وأخرى في الباردة .
وذكر هذه الثمار في القرآن دعوة للإيمان ، وزجر عن الكفر ، وعن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيها غنى عن الغزو ونحوه لأنها تدعو الناس في مشارق ومغارب الأرض إلى التدبر في بديع صنع الله ، والرزق الكريم الذي يتفضل به على الناس .
وهل في تعدد ذكر هذه الثمار في القرآن بشارة زيادتها ووفرتها ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم .
وقد ذكر في القرآن كل من :
الأول والثاني : النخيل والزروع ، قال تعالى [وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
الثالث : العنب ، قال تعالى [فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ] ( ).
الثالث والرابع : التين والزيتون ، قال تعالى [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ] ( )، وتذكر الثمار على نحو متعدد في الآية الواحدة ، وبكلمات قليلة كما في الآيتين أعلاه ، وكما في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ( ) لبيان عظيم فضل الله عز وجل والإخبار عن قانون وهو ما من بلد أو قرية إلا وتزرع فيها أكثر من فاكهة ، وتدل الآية أعلاه على الإختلاف والتباين في طعم الجنس الواحد من الثمار ، كما في الزيتون والرمان ، وهو من باب المثال ، فانواع الرطب والعنب والتين وغيرها كلها تختلف في طعمها .
الخامس : الرطب والتمر ، قال تعالى [وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا] ( ) أي رطباً طرياً ساعة جنيه وجمعه ، ولابد أن في الرطب قبل أن ييبس منافع عديدة فالرطب هو البلح الناضح اللين ذو القشرة الرقيقة ، فهو سهل البلع والهضم .
وعندما يفقد الرطب كمية من الماء يصير تمراً ، ويتحول لونه وتكون قشرته أكثر كثافة وسمكاً ، ويميل إلى الجفاف .
وقد ذكر القرآن الطلع على نحو الخصوص، قال تعالى [وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ] ( ).
والقِنوان : عُذوق الرطب ، وذكر طلع النخيل وهو الغبار والمسحوق التناسلي للنخيل لبيان الحاجة إليه في تلقيح النخيل ، وهو مناسبة للتدبر في بديع صنع الله عز وجل ، وله منافع كعلاج في تقوية الباه عند الزوج والزوجة .
وقيل ينفع في تغذية البشرة وكثافة الشعر ، وفي علاج فقر الدم وتقوية المعدة والعظام من غير إفراط فيه .
السادس : الرمان والذي ذكر في القرآن ثلاث مرات ، وهل يدل هذا التعدد بذكر الرمان على كثرة فوائده والدعوة إلى الإكثار في زراعته والعناية بشجرته وتسويقه ، الجواب نعم ، إذ أظهرت الدراسات الطبية الرصينة والحديثة غناه بالفيتامينات ، وكونه مضاداً للإلتهابات ، وعلاجاً للأورام وغيرها ، قال تعالى [فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ] ( ).
السابع : عموم النباتات والحبوب والخضروات ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا *وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا] ( ).
الثامن: ذكر القمح والشعير في القرآن ، كما في قوله تعالى [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
التاسع : شجرة الموز ، كما روي عن الإمام علي عليه السلام وأبي سعيد الخدري في قوله تعالى [وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ]( ) ( ).
والمنضود أي المتراكب بعضه فوق بعض ، فيكون ثمرة في الشجرة.
العاشر : السدر ، قال تعالى [فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ]( ) أي له أشواك.
آيات البرزخ
في إحصاء وذكر الآيات الخاصة بالسخرية علم مستحدث ، وتأديب وإصلاح ، سواء تلك التي تبين سوء عاقبة الذين استهزءوا بالرسل ، أو الآيات التي تحذر المسلمين والمسلمات من السخرية والإستهزاء بالآخرين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )، وكذا إحصاء وذكر الآيات التي تتعلق بعالم البرزح وعالم الثواب والعقاب الإبتدائي في القبر وقبل يوم القيامة.
وعن الإمام الصادق عليه السلام (البرزخ: القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة)( ).
ولا يشترط ذكر لفظ (البرزخ) فيها خاصة وقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ، تتعلق واحدة منها بعالم البرزخ ومدة بقاء جسد الإنسان في القبر إلى حين النفخ في الصور والبعث في القبور ، وهو قوله تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
ومن آيات عالم البرزخ الأخرى :
الأولى : في آل فرعون [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( )، والغدو والعشي من صفات أيام الحياة الدنيا ، فليس في الآخرة غدو وعشي ، أي الصباح والمساء ، وقيل المراد من الغدو والعشي الدوام وأن المراد من العرض الإحراق كما يقال عرض على السيف ، وهذا المعنى بعيد ، لحمل الكلام على حقيقته.
الثانية : استدل أيضاً بالثواب العظيم للمؤمنين كما في قوله تعالى [جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا]( )، وإن كانت الآية تتضمن الإخبار عن الجنة ، صراحة ، واستدل على تعلقها بعالم البرزخ بقوله تعالى [لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ( ) * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( ) * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ( ).
والذي لم يقل بعذاب البرزخ استدل بقوله تعالى [قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا]( )، ولكن الإستدلال بالتأويل لا يرقى إلى معارضة الآيات الصريحة والنصوص وآحاديث النبي محمد الواردة بخصوص عالم البرزخ ، فالناس في عالم والبرزخ على أحوال مختلفة وهي :
الأول : الذي يكون قبره روضة من رياض الجنة.
الثاني : الذي يكون قبره حفرة من حفر النيران .
الثالث : المسكوت عنه من المستضعفين ونحوهم ، وهم الذين ينطبق عليهم مضمون هذه الآية .
بالإضافة إلى كون عذاب القبر ليس دائماً بالنسبة لطائفة من أهل المعاصي والذنوب فلذا قالوا [مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا].
و(عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآ وسلم : ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب القبر من ذكر الله)( ).
فاذا خاف المسلم أو المسلمة في حياته من عذاب القبر ، فقد دله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحرز والوقاية منه وهو الإكثار من ذكر الله.
و(عن أبي أُمامة عن أُبَي بن كعب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : من قرأ سورة الأحزاب وعلَّمها أهله وما ملكت يمينه أُعطي الأمان من عذاب القبر)( ).
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أنزلت عليّ سورة تبارك وهي ثلاثون آية جملة واحدة ، وقال : هي المانعة في القبور ، وإن قرأءة قل هو الله أحد في صلاة تعدل قراءة ثلث القرآن ، وإن قراءة قل يا أيها الكافرون في صلاة تعدل ربع القرآن ، وإن قراءة إذا زلزلت في صلاة تعدل نصف القرآن)( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يخبر بأن النجاة من عذاب القبر بالغزو والقتال وسفك الدماء ، إنما قال إنها بذكر الله الذي يعني أداء الفرائض العبادية وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغة الصلاح والإصلاح ، والإمتناع عن سفك الدماء والإضرار بالغير وإتلاف الأموال العامة والخاصة ، قال تعالى [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ]( ).
قانون المقارنة بين كل معركتين في أيام النبوة
يمكن استحداث علم في الفقه والدفاع المقارن بين كل من :
الأول : كل معركتين أيام النبوة .
الثاني : كل سريتين من سرايا الإسلام .
الثالث : مقدمات كل معركتين ، مثل مقدمات معركة بدر وأحد ، وبين معركة أحد والخندق .
الرابع : أسباب كل من المعركتين .
الخامس : نتيجة كل معركتين .
السادس : عدد المسلمين وعدد المشركين في كل معركة .
السابع : الآيات القرآنية التي نزلت بخصوص كل من المعركتين.
الثامن : السنة النبوية في كل من المعركتين والمنافع المترشحة عن كل من المعركتين ، والنتائج المستقرأة من كل من المعركتين.
ويختص هذا الفصل بالمقارنة بين معركة بدر ومعركة أحد ، والنسبة بينهما هو العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بينهما ، وكذا ذات النسبة بين معارك أيام النبوة الأخرى لضرورة التباين على نحو الموجبة الجزئية بينها.
والنسبة بين كليين أو مفهومين في علم المنطق على أربعة أقسام :
الأول : التساوي بين الكليين ، فجميع مصاديق أحدهما تنطبق على مصاديق الآخر ، ويستدل بمثال متكرر وهو الإنسان والناطق ، أي يصح القول (كل انسان ناطق) (وكل ناطق انسان).
ونأتي بمثال وفق علوم القرآن والفقه مثل الصيام الواجب بالأصل وصيام شهر رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
ومثل الطهارة الترابية والتيمم ، قال تعالى [فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ]( ).
أما الطهارة المائية والوضوء فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق لأن غسل الجنابة من هذه الطهارة .
ومثل الصدقة الواجبة بالأصل والزكاة ، ومثل الرسول ورؤية الملك ، إذ يرى الرسول الملك الذي بعثه الله عز وجل ، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهي بين كليين ينطبق أحدهما على جميع مصاديق الآخر دون العكس مثل الوحي والنبوة ، فكل نبي يوحى إليه ، ولكن الوحي من الله يأتي لغير النبي كما في قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( )، ومثل التنزيل والقرآن ، والحيوان والطائر.
الثالث : العموم والخصوص من وجه : إذ يلتقي الكليان في جانب وخصائص دون أخرى مثل الصلاة والصيام ، والزكاة والخمس ، والنثر والشعر.
و[الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( )، إذ تلتقي الفواحش الظاهرة والباطنة بوجوه منها الحرمة والقبح الذاتي ، وتفترق بأخرى.
الرابع : التباين : وتقع هذه النسبة بين الكليين اللذين يختلف أحدهما عن الآخر بجميع المصاديق ، مثل : الإيمان والكفر ، والنور والظلمة.
والنسبة بين كل معركتين من معارك الإسلام هو الثالث أعلاه فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما ، ولابد من بيان كل من هاتين المادتين ، للإختلاف في أفراد كل مادة ، مثلاً مادة الإلتقاء بين معركة بدر وأحد تختلف في بعض أفرادها عن مادة الإلتقاء بين معركة أحد والخندف وكذا بالنسبة لمادة الإفتراق ، وهكذا بالنسبة للنسبة بين المعارك الأخرى ، والإنفاق في بعض الأفراد والإختلاف في أخرى مدرسة لإستقراء المواعظ ، ومنها الشواهد التي تدل على قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً).
مادة الإلتقاء بين معركة بدر وأحد
وهي من جهات :
الأولى : حال الدفاع والإضطرار للقتال من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ) إذ تشمل مضامين هذه الآية كلاً من المعركتين .
الثانية : تسمى كل من معركة بدر وأحد من قبل علماء التفسير والسيرة والتأريخ غزوة ، فيقال غزوة بدر ، وغزوة أحد ، ويتفاخر في هذه التسمية لإفادة الغزوة معنى الجهاد والصبر ونشر الإسلام ودحض للكفر ومفاهيم الضلالة .
والمختار أن كلاً منها ليست غزوة ، ولا تجتمع في أي منها شرائط الغزوة ، ومنها الهجوم والمباغتة ، وقصد بلدة أو قرية ،وإفزاع الآمنين ، والقيام بالنهب والسلب للأموال العامة ، إنما كانت كل من معركة بدر وأحد دفاعاً من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويمكن تسمية كل منهما بأنها غزوة من قبل المشركين ، فهم الغزاة ، فيقال غزوة المشركين في بدر ، وغزوتهم في أحد على المدينة .
الثالثة : نزول القرآن بكل من معركة بدر وأحد ، فمن آيات معركة بدر قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ومنها قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ).
كما تسمى سورة الأنفال بسورة بدر للإختلاف بين الصحابة في توزيع الأنفال .
وقد نزلت آيات متعددة ، منها متتالية بخصوص معركة أحد منها قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
أما التباين في عدد الآيات التي نزلت بخصوص كل سورة فيتعلق بمادة الإفتراق بين الآيتين ، وليس مادة الإلتقاء هذه .
الرابعة : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل من المعركتين إماماً وقائداً ، ويترشح عنه حضور الوحي معه ، وهل يختص الإنتفاع من الوحي في ميدان المعركة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إذ أنه يشمل :
الأول : إنتفاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار الذين في الميدان من الوحي ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه يوم بدر (اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ) ( ).
وعلة خلق الناس هو عبادتهم لله لذا قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) ولكن لماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدعاء ، الجواب من وجوه :
أولاً : إرادة قيام القيامة بعد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر .
ثانياً : المقصود خصوص عبادة الله عز وجل في الجزيرة.
ثالثاً : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البشارة بالنصر (قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم إنى أسألك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد) ( ).
ومنه سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
رابعاً : دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من الوحي .
خامساً : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحاجة أهل الأرض إلى نصره يوم معركة بدر .
سادساً : التضرع والتوسل في الدعاء ، وبيان الضعف والسكينة بين يدي الله عز وجل رجاء فضله تعالى .
سابعاً : بعث الصحابة على الدفاع والصبر في ميدان المعركة .
ثامناً : رجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزول الملائكة لنصرته .
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق هذا الدعاء.
الثاني : إنتفاع عموم المهاجرين والأنصار من الوحي في ميدان معركة أحد حتى الذين لم يحضروها ، ولم يعلموا بوقوعها .
الثالث : نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان معركة بدر نعمة على أهل المدينة جميعاً .
الرابع : إرادة رحمة الجمعين الصحابة والذين كفروا في ميدان معركة بدر من الوحي مع التباين في كم وكيف ونوع الرحمة إذ أن الرحمة التي جاءت للمؤمنين يومئذ بالوحي أضعاف الرحمة لغيرهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق النفع العام من الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : نزول قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بخصوص كل من المعركتين .
السادسة : نزول الملائكة في كل من المعركتين .
السابعة : موضوع وعلة نزول الملائكة هو نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفع القتل عنه .
الثامنة : ابتداء المشركين بالقتال في كل من المعركتين وسؤالهم المبارزة .
التاسعة : بروز الإمام علي عليه السلام في كل من المعركتين لقتال فرسان قريش ، إذ برز يوم بدر هو وحمزة بن المطلب وعبيدة بن الحارث إلى عتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة وابنه الوليد الذين أصروا على المناجزة والقتال.
كما برز بمفرده يوم معركة أحد ، عندما صار أبو سعد بن أبي طلحة حامل لواء المشركين يتحدى الصحابة بين الصفين (وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ أَنْ قَدّمَ الرّايَة فَتَقَدّمَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا أَبُو الْفُصَمِ وَيُقَالُ أَبُو الْقُصَمِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
فَنَادَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ هَلْ لَك يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ حَاجَةٍ ، قَالَ نَعَمْ . فَبَرَزَا بَيْن الصّفّيْنِ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَصَرَعَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَفَلَا أُجْهِزْت عَلَيْهِ ، فَقَالَ إنّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ ، فَعَطَفَتْنِي عَنْهُ الرّحِمُ وَعَرَفْتُ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ قَتَلَهُ .
وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ خَرَجَ بَيْنَ الصّفّيْنِ فَنَادَى أَنَا قَاصِمٌ مَنْ يُبَارِزُ بِرَازًا ، فَلَمْ يَخْرَجْ إلَيْهِ أَحَدٌ . فَقَالَ يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ) ( ).
العاشرة : ملاقاة النبي في كل من معركة بدر وأحد لمشركي قريش.
الحادية عشرة : تدل كل من المعركتين على قانون (لم يغز النبي (ص) أحدا).
الثانية عشرة : عدد الصحابة في كل من المعركتين أقل من ثلث عدد المشركين ، وسيأتي التفصيل في مادة الإفتراق .
وعدد الصحابة في معركة أحد سبعمائة بينما كان عدد المشركين ثلاثة آلاف رجل .
الثالثة عشرة : تفأجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بزحف المشركين للقتال في معركة بدر وأحد .
الرابعة عشرة : سقوط عدد من الشهداء ، وعدد من المشركين في كل من المعركتين ، وسيأتي التباين في العدد بمادة الإفتراق .
الخامسة عشرة : وقوع أسرى من المشركين بيد المسلمين في كل من المعركتين مع التباين في العدد .
السادسة عشرة : لم يقع من المسلمين أسير بيد المشركين في كل من المعركتين ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية.
السابعة عشرة : وقعت كل من معركة بدر ومعركة أحد بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامنة عشرة : أسلحة وخيول المشركين أضعاف التي عند الصحابة .
التاسعة عشرة : مناداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ).
العشرون : استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه قبل بدء المعركة.
الحادية والعشرون : اشتراك المهاجرين والأنصار في كل من المعركتين .
الثانية والعشرون : كل من المعركتين خارج مكة وخارج المدينة .
الثالثة والعشرون : إختيار قريش لزمان ومكان كل من معركتي بدر وأحد .
الرابعة والعشرون : علة كل من المعركتين إرادة المشركين قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيقاف نزول القرآن واستئصال الإسلام ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
الخامسة والعشرون : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء في كل من المعركتين ، ومن دعائه في معركة أحد ما ورد عن أنس بن مالك قال (عن أنس بن مالك، قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين: اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض بعد اليوم)( ).
السادسة والعشرون : مبارزة الإمام عليه السلام في كل من المعركتين لصناديد قريش ، وبطلب وإصرار منهم ، مع التباين في أشخاصهم ، لأن الذي يبارز الإمام علي عليه السلام يكون مصيره القتل ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) ، ولا يتعارض مع هذا المعنى نزول هذه الآية في معركة الخندق وقتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري الذي أصر هو الآخر على القتال .
وهذا العموم ليس من الإستصحاب القهقري ، إنما هو من قوانين الإرادة التكوينية ، وإستدامة فضل الله عز وجل لبيان قانون وهو تعدد أسباب النزول ، وإحتمال تعلقها إلى جانب السبب الذي نزلت فيه بأمور :
الأول : أسباب ووقائع متقدمة زماناً .
الثاني : أسباب ووقائع متأخرة زماناً على نزول الآية .
السابعة والعشرون : تحقق النصر للمسلمين في أول المعركة ، واستمرار هذا النصر إلى النهاية في معركة بدر .
الثامنة والعشرون : إنهزام وإنسحاب المشركين في كل من المعركتين ، وعدم هزيمة المسلمين .
التاسعة والعشرون : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان في كلتا المعركتين ،حتى عندما صار المشركون في معركة أحد على بعد خطوات معدودة منه .
الثلاثون : لم يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نصرة وإعانة اليهود في المعركتين مع وجود حلف معهم ، نعم في معركة أحد قال الأنصار (لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ ، فَقَالَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ)( ).
الحادية والثلاثون : تغشي موضوع الآيات القرآنية التي نزلت بخصوص المعركتين من حين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى انتهاء المعركة.
الثانية والثلاثون : يجمع قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) بين شهداء معركة بدر وشهداء أحد في الأكرام والتشريف ، أما قتل المشركين فقد توعدهم الله عز وجل بالنار ، إذ نزل في معركة بدر قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ] ( ).
الثالثة والثلاثون : المشركون هم الغزاة المعتدون في كل من معركة بدر وأحد .
الرابعة والثلاثون : لم ينقطع الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعركتين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
الخامسة والثلاثون : لم يتخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن أداء الصلاة اليومية في وقتها حتى في معركة أحد ، وكثرة جراحاته وأهل بيته وأصحابه إذ اضطر في معركة أحد أن يصلي جالساً .
السادسة والثلاثون : إنقضاء كل من المعركتين بذات اليوم الذي ابتدأت فيه ، وهو من فضل الله في التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ودعوة المشركين للتفكر في عجزهم عن مواصلة القتال مع طول المدة في الإستعداد له وكثرة الأموال التي انفقهوها عليه.
(وجاء الإمام علي عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بماء ليغسل عنه الدم ، فوجده آجناً ، فرده . و أراد صلى الله عليه وآله و سلم أن يعلو صخرة هناك ، فلم يستطع لما به صلى الله عليه وآله و سلم ، و لأنه ظاهر يومئذ بين درعين ، فجلس طلحة تحته حتى صعد ، وحانت الصلاة ، فصلى جالساً ، ثم مال المشركون إلى رحالهم ، ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين إليها ، و كان هذا كله يوم السبت) ( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في الميدان ، والمشركون ينظرون.
السابعة والثلاثون : في كل من المعركتين استشهد بعض أهل البيت ، ففي معركة بدر استشهد عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف ، ومنهم من يذكره باسم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب لعله للتبادر .
وقد شهد عبيدة معركة بدر ومعه أخواه :
الأول : الحصين بن حارث المطلبي .
الثاني : الطفيل بن الحارث .
ومات الإثنان سنة ثلاثين للهجرة ، واستشهد حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، وقد تقدم ذكر اسماء شهداء معركة بدر الأربعة عشر ( ).
الثامنة والثلاثون : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضل الله عز وجل بالقاء الرعب في قلوب أعدائه من الكفار الذين يحاربونه في كل من معركة بدر ومعركة أحد ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
وهل يستطيع الرسول أو الملك أن يلقي الرعب في قلوب الكفار ، الجواب لا ، فلا سلطان على القلوب إلا لله عز وجل (عن النّواس بين سمعان سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الميزان بيد الرحمن . يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة ، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن . إذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه ، وكان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ( ).
وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) ليكون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا رحمة بهم وبالمسلمين ، وهذا الرعب من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
التاسعة والثلاثون : قد تقدم في الجزء الرابع والثمانين بعد المائة( ) ابتداء معركة بدر إرهاب من قبل المشركين ونهايتها حرب من النبوة على الإرهاب ، وكذا بالنسبة لمعركة أحد ، إذ قام المشركون بالهجوم على المدينة ، وإرادوا استباحتها ، وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فردهم الله خائبين ، والوقائع والشواهد مصاديق تأريخية لقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الأربعون : كثرة غنائم المسلمين في معركة بدر وقلتها في معركة أحد .
الحادية والأربعون : قبض الصحابة بدل وعوض فكّ عشرات من المشركين في معركة بدر ، وليس من عدد معتبر لأسراهم في معركة أحد ، إذ إنسحبوا انسحاباً منظماً .
الثانية والأربعون : نزول آيات القرآن بالثناء على المؤمنين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد وشاركوا في الدفاع عن بيضة الإسلام .
وقد صدرت في بيان وتأويل نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الأجزاء (131-132-133-135-136-137-138-139)من هذا السِفر المبارك .
الثالثة والأربعون : قد تقدم في الجزء الواحد والتسعين بعد المائة( ) من هذا السِفر تقدير [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ]وكذا يمكن تقدير بعض آيات معركة أحد بما يفيد البيان ، ويدعو إلى التدبر .
وقد صدرت الأجزاء (105-106-107-108-109) من هذا التفسير خاصة بتفسير وتأويل قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أن كلاً من آيات معركة بدر وآيات معركة أحد مجتمعة ومتفرقة على وجوه :
الأول : أنها بيان للناس ، والنسبة بين المسلمين والناس العموم والخصوص المطلق ، فالناس أعم .
الثاني : إنها هدى وصلاح .
الثالث : هي موعظة وعبرة لأهل الإيمان ، يقتبسون منها الدروس ويورثونها لأبنائهم ، وكل فرد من هذه الوجوه من مصاديق الهداية في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الرابعة والأربعون : يصدق قوله تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( )، على كل من معركة بدر ومعركة أحد ، وفيه شاهد سماوي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لايبدأون قتالاً ولا يطلبون ثأراً ، إنما هم في حال دفاع عن أنفسهم والإنسانية .
مادة الإفتراق بين معركة بدر وأحد
فهي على جهات :
الأولى : وقعت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، أما معركة أحد فوقعت في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الثانية : قد تقدم أن سبب معركة بدر إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول القرآن ، واستئصال الإسلام ، أما السبب الظاهر لطلب قريش القتال في معركة بدر هو إدعاء إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام وهي محملة بالبضائع.
وسبب معركة أحد الظاهر هو الإنتقام وثأر قريش لقتلاهم في معركة بدر ، وهي ليس علة تامة لتحشيد الجيوش من قريش وحلفائها للهجوم على المدينة ، خاصة وأنهم كانوا معتدين في معركة بدر .
الثالثة : يبعد موضع معركة بدر عن المدينة مائة وخمسين كيلو متر ، بينما لا يبعد موضع معركة أحد عن المسجد النبوي سوى (5) كم ليدخل في أحياء المدينة في هذه الأزمان ، وهذا الدخول والتوسعة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : عدد الصحابة في معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وعدد المشركين نحو ألف ، وعدد الصحابة في معركة أحد سبعمائة وعدد المشركين فيها ثلاثة آلاف رجل .
الخامسة : رجوع أعداد من جيش المشركين من معركة بدر ، منهم من رجع من وسط الطريق ، ومنهم من اعتزل القتال وغادر ميدان المعركة قبل وقوعها .
السادسة : عدم رجوع جماعة من المسلمين في معركة بدر في طول الطريق إلى معركة بدر ، وعندما علموا بوقوع المعركة ، بينما إنخزل نحو ثلث عددهم في وسط الطريق إلى معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول الذي صار يحرضهم على الرجوع ، قال (ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ.
وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ) ( ).
السابعة : لم يكن أيام معركة بدر نفاق ، وطائفة من المنافقين والمنافقات ، إنما نشأت هذه الطائفة بعد إنتصار الإسلام في تلك المعركة ، وعلو كلمة التوحيد ، فأظهر جماعة الإسلام وهم يبطنون الكفر .
الثامنة : لقد استمر نصر المسلمين في معركة بدر إلى نهايتها ، بينما إنخرم هذا النصر في معركة أحد عندما ترك الرماة من الصحابة مواضعهم .
التاسعة : إنهزام المشركين في نهاية كل من المعركتين مع التباين في كيفية هذا الإنهزام ، فقد فروا فرادى وجماعات من معركة بدر والصحابة يلاحقونهم ، بينما انسحبوا انسحاباً منظماً في معركة أحد.
العاشرة : لم يتوعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين بالعودة إلى القتال في كل من المعركتين .
بينما توعد أبو سفيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند إنسحاب جيوش المشركين من معركة أحد (عن السدي : أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين، فواعدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدراً من قابل.
فقال لهم : نعم .
فتخوّف المسلمون أن ينزلوا المدينة.
قال السدي : فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً ثم قال السدي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم ، وجنبوا خيولهم ، فإن القوم ذاهبون .
وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم ، وجنبوا على أثقالهم ، فإن القوم ينزلون المدينة . فاتقوا الله واصبروا ، ووطنهم على القتال . فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعاً عجالاً نادى بأعلى صوته بذهابهم ، فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلى الله عليه وآل وسلم فناموا ، وبقي الناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فقال الله يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم })( ).
وقد وردت النصوص بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث الإمام علي عليه السلام مع كثرة جراحاته ، قال ابن القيم الجوزي (وَلَمّا انْقَضَتْ الْحَرْبُ انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ فَظَنّ الْمُسْلِمُونَ أَنّهُمْ قَصَدُوا الْمَدِينَةَ لِإِحْرَازِ الذّرَارِيّ وَالْأَمْوَالِ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ فَإِنْ هُمْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ.
فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ.
فِيهَا قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ) ( ) .
وذات المعنى ذكره ابن كثير في السيرة 2/280 وابن الجوزي في المنتظم 1/321 وابن هشام في السيرة 2/94 .
وسليمان الكلابي الأندلسي في الإكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 2/70 .
والطبري في تأريخ الرسل والملوك 1/479 .
وهل بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام خلف جيش المشركين يوم أحد مقدمة لبعثه بسورة براءة (التوبة ) الجواب نعم ، و(عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة ، ثم بعث علياً عليه السلام على أثره فأخذها منه ، فكأن أبا بكر وجد في نفسه.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر أنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني .
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص :أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث علياً عليه السلام بأربع : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده ، وإن الله ورسوله بريء من المشركين) ( ).
الحادية عشرة : لقد كان إنفاق قريش في معركة أحد أضعاف ما أنفقوه على معركة بدر ، وفيه ضعف لهم ، ونقص في تجارتهم ، وعجز وتخلف عن أداء ديون تجار الشام ، وهو من مصاديق الوهن الذي أصابهم ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) .
الثانية عشرة : نزول النعاس على المسلمين آمنة ومواساة وتخفيفاً ، وقال تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] ( ).
الثالثة عشرة : دخول الحزن لكل بيت من بيوت مكة في معركة بدر .
أما في معركة أحد فقد إدعت قريش النصر ، ولا أصل لهذه الدعوى.
الرابعة عشرة : قتل من المسلمين في معركة بدر أربعة عشر رجلاً ، وعدد قتلاهم يوم أحد سبعون شهيداً .
الخامسة عشرة : عدد قتلى المشركين في معركة بدر سبعون ، وعدد قتلاهم في معركة أحد اثنان وعشرون .
السادسة عشرة : حضور النساء في معركة أحد ، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه نساء لمعركة بدر ، لعدم قصد القتال ، بينما خرجت معه بعض النسوة في معركة أحد لعلاج الجرحى ، والسقاية لأن المشركين صاروا على مشارف المدينة باسلحتهم وخيلهم ، وقد جلبوا معهم النساء يضربن بالدفوف ويشجعن المحاربين .
السابعة عشرة : لم يأت المشركون من خلف معسكر المسلمين في معركة بدر إذ كانت أرضها مكشوفة بينما جاءت خيلهم من خلف جيش المسلمين في معركة أحد عندما ترك أغلب الرماة موضعهم الذي جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه .
الثامنة عشرة : نزل القرآن بالإخبار عن نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )ولم يذكر لفظ النصر في معركة أحد .
التاسعة عشرة : كثرة الأنفال والأسرى الذين وقعوا بأيدي المسلمين في معركة بدر ، بخلاف معركة أحد .
العشرون : كثرة قتلى وجرحى المسلمين في معركة أحد فصبروا ، قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ).
الواحدة والعشرون : حينما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر إلى المدينة لم يطلبوا المشركين، بينما خرجوا في اليوم التالي لمعركة أحد خلف جيش المشركين بعد بلوغ خبر عزمهم على إعادة الكرة على المدينة ، ومباغتة أهلها ، فنزل قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
الثانية والعشرون : لم يصب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات في معركة بدر بينما كثرت جراحاته في معركة أحد ، إذ كسرت الرباعية من أسنانه لتبقى علامه لم تفارقه ، وشاهداً على صبره ودفاعه عن الإسلام، وأنه لم يقصد الغزو إنما المشركون هم الذين غزو المدينة ، وهم ينوون قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وجرحت شفته السفلى ، وشجّ وجهه ، وكسر أنفه .
وسال الدم من وجنته ، ولم ينقطع إلا بعد أن أحرقت فاطمة الزهراء عليها السلام حصيراً ووضعت الرماد في موضع الجرح لبيان شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزة في نجاته من القتل يوم معركة أحد.
ومع هذا حينما سأله عدد من الصحابة أن يدعو على قريش أبى عليهم
(وقال أنس بن مالك : قد شجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول : كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بِالدَّمِ وهو يدعوهم إلى ربهم . ويقال : إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا : يا رسول الله ، لو دعوت الله على هؤلاء الذين صنعوا بك؟
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : لَمْ أُبْعَثْ طَعَّاناً وَلاَ لَعَّاناً ، وَلَكِن بُعِثْتُ دَاعِياً وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) ( ).
ويدل هذا الحديث على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) وهل نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إيذاء الناس والإضرار بهم وحرمة الإرهاب من باب الأولوية القطعية .
الثالثة والعشرون : عندما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر ، وصار قريباً من المدينة بعث بشيرين يخبران أهلها بالنصر والغلبة ، أما في معركة أحد فقد إنسحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بجراحاتهم .
الرابعة والعشرون : كان عدد الشهداء يوم بدر أربعة عشر ، وقد تقدم ذكر أسمائهم( ) ، ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار ، أما في معركة أحد فكان عددهم سبعين ، أربعة من المهاجرين والباقي من الأنصار (عن أبي بن كعب قال: أصيب يوم أحد من الانصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة.
قال الحافظ: وكان الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة، والسادس ثقف بن عمرو الاسلمي حليف بني عبد شمس) ( ) .
وعن (البراء ، قال : أصابوا – أي المشركون – منا يوم أحد سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعة وسبعين قتيلا) ( ).
أي أن قتلى المشركين ليس مساوياً لعدد الأسرى منهم ، إنما كان أكثرهم من ضعفهم ، وهو خلاف المشهور ، وصبغة الرحمة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة والعشرون : لم ينهزم أحد من الصحابة في معركة بدر ، أما في معركة أحد فقد همت طائفتان بالتراجع والإنسحاب لولا فضل الله عز وجل ، قال تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، كما انهزم عدد من الصحابة من الميدان ، ومنهم من وصل الى المدينة.
السادسة والعشرون : لقد أحاط الصحابة بالنبي في معركة بدر ، أما في معركة أحد فقد بقى قليل من أهل البيت والصحابة يقاتلون دفاعاً بين يديه ، وفيه حجة على الذين كفروا.
السابعة والعشرون : لقد بنى الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عريشاً ليلة معركة بدر ليتفرغ للعبادة والدعاء وهو من معجزاته ، فبدل أن ينشغل بتنظيم الخميس أي الجيش بأركانه الخمسة : المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والمؤخرة فانه إجتهد بالدعاء ، وتفضل الله وأخبر عن إستجابته لدعائه .
وهل يمكن القول بأن النسبة بين دعاء النبي ودعاء الناس عموم وخصوص مطلق من جهة الإستجابة ، المختار نعم ، إذ يشمل قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) الأنبياء والناس ، وينفرد الأنبياء بخصوصية بتقريب الإستجابة ، وهل يختص قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المختار إنها أعم لقانون وهو إختصاص الخالق سبحانه بصيغة الجمع وإرادة المنفرد كما في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وعن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام (كان إبليس في صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقيبه.
فقال له الحارث : يا سراقة إلى أين ، أتخذلنا على هذه الحالة ، فقال : إني أرى ما لا ترون، فقال: والله ما ترى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس، وقال النبي صلى الله عليه وآله في العريش : اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعد اليوم .
فنزل [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ] ( )، فخرج يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( ).
بينما في معركة أحد إبتدأ تنظيم الجيش من حين الخروج من المدينة لقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الثامنة والعشرون : حدوث خلاف بين الصحابة في الأنفال وتقسيمها في معركة بدر فنزل قوله تعالى [قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وليس من أنفال في معركة أحد.
التاسعة والعشرون : دنو أفراد من جيش المشركين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، والمناداة وسط الميدان (قُتل محمد) بينما لم يصلوا له في معركة بدر ، و(عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، وقالوا: قتل محمد، حتى كثر الصراخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الانصار محزمة، فاستقبلت بأبيها ابنها وزوجها وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت به أولا، فلما مرت على آخرهم قالوا: أبوك، زوجك، أخوك، ابنك، فتقول: ما فعل رسول الله .
يقولون : أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب) ( ).
الثلاثون : ذكرت معركة بدر بالاسم في القرآن بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولم تذكر معركة أحد بالاسم ، ولكن وردت آيات عديدة بخصوصها.
الواحدة والثلاثون : التباين في أسباب ومقدمات المعركة ، فقد كانت ذريعة قريش في معركة بدر الذب عن قافلة أبي سفيان وإنقاذها ، أما في معركة أحد فالسبب هو إرادة كفار قريش الثأر لما لحقهم من الخزي في معركة بدر .
الثانية والثلاثون : صيرورة وضع معركة أحد مزاراً للمسلمين ، ودخوله أحياء المدينة ، ليصبح جزء من عمرانها وعمارتها .
من آيات معركة بدر
لقد نزلت آيات قرآنية خاصة بمعركة بدر ، وآيات خاصة بمعركة أحد ، مع أن كل آية منها تشمل حال المسلمين في تلك المعارك وحال السلم ، وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
ومن آيات معركة بدر :
الأولى : قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
الثانية : قال تعالى كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.
الثالثة : قال تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
الخامسة : قال تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
السادسة : قال تعالى [عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
السابعة : قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثامنة : قال تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
التاسعة : قال تعالى [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
العاشرة : قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الحادية عشرة : قال تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثانية عشرة : قال تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابعة عشرة : قال تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]( ) (وأخرج ابن أبي حاتم ، أنه قام علي بن أبي طالب فقال : ألا أحد يسألني عن القرآن؟
فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني ، وإن كان من وراء البحور لأتيته .
فقام عبد الله بن الكواء فقال : مَنْ { الذين بدلوا نعمة الله كفراً } قال : هم مشركو قريش ، أتتهم نعمة الله الايمان فبدلوا قومهم دار البوار .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم في الكنى ، عن علي بن أبي طالب في قوله { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } قال : هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر) ( ).
الخامسة عشرة : قال تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ]( ) (عن ابن عباس قال : لما بارز علي وحمزة وعبيدة وعتبة وشيبة والوليد ، قالوا لهم : تكلموا نعرفكم .
قال : أنا علي ، وهذا حمزة ، وهذا عبيدة .
فقالوا : أكفاء كرام! فقال علي : أدعوكم إلى الله وإلى رسوله . فقال عتبة : هلم للمبارزة .
فبارز علي شيبة فلم يلبث أن قتله ، وبارز حمزة عتبة فقتله ، وبارز عبيدة الوليد فصعب عليه فأتى علي فقتله . فأنزل الله [هذان خصمان]) ( ).
السادسة عشرة : قال تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ]( ) وورد (عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر : : أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً ، فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك ، فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }( ))( ).
السابعة عشرة : قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
انتخابات العراق 2021
قال تعالى[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( )
تجري في الأسبوع القادم إن شاء الله وفي اليوم العاشر من هذا الشهر تشرين أول انتخابات مجلس النواب في العراق.
والانتخاب لغة هو الإختيار والإنتقاء وهو نوع مفاعلة من جهات :
الأولى : الذي يَنتخب ويُصوت .
الثانية : موضوع الإنتخاب وهو عضوية مجلس النواب.
الثالثة : الذي يُنتخب ويتم اختياره ، ويكون ممثلاً للشعب وصلاحياته الكبرى في التشريع.
الرابعة : ملاك الإختيار .
الخامسة : العمل والجهد الذي يبذله النائب والذي يوثقه له الملكان عن اليمين وعن الشمال ، ويكتبه التأريخ.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان هو الإمام والحاكم ومع أنه يحكم بالوحي ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )،فقد كان يشاور أصحابه وهذه المشورة بأمر من عند الله ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( )، والألف واللام في الأمر تفيد الجنس لأصالة الإطلاق.
ترى ما هي النسبة بين عضوية مجلس النواب وبين المشورة الجواب هو العموم والخصوص المطلق فهذه العضوية أعم وهي وظيفة التشريع والرقابة والبناء والإعمار.
هل يدخل الذي يختار ويصوت لشخص والمُُختار في الإنتخابات في عمومات قوله تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( )، الجواب نعم ، فاختاروا المتقي الأمين يرحكم الله .
وقد خرج يوسف عليه السلام من السجن بمعجزة إذ عجز الملأ والمعبرون عن تأويل رؤيا الملك ، مع أن تعبير الرؤيا كان علماً شائعاً في مصر آنذاك ، وكانت هناك مكاتب خاصة للمعبرين إذ [َقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ] ( )، وحينما قام يوسف بتأويلها وأخبر عن مجئ سبع سنوات فيها جفاف وقلة أمطار بعد أخرى مثلها خصبة قال للملك [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( )، فلم يقل له إني نبي ابن نبي ابن نبي .
ولم يقل الملك إني رأيت كما في رؤيا يوسف التي قصها على أبيه [إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( )، لبيان صيغة المضارع ، ووقوع الحدث مستقبلاً ، لتكون رؤيا بشارة ، وباعثاً للسكينة في نفس يعقوب عند فراق يوسف عليه السلام.
إنما [َقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ …]( )، لبيان أن هذا الرؤيا حاضرة في الوجود الذهني عند الملك وأنه يدرك أنها رؤيا إنذار ولابد من تأويلها لرسم خارطة طريق كما يسمى في هذا الزمان.
وهل يحتمل تكرار ذات الرؤيا على الملك ، الأقرب لا ، وقد ورد لفظ أرى كذلك في رؤيا إبراهيم [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( )، وفي القرآن مطلق ومقيد ، وكانت رؤيا إبراهيم عليه السلام تقيد رؤيا الملك التي وردت فيها الرؤيا مطلقة بينما قيدت في رؤيا ابراهيم ليكون تقدير رؤيا الملك (إني أرى في المنام سبع بقرات…) أي باضافة ما يدل على أنها رؤيا منام ، مع بيان موضوعية هذه الرؤيا ولزوم العناية بها ولو بالدعاء.
وعن ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام)( ).
ولم يطلب يوسف عليه السلام الوزارة بالنسب والحسب وجمال الهيئة وكونه ابن الأنبياء ، ولم يطلبها بعقيدة التوحيد كما احتج على صاحبيه في السجن إذ ورد في التنزيل [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
انما سألها بتأكيده بأنه يتصف بالأمانة والحفظ والعلم وهو نوع عهد ووعد وبيان لصيغة الكلام مع الملوك والأمراء، وقيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الثناء على يوسف ونعته بالكريم ، ولم يذكر إخوته ، لقد حسده إخوته على حب أبيه له أكثر منهم .
والحب كيفية نفسانية ولم يثبت تفضيله عليهم في العطاء والشأن والمنزلة ، بدليل أنهم ذكروا الحب وحده .
كما ورد حكاية عنهم في التنزيل [إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( )، وفي بنت شعيب حينما امتدحت موسى عليه السلام [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ]( ).
لبيان الحاجة في العمل إلى القوة والأمانة ومن صفة القوة في باب الإنتخاب أمور :
الأول : التقوى والقوة في الدين وقول الحق .
الثاني : العمل المستمر في خدمة الوطن والناس .
الثالث : الأمر بالمعروف ومحاربة الفساد .
الرابع : حبس النفس عن إغراء السلطان والمال ، وإغواء الشيطان.
والجامع المشترك بين تولي يوسف عليه السلام ، وإجارة موسى عليه السلام هو الأمانة والإخلاص والتقوى مع أن يوسف تولى الوزارة ، وموسى الرعي في غنم شعيب مما يدل على موضوعية الأمانة في التكليف سواء كان كثيراً أو قليلاً.
ويحتمل إختيار المرشح لمجلس النواب وجوهاً :
الأول : إنه شأن كبير .
الثاني : إنه وسط وبرزخ بين الكبير والصغير .
الثالث : إنه أمر صغير .
والصحيح هو الأول فهو تمثيل لنحو أربعين مليون من أهل العراق الذين يتصفون بالذكاء والعلم ، فمن الشكر لله أن يخلص النائب في عمله ، وهو في مقام التشريع والولاية .
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من داع دعا إلى شئ إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به لا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلاً ثم قرأ [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( )، والإختيار على وجوه:
الأول : رجل ينتخب رجلاً.
الثاني : رجل ينتخب امرأة .
الثالث : امرأة تنتخب رجلاً .
الرابع : امرأة تنتخب امرأة.
وقال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
وان قلت هل الأولى أن ألقي ورقة الإنتخاب فارغة منعاً للمساءلة يوم القيامة ، الجواب لا ، إنما يكفي الظن المعتبر بأن الذي تختاره أقرب لحفظ الأمانة والإخلاص للوطن ووحدته واستقلاله .
وعندما عقد المؤتمر الأول لقبيلة طي في مكتبنا في النجف الأشرف بتأريخ 29/4/1430هـ الموافق 27/4/2009م ، وتعرضت لمجالس الفصول والخصومات وقلت[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( )[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )،[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( )،احتج أحد الشيوخ الحاضرين وهو رئيس قبيلة بني لام بأن الأولى نترك الحكم والبت والمصالحة فيها ، فقلت له إنما لكم الأجر ، وثواب اصلاح ذات البين ، والحكم بأحكام الشريعة والأقرب فالأقرب.
وقوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، يخرج المؤمنين من الذم الوارد في الآية.
أدعو للتوجه إلى صناديق الإقتراع وإختيار الأمين الحريص على خدمة الشعب وواجبات المواطنة الذي يسعى للبناء والإصلاح ، وهذا التوجه مستحب ، والمستحب هو الفعل الذي يُثاب من يأتي به ، ولا يؤثم عند تركه وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وأعلاه المستحب المؤكد ، والمستحب وهو أحد الأحكام التكليفية الخمسة .
وهل تنتقل وظيفة المكلف إلى إباحة الحضور والتصويت أو كراهته بسبب حالات من الإحباط في دورات سابقة ، الجواب لا ، إنما يبقى الذهاب إلى صناديق الإقتراع في الأسبوع القادم أمراً مستحباً ومندوباً، والعلم عند الله.
والدنيا هي دار امتحان واختيار واختبار ، ومنه اختيار النائب.
استفتاء
سلام عليكم
سماحة آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي
دمتم محفوظين بعناية الله مولانا هل يمكن الافادة بمصدر علمي دقيق وموثوق يمكن الرجوع اليه بالمسألة التالية :
المشهور ان للفجر أذانين :
الاول أذان الإعلام، والثاني أذان بالوقت الشرعي للصلاة والمحدد فقهيا باعتراض الفجر (انتشار الضوء سريعا) وهو بعد الاذان الأول بفترة فما هي الفترة الفاصلة بين الوقتين ، وبمعنى أدق اذا كان وقت الاذان الثاني عند اعتراض الفجر ، فما هي الظاهرة الكونية التي عندها يستطيع المؤذن رفع الأذان الأول سواء كان عنده أجهزة قياس الوقت أم لا .
وبحسب رأيكم في منهج التفسير الذي تطرحونه، فما هو خلاصة رأيكم بمعنى كلمة الخيط ، وما المقصود بالخيط الأسود، في قوله تعالى [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ]( ).
المهندس محمد علي الصائغ
رئيس مركز العلوم الفلكية لدراسات وأبحاث المواقيت والأهلة
دولة الكويت 7/10/2021
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النقاش في الكبرى وهي أصل تقسيم الأذان إلى أذان إعلام، وأذان بالوقت الشرعي للصلاة ، أو إلى الأذان الأول والأذان الثاني ، والمختار عدم ثبوت هذا التقسيم إنما هو أذان واحد للإعلام والوقت .
وقد أختلف في علم الكلام هل الاسم عين المسمى ، أم أن الاسم غير المسمى ، والمشهور والمختار هو الثاني فالاسم غير المسمى وغير التسمية وفيه خبر عن الإمام الصادق عليه السلام بخصوص الأسماء الحسنى وتعددها مع أن الخالق سبحانه منزه عن التركيب ويأتي مزيد كلام في فصل (البسملة رحمة عامة).
ولم يرق إلى التقسيم الإستقرائي إلى الاستقراء من السنة و(عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ حَدَّثَنِى أَبِى طَلْقُ بْنُ عَلِىٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ)( )، وظاهر الحديث أنه ليس من فجرين إنما هو فجر واحد ، فكلاهما اسمان لمعنى متحد ، إنما شرع الأذان للإعلام بدخول وقت الصلاة ، فلا يصح الإتيان به قبل دخول وقت الصلاة ، كطلوع الفجر الصادق بالنسبة لصلاة الصبح ، وفي صلاة الظهر زوال الشمس عن كبد السماء باتجاه جهة الغرب .
ولم يرد لفظ (أذان الإعلام) عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمة المعصومين في كتب الصحاح الستة ، ولا في الوسائل أو مستدرك الوسائل .
إنما المراد من أذان الإعلام هو الذي يؤتى به عند دخول الوقت، وقد يقابله أذان الصلاة الخاص بالجماعة أو المنفرد ، ويؤتى به مقدمة للصلاة ، وإن كان في وسط أو آخر الوقت .
نعم وردت روايات بخصوص أذان بلال أو ابن أم مكتوم قبل الفجر ،وفي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام (كان بلال يؤذن للنبي صلى الله عليه وآله وابن ام مكتوم ، وكان أعمى يؤذن بليل ، ويؤذن بلال حين يطلع الفجر) ( ).
وقوله الأذان الأول لبس بحجة ، ولكنه للبيان.
وقال الفاكهي( )(وأما أذان الصبح الأول فليس هو ببلد إلا بمكة ، يؤذن به إذا بقي من الليل ثلثه ، وهو الذي كان العمل عليه بمكة ، ويتناولون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلا : ألا إن بلالا ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ، فكانوا على الأذان الأول وحده حتى كان عبد الله بن محمد بن داود فأخذهم بالأذان الآخر عند طلوع الفجر ، فثبت إلى اليوم بمكة ، ورأوه موافقا للناس ؛ فهم عليه إلى اليوم ، إلا أنهم لا يؤذنون الأذان الأول في شهر رمضان مخافة أن يمتنع الجاهل من السحور ويظن أنه الأذان الآخر الذي يؤذن مع الفجر)( ).
وفي انحصار هذا الأذان بكة ، والإمتناع العام عنه في شهر رمضان شاهد على أنه ليس من السنة الثابتة .
ويدل الخبر أعلاه على أن هذا الأذان في أول الثلث الأخير من الليل أي يقسم مجموع ساعات الليل التي بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر ثم تقسم على ثلاثة ، ولكنه لا يتناسب مع أذان بلال وإن وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أذان في ليل .
ولا يعني قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إن بلالاً ينادي بليل).
أن أذان بلال في أول الثلث الأخير من الليل ، نعم يصح أنه في آخر الليل ، والمختار أن ليس بينه وبين طلوع الفجر إلا دقائق معدودات.
وقد سُمي أذان الليل بالأذان الأول وقيل باستحبابه ، ولا أصل له بخصوص التسمية مأخوذ من تسمية العرب للفجر الكاذب بالفجر الأول الذي يُرى الضوء فيه مستطيلاً كذنب السرحان ، والسرحان هو الذئب ، ولم يثبت أن العرب قبل الإسلام كانوا يسمون الفجر الكاذب بالفجر الأول في أشعارهم وأحاديثهم ، إنما جاءت العناية بأوان الفجر على نحو الدقة العقلية مع الإسلام ، والحاجة إلى ضبطه بخصوص أداء صلاة الفجر والإمساك عن الأكل والشرب والجماع لمن أراد صيامه ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإلتفات اليومي العام للآيات الكونية والإقرار بفضل الله بتسخيرها للعبادات ، وتعيين أوانها بعد أن كان أقوام يعبدون الشمس والقمر ، قال تعالى [وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( )، وهذا الإلتفات العام تثبيت لمبادئ التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة.
نعم كان العرب قد قسموا كلاً من ساعات النهار والليل إلى أثني عشرة ساعة ، وجعلوا لكل ساعة اسماً خاصاً.
وقال الثعلبي (عن حمزة بن الحسن وعليه عهدتها ساعات النهار: الشروق ثم البكور ثم الغدوة ثم الضحى ثم الهاجرة ثم الظهيرة ثم الرواح ثم العصر ثم القصر ثم الأصيل ثم العشي ثم الغروب.
ساعات الليل: الشفق ثم الغسق ثم العتمة ثم السدفة ثم الفحمة ثم الزلة ثم الزلفة ثم البهرة ثم السحر ثم الفجر ثم الصبح ثم الصباح) ( ).
أما أذان الإعلام فهو عند دخول الوقت ، وقيل من فوائد الأذان الأول تنبيه النائم ، ويتسحر الصائم ، ولا يجب الإمساك بالأذان الأول ، ولا تصح صلاة فريضة الصبح إلا بأذان الإعلام .
وقيل أن أوان أذان الأول قبل أذان الإعلام بنصف ساعة ، ولكنه أعم وردت الرواية بأنه في ليل إذ أن وقته على فرضه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بحسب البلد وموقعه وكذا بالنسبة لفصول السنة، وكل ما كان قبل طلوع الفجر الصادق فهو ليل ، وقد يقال أنه عند طلوع الفجر الكاذب ، فيكون حينئذ قبل أذان الإعلام بنحو 25 دقيقة ، مع تغيره بحسب المشهور ، وفصول السنة ، والبلدان ، وهذا الفجر يكون له نور لدقائق ثم يعود الظلام ، فيصدق عليه أنه ليل ، بخلاف الفجر الصادق .
وفي خبر عمران بن علي قال ، سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الأذان قبل الفجر (فقال : إذا كان في جماعة فلا ، وإذا كان وحده فلا بأس)( ).
وكنت في تسعينيات القرن الماضي إمام جماعة مسجد وحسينية الحاج شمران الكعبي في شارع المدينة في النجف الأشرف ، وكنت أكتفي بأذان الإعلام وحده ، وأقيم للصلاة بعده مباشرة ، وقد سألني بعض أرباب السوق المحيطين بالمسجد في تأخير الإقامة لصلاة المغرب ريثما ينجزون ما في أيديهم من البيع والشراء فأمتنعت عن الإجابة ، خاصة وأن المسجد كان يمتلئ بالمصلين الكرام ، وما لبثوا بعد أيام وأسابيع حتى اعتادوا على الحضور للصلاة مع عامة المصلين ، وذكرت ما ورد في موثقة (عمار الساباطي ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إذا قمت إلى صلاة فريضة فأذن وأقم ، وافصل بين الأذان والإقامة بقعود ، أو بكلام ، أو بتسبيح)( ).
فليس ثمة فترة بين الأذان والإقامة والدخول في الصلاة بتكبيرة الإحرام.
وقد أفرد صاحب الوسائل باباً بعنوان استحباب تولي أذان الإعلام ، ورفع الصوت به ، وإكرام المؤذنين ، وحسن الظن بهم ، ومنه صحيح معاوية بن وهب عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أذن في مصر من أمصار المسلمين سنة وجبت له الجنة)( ).
فالمراد أذان دخول الوقت في مطلق الصلوات اليومية ، وبالنسبة لقول فضيلتكم المشهور أن للفجر أذانين :
الأول : أذان الإعلام .
الثاني : أذان بالوقت الشرعي للصلاة .
إنما كل من الأول والثاني أعلاه هو واحد بتعدد الاسم مع إتحاد المسمى ، وأن أذان الإعلام ، هو الذي يخبر عن دخول وقت الصلاة ، ويجب الإمساك مع أذان الفجر بالنسبة للصائم ، فما نسمعه في المساجد وعبر مكبرات الصوت والفضائيات من الأذان عند دخول الوقت كل يوم هو الأذان الإعلامي الذي يتضمن الإشعار بدخول وقت الصلاة ، ووجوب أدائها .
وتصح الإقامة للجماعة والمنفرد بعده ، فلا أصل لإعادة الأذان داخل المسجد للجماعة.
أما قوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ..] ( ) فالمراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود تشبيه ومعنى مجازي ذو صبغة بلاغية ، يراد منه تجلي بياض نور الصبح والفجر المعترض من ظلمة الليل من جهة الشروق وطلوع تباشير الفجر الأولى ، وورد على نحو التشبيه بقيد [مِنْ الْفَجْرِ] لبيان رصد طلوع الفجر والإمساك من أوله وبدايته لدلالة لفظ [الْخَيْطِ] على الدقة والقلة في السُمك.
وسُمي فجراً لإنشقاق الظلمة عن ضياء واصله المفارقة ، فلا يبقى المسلم أو المسلمة تأكل حتى يتبين الفجر عريضاً واسعاً وينتشر الضوء في الأفق وعلى رؤوس الجبال ، إنما يكون الإمساك في أوله خاصة مع قرائن مواقع النجوم ، وتكرار الأيام بأن الفجر قادم وأنه بعد الخيط الأبيض ستكون خيوط حتى تمتلأ السماء بالبياض مقدمة لشروق الشمس .ولم يرد لفظ (أشرق ) في القرآن ، إنما ورد لفظ [أشرقت] مرة واحدة فيه ، ولكن ليس للشمس ، إنما لذات الأرض ، فتضئ الأرض بحكم وقضاء الله .
قال تعالى [وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا..]( )، المختار أن فيه نكتة وهي إشراقة نور الله يومئذ أعظم وأكبر وأكثر إنارة من إشراقة الشمس في جميع أيام الحياة الدنيا.
نعم ورد قوله تعالى في داود عليه السلام قال تعالى [إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ]( )، والمراد عن الإشراق شروق الشمس وسطوع ضوئها.
وهل يفيد الجمع بين الآيتين أن إشراقة الأرض بنور الله عز وجل يوم القيامة أكبر ضياء وبهاء من ضياء الشمس وقت الضحى ، الجواب نعم.
وعن ابن عباس المراد صلاة بعد طلوع الشمس ، ويقال أشرقت الشمس ولم تشرق أي لم تضئ .
وورد لفظ [مُشْرِقِينَ]كما في عذاب قوم لوط ، قال تعالى [فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ] ( ).
(قال أبو دُواد الإياديّ :
فلمَّا أضاءت لنا سُدْفَةٌ … ولاح من الصبح خَيْطٌ أَنارا) ( ).
فمع إتضاح الفجر يمسك الصائم عن الأكل والشرب ، ويدخل وقت صلاة الصبح .
والمختار عدم وجود بضع دقائق أو أكثر للإحتياط بين الإمساك وأذان الفجر وهو الذي نبينه في الإمساكية التي أصدرها كل سنة ، ومنها إمساكية شهر رمضان الماضي المبينة في آخر هذه الفتوى.
وسبب الإختلاف في تعيين أوان الفجر بلحاظ التباين في توقيت الفجر عن زاوية انخفاض الشمس تحت الأفق الشرعي ما بين درجتي 17-19,5 قوسية على الغالب ، وكلما زادت الدرجة المعتدة بينهما قصر الليل وقرب الفجر على اختلاف في البلدان والإجتهاد ، فمثلاً تعتمد الهيئة المصرية العامة للمساحة 19,5 درجة ولعلهم راعوا الإحتياط وقيل اعتمد الإتحاد الإسلامي في شمال امريكا (15) درجة ، والمختار أنه 18 درجة.
ولم تكن في الأزمنة السابقة ساعة يدوية أو جدارية لضبط الوقت فيعتمد الناس على الآية السماوية ، وفيه دعوة لهم للتدبر في بديع صنع الله حتى عند أداء الفرائض والفوز بالثواب لإتخاذها مناسبة لتعيين أوان العبادة سواء الصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة أو الخمس ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
وحتى في هذا الزمان يحتاج الإنسان في السفر ونحوه النظر إلى طلوع الفجر الصادق ، وانتشار البياض في الأفق ، ويترشح عنه طوعاً وقهراً وانطباقاً التفكر في بديع صنع الله عز وجل .
وكانت العرب تسمى شآبيب الفجر خيط ، وكذا ظلام الليل المختلط .
وفي أسباب نزول الآية الكريمة ورد (عن سهل بن سعد قال : أنزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود }( ) ولم ينزل من الفجر ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد { من الفجر } فعلموا إنما يعني الليل والنهار .
وأخرج عن عدي بن حاتم قال : لما أنزلت هذه الآية { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود }( ) عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرته بالذي صنعت فقال : إن وسادك إذا لعريض ، إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل ) ( ).
ومن مصاديق التسخير الذي تذكره الآية أعلاه مصاحبة الصلاة اليومية والصوم والحج حياة الناس ، وفي إبتداء وجوب الصيام ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..] ( ).
ولم يرد لفظ [خيط] أو [الخيط] في القرآن إلا في الآية أعلاه من سورة البقرة لبيان لزوم تحري الدقة في ضبط أوان الإمساك عن الأكل والشرب عند الصيام ولتعيين وقت صلاة الفجر .
وأيهما أكثر أهمية تعيين أوان الإمساك عن الأكل أم وقت صلاة الفجر ، الجواب هو الثاني.
إذ أن أداء الصلاة سور الموجبة الكلية فتتغشى الصلاة كل أيام السنة ، وفي شهر رمضان يكون الصيام والصلاة ، أما في غيره فليس إلا الصلاة إلا أن يؤدى الصيام قضاء أو واجباً بالعرض كالنذر أو استحباباً ، أو نيابة عن الغير ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
وقد صاحب تشريع الصلاة البعثة النبوية ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام الدعوة الأولى يقف للصلاة في البيت الحرام ، وكذا في منى في موسم الحج ، ويقف خلفه الإمام علي عليه السلام وخديجة أم المؤمنين .
وكان عفيف الكندي أخو الأشعث بن قيس لأمه قد رآهم في منى يصلون وسأل عباس بن عبد المطلب وهو صديقه ، ويذهب إليه في اليمن ليشتري منه العطر ، قال له عباس (هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة ، قال عفيف: ليتني كنت رابعاً)( ).
وقد تقدم التفصيل في الجزء السابع والعشرين بعد المائتين من تفسيري للقرآن والذي يختص بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
فهناك نحو ساعة وعشرين دقيقة بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، مع هامش قليل حسب الشهر والفصل والبلد ، وشروق الشمس غير طلوعها ، فيكون الشروق عندما تضئ الشمس في الأفق لبيان مسألة عقائدية وهي أن صلاة المسلمين والمسلمات صلاة الصبح باب للرزق الكريم ، وسبب لدرء البلاء والعذاب عنهم وعن أهل الأرض .
لذا يقرأ كل مسلم ومسلمة في كل ركعة قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) لتكون صلاة الفجر من وجوه الإستعانة لصرف البلاء والعذاب .
وهذا هو الجزء التاسع والعشرون بعد المائتين من تفسيري للقرآن وهو خاص بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وسيأتي في الأجزاء التالية (قانون الأذان دعوة للسلم) وفيه نشر للأمن الذي تتصف به رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
استفتاء
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى المرجع الديني المبارك الشيخ صالح الطائي (دام ظله الوارف)
السلام ورحمة الله وبركاته ورد في دعاء العهد هذه العبارة : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس – السؤال لما لم يذكر السماء ؟ وقد عبث فيها الإنسان ، دمتم سالمين شيخنا المفدى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدد : 1827/21
التاريخ: 8/10/2021
رقم الفتوى : 509
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفساد غير الإفساد ، ومن الفساد في قوله تعالى [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ]( )، شحة الأمطار وقلة البركة وإذا قحط وحُبس المطر قلّ الريع ، ومع الأمطار تفتح الأصداف أفواهها ، وينشأ اللؤلؤ ، وقيل المراد من البحر القرى على شاطئ البحر والقريبة منه بدليل ذكر الآية لعلة الفساد وهو [بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] ( ) ، كما تحمل الآية إرادة فعل الفساد أيضاً .
وقال ابن عباس ({ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ} بقتل ابن آدم أخاه {وَالْبَحْرِ} بالمِلك الجائر الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصباً واسمه الجلندا، رجل من الأزد).
أي فيما يخص قصة موسى عليه السلام والخضر وقوله تعالى [فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا] ( )، وبيان الخضر في علة خرقه للسفينة [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] ( )، وموضوع الآية أعم ، بالإضافة إلى دلالة سياق ونظم الآيات المجاورة وأنها جاءت بصيغة الخطاب العام.
وفي هذا الجزء من تفسيري للقرآن مزيد بيان بخصوص تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء بمنع سطوة واستبداد الملك الظالم على الحكم إذ صار القرآن والسنة النبوية مصدر التشريع والحكم.
ووردت الآية بصيغة الفعل الماضي (ظهر) مما يدل على عدم شمولها لعلوم الفضاء والسفر فيه في هذا الزمان .
أما ذكر الآية الكريمة [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] ( ) ، في دعاء العهد فهو تضرع ودعاء من الإمام الصادق عليه السلام لتعجيل ظهور الإمام المهدي عليه السلام وظاهر كلام الإمام عليه السلام إرادة الفساد بالمعنى الأعم فهو يشمل الفساد الذي هو ضد الصلاح والفساد بقلة البركة.
وقال (أبو عثمان سعيد بن يحيى الاموى في مغازيه: حدثنا عبد الله، حدثنا بو عبد الله، حدثنا المجالد بن سعيد، والاجلح، عن الشعبى، حدثنى شيخ من جهينة
قال: مرض منا رجل مرضا شديدا فثقل حتى حفرنا له قبره وهيأنا أمره، فأغمى عليه
ثم فتح عينيه وأفاق فقال: أحفرتم لي ، قالوا: نعم، قال: فما فعل الفصل – وهو ابن عم له – قلنا: صالح مر آنفا يسأل عنك.
قال : أما إنه يوشك أن يجعل في حفرتي، إنه أتانى آت حين أغمى على فقال : ابك هبل، أما ترى حفرتك تنتثل، وأمك قد كادت تثكل ؟ أرأيتك إن حولناها عنك بالمحول، ثم ملأناها بالجندل، وقذفنا فيها الفصل، الذى مضى فأجزأك، وظن أن لن يفعل، أتشكر لربك وتصل، وتدع دين من أشرك وضل .
قال : قلت نعم.
قال: قم قد برئت.
قال: فبرئ الرجل ،ومات الفصل فجعل في حفرته.
قال الجهينى : فرأيت الجهينى بعد ذلك يصلى ويسب الاوثان ويقع فيها)( ).
وهو من مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتهيئة وجود أعوان وناصرين له عند إعلانه رسالته ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).