معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 230

المقدمــــــة
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض ، وله الأمور كلها يدبرها كيف يشاء ، وجعل الملائكة حافين بالعرش ، منقطعين إلى ذكره ، لا يفترون عن التسبيح الذي هو غذاؤهم ، ومع هذا تفضل الله سبحانه وجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بعد أن أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل هبوطه إلى الأرض ، ليشكر الناس ذكوراً وأناثاً الله عز وجل على هذه المنزلة الرفيعة ، ويتدبروا في أسرار الخلافة التي تتقوم بوجوب عبادته تعالى .
وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) ولا تختص هذه البشارة والإنذار بعالم الثواب والعقاب في الآخرة ، بل تشمل أمور الحياة الدنيا .
الحمد لله الذي جعل الوحي معجزة مصاحبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تفارقه في الحل ، والسفر ، والدفاع طيلة أيام البعثة النبوية ، ومنه الوعد الإلهي [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ) .
وهل الوحي وتنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية أم عقلية ، الجواب إنه جامع للمعجزتين سواء بذاته وكيفيته أو مناسبته وموضوعه وأسبابه أو تجليات نفعه المتصل إلى يوم القيامة ، وقالت عائشة (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه لتفصد عرقا) ( ).
قال تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ] ( ) لما في قراءة القرآن بامهال وتأن وحسن إنتظام من إكرام له ، وتدبر في معانيه ، والفوز بالأجر والثواب على قراءة كل حرف منه .
وروى الحسن البصري (ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يقرأ آية ويبكي فقال : ( الم تسمعوا الى قول الله عز و جل : { ورتل القرآن ترتيلا }( ) هذا الترتيل) ( ) ترى ما هي النسبة بين الترتيل والتفسير .
الجواب نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، والترتيل مدخل للتفسير وترغيب به ، بلحاظ أنه من مصاديق التدبر والبيان .
الحمد لله الذي جعل الإنسان محتاجاً للماء والهواء ، وجعلهما بيده وحده ، وهما في متناول كل إنسان ، ولا أحد يستطيع حبس السماء وغيثها ، ونسائم الريح الجميلة التي تبشر بالأمل ، وتدعو إلى الصبر ، وتجعل الإنسان يشعر بالغبطة والسعادة ، وتواسي الفقير وتبعثه على العمل ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن خلوه من خطاب الكراهية والعداوة أزاء طائفة وأهل ملة , وعصمته من التحريض على العنف إنما هو في مقام الدفاع والدعوة إلى الناس لكف الأذى ، كما أنه ينهى عن الإنقسام والفرقة .
فان قلت قد جاء القرآن بذم الكفار ، الجواب نعم ، فان الذي يختار الكفر يعادي الله عز وجل ، ويحارب النبوة ، ويعرض نفسه إلى التهلكة والخسارة في النشأتين ، وفي ذم الكفار وبيان قبح الكفر رحمة ، وسبيل توبة ونجاة.
فلم يأت القرآن بذم أشخاص الكفار ، إنما ذم الجحود بالربوبية والتنزيل لتنزيه الأرض عن الكفر ، ولإنقاذ الناس وبعث التفرق في نفوسهم من الكفر .
لقد نزل القرآن بنهي المسلمين والناس جميعاً عن التعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) فورد النهي في الآية أعلاه خطاباً للمسلمين والمسلمات .
وخاتمة الآية قانون عام من الإرادة التكوينية يشمل الأولين والآخرين ، بأن الله عز وجل يبغض المعتدين سواء على الأفراد أو على الحقوق أو المنشأت العامة .
وخاتمة الآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها إنذار للجميع ، هذا هو المنطوق , أما المفهوم فانها تدل على لزوم أمور :
الأول : تعاهد استقرار المجتمعات .
الثاني : قانون حفظ المال العام .
الثالث : قانون التقيد بالقوانين الوضعية .
الرابع : النفرة من الظلم والتحريض على العنف والإنقسام والفرقة .
والنسبة بين الظلم وهذا التحريض عموم وخصوص مطلق ، وهذا التحريض ظلم ، ويكون مقدمة لظلم آخر لقاعدة السبب والمسبب .
لقد نزل قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) في تزكية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدلالة على عصمته ، ودعوة المسلمين والمسلمات للإقتداء بسنته وخلقه الذي هو مرآة للقرآن فقد جاهد لجعل الناس في أمن على أنفسهم وأموالهم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جمع ومن سني النبوة الأولى بين كل من :
الأول : تهذيب الأخلاق على أداء الفرائض والعبادات ، وفي المعاملة والبيع والشراء ونحوه .
الثاني : إصلاح الأسرة ، ومنه منع وأد البنات خشية العار عند الغزو ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية قضاؤه على الغزو بين القبائل بمدة قصيرة .
الثالث : صيرورة المدن وأطرافها والجادة العامة بين المدن والقرى آمنة ،وهو من مصاديق تسمية مكة أم القرى بقوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ).
ولم تصل النوبة إلى حد الحرابة لإنتفاء قطع الطرق والسلب ، وحتى هذا الحد وضعت له شروط ، كما أنه يسقط عند توبة الجاني ، قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لبيان معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن فتح باب التوبة سبيل لإستقرار المجتمعات ، وهل التوبة من مكارم الأخلاق التي وردت في الحديث النبوي (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ( ) الجواب نعم.
ومن إعجاز القرآن عجزنا عن إحصاء الآيات التي تدعو إلى استقرار المجتمعات والتعايش السلمي بين الناس وأبناء الوطن الواحد ، وان اختلفت مذاهبهم ومشاربهم ، وكذا دلالة الجمع بين آيتين من آيات القرآن .
و(عن أبي عبد الله الجدلي قال : قلت لعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قالت : لم يكن فاحشاً ولا متفاحشاً ولا سخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح) ( ).
ومن إعجاز القرآن إيلاؤه عناية بالأخلاق الحميدة ، وصيغ العفو والتسامح والصفح بآيات أكثر بكثير من آيات الحدود الشرعية لبيان قانون وهو أن القرآن كتاب الأخلاق السامية ، وتبعث آياته على الأمن الإجتماعي والاقتصادي والسياسي .
وهو من مصاديق موضوع قانون النبوة استقرار المجتمعات ، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يغادر الدنيا إلا بعد أن أرسى الأمن والسلم والسلام في ربوع وأطراف الجزيرة لتشع بمبادئ الإيمان على ربوع الأرض الأخرى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ثم جاءت السنة النبوية التي هي المصدر الثاني للتشريع ، ومرآة القرآن لتبين تقومها بالعفو والصفح رجاء استقرار المجتمعات والعمران والإزدهارالإقتصادي وتغشيها بالأمن ليكون سور الموجبة الكلية للأخوة الإنسانية ، ومناسبة ووعاء لأداء الفرائض العبادية بأمن .
وعندما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة كسر ثلاثمائة وستين صنماً في جوف الكعبة وحولها ، ولم يثأر أو ينتقم من أهل مكة جزاء لمحاربتهم له ، وقتلهم عمه حمزة بن عبد المطلب وعدد من الصحابة منهم سبعون في معركة أحد التي جرت وقائعها على بعد (5) كم من المسجد النبوي أي أن قريشاً والمشركين من حلفائهم هم الغزاة ، إنما جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح أهل مكة ، وقال (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ } الْآيَةَ كُلّهَا) ( ) .
لبيان النبي المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات ، وتنمية روح المواطنة بالإستدلال بالقرآن ، وتمنع الآية أعلاه من التمايز والعنصرية والطائفية .
(ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ، قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ) ( ).
لبيان وجوب العمل في بناء المجتمعات بسنن التآخي والوفاق والوفاء ، والمنع من خطاب الكراهية ، ومفاهيم الضلالة .
الرابع : إصلاح المجتمع ، وبعث روح المودة بين الناس من غير تفريط بالوظائف الشرعية والعبادات والعصمة من كبائر الذنوب وإجتناب الصغائر ، لذا صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً ليحضر في الصلة الفردية ، والصلات العامة ، وفي الرخاء والشدة وفي العبادات والمعاملات والأحكام ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
والنسبة بين الإصلاح والإرهاب هو التضاد والتنافي ، بالإضافة إلى هدم الأعمال الإرهابية لصرح من الصلاح والإصلاح ، وقطع للتوادد بين الناس ، ونزيف في الدماء والأموال .
وقد نزل القرآن بالمنع من اليأس والقنوط ، فلابد من السعي في سنن الإصلاح على كل حال ، ويجب أن لا يثني التعدي والعمل الإرهابي المسلمين والناس جميعاً عن جسور الإصلاح ، وتعاهد القيم والسنن الحميدة ، والتقيد بالقوانين العامة ، التي تضمن للناس حقوقهم ، وتجعلهم في أمن وتبعث الأمل في النفوس.
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه بيان المسائل الإبتلائية من جهات :
الأولى : الأسباب والمقدمات .
الثانية : ذات المسألة ، ومرتبة الإبتلاء والإفتتان بها .
الثالثة : المخرج والحل ، وسبل النجاة ، وهل الإرهاب في هذا الزمان ابتلاء وبلاء، الجواب نعم ، ومن خصائص القرآن صرفه ودفع شروره .
ويبين القرآن صيغ الوقاية والتدارك ، ولا يعني هذا تناول القرآن لكل مسألة إبتلائية على نحو التعيين والتفصيل ، ولكنه يبين الخصائص العامة التي تلتقي عندها هذه المسائل.
وقال تعالى [وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ] ( ).
ومن الإعجاز في هذه الآيات كثرة الكلمات التي لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة ، كما في [مَسْطُور] [مَنْشُورٍ][ الْمَعْمُورِ][ وَالسَّقْفِ][ الْمَرْفُوعِ][ الْمَسْجُورِ].
فان قلت قد تكرر لفظ الطور , والجواب هذا صحيح , ولكنه لم يرد باضافة الواو في أوله وهي واو القسم ، وما تتفرع عنه من مسائل.
وكذا بالنسبة إلى لفظ [مَسْطُور] لم يرد بحال الجر في القرآن إلا في الآية أعلاه ،إنما ورد منصوباً مرة واحدة بقوله تعالى [َانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا] ( ) وكذا بالنسبة للفظ [مَنْشُورٍ].
ومن خصائص الإرهاب ابتداؤه بالنفرة من الآخر ، وعدم التعايش معه ، ومنه لغة التكفير ، ثم ينتقل إلى البطش والفتك وسفك الدماء معطلاً لغة الإحتجاج وإقامة البرهان .
الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شئ ، وجعل الناس يتذللون إليه بالتسبيح والتهليل ويسألونه الرزق والأمن والسلامة .
الحمد لله الذي خلق كل شئ بالكيفية والهيئة التي شاء الله أن تكون الأشياء بها ، وقدّر آجالها .
الحمد لله الذي لا شئ قبله ، ولا شئ بعده ، ولا يخرج شئ عن ملكه وسلطانه ، ولا يخفى عليه شئ في السموات والأرض وعامة الموجودات .
الحمد لله الجبار القاهر الذي جعل الأشياء مستجيبة له ، وهي حاضرة عنده يراها من غير آلة باصرة .
الحمد لله الذي فتح باب التوبة للناس جميعاً ، ولم يجعل واسطة بينهم وبينها ، فمع أن الأنبياء والرسل وسائط تبليغ الوحي للأحكام ، وهم الذين يتلون الوحي من عند الله فان توبة العبد لا تستلزم إذناً من نبي أو ملك.
الحمد لله الذين لقّن آدم التوبة ، قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ) لتكون التوبة والإستغفار من أعظم أفراد تركة آدم والأنبياء.
وبعث الله عز وجل النبي محمداً ليتعاهدها المسلمون، ويسألوا الله العفو ، ويتعارض هذا التعاهد والسؤال مع الإرهاب وإخافة الناس في مجتمعاتهم ، لبيان أن القرآن نزل بتحريم الإرهاب والزجر عنه ، ومنع المسلمين والناس منه .
الحمد لله الذي جعل حمدنا وثناءنا عليه نعمة عظمى ، وفيها غبطة وغنى وتسليم بالربوبية المطلقة له سبحانه .
وقد تفضل على المسلمين والمسلمات بأن يقول كل واحد منهم سبع عشرة مرة في اليوم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) في الصلاة وعلى نحو الوجوب العيني .
الحمد لله ملئ السموات وما فيها وما يعرج إليها ، وعدد قطرات الغيث الذي ينزل منها ، وبكم وكيف تسبيح الملائكة ، والحمد لله ملئ الأرض وعمارها وذرات الرمل .
الحمد لله على النعم المستديمة والنعم المستحدثة الظاهرة والباطنة.
ويصدر هذا الجزء وهو الثلاثون بعد المائتين من تفسيري للقرآن بقانون النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب، وقد صدرت بخصوصه كل من الأجزاء :
*الجزء الثاني العشرون بعد المائتين .

  • الجزء الثالث والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء الرابع والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائتين .
    وتبين مصاديق هذا القانون أن آيات القرآن سلاح عقائدي وحسي لدفع الناس عن الإرهاب ، وصرفه عنهم .
    وكما أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسية وعقلية فمن مصاديق هذه المعجزات محاربة آيات القرآن للإرهاب بمنطوقها ومفهومها .
    ومن خصائص الآية القرآنية جمعها بين الوقاية من الإرهاب ، ومعالجته ، وإصلاح النفوس وتهذيب الأفعال .
    وفي معركة أحد إرهاب ظاهر من قبل كفار قريش وحلفائهم ، إذ زحف ثلاثة ألاف رجل من جيوشهم لأكثر من أربعمائة كيلومتر من مكة إلى المدينة في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة لغرض قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل طائفة من أصحابه ، وأسر طائفة أخرى وإيقاف نزول القرآن .
    إذ أدركت قريش أن الوحي ينقطع بموت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو قتله ، وأبى الله عز وجل إلا أن يتوالى ويستمر نزول القرآن ، وينجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليضئ القرآن للناس سبل الهداية ، ويجيبهم عن مسالك الضلالة وعن العنف والتطرف والإرهاب .
    ومن شدة لهفة قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورته هدفاً في هجومهم وغزوهم المدينة في معركة أحد إشاعتهم بين الصفين إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    ونزل قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
    وقد وردت أخبار عن بعض التابعين بأن عدداً من الصحابة حينما سمعوا خبر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعوا إلى طلب الأمان من أبي سفيان .
    و (أخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد : أن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول ، فأنزل الله {وما محمد إلا رسول . . . } ( )الآية .
    وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : قال أهل المرض والإرتياب والنفاق حين فر الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول . فنزلت هذه الآية { وما محمد إلا رسول . . . }( ) الآية.
    وأخرج عن السدي قال : فشا في الناس يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل ، فقال بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي ، فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان .) ( ).
    ولم ترد هذه الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة أحد ، إنما وردت عن بعض التابعين وتابعي التابعين ، وأكثر من غير اسناد.
    والأصل أنه لم يكن في ميدان المعركة منافقون فقد انسحبوا من وسط الطريق إلى أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، وكان عدد الذي انسحبوا ورجعوا معه إلى المدينة ثلاثمائة .
    و(قال موسى بن عقبة ولما فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال رجل منهم ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل فارجعوا إلى قومكم فيؤمنونكم قبل ان يأتوكم فيقتلوكم فانهم داخلو البيوت) ( ).
    ولم يسند هذا الخبر .
    بالإضافة إلى أنه يخبر عن صدور القول من رجل واحد، بينما كان عدد المسلمين سبعمائة ، ولا عبرة بالقليل النادر.
    وقد تقدم في الجزء السابق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كسرت بعض أسنانه الأمامية ، وجرحت شفته السفلى ، وكسر أنفه ، وشجّ وجهه ، وسال الدم ، ولم ينقطع إلى أن أحرقت فاطمة الزهراء عليها السلام حصيرة وجعلت الرماد في الجرح .
    فقال عدد من الصحابة يا رسول الله لو دعوت عليهم ، ومع شدة الأذى الذي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب فانه أجاب.
    (إني لم أبعث لعانا، ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون) ( ).
    لبيان أن القرآن والسنة النبوية يدعوان إلى الصبر ، وتحمل الأذى ، وإجتناب الإرهاب ونشر الرعب بين الناس .
    و(عن زيد بن أسلم( ) مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بقوم يتدافعون حجرا بينهم، وكأنه كره ذلك منهم، فلما جاوزهم رجع إليهم مستفسرا فقال (ما هذا الحجر) فقالوا: يا رسول الله هذا حجر الأسد، فقال بعض أصحابه: لو نهرتهم يا رسول الله قال (إنما بعثت ميسرا، ولم أبعث منفرا) ( ).
    لبيان أن آيات القرآن رحمة للناس جميعاً ، وقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لهذه الآيات وأحكامها.
    وفي قصة إسلام الطفيل بن عمر الدوسي والنبي لا زال في مكة لم يهاجر بعد.
    وكان قد دعا قومه إلى الإسلام فامتنعوا عن إجابتهم ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم قال اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم) ( ) .
    ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) وبين الرفق الذي ذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه.
    المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فهذا الرفق من الحكمة ومنها الإمتناع عن الغلو والتطرف والإرهاب والتفجيرات العشوائية ، وحينما بعث الله عز وجل معاذ بن جبل إلى اليمن قال له من بين ما أوصاه به (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)( ).
    كما ورد حديثه بصيغة الجمع عنه صلى الله عليه وآله وسلم (اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ( ).
    والنسبة بين الظلم والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، فكل إرهاب وإخافة عامة الناس ظلم فلابد من إجتنابه.
    قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] ( ).
    ولقد كان التواضع في المأكل والملبس والهيئة والمجلس سمة السيرة النبوية.
    وعن الإمام موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه ، عن الإمام علي عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : العمائم تيجان العرب ، والاحتباء حيطانها ، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه ( ).
    ومعنى الإحتباء حيطانها أي ليس في الصحراء جدران يستندون إليها كما أنها جلسة التواضع .
    والإحتباء هو الجلوس على الإليتين ، ورفع الفخذين والساقين وضمهما الى البطن بالذراعين ليستند ، وتسمى (القرفصاء).
    وكانت إحدى جلسات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كما عن الإمام الصادق عليه السلام ( ).
    ولم يكن الإرهاب أمراً مستحدثاً في الأرض , فمنه ظلم الطواغيت وقطاع الطرق ، ورؤساء القبائل والجماعات من المشركين الذين يزيغون عن الحق والعدل لولا فضل الله ببعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية .
    ومن رحمة الله عز وجل بالناس وحبه لهم قطعه الظلم ، ومنعه من الإستدامة والإستمرار ، قال تعالى [فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
    وليس من حصر لشواهده التأريخية ، وقد جاء القرآن بأمثلة عليه لتكون حاضرة عند الناس وزاجرة من الظلم والإرهاب ، منها هلاك فرعون , ونمرود والقوم الجبارين ، وقال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ]( ).
    وفي الآية إنذار ووعيد لذا يجب التنزه عن الإرهاب لأنه ظلم.
    الحمد لله الذي جعل الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء ، ولم يترك الإنسان وحده عرضة للإبتلاء ، إذ تفضل الله عز وجل ببعثة الأنبياء نبياً تلو نبي ، ورسولاً بعد رسول.
    وقد يجتمع رسول ونبي في زمان واحد ، وهو من اللطف والمدد من عند الله عز وجل للناس جميعاً .
    وهل يختص الإنتفاع منه بالمؤمنين دون غيرهم ، الجواب لا ، فمن فضل الله عموم المنفعة من النبوة والتنزيل ، نعم هذه المنفعة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فالمؤمنون أكثر نفعاً من غيرهم من النبوة والتنزيل ، ومن الآيات دخول هذا النفع لكل بيت ، وسرعة نفاذه إلى القلوب ليجذب التقوى إلى الإيمان ويعصمها من الكفر والضلالة .
    وتدعو كل من النبوة والتنزيل إلى الصلاح والوئام ، والإمتناع عن البطش والإرهاب .
    ويبين هذا الجزء مسألة مواجهة العقيدة الإسلامية للإرهاب ومحاربتها للفوضى منذ الأيام الأولى لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يومنا هذا ، وبيان قانون وهو التضاد بين الإسلام والإرهاب ، وتجلى هذا القرآن بآيات القرآن ، والسنة النبوية , وهو من مصاديق [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
    ومن خصائص القرآن محاربته للأماني التي لا أصل لها ، والمنع من اللهث وراء السراب ، ودعوة الضلالة والإنقياد إلى المغالطة ، ومن معاني ودلائل تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب العيني تجديد قانون حمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواء السلم والمنع من الإرهاب إلى يوم القيامة ، وفي التنزيل [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ]( ).

حرر في 11 ربيع الأخر 1443
17/11/2021


القانون لغة وإصطلاحاً وقرآناً
يتناول الناس على نحو يومي لفظ (القانون) والمتبادر هو القانون الوضعي والتشريعات الحكومية ، ولكنه أعم ، وقوانين الإرادة التكوينية والتشريعية هي الأولى والأظهر.
(وقانون كلِّ شيء طريقه ومِقْياسه، وأراها دخيلة)( ).
(والقوانينُ: الأصول، الواحد قانونٌ، وليس بعربيّ)( ).
و(القانون : أمر كلي منطبق على جميع جزئياته التي يتعرف أحكامها منه، كقول النحاة: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمضاف إليه مجرور)( ).
وقد ذكر علماء اللغة والنحو والصرف لفظ القانون بلحاظ أنه قاعدة ثابتة يقاس عليها.
وفي لسان العرب (قانون كل شيء طريقُه ومقياسه قال ابن سيده وأُراها دَخِيلَةً)( ).
ولم يرد لفظ (القانون) بصيغة المفرد أو الجمع في القرآن أو السنة النبوية ، ولكنه لفظ متداول في علوم اللغة ، والأصول والكلام.
والنسبة بين مفردات اللغة العربية وبين الكتاب والسنة عموم وخصوص مطلق ، وأصل كل كلمة موجود في القرآن والسنة وقد ورد قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا]( )، بصيغة التذكير.
ومعنى كلمة قانون في اليونانية هو العصا المستقيمة والمسطرة ، والقانون من رشحات وكنوز القرآن ، قال تعالى [وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا]( )، فليس في القرآن نقص أو عيب أو اعوجاج أو ميل سواء في الرسم أو اللفظ أو المعنى والدلالة في أحكامه وأخباره وقصده ، إذ ورد لفظ (عوجا) بصيغة النكرة في سياق النفي لإفادة نفي عموم أنواع العوج عن القرآن.
وذكر أن أصل كلمة قانون يوناني ، وصار في اللغة العربية بمعنى القاعدة والنظام ، ومجموعة قواعد وأنظمة ملزمة ، ويسمى القانون الذي تسنه السلطة والدولة في زمن مخصوص بالقانون الوضعي ، لأنه من وضع الدولة والنظام الحاكم في البلد.
وسيأتي أن كتاب المجوس اسمه (الأوستا) أي القانون.
يمكن أن ينطبق مصطلح القانون على الحكم الشرعي سواء كان واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو حرمة ، كما يشمل القوانين الوضعية الدستورية والإدارية والمالية والجنائية ، وهو يشمل الواجبات والحقوق ، ويكون الملاك في ضبط النظام والحدود والمنع من تعديها ، الجواب نعم.
وهل يدخل مصطلح القانون في عمومات حدود الله ، المختار نعم ، قال تعالى [وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( ).
وإذا كان القانون الوضعي قواعد لتنظيم العلاقة والمعاملة بين الأشخاص مع فرض العقوبة جزاء لمن يخالفها ، فان قوانين التشريع السماوي يكافئ من يمتثل لها مكافأة عظيمة لا يقدر عليها إلا الله ، ومن يخالفها يؤثم ويعاقب ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ]( )، [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا]( ).
وإذ تتضاعف الحسنة وأجرها فان السيئة تكون بمثلها إلى جانب فتح الله عز وجل باب التوبة للناس ، وفي القوانين والأنظمة الوضعية بتطلع الناس خاصة أصحاب الجنايات إلى العفو من السلطة الذي قد يأتي بسنة أو سنوات .
ويكون على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية بالتخفيف في الحكم مع استثناء بعض الأحكام ، وقد لا يصدر عفو.
أما بالنسبة للعفو الإلهي فانه على نحو دفعي وفوري وشامل للذنوب وكثيرة هي الآيات التي تدل على العفو والمغفرة من عند الله عز وجل ، وقد نزلت سورة باسم سورة غافر ، ومنها قوله تعالى [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
ويتصف هذا التفسير بكثرة القوانين فيه ، وكل قانون مقتبس من القرآن والسنة والأحكام التكليفية في الجملة لتكون مادة للتحقيق واستنباط المسائل بلحاظ أنه قاعدة كلية أو مجموعة قواعد.
وقد تضمنت الأجزاء الثلاثة (221-223) نحو ثلاثة آلاف قانون مستحدث
ويمكن إنشاء قوانين بخصوص القانون في القرآن من وجوه :
الأول : آيات القوانين ، وهي الآيات التي تتضمن في منطوقها قانوناً أو أكثر .
الثاني : قوانين الآية الواحدة ، فحينما يأتي تفسير الآية القرآنية نستعرض ما تتضمنه من القوانين.
الثالث : القوانين المترشحة عن الجمع بين كل آيتين من القرآن.
وبالنسبة للوجه الأول أعلاه فيمكن القول بقانون وهو تضمن كل آية قرآنية قانوناً أو أكثر ، إلا ما ندر بالنسبة لفواتح السور مثلاً ، وحتى هذه الآيات فيمكن أن تقتبس وتستقرأ منها قوانين.
وأما بالنسبة للوجه الثاني أعلاه فيمكن أخذ آية الدين مثالاً كما سيأتي بيانه في هذا الجزء( ).
قانون النبوة استقرار للمجتمعات
لقد أراد الله عز وجل للناس للتألف والوئام ونبذ الإقتتال والحروب ،فبعث الأنبياء بالسنن الحميدة ، والأخلاق الفاضلة ، وتجلت مدارسه بقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقتدي به أجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام (يا علي ثلاثة من مكارم الاخلاق في الدنيا والاخرة: أن تعفو عمن ظلمك
وتصل من قطعك، وتحلم عمن جهل عليك) ( ).
وكل فرد من أفراد الوصية الثلاثة هذه دعوة للتعايش المجتمعي ، ولإستدامة التراحم بين الناس ، ونبذ الطائفية والفرقة ، والمنع من غلبة النفس الغضبية والشهوية .
وموافقة الوصية لآيات القرآن والسنة النبوية جابر لضعف سندها .
فالعفو عن الظلم قطع لمفاهيم التعدي ، وزجر عن تكراره ، وفيه رجاء الثواب العظيم ، قال تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( ) أما صلة الذي يقطعك ففيه تنمية لروح التعاضد في المجتمع ، وعدم تعطيل التعاون والتآزر.
وهذه الصلة طريق الجنة (عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) ( ).
ليكون من باب الأولوية الابتداء بصلة الرحم والإحسان إلى القريب ، وفيه تنمية لملكة الإحسان إلى الناس جميعاً .
ومن خصائص النفس الإنسانية أنها مجبولة على حب الذي يحسن إليها ، وهو من أسباب استقرار المجتمعات ، وفيه قطع لمقدمات الإرهاب ، ولا يختص الإحسان في المقام بالأشخاص بل يأتي من الدولة والمؤسسات ، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب .
وقال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ) وفي هذه الآية دعوة سماوية لإستقرار المجتمعات ، وتغشي السلم والإحسان لكيفية التعامل ، ومنع الحروب والإقتتال .
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت ( قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي، وهي راغبة، أفأصلها قال: نعم، صليها)( ).
لبيان قانون وهو لو تعارض كفر الشخص مع صلة الرحم فتتقدم الصلة ، وفيه نبذ للعنف والتطرف والغلو في الدين .
ومن خصائص الأنبياء بذل الوسع لإستقرار المجتمعات ، ومنه قيامهم بالتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبناء صرح الأخلاق الحميدة بين الصحابة وعامة الناس .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
والنسبة بين [لِلْعَالَمِينَ] في الآية أعلاه وبين الناس عموم وخصوص مطلق ، لبيان تجلي رحمة الله بالناس في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية القطعية .
ومن هذه الرحمة جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبسط الأمن المجتمعي ، وإجتناب الغزو والظلم ، ولم يثبت أن النبي قام بالغزو .
فيقال ومنذ أكثر من ألف سنة في كتب التفسير والتأريخ والسيرة غزوة بدر، غزوة أحد ، غزوة الخندق ، إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل منها في حال دفاع ، وكان يوصي أصحابه بألا يبدأوا بالقتال ولا رمي السهام ، إنما كان ينادي (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) وفيه مسائل :
الأولى : قانون كلمة التوحيد رسالة السلام والأمن .
الثانية : قانون التوحيد السور الجامع للمسلمين وأهل الكتاب جميعاً .
الثالثة : فيه سكينة عامة تتغشى العوائل والمجتمع .
الرابعة : التوحيد زاجر عن التعدي والإرهاب باسم الدين والمعتقد .
الخامسة : نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) بعث للسكينة في نفوس الصحابة وأجيال المسلمين ، وهو من مصاديق الكبت في قوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
قانون قبح الإرهاب
وقد ورد عن النبي محمد أنه قال (التمسوا الرزق في خبايا الأرض)( ) وهو من الإعجاز في السنة النبوية لما فيه من الإشارة الصريحة إلى معادن الأرض ، والثروات المعدنية والنفط في أرض الحجاز وغيرها من بلاد المسلمين .
ومن معاني الخبايا أي ما خبأه وحفظه وأدخره الله عز وجل لأجيال الناس في باطن الأرض ، ليشكروا الله عز وجل ، ومن وجوه الشكر أداء الفرائض وحسن الخلق والتنزه عن الظلم والإرهاب.
وقال ابن الأثير (ومنه الحديث: ابْتَغُوا الرِّزْق في خَباَيا الأرض هي جمع خَبٍيئَة كخطٍيئَة وخَطَاَياَ، وأراد بالخباَياَ الزٍّرع؛ لأنه إذا ألقَى البَذْر في الأرض فقد خَبَأَهُ فيها.
قال عروة بن الزبير: ازرَع فإن العرب كانت تتمثل بهذا البيت:
تَتَبَّعْ خَبَايَا الأرض وادْعُ مَلِيكَهَا … لَعلَّك يّوْماً أن تُجَابَ وتُرَزَقَا
ويجوز أن يكون ما خَبَأَهُ اللَّه في مَعَادن الأرض) ( )( ).
ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطلب الرزق مرآة وتفسير لآيات السعي في الأرض ، والإجتهاد في طلب الرزق ، وفيها دعوة وحث للمسلمين على إجتناب الإرهاب لما فيه من الضرر في المقام من وجوه :
الأول : قانون الإرهاب إنشغال عن طلب الرزق الحلال .
الثاني : قانون في الإرهاب تضييع للوقت وأيام العمر .
الثالث : قانون الإرهاب تعطيل للمكاسب .
الرابع : قانون قلة الإنتاج بسبب الخوف العام من الإرهاب .
الخامس : قانون قطع الذي ينزل به الفعل الإرهابي عمله.
السادس : قانون القتل والجراحات بسبب الإرهاب .
السابع : قانون الخوف العام بسبب الإرهاب ، وحال الكدورة التي تصيب الأفراد والمجتمع.
الثامن : قانون الإنفاق الزائد على الأمن.
التاسع : قانون قلق العوائل على أبنائها وزيادة الإحتراز من الإرهاب ومقدماته .
وسيبقى التعليم وتنشيط الزراعات والتجارات والقضاء على البطالة سلاح في محاربة الإرهاب .
وقد يؤدي الإرهاب إلى الكسل والقعود عن العمل لغلبة الخوف العام ، وهذا الكسل مكروه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ منه ، وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال) ( ) .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار العمل والسعي ، وهو من وجوه زينتها وجعلها نضرة ، ولا يختص هذا العمل بأمور الدنيا.
إنما يشمل العمل للدنيا والآخرة ، وبه جاء الأنبياء ويتصف الإرهاب بأنه تعطيل لأعمال الدنيا والآخرة للذات والغير ، وللمسلم وغير المسلم ، مما يؤدي إلى النفرة والصد والدفاع ، والسعي العام للتخلص من الإرهاب ، سواء من قبل الدولة أو الجماعة أو الأفراد .
وهل تكون البطالة علة وسبباً للجنوح إلى الإرهاب والجناية ، الجواب لا ، إذ أن التقوى واقية خاصة وعامة من الإرهاب في كل الأحوال ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ).
ولا يكون الإرهاب وسيلة لعلاج البطالة أو قلتها إنما هو سبب لتفاقم البطالة وإتساعها ،وهو خلاف مبادئ الإيمان ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] ( ).
وتتضمن الآية أعلاه البشارة لأهل الإيمان بحسن العاقبة والإنذار للذين يظلمون أنفسهم .
إن ترك الإرهاب رحمة بالذات والغير ، من القريب والبعيد ، قال تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ) وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
وفي الحديث الآخر : لا يَرْحَم اللهُ من لا يَرْحَم الناس) ( ) لبيان أن التنزه عن الإرهاب وسيلة للفوز برحمة الله عز وجل.
قانون كراهية المؤمنين للقتال
الحب والكراهة كيفية نفسانية يترتب عليه الأثر ، وهناك تضاد بين المحبوب والمكروه .
والمكروه في الإصطلاح هو الفعل الذي يُمدح تاركه ، ولا يُذم أو يؤثم فاعله ، وهو الذي يترجح تركه، وقد يرد لفظ الكراهة في عرف الفقهاء المتقدمين بمعنى الحرمة، ولكنه خلاف ما استقر عليه علم الأصول في الأزمنة اللاحقة .
وقد ورد لفظ الكراهية بالمعنى اللغوي في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وهذه الآية مدنية ، ولا تدل على الأمر بالقتال والهجوم والغزو ، إنما تحمل على الدفاع والإضطرار .
ومن معانيها : الآن ولهجوم المشركين عليكم كتب عليكم القتال ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
فلا يكون القصاص إلا بعد حدوث الجناية ، ولا ينزل القصاص إلا بالجاني ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ) ولا يعلم منافع الآية أعلاه إلا الله عز وجل ، إذ أنها قطعت دابر الإرهاب أيام النبوة وما بعدها وإلى يوم القيامة ، إذ كان الناس لا يتورعون عن سفك الدماء بسلطان القوي على الضعيف أو بالرضا باختيار دفع الدية أو بالغزو والثأر من غير القاتل ، فاقلت لا تزال بقايا ومصاديق لهذا الثأر في المجتمعات.
والجواب إنها حالات نادرة يدرك معها الناس أنها خلاف التكليف والواجب الشرعي ، وأن قاتل غير الجاني ظالم ويؤثم .
ولم يكن هناك قتال قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما كانت مكائد قريش ومحاولات قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعذيب الصحابة.
وقد قتلوا بعض أصحابه وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرادوا إرجاعه في الطريق ، وجعلوا جعلاً بمقدار ديته مائة ناقة لمن أعاده حياً أو ميتاً وخرج الناس خلفه في الجادة العامة .
لتكون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة معجزة حسية له ، وفي موسى ورد قوله تعالى [لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ) ولم يرد لفظ [نَجَوْتَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
لتكون هذه الآية بشارة نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش الظالمين لأنفسهم باختيارهم عبادتهم الأوثان وصدودهم عن النبوة ، ثم إرادتهم قتل النبي.
وهل يمكن القول بأن حال القتال الذي تدل عليه الآية أعلاه من سورة البقرة ناسخ لحال السلم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل الهجرة ، وفي السنة الأولى بعد الهجرة النبوية.
الجواب لا ، فلا ناسخ في حال السلم حتى على قول من قال بأن آيات السلم والموادعة منسوخة وهناك اختلاف بين حال المسلمين وبين نزول الآيات ، كما أن قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ ..] ( ) لا يدل على الأمر بالقتال ، نعم هو إذن بالدفاع ، ومنع من الإختلاف فيه ، والميل إلى الكسل ، ونهي عن إعتزال الصحابة القتال ، لأن هذا الإعتزال ضعف .
وسبب لطمع الكفار بتجديد القتال والإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن يبقى معه من أصحابه ، وإن كان الله عز وجل يدفع عنه حتى في حال قلة الصحابة الذين حوله في حال السلم والحرب ، قال تعالى [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]( ).
وقد حدثت شواهد على فضل الله عز وجل بحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته مع قلة الذين من حوله ، كما في معركة أحد إذ تفرق عنه أكثر الصحابة ، ولم يبق معه إلا عدد قليل منهم ، وصارت حجارة المشركين تصله أي من باب الأولوية وصول سهامهم ونبالهم إليه ، وأصيب بعدة جراحات في وجهه ، وكسرت رباعيته من أسنانه وسال الدم من وجنته ، وخرج سالماً بآية ومعجزة حسية له ، لتقوم الحجة على الذين كفروا ، ولبيان أن قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) حاجة دفاعية للنبوة والتنزيل ، وفيه الأجر العظيم .
ترى لماذا لم تقل الآية : كتب عليكم الدفاع هذا ما نذكره في الجزء التالي.
ولم يرد لفظ [كُرْهٌ لَكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان الأذى الشديد من القتال على النفس والغير ، ولإنتفاء أسبابه وموضوعه ، إذ يلزم الناس جميعاً التصديق بالنبوة خاصة وأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اقترنت بالمعجزات الحسية والعقلية ، لبيان أنها تلائم مراتب مدارك الناس على اختلافها.
وهل تنحصر كراهة القتال بالمسلمين ، الجواب لا ، فهو مكروه من قبل الناس جميعاً .
ويكون الكفار أشد كرهاً للقتال لإنتفاء موضوعه ، قال تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ] ( ) ومن إعجاز آية البحث إخبارها عن كيفية نفسانية عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار لا يعلم بها إلا الله عز وجل وهي كراهة القتال .
ترى لماذا هذه الكراهية ، الجواب من وجوه :
الأول : الخشية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القوم المشركين وكثرتهم وحدّة أسلحتهم ، وعدتهم ، خاصة وأن الآية نسبت حال الكراهية إلى المؤمنين ، مما يدل على تقييد هذه الكراهية بما فيه مصلحة الإسلام والنبوة .
لقد كانت قريش ترسل الإنذارات والوعيد بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسائل شفوية وتحريرية ، وتخبر وفد الحاج والمعتمرين ، وتصل هذه الأخبار إلى المدينة.
ويعلم بها النبي والمهاجرون والأنصار ، ليكون من معاني وتقدير [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] التقى الجمعان يوم الخشية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، ويدل عليه قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
الثاني : كراهية القتال مطلقاً ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، إنما فرض عليه وعلى أصحابه القتال ، فهم بين أمرين :
الأول : ملاقاة الكفار.
الثاني : القتل ، وهو من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً.
فان قيل : كتابة وفرض القتال أعم من إرادة الواقعة والمعركة الواحدة ، ولا يعني أنه فرض اضطرار فقد يكون المراد منه أن الله عز وجل [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ] لإقامة دولة الإسلام وأحكام الشريعة .
وهذا صحيح .
ولكن أسباب وموضوع نزول الآية أعلاه يدلان على إضطرار المسلمين للقتال دفاعاً ، إذ نزلت هذه الآية في معركة الخندق ، وبعد أن أصاب الصحابة الجهد والعناء والتعب ولاقوا المشاق والمخاطر من طول حصار المشركين ، ورميهم السهام والنبال ، وحركة خيلهم بالليل والنهار لإجتياز الخندق .
لذا ورد عن (ابن جريج قال : قلت لعطاء : ما تقول في قوله {كتب عليكم القتال} أواجب الغزو على الناس من أجلها.
قال : لا ، كتب على أولئك حينئذ) ( ).
ولم يثبت كتابة الغزو أيام النبوة.
و(عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ , قَالَ : نَسَخَتْهَا هَذِهِ الآيَةُ : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ( ).
أي نسخها قوله تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] ( ).
ولا دليل على هذا النسخ ، ولو دار الأمر بين كون الآية منسوخة أو غير منسوخة ، فالأصح هو الثاني .
الثالث : من معاني قوله تعالى [وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] أي أنهم كارهون القتال لإحتمال تعرضهم للقتل أوالأسر بلحاظ حسابات ميدان المعركة من جهة العدد والعدة ، ورجحان كفة المشركين في ميدان المعركة .
الرابع : الخوف على القرآن والتنزيل ، فاذا أصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتوقف نزول آيات القرآن لإدراك المسلمين جميعاً لأمور :
الأول : قانون إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي نزول القرآن .
الثاني : قانون عدم نزول جبرئيل بالقرآن على غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : قانون إنقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو قتله المشركون في معركة بدر أو أحد فان الوحي ينقطع عن الأرض .
الرابع : قانون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آخر الأنبياء ، فليس من نبي بعده ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]ولم يرد لفظ [النَّبِيِّينَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وهناك مسائل :
الأولى : ترى لماذا لم يكن كل المؤمنين كارهين ، إنما قيدت الآية الكراهية بأنها عند فريق منهم .
الثانية : هل الفريق الكاره هنا الأكثر من بين الصحابة أم الأقل .
الثالثة : ما هي موضوعية وأثر هذه الكراهية .
أما المسألة الأولى فان التخصيص بفريق من المؤمنين يدل على أن الكراهية ليست عاما بين الصحابة من المهاجرين والأنصار لأنهم يدركون أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إنما هو حق وبأمر من عند الله سبحانه .
وأما المسألة الثانية فان الفريق الكاره للخروج هو الأقل من بين الصحابة ، وهو من معجزات النبوة وقد ورد قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
لبيان قلة الذين همّوا بالخوف والجبن من بين جيش الصحابة في أحد .
وعن جابر بن عبد الله (قال : فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا}( ) وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله { والله وليهما}) ( ).
وأما المسألة الثالثة فليس من أثر لهذه الكراهية في سير الأحداث وتوالي الوقائع إلا الإتعاظ والنفع خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إتخذ المشورة طريقاً ووسيلة ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ).
قانون الصلاة مانع من الغزو
تقدم في الجزء السابق حديث عفيف الكندي وكيف أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منى موسم الحج في بدايات الدعوة ، وقد استقبل البيت الحرام ، ثم جاء شاب صغير وامرأة فوقفا خلفه بذات هيئة الخشوع والخضوع ثم ركع فركعا ، ورفع رأسه من الركوع فحاكاه بذات الفعل لأن القيام من الركوع ركن في الصلاة ، ثم هوى إلى السجود ، فسجدا .
ولم تعهد العرب هيئة السجود لما فيها من التطامن ، ورفع العجيزة حتى أن ثقيفاً حينما أسلموا اشترطوا أن يعفيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة أي رضوا أن يدخلوا الإسلام بشرط اسقاط الصلاة عنهم مع شروط أخرى ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وَأَمّا الصّلَاةُ فَإِنّهُ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَسَنُؤْتِيكهَا) ( ) .
وعن عثمان بن العاص (أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا يحشروا ، ولا يعشروا ، ولا يجبوا ولا يستعمل عليهم غيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكم ألا تحشروا ولا تعشروا ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه.
وقال عثمان بن أبى العاص: يا رسول الله علمني القرآن واجعلني إمام قومي.
وقد رواه أبو داود من حديث أبى داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة.
وقال أبو داود : حدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنى إبراهيم بن عقيل بن معقل بن منبه، عن وهب، سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت قال: اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بعد ذلك: ” سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا)( ).
وفيه معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن دفع الزكاة والصدقة المستحبة والدفاع عن الإسلام فروع دخول الإسلام ، وأداء الصلاة ، لذا وافق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شروطهم إلا الصلاة لم يعف عنها ، قال تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
لقد سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يُحشروا أي لا يدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتال وجهاد ، ولا يُعشروا أي لا يؤخذ من أموالهم العشر ، ولا يُجبوا أي لا يركعون أو لا يسجدون بأن ينكب الواحد منهم على وجهه بهيئة السجود.
لذا ورد في جواب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم قوله : لا خير في دين ليس فيه ركوع.
ترى لماذا تعددت هذه الأفعال والطلب منهم بصيغة المبني للمجهول يُحشروا ، يُعشروا، يُجبوا، أرادوا لا تأتيهم هذه الأوامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من الأمراء الذين يبعثهم لهم أو من خلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده ، فقد أدركت ثقيف في أيام حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقاء دولة الإسلام وبعد وفاته ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
ويدل قوله تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ) على عدم لجوء النبي إلى الغزو لأن الله عز وجل قد ضمن له النصر ، فان قلت قد يكون هذا النصر بالغزو .
الجواب هذا صحيح ، ولكن سيرة الأنبياء تدل على إمتناعهم عن الغزو ، إنما كانوا في حال دفاع ، ولا تستعصي على الله وسيلة أو مسألة ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
قانون نزول القرآن منجماً سلاح سماوي
لقد كان المشركون يبذلون الوسع والجهد والمال والنفوس في الإجهاز على الإسلام في المدينة المنورة، وقبل أن يخرج منها إلى الأنصار، لقد كانت خطة وغاية قريش في كل من معركة بدر وأحد والخندق قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف إنتشار الإسلام.
وهل كانت قريش تدرك أن الإسلام ينتشر بآيات القرآن التي تنزل بالتوالي والتعاقب وأن قتله يوقف نزولها ويمنع إنتشاره أم ترجح نزول القرآن على غيره من بعده حال قتله.
الجواب هو الأول، فقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا نبي من بعده، ونزل في سورة الأحزاب قوله تعالى[مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
وهل نزول آيات القرآن بالتوالي والتعاقب من مصاديق مكر الله في قوله تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، الجواب نعم، ومع أن منافع هذا التعاقب أكثر من أن تحصى فإنها سلاح في مواجهة المشركين ، وسبب في رد كيدهم.
والمراد من نزول القرآن منجماً أو نجوماً ، أي مفرقاً ومجزءاً وقد نزلت التوراة على موسى جملة واحدة.
(وعن ابن عباس : أن التوراة لما نزلت جُملةً واحدة أمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يُطق ذلك فبعث الله بكل حرفٍ منها مَلَكاً فلم يطيقوا حملَها فخففها الله تعالى لموسى فحملها)( ).
وفي التنزيل[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً]( )، أي مجتمعاً مرة واحدة وليس نجوماً متفرقة .
ونزول القرآن منجماً معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية التي تتعلق بموضوع المعجزة العقلية ، وهو القرآن لبيان التداخل بين المعجزة الحسية والعقلية ، وعدم التفكيك بينهما ، وكان التنجيم وموضوعية أسباب النزول مدرسة فقهية للصحابة وأجيال المسلمين وعامة الناس .
وهل كان نزول القرآن على مراحل من أسباب دخول الناس الإسلام ، الجواب نعم لما فيه من الحجة الظاهرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجافَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
ومن خصائص الرسالة من عند الله إبتداء البشارات بالرسول قبل ولادته واستمرارها وتجددها قبل أوان بعثته ، إذ يخبر الرسول السابق عن الرسول اللاحق ، وتتجلى آيات كونية تدل على مظهر الضياء المستحدث ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
لتكون هذه البشارات حرزاً لحفظ الرسول ، ودعوة للناس للغبطة والتهيئ للتصديق برسالته خاصة وأنه يأتي معه بالمعجزة .
وقد تجلى هذا القانون بولادة موسى عليه السلام ، وسبيل نجاته من فرعون وقومه الذين كانوا يقتلون أبناء بني إسرائيل الذين يولدون في سنة ثم يتركون الذي يولد في السنة التالية ، وهكذا لتدارك النقص الحاصل في اليد العاملة من بني إسرائيل .
وهل إختيار السنة التي يقتل فيها المواليد تم صدفة واتفاقاً أم أنه وفق حسابات المنجمين بأن الرسول الذي يهلك معه فرعون ويزول سلطانه إنما يولد في تلك السنة.
الجواب هو الثاني ، إذ كانوا يلجأون إلى المنجمين وأهل الحساب ، كما لو عينوا السنة الزوجية لولادته ، فتركوا الذين يولدون في السنة الفردية .
ترى لماذا لم يعينوا السنة التي يولد فيها الرسول ، الجواب إنهم عاجزون عن هذا العلم الذي يختص به الله عز وجل لما فيه من سلامة للرسول ، ولإقامة الحجة على آل فرعون والبطش بهم .
كما كانت ولادة عيسى عليه السلام معجزة عظمى ، ومن الدلائل على أن ولادته معجزة سلامته وأمه من الرجم والقتل مع أنه ولد من غير أب، إذ تكلم وهو في المهد وصار كلامه حجة وواقية ، لبيان أن ولادة الأنبياء حرب على الإرهاب والتعدي.
ويتلقى المسلمون الإعجاز في ولادة عيسى عليه السلام بالتصديق والتسليم ببديع صنع الله عز وجل.
وقانون لطف الله بالأنبياء عند ولادتهم لطف بأتباعهم والناس جميعاً .
وجاء رجل إلى الإمام محمد الباقر عليه السلام فقال (يا ابن رسول الله أغثني فقال: وما ذاك .
قال : امرأتي قد أشرفت على الموت من شدة الطلق قال: اذهب واقرأ عليها [فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا]( ).
ثم ارفع صوتك بهذه الاية وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ( ) .
وقد بشّر إبراهيم عليه السلام وعيسى عليه السلام وغيره من الرسل ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ولد في يوم الأثنين في شهر ربيع الأول من عام الفيل ، وأختلف في تأريخ اليوم الذي ولد فيه على أقوال متعددة منها :
الأول :اليوم الثاني .
الثاني : اليوم الثامن .
الثالث : اليوم العاشر .
الرابع : اليوم الثاني عشر .
الخامس : اليوم السابع عشر .
السادس : اليوم الثاني والعشرون .
والمشهور هو الثاني عشر من شهر ربيع الأول ثم السابع عشر منه .
لقد وعد النبي عليه السلام مختونا مقطوع السرة ، وخرج معه نور أضاء من حوله .
و(عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفاء بنت عمرو بن عوف قالت: لما ولد ت آمنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقع على يدي فاستهل، فسمعت قائلا يقول: رحمك الله أو رحمك ربك فأضاء ما بين المشرق والمغرب حتى إني نظرت إلى بعض قصور الروم.
قالت: ثم ألبسته وأضجعته فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة عن يميني فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به.
قال: إلى المغرب وأسفر عني ذلك.
ثم عاودني ذلك الرعب والقشعريرة عن يساري فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به ؟ قال: إلى المشرق.
قالت: فلم يزل الحديث مني على بال حتى بعثه الله تعالى) ( ).
لقد انكسر إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة ليلة ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخمدت نار فارس التي لم تخمد منذ ألف سنة لأن عليها خداماً وعمالاً يتناوبون في بقائها مشتعلة على مدار الساعة ، وجفت بحيرة ساوة كما حدثت علامات أخرى .
وقد تجلت بعض العلامات في موضع ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبيت الذي ولد فيه في شعب أبي طالب وهو في هذا الزمان مكتبة مكة المكرمة فحالما سقط النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع رأسه إلى السماء ونظر إليها ، وسمي محمداً ، ولم يكن هذا الاسم متداولاً عند العرب.
وقيل كان ثلاثة قبله بهذا الاسم طمعاً من أهلهم بنيل أبنائهم مرتبة النبوة للأخبار والبشارة برسالته ، وقيل كان هناك ستة عشر اسم كل منهم (أحمد) ،وورد على لسان عيسى عليه السلام أنه قال (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ( ).
لقد كان أتباع الكتب السماوية السابقة يتطلعون إلى بعثة نبي آخر زمان لما ورد في التوراة والإنجيل وغيرهما من البشارة ولما يلحظون من علامات كونية تدل عليه إذ أدركوا حلول أوانه، كما تقدم في قصة بحيرا الراهب .
و(عن عائشة قالت كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في مجلس من قريش يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود فقال القوم والله ما نعلمه.
قال احفظوا ما اقول لكم ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهم عرف فرس لا يرضع ليلتين وذلك ان عفريتا من الجن أدخل اصبعه في فمه فمنعه الرضاع.
فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله فلما صاروا إلى منازلهم اخبر كل انسان منهم أهله فقالوا قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا.
فالتقى القوم حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر قال فاذهبوا معي حتى انظر اليه فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقال اخرجي إلينا ابنك فاخرجته وكشفوا له عن ظهره .
فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه فلما أفاق قالوا ويلك ما لك .
قال والله ذهبت النبوة من بني اسرائيل أفرحتم به يا معشر قريش أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب)( ).
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان رحمة للناس جميعاً ولقريش خاصة، إذ نالوا مراتب سامية لم تنلها قبيلة من العرب والعجم وعامة أهل الأرض إلى يوم القيامة.
(وسيأتي قانون منافع قريش من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمس واليوم وغداً .
و(تأله قيس بن نشبة في الجاهلية وكان منجما متفلسفا يخبر بمبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما بعث أتاه قيس فقال له : يا محمد ما كحلة ، فقال: السماء فقال : ما محلة .
فقال : الأرض فقال : أشهد أنك لرسول الله ؛ فإنا قد وجدنا في بعض الكتب أنه لا يعرف هذا إلا نبي)( )، وهل قيس هذا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسئلة أخرى حتى إطمأن أنه نبي آخر الزمان ، المختار نعم .
لقد نزل القرآن دفعة واحدة إلى السماء الدنيا ثم نزل متفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة مدة النبوة قبل الهجرة وبعدها، وكان النزول على وجوه:
الأول : نزول سور كاملة مرة واحدة مثل سورة الفاتحة(عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزلت عليّ سورة الأنعام )( )، وعن الإمام علي عليه السلام قال (قال أنزل القرآن خمسا خمسا إلا سورة الأنعام فإنها نزلت جملة في ألف يشيعها من كل سماء سبعون ملكا حتى أدوها إلى النبي) ( ).
الثاني: نزل آية واحدة .
الثالث : نزول شطر من آية ثم ينزل شطر آخر منها في وقت آخر وبحسب أسباب النزول .
الرابع : نزول الآية بأستثناء خاتمتها التي تنزل فيما بعد (عن سهل بن سعد قال : أنزلت [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ]( ).
ولم ينزل من الفجر ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما.
فأنزل الله بعد {من الفجر} فعلموا إنما يعني الليل والنهار)( ).
(قال أُمَيَّةُ بن أَبي الصلت :
الخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْء الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ
والخِيْطُ الأَسْودُ لوْنُ الليلِ مَرْكُومُ)( ).
وفي رواية أن الأنعام نزلت جملة بإستثناء ست آيات نزلت في المدينة هي:
الآية الأولى والثانية والثالثة : قوله تعالى [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] ( ).
الآية الرابعة والخامسة والسادسة : قوله تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *س وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).

منافع نزول القرآن نجوماً
ومن أسرار ومنافع نزول القرآن نجوماً مسائل:
الأولى : موضوعية الوقائع والأحداث في وقت وأوان نزول الآية ، إذ أن اقتران نزول الآية القرآنية بها ، توثيق سماوي لها ، وبيان الكيفية المناسبة للعمل بخصوصها ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
الجواب نعم ، وهل هذه الهداية خاصة بأيام التنزيل وأسبابه ، الجواب لا ، وهو من إعجاز القرآن إذ تنتفع أجيال المسلمين والمسلمات المتعاقبة من أسباب نزول آيات القرآن.
فان قلت ليس كل آيات القرآن لها أسباب نزول.
والجواب هذا صحيح ،وهو من إعجاز القرآن لبيان إنتفاع المسلمين بالآية ذات أسباب النزول وغيرها .
الثانية : التدرج في الأحكام ، وجعل الحكم في الموضوع المتحد على مراتب متتالية ، فلم تنزل حرمة الخمر ابتداء ومرة واحدة ، إنما نزلت على مراتب :
الأول : بيان ضرر الخمر وذهابه بالعقل وكيف أن فيه اثماً ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ) ومن إعجاز القرآن أنه لم يذكر الخمر وقبحه إلا بعد توجه المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال عنه .
الثاني : تحريم الاقتراب من الصلاة إذا كان الإنسان في حال سكر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى] ( ).
وبين شرب الخمر والسكر عموم وخصوص مطلق ، فالسكر أخص ، فليس كل من شرب الخمر أصبح سكراناً ، ولكن الآية تدل على قبح الخمر وسوء عاقبته ، وتنذر من الإكثار منه ، وتنبه عامة الناس والمسلمين جميعاً إلى أضراره ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا] ( ).
الثالث : مرحلة تحريم الخمر بالأمر باجتنابه وعدم الدنو منه لقبحه الذاتي وضرره على النفس والغير ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
والمعروف أن سورة المائدة آخر سور القرآن نزولاً لبيان سلامة آياتها من الناسخ ، من غيرها من السور والمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن.
ولما نزلت هذه ا لآية كُسرت أواني الخمر وأهرقت في طرقات المدينة (عن سعد بن أبي وقاص أنه ( قال: صنع رجلٌ من الأنصار طعامًا، فَدَعانا. قال: فشربنا الخمرَ حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضلُ منكم .
قال : فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَى جملٍ فضرب به أنف سعد ففَزَره، فكان سعد أفزَرَ الأنف.
قال: فنزلت هذه الآية:”يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر” إلى آخر الآية) ( ).
الثالثة : قد ينزل الحكم مجملاً ثم يأتي التبيان بالكتاب والسنة النبوية ، وكانوا يصبرون على تكذيب قومهم لهم ، قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا] ( ) لتتجلى في الآية أمور :
الأول : بعث السكينة في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : البشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر .
الثالث : الصبر على تكذيب وأذى المشركين .
الرابع : دعوة المسلمين إلى عدم الوهن أو الضعف بسبب التشكيك وأسباب الريب التي يبثها المشركون .
الخامس : دلالة الآية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
السادس : التهيئ والإستعداد للدفاع عن النبوة والتنزيل ، إذ نزل في المدينة قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
الرابعة : بيان مصاديق علم الناسخ والمنسوخ ، إذ يتأخر نزول الناسخ عن المنسوخ ، وفيه منافع عظيمة منها :
الأول : التخفيف عن المسلمين ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
الثاني : بيان وتوثيق تأكيد الأحكام الشرعية .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين .
الرابع : تنمية المدارك العقلية وتعاهد الحافظة .
الخامس : إرتقاء المسلمين في مراتب التقوى .
السادس : ترغيب الناس بدخول الإسلام .
السابع : بيان قانون خلو أحكام الإسلام من التشديد .
وكان العلماء يعدون النسخ بمعنى التخصيص ، وليس رفع حكم ثابت ، وهو لا يتعارض مع المعنى اللغوي للنسخ ، وهو الإزالة والنقل فقد يكون المراد الإزالة على نحو الموجبة الجزئية .
(والنسخ : إبطال الشئ وإقامة الشئ مقامه ) ( ).
وفي علم التفسير ذكرت آيات كثيرة بأنها منسوخة بإجتهاد من بعض التابعين ، وتابعي التابعين ، وذكر أن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
قد نسخت مائة وأربع وعشرين آية ، ولم يثبت هذا النسخ ، ولو دار الأمر بين نسخ الآية أو عدمه فالأصل هو عدم النسخ ، خاصة مع كون موضوع الآية من قواعد الإسلا مثل السلم والموادعة والعفو والصفح.
وقد تقدم الكلام أن القرآن لا ينسخه إلا قرآن ، وفيه منع للخلاف والخصومة في المقام ، ومنهم من احتج بأخبار من السنة على نسخ بعض الآيات ولم يثبت الدليل فيه .
ومن أسرار تنجيم القرآن ، ونزوله على مراحل ومراتب معرفة الناسخ بلحاظ تأخر زمان نزوله على المنسوخ ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
(عن مجاهد، قال علي عليه السلام : آية في كتاب الله، عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}( )الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما ترى دينار.
قال: لا يطيقون. قال: “نصف دينار.
قال: لا يطيقون. قال: “ما ترى.
قال: شَعِيرة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إنك زهيد قال: قال علي: فبي خَفَّف الله عن هذه الأمة، وقوله[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ })( ).
والآيتان أعلاه من الآيات القليلة التي ثبت فيها النسخ لإتحاد موضوعهما ، ودلالة النصوص عليه ، ولما فيها من اللطف والرحمة بالمسلمين .
والنسخ لحكم رفع شرعي بحكم شرعي لاحقاً .
الخامسة : إعانة المسلمين في حفظ القرآن سوراً وآيات من جهة الرسم واللفظ والنطق ، وترتيب الآيات والسور .
السادسة : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن ، ولجوء المسلمين إليه في التفسير ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وعلوم ومنافع النسخ أعم وأكبر من إحاطة الناس بها ، وقد ينسخ الموسع بالمضيق أو العكس ، أو الوجوب بالتخيير .
لقد جعل الله عز وجل آيات القرآن سلاحاً سماوياً ضد الفجور والظلم والتعدي ، وهو ضياء وهدىَ وسبيل للصلاح والسلم المجتمعي .
قانون منافاة الإرهاب لـ(إنما أنا رحمة مهداة)
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمته وإحسانه ، وليس من إنسان إلا وتناله مصاديق متكثرة من رحمة الله في كل ساعة من أيام حياته ، وتشمل هذه الرحمة بدنه وشخصه ورزقه ، ودفع الأذى والضرر عنه .
إن الله عز وجل الذي يدفع الأذى عن الناس لا يرضى أن يقوم بعض عباده باسم الدين أو من دونه بايذاء الناس مجتمعين أو متفرقين ، لذا قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ويمكن تقسيم الرحمة من عند الله للناس تقسيماً استقرائياً إلى وجوه :
الأول : الرحمة المطلقة للناس والدواب وكل جسم نامي .
الثاني : الرحمة العامة للناس جميعاً ، المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير ، وسكان الحضر والريف والبادية ، ومنه نزول المطر وسلامة الأبدان ، وتهيئة الرزق اليومي ودفع الأوبئة العامة كالطاعون وكورونا.
الثالث : الرحمة بالأنبياء بالوحي وتهيئة مقدمات التبليغ وإيجاد الأنصار والأتباع ، وإزاحة العوائق التي تحول دون تبليغ رسالته .
وهناك مصاديق من الرحمة في المقام هي من إعجاز النبوة ، لا يقدر على إيجادها إلا الله عز وجل .
الرابع : تفضل الله عز وجل بمضاعفة الرحمة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ومعنى كفلين أي نصيبين .
الخامسة : الرحمة الفردية والخاصة التي تأتي للإنسان ذكراً أو أنثى ، وهل يدرك الإنسان هذه الرحمة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
وقد تقدم في الجزء السابع والأربعين بعد المائة من هذا السِفر (بيان قانون وهو أن الرحمة على أقسام( ) ومنها ما ورد في آية البحث بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ).
ويطمع الإنسان بالفوز برحمة الله في الآخرة وهي أضعاف مضاعفة للرحمة التي ينشرها الله عز وجل في الدنيا ، ويجب أن يؤمن الإنسان بهذه الرحمة وهو جزء من الإيمان بالمعاد ، وأنه حق ، وأن يسعى للفوز بأفراد كثيرة من هذه الرحمة ، من حين الدخول في القبر إلى النشور ومواطن الحوض والميزان والصراط وتطاير الصحف ثم الزفاف إلى الجنة لمن توالت رحمة الله عليه ، قال تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ]( ) .
وفيه ترغيب بترك ما هو ضد للتقوى ، ومنه الإرهاب وإدخال الرعب في قلوب الآمنين بغير حق .
أما الذين غضب الله عليهم لكفرهم وشدة ظلمهم لغيرهم ، وعدم مبادرتهم إلى التوبة ، فيأتيهم الخطاب الملكوتي ، وفي التنزيل [قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه عدم نسبة الخطاب ودخولهم النار إلى الله عز وجل لرحمته تعالى بالناس .
لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( إنما أنا رحمة مهداة ) ( ) وهذا الحديث مستفيض ، وهو ترجمة نبوية لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وبيان قانون وهو لا يقدر على إهداء الرحمة العامة للناس إلا الله عز وجل .
ويحتمل كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة مهداة وجوهاً:
الأول : إنه رحمة لأهل بيته وأصحابه الذين صدّقوا برسالته .
الثاني : المراد الرحمة بالمسلمين والمسلمات .
الثالث : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة مهداة من الله عز وجل إلى أهل زمانه .
الرابع : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للهداية إلى المسلمين وأهل الكتاب .
الخامس : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة مهداة إلى أجيال الناس جميعاً إلى يوم القيامة .
والمختار هو الأخير لأصالة الإطلاق ، ولأن الحديث تفسير للآية أعلاه ، ولنصوص عديدة نعم مع التباين في الكم والكيف في الانتفاع العام والخاص ، ولما أشتد أذى قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتلوا في معركة أحد سبعين من أصحابه (قيل يا رسول الله ، ألا تلعن قريشاً بما أتوا إليك.
فقال : لم أبعث لعاناً إنما بعثت رحمة : يقول الله {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}( ))( ) .
فحينما يمتنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن لعن وشتم الذي حشدوا آلاف الرجال ، وهجموا على المدينة ، فمن باب الأولوية أن يمتنع المغتربون وعامة المسلمين عن الإرهاب ، وأن يعلنوا إنكارهم للتفجيرات العشوائية ، والتي تصيب الأبرياء ، وتدخل الحزن في بيوت الناس ، ومنهم المسلمون خاصة مع وسائل الأعلام السريعة التي تصل إلى كل بلدة وقرية.
وهل يدل إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لعن كفار قريش على إجتنابه غزوهم والهجوم عليهم ، وعلى أمثالهم من أهل القرى ، الجواب نعم من باب الأولوية القطعية .
من بشارات التوراة بالنبي محمد (ص)
من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ملكية الله العرضية والطولية للأكوان ، فكل مكان وزمان هو ملك لله عز وجل ، وكل مكان وفي أي أوان هو ملك لله عز وجل ، وهو القادر أن يفعل فيه ما يشاء ، ومن الملكية الطولية أعلاه بشارة الأنبياء السابقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي هذه البشارة مسائل :
الأولى : إنها حرب على الإرهاب والظلم والفساد .
الثانية : الشهادة السماوية المتقدمة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : الدعوة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم السخرية أو الإعراض عنها ، قال تعالى [وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( ).
الرابعة : منع الغزو والإقتتال ، إذ تحذر هذه البشارات من القيام بغزو المدينة المنورة ، ومهاجمة السرايا التي يبعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن المشركين لم يتقيدوا بمضامين هذا التحذير.
ووردت في التوراة بشارات بنبوته ، وبعض صفاته الحميدة منها ما ورد في سفر التكوين (21:9 ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لابراهيم يمزح
21:10 فقالت لابراهيم اطرد هذه الجارية و ابنها لان ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق
21:11 فقبح الكلام جدا في عيني ابراهيم لسبب ابنه .
21:12 فقال الله لابراهيم لا يقبح في عينيك من اجل الغلام و من اجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لانه باسحق يدعى لك نسل
21:13 و ابن الجارية ايضا ساجعله امة لانه نسلك)( ).
ومنها (42:1 هو ذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم .
ولم يرد لفظ (اعضده) في العهد القديم إلا أعلاه .
42:2 لايصيح و لايرفع و لايسمع في الشارع صوته
42:3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ الى الامان يخرج الحق .
42:4 لا يكل و لا ينكسر حتى يضع الحق في الارض و تنتظر الجزائر شريعته .
42:5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات و ناشرها باسط الارض و نتائجها معطي الشعب عليها نسمة و الساكنين فيها روحا .
42:6 انا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك و احفظك و اجعلك عهدا للشعب و نورا للامم .
42:7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة .
42:8 انا الرب هذا اسمي و مجدي لا اعطيه لاخر و لا تسبيحي للمنحوتات) ( ).
وفيه شاهد وبشارة بأن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ولم يبدأ قتالاً ، إذ أنزل الله عز وجل عليه قرآناً يكون ضياء وسبيل هداية للعرب وغيرهم من أهل الأرض.
(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه جبريل كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) ( ).
(عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر فأنزل الله { ليلة القدر خير من ألف شهر }( ) قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر) ( ).
لبيان قانون وهو أن الأجر والثواب في النسك والعبادة أضعاف لبس السلاح ، وهو من الشواهد على قانون لم يغز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، هذا القانون الذي صدرت بخصوصه ستة وعشرون جزءّ من هذا التفسير آخرها الجزء السابق وهو التاسع والعشرون بعد المائتين من تفسيري للقرآن والحمد لله دليل على أن أداء الفرائض العبادية فيه نفع عظيم للذات والمجتمع ، وأن الإرهاب يتعارض معه، لبيان قانون وهو بيان القرآن لوجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج دعوة لنبذ العنف والكراهية والتطرف والإرهاب .
وكان اليهود يشتركون مع الأوس والخزرج إذ وقع القتال بينهما ، للأحلاف والعهود التي تجمع بينهم ، فكانت بنو قريظة وبنو النضير مع الأوس ، وقيل أنهم فرعان من قبيلة جُذام العربية ، وأنهم دخلوا اليهودية بسبب مساكنتهم لها ، ونسب بنو قريظة إلى جبل كان قريباً من مسكنهم ، وكذا بالنسبة لبني النضير ، وقيل بأنهم ليسوا من العرب ، أما بنو قينقاع فكانوا على حلف مع الخزرج.
ولقد عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاهدات مع يهود المدينة عندما هاجر إلى المدينة ، وقد تقدم ذكرها .
لقد نال الصحابة من المهاجرين والأنصار شرف الدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة وتلقي الوحي والتنزيل .
قانون علم الإحصاء في القرآن من اللامتناهي
تدخل أغلب آيات القرآن في عدة أبواب وقوانين من قوانين الإحصاء ، فمثلاً قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( ) فهو يدخل في كل من :
أولاً : إحصاء آيات السؤال .
ثانياً : إحصاء آيات (قل) .
ثالثاً : إحصاء آيات الجملة الإنشائية ، ومنه :
الأولى : قال تعالى [قُلْ هُوَ أَذًى].
الثانية : قال تعالى [فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ].
الثالثة : قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ].
الرابعة : الجملة الشرطية قال تعالى [فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ].
رابعاً : إحصاء آيات الأسرة .
خامساً : آيات حب الله عز وجل [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ] وقوله تعالى [وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] .
الأول : قانون إحصاء علوم الغيب في القرآن
الثاني : قانون إحصاء وذكر آيات السلم والموادعة والصلح .
الثالث : قانون إحصاء آيات العلة الغائية في القرآن .
الرابع : قانون إحصاء وذكر آيات المعاد .
الخامس : قانون إحصاء وذكر آيات الجنة والنار (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته حرفا حرفا ولا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ) ( ) وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة، وإذا
مررت بآية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار) ( ).
السادس : إحصاء وذكر آيات الدعاء .
السابع : قانون إحصاء آيات أدعية الأنبياء .
الثامن : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر الملائكة .
التاسع : قانون إحصاء وذكر آيات الرؤيا .
العاشر : قانون إحصاء وذكر آيات التسبيح .
الحادي عشر : قانون إحصاء وذكر آيات الذكر .
الثاني عشر : قانون إحصاء وذكر آيات الأوامر .
الثالث عشر : قانون إحصاء وذكر آيات النواهي في القرآن .
الرابع عشر : قانون إحصاء وذكر الآيات التي نزلت في أهل البيت .
الخامس عشر : قانون إحصاء وذكر الآيات التي نزلت بخصوص الصحابة ، منها قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
السادس عشر : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع عشر : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر أسماء المدن والأشخاص والدول في القرآن ، إذ ذكر القرآن كلاً من المدن التالية :
الأولى : مكة المكرمة قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ) كما ورد اسمها باسم أول بيت ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثانية : المدينة المنورة ورد ذكرها تارة باسم المدينة ، كما في قوله تعالى [وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] ( ) وتارة باسم يثرب ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
الثالثة : مصر البلدة المعروفة في هذا الزمان بذات الاسم ، وكانت سلطان دولة فرعون ، وكانت عاصمة الفراعنة مدينة الأقصر ، وتسمى مدينة المائة باب ، ومدينة الشمس ، كما سميت باسم طيبة ، وتبعد عن القاهرة نحو 670 كم ، وعن مدينة أسوان نحو 220 كم .
وقد اتخذ الفراعنة في أحقاب لاحقة مدنا أخرى عاصمة ، منها مدينة (منف) وكانت تسمى ممفيس في الجيزة ، ولا تزال الآثار فيها ظاهرة، قال تعالى [أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
كما نقلت العاصمة الى بني سويف وغيرها ، وقد أنشأ المسلمون عند فتح مصر مدينة القسطاط أما عاصمة مصر الحالية وهي القاهرة فقد أنشئت أيام الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ت975م.
وعندما كان حاكماً في أفريقيا أي تونس وما حولها ، بعث أحد أبرز قادته وهو جوهر بن عبد الله العقلي (928- 992) ميلادية ، فاستولى عليها من العباسيين ، ثم دخلها المعز لدين الله وبنى فيها مدينة القاهرة وهي قريبة من مدينة الفسطاط والتي بقيت عاصمة لبلاد مصر لمدة (111) سنة ، وأنشأ مدينة القاهرة والجامع الأزهر ، وكانت تسمى باسم مصر وتقع على ضفاف النيل قبل القاهرة بأقل من (3) كم وكان النيل ينقسم عندها إلى قسمين .
ولفظ (مصر) من الكلي المشكك فتارة يأتي بصيغة النكرة وإرادة مصر ما من غير تعيين لفرد مخصوص ، وتارة يأتي لتعيين بلدة مصر ، كما في القرآن إذ ورد خمس مرات بهذا المعنى ، وان اختلف في الأولى منها وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ]( ).
وذكر كل مدينة في القرآن مدرسة وموعظة تستقرأ منه المسائل والقوانين لأنه لم يأت مجرداً من الحوادث والوقائع ، ومنها أن منها ذكرها دعوة للتعايش السلمي بين الشعوب ، وأن الأرض والدول أعم من أن تخضع لسلطان واحد ، فلابد من الموادعة والتقيد بقواعد السلم ونبذ العنف والإرهاب الذي لا يغير بأحوال الدول .
الرابعة : مدينة (مدين) ومنه قوله تعالى في خطاب إلى موسى عليه السلام ولبته مدة في أهل مدين [ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى]( )، وقوله تعالى [وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ]( ).
وتارة يرد لفظ (مدين) لإرادة قوم النبي شعيب ، وسكان تلك البلدة ، قال تعالى [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا]( )، وتبعد مدين عن منطقة تبوك نحو 170 كم.
ومدين قبيلة عربية كما ورد ذكرهم في القرآن باسم أصحاب الأيكة ، قال تعالى [كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ]( )، والأيكة هو الشجر الملتصق بعضه على بعض ، كما ورد ذكر مدين في التوراة خاصة وأن قسماً منهم سكنوا فلسطين.
وفي التوراة (15:61 في البرية بيت العربة ومدين وسكاكة.
15:62 والنبشان ومدينة الملح وعين جدي ست مدن مع ضياعها)( ).
وفي وصف قسوة وسطو نبوخذ نصر ورد (الملك اليفانا قائد جيشه.
وقال له اخرج على جميع ممالك الغرب وخصوصا الذين استهانوا باوامري.
ولا تشفق عينك على مملكة ما واخضع لي جميع المدن المحصنة.
فدعا اليفانا القواد وعظماء جيش اشور واحصى عدد رجال الحرب كما امره الملك مئة وعشرين ألف راجل مقاتلين واثني عشر ألف فارس ارباب قسي.
وسير امام جيوشه عددا لا يحصى من الجمال بما يكفي الجيش بكثرة ومن اصورة البقر وقطعان الغنم ما لا يحصى.
وامر ان تجمع الحنطة من كل سورية عند عبوره.
واخذ من بيت الملك من الذهب والفضة شيئا كثيرا جدا.
ثم ارتحل بجميع جيشه ومراكبه و فرسانه وارباب القسي وكانوا يغطون وجه الارض كالجراد.
فلما جاوز تخوم اشور انتهى الى جبال انجة العظيمة التي الى يسار قيليقية وزحف على جميع قلاعهم وتسلم كل الحصون.
وفتح مدينة ملوطة المشهورة ونهب جميع بني ترشيش وبني اسماعيل الذين حيال البرية وجهة جنوب ارض كلون.
ثم عبر الفرات واتى الى ما بين النهرين وقهر جميع ما هناك من المدن المشيدة من وادي ممرا الى حد البحر.
واستولى على حدودها من قيليقية الى تخوم يافث التي الى الجنوب.
واسر جميع بني مدين وغنم كل ثروتهم وكل من قاومه قتله بحد السيف.
وبعد ذلك انحدر الى صحاري دمشق في ايام الحصاد واحرق جميع حقولهم وقطع كل اشجارهم وكرومهم.
فوقع رعبه على جميع سكان الارض)( ).
ومن أبناء إبراهيم عليه السلام مدَين وهو رابع أبناء إبراهيم عليه السلام من زوجته قطورة التي تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى سارة ، وإذا كان إبراهيم قد أنجب إسحاق وعمره مائة سنة فلا بد أنه عمّر أكثر من هذا كي يتزوج من أخرى وينجب منها أولاداً ، وهو من فضل الله وجزاؤه للأنبياء والصابرين في سبيل الله الداعين إلى الحق والهدى بالموعظة الحسنة ، وليس بالتخويف العام والإرهاب .
وبلحاظ الآية أعلاه وقوله تعالى [رُسُلُهُمْ] هل كان موسى عليه السلام رسولاً إلى فرعون وقومه ، أم كان رسولاً إلى بني إسرائيل على نحو الخصوص، الجواب هو الأول .
وفيه شواهد قرآنية كثيرة ، قال تعالى [وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ] ( ).
الخامسة : بابل : وهي البلدة المعروفة في وسط العراق ، وتبعد عن مدينة بغداد نحو (100) كم ولا تزال آثارها قائمة تدعو إلى الإعتبار والإتعاظ.
وورد اسم بابل في القرآن مرة واحدة بقوله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن ملوك بابل بختنصر الملك الجبار الذي حكم بلداناً وأجزاء واسعة من الأرض ، وهدم بيت المقدس ، ولم يذكره القرآن ، إنما ذكر قصة الملكين في بابل ، وقد سكنها إبراهيم ولوط عليهما السلام قبل الهجرة إلى الشام .
(فنزل إبراهيم عليه السلام فلسطين وأنزل ابن أخيه لوطاً الأردن فأرسل الله إلى أهل سدوم فقال لهم {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني إتيان الذكران {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ}( ))( ).
وعن (حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن بني إسرائيل لما إعتدوا وعتوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم ملك فارس بخت نصر.
وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار اليهم حتّى دخل بيت المقدس فحاصرها ففتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا عليه السلام سبعين ألف.
ثمّ سبى أهلها وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفاً ومائة عجلة من حلي (حتى أورده بابل) قال حذيفة : يارسول الله لقد كان بيت المقدس عظيماً عند الله قال : أجل بناه سليمان ابن داود من ذهب وياقوت وزبرجد.
وكان بلاطة ذهباً وبلاطة فضة وبلاطة من ذهب أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بخت نصر بهذه الأشياء حتّى نزل بها بابل وأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فهم الأنبياء وابناء الأنبياء.
ثمّ إن الله تعالى رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس وكان مؤمناً أن سر إلى بقايا ببني إسرائيل حتّى يستنقذهم فسبا كورش بني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتّى رده إليه…الحديث)( ).
السادسة : سبأ : والتي ذكرت بالاسم في القرآن مرتين ، مع آيات متعددة تتعلق بموضوعها وفي قصة الملك سليمان والهدهد [وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ]( )، ومنه قصة بلقيس ملكة سبأ حينما قدمت على سليمان وهو يجمع بين النبوة والملك ، وتسخير الله له الجن والطير والإنس .
وعن ابن عباس في حديث قال (فقال سليمان للشياطين : ابنوا لي صرحاً تدخل علي فيه بلقيس ، فرجع الشياطين بعضهم إلى بعض فقالوا لسليمان : يا رسول الله قد سخر الله لك ما سخر.
وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد له غلاماً فلا ننفك له من العبودية أبداً .
قال : وكانت امرأة شَعْرَاء الساقين فقالت الشياطين : ابنوا له بنياناً كأنه الماء يرى ذلك منها فلا يتزوجها ، فبنوا له صرحاً من قوارير ، فجعلوا له طوابيق من قوارير ، وجعلوا من باطن الطوابيق كل شيء يكون من الدواب في البحر من السمك وغيره ثمَّ اطبقوه .
ثم قالوا لسليمان : ادخل الصرح . فألقي كرسياً في أقصى الصرح . فلما دخله أتى الكرسي فصعد عليه ثم قال : أدخلوا عليَّ بلقيس فقيل لها ادخلي الصرح فلما ذهبت تدخله فرأت صورة السمك ، وما يكون في الماء من الدواب [حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا]( )، لتدخل . وكان شعر ساقها ملتوياً على ساقيها . فلما رآه سليمان ناداها وصرف وجهه عنها [إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ] ( )، فألقت ثوبها وقالت [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
فدعا سليمان الإِنس فقال : ما أقبح هذا ، ما يذهب هذا! قالوا : يا رسول الله الموسى . فقال : الموسى تقطع ساقي المرأة ، ثم دعا الشياطين فقال مثل ذلك ، فتلكؤوا عليه ثم جعلوا له النورة.
قال ابن عباس : فإنه لأول يوم رؤيت فيه النورة قال : واستنكحها سليمان عليه السلام)( ).
والآية الثانية [لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ]( )، وسبأ مملكة ، والظاهر أن عاصمتها هي مأرب التي تبعد 120 كم عن مدينة صنعاء من جهة المشرق .
ومن إعجاز القرآن أن الممالك القديمة التي ذكرت فيه لا زالت آثارها قائمة إلى الآن ، وصارت الدول تعتني بها لتكون هذه العناية من الشواهد على الإعجاز في قوله تعالى [أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، ولابد من دراسة مقارنة بين موضوع الآيتين بخصوص مملكة سبأ ، وعاقبة الكفر والضلال لولا رحمة الله عز وجل بالناس .
السابعة : إرم : قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ]( )، ولم تذكر كلمة (ارم) وكلمة (العماد) في القرآن إلا في الآية أعلاه وإرم اسم بلدة ، وقيل قبيلة ، والأول أصح إذ كانت ذات طَول وقوة ومنعة وشدة .
وكان الرجال يتصفون بالطول وقوة العضلات وإذ وردت الضمائر بالتأنيث ولم تقل الآية الذين لم يخلق مثلهم في البلاد ، وقوة البلدة من منعة وعزم رجالها.
(وزعم قتادة : أنه كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعاً)( ).
وقوله (زعم) تضعيف لهذا القول .
والعماد والعمد : جمع عمود .
وعن ابن أبي حاتم باسناده عن (أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، قَالَ:”قَرَأْتُ كِتَابًا قَدْ سَمَّى حَيْثُ قَرَأَهُ، أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ، وَأَنَا الَّذِي رَفَعْتُ الْعِمَادَ، وَأَنَا الَّذِي شدَدْتُ بِذِرَاعِي، نَظَرٌ وَاحِدٌ، وَأَنَا الَّذِي كَنَزْتُ كَنْزًا عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، لا يُخْرِجُهُ إِلا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ)( ).
وعلى فرض صحة الخبر والقول فان إخراج الكنز يكون على أحد طريقين :
الأول : الأجهزة الحديثة التي تصور باطن الأرض ، ويكشف عن الكنوز والآثار والذهب والمعادن التي داخلها لعدة أمتار ، وفي البحث عن الكنز بهذه الطريقة مشقة وجهد ووقت ، نعم إذا كان جهاز الكشف منصوباً بالطائرة فيكون البحث أيسر وأسرع .
الثاني : إخراج بعض المسلمين للكنز بالبحث والتنقيب عنه أو صدفة .
الثالث : كشف هذا الكنز ومثله أيام الإمام المهدي من آل محمد ، ويكون من علاماته .
الثامنة : الرقيم : كما في قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا]( )، والأصل في معنى الرقيم : الكتاب : وقيل اسم الوادي ، أو القرية التي خرج منها أصحاب الكهف ، أو أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وانهم ثلاثة كانوا في سفر فأخذهم المطر فلجأوا إلى غار ، ومن شدة المطر وقعت صخرة فسدت باب الغار فذكر كل واحد منهم حسنة عملها في حياته وتوجهوا إلى الله بالدعاء.
فازاح الله الصخرة وخرجوا من الغار سالمين ، ليكون تقدير الآية (أم حسبت أن أصحاب الكهف واصحاب الرقيم).
و(عن ابن عباس قال : ما أنزل شيء من القرآن إلا وأنا أعلمه إلا أربع آيات . إلا { الرقيم }( )، فإني لا أدري ما هو فسألت كعباً؟ فزعم أنها القرية التي خرجوا منها {وحناناً من لدنا وزكاة}( )، قال : لا أدري ما الحنان ولكنها الرحمة {والغسلين}( )، لا أدري ما هو ولكني أظنه الزقوم . قال الله [إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ]( )، قال : والأوّاه هو الموقن بالحبشية)( ). وما لا يعلمه المسلم من القرآن أكثر من هذا ، وقد تعلم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإمام علي عليه السلام ومن بعض الصحابة وحينما وقعت معركة بدر هو طفل في مكة وعمره أربع سنوات ، إذ وقع أبوه العباس في الأسر بعد أن كان من ضمن جيش المشركين . لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فذكر الله عز وجل الحضارات والدول التي سادت ثم بادت بسبب الإصرار على الكفر، والتمادي في المعاصي ، ولم ينتقم منهم الله عز وجل ويقطع منهم فضله العظيم إلا بعد أن بعث لهم الأنبياء والرسل فلاقوهم بالصدود والجحود ، ليكون ذكر فضلهم في القرآن موعظة للناس عامة ولكفار قريش ونحوهم خاصة للزوم إجتناب لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففيها هلاكهم . إن زوال تلك الممالك القوية بسبب اختيارهم الكفر وركوبهم المعاصي شاهد على عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغزو فان الله عز وجل يظهر الإيمان ، ويبين ويهلك الظالمين . الثامن عشر : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر الأسرة والأطفال في القرآن. التاسع عشر : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر الوحي . العشرون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر الكتب السماوية . الواحد والعشرون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر القرآن وتلاوته . الثاني والعشرون : قانون إحصاء الآيات التي تذكر كتائب ومعارك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل معركة بدر، وأحد ،والخندق ،وحنين . الثالث والعشرون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم . الرابع والعشرون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر الرسول والرسل في القرآن ، وهل تدخل فيها آيات الرسل من الملائكة ، الجواب يجوز إدخالها والأولى التفصيل أو إختصاص الإحصاء بالرسل من الناس ، وإفراد باب للرسل من الملائكة مثل جبرئيل واللجوء أيضاً إلى السنة النبوية في علم الأحصاء هذا . الخامس والعشرون : قانون إحصاء وذكر آيات الإحصاء في القرآن ، ومنه قوله تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا] ( ). السادس والعشرون : قانون إحصاء حروف وكلمات وآيات وسور القرآن المكية والمدنية منها . السابع والعشرون : قانون إحصاء وذكر السنة النبوية القولية في القرآن . الثامن والعشرون : قانون إحصاء آيات الرياضيات والهندسة في القرآن . التاسع والعشرون : قانون إحصاء وذكر آيات (قل ) في القرآن ، وعددها (332) وكلها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربع آيات منها ، مثل قوله تعالى[ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى] ( ). الثلاثون : قانون إحصاء وذكر السنة النبوية الفعلية في القرآن . الواحد والثلاثون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تذكر الساعة وأوان يوم القيامة ، منها قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا] ( ) وورد لفظ [السَّاعَةِ] في القرآن تسعاً وثلاثين مرة معرفة بالألف واللام ، وكلها بخصوص يوم القيامة ، لبيان أن أمرها هين عند الله ، وأنها تأتي بغتة كما تمر الساعة من النهار على الإنسان. وقد يرد لفظ [السَّاعَةِ] مرتين في آية واحدة ، ومنه [بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا] ( ) كما ورد لفظ [سَاعَةِ] من غير تعريف ويراد منها الساعة من أفراد الزمان الطولية ، والإشارة إلى أوان فعل وإن كان أياماً ، ومنه قوله تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ). الثاني والثلاثون : قانون إحصاء وذكر آيات الأحكام والتشريع في القرآن . الثالث والثلاثون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي لها أسباب نزول وذكر القائل بالسبب والربط بينه وبين نزول الآية القرآنية ، وهل هو من الصحابة أم التابعين أم من تابعي التابعين . الرابع والثلاثون : قانون إحصاء وذكر آيات البشارة في القرآن ، والنسبة بينها وبين البشارة بالجنة عموم وخصوص مطلق ، ومنها قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ) ومنها قوله تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ] ( ). الخامس والثلاثون : قانون إحصاء وذكر آيات الجملة الخبرية في القرآن. السادس والثلاثون : قانون إحصاء وذكر آيات الجملة الإنشائية في القرآن. السابع والثلاثون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تجمع بين الجملة الخبرية والإنشائية في القرآن مثل قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ). الثامن والثلاثون : قانون إحصاء وذكر آيات السؤال في القرآن ، والتي لا تختص بلفظ السؤال [يَسْأَلُونَكَ] الذي ورد خمس عشرة في القرآن ، إنما تشمل صيغ السؤال مثل لفظ [أَأَنْتُمْ] الذي ورد في القرآن تسع مرات، كما ورد مرة واحدة بصيغة المفرد [قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ] ( ) . التاسع والثلاثون : قانون إحصاء وذكر آيات حب الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]. الأربعون : قانون إحصاء موارد رضا الله عز وجل كما في قوله تعالى [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا]( ). الواحد والأربعون : إحصاء وذكر آيات بغض وسخط وغضب الله عز وجل ، وفي ذم وسوء عاقبة الذين كفروا ، قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ]( ) . الثاني والأربعون : قانون إحصاء وذكر آيات الدفاع والجهاد . الثالث والأربعون : قانون إحصاء وذكر آيات القتال والإضطرار إليه . الرابع والأربعون : قانون إحصاء وذكر الآيات التي تبين التضاد بين القرآن والإرهاب ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( )ومنه قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ). وقد صدرت بخصوص هذا القانون كل من الأجزاء : الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة . الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة . الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة . الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة . الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة . السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة . السابع : الجزء الثالث بعد المائتين . الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين . التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين . العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين . الخامس والأربعون: قانون إحصاء وذكر الآيات التي تدل على النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب . السادس والأربعون : قانون إحصاء وذكر آيات النسخ ، والناسخ والمنسوخ ، والمختار أنها آيات قليلة . السابع والأربعون : قانون إحصاء وذكر الآيات المحكمة ، قال تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) ومن الآيات المحكمات قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) . الثامن والأربعون : قانون إحصاء وذكر الآيات المتشابهات , وقد أختلف فيه مما يصعب معه هذا الإحصاء إلا بعد تعيين معنى المتشابه في القرآن ، ومنه المنسوخ الذي لا يعمل به ومنه الذي لا يستبين معناه على نحو التعيين إلا برده إلى آيات محكمات ، قال تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ). ومن الآيات المحكمات الفرائض ، والحلال والحرام والحدود. لذا فان الآيات المتشابهات تلحق بالمحكمات ، قال تعالى [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ]( )، فيتجلى معنى الآية المحكمة بذاتها أما الكلمات المتشابهة فيكون تمام معناها بغيرها ، ومنه إبدال كلمة بكلمة ، أو مجئ حرف بدل حرف آخر ، ومنه [وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ]( ). ومنه المتشابه في اللفظ والمعنى معاً ، مثل [أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا]( )، وتقديره : انزل على عبده الكتاب قيماً ، ولم يجعل له عوجاً.
التاسع والأربعون : قانون إحصاء وذكر الحمد والثناء على الله عز وجل.
ومن إعجاز القرآن وسنن تشريع العبادات في الإسلام ورود أول آية في نظم القرآن بعد البسملة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، ليقوم كل مسلم ومسلمة من الأجيال المتعاقبة يوم القيامة بالحمد والثناء على الله كل يوم خمس مرات في اليوم بقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، في كل ركعة من ركعات الصلاة اليومية وعددها سبع عشرة ركعة.
الخمسون : آيات المدح للأنبياء والأولياء والمؤمنين كأفراد وجماعات.
الواحد والخمسون : إحصاء وذكر الآيات التي يذكر فيها اسم من الأسماء الحسنى ، وهل تدخل فيها آيات اسم الجلالة (الله ) الجواب نعم ، ومن أظهر هذه الآيات [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) نعم الأولى أن يكون باباً مستقلاً لآيات اسم الجلالة .
الثاني والخمسون : إحصاء آيات العفو من عند الله .
الثالث والخمسون : آيات المغفرة .
الرابع والخمسون : آيات الصلاة وجوباً وأحكاماً ومضموماً وثواباً ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الخامس والخمسون : آيات الزكاة والخمس .
السادس والخمسون : آيات الصيام .
السابع والخمسون : آيات الحج ، ومن إعجاز القرآن إنحصار ذكر الحج في القرآن بحج بيت الله الحرام ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً..] ( ).
الثامن والخمسون : إحصاء وذكر الآيات التي تذكر المساجد عامة ، قال تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا] ( ) ويذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان بقول ( أشهد أن محمداً رسول الله ) في المساجد وفي أروقتها ومحاربيها وأسطحها مما يدل على أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو ذكر لله عز وجل .
التاسع والخمسون : إحصاء وذكر آيات الطاعة لله عز وجل ، وكيف أنها علة وسبب للفلاح والنجاح .
الستون: إحصاء وذكر آيات الرحمة ، والتي تبدأ بقوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) الذي ورد في أول كل سورة لتتغشى صبغة الرحمة كل آية من القرآن ، وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً بلحاظ قانون : الجمع بين البسملة وكل آية من القرآن دعوة لنبذ العنف والغزو والإرهاب.
الواحد والستون : إحصاء آيات الإحسان والصفح ، قال تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
الثاني والستون : إحصاء وذكر آيات الشجر والزرع والثمر.
الثالث والستون : إحصاء آيات الأخلاق الحميدة .
الرابع والستون : إحصاء آيات الإصلاح واللطف الإلهي بالتقريب والنهي عن الفساد .
الخامس والستون : إحصاء الآيات التي ذكرت فيها أسماء الأنبياء ودلالة الجمع بينهما .
السادس والستون : الإحصاء الموضوعي أي ذكر المواضيع التي ذكرت في القرآن.
السابع والستون : إحصاء آيات الأحكام.
الثامن والستون : إحصاء آيات الأوامر ، والنسبة بينها وبين الوجه أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فكل أمر قرآني من آيات الأحكام وليس العكس .
التاسع والستون : إحصاء آيات النواهي .
السبعون : إحصاء آيات المباح.

من قواعد التفسير
القاعدة لغة هي الأصل الذي يبتنى عليه غيره ، وفي الإصطلاح هي حكم كلي تدرك من خلاله جزئياته أي أنه يتصف بالإختصار في البيان ولكنه يستوعب أفراده .
ولم يرد لفظ (قاعدة) بصيغة المفرد في القرآن ، إنما ورد بصيغة الجمع ثلاث مرات قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
والنسبة بين التفسير وقواعده هو العموم والخصوص المطلق فهي كالجزء من الكل فالتفسير بيان وكشف المعاني وشرحها وإيضاحها ، أما قواعد التفسير فهو الضوابط والكليات في هذا الكشف والبيان ، وهل تدخل قواعد اللغة وتراكيبها فيه ، الجواب نعم ، ومنها علم الحقيقة والمجاز.
وان كان علم التفسير وقواعده وأصوله لاتحيط بمعاني ودلالات آيات القرآن امس واليوم وغداً لأن هذه المعاني من اللامتناهي.
وقواعد التفسير هي الأحكام والقوانين الكلية والمنهاج الذي يؤدي الى معرفة معاني ودلالات اللفظ القرآني ، فمثلاً ورد أكثر من ثلاثة آلاف قانون في الجزء 121-223 من هذا السِفر.
ومن كتب قواعد التفسير الإتقان لجلال الدين السيوطي ت911 هجرية.
وكتاب البرهان لبدر الدين الزركشي ت 794 هجرية.
والقوانين الكثيرة الواردة في تفسيري والذي صدرت منه حتى الآن (227) جزء في آية علمية لم يشهد لها التأريخ ، ومقدمات كتب التفسير للمتقدمين والمتأخرين وهي زاخرة ببيان قواعد وأصول التفسير.
ومن قواعد التفسير مثلاً المدار على عموم اللفظ وليس خصوص سبب النزول ، فقد ترد الآية القرآنية في سبب واقعة مخصوصة ، ولكن معناها أعم وهي باقية غضة طرية إلى يوم القيامة ، ومنها أصالة الإطلاق إلا مع الدليل على التقييد.
وتحتمل النسبة بين قواعد التفسير وأصول التفسير وفق علم المنطق وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهي على شعبتين :
الأولى : قواعد التفسير أعم من أصوله .
الثانية : أصول التفسير أعم من قواعده .
الثالث : نسبة التساوي بينهما .
الرابع : نسبة التباين بينهما .
والمختار هو الوجه الثالث أعلاه وأن علم أصول التفسير هو نفسه العلم بقواعد التفسير كما يسمى علم علوم القرآن.
وهذا العلم نشأ على نحو التدريج في ذاته وسعته إذ ابتنى على القوانين في آيات القرآن وجوامع الكلم والمأثور في السنة النبوية ، وأقوال الأئمة المعصومين عليهم السلام والصحابة واستقراء العلماء المسائل واستقصاء القواعد الكلية منها ، وتفسير القرآن هو بيان معناه وكشف دلالاته وما يفيده النص والإشارة فيه.
وهذه القواعد عون للعالم والمتعلم في الكشف عن معاني ودلالات الآية القرآنية ، ومنها :
الأول : علم المحكم والمتشابه .
الثاني : علم الناسخ والمنسوخ .
الثالث : أسباب النزول .
وكل من هذه الوجوه الثلاثة بيان وتفسير.
الرابع : المطلق والمقيد .
الخامس : المجمل والمبين .
السادس : العام والخاص .
السابع : الأصل اللغوي .
الثامن : البلاغة والبيان في القرآن.
التاسع : قاعدة التفسير الذاتي تفسير القرآن بالقرآن.
العاشر : الحقيقة والمجاز.
فلا يختص هذا العلم بمعاني ذات الكلمة أو الآية مستقلة بل لابد من الجمع بينها وبين آيات أخرى في ذات الموضوع والحكم .
الحادي عشر : قد صدرت لي والحمد لله أجزاء خاصة بالصلة بين آيتين من القرآن وهي :

  • الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
  • الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
  • الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران.
    الثاني عشر : خطابات القرآن وتنوعها ، وبين أكثرها عموم وخصوص مطلق ، كما في النسبة بين النداء [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] و[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إذ يدخل الذين آمنوا في لفظ الناس وليس العكس ، وذات النسبة بين [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] و[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ] كما في قوله تعالى [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
    وذات النسبة بين[يَاأَيُّهَا النَّاسُ] و[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا] كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، ومع ورود لفظ (بني اسرائيل) أربعين مرة و(بنو اسرائيل) مرة واحدة في القرآن فلم يرد فيه خطاب (يا بني اسرائيل) ليشملهم الخطاب يا أهل الكتاب.

    تجليات منهاجي في التفسير( )
    من إعجاز القرآن الغيري تعدد مناهج التفسير لأن كنوز القرآن من اللامتناهي ، ولأن سبر أغوار القرآن يستلزم التفسير والإجتهاد في التأويل، والبيان بصيغ وأساليب مناسبة لمدارك الناس على اختلافها وتباينها.
    والطرق والكيفية التي يتبعها المفسرون لبيان العلوم في الآية القرآنية ، ووجوه التأويل فيها.
    ومن إعجاز القرآن تجدد كنوزه كلما استخرج العلماء اللآلى والدرر منه ، وعدم إصابة خزائنه بالنقص بكثرة ما ينهل ويستقرأ ويكتشف منها.
    وقد يختار عالم التفسير منهجاً معيناً يبرع أو يختص به ، وقد تتعدد المناهج وأحوال العلوم التي يستحضرها في التفسير ، وهو الأولى، إذ قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
    ومن وجوه تقدير هذه الآية : تبياناً لكل شئ بالتدبر فيه .
    تبياناً لكل شئ للناس جميعاً ، إذ يسير عالم التفسير مع المضامين القدسية للآية الكريمة ، ويستقرأ العلوم التي فيها ، وجاء هذا السِفر المبارك (معالم الإيمان في تفسير القرآن) شاملاً لوجوه التفسير ، وفيه إضافات علمية عليها ، ووجوه مستحدثة منها ، قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
    وترد أقسام التفسير أدناه بما يفيد الوصف والبيان.
    والتفسير لغة هو البيان والكشف ، أما في الإصطلاح فهو إظهار معاني وألفاظ القرآن ، وبيان دلالاتها ، والتحقيق في مناهج التفسير ، وتقسيمها ، إنما هو تقسيم استقرائي ، إذ تتداخل مناهج وأقسام متعددة من التفسير في تفسير واحد ، وهو من إعجاز القرآن لمجئ آياته بالمضامين القدسية المتعددة .
    ومن مناهج التفسير :
    الأول : تفسير القرآن بالقرآن .
    الثاني : تفسير القرآن بالسنة والمأثور ، وهل يختص هذا التفسير بالسنة القولية ، الجواب لا ، إنما يشمل السنة الفعلية لبيان أنها مرآة للقرآن .
    الثالث : التفسير اللغوي ، وهو من أسرار قوله تعالى [قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( ).
    الرابع : التفسير الفقهي الذي يتعلق بآيات الأحكام ، وعددها أكثر من خمسمائة آية ، بالإضافة إلى آيات أخرى كثيرة يتصل موضوعها بالفقه .
    الخامس : التفسير التأريخي ، وإستعراض الوقائع التأريخية التي يذكرها القرآن ، وكذا استقراء شواهد ومصاديق للتفسير من الأحداث من جهات :
    الأولى : ما سبق في زمان نزول القرآن .
    الثانية : ما صاحب أيام النبوة ، ونزول القرآن، وقد صدر لنا ستة وعشرون جزء في قانون : لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً.
    فهل تدخل مواضيع هذه الأجزاء في هذا الباب ، الجواب نعم .
    وهذه الأجزاء هي :
    الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
    الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
    الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
    الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
    الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
    السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
    السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
    الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
    التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
    العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
    الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
    الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
    الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
    الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
    الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
    السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
    السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
    الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
    التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
    العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
    الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
    الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
    الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
    الرابع والعشرون : الجزء الواحد والعشرون بعد المائتين .
    وهو من مصاديق [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ]( ).
    الثالثة : الأحداث التي وقعت بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
    الرابعة : الوقائع والأحداث التي ستقع وسوف تحدث فيما بعد ، ودلالتها على إعجاز القرآن في بيانه ، وهدايته إلى الصلاح والرشاد ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
    وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (للقرآن تأويل يجري كما يجري
    الليل والنهار، و كما تجري الشمس والقمر، فادا جاء تأويل شئ منه وقع، فمنه ما قد جاء، ومنه ما يجئ) ( ).
    السادس : التفسير الكلامي ، وعلم الكلام هو علم اثبات التوحيد والعقائد الإيمانية والنبوة والتنزيل والمعاد بالدليل الجلي والبرهان العقلي ، وصيغ الإحتجاج لإبطال الشبهات ، وتفرع عن علم الكلام الرد على الفرق المستحدثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجتهاد أرباب تلك الفرق المستحدثة والرد عليها طرداً وعكساً ، وفيه إنشغال عن أصل علم الكلام ، ولزوم الإنتفاع العامل الأمثل منه في نشر لواء الإيمان ، وإستئصال مفاهيم الكفر ، وعبادة غير الله ، ومن خصائص القرآن الرد على الكفار والملحدين .
    السابع : التفسير البلاغي والأدبي الذي يبين الإعجاز في بلاغة القرآن .
    الثامن : التفسير الموضوعي ، والموضوع هو جعل الشئ في مكان مخصص من الإلقاء في المكان ، ومنه التفسير الموضوعي الذي يختص بمضامين موضوع معين ، وذُكر بآيات وسورة مختلفة .
    وقد يشمل هذا التفسير المقصد المتحد من مقاصد القرآن السامية ، وهذا التفسير موجود من أيام التنزيل ، وتجلى باصطلاح وعنوان مخصوص في الدراسات الحديثة .
    والنسبة بين التفسير الموضوعي وتفسير القرآن بالقرآن هو العموم والخصوص المطلق ، وعمدة التفسير الموضوعي اللجوء إلى آيات القرآن والسنة النبوية ، وأول من فسر القرآن بالقرآن هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    التاسع : ويتضمن بيان معنى اللفظ ، وتركيبه ونظم الكلمات في الآية الواحدة ، والآيات المجاورة لها .
    ولا يختص هذا التفسير بموضوع مخصوص من الفقه أو النحو أو البلاغة، وهو يشمل قصص القرآن ، والآيات الكونية ، وتجليات العلوم والإكتشافات الحديثة بما يؤكد إعجاز القرآن ، وكيف أن آياته ضياء ينير دروب العلماء .
    العاشر : التفسير الأدبي ويشمل اللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلوم البيان ، وما يسمى بالتفسير البياني .
    الحادي عشر : التفسير الترتيبي لآيات القرآن ، وهو الغالب في مناهج التفسير ،بأن يتم تناول القرآن آية آية حسب نظم القرآن ابتداء من سورة الفاتحة ، وتدخل مناهج التفسير فيه أيضاً للسعة ، ومن فضل الله عز وجل والتوفيق في هذا السِفر ورود أجزاء كثيرة منه على النحو الآتي :
    أولاً : صدور خمسة أجزاء في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) وهذه الأجزاء هي:
    الأول : الجزء الخامس بعد المائة .
    الثاني : الجزء السادس بعد المائة .
    الثالث : الجزء السابع بعد المائة .
    الرابع : الجزء الثامن بعد المائة .
    الخامس : الجزء التاسع بعد المائة .
    ثانياً : صدور أربعة أجزاء في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) وهذه الأجزاء هي :
    الأول : الرابع والتسعون .
    الثاني : الخامس والتسعون .
    الثالث : السادس والتسعون .
    الرابع : السابع والتسعون .
    ثالثاً : صدور ثلاث أجزاء في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( )وقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( )وهذه الأجزاء هي :
    الأول : السادس والتسعون .
    الثاني : السابع والتسعون .
    الثالث : الثامن والتسعون .
    رابعاً : صدور جزئين في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) وقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) وهذه الأجزاء هي :
    الأول : الجزء السادس والخمسون بعد المائة .
    الثاني : الجزء السابع والخمسون بعد المائة .
    خامساً : إختصاص جزء كامل في تفسير آية واحدة من القرآن ، ومنه أكثر أجزاء هذا السِفر المبارك في آية علمية لم تحدث في علم التفسير ، وفيه إظهار لكنوز الآية القرآنية ، وشمول أجزاء تفسيرنا لمناهجه المتعددة مع زيادة ونافلة عليها .
    وآخر جزء من هذا التفسير صدر بخصوص هذا التفسير هو الجزء التاسع بعد المائتين ، ويقع في تفسير الآية (185) من سورة آل عمران ، وهو قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ).
    ويمكن أن نضيف وجوهاً أخرى في علم التفسير منها :
    الأول : تفسير الصفات والأسماء الحسنى ، والذخائر العلمية فيها ، ويدعو قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) العلماء على الإختصاص في هذا العلم حتى على القول أنه من علم الكلام , والمختار أنه أعم .
    الثاني : تفسير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكيفية الإنتفاع من كل آية من القرآن بهذا الباب من العلم , بأن تذكر الآيات التي يشمل موضوعها الأمر والنهي سواء في منطوقها أو مفهومها .
    الثاني عشر : تفسير الصلة بين الآيات : وهو علم جديد في تأريخ الإسلام بوجوه متعددة منها :
    الأول : صلة آية قرآنية بآية قرآنية مجاورة لها كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة والجزء الواحد والتسعون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن.
    الثاني : صلة شطر من آية قرآنية بشطر من آية قرآنية مجاورة لها ، كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة والجزء الالواحد والخمسيت بعد المائة من تفسيرنا هذا للقرآن ، كما تقدم بيانه.
    الثالث عشر : علم المناسبة : وهو علم مستحدث تم إنشاؤه في هذا التفسير والحمد لله إذ تؤخذ كلمة من الآية محل البحث ويتم التفسير بلحاظ ذات الكلمة وموضوعها في آيات القرآن الأخرى ، إذ تتضمن الأجزاء التي تخص تفسير آيات القرآن باستقصاء معنى الكلمة واللفظ المتحد في القرآن بالآيات والسور المتعددة ، ودلالتها بخصوص كل آية وردت فيها إذ تتضمن كنوزاً وذخائر للعلماء في الأجيال اللاحقة وإلى يوم القيامة.
    فتجد في تفسير كل آية من باب في علم المناسبة قوانين وأحكاماً وأنظمة وتستقرأ منه مسائل في علم الكلام والفقه والأصول والأخلاق ومنه نبذ العنف والتطرف والتكفير.
    ومن أمثلة علم المناسبة في هذا التفسير .
    وفيها علم المناسبة لكلمة [فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ]( ) ( ).
    وفيها علم المناسبة لكلمة رَحْمَةِ اللَّهِ.
    وفيها علم المناسبة لكلمة الْخَالِدُونَ.
    وفيها علم المناسبة لكلمة [آيَاتُ ]( ) ( ) .
    وفيها علم المناسبة لكلمة [ تُتْلَى ] ( ) ( ).
    وفيها علم المناسبة لكلمة [ بِالْحَقِّ] ( ) ( ).
    وفيها علم المناسبة لكلمة [ ظُلْمً ] ( ) ( ).
    وفيها علم المناسبة لكلمة [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ] ( ) ( ).
    وفيها علم المناسبة لكلمة [ أَرْضِ ] ( ) ( ).
    ورد في الجزء (71) من هذا التفسير
    وفيها علم المناسبة لكلمة [كُنْتُمْ] ( ).
    وفيها علم المناسبة لكلمة [ وَأَخْرَجُوكُمْ] ( ) ( ).
    وفيها علم المناسبة لكلمة [تُؤْمِنُونَ ] ( ) ( ) .
    وفيها علم المناسبة لكلمة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا] ( ) ( ) .
    وفيها علم المناسبة لكلمة [خَيْرًا] ( ) ( ) .
    وفيها علم المناسبة لكلمة [فَاسِقُونَ]( ) ( ) .
    وفيها علم المناسبة لكلمة [أَنْبِيَاءَ] ( ) ( ) .
    وفي تفسير كل آية من القرآن في كتابنا هذا تجد علم المناسبة لكلمة أو أكثر من الآية لتتجلى فيه وجوه إعجازية متعددة .
    الرابع عشر : الصلة بين أول ووسط وآخر الآية، وهو علم مستحدث في التفسير، يتجلى في تفسير كل آية في هذا السفر المبارك، وفيه نكات علمية دقيقة ولطائف إعجازية، وورد في هذا التفسير بخصوص أكثر الآيات من :
    الأولى: آيات سورة الفاتحة.
    الثانية : آيات سورة البقرة.
    الثالثة : آيات سورة آل عمران، والتي جاء الجزء (209) من هذا التفسير في تفسير الآية(185) منها ، وفيه علم المناسبة بخصوص لفظ (ذائقة) ( ) أكثر الآيات الذي ورد ثلاث مرات في القرآن منها مرة في آية البحث [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
    الخامس عشر : تفسير سياق الآيات بأن تؤخذ الصلة بين آية البحث والآيات المجاورة لها.
    وقد جعلت هذا القسم من التفسير بعد باب الإعراب واللغة، وتجلت فيه علوم مستنبطة، ومسائل ودلالات إعجازية.
    وقد رأيت أغلب كتب التفسير على تفسير الآية القرآنية صفحة أو أقل أو بضع صفحات ، وقد أنعم الله عز وجل علينا بتخصيص جزء كامل لتفسير الآية ، وإن كانت من بضع كلمات ، كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
    إذ صدر الجزء السادس وال والعشرون بعد المائتين من معالم الإيمان في تفسير القرآن خاصاً بها ، وكله تأويل واستنباط واستقراء من ذات الآية واستقصاء للعلوم من ذخائر الآية ، وقد صدرت عدة أجزاء بتفسير آية واحدة ومن منهاج تفسيري للقرآن والحمد لله .
    وسيأتي مزيد كلام في هذا الموضوع في الجزء التالي والحمد لله ، وهو الثلاثون بعد المائتين.
    قانون الرسالة أمن
    من خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعثته عند غياب الأمن على النفس والمال والعرض ، فليس من قانون أو ضوابط شرعية أو أخلاقية تحكم الناس أنذاك ، إنما كانت الفرقة والخصومة والثأر بين القبائل هي الخصال السائدة ، ولأن الله عز وجل هو الرحيم بعباده الذي لا يرضى باستدامة الظلم فانه يصلح أحوال الناس بالنبوة وسبل الهداية والرشاد.
    وقد يقال لماذا لم ينزل الله عز وجل على قريش والقبائل المشركة صاعقة وآفة سماوية ، والجواب من جهات :
    الأولى : إن قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بيان لإتصاف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانها إصلاح وهدى للأجيال المتعاقبة من الناس في مشارق ومغارب الأرض ، وفيه شاهد على قانون الإرهاب ضد لاحكام النبوة .
    الثانية : من خصائص النبوة أنها بشارة وإنذار ، فلا يأتي الغضب والإنتقام من الله عز وجل إلا بعد الإنذار والإبتلاء ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
    الثالثة : بركة البيت الحرام في درء العذاب عن المجاورين ، لبيان قانون وهو من منافع قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) إمتناع أهل الحرم عن الهلاك بالعذاب العام كالصاعقة والغرق والخسف .
    (وأخرج أحمد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه) ( ) وقال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) .
    الرابعة : نزول آيات الإنذار بلغة المثل والشواهد التأريخية ففي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ]( ).
    لقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع بيانها لسبب وموضوع هذا الإحتجاج والذي يتألف من أمرين :
    الأول : إفساد طائفة من الناس في الأرض .
    الثاني : القتل وسفك الدماء .
    لقد أجابهم الله عز وجل على احتجاجهم بأنه يعلم من الخليفة في الأرض ما لا يعلمون كما في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
    وابتدأ مصداق تخلفهم عن علوم وذخائر جعل آدم خليفة في الأرض أن علّم الله عز وجل آدم الأسماء وظهر عجز الملائكة عن معرفتها ، لبيان حكمة الله عز وجل بتأكيد قانون وهو تفضله باختصاص بعض أجناس مخلوقاته بصفات ومزايا .
    و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول من لبى الملائكة ، قال الله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ] ( )، قال : فزادوه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون : لبيك لبيك اعتذاراً إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك)( ).
    وعن ابن عباس في قوله {وإذ قال ربك للملائكة}( ) الآية . قال : إن الله قال للملائكة : إني خالق بشراً ، وإنهم متحاسدون فيقتل بعضهم بعضاً ويفسدون في الأرض .
    فلذلك قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها}( ) قال : وكان إبليس أميراً على ملائكة سماء الدنيا ، فاستكبر وهمَّ بالمعصية وطغى ، فعلم الله ذلك منه . فذلك قوله {إني أعلم ما لا تعلمون}( ) وإن في نفس إبليس بغياً ( ).
    لقد اصطفى الله عز وجل الملائكة لجواره ، وجعلهم منقطعين إلى عبادته وتسبيحه فسألوا الله تنزيه الأرض من الفساد ، ولم يكن قولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] احتجاجاً وهم يعلمون أن ليس لهم الإحتجاج ، ولا يفكرون بلغة الإحتجاج مع الله عز وجل ولكنهم سألوا الله للإنسان الإبتعاد عن الفساد ، وسفك الدماء.
    ومن إعجاز الآية عدم إعتراض الملائكة على نيل الإنسان منصب الخلافة والسيادة والعز في الأرض ، ولم تذم آدم والناس جميعاً ، إنما ذم الملائكة طائفة تتصف بالفساد وسفك الدماء .
    وهل يمكن حمل كلام الملائكة على إرادة إبليس وحده ويكون تقدير الآية (اتجعل فيها إبليس ليفسد فيها ويسفك الدماء) خاصة وأنها جاءت بصيغة المفرد (من يفسد) الجواب لا تختص الآية بابليس إنما قصده الملائكة أيضاً مع من يفسد من الناس ، وهو من الإعجاز في صيغة التنكير في الآية ، وعدم التعيين للذين يفسدون ، أما صيغة المفرد فانها تأتي للمفرد والجمع.
    ووقع سؤال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، إنما قبل الأمر من الله إليهم بالسجود لآدم وإمتناع إبليس عنه ، فلا يعلم الملائكة أن إبليس سيهبط إلى الأرض عقوبة من عند الله ، لأنه استكبر فيما بعد ، وهذا الإشكال لطيف ولكن الراجح أن الملائكة أطلعوا على خلافة الإنسان وهبوط إبليس ويكون مصاحباً له ولذريته.
    ومن الآيات أنهم لم يذكروا القتل والإقتتال ، إنما ذكروا المعنى الأعم ، فبين سفك الدماء والقتل عموم وخصوص مطلق ، إذ أن سفك الدماء أعم ، ومنه الجراحات.
    وهل منه قتل الخطأ ، أم أن القدر المتيقن هو القتل العمد ، المختار هو الأول ، لأصالة الإطلاق ،ويحتمل القصاص كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وجوهاً :
    الأول : إنه من سفك الدماء .
    الثاني : إنه اجنبي عن موضوع الآية .
    الثالث : إنه من مصاديق قول الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
    والمختار هو الأخير أعلاه ، فمن يسفك الدماء يُقتص منه ، بما يكون عبرة وموعظة لغيره.
    ومن إعجاز هذه الآية بخصوص هذا الزمان أن الإرهاب جامع لكل من:
    الأول : الفساد والضرر العام والخاص .
    الثاني : عموم الفساد في الأرض .
    فحتى لو كان العمل الإرهابي في بلدة صغيرة فان خبره ينتشر بين الشعوب ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ومن معاني هذه الآية بقاء الأرض على حالها ، وأن المفسدين وإن تعاقبوا في الأرض فهم لايضرونها.
    لبيان أن الملائكة علموا المراد من تقييد خلافة الإنسان في الأرض ، ولم تقل الآية (اني جاعل على الأرض خليفة) .
    الثالث : سفك الدماء ، والنسبة بينه وبين الإرهاب عموم وخصوص مطلق ، إنما قصد الملائكة عموم الحروب والإقتتال ، والثأر والقتل غيلة ، وهل منه وأد البنات ، وقتل الأولاد خشية الفقر والفاقة ، الجواب نعم .
    وقد هلك الملايين من البشر في الحروب والمعارك بينما ضمن الله عز وجل لهم الرزق في الأرض.
    وهل أراد الملائكة للناس العصمة ، الجواب لا ، إنما سألوا الله عز وجل لهم التنزه عما يؤدي بهم إلى النار ، فأنزل الله السكينة عليهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لفتح الله باب التوبة للناس وبعثه الأنبياء ، ولا يعلم ما صرف من الحروب وسفك الدماء بالنبوة مطلقاً ، ونبوة محمد خاصة إلا الله عز وجل وهو من مصاديق هذا القانون (الرسالة أمن).
    ويتعارض الإرهاب مع مفاهيم الأمن التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتحمل من أجلها الكثير من الأذى.
    وقد نزل القرآن ببيان قانون وهو ذكر الله وسيلة الطمأنينة الخاصة والعامة ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
    و(عن أنس ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق عيال الله ، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)( ).
    و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق عيال الله ، فأحب الناس إلى الله من أحسن إلى عياله)( ).
    وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين.
    قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني.
    قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين.
    قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي)( ).
    لبيان وجوب التراحم بين الناس ، والإمتناع عن الظلم والتعدي والإرهاب والإخبار عن قانون من عالم الآخرة وهو أن الذي يضر بالناس يلقى الحساب والجزاء يوم القيامة .
    وهل يمكن القول بأن قانون كل آية من القرآن أمن ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
    لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تنمية ملكة الحب والمودة بين الناس ، وهو من الإعجاز في نبوته ، فلم يكتف بتبليغ أحكام الحلال والحرام ، إنما أخبر عن مصاديق وشواهد لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
    منها الدعوة إلى حب الله عز وجل وأن يحب المؤمن للأخ والقريب والجار مثلما يحب لنفسه ، وهذا الحب شرط من شروط الإيمان ، وبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يؤسس لقانون عصمة المسلمين والمسلمات من الإرهاب من باب الأولوية القطعية.

    بين آية التطهير وآية صرف السوء عن يوسف(ع)
    قال تعالى [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] ( ).
    وقال تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ] ( ).
    ووردت نصوص في كتب المسلمين ومنها عن عائشة أن الآية أعلاه في الخمسة أهل الكساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين (مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ) ( ).
    ومن إعجاز القرآن بيانه بأن الرجس يستجيب لأمر الله ، فيبتعد عن المعصومين ، والأولياء والمتقين ، وتحتمل هذه الإستجابة في أوانها وجوهاً :
    الأول : إبطاء الرجس في الإستجابة .
    الثاني : مبادرة الرجس بالإبتعاد عن الأنبياء والأولياء وغيرهم حال الأمر الإلهي.
    الثالث : التفصيل إذ يبتعد بسرعة عن الأنبياء بينما يتباطئ في الإبتعاد عن غيرهم.
    الرابع : إبطاء الرجس عن الإستجابة في ذهابه عن المتقين إذا كان للشيطان سلطان عليهم .
    والصحيح هو الثاني فحالما يأتي الأمر الإلهي للرجس بالإبتعاد عن الفرد والجماعة ينسحب ويزول سواء على نحو مؤقت أو دائم ، والمختار أنه ليس للشيطان سلطان على الرجس.
    وعن أم سلمة زوج النبي (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ادعي زوجك ، وابنيك ، حسناً ، وحسيناً ، فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
    فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفضلة إزاره ، فغشاهم إياها ، ثم أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء.
    ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ، فاذهب عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيراً ، قالها ثلاث مرات . قالت أم سلمة: فادخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله وأنا معكم فقال : إنك إلى خير مرتين) ( ).
    وهل يختص موضوع الآية بالخمسة أصحاب الكساء أو العباء أم يشمل الأئمة .
    الجواب هو الثاني لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولإلحاق الذي لم يولد بعد بالموجود من الأئمة ، مما يدل على قانون وجود المصداق للآية القرآنية في كل زمان ، فالإمام المهدي من أهل الآية أعلاه .
    و(عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ]( )، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيء إلى باب عليّ صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول : الصلاة رحمكم الله { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً }( ) .
    وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ثابت قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة : صلوا . . . صلوا . . . قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة) ( ).
    وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
    وتقدير الآية أعلاه : ادعوني بصرف الرجس عنكم ، فاستجب لكم وأصرفه عنكم.
    وبعد أمر الله عز وجل الرجس بالإبتعاد عن أهل البيت ، فانه سبحانه طهرهم من الدنس والذنوب والمعاصي ، لبيان عصمة أهل البيت وعظيم منزلتهم.
    والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فكما أخبرت الآية أعلاه عن صرف الرجس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ، فقد ورد صرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
    ترى ما هي النسبة بين السوء والرجس .
    والرجس : الشيطان ودنس الذنوب ، والعيب والآثام .
    والرجس اسم جنس ، لإفادة الإطلاق في طرد أفراد الرجس عن أهل البيت ، والإتيان باسم الجنس ، كالإتيان بالمصدر بالإخبار عن المتعدد وبيان عظيم فضل الله عز وجل على أهل البيت ، وأن الله يذهب عنهم الرجس مجتمعين ومتفرقين.
    وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الحسن والحسين سيدا أهل الجنة ، وأبوها خير منهما)( ).
    و(عن أبي مخنف؛ ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته، وأنه ولي عهده بعده، والفراغ من أمرهم، فكتب إلى الوليد:
    بسم الله الرحمن الرحيم. من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد، فإن معاوية كان عبداً من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه، وخوله، ومكن له، فعاش بقدر، ومات بأجل، فرحمه الله، فقد عاش محموداً، ومات براً تقياً، والسلام.
    وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة: أما بعد، فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا ، والسلام)( ).
    ترى ما هي النسبة بين الرجس الذي أراد الله صرفه ودفعه عن أهل البيت وبين السوء والفحشاء اللذين صرفهما الله عز وجل عن يوسف عليه السلام .
    المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالرجس أعم ، ومن معاني السوء هو ما يسّوء فاعله ، ويجعله في حزن من إرتكابه ، وقيل ما انكره العقل واستقبحه الشرع .
    أما الفاحشة فهو الزنا ونحوه .
    (روى باذان عن ابن عبّاس قال : الفحشاء كلّ ما فيه حدّ في الدُّنيا من المعاصي فيكون من القول والفعل ، والسّوء من الذنوب ما لا حدّ فيه) ( ).
    فكما صرف الله سبحانه السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام فانه صرفه عن الأنبياء وعن أهل آية التطهير ، لبيان توارث الإمامة في الأرض لإستدامة إقامة الشعائر ، والعمل بأحكام الشريعة السماوية ، كما أنه من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
    وقال تعالى [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ) وقد وردت نصوص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين المراد من الآية ، إذ وورد عن ابن عباس (قال : لما نزلت هذه الآية {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى }( ) قالوا : يا رسول الله ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم؟
    قال : علي وفاطمة وولداها) ( ).
    وتنهى آية المودة في مفهومها عن الظلم والجور والتعدي والإرهاب ، وتتضمن الإخبار بأن الله عز وجل أمر النبي محمداً بأن يكون أجره من كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة مودة ومحبة أهل البيت .
    ومن مصاديق هذه المودة اتباعهم في طاعة الله واتيان الفرائض ، وعمل الصالحات والإمتناع عن الإضرار بالناس.
    قانون منافع هجرة النبي (ص) لليهود
    من معاني البهجة والغبطة في الحياة الدنيا توالي رحمة الله ببعثة الأنبياء ، ومصاحبة الوحي لهم ، ومن خصائص الأنبياء عدم إنحصار منافع رسالتهم بأيامهم في الحياة الدنيا ، بل تمتد إلى ما بعد مغادرتهم إلى الرفيق الأعلى .
    ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، أن منافع رسالته متصلة كما وكيفاً وفي إرجاء الأرض وإلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] ( ).
    ويتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنذ نشأته بالخصال الحميدة من العفة والأمانة والصدق والعصمة من الظلم والتعدي .
    وجاءت تجارته بأموال خديجة بين مكة والشام لتبين للناس إخلاصه في العمل ، وحسن معاملته وأمانته لتكون تواطئة عامة لإعلان نبوته عندما ينزل عليه الوحي في سن الأربعين .
    ولينزل قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) ويحتمل موضوع هذه الآية من جهة أفراد الزمان وجوهاً :
    الأول : ما بعد نزول هذه الآية ، وهي من سورة القلم وهي من أوائل السور التي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وقال ابن كثير أنها مدنية ، وقال ابن عباس من أولها إلى قوله تعالى [سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ]( )، مكية ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى [يَعْلَمُونَ]مدنية ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى [فَهُمْ يَكْتُبُونَ] ( ) مكي.
    وهي أول سورة نزلت من السور التي تبدأ بالحروف المقطعة ، والنون : الحوت .
    وقال الحسن البصري (ن والقلم أي : الدواة والقلم ) ( ).
    وسميت هذه السورة سورة الخُلُق لأن فيها قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
    الثاني : المراد من الآية أعلاه مدة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للملازمة بين النبوة والخلق الحميد .
    الثالث : المراد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا خلق عظيم وأدب رفيع قبل وبعد النبوة .
    المختار هو الأخير أعلاه لأصالة الإطلاق ، فان قلت هل يتعارض القول بعدم الإستصحاب القهقري مع هذه الأصالة ، الجواب لا ، لأنها وصف ، وبيان لسجايا حسنة ، وتدل عليها السيرة ، وهل تدل هذه الآية على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    المختار نعم ، وهي من مصاديق وأفراد العصمة قبل وبعد النبوة ، ولا يتعارض هذا القانون مع القول الذي يقيد عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها بعد النبوة والأخلاق الحميدة.
    والعصمة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وأسماها ما يتصف به الأنبياء ، والخُلق هو الأدب في القول والفعل يصاحب الإنسان فيكون كالخلقة ومصاحباً لها .
    ومن خصائص الخلق الحميد ترشح المنافع عنه للذات والغير ، ومن أخلاق النبوة عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العهود والمواثيق مع اليهود والنصارى ، وإعطاؤهم حقوقهم ، والمنع من ظلمهم أو التعدي عليهم أو على أموالهم أو أعراضهم ، فبعد أن كان يهود المدينة يشتركون على مضض وكراهة في القتال الذي يدور بين الأوس والخزرج للأحلاف التي بينهم ، وقد يقتل اليهودي يهودياً أو يأسره ثم يبذلون الأموال لفكاكه انقطع هذا القتال ، وصار الأوس والخزرج إخوة منشغلين بأداء الفرائض والعبادات وبالتهيئ للدفاع ضد قريش ، كما في معركة أحد ، ومعركة الخندق وما بينهما من غارات قريش ، وحلفائها على أطراف وسروح المدينة ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) بلحاظ عنوان هذا القانون وهو (منافع هجرة النبي (ص) لليهود) وجوه :
    الأول : لا تقاتلوا اليهود الذين لم يقاتلوكم .
    الثاني : وقاتلوا في سبيل الله المشركين الذين يقاتلونكم ، إذ تقيد الآية أعلاه الأمر للمسلمين بالقتال بخصوص الذين يقاتلونهم ، ووجوب كون قتال المسلمين في سبيل الله ، وليس طلباً للثأر .
    وهل تدل الآية أعلاه على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلى بدر للإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، الجواب نعم ، لأنه لم يكن هناك قتال بين المسلمين وكفار قريش .
    الثالث : اجتنبوا قتال أهل الكتاب لتقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم من الكفار .
    الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تقاتلوا يهود المدينة الذين بينكم وبينهم عهود وتقيدوا بهذه العهود ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( ).
    الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا تقاتلوا إلا في سبيل الله ، وعند الحاجة والدفاع ، لقد صالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَهُودَ الْمَدِينَةِ ، وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابَ أَمْنٍ وَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ : بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَبَنِي النّضِيرِ ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ ، فَحَارَبَتْهُ بَنُو قَيْنُقَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْر ٍ ، وَشَرَقُوا بِوَقْعَةِ بَدْر) ( ).
    السادس : وقاتلوا في سبيل الله الذين قاتلوكم في بدر ، وفي أحد وسيقاتلونكم في الخندق وحنين .
    السابع : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، واقبلوا الصلح ، إذا اختاروا السلم ، ومن الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً، ومن معاني قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( )، وان جنح الذين غزوكم وهجموا عليكم في معركة بدر وأحد والخندق ، فأقبلوا بالسلم والمهادنة والموادعة والمعاهدة .
    وقيل (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها والسلم هنا المهادنة ، والآية منسوخة بآية القتال في براءة) ( ) وليس من نسخ في المقام .
    فآية السلم وقبوله ليست منسوخة.
    وهل يمكن الإستدلال بقيد (في سبيل الله ) وقيد [وَلاَ تَعْتَدُوا] في الآية أعلاه من سورة البقرة على عدم نسخ هذه الآية ، الجواب نعم ، لورود قوله تعالى [فَاجْنَحْ لَهَا] بصيغة الأمر ، ولمقام الفاء فيها التي تفيد التعقيب والتوالي لإفادة عدم الإمهال والتسويف بقبول السلم والرضا بالمهادنة .
    والجنح في المقام : الميل (والسَّفِيْنُةُ إِذا انْتَهَتْ إلى الماءِ القَليلِ: جَنَحَتْ. وجَنَحَ الظَّلامُ جُنُوْحاً: أقْبَلَ)( ).
    لبيان إعجاز الآية كما أن السفينة تجنح اضطراراً لأنها تكون في الماء القليل فان المشركين إذا أصابهم الوهن والضعف ولجأوا إلى طلب السلم ، فأرض به أنت والمؤمنون ، وكذا (وإِذا مالَتْ النَاقَةُ على أحَدِ شِقَّيْها يُقالِ: جَنَحَتْ) ( ).
    وهذا الميل والضعف ظاهر عند المشركين ، ومن حين معارك الإسلام الأولى من جهات :
    الأولى : هزيمة المشركين في معركة بدر ، وهو مفهوم قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
    الثانية : آيات مجئ الأنفال والغنائم للمسلمين من ميدان المعركة ، ونزول القرآن بتقسيمها منعاً للخلاف والشقاق ، ولبيان حضور كلام الله في تفاصيل وتنظيم حياة المسلمين .
    وفي قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
    ورد (عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال.
    فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين عن براءة ، يقول : عن سواء) ( ).
    وهل قول عبادة (فساءت فيه أخلاقنا) يخل بالعدالة ، الجواب لا ، إنما يدل على تصعيد الإختلاف فكان سبباً للرحمة من عند الله عز وجل بنزول الآيات وجعل الأنفال لله سبحانه ، وهو الذي نصر رسوله والمؤمنين وقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتقسيم الأنفال بينهم بالتساوي .
    ويحتمل أصل هذا التوزيع وجوهاً :
    الأول : إرادة درء ومنع الفتنة بين الصحابة .
    الثاني : هذا التقسيم بالوحي .
    الثالث : الإجتهاد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الرابع : لم يتم التقسيم بالتساوي إلا بعد أن شاور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه .
    والمختار هو الثاني ، لعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) ويكون الوجه الأول والرابع في طوله ، وقد ورد سبب الخلاف ، والطوائف الذين اختلفوا ، ولم يُذكر الإمام علي عليه السلام وحمزة وعبيدة الجريح الذين برزوا للمشركين وحملوا الراية ، وقاتلوا فلم يشتركوا في الخلاف والخصومة .
    وأخرج بالإسناد(عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون ، واكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب.
    وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة واشتغلنا به ، فنزلت { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }( ) فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين) ( ).
    النسبة بين التعدي والإرهاب
    التعدي لغة هو الظلم والبغي ، ومجاوزة الحد إلى ما عداه بغير حق سواء في الأمور الذاتية والإضرار بالنفس ، أو فيما هو نوع مفاعلة بين الفرد وغيره .
    (والعادي : الظالم. يقال لا أشمت الله بك عاديَك أي عدوك الظالم لك ، والاعتداء والتعديّ والعُدْوان: الظلم)( ).
    أما الإرهاب فهو القيام بعمل شخصي يتصف بالبطش والإضرار بالغير بما يؤدي إلى ترويع وإخافة الناس ، والخشية العامة من تكراره في الأماكن العامة والخاصة.
    لقد جعل الله عز وجل الدنيا داراً لعبادته ، وأمدّ الناس بالرزق الكريم ، ومن بديع صنع الله عز وجل ومصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عدم المزاحمة في السكن والرزق ، وأسباب الأمن بين كل إنسان والآخرين ، ففي الأرض سعة يعجز السلاطين عن الإحاطة بها ، وعندما خشى موسى عليه السلام من فرعون وقومه خرج من مصر إلى أرض مدين ، فالتقى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم شعيب الذي قال له [لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، لبيان مسائل :
    الأولى : شيوع ظلم وجور فرعون في الأمصار ، وهل يمكن إرادة شعيب من الظلم هنا الكفر ، الجواب نعم ، الكفر وما يترشح عنه من الطغيان ، والعتو والتعدي .
    الثانية : بيان قانون محدودية سلطان الملوك .
    الثالثة : قبول الله لدعاء موسى عليه السلام [نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ).
    الرابعة : الترغيب بالهجرة إلى المدينة ، والأرض عن بطش قريش .
    الخامسة : الإنذار لقريش ، وزجرهم عن تجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
    السادسة : بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد صار موسى عليه السلام أجيراً عند شعيب مع أن موسى عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم ، كما ورد في التنزيل [قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ] ( ) بينما صار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن حين وصوله إلى المدينة إماماً وقائداً إذ إستقبله الأنصار بنفوسهم وإيمانهم وأموالهم ، ولم يثبت أنه عمل أجيراً في حياته إنما ضارب في مال خديجة بما تجلت معه صفات الأمانة والصدق عنده.
    وهل كان فعل قريش يتصف بالتعدي أم الإرهاب ، الجواب هما معاً ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجاته وأصحابه منهما معاً .
    فقد كانت قريش تؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قاموا بقتل بعض الصحابة من الرجال والنساء ، منهم سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ، وهل حصار قريش لأهل البيت لثلاث سنوات متصلة من السنة السابعة إلى السنة العاشرة من البعثة النبوية من الإرهاب ، الجواب نعم .
    خاصة وأنه حصار إقتصادي وإجتماعي وسياسي نشر الخوف بين أهل مكة وما حولها ، إذ أظهرت قريش سلطانها وطغيانها لمنع الناس من دخول الإسلام ، ومحاولة إرتداد طائفة من المسلمين ، ولكنهم خابوا .
    ورفع الحصار قهراً واضطراراً ، ولم تتعظ قريش ، فانتهجت صيغاً أخرى للتهديد والإرهاب لبيان قانون وهو ملازمة التعدي لرؤساء الكفر ، فهم لا يرضون بالإستجابة إلى الأوامرالإلهية ، والإنصياع للأحكام العامة التي يتساوى فيها الغني والفقير ، والرجل والمرأة والسيد والعبد ، وأشد ما يخشون الحدود الشرعية مثل حرمة الخمر والزنا ، مع أن الإسلام جعل قيداً شديداً في اثبات الزنا بأن يرى أربعة الميل في المكحلة .
    والمختار أن النسبة بين التعدي والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، فالتعدي أعم ، والإرهاب فرع منه ، فكل إرهاب هو تعد وليس العكس.
    فجاء الإسلام لمحاربة التعدي ، والقضاء عليه ، ليكون هذا القضاء عصمة فكرية وعملية من الإرهاب.
    قانون السنة النبوية حرب على الإرهاب
    ومنه قانون (بشَّروا ولا تنفَّروا) زاجر عن الإرهاب
    كما أنه هناك نزاعاً بين القرآن والإرهاب ، فكذا هناك نزاع بين السنة النبوية والإرهاب ، إذ تزجر السنة عنه ، وتمنع من تمويله وتهيئة مقدماته سواء السنة القولية أو الفعلية ، وقد صدرت خمسة أجزاء بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) فالأولى صدور أجزاء خاصة بقانون (السنة النبوية حرب على الإرهاب) بلحاظ أنها مرأة عملية لآيات القرآن ، لتكون السنة النبوية من السلاح السماوي في نزاع القرآن مع الإرهاب.
    ومنه حديث (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)( ).
    روي الحديث أحمد في مسنده ، ورواه مسلم في صحيحه 3/1358 عن أبي موسى الأشعري يرفعه وأبو يعلى الموصلي في مسنده 15/126.
    وكذا أبو داود في سننه 4/408.
    كما ورد الحديث في غوالي اللآلئ لابن أبي جمهور الإحسائي (838-910) هجرية.
    وروي مختصراً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا.
    والحديث مشهور ومستفيض وهو موافق لآيات القرآن كما تدل عليه أحاديث أخرى منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) ( ).
    ومن معاني هذا الحديث تضمنه وصايا متعددة ، وفيه أمر متكرر ونهي متكرر إذ يتألف من أربع كلمات وكل كلمة جملة.
    وهي أما أمر أو نهي ، وبينها عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء بينها من وجوه :
    الأول : صيغة العموم في الخطاب ، من الإعجاز فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث أحد أصحابه في أمر ولكنه يوجه الخطاب الى الجميع للإصلاح والتفقه في الدين .
    ومن معاني صيغة الجمع في الحديث لزوم الأمر بالمعروف ومنه البشارة والتيسير ، والنهي عن المنكر ومنه التنفير والتعسير ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
    الثاني : صبغة الوحي .
    الثالث : مع التضاد بين الأمر والنهي في الحديث إلا أنهما يلتقيان في الغاية الحميدة لإصلاح النفوس والمجتمعات .
    الرابع : قانون دلالة كل من الأمر (بشرا) و(يسروا) والنهي (لاتنفروا) و(لاتعسروا) على النهي عن الإرهاب والتعدي ، ويكون من وجوه تقدير الحديث بلحاظ هذا القانون على وجوه :
    الأول : تقدير (بشّروا) وهو على جهات :
    الأولى : اجعلوا البشارة صبغة حديثكم.
    الثانية : اتخذوا البشارة وسيلة للهدى والتوبة .
    الثالثة : بشروا بالثواب العظيم على الصلاح ونبذ الإرهاب .
    الرابعة : (بشرّوا أنفسكم) بأن تعلموا بالأجر والثواب على الصالحات .
    الخامسة : اتخذوا الصبر مادة للبشارة .
    السادسة : بشّروا بتفضل الله عز وجل بالرزق الكريم وكشف الكرب ، وفي التنزيل [سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا]( )، لبيان مزاحمة البشارة للعسر والضيق في الحال النفسية وفي الوقت والعمل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
    السابعة : بشّروا بمنافع الدعاء ، لتكون هذه البشارة باعثاً للعبد للدعاء واللجوء إلى الله عز وجل ، وهذه البشارة مستقرأة من القرآن لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
    الثامنة : ألحوا بالدعاء والمسألة ، وهذا الإلحاح من البشارة والرجاء ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رحم الله عبدا طلب من الله حاجة فألح في الدعاء استجيب له أولم يستجب له، وتلا هذه الآية وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا( ).
    التاسعة : بيان قانون وهو الإسلام دين الوسطية.
    العاشرة : ليس في الدين التكليف بما لا يطاق .
    الحادية عشرة : كراهية التشديد على النفس والغير.
    الثانية عشرة : بيان قانون التكامل في الإسلام وانتفاء التزاحم أو التعارض بين أحكامه فيأتي الأمر من زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشئ ، مع النهي عن ضده .
    الثالثة عشرة : تقديم البشارة بالخير على الإنذار بالشر ، وتقديم الوعد بالسعادة على الوعيد بالعذاب .
    الرابعة عشرة : أصالة الإطلاق في البشارة ليحمل الحديث على البشارة بأمور الدنيا والآخرة.
    الخامسة عشرة : هل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا ، من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( )، الجواب نعم.
    السادسة عشرة : بيان قانون وهو كثرة البشارات ومصاديقها في الإسلام ، وفي الدنيا والآخرة ، فحينما قال النبي (بشّروا) لابد من وجود أفراد كثيرة من البشارة في كل فعل يتوجه اليه الصحابة .
    السابعة عشرة : هل من صلة بين هذا الحديث وقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) الجواب نعم ، إذ أن الغزو سبب للنفرة الخاصة والعامة.
    الثامنة عشرة : بشّروا بِخصوص الموضوع الخاص الذي انتم بصدده وفق الكتاب والسنة ومن غير تفريط أو تسويف ، سواء كان الأمر عبادياً كأداء الصلاة ، وما فيها من أسباب الصلاح في الدنيا ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، أو مالها من الأجر والثواب في الآخرة ، أو يتعلق الموضوع بالمعاملات والأحوال الشخصية ، والبشارة بالسعة بعد الضيق ، والفرج بعد الشدة ، والمواساة في المصيبة وصرف الأهوال.
    كل واحدة منها مدرسة جامعة في الأخلاق الحميدة ، والمنع من خطاب الكراهية ، والعنف.
    ويحتمل أمر النبي في الحديث أعلاه (بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا) من حيث الجهة التي يتوجه إليها وجوهاً :
    الأول : خصوص الأمر الذي يبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة لتنجيزه سواء كان تبليغاً أو حكماً أو سرية دفاع.
    الثاني : عموم الصحابة ، إذ يأتي الأمر للمنفرد ، ولكنه موجه للصحابة جميعاً.
    الثالث : إرادة الفقهاء في الأجيال المتعاقبة ، وإرادة الترغيب والتخفيف عن المكلفين من غير تفريط بالأحكام الشرعية ، ولمنع التشديد على النفس ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
    لقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يبشًّروا وييسروا ، وهل كان هو يقوم بزف البشارة ، والتبشير عن الناس ، الجواب نعم ، فهو الإمام في عمل ما يأمر به ، كما كان يمتنع عن التشديد على النفس ، وفيه شواهد كثيرة ، وعن أبي برُده قال (دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فرأينها سيئة الهيئة ، فقلن لها : ما لك؟ فقالت : ما لنا منه شيء ، أما ليله فقائم ، وأما نهاره فصائم ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرن ذلك له ، فلقيه فقال يا عثمان بن مظعون ، أما لك فيَّ أسوة؟ قال : وما ذاك؟ قال : تصوم النهار وتقوم الليل . قال : إني لأفعل . قال : لا تفعل ، إن لعينك عليك حقاً ، وإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لأهلك عليك حقاً ، فصل ونم ، وصم وأفطر ، قال : فاتتهن بعد ذلك عطرة كأنها عروس ، فقلن لها : مه ، قالت : أصابنا ما أصاب الناس)( ).
    وعن عائشة قالت (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما)( ).
    الرابع : توجه الخطاب لكل المسلمين والمسلمات ويشمل حتى البشارة للأبناء وفي المعاملات اليومية.
    ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الحديث لقانون استدامة الأمر والنهي الوارد في الحديث إلى يوم القيامة لبيان قانون : وهو لو دار الأمر في خطابات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين توجهها لخصوص أهل بيته وأصحابه أم لعموم أجيال المسلمين فالصحيح هو الأخير إلا أن يدل دليل على الخلاف.
    وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (بشّروا) أي أظهروا البشارة في كل أمر ونهي سواء البشارة بالنفع من العمل الصالح أو البشارة بالثواب يوم القيامة ، وفيه شاهد على أن الدنيا دار البشارة والأمل ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
    فحينما تنهى الإنسان عن الكسب الحرام فانك تبشره معه بالرزق الكريم من عند الله ، والنجاة من العقاب في الآخرة ، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( )، ولم يرد لفظ (زحزح) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
    ويمكن القول بقانون من وجوه :
    الأول : قانون في كل عمل صالح بشارة .
    الثاني : قانون مصاحبة البشارة للعمل الصالح.
    ومن فضل الله عز وجل على الناس ، ومن معاني الدنيا مرزعة الآخرة ، فيعلم الإنسان بالمنافع التي تترشح عن إتيانه العمل الصالح ، ليكون باعثاً على المسارعة في الخيرات.
    الثالث : قانون البشارة بالثواب ، من معاني الأمر بالمعروف والترغيب فيه .
    ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرشاد المسلمين إلى منافع البشارة على الفرد والمجتمع وهي من أسباب بعث السكينة في النفوس ، والتعايش السلمي.
    ومن خصائص البشارة أنها نقيض خطاب الكراهية ، ومانع من الكسل والخمول ، وطارد للنفاق ، وليس في القرآن لفظ (بشروا) ولكن القرآن جاء به منه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
    وهل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بشّروا ولا تنفروا) من الوحي أم إجتهاد منه ، أم نتيجة التجربة والوجدان ، الجواب هو الأول ، لذا ورد الحديث بصيغة الجمع (بشروا) لتكون المنفعة عامة في البشرى والإستبشار ، وما يترتب على البشارة من العزم وعدم القنوط أو الإحباط.
    وقد تفضل الله عز وجل وبشّر بنفسه المؤمنين كما في قوله تعالى [يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ]( )، كما ورد الأمر منه تعالى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبشر المؤمنين مع بيان ماهية البشارة وموضوعها للبعث على العمل والمنع من الجهالة والغرر ، كما في قوله تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، ليكون من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
    الأول : تلقي البشارة من عند الله عز وجل ، وهي وعد منه تعالى.
    الثاني : القيام ببشارة المؤمنين مع ذكر موضوع البشارة على نحو التفصيل.
    الثالث : الأمر للمسلمين بالقيام بالبشارة وإجتناب بعث أسباب النفرة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهر التفاؤل ويبعث الأمل ، ويجتنب التشاؤم والطّيرة وأسباب الحسرة والضيق.
    وكل وجه من هذه الخصائص حرب على الإرهاب.
    وجاء الحديث ليبين أضرار الأمراض النفسية على البدن ، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصلاح الأفراد لأداء الفرائض العبادية ، وتنزيه المجتمعات من غلبة مفاهيم اليأس والقنوط.
    وهل في الإرهاب بشارة ، الجواب لا ، إنما هو أذى محض وخال من التفاؤل ، ويؤدي إلى سيادة صبغة الحزن والنفرة والخوف ، الحزن للخسائر في الأرواح والممتلكات بسبب الإرهاب والنفرة من ذات فعل الإرهاب وفاعله والخوف مما قد يقع من العمل الإرهابي ، ويطال الآمنين .
    وهل يختص حديث (بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا) فيما بين المؤمنين ، ويكون تقديره :
    وبشروا المؤمنين ولا تجعلوا النفرة تدّب بينهم.
    الجواب هو من عمومات البشارة ، ولا يعني الحصر به ، لأصالة الإطلاق وموضوع ومبادئ وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ، وتقدير الحديث : وبشروا المسلمين والناس جميعاً ولا تنفروهم من الإسلام وأداء الفرائض.
    ومن خصائص الإرهاب أنه ضد البشارة ، وهو سبب لبعث النفرة من الذي يأتي بالفعل الإرهابي ، وقد تمتد النفرة إلى الجهة التي ينتمي إليها مع البراءة من فعله .
    لبيان قانون وهو دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أن يكونوا رعاة للعهد والإيمان .
    وأسوة للتابعين وأجيال المسلمين إلى يوم الدين بحسن السمت والخلق الحميد مع عموم الناس ، وإجتناب الإضرار بهم مجتمعين ومتفرقين .
    وهل ينحصر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بَشِّرُوا ) بالبشارة بالقول أم يشمل القول والفعل.
    الجواب هو الثاني ، وكذا بالنسبة للنهي في قوله تعالى ( وَلَا تُنَفِّرُوا) ولا يختلف اثنان بأن صدور العمل الإرهابي سبب للنفرة ، ولا تختص النفرة في المقام بذات العمل الإرهابي بل تشمل آثاره وحال الكآبة التي تصيب القريب والبعيد عنه ، ومن فضل الله عز وجل أن حوادث الإرهاب قليلة ، وهي آخذة في التضاؤل .
    والإرهاب من العسر ونشر أسباب المشقة ، وحال التضييق والشدة في القوانين والأنظمة لذا أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف عن الدول والمؤسسات وعامة الناس ، وزيادة الإنفاق على التوقي من الإرهاب ، وتعدد صيغه وكيفيته واستدامة وقته واستيعابه لليل والنهار ، وتوسعة رقعته.
    قانون تجلي البشارة عن فعل الصالحات
    لقد فتح القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باب البشارة للمسلمين والناس جميعاً ، والتي تأتي بتلاوة آيات القرآن مطلقاً وآيات البشارة خاصة ، والسنة النبوية القولية والفعلية , ولا ينحصر موضوع البشارة في القرآن والسنة ،بخصوص مادة (بشر) فقد تأتي بالفاظ أخرى منها الترغيب بالصالحات ، وفعل الحسنات ، وبيان الأجر والثواب.
    ومنها ما يترتب على الفعل من حب الله عز وجل للعبد ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) ( ).
    وقد ذكرت الآية أعلاه أفراداً من أعمال البر والصلاح وكل فرد منها يدعو للرأفة ونشر شآبيب الإحسان وإشاعة مفاهيم اللطف ، وكبح جماح النفس الغضبية ، وأسباب العنف ومقدمات الإرهاب وهي :
    الأول : الإنفاق وبذل المال ، بقوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]، وهل المقصود الإنفاق مطلقاً أم أنه مقيد في سبيل الله ، الجواب هو الثاني ، وتقدير الآية : الذين ينفقون في سبيل الله في السراء والضراء .
    كما أنه مقيد بالإنفاق بقصد القربة إلى الله عز وجل ، والإنفاق من الرزق الحلال .
    والنسبة بين قصد التوبة وقصد في سبيل الله عموم وخصوص مطلق ، فقصد القربة أعم ، ويتضمن إعانة الناس وصرف الفقر والفاقة عن المحتاج ، ويتنافى الإرهاب مع قصد القربة ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( )، كما أن الإنفاق مشروط بأنه في سبيل الله ، ومن غير منّ ولا أذى . ومن مفاهيم آيات الإنفاق نهيها عن الإرهاب ومقدماته لدلالتها على حب الله عز وجل للعباد، ولزوم التعاون والمواساة بين الناس ، والإعانة للغير بالبذل. الثاني : إنفاق المؤمنين في سبيل الله ، وهم في حال غنى وسعة ومندوحة، ومنه إخراج الزكاة الواجبة والخمس . وهل من آيات البشارة [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ]( )، الجواب نعم ، والإرهاب ضد البر والإحسان ، لتدل الآية أعلاه على لزوم اجتناب القيام بالفعل الإرهابي لأنه حاجب وبرزخ دون الفوز بمراتب البر والسمو ، ونال الشئ أي أصابه وأحرزه . و(عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ]( )، أو هذه الآية [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا]( )، قال أبو طلحة : يا رسول الله حائطي الذي بكذا وكذا صدقة ، ولو استطعت أن أسره لم أعلنه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اجعله في فقراء أهلك)( ). الثالث : البذل والإنفاق في حال الضراء حال الشدة والنفر، والمرض والأذى ، وتارة تكون الضراء حال خاصة بالفرد وأخرى عامة مثل القحط والبلاء والوباء والجائحة والفيضان لترغب آية البحث بالإحسان في أشد الأحوال . وهل يختص الإحسان في المقام بالإنفاق وبذل المال ، الجواب لا ، إنما يشمل بذل العلم وإنقاذ النفوس من الغرق والهلكة ، ودفع شبح الفقر عن الناس ، ومنه دفع الإرهاب ومقدماته ، ليكون هذا الدفع إنقاذاً للذي ينوي القيام بالفعل الإرهابي ، والذي يتضررون منه ، وجاءت آية أخرى بالحضّ على الصبر في البأساء والضراء ، قال تعالى [وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ] ( ). وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً بالصبر في حال الضراء وعدم اللجوء إلى الإنتقام ، وإلى الإضرار بالآخرين ، إنما يتطلع المسلم إلى فضل الله بازالة حال الضراء والبأساء ، وباقتران هذه الإزالة بهداية الناس إلى الرشاد . ومن معاني الجمع بين الآيتين أعلاه الصبر في حال الضراء والشدة حتى إذا لم يكن هناك من ينفعه ويحسنه . الرابع : من الإحسان للذات والغير تحمل الأذى وحبس الحنق ، وعدم ظهوره على اللسان والجوارح لقوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ). وبين البأساء والضراء عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما ، ومن مادة الإلتقاء المشقة والشدة والضنك . وهل من الضراء تلقي الأذى من الغير ، الجواب نعم لبيان قانون وهو مقابلة هذا الأذى ، بالإحسان للتخفيف عن الذي ينزل به الأذى والإحسان إلى جهة صدور الأذى ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ]( ). الخامس : العفو والصفح وإتخاذه منهاجاً ثابتاً ، وتدل على هذا المنهاج لغة الإطلاق والعموم في قوله تعالى [وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] ( ) إذ تبين الآية الترغيب بالعفو عن كل إساءة وإضرار ، وشمول العفو للناس جميعاً . لبيان قانون من وجوه : الأول : قانون العفو إحسان للذات والغير . الثاني : قانون عموم العفو عن الناس سبب للفوز بحب الله . الثالث : قانون التضاد بين العفو عن الناس والإرهاب ، لبيان مسألة وفق القياس الإقتراني : الكبرى : العفو عن الناس سبب لحب الله . الصغرى : الإرهاب ضد العفو . النتيجة : الذي يرهب ويضر الناس لا يحبه الله . الأمر (قل) موجه إلى النبي (ص) ورد لفظ (قل) في القرآن ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة وهو من إعجاز القرآن ، ومما ينفرد به عن الكتب السماوية السابقة واكثر هذه الآيات احتجاج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار وإقامة البرهان بوجوب عبادة الله ، وهو من مصاديق قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) الذي صدرت بخصوصه خمسة أجزاء من هذا التفسير ، ومنها هذا الجزء , وقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) الذي صدرت بخصوصه خمسة وعشرون جزءً من هذا السِفر . ولو أجريت مقارنة بين عدد هذه الآيات وبين آيات القتال والدفاع لوجدت الفارق كبيراً برجحان آيات (قل) ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون صرف القتال بالإحتجاج . وجاء لفظ (قل) في القرآن أمراً وخطاباً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربع آيات وهي : الأولى : قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ). فهذه الآية وإن كان الخطاب فيها من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن المراد غيره لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدرك والديه ، وقد غادرا الدنيا قبل البعثة النبوية ، إذ مات والده عبد الله بن عبد المطلب عن ثماني عشرة سنة. وفي عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم مات أبوه أقوال : الأول : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حملاً في بطن أمه . الثاني : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المهد ونسب هذا القول إلى أكثر العلماء ، وهو المختار ، وعن الواقدي : هو طفل يرضع( ). (وَأَنْشَدُوا رَجَزًا لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ يَقُولُهُ لِابْنِهِ أَبِي طَالِبٍ: أُوصِيك يَا عَبْدَ مَنَافٍ بَعْدِي … بِمُوتَمِ بَعْدَ أَبِيهِ فَرْدِ فَارَقَهُ وَهُوَ ضَجِيعُ الْمَهْدِ) ( ). الثالث : مات أبو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ثمانية وعشرين شهراً. الرابع : لقد مات أبو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يكمل ثلاث سنين( ) . أما أمه آمنة بنت وهب ، فقد ماتت وهو لم يستكمل سبع سنين ، فكفله جده عبد المطلب ، ومات عبد المطلب وعمر النبي ثماني سنين ، فكفله عمه أبو طالب . الثانية : الآية الثانية خطاب من الله عز وجل إلى نوح ،قال تعالى [فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ). الثالثة : قال تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ]( ) وبعد أن جاءت الآية السابقة بصيغة الجمع ورد الدعاء في هذه الآية بصيغة المفرد ، وهو خاص بنوح على نحو الحصر والتعيين . وفيه إعجاز لبيان أن غيره من المؤمنين ينتفعون منه سواء الذين كانوا معه أو غيرهم من ذريته وأتباعه ، ومن دلالات (قل) في القرآن الأمر إلى المسلمين باتخاذ الإحتجاج وإقامة البرهان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيلاً في الدعوة إلى الله عز وجل ، وفيه زجر عن الإرهاب . وستأتي في جزء لاحق شواهد عديدة من آيات تدل على أن الأمر (قل) زاجر عن الإرهاب . وقد يرد لفظ (قل) في آية واحدة أكثر من مرة ، لبيان موضوع الإحتجاج والإجابة عليه ، وقد ورد أربع مرات في الآية [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] ( ) فقد نزل القرآن للإنذار والدعوة للإقرار بالتوحيد ونبذ العنف والإرهاب . الرابعة : قال تعالى في خطاب إلى موسى عليه السلام [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىفَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى]( ).
    لقد احتج موسى عليه السلام على فرعون في عرشه وسلطانه ، وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على القوم الظالمين .
    لقد أشار الملأ من قوم فرعون عليه بقتل موسى عليه السلام ، أما رؤساء قريش فهم أشد من حاشية فرعون ، إذ أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحددوا ساعة التنفيذ وقت السحر من ذات اليوم الذي اتفقوا فيه على قتله فانجاه الله عز وجل بالإيحاء له بالهجرة إلى المدينة في نفس الليلة ، لبيان قانون وهو سبيل النجاة من عند الله أسرع من الكيد والمكر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعامة المؤمنين إلى يوم القيامة وهو الذي تدل عليه خاتمة الآية [وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ]( ).
    وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً للرأفة والشفقة والإمتناع عن البطش وسفك الدماء .
    قانون النزاع المسلح بين (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) والإرهاب
    من مصاديق الإعجاز العقلي للآية القرآنية بقاء مضامينها ، وما فيها من الأحكام غضة طرية ونافذة إلى يوم القيامة ، يتلوها المسلمون وكأنها نازلة من السماء في الحال .
    ففي كل زمان إذا سألها المسلم منذ متى نزلت من عند الله ، فكأنها تجيبه بالقول (توا) أما ترى دلائل الحياة تنبض بحروف وكلمات الآية القرآنية وتحتمل سلامة وعصمة القرآن من التحريف ، بلحاظ قانون الإعجاز وجوهاً :
    الأول : إنها من الإعجاز الحسي .
    الثاني : إنها من الإعجاز العقلي .
    الثالث : إنها من الإعجاز الحسي والعقلي معاً.
    الرابع : إنها ليست من الإعجاز .
    والمختار هو الوجه الثالث أعلاه ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات من القرآن سبع عشرة مرة في اليوم بشوق وتدبر من غير ملل أو ضجر.
    ومن إعجاز القرآن مجيؤه بانحصار الرهبة من الله وحده ، إذ قال تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، من جهات :
    الأولى : إفادة تقديم المفعول به الحصر واثبات الحكم والرهبة من الله ونفيها عن غيره.
    الثانية : تغشي رحمة الله الناس جميعاً ، ومن رحمته تعالى وقايتهم من استبداد الطواغيت ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
    الثالثة : النسبة بين العبادة والرهبة من الله هو العموم والخصوص المطلق ، فهذه الرهبة عبادة وتنمية للأخلاق الحميدة ، وواقية من الإضرار بالناس والممتلكات العامة .
    ومن بديع صنع الله في الإنسان إرتقائه إلى مرتبة الخليفة في الأرض في المقام وجوه :
    الأول : الرهبة من الله مقدمة للعبادة .
    الثاني : الرهبة من الله عبادة .
    الثالث : الرهبة من الله من رشحات العبادة .
    الرابع : الرهبة من الله واقية من الشرك وعبادة الأوثان .
    وقد ورد لفظ [إِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، في آيتين من القرآن كل واحدة منهما في سورة :
    الأولى : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وهو من سورة البقرة.
    وصحيح أن الخطاب في الآية يتوجه إلى بني إسرائيل إلا أنه عام للمسلمين والناس جميعاً لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، فليس من إنسان أو طائفة أو أهل ملة إلا ونعم الله عز وجل عليهم أكثر من أن تحصى.
    ومن خصائص لغة الخطاب في القرآن توجه لفظه إلى جهة ، والمراد العموم إلا مع ورود دليل على التخصيص ، وهو منتف في المقام.
    ومن إعجاز القرآن قانون تأكيد عموم الخطاب الخاص ، فتأتي آية بخطاب خاص ، وتأتي آية أخرى تفيد العموم في ذات الخطاب ومنه الخطاب إلى بني إسرائيل في قوله تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] والخطاب إلى المسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
    ثم وردت الخطابات العامة للناس بذات الموضوع وتأكيد آيات عديدة لفضل الله عز وجل في رزقهم من الطيبات مع اختلاف مذاهبهم ومواطنهم ، منها قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
    وتتجلي صبغة العموم والإطلاق في قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ] على حرمة الإرهاب ، وإخافة الناس ، وسفك دمائهم ، وتقدير الآية (ولقد كرمنا بني آدم فاكرموهم) ومنها قوله تعالى [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
    الثانية : قوله تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، والآية من سورة النحل ، إذ ورد الخطاب للناس جميعاً لبيان وجوب التوحيد ، وأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة ورحمة للناس جميعاً بنبذ الشرك سواء باتخاذ إلهين أو ثلاثة أو عبادة الأوثان ، وكان المجوس يقولون بإله النور وهو صانع الخير ، وإله الظلمة وهو صانع الشر.
    وان للعالم أصلين نور وظلمة ، وأن النار تضئ حياتهم فيقدسونها ويقولون بتناسخ الأرواح ، وقد ورد ذكرهم في القرآن مرة واحدة بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( )، وهم أهل كتاب واسمه (الأوستا) أي القانون ، طرأ عليه التحريف واختلف في طهارة أو نجاسة المجوس ، والمختار طهارتهم ، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ منهم الجزية ، أي أنه الحقهم بأهل الكتاب .
    والظاهر أنه لم يبق من المجوسية إلا الزرادشتية ، وعددهم ضئيل نحو مائة ألف يقطنون في الهند وإيران ، وأفراد وجماعات في المهجر.
    ومن الإعجاز في الآية أعلاه من سورة النحل إجتماع قوانين النهي والخبر والأمر من وجوه:
    الأول : تفضل الله عز وجل بالقول وإخبار الناس ، [وَقَالَ اللَّهُ] ترى من المخاطَب ، الجواب يتوجه الخطاب في الآية إلى أجيال الناس في كل زمان ليكون من باب الأولوية وجوب الإمتناع عن عبادة الأوثان.
    وجاءت الآية بصيغة الماضي (وقال الله) مع عطف الآية على إنقطاع الملائكة لعبادة الله، مما يدل على أن هذا القول من عند الله قبل أن يخلق آدم ، وهل هو من الأسماء التي علمها الله عز وجل آدم ، الجواب نعم بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
    ومن البديهيات أن الملائكة لايتخذون إلهاً إلا الله عز وجل ، وإذا كان قول الله عز وجل [لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ] من الأسماء التي علمها الله عز وجل الملائكة فهل الملائكة لا تعلم به [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( )، يحتمل الجواب وجهين :
    أولاً : نعم لا تعلم الملائكة بأن طائفة من الناس يشركون بالله ويتخذون إلهين ، إنما علموا بالفساد وسفك الدماء في الأرض كما في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
    ثانياً : المراد من الأسماء التي سأل الله عز وجل الملائكة شطر مما علمه آدم في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، لتكون النسبة بين الأسماء في الآية أعلاه وبين التي سأل الله الملائكة عنها عموماً وخصوصاً مطلقاً ، خاصة وأن السؤال جاء على المسميات وليس على الأسماء ، فيخرج واجب الوجود من السؤال.
    ولا تعارض بين الوجهين ، وهما من الإعجاز في مضامين الآية القرآنية ، ولبيان قانون وهو التوحيد والنهي عن الشرك سابق لخلق آدم ، ومصاحب لحياة الإنسان في الدنيا ، وهو مستمر ومتصل في النشأتين ، والمختار أن الملائكة علمت بأن طائفة من الناس يشركون بالله.
    وذكرته الملائكة بعمومات الفساد تأدباً في مقام الربوبية ، ولأن الشرك أشد ضروب الفساد.
    الثاني : النهي من عند الله عن الشرك .
    وورد لفظ (إياي) في القرآن خمس مرات منها أربعة بالنسبة إلى الله ، كل واحدة منها تدل على وجوب التوحيد :
    الأولى : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
    الثانية : قوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ َلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]( ).
    الثالثة : قوله تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
    الرابعة : قوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
    الثالث : وجوب الإقرار بالتوحيد ، وأداء الفرائض العبادية ومن إعجاز الآية عدن إختتام الآية بالأمر بالرهبة والخشية من الله إلا بعد بيان قانون التوحيد ، وفيه نوع إحتجاج ولطف من الله عز وجل بالناس.
    الرابع : بيان قانون وهو أن الرهبة من الله عز وجل زاجر عن إرهاب الناس ، فمن يخشى الله عز وجل ويخافه ويرهبه في السر والعلانية يكون في شغل عن إرهاب وإخافة الناس.
    لبيان أن الرهبة والخشية من الله وحده لأفادة تقديم المفعول الحصر ، لبيان وجوه :
    الأول : قانون من يرهبه الناس غير الله إلى زوال ، فقوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] إنذار لكل إنسان بأن لا يكون إرهابياً يبعث الخوف في قلوب الناس وإن كان سلطاناً حاكماً .
    الثاني : قانون يا أيها الناس لا ترهبوا غير الله عز وجل عز وجل ، وفيه محاصرة للإرهاب ، ومنع من استحواذ الخوف على عامة الناس .
    الثالث : قوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] شاهد على حب الله عز وجل للناس ، بأن منعهم من الخوف والخشية من غيره ، ولتكون الرهبة والخوف عنوان استدامة التوحيد في الأرض ، وبرزخاً دون مفاهيم الشرك والضلالة من مصاديق هذا المنع قانون سلطان كل ملك محدود زماناً ومكاناً ، وبالإمكان الإعراض والإبتعاد عنه لحين إنقضاء دولته أو يجعل الله عز وجل سبيلاً ، وفي قصة شعيب وموسى ورد قوله تعالى [لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، لأن أرض مدين غير خاضعة لحكم فرعون.
    وقد تجلى القانون بهجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة ، ونجاتهم من كفار قريش الذين عجزوا عن جلبهم وإعادتهم إلى مكة وتعذيبهم إذ أبى النجاشي تسليمهم ليكون من الإعجاز في قوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم (لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ . وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ)( ).
    وهل يمكن تقدير الآية على جهتين :
    الأولى : صيغة المبني للمعلوم : لا تُرهبوا الناس .
    الثانية : لا تَرهَبوا الناس لأن الرهبة من الله وحده.
    الجواب نعم .
    فمن إعجاز القرآن الذي يتجلى في هذا الزمان تربصه بالإرهاب ، ورصده له ، وإخباره عن قبحه ، وبيان مخالف ته للإرادة التكوينية بما فيه من السعي إخافة الناس من التفجيرات العشوائية ، ومن سفك دماء الآبرياء ، في الأسواق ووسائل النقل والمنتديات ونحوها ، فان كان الإرهاب بالسلاح فان سلاح القرآن أمضى وأشد وأقوى ، وهو سابق للإرهاب ، ومصاحب له وباق من بعده.

    منافاة الإرهاب لـ(إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
    يتألف لفظ (إياك) من كلمتين :
    الأولى : الضمير المنفصل (إيا).
    الثانية : كاف الخطاب الملحقة به ، ومن التوفيق في الدنيا تلاوة قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، والعمل بمضامينه ، وما يترشح عنه من آداب وتهذيب ، وهل ينهى قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، عن الإرهاب ، الجواب نعم ، من وجوه :
    الأول : حصر العبادة بالله عز وجل دعوة للتقيد بالأحكام الشرعية ، ومنها حرمة سفك الدماء بغير حق ، والإضرار بالناس .
    الثاني : بيان وجوب الإستعانة بالله لقضاء الحوائج العامة والخاصة.
    الثالث : إتخاذ الدعاء والسعي والبيان بالحكمة والموعظة الحسنة مصاديق للإستعانة بالله عز وجل للنجاة من الإرهاب.
    الرابع : إياك نستعين في التوفيق لأداء الفرائض العبادية ، ومن خصائصها أنها حاجب دون الإرهاب .
    الخامس : إياك نستعين في التفقه العام بقبح الإرهاب .
    السادس : إياك نستعين في نشر المودة والرأفة بين الناس وما فيها من إزاحة لمفاهيم الإرهاب .
    ومن منافع إجتماع العبادة والإستعانة تهذيب النفوس ، وإصلاح المجتمعات ، وقدمت العبادة في الآية مع أن الإستعانة وسيلة لها ، لبيان وجوه:
    الأول : أولوية العبادة عند الإخبار عن اللجوء إلى الله عز وجل.
    الثاني : عبادة الله مقدمة ومفتاح لكل خير .
    الثالث : تأكيد قانون وهو مجئ الإستعانة بالله من منازل الخضوع والخشوع لله عز وجل ، وفيه تأديب وطرد للحنق والحسد والحقد من النفوس .
    الرابع : بيان قانون وهو من خصائص إنقطاع الإنسان لعبادة الله صيرورته مستعيناً بالله في أموره كلها.
    ومن فضل الله عز وجل على المسلمين تلاوة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى لقوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )، سبع عشرة مرة لتنزيههم أفراداً ومجتمعات ، وأهل ملة من الشرك ومفاهيمه ، لإختيارهم قصد القربة في أداء الفرائض ، ولأن الإستعانة بالله عز وجل تأتي بالتسليم له بالربوبية المطلقة.
    وهل تلاوة هذه الآية من عمومات تقديم الوسائل لتحصيل المطالب ، الجواب نعم ، فمن مصاديق إنحصار عائدية ملك السموات والأرض بالله عز وجل تفضل الله عز وجل بالإستجابة للدعاء والإستعانة به مطلقاً فلا تتعلق هذه الإستجابة على إذن أو رضا من أحد الملائكة أو الرسل أو خلق آخر.
    وهل الإستعانة بالله من مصاديق إكرام الله عز وجل للناس بقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( )، الجواب نعم .
    وفي إخبار القرآن عن إكرام الله عز وجل لبني آدم دعوة للمسلمين والناس جميعاً للتنزه عن الإرهاب وإخافة عامة الناس ، لتعارضه مع الإكرام من عند الله والذي ورد عاماً لجنس الإنسان بكثرة نعم الله عز وجل عليهم .
    ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (ولقد كرمنا بني آدم فحملناهم في البر والبحر) إنما جاء حملهم معطوفاً على الإكرام ، ويدل العطف على التغاير ليكون من عطف الخاص على العام.
    ومن الحمل في البر الأنعام والرواحل والسيارات والقطارات ، ولم تذكر الآية الحمل بالفضاء بالطائرات في هذا الزمان ولكنه فرع الحمل في البر .
    ومن إكرام الله عز وجل للناس إجماعهم على قبح الإرهاب ، وعدم إنتمائه لملة أو مذهب ، ونفرتهم منه ، وإدراكهم بأنه ضرر محض على المجتمع ، ليكون من معاني [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، الإستعانة للسلامة من الإرهاب فعلاً وأثراً.
    قانون منافاة الإرهاب لسنن العفو
    حينما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، رد الله عز وجل عليهم بالحجة والبرهان [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، ومن خصائص هذا البرهان أنه متجدد في كل يوم وإلى قيام الساعة ، ومن مصاديقه تفضل الله عز وجل بالعفو والمغفرة ، ورضاه بالقول (استغفر الله) لمحو الخطيئة والذنب الكبير ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
    ومن مصاديق العمل الصالح العفو عن الآخرين لما فيه من الإحسان ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
    و(عن أم رافع ، أنها قالت : يا رسول الله ، دلني على عمل يأجرني الله عز وجل عليه . قال : يا أم رافع ، إذا قمت إلى الصلاة فسبحي الله عشرا.
    وهلليه عشرا ، واحمديه عشرا ، وكبريه عشرا ، واستغفريه عشرا ، فإنك إذا سبحت عشرا قال : هذا لي.
    وإذا هللت قال : هذا لي ، وإذا حمدت قال : هذا لي ، وإذا كبرت قال : هذا لي ، وإذا استغفرت قال : قد غفرت لك)( ).
    ونزل القرآن بالحضّ على العفو والصفح والتسامح بين الناس ، قال تعالى [وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، لبيان قانون من جهات :
    الأولى : الجزاء أعم من جنس العمل ، فتأتي المغفرة ومحو الذنوب من عند الله عز وجل على المؤمن لأنه عفى عن أخيه من ذوي القربى وغيرهم.
    الثانية : التباين في الكم والكيف بين الفعل وقلته وهو العفو عن الفعل الشخصي الصادر من الغير ، والمغفرة ومحو الذنوب من عند الله عز وجل .
    فيعفو المسلم عن غيره مسلماً أو غير مسلم بعد صدور كلمة أو إساءة منه ، فيأتي العفو من عند الله عز وجل عن الذنوب العظام ، وهل يكون العفو عن التقصير في أداء الفرائض العبادية ، الجواب لا إلا أن يشاء الله.
    الثالثة : بعث السكينة في النفوس ، والبشارة بالأمن من العقاب في الآخرة .
    والنسبة بين الإرهاب والعفو هو التضاد والتنافي وهناك منزلة وبرزخ بين الإرهاب والعفو ، فقد لا يعفو الإنسان ولكنه لايلجأ إلى الإرهاب والعنف والإنتقام.
    بالإضافة إلى مسألة وهي استهداف الأبرياء والعزل بالإرهاب ، وكذا الذين ليس لهم صلة مع الذي يقوم بالعمل الإرهابي أو الذين يجعلهم سبباً وذريعة لفعله .
    لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار العفو ، وهذا العفو باب لنزول فضله سبحانه على الناس ومناسبة للأجر والثواب ، لإستقبال الأيام بالعمل الصالح ، وبالتوادد والتراحم والإحسان ، قال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ]( ).
    ويدل قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) على الترغيب بالعفو عن أي إنسان أساء لك ، وإن كان من ملة ومذهب وبلد آخر ، سواء كانت الإساءة بالقول أو الفعل.
    ويبين قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، الترتيب فالعفو أعظم منزلة وأجراً من كظم الغيظ ، وهو قهر للنفس الغضبية.
    ولم تنحصر سنن العفو بأيام النبوة ، ولا عند أهل ملة ودين مخصوص ، إنما هي مصاحبة لوجود الإنسان ، وهو من بديع صنع الله عز وجل ومصاديق نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، ليتوارث الناس خصلة العفو ، من جهات :
    الأولى : إدراك الناس للحسن الذاتي للعفو وهو من العمل الصالح.
    الثانية : الميل إلى العفو والصفح.
    الثالثة : الثناء على الذي يقوم بالعفو.
    الرابعة : ترتب الرضا والغبطة عن العفو ، وانتفاء الضرر بسببه في الغالب.
    الخامسة : فضل الله بالأجر والثواب على العفو لقانون وهو تفخ الله من روحه في الإنسان مقدمة وسبب لهدايته للصالحات والفوز بالثواب ، قال تعالى [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
    وهل السعي بين الناس رجاء العفو من الأمر بالمعروف أم أنه من الصلح والحث على التسامح ، الجواب لا تعارض بين هذه الوجوه.
    والإرهاب ظلم ومخالف للعدل والعفو ، وقد تكون أسبابه النفس الغضبية ، فينزل القرآن بأن علاج الغضب العفو والمغفرة ، قال تعالى [وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( )، لتنمية ملكة الصفح عند المسلمين ، وصيرورته سجبة وطبعاً ومنهاجاً ثابتاً وفيه وقاية من الإنتقام والبطش ، والإرهاب ، ولأن العفو نماء وتكثير للنفوس والأموال ، وفيه الأجر والثواب ، والسعادة في الآخرة.
    إصلاح القرآن للأسرة عصمة من الإرهاب
    لقد كان نظام القبيلة والقوة وسيادة الرجل في الأسرة هو السائد ، وليس للمرأة فيها شأن وكلمة ، وكانوا يتجرأون على الوأد وقتل البنات ، ولابد أن الأم ترفض وتستهجن هذا الفعل ولكنها لا تقدر على الإمتناع ، وإن إمتنعت واحتجت تم الوأد من غير علمها وإن سلمت البنت من الوأد كان أمر زواجها بيد الأب ولم يكن للمرأة حق وسهام في الإرث.
    رجاء القرآن والسنة باكرام المرأة من وجوه :
    الأول : ذات المرأة كانسان وأمة لله عز وجل .
    الثاني : صفة الأمومة .
    الثالث : صفة الأخوة ، وكونها أختاً من الوالدين أو من أحدهما .
    الرابع : صفة البنوة ، وأنها بنت ، قال تعالى [آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا]( )، لبيان أن النفع الذي يأتيك من الغير من علوم الغيب.
    فلا يعلم الإنسان أن أباه وأمه أكثر له نفعاً من اخوته ومن أبنائه أو العكس سواء في أمور الدين أو الدنيا والمعاشات وعناية وتربية الآباء أو طاعة وبرّ الأبناء ، وكذا في باب الإرث لبيان وجوب أداء الوظيفة الشرعية والإحسان لهم جميعاً ، وفيه ترغيب بالمسارعة في بر الوالدين وصلة الرحم ويؤذي قيام الفرد بعمل إرهابي والديه وأبناءه فلابد من إجتنابه.
    الخامس : صفة الزوجية ، ومنافعها ومنها إنجاب الأولاد ، والسكينة والأمن ، واجتناب الزنا ، وهل يجب الزواج على الذي يخاف من الإنجرار إلى الإرهاب ، المختار نعم ، إذا كان في نجاة من هذا الإنجرار.
    وذكر القرآن خلق الله لحواء ، وسكنها مع آدم في الجنة ، وإختلاطها مع الملائكة وحض القرآن على إكرام الوالدين ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
    ثم جاءت السنة النبوية لتبين لزوم العناية والبر بالوالدة ، والقيام بفعل إرهابي يؤذي الوالدين ، ويتناقض مع الإحسان الذي تذكره الآية أعلاه ، وكذا إظهار التأييد للإرهاب أو مقدماته من قبل الابن.
    وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده الصحابي معاوية بن جيدة (قال : قلت يا رسول الله ، من أبر ، قال : أمك . قلت : من أبر ، قال : أمك . قلت : من أبر ، قال : أمك . قلت : من أبر، قال : أباك ، ثم الأقرب فالأقرب)( ).
    لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً لإصلاح الأسرة ، وجعل حياة الوالدين في ظلال بر الأبناء بهما كما يتجلى في كل زمان بحرص المسلمين والمسلمات على العمل بأحكام القرآن والسنة النبوية ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا] ( ).
    وفي قصة الخضر وموسى عليه السلام ، قام الخضر وبما رزقه الله عز وجل من العلم بقتل غلام ، ففزع موسى وأنكر هذا الفعل كما في قوله تعالى [فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا]( )، واختلف في كيفية قتله على وجوه :
    الأول : قام الخضر بأخذ الغلام من بين (الصبيان فأضجعه وذبحه بالسكين ، قاله سعيد بن جبير)( ).
    الثاني : أنه أخذ حجراً فقتل به الغلام)( ).
    الثالث : فتل عنقه .
    الرابع : ضرب برأسه الحائط( ).
    وعن الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل (ثم قال [وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ]( )، وطلع كافرا.
    وعلم الله تعالى ذكره أنه إن بقي كفر أبواه وافتتنا به وضلا بإضلاله إياهما ، فأمره الله تعالى ذكره بقتله وأراد بذلك نقلهم إلى محل كرامته في العاقبة ، فاشترك بالابانة بقوله [فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا]( ).
    وإنما اشترك في الابانة لانه خشي والله لا يخشى لانه لا يفوته شئ ولا يمتنع عليه أحد أراده وإنما خشي الخضر من أن يحال بينه وبين ما امر فيه فلا يدرك ثواب الامضاء فيه، ووقع في نفسه أن الله تعالى ذكره جعله سببا لرحمة أبوي الغلام ، فعمل فيه وسط الامر من البشرية مثل ما كان عمل في موسى عليه السلام لانه صار في الوقت مخِبرا وكليم الله موسى عليه السلام مخَبرا.
    ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر عليه السلام للرتبة على موسى عليه السلام وهو أفضل من الخضر، بل كان لاستحقاق موسى للتبيين)( ).
    ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جذب أبناء قريش إلى الإسلام ، وصيرورتهم سبباً لهداية آبائهم والعناية بهم وإصلاح أحوالهم ، وجعل بر الوالدين قانوناً ذا صبغة عقائدية وإجتماعية وإقتصادية وأخلاقية ، وملكة نفسانية ثابتة في أذهان المسلمين والمسلمات ، مع النفرة العامة من عقوق الوالدين .
    لقد صار كل مسلم ومسلمة يدركان أن الثواب العظيم على بر الوالدين لا يعلم مقداره كماً وكيفاً إلا الله عز وجل ، فاجتهدوا في طاعة الله والإحسان إلى الوالدين لتتجلى قيم أخلاقية سامية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصلح أحوال الأسرة الواحدة ، ويرغب الآباء بالبنات ويمتنعوا عن الوأد ، لأن البنت تحرص على البر بالوالدين ، ليصبح هذا الحرص قانوناً متوارثاً عند المسلمين والمسلمات الى يوم القيامة.
    وتكون البنت التي صُرف عنها الوأد سبباً للمصاهرة وتوثيق الصلات مع الأسر والقبائل والطوائف الأخرى ، وأماً للأسباط والأحفاد ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا]( ).
    لذا ورد عن ابن سيرين (في قول الله سبحانه وتعالى {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} قال : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة عليّاً وهو ابن عمّه وزوج ابنته فكان نسباً وصهراً)( ).
    ومن إعجاز الآية أعلاه العطف بالواو وليس بـ(أو) ، فلم تقل الآية (نسباً أو صهراً) لبيان إحتمال اتحاد النسب والصهر كما في الزواج من بنت العم وبنت الخال ، وبنت العمة وبنت الخالة.
    وتبين الآية أن الله عز وجل هو الذي يتعاهد الأسرة ونظامها واستدامتها ، وسلامة البنات من الوأد والقتل ، ومن هذا التعاهد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً بشريعة متكاملة تتضمن إكرام المرأة باعطائها حقوقها كاملة وإكرامها والعناية بها ، مع الوعد من الله بالأجر والثواب على العناية بها كزوجة.
    ومن إعجاز القرآن نزول تحريم نكاح أربع عشرة امرأة سبعة من جهة النسب ، وسبعة من جهة المصاهرة لبيان موضوعية المرأة والنكاح في تقوية أواصر المجتمع ، وشيوع مفاهيم المودة والرحمة ودفع العنف والتطرف والإرهاب.
    لقد قتل الخضر الغلام الكافر بينما نزل القرآن بهداية الأبناء وإصلاحهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
    وكما في خرق الخضر للسفينة [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا]( )، لبيان الأضرار العامة والخاصة نتيجة تولي الظالم الحكم فجاء القرآن بالشورى ووجوب العدل والأنصات لصوت الفصل والحكمة ، قال تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
    ومن المقاصد السامية في الآية قانون تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء بمنع سطوة واستبداد الملك الظالم على الحكم إذ صار القرآن والسنة النبوية مصدر التشريع والحكم.
    لقد حشدت قريش قوتها وأموالها وما لها من الجاه والأحلاف مع القبائل لمحاربة وقتال النبي محمد ، وهو أمر لم يعهد مثله التأريخ ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخروجه سالماً منتصراً من هذه الحشود وأسباب الكيد ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
    فجاءت معركة بدر فيصلاً في نصر الإيمان وهزيمة الشرك ، ليسقط سبعون قتيلاً من قريش في المعركة ، ويؤسر منهم سبعون ، ولم يعهد أهل مكة هذه الخسارة فضجوا بالبكاء والنياحة ، وصار الرجال والنساء يتنقلون بين دور القتلى والأسرى للمواساة مما يترشح عنه تبادل الآراء وبيان تفاصيل المعركة وأخبارها ، والشواهد التي تدل على الإعجاز في نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من معاني قوله تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ) دخول المعجزة إلى بيوت المشركين وإدراكهم طوعاً وقهراً صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    حديث مكارم الأخلاق إصلاح
    ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وورد بلفظ صالح الأخلاق بدل مكارم الأخلاق ، ذكره أحمد في المسند 18/127 ، والبيهقي في السنن الكبرى 10/192 ، عن أبي هريرة وفي المستدرك (بعثت لأتمم صالح الأخلاق) ( ).
    وذكره البخاري في الأدب ، وابن سعد في الطبقات ، والطحاوي في المشكل ، وابن شهاب في المسند ، كما ورد مرسلاً عن زيد بن أسلم : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وزيد بن أسلم تابعي .
    كما ورد مرسلاً عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما بعثت على تمام محاسن الأخلاق .
    وفي الإسناد عبد الرحمن بن أبي بكر ، وشد بن حوشب ، ورمي كل منهما بالضعف .
    وفيه إنقطاع ظاهر بين شهر بن حوشب ت 11 هجرية ، ومعاذ بن جبل ، كما ورد الحديث وبعبارة أخرى منها : إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق ، وكمال محاسن الأفعال و(بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها).
    وفي بحار الأنوار روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) ( ).
    وتعدد طرق رواية الحديث وكونه تفسيراً لقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، أمارة على صحة صدوره.
    لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت سنن الأنبياء في الأرض ، والخلق الحميد ، ودفع السلوك المذموم ، والأفعال الرديئة عن الناس .
    وقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ووصف حسنه وأنه خلقه عظيم الفضائل والخصال الحسنة ، ومنها:
    الأولى : الإجتهاد في العبادة والذكر ، وتعاهد أداء الفرائض في أوقاتها ، وقد تقدم في الجزء السابق ، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان منقطعاً إلى الدعاء عشية وصبيحة يوم بدر .
    الثانية : بذل الوسع في تبليغ الرسالة السماوية والدعوة إلى الله ، ليكون من مصاديق الخلق العظيم الإستجابة المثلى لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) .
    الثالثة : الصبر وتحمل الأذى من المشركين ، لقانون الملازمة بين النبوة والصبر ، قال تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ] ( ).
    الرابعة : قانون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترجمان القرآن ، إذ نزل القرآن بالبعث على الخلق الحميد ، والآداب الحسنة .
    الخامسة : الصدق والأمانة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمى في مكة قبل البعثة النبوية (الصادق الأمين ) .
    السادسة : وفور العقل ، والنطق بالحكمة ، واتخاذها سلاحاً في الإصلاح ، وفي الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته للناس عامة ، والمؤمنين خاصة ، قال تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
    السابعة : سمو النسب من بين القبائل العربية ، وتجلي شمائله في حسن سمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    وقال ابن الرومي :
    (وكم أب قد علا بابن ذرى شرف…كما علت برسول الله عدنان) ( ).
    الثامنة : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الشكر لله عز وجل بالقول والفعل ، وهو من مصاديق النبوة ،والدلائل على أنه لا يريد الدنيا ، ولا يبغي زينتها.
    وقد وردت أخبار متواترة تؤكد أنه واظب وداوم على الصلاة فريضة ونافلة حتى تورمت قدماه ، ومنها ما هو بيان وتفسير لقوله تعالى [طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( ).
    وعن أنس قال (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام يصلي حتى تورمت قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
    قال : أفلا أكون عبداً شكوراً)( ).
    لبيان إتحاد السيرة الذاتية في بداية البعثة بالتحنث في غار حراء ، في مكة حتى نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعندما دخلت أفواج الناس في الإسلام بعد فتح مكة حرص النبي على ذات الزهد والعبادة والمنسك .
    وهل إقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصلاة والذكر عن إجتهاد من النبي أم هو بالوحي ، الجواب هو الثاني مع تعضيد القرآن لفعل النبي ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
    واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فان قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الليل وتعاهده لتلاوة القرآن والشكر لله والإستغفار في الليل والنهار لم يشغله عن إرادة شؤون دولة الإسلام ، واستقبال الوفود ، وإصلاح أصحابه والناس جميعاً ، لقانون مصاحبة [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام حياته ، ويتجلى هذا الخلق بالذات والسنة النبوية ، وفي سيرة أهل البيت والصحابة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
    حديث (تخلف عنك أقوام)
    لقد تفاجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنبأ زحف جيوش قريش ، وخروجهم من مكة يريدون القتال والبطش بهم ، وهم لم يتهيأوا لقتال ، وليس عندهم من الأسلحة والسيوف والدروع والخيل ما يكفي لملاقاة ربع عدد جيش المشركين ، إلى جانب عدم التمرين الكافي على فنون القتال والمبارزة ، فقد كان الأنصار أصحاب زراعة وسقي، ثم انصرفوا للصلاة والنسك بغبطة.
    نعم كانت المعارك تقع بين الأوس والخزرج ويساعدهم يهود المدينة لحلفهم معهم ، ثم لا تلبث تلك المعارك أن تهدأ .
    كما أن المهاجرين من قريش قد هربوا بدينهم وكثير منهم ليسوا من أهل الحرب والقتال .
    ومع أن عدد الصحابة يوم بدر أقل من ثلث عدد المشركين في الميدان فان عدداً من الصحابة لا يملكون سيوفاً ، ليس عندهم إلا العصي ، بينما اجتهدت قريش في الأيام الثلاثة بين مجئ ضمضم بن عمرو رسول أبي سفيان إليهم وبين خروجهم في إعداد الأسلحة والدروع والخوذ ، وتهيئة مائة من الخيل الأصيلة، وسبعمائة بعير صالحة لقطع المسافات الطويلة ، ولم يعلموا أن قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ) حاضر قبل وأثناء وبعد معركة بدر .
    وهذا التباين في الإعداد للمعركة من الشواهد على قانون (لم يغز النبي (ص) احداً) وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى موضع بدر وصاروا قريبين من العدو نزل قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
    ونزل المطر ليصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (مَا لَبّدَ لَهُمْ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ السّيْرِ وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ . فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يُبَادِرُهُمْ إلَى الْمَاءِ حَتّى إذَا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ بِهِ) ( ).
    لبيان قانون وهو ذات الموضوع والموضع قد يكون بشارة للمؤمنين وإنذاراً للكافرين ، ففي كمية وأثر المطر النازل يومئذ زيادة لإيمان الصحابة ، وزاجر للذين كفروا عن القتال ومواصلة الإرهاب.
    ثم أشار الحباب بن المنذر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتقدم نحو أقرب ماء من العدو للتزود بالماء وبناء حوض وملئه بالماء كيلا يصيبهم العطش اثناء القتال .
    فرضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الإقتراح وشكر الحباب وسار بأصحابه قليلاً مع ما في هذا السير من الأخطار ، والأضرار إذ صار المشركون يرمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنبال والسهام ، وهم لا يردون عليهم ، مع وقوع بعض القتل بين صفوفهم ، وفيه دليل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقابل التعدي وبداياته بالصبر والتحمل رجاء فك الإشتباك ، ترى لماذا المقابلة بالصبر من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الله عز وجل قد وعده بالنصر ، الجواب من جهات :
    الأولى : تفضل الله عز وجل بكثرة طرق ووسائل نصر الأنبياء ، وأنه لا ينحصر بميدان القتال ، ولا معركة مخصوصة .
    الثانية : تجلي مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
    ولو دار الأمر في الرحمة بين القتال وعدمه مع تحقق ذات الغايات الحميدة من الأمرين ، فالراجح هو عدم القتال .
    الثالثة : عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، إذ يتفضل الله عز وجل ، وجعل وسائط الغايات الحميدة ذات صبغة علمية محضة .
    الرابعة : توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية ، ومن منافعها زجر الناس عن محاربته ، وجذبهم إلى منازل الهدى والإيمان .
    ومن الشواهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد القتال أو القافلة في خروجه عدم ندبه وجمعه الأصحاب للخروج ، وتعيين واختيار الشباب ذي القوة منهم الذين يصلحون للقتال عند وقوعه ، أو لجمع وسوق ألف بعير مجموع إبل القافلة وهي محملة بالبضائع مع الحذر.
    وفي عشية معركة بدر اعتنى الصحابة بالحفاظ على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتهيئة أسباب تفرغه للدعاء ، وفيه شاهد على صدق إيمانهم ، وإدراكهم لموضوعية وأثر الدعاء في جلب المصلحة ودفع المضرة .
    وفي خبر إبن إسحاق والذي لم يذكر له سنداً (فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ أَلَا نَبْنِي لَك عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ وَنُعِدّ عِنْدَك رَكَائِبَك ، ثُمّ نَلْقَى عَدُوّنَا ، فَإِنْ أَعَزّنَا اللّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا ، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى ، جَلَسْت عَلَى رَكَائِبِك ، فَلَحِقْت بِمَنْ وَرَاءَنَا.
    فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك أَقْوَامٌ يَا نَبِيّ اللّهِ مَا نَحْنُ بِأَشَدّ لَك حُبّا مِنْهُمْ وَلَوْ ظَنّوا أَنّك تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلّفُوا عَنْك ، يَمْنَعُك اللّهُ بِهِمْ يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَك . فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ . ثُمّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَرِيشٌ فَكَانَ فِيهِ) ( ).
    أي أن الصحابة اتخذوا خطة للإحتياط ، وإنسحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمان إلى فئة من الصحابة تذب وتدافع عنه ، وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة لم يقصدوا القتال ، وإحتمال التعرض للضرر ، بقتل طائفة من الصحابة ، وإضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإنسحاب إلى المدينة ولكنه الإحتراز وإخلاص الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ,
    ويدل قول سعد بن معاذ مخاطباً النبي (فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك أَقْوَامٌ يَا نَبِيّ اللّهِ) على أن أكثر الصحابة لم يخرجوا إلى معركة بدر لأنهم لم يظنوا وقوع قتال مع المشركين ، فقد سبق وأن خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب عدة مرات ، ثم يرجع من غير أن يلقى قتالاً.
    مما يفيد استصحابه لذات الأمر عند خروجه وأصحابه من المدينة.
    وإذا كان الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبقوا في المدينة ذوي قوة وقدرة على الدفاع ، لماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه يوم بدر (اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ) ( ) الجواب بيان آثار نتيجة معركة بدر على الناس في الإعتقاد والسجايا وكيفية تلقي التنزيل ، والتقيد بأحكامه.
    وهل يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (هَذِهِ الْعِصَابَةُ) جميع الصحابة سواء الذين حضروا معركة بدر أو الذين لم يحضروها.
    المختار نعم للإلحاق ، ولأن المشركين إذا صارت لهم الغلبة في معركة بدر لا يتورعون عن الهجوم على المدينة ، ليكون صرف مكرهم وإرجاع كيدهم إلى نحورهم بهزيمتهم يوم بدر من غير أن تصل النوبة إلى غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم أو لحلفائهم.

    قانون إنفاق كفار قريش إرهاب وضياع للذات والأموال
    لا تجلب محاربة النبوة والإيمان إلا الضرر العام والخاص ، وهو الذي تجلى في معارك الإسلام الأولى ، وهو من مصاديق تسمية يوم معركة بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) .
    لقد أكثر المشركون من الإنفاق على حربهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنفقوا في مقدمات معركة أحد أكثر من عشرة أضعاف ما انفقوا على معركة بدر من جهات :
    الأولى : كثرة عدد جيش المشركين يوم معركة أحد ، فبينما كان عددهم نحو ألف في معركة بدر صار عددهم ثلاثة آلاف في معركة أحد .
    الثانية : تعطيل قريش تجارتها مع الشام واليمن ولو على نحو السالبة الجزئية ، خاصة مع خشيتهم من تجرأ القبائل على قوافل قريش ، والقيام بنهبها بعد هزيمتهم في معركة بدر ، وما أظهرته من عدوانيتهم وضعفهم ووهنهم .
    وهل هذه الخشية من الرعب الذي ذُكر في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( )، الجواب نعم.
    الثالثة : قيام رجال قريش بالطواف على القبائل والقرى لندبهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبذلهم للرؤساء والشعراء مع الوعود الجزيلة إن خرجوا معهم لقتاله ، وهذا الطواف من أسباب انشغال قريش عن التجارة والمكاسب .
    الرابعة : الإنفاق على الجيوش التي سارت من مكة وحواليها إلى المدينة تجهيزاً للسلاح والظهر والميرة .
    الخامسة : دفع قريش فداء وعوض الأسرى ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إن طلب الفداء عن الأسرى دعوة لقريش للإمتناع عن تكرار الإعتداء والهجوم ، وإضعاف لاقتصادهم ، وإصابة السيولة عندهم بالنقص فيضطرون للتخلف عن أداء ديونهم إلى تجار الشام وإلى ثقيف .
    السادسة : تسخير قريش أرباح قافلة أبي سفيان للإنفاق على معركة أحد بدل أن تكون مادة للمضاربة والتجارة والنماء .
    السابعة : إنشغال بيوتات من قريش بتوزيع ثروة وأموال الذين قتلوا في معركة بدر ، وهذا التوزيع إنتقاص في الثراء لتقسيم التركة على الورثة مع كثرة حاجاتهم ورغباتهم وأزواجهم .
    وفي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) نسب الطبرسي إلى القول (قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سوى من استجاشهم من العرب ، وفيهم يقول كعب بن مالك :
    فجئنا إلى موج من البحر وسطهم
    أحابيش منهم حاسر و مقنع
    ثلاثة آلاف و نحن بقية
    ثلاث مئين إن كثرنا فأربع) ( ).
    ويدل مجموع جيش المشركين وعددهم ثلاثة آلاف رجل على أن القبائل التي حضرت لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد جاءوا بالإجارة والشرائط وطلب الأموال واسقاط الديون التي لقريش عليهم.
    وفيه ضعف وخزي إضافي لقريش ، ودلالة عجزهم عن جمع الرجال عن عقيدة لمحاربة النبوة ، وهل فيه معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم من جهات :
    الأولى : عجز قريش عن جمع الرجال للثأر من هزيمتهم في معركة بدر .
    الثانية : حال الوهن والارباك التي صارت عليها قريش .
    الثالثة : إنكشاف ضعف قريش وعامة الكفار .
    الرابعة : إستنزاف أموال قريش في الباطل ، ومن غير فائدة أو ثمرة ترتجى.
    الخامسة : البشارة بتحقيق هزيمة جيش المشركين في معركة أحد لأن المستأجَر لا يقاتل عن إخلاص وتفان .
    وهل كانت قريش تقصد بكثرة الإنفاق على الحرب والقتال الإرهاب.
    الجواب نعم ، إذ أرادوا بعث الخوف والفزع في قلوب المسلمين ، ومنع الناس من دخول الإسلام ، والإخبار القولي والعملي بأنهم سيتوجهون إلى المدينة لإستئصال النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ]( ).
    قانون استهزاء قريش بالنبوة إرهاب
    وفي قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ) وعد وعهد من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإنتقام من الذين نصبوا له العداء ، وأظهروا السخرية منه .
    وموضوع الإستهزاء هو :
    الأول : الإستهزاء بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في التنزيل [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( ).
    الثاني : الإستهزاء بالتنزيل وآيات القرآن.
    الثالث : السخرية من الصحابة وضعفهم وقلة عددهم .
    الرابع : الإستهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيما اذا نشب القتال كما في معركة بدر كان المشركون يقولون إنهم (أَكَلة رأس) أي أنهم كالجماعة القليلة التي تجتمع على أكل رأس شاة سرعان ما يتم القضاء عليهم إذا نشبت المعركة ، قال تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
    وعن ابن عباس في قوله ({ إنا كفيناك المستهزئين }( ) قال : المستهزئون ، الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل ، فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أرني إياهم ، فأراه الوليد .
    فأومأ جبريل إلى أكحله فقال : ما صنعت شيئاً ، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبرئيل لم تفعل شيئاً من وجوه البطش بهذا الكافر ، فتحدث جبرئيل بلغة الملائكة ، وقال (كفيتكه) أي في اشارتي إلى أكحله علة ومقدمة لهلاكه وهكذا بالنسبة لباقي المستهزئين ، وهل إشارات جبرئيل هذه من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، الجواب نعم.
    ثم أراه الأسود بن المطلب ، فأومأ إلى عينيه فقال : ما صنعت شيئاً.
    قال : كفيتكه ، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث ، فأومأ إلى رأسه فقال : ما صنعت شيئاً .
    قال : كَفَيْتُكَهُ .
    ثم أراه الحرث ، فأومأ إلى بطنه فقال : ما صنعت شيئاً .
    فقال : كفيتكه . ثم أراه العاص بن وائل ، فأومأ إلى أخمصه فقال : ما صنعت شيئاً .
    فقال : كفيتكه . فأما الوليد ، فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها .
    وأما الأسود بن المطلب ، فنزل تحت سمرة( )، فجعل يقول : بنيّ ، ألا تدفعون عني.
    قد هلكت وَطُعِنْتُ بالشوك في عيني .
    فجعلوا يقولون : ما نرى شيئاً .
    فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه .
    وأما الأسود بن عبد يغوث ، فخرج في رأسه قروح فمات منها.
    وأما الحارث ، فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه .
    وأما العاص ، فركب إلى الطائف فربض على شبرقة( ) فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته) ( ).
    ترى كيف يكون الإستهزاء بالنبوة إرهاباً ، الجواب من وجوه :
    الأول : في الإستهزاء بالنبوة جحود بالربوبية ، مما يعني إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
    الثاني : لقد كانت قريش تسخر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من منازل القوة والسلطان الذي عندهم ، وهو من معاني إرهاب الناس .
    الثالث : هل من صلة بين إستهزاء قريش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين فرض الحصار على أهل البيت لثلاث سنين في مكة .
    الجواب نعم ، لإرادة قريش إيجاد أنصار لهم في منهاجهم اضعاف أثر النبوة ولأن أهل البيت كانوا لا يرضون بالإستهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، ولا بضعفاء وفقراء الصحابة.
    الرابع : صدّ الناس عن دخول الإسلام ، فهذا الإستهزاء من الملأ والرؤساء سبب لعزوف الناس عن الدعوة ، ولكن معجزات النبوة ظاهرة لها ، كما أنها تجذب الناس إلى منازل الإيجاز.
    الخامس : الإستهزاء بالتنزيل والمعجزات إرهاب للمسلمين وعامة الناس ، ومحاولة لصرف الناس عن الإلتفات إليها والإصغاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
    السادس : بطلان الجدال والمغالطة التي يلجأ اليها المشركون في الإستهزاء من التنزيل ، قال تعالى [وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ]( ).
    السابع : بيان القرآن لسوء عاقبة الذين يستهزئون بالنبوة والتنزيل لإشغالهم بانفسهم وكف أذاهم ، قال تعالى [وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( ).
    قانون سوء عاقبة إرهاب قريش
    لقد بعث الله عز وجل الأنبياء للنفع العام في الدارين ، ولنشر الصلاح في الأرض ومنع الفسوق والفجور ، ولأنه سبحانه له [مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، فانه يذب ويدافع عن الأنبياء ، وينصرهم حين يواجههم الكفار بالسلاح والإرهاب.
    وقوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( )، يدل على أن النصر أعم من أن بالسيف وميدان المعركة ومنه النصر بالحجة والبرهان وإصابة رؤساء الكفر الذين يصرون على التعدي والظلم والإرهاب بالخزي ، ورميهم بالعجز ومنه إصابة الذين استهزءوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالداء والكيفية التي تجعلهم عاجزين عن مواصلة الإرهاب والإستهزاء بهم.
    ترى لماذا أصيب الأسود بن عبد المطلب بعينيه قبل واقعة بدر ، الجواب للإنذار والموعظة ، وليتجنب إرسال أولاده وابن أخيه إلى معركة بدر ، خاصة للصلة التي تربطهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزواجه من خديجة ودخولها الإسلام في اليوم الأول للبعثة النبوية ، وتحملها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصار قريش لثلاث سنوات .
    لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحزن بسبب استهزاء قريش بنبوته ، فهو يريد لهم ولذراريهم الهدى والفلاح ، ولكنهم يحاربونه بالسيوف .
    وفي قوله تعالى [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ] ( ) أن الآية (نزلت فى الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصى ، كان الحارث يكذب النبي صلى الله عليه وسلم فى العلانية ، فإذا خلا مع أهل ثقته ، قال : ما محمد من أهل الكذب ، وإني لأحسبه صادقاً.
    وكان إذا لقى النبى صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : إنا لنعلم أن هذا الذي تقول حق ، وإنه لا يمنعنا أن نتبع الهدى معك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس ، يعنى العرب ، من أرضنا إن خرجنا ، فإنما نحن أكلة رأس ، ولا طاقة لنا بهم ، نظيرها فى القصص {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ}( ).
    فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} فى العلانية بأنك كذاب مفتر {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} فى السر بما تقول بأنك نبى رسول ، بل يعلمون أنك صادق ، وقد جربوا منك الصدق فيما مضى {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} ( )، يعنى بالقرآن بعد المعرفة)( ).
    ومن سوء عاقبة الأسود بن عبد المطلب حسرته على عجزه عن البكاء على أولاده الذين فقدهم في معركة بدر .
    بعد أن كان ذا شأن ومنزلة بهم ، إذ كان ابنه زمعة بن الأسود من زاد الراكب إذا سافر معه جماعة لا ينفقون من أموالهم ، ولكن الأسود أصبح وحيداً فريداً فتقيد بأوامر قريش ، ومن يظنهم أدنى منه مرتبة وشأناً كما يدل عليه شعره في المقام .
    لقد كانت مصيبة الأسود بن المطلب بأولاده يوم بدر عظيمة إذ فقدهم في ضحى يوم واحد باصراره وإياهم على الباطل ولم تفزع لهم الأصنام التي يعبدون فكان يتمنى أن يبكي على أولاده ، وعلى سوء اختياره وعاقبته ولكنه ممنوع من البكاء .
    لقد كانت تلك الأيام والمنع من البكاء مناسبة للتدبر والتدارك والتوبة والإستغفار ، والتفكر بمعجزة نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر على ألف من المشركين بعد أن خرج من بين ظهرانيهم من مكة طريداً خائفاً ليس معه إلا واحد من أصحابه قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
    وفي جوف احدى الليالي سمع الأسود بن المطلب نائحة تبكي في مكة فقال لغلام له (اُنْظُرْ هَلْ أُحِلّ النّحْبُ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا ، لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ يَعْنِي زَمَعَةَ فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ)( ).
    لبيان الضرر الذي يلحق الأحياء عند موت الكافر محارباً للنبوة والتنزيل ، ومدافعاً عن الأوثان ، ويصر على القيام بارهاب المؤمنين والناس الأبرياء.
    ولم يذكر الأسود ابنه بالاسم إنما بكنيته لمنزلته وحبه له ، فذهب الغلام نحو جهة البكاء ليتحرى السبب فعاد إليه يائساً قانطاً وقال (إنّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ)( )، وهذا الحال من أسباب دخول المستضعفين الإسلام.
    وفيه خزي وهوان اضافي للذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأموات والأحياء وبيان لحرمة مكة ، ودعوة للمسلمين والمسلمات في مكة للصبر لما في هذه الواقعة ونحوها من البشارة بقرب فتح مكة ، إذ يجوز البكاء على بعير قد مات ولا يجوز البكاء على سبعين رجلاً من وجهاء قريش في معركة بدر .
    وأدرك الأسود هذه الذلة والمهانة فأنشد بما فيه ذم لرؤساء قريش الذين منعوا البكاء وبما يتضمن التحذير من اتباعهم في عزمهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، خاصة في البيت الأخير من قصيدته :
    (أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
    فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ الْجُدُودُ
    عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ … وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
    وَبَكّي إنْ بَكّيْتِ عَلَى عَقِيلٍ … وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
    وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا … وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
    أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ … وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا)( ).
    ولم يكن الأسود وحده الذي فقد عدداً من أولاده في معركة بدر ، بل هناك رجال ونساء من قريش فقدوا عدداً من رجالهم ومن أسرة واحدة ذات يوم معركة بدر.
    فقد فقدت هند بن عتبة زوجة أبي سفيان كلاً من أبيها وعمها شيبة وأخيها الوليد.
    وكان أخوها الآخر غير الشقيق أبو حذيفة يقف في جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    ولم يقع مثل هذا القتل في طرف المسلمين إنما كان عدد الشهداء يومئذ هو أربعة عشر رجلاً.
    وهل هو من مصاديق تسمية يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، المختار نعم ، وقد فقدت احدى الصحابيات يوم أحد زوجها وابنها وأخيها ، ولكن عنايتها كانت بأمر مخصوص وهو سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة خاصة بعد وصول شائعات الى المدينة من وسط ميدان المعركة بأن النبي قد قُتل.
    إذ ورد عن سعد بن أبي وقاص قال (مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِأُحُدٍ فَلَمّا نُعُوا لَهَا ، قَالَتْ فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ؟ قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ)( ).
    لقد كانت مصيبتها عظيمة ، ولكنها أدركت أن نجاة الأمة بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول القرآن ، وتثبيت أحكام الشريعة.
    ولا ينجو أهل المدينة من المؤمنين والمنافقين واليهود إلا بنجاة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد.
    ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل رحمة بأهل المدينة كافة.
    لذا لما أشار الصحابة إليه ورأته قادماً على الناقة إلى المدينة نادت (كل مصيبة بعدك جلل) ( )، أي هينة وصغيرة في ذاتها ومدتها وأثرها.
    لموضوعية وأولوية سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، وحتى شهداء أحد بسلامة أجسادهم من المثلة والنبش ، وبقاء شأنهم ورفعتهم وذكرهم بالمجد بين أجيال المسلمين ، وقد نزل فيهم قرآن.
    و(عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ( ).
    قانون الآية القرآنية فصل الخطاب
    معنى فصل الخطاب القطع والحكم بالبينة والدليل ، وتجلي البرهان ، وبيان المائز والفاصل بين الحق والباطل ، والصواب والخطأ .
    وفي التنزيل في بيان عظيم فضل الله على داود النبي في نبوته ، وكثرة جنوده وحرسه [وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ]( ).
    وما آتاه الله للأنبياء جعله عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل منه تعالى وزاد عليه الله من فضله بما فيه رحمة للناس إلى يوم القيامة ، إذ تجد كل أمة وطائفة وفرد ما يحتاجه من الأصول والفروع في القرآن بما يضئ له سبل الرشاد والفلاح .
    وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف ، ومن الزيادة والنقيصة .
    ولما جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فانه سبحانه جعل الصلة بينه تعالى وبين الناس مستمرة وغير منقطعة ، وليس من حصر لوجوه هذه الصلة منها :
    الأول : خلق آدم في الجنة ، وتكليم الله عز وجل له قُبُلاً من غير واسطة.
    الثاني : تعليم الله عز وجل آدم الأسماء وتلقي حواء لها بالإلحاق ، وتوارث الذرية لها ، ومن معانيها التفقه في الدين والدنيا ، وتلقي أحكام النبوة والتنزيل بالقبول والإمتثال ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
    الثالث : اقتباس آدم وحواء من الملائكة في الجنة .
    ومن إعجاز الآية أعلاه أنها لم تذكر مطلق الأنبياء ، إنما ذكرت الرسل لبيان موضوعية المعجزة التي تجري على أيديهم بما يحقق النصر ، ولدعوة المسلمين للتدبر في معجزات نوح ، وصالح ، وهود ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهتهم للشرك ونصرهم على القوم المشركين بالحجة والبرهان .
    أما الدفاع بالسيف فقد قام به عدد من الرسل والأنبياء ، لذا ورد في آية دفاع الأنبياء قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) ومع أن النسبة بين النبي والرسول هو العموم والخصوص المطلق ، فالأنبياء أكثر عدداً وكل رسول نبي وليس العكس ، فقد يرد لفظ الرسل ويراد منه جميع الأنبياء.
    ومن معاني إتصاف الآية القرآنية بأنها فصل الخطاب إمامتها ودعوتها الناس إلى الهدى والإيمان وأداء الفرائض والتعايش السلمي، وصرفها الناس عن التعدي والظلم والإرهاب .
    ومن إعجاز القرآن تصدي آياته للتحكيم والفصل بين الناس ، وتمييز السنن والدلالة على سلامة الإختيار والرشاد إليه ، قال تعالى [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
    الصلة بين الوأد والإرهاب
    الوأد دفن الأب لابنته حية حين تضعها أمها ، ويقال (وأدها الوائد يئدها وأدا فهو وائدٌ، وهي موءودة ووئيد.
    وقال الفرزدق :
    وعمّي الذي منع الوائداتْ … وأحيا الوئيدَ فلم يؤأدِ)( ).
    والصلة بين الإرهاب والوأد هو العموم والخصوص موضوعاً وزماناً ، إذ انقطع الوأد ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصبح المسلمون يكرمون المرأة أماً وأختاً وزوجة وبنتاً ، وصار لها نصيب من الإرث يكون عوناً لها في أمور الحياة.
    فان كانت أماً فلها السدس من التركة لقوله تعالى [وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ]( )، وقد تكون حصتها الثلث عند عدم وجود الابن للميت ، ووجود الأب والأخوة الذين يحجبون حجب نقصان ، فكما حارب القرآن الوأد وقتل البنت في المهد فانه منع الأسباب التي تجعلها تعزف عن الزواج والإنجاب ، فقد كان العرب قبل الإسلام يحجبون المرأة من التركة ، فليس للبنت ميراث ، بل ذات زوجة الميت تكون ميراثاً لولده الأكبر إن شاء نكحها وإن شاء عضلها وحرمها من النكاح من غيره إلا أن تبذل له .
    وإن كانت زوجة فلها الربع مع عدم وجود ولد للميت ، ولها الثمن مع وجوه ولد للميت لقوله تعالى [فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( ).
    وإن كانت بنتاً فلها سهام ثابتة من ميراث أبيها وأمها وان كانت متزوجة فمن إكرام الإسلام للبنت أن زواجها لا يحرمها من الميراث ، قال تعالى [إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا] ( ) ، قال تعالى [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
    وإن كانت أختاً فيأتيها الإرث مع فقد الابن والأبوين للميت ، وهم من المرتبة الأولى في الإرث ، أما الأخوة ذكوراً وأناثاً فهم مرتبة ثانية ، ولا تزاحم هذه المرتبة المرتبة الأولى .
    لبيان قانون وهو تعاهد صلة الرحم ومنع النزاع والإرهاب ومقدماته حتى في باب الميراث ، قال تعالى [وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ] ( ).
    ولا يعلم أحد إلا الله ما إذا استمر الوأد عند العرب ، ومن خصائص الظاهرة في الغالب الإتساع مع وجود أسبابها وقلة النهي عنها ، إذ كان سبب الوأد حدوث الغزو بين القبائل وخشية وقوع البنت في السبي ، فلم يكن الوأد عند بني تميم وحدهم بل وصل إلى بعض بيوتات قريش ، فصار استئصاله حاجة ، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معطلاً فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو إنقاذ الله سبحانه للناس من البلاء العام.
    فتنزل آية من بضع كلمات فينجو الناس من البلاء بعمل المؤمنين بمضامينها ويأتي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإصلاح المجتمع ، والتعاون في بناء صرح الأخلاق الحميدة .
    ونشر ألوية السلم ، ومنه الأمر بالموادعة والسلم وعموم الإحسان مع عامة الناس.
    ويمكن تسمية الوأد بالإرهاب والظلم الأسري ، لذا جاءت الشريعة الإسلامية بمؤاخذة الأب عند التعدي على ابنه أو بنته وبالعكس ، وكذا بالنسبة للأم.
    وإذ ذكرت الموءودة في القرآن بأنها تُسأل بما يدل على إحضارها يوم القيامة وتجيب يومئذ على الأسئلة وإن كانت قد غادرت الدنيا ساعة الولادة ، لتشكو إلى الله ما لاقته من الظلم وحجب لذيذ الحياة عنها.
    ومنه النكاح والإنجاب وانتقالها الأخروي قبل برها لوالديها ، وبر أبنائها لها ، مع دلالة الآية أعلاه على براءتها وسلامتها من الحساب والعقاب.
    وبلحاظ عنوان هذا القانون هل يمكن تقدير الآية (وإذا سُئل الذي قتل بالإرهاب بأي ذنب قتل) أم هناك تباين بينهما المختار هو الأول ، لذا يجب إجتناب سفك الدماء بالإرهاب والتفجيرات العشوائية رجاء الوقاية والسلامة يوم القيامة من الشكاوى والمساءلة وأهوال مواطن الآخرة.
    قانون حرب القرآن على الإرهاب
    القرآن هو كلام الله الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللغة العربية المتعبد بتلاته ، المكتوب في المصاحف ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) .
    والإرهاب لغة مصدر للفعل أرهب يرهب ومعناه أخاف وأفزع ، وأخاف إخافة .
    والإرهاب في الإصطلاح اتخاذ التخويف والعنف والبطش اتخاذاً منظماً وعشوائياً جماعة أو أفراداً لتحقيق هدف فكري أوسياسي أو فرض مذهب أومحاربته بما يبعث على الخوف العام وفقدان الأمن .
    وقد أختلف في تعريف الإرهاب ، ولكن مصاديقه ظاهرة للعباد ، يدركها الناس بالوقائع والوجدان .
    والشواهد اليومية ، وأخبار العنف والتفجيرات ، وأحكام القضاء في هذه الدولة أو تلك ، وبيانات وحفظ المنظمات الدولية مما يعني لزوم إجتناب الإرهاب رحمة بالناس عامة ، وهذا الإجتناب من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) لوجوب الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
    ومن خصائص وأضرار الإرهاب تعدد الهدف من الضحايا ، وسعيد يسعى للنتائج والغايات ، ولم يحقق أياً من غاياته ، ولم يجلب إلا الأذى والضرر .
    والإرهاب منهاج عنف محرم شرعاً وعقلاً ، ومن الآيات عدم ترشح منافع منه سواء خاصة أو عامة ، وفيه نزيف بالنفوس والأموال ، وقال تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] ( ).
    وهل ينطبق قتل النفس في الآية أعلاه على التفجيرات الإرهابية والهجوم على الأبرياء بالسلاح الأبيض ونحوه ، الجواب نعم .
    وهل الآية أعلاه من حرب القرآن على الإرهاب ، الجواب نعم ، إذ انها تزجر عنه ، وتبين الضرر العام من الفعل الشخصي منه ، لتتجلى مصاديق من قوله تعالى [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا] ( ) في زمن العولمة بتغشي الحزن والأسى والنفرة والإستهجان أهل الأرض للعمل الإرهابي والهجوم على الأبرياء العزل الآمنين .
    ومن حرب القرآن على الإرهاب كفاية الدعوة إلى الله بالحكمة والحجة والبرهان ، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
    ومن خصائص تلاوة المسلم والمسلمة القرآن في الصلاة اليومية أنها واقية من الإرهاب بذاتها ، وبمضامينها القدسية ، وما فيها ، فمثلاً قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) زاجر يومي متجدد عن الإرهاب ، لما فيه من إنشغال المسلمين بعبادة الله عز وجل واستعانتهم به سبحانه لقضاء الحوائج.
    ويدرك الإنسان قانون التنافي بين العبادة والإرهاب ، وقانون الغنى بالإستعانة بالله عز وجل من شرور الإرهاب .
    وتتجلى مصاديق حرب القرآن على الإرهاب بنزوله على نحو التدريج والنجوم لإصلاح المجتمع والعصمة من الظلم .
    والنسبة بين الظلم والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة بحرمة الإرهاب بمفهومه في هذا الزمان .
    ويخاطب القرآن المسلمين والناس جميعاً بالإمتناع والتنزه عنه ،قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
    مضامين آيات القرآن ، وما فيها من سنن التشريع ، والأوامر والنواهي تأديب وإصلاح إلى يوم القيامة ، إذ جاء النهي عن الإرهاب صريحاً في القرآن بزجره عن التعدي والظلم ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) .
    وقد ورد لفظ [حُدُودَ اللَّهِ] في القرآن اثنتي عشرة مرة ، ورد نصفها في آيتين متجاورتين ، قال تعالى [وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] ( ).
    وموضوع هاتين الآيتين هو الطلاق وأحكامه لبيان وجوب إنصاف المرأة والإحسان إليها حتى في حال الطلاق ، وموضوعها أعم لإشاعة لغة الإحسان في المعاملة مع القريب والبعيد.
    قانون الإباحة تحريم للإرهاب
    ومن معاني أصالة الإباحة هو الحلية في الأشياء إلا إذا ورد نص في الحرمة مثل حرمة الربا ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، أما إذا لم يرد نص ودليل على حرمة شئ فالأصل هو الحل حتى نعلم حرمته على نحو القطع ، سواء في الشبهة الحكمية التي لم يرد في ذات الشئ وموضوعه نص أو في الشبهة الموضوعية كما لو شك في لحم معروض في سوق المسلمين هل هو مذكى أو لا، فالأصل أنه مذكى ، وتقسيم الإباحة إلى قسمين:
    الأول : الإباحة العقلية وأن العقل يدرك إباحة الأشياء ما لم يطرأ عليها حكم من الشارع .
    الثاني : الإباحة الشرعية بأن يحكم الشارع باباحة الأشياء .
    وكل من القسمين يدل على حرمة الإرهاب ولزوم إجتنابه لما فيه من الضرر الخاص والعام .
    ومن إعجاز القرآن بيانه للأحكام بصيغة الأوامر والنواهي الخالية من الترديد واللبس والإبهام ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) في الأوامر ، وكما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
    فابتدأت الآية باكرام المسلمين والمسلمات بالشهادة لهم بالإيمان ثم توالى النهي في الآية لوجوه :
    الأول : قانون مصاحبة الأمر والنهي للإيمان .
    الثاني : قانون أهلية المسلمين للتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية .
    الثالث : تمنع الآية أعلاه من الإفتاء من غير دليل ،وخلاف قانون الإباحة الذي هو أصل في الشريعة .
    لقد جمعت الآية أعلاه بين أمور :
    الأول : قانون المنع عن تقييد الإباحة من غير دليل .
    الثاني : قانون حرمة التعدي والإعتداء ، وحرمة الإرهاب من باب الأولوية القطعية لأنه تعد على الذات والغير .
    الثالث : قانون حرمان المعتدي من حب الله .
    وقد ذهب قليل من العلماء بأن الأصل هو الحظر ، وقال بعضهم بالتوقف حتى يتبين دليل على الإباحة ، والمختار أصالة الإباحة أي كل شئ مباح ما لم يرد دليل على الخلاف، وهو موافق لأدلة التيسير في الشريعة السمحاء ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، وللنصوص الواردة في المقام.
    ولا يختص قانون الإباحة والذي يسمى لفظه قاعدة الإباحة بالمسلمين ، إنما هو عام لأهل الأرض ، مع مجئ الشرائع السماوية ببيان ما هو محرم ، وموضوعية النسخ بين الشرائع في المقام ، ويتجلى هذا العموم بظاهر الخطاب القرآني منه لفظ [سَخَّرَ لَكُمْ] الذي ورد تسع مرات في القرآن ، أربعة منها في ثلاث آيات قصيرة متجاورة هي [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] ( ).
    ومن إعجاز القرآن أن هذه الآيات التسعة كلها تدل على الإطلاق في النعم ، وعلى عموم إنتفاع الناس منها ، وإن اختلفت مذاهبهم ومشاربهم ، لذا وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس بأنهم عيال الله .
    كما عن ثابت البناني (عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) ( ) ونعت سند الحديث بأنه ضعيف ، ولكن آيات القرآن تفيد هذا المعنى ، وهل فيها توثيق للحديث الضعيف ، الجواب نعم .
    وهو لا يتعارض مع كون السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن .
    ويدل الحديث على لزوم إشاعة الإحسان بين الناس والسعي لقضاء الحوائج والتخفيف والمعاملة بالرأفة والرحمة ، لبيان أن الإرهاب ضرر محض ، فهو ضد النفع سواء توجه إلى أهل نفس الملة والوطن أو لغيرهم ، ويدل الحديث أعلاه على النهي عن الحروب والغزو والإمتثال .
    ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يغز أحداً ، وقد صدر الجزء السابق وهو التاسع والعشرون بعد المائتين بذات العنوان أعلاه ، وفيه بيان شواهد ومصاديق وبراهين لهذا القانون وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
    وهل يحتمل أن يؤدي الإرهاب إلى نتائج فيها نفع ، الجواب لا ، خاصة وأنه اعتداء وتعد ، وقد قال الله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
    ومن مفاهيم الآية أعلاه وجوه :
    الأول : لا تعتدوا على الناس .
    الثاني : لا تعتدوا وإن تظنوا في الإعتداء نفعاً .
    الثالث : لا تعتدوا فان الله قادر على أن يأتيكم النفع من غير اعتداء .
    الرابع : لا تعتدوا فان الإعتداء حرام .
    الخامس : لا تعتدوا فتؤاخذوا على الإعتداء يوم القيامة .
    السادس : لا تعتدوا فان الإعتداء ضد للإيمان .
    لذا ابتدأت الآية بالخطاب بصيغة الإيمان في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) وهل يمكن إنحصار النهي عن الإعتداء في الآية بالأكل من الطيبات ، الجواب لا .
    وعن ابن عباس في قوله تعالى (عن ابن عباس في قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }( ) قال : نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان.
    فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لكني أصوم أفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنَّتي فليس مني)( ).
    وتخفف الآية عن المؤمنين في باب الحلف واليمين ، ولا يترك الحلال بسبب اليمين ، قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
    السابع : لا تعتدوا على أموال وحقوق الناس .
    الثامن : لا تعتدوا بالإرهاب والظلم .
    التاسع : لا تعتدوا فان الله يحب الذين لا يعتدون .
    العاشر : لا تعتدوا فان الله عز وجل يريد بالبعثة النبوية تنزيه الأرض من الإعتداء .
    الحادي عشر : لا تعتدوا فان الفتح قريب ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل صلح الحديبية فتحاً بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
    الثاني عشر : لا تعتدوا ولا تزاولوا الإرهاب .
    الثالث عشر : لا تعتدوا على المسلم والكتابي وعلى الناس جميعاً لأصالة العموم ، وعدم ورود تقييد في المقام .
    الرابع عشر : لا تعتدوا ففي ترك الإعتداء ثواب لأنه امتناع عن المعصية ، للنهي النازل من عند الله .
    الخامس عشر : لا تعتدوا في حال الحرب والسلم .
    السادس عشر : من خصائص خير أمة عدم الإعتداء .
    قانون النهي عن سب الأصنام نهي عن الإرهاب بالأولوية
    لقد نزل القرآن لإستئصال الكفر وعبادة الأوثان من الأرض ، وقد تنجزت هذه الغاية بأبهى صورة ، إذ انقطعت هذه العبادة ، وزال التزلف إلى الأصنام وحبها من القلوب , وهذا الإنجاز من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فلا يرضى الله عز وجل للناس الذين خلقهم لعبادته أن يعبدوا غيره ، فان قلت [إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) فلماذا لا يتركهم وشأنهم ، الجواب من جهات :
    الأولى : لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ومن مصاديق حفظ الخلافة الإنتفاع مما سخّره الله عز وجل للناس ، وليس إتخاذها آلهة .
    الثانية : وجوب شكر الإنسان لله عز وجل ، ويتجلى هذا الشكر بأبهى صوره بالعبادة والخضوع لله عز وجل .
    الثالثة : حب الله عز وجل للعباد ، وإرادته لهم التنزه عن عبادة الأوثان .
    الرابعة : مخاطبة الله عز وجل للعقول ومن خصائصها إزدراء عبادة الأوثان ، ولا تجد لها نفعاً .
    الخامسة : إرادة الله عز وجل فوز الإنسان بالنعيم في الآخرة ، ولا تقود عبادة الأوثان إلا إلى النار ، ليكون من فضل الله عز وجل بنزول القرآن إنقاذ الناس من اللبث فيها .
    ومن حرب القرآن على الإرهاب أمر الله عز وجل بعدم شتم وسب الأصنام ونحوها مما يعبد الكافرون ، قال تعالى [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ] ( ).
    ومن معاني هذه الآية قاعدة سدّ الذرائع ، وأن الطاعة إذا صارت سبباً لفعل معصية ، فهناك سبل أخرى للطاعة ، فمن فضل الله عدم تقييد أو حصر الطاعة في الموضوع المتحد بطريقة وسبيل واحد .
    السادسة : لا تستحق الأصنام السب والشتم ، وهي لا تسمع ولا تبصر .
    السابعة : لقد افتتن الذين كفروا بالأصنام ، فنزل القرآن بذمها وبيان قبحها ، فلا تصل النوبة إلى سبها وشتمها ، وكأن الآية الكريمة [لاَ تَسُبُّوا] تقول للمسلمين في نزول القرآن كفاية في إزاحة الأصنام وعبادتها في الأرض ، قال تعالى [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] ( ) وفي إبراهيم وإنذاره لقومه ورد في التنزيل ، و(عن ابن عباس في قوله { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله . . . }( ) الآية .
    قال : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سبِّ أو شتم آلهتنا أو لَنَهْجُوَنَّ ربَّك . فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم { فيسبوا الله عدواً بغير علم})( ).
    والمختار الفصل والتمييز بين آيات القرآن التي تذم الكفار ، وبين النهي الوارد في هذه الآية ، إذ أنها تتضمن نهي المسلمين عن شتم الأصنام.
    ليكون من معاني الجمع بينها وبين هذه الآية : لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فقد كفاكم الله هذا السب والشتم بآيات قرآنية باقية إلى يوم القيامة بالنص والتفسير والأثر ، لذا (قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه :لا تسبوا ربهم فأمسك المسلمون عن سبّ آلهتهم) ( ).
    ووردت السنة النبوية بالنهي عن السب والشتم في وجوه عديدة منها ما ورد عن جابر قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسبوا الليل والنهار ، ولا الشمس ولا القمر ، ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم ، وعذاباً لقوم) ( ).
    و(عن حذيفة مرفوعاً : لن تفنى أمتي حتى يظهر فيهم التمايز والتمايل والمقامع . قلت يا رسول الله : ما التمايز؟
    قال : عصبية يظهرها الناس بعدي في الإِسلام .
    قلت : فما التمايل .
    قال : تميل القبيلة على القبيلة فتستحل حرمتها .
    قلت : فما المقامع؟
    قال : تسير الأحبار بعضها إلى بعض تختلف أعناقها في الحرب)( ).
    وورد عن ابن عباس قال (أن كفار قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إلهه ونهجوه ، فنزلت الآية) ( ).
    مما يدل على أن هذا السب المنهي عنه هو غير موضوع آيات القرآن التي تذم الأوثان وعبادتها ، وأن الذين يسبون الأصنام يكثرون من كلمات السب والشتم ، وهو أمر لا يليق بالمؤمنين ، فاراد الله تنزيههم منه ، ومنع الأحقاد والعناد .
    لبيان قانون بالأولوية وهو عدم سب أهل الكتاب والكنائس والصلبان ، وعدم القيام بالإرهاب والإضرار بالناس والممتلكات العامة .
    الثامنة : عمومات قوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] ( ).
    التاسعة : قوله تعالى [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) بشارة من عند الله بأن عبادة الأصنام إلى زوال في أيام وسنوات قليلة بفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا حاجة إلى سبها وما فيه من الضرر .
    العاشرة : الكفار الذين يقابلون سب الأصنام بسب الله عز وجل سيدخلون الإسلام [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
    وقال الثعلبي (ولما نزل قوله {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} سكت النبي (عليه السلام) عن عيب الهتهم فأنزل اللّه تعالى {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعني معايب آلهتهم) ( ).
    ولكن الآية أعلاه من سورة المائدة نزلت يوم الغدير بعد حجة الوداع ، ولم تكن هناك أصنام ، بينما ورد قوله تعالى [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] ( ) في سورة الأنعام وهي سورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة .
    وقيل بعض آيات سورة الأنعام نزلت في المدينة بعد الهجرة وهي الآيات (153،152،151،141،114،93،91،23،20).
    قانون الدعاء واقية من الإرهاب
    من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) عجز الناس عن إحصاء النعم التي تفضل بها على الفرد الواحد منهم ، وعن الأسرة والجماعة ، والطائفة ، وأبناء البلد الواحد وهكذا ، ولم يسألهم جزاء لأنه سبحانه [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
    إنما أمرهم بما تستديم معه النعم ، وما يرقى بهم عن الرذائل ، وما يؤدي بهم إلى اللبث الدائم في النعيم وكما أنزل الله عز وجل الغيث وجعل الناس فيه شرعاً سواء وهو سبب لدوام الحياة ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
    فانه سبحانه فتح باب الدعاء للناس جميعاً ليخترق السماوات السبع ، والحجب وتسمعه الملائكة ، فتدرك أهلية الإنسان للخلافة ليكون من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) الأمر إلى الملائكة برفع دعاء الناس عند سؤالهم ومناجاتهم ، والتدبر في هذه الأدعية التي تترشح عن سنخية العقل والإدراك.
    ومن خصائص الدعاء أنه تسليم بأن الله عز وجل على كل شئ قدير ، وأن مفاتيح الأمور بيده ، والأشياء كلها مستجيبة له سواء بقاعدة السبب والمسبب والعلة والمعلول ، أو خلافاً لهما بما فيه الرحمة الخاصة والعامة.
    والدعاء عنوان التوكل على الله ، وتفويض الأمور له سبحانه ، وشاهد على تسليم العبد بالضعف والفاقة والحاجة إلى رحمة الله ، لتكون تلاوة المسلم والمسلمة لقوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، على وجوه :
    الأول : إنها دعاء ومسألة بصبغة القرآنية .
    الثاني : إنها مقدمة للدعاء .
    الثالث : في تلاوة هذه الآية رجاء لقضاء الحاجات ما ظهر منها وما خفي.
    الرابع : في الإستعانة بالله باعث احتراز من الشرك.
    و(عن سهل بن سعد الساعدي . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله عليه وسلم قال لعبد الله بن عباس : ألا أعلمك كلمات تنتفع بهن ، قال : بلى يا رسول الله .
    قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، جف القلم بما هو كائن ، فلو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه.
    ولو جهد العباد أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل لله بصدق في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً)( ).
    وهل يغير الدعاء الأقدار أم يلزم الإلحاح به ، أم أنه لا يغير الأقدار حتى مع الإلحاح بالدعاء والتضرع.
    الجواب هو الأول ، ليكون من معاني قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ادعوني استجب لكم فيما كتب وما لم يُكتب .
    و(عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني)( ).
    قانون الأذان أمن
    لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشريعة سمحاء بأحكام وشعائر وأوامر ونواهي ، ومنها ما كان الأنبياء السابقون قد جاءوا به ، وفي التنزيل [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
    لبيان تفضل الله عز وجل ببعث رسل كثيرين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا أصل لمعاداة الناس له ، أو عدم تلقيهم دعوته بالقبول والإستجابة .
    ولا يختص موضوع الآية بذات عنوان الرسالة والرسول ، إنما يشمل مضامين الرسالة وأحكامها وسننها ، إذ جاء الرسل السابقون بالشرائع والأحكام أيضاً ، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
    والبدع والبديع الذي يأتي ابتداء ولم يتقدمه مثله ، ثم أخبرت الآية بأن الملاك والشاهد هو الوحي ، لبيان أن بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أو هجرته منها ، وتعيين جهة الهجرة إنما هو بالوحي.
    وشُرع الأذان في السنة الأولى للهجرة ، وفي الآية شاهد بأن الأذان للصلاة من الوحي ، وهل جاء الأنبياء بمثله أم أنه إبتدء بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المختار أن من الرسل من جاء بالأذان ولكن بغير الصبغة التي عليها الإسلام.
    وقد ورد بخصوص إبراهيم عليه السلام قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
    لبيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم إنحصار الأذان بمناسبة وموسم الحج إنما يتكرر خمس مرات في اليوم ، فان قلت جاءت الرواية بأن تشريع الأذان عن رؤيا لأحد الصحابة.
    (عن معاذ بن جبل قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال.
    فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس ، ثم أن الله أنزل عليه {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها}( )، فوجهه الله إلى مكة هذا حول.
    قال : وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضاً حتى نفسوا أو كادوا ، ثم أن رجلاً من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ، ولو قلت أني لم أكن نائماً لصدقت ، إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصاً عليه ثوبان أخضران ، فاستقبل القبلة فقال : الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله مثنى مثنى حتى فرغ الأذان.
    ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال : غير أنه يزيد في ذلك قد قامت الصلاة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علمها بلالاً فليؤذن بها . فكان بلال أوّل من أذن بها قال : وجاء عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله إنه قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حولان)( ).
    والجواب لا تعارض بين الوحي وحديث الرؤيا هذا إذ أن امضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرؤيا عبد الله بن زيد من الوحي.
    وهل هو من السنة التقريرية ، وإقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقول أو فعل مخصوص ، الجواب إنما هو من السنة القولية والفعلية ، وجاءت الرؤيا مقدمة وتعضيداً للسنة النبوية ، وتخفيفاً عن الصحابة .
    وفي رواية عن عبد الله بن زيد (فرأيت تلك الليلة رجلاً في المنام عليه ثوبان أخضران ويحمل ناقوساً فقلت يا عبد اللّه إتبع الناقوس قال : وما تصنع به.
    قلت : ندعو به الناس إلى الصلاة.
    قال : أفلا أدلّك على ما هو خير منه.
    قلت : بلى.
    قال : قل : اللّه أكبر.
    اللّه أكبر إلى آخر الأذان ثم إستأخر غير بعيد.
    وقال : إذا قامت الصلاة فقل : اللّه أكبر.
    اللّه أكبر فوصف له الإقامة فرادى.
    فلما استيقظت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال : إنها رؤيا حق إنشاء اللّه فاتلها على بلال فإنه أندى منك صوتاً،
    قال : فخرجنا إلى المسجد فجعلت ألقيها على بلال وهو يؤذن)( ).
    وعبد الله بن زيد الأنصاري الخزرجي ممن شهد بيعة العقبة وشهد بدراً وسائر مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    (وكانت معه راية بني الحارث بن الخزرج يوم الفتح ، توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن أربع وستين)( ).
    وهل الأذان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب إنه معجزة حسية من جهات :
    الأول : تشريع الأذان .
    الثاني : أوان تشريع الأذان في السنة الأولى للهجرة.
    الثالث : موضوعية الأذان في عمارة مساجد المدينة .
    الرابع : فصول الأذان وترتيبها ، وتكرارها ، ودلالة كل فصل على معنى عبادي مخصوص.
    الخامس : مصاديق التعليم والتأديب في سنن التوحيد بالأذان.
    السادس : قانون الإشعار بالأذان للصلوات اليومية الخمس .
    السابع : موضوعية الأذان في أداء المسلمين الصلاة في أول وقتها.
    الثامن : بعث النشاط والعمل والسعي في الكسب بالأذان ، ومنه دلالة على قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
    التاسع : معرفة ساعات النهار والليل بالأذان إذ ينفذ أذان الصبح إلى البيوت والأسماع مع طلوع الفجر ، بل يؤدى في البيوت.
    العاشر : الأذان للصلاة أمان للمسلم وغير المسلم ، ومناسبة للدعاء والمسألة.
    وكان العرب قد خصصوا اسماً لعموم ساعات الليل وهو (الأسعاء) ( ).
    وعن الفراء قال (الأَتْعاءُ ساعات الليل)( ).
    وعن ابن الأعرابي تسمى الأهناء.
    وذكر الله عز وجل ساعات الليل بصبغة العبادة ، قال سبحانه [إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً]( ).
    وقسّم العرب كلاً من ساعات الليل ، وساعات النهار إلى اثنتي عشرة ساعة وإن لم تكن متساوية في وقتها فقد تكون ساعة أطول من أخرى ، وقد تختلف مدة الساعة في فصل الصيف عنه في فصل الشتاء ، وجعلوا لكل ساعة اسماً مع الإختلاف في بعض تلك الأشهر ففي ساعات الليل.
    الساعة الأولى : الشفق ، والثانية الغسق، والثالثة العتَمة، والرابعة الفَحمة أو السُّدفة، والخامسة الموهن، والسادسة القطع أو الزُّلّة، والسابعة الجَوْشن أو الزُّلْفة، والثامنة الهُتْكة أو البَهْرَة والتاسعة التّباشير أو السَّحر.
    والعاشرة الفجر الأول أو الكاذب، والحادية عشرة الصبح أو الفجر الثاني أو الصّادق؛ ومع طلوعه يتَبّين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والساعة الثانية عشرة هي المعترض أو الإسفار.
    أما ساعات النهار؛ فالأولى الذَّرور أو البكور، والثانية البزوغ أو الشروق، والثالثة الضحى أو الغُدوّ، والرابعة الغزالة أو الرّأد، والخامسة الهاجرة، والسادسة الزوال أو الظهيرة، والسابعة الدّلوك أو الرّواح، والثامنة العصر أو البُهْرة، والتاسعة الأصيل أو القَصْر، والعاشرة الصَّبوب أو الطَّفْل والحادية عشرة الحَدُور أو العشي، والثانية عشرة الغروب.
    وهل في الأذان دعوة إلى السلم والأمن ، الجواب نعم ، وقد انتفع منه أناس كثيرون ، وهو دعوة إلى أداء الصلاة فلا تفارقه صفة الدعوة ، ولا يبتعد عن الإنسان إذ صلى فرائض يومه ، إنما هو على موعد معه إذ يقترن بطلوع الفجر ، والأذان من مصاديق العبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
    لذا فهو من الوحي ، فذات الأذان عبادة وكذا فانه مقدمة للعبادة ، وهو هبة ونسيم سماوي ينفذ إلى قلوب المسلمين رجالاً ونساءً وهو بذاته تذكير بالله ، وشاهد على حمل النبوة نداء التوحيد برداء الأمن والسكينة والطمأنينة.
    وهذا التذكير من مصاديق صرفه للإرهاب عن الجوارح ، ومفاهيمه عن الأذهان .
    وفي الأذان دعوة للسلم والأمن إذ أنه يدل على تخصيص المسلمين وقتاً لعبادة الله ، ويتلون فيه القرآن ويؤدون أفعال الصلاة من قيام وركوع وسجود.
    ليكون الأذان زاجراً للمسلم وغير المسلم عن الإرهاب فهو باعث على الشفقة والرحمة ، وفيه إنكار للظلم والتعدي علانية وسراً.
    لقد سبق تشريع الأذان معركة بدر فهل كان من أسباب تحشيد قريش الجيوش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ومعركة أحد ، والخندق ، المختار نعم .
    إذ أغاظهم صرح المؤذنين باسمه مقترناً باسم الله عز وجل ، ومن معاني تكرار الأذان خمس مرات في اليوم إستئصال عبادة الأوثان ، وقد أذن بلال يوم فتح مكة حين كسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثمائة وستين صنماً في الكعبة ، و(عن ابن عباس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى الكعبة ثلاثمائة صنم فأخذ قضيبه فجعل يهوى به إلى صنم صنم وهو يهوي حتى مر عليها كلها)( ).
    وكان أذان بلال لصلاة الظهر يوم الفتح أمراً عظيماً ، وهو بذاته فتح ومدد ونصر .
    و(عن محمد بن إدريس الشافعي الأرزقي عن الواقدي عن أشياخه ، قالوا : جاءت الظهر يوم الفتح فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة ، وقريش فوق رءوس الجبال وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفا أن يقتلوا فمنهم من يطلب الأمان ، ومنهم من قد أومن فلما أذن بلال رفع صوته كأشد ما يكون قال : فلما قال : أشهد أن محمدا رسول الله .
    تقول جويرية بنت أبي جهل : قد لعمري رفع لك ذكرك ، أما الصلاة فسنصلي ، ووالله ما نحب من قتل الأحبة أبدا ، ولقد جاء إلى أبي الذي كان جاء إلى محمد من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه.
    وقال خالد بن أسيد : الحمد الله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم ، وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم.
    وقال الحارث بن هشام : واثكلاه ليتني مت قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة.
    وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث الجليل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بنية أبي طلحة.
    وقال سهيل بن عمرو : إن كان هذا سخطا لله فسيغيره الله.
    وقال أبو سفيان بن حرب : أما أنا فلا أقول شيئا ، لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصاة ، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم فأقبل حتى وقف عليهم.
    فقال : أما أنت يا فلان فقلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقلت كذا ، فقال أبو سفيان : أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
    ويبين الأذان للمسلمين والناس جميعاً خمس مرات في اليوم أموراً بخصوص الإرهاب وهي :
    الأول : التنافي والتضاد بين ذكر الله والإرهاب .
    الثاني : القبح الذاتي للإرهاب .
    الثالث : قانون نهي الأذان المتكرر عن الإرهاب .
    الرابع : الأذان إشراقة ايمانية يومية شاهد على صبغة السلم والأمن في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الخامس : حرمة المساجد ودور العبادة التي يرفع فيها الأذان وذكر الله ، قال تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ).
    وعن الحسن البصري قال (أدركت ثلاثمائة من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم منهم سبعون بدرياً كلّهم يحدّثونني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)( ).
    السادس : قانون الأذان دعوة إلى السلم والمودة والرحمة.
    السابع : قانون الأذان داعية متجددة إلى الله ، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
    الثامن : قانون الأذان من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
    التاسع : قانون نهي الأذان عن الإرهاب ، وبيانه لقانون عدم الحاجة إلى الإرهاب والتفجيرات .
    العاشر : وجوب شكر المسلمين لله عز وجل على مسائل :
    الأولى : تشريع الأذان .
    الثانية : دلالات فصول الأذان .
    الثالثة : تكرار الأذان خمس مرات في اليوم .
    الرابعة : إقتران أداء الصلاة باعلان الأذان .
    الخامسة : الأذان عنوان الوحدة والتآخي ، ووسيلة عبادية يومية للتألف ، ومن خصائص الأذان ودعوته للصلاة منع الذي يتدبر في معانيه عن الإرهاب ، والهّم به .
    السادسة : الشكر لله على الصدح بالأذان في مشارق ومغارب الأرض بعد أن كان في المدينة وحدها ، وحينما كان في المدينة اشتد حسد وغيظ المشركين ، وجهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل معارك الإسلام إبتداء من معركة بدر وقعت بعد تشريع الأذان ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
    أما الأن فان الأذان يعم ربوع الأرض بأمن وسلام ، ومن الشكر لله عز وجل على هذا العموم والإتساع الإمتناع عن الإرهاب ، وعدم إثارة الناس ضد الأذان والإسلام خاصة.
    الحادي عشر : الأذان مصداق من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
    الثاني عشر :الأذان تجديد للصلة بين المسلمين الأحياء والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيام البعثة النبوية .
    الثالث عشر : لقد تفضل الله عز وجل وأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى التوحيد ، وبيّن له سنخية هذه الدعوة ، فقال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) ثم تفضل الله عز وجل بتشريع الأذان ، وهو من الحكمة والموعظة الحسنة ، لبيان قانون من اللطف الإلهي وهو يأمر الله عز وجل بالشئ ثم يهيئ مقدماته ، ويأتي بالمدد والعون للإمتثال العام به.
    نهي آية [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ] عن الإرهاب
    من الإعجاز في قصص القرآن بيانها لشدة بطش الطواغيت ومحاربتهم للنبوة وإنتقامهم من المؤمنين ومنه قيام نمرود وقومه بجمع النيران لإبراهيم وإرادة حرقه لولا نجاته بمعجزة من عند الله ، ومنه سعي فرعون وقومه لقتل موسى عليه السلام ، وأخيه هارون ، ومن آمن برسالته ، وفي التنزيل [وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ] ( ).
    وقيام فرعون بالتهديد والوعيد الحاضر للسحرة لأنهم آمنوا برسالة موسى بعد تجلي معجزة العصا ، فقال لهم [لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ) وأختلف هل نفذ فرعون وعيده كما ورد عن (ابن عباس أنهم أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء) ( ).
    وقيل لم يقدر عليهم لقوله تعالى [فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ] ( ) وأختلف في عدد السحرة اختلافاً كثيراً بين ستمائة إلى سبعين ألفاً ، وقيل أخذوا السحر من رجلين من المجوس من أهل نينوى .
    وكما في أصحاب الأخدود ، قال تعالى [قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ] ( ) إذ أخذ المؤمنون رجالاً ونساءاً من قبل ملك جبار يعبد الأوثان ، وحفر لهم أخدوداً في الأرض ، وأوقد فيه النار ، ثم أقيموا عليها (فقال تكفرون أو نقذفكم في النار ، ويزعمون أنه دانيال وأصحابه ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس)( ).
    ولقد كانت قريش تعبد الأوثان ، وقد عرضوا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأموال والرياسة والنساء من أجل أن يترك الدعوة إلى الله ، فلم يمتنع من الدعوة والتبليغ ، ثم أنذروه وآذوه وحاصروه وأهل بيته ، وقتلوا بعض أصحابه تحت التعذيب ، ولكن آيات القرآن كانت تترى في نزولها ، فعزم كفار قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوقف نزول آيات القرآن التي كانت ولا زالت تجذب الناس للإيمان ، وتحارب الشرك ، وتذم الذين عبدوا الأوثان.
    لبيان الملازمة بين رئاسة الكفار والإرهاب ، ووجوب تنزه المؤمنين عنه ، سواء كانوا في السلطنة والأمرة ، أو كانوا من عامة الناس ، فما يميز أهل الإيمان الورع عن المحارم ، وبعث الطمأنينة في محيطهم ، وفي حلهم وترحالهم ، وإقامتهم واغترابهم.
    وتبين الآية محل البحث نزول الإذن من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع ،وهو من الشواهد على قوله تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] ( ) وحجة من وجوه:
    الأول : نزول الإذن من عند الله عز وجل بالدفاع لبيان إختصاص الله عز وجل بهذا الإذن ، وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع فساد طائفة من الناس وسفكهم الدماء ، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فمن علم الله سبحانه في المقام نزول الأمن من عنده سبحانه للذين آمنوا للدفاع بلحاظ أن قيام الكفار بقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه جامع للفساد وسفك الدماء .
    وهل يمكن القول بأن الإذن يكون بالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو أيضاً إذن من عند الله ، إنما أبى الله عز وجل إلا أن يكون هذا الأذى بآية قرآنية لا يأتيها التحريف ، ولا يطرأ عليها التغيير ، وتمتنع عن التأويل الخاطئ .
    فيكون تقدير [أُذِنَ] أي أَذن الله بمعنى رخّص وأجاز وشرّع.
    الثاني : لم تذكر الآية المأذون به ، ويحتمل جهات :
    الأولى : القتال ، وهو الظاهر .
    الثانية : مقدمات القتال ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
    الثالثة : الهجرة والإعراض عن الذين كفروا .
    الرابعة : إحراز المؤمنين الإذن من عند الله بالقتال من غير مزاولة للقتال ، لما في هذا الإحراز من وجوب التهيئ للدفاع ، وأسباب بعث الخوف في قلوب المشركين ، لتكون هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
    ولا تعارض بين هذه الجهات ، فليس من ملازمة بين الإذن ومباشرة القتال ، ونهي الآية عن الإرهاب وعن التفجيرات أو سفك الدماء لأن الإذن المطلق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يأت إلا بعد اشتداد ظلم الذين كفروا لهم ،وقيامهم بقتالهم .
    ولم يرد لفظ [أُذِنَ] بصيغة المبني للمجهول في القرآن إلا في آية البحث ، لبيان مسألة وهي أن الإذن بالقتال أمرنادر ولا يأتي إلا عند قيام المشركين بالقتال ، وهو من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
    الثالث : توثيق آية البحث لمسألة وهي تعرض المؤمنين للظلم من قبل المشركين .
    وقد ذكرت آية البحث أمرين تعرض لهما المؤمنون :
    الأول : الظلم .
    الثاني : القتال .
    والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، وهو من إعجاز الآية بالترتيب الزماني بسبق الظلم على القتال ، إذ كانت قريش تؤذي وتظلم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في مكة قبل الهجرة ، ثم قاتلوه بعد الهجرة ، وهذا القتال أشد ضروب الظلم ، كما أنه ظلم من الكفار لأنفسهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
    الرابع : الوعد من عند الله عز وجل بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في دفاعهم ضد المشركين المعتدين ، ليكون قوله تعالى [وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] ( ) بشارة ومقدمة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وإنذاراً للمشركين ، ودعوة لهم للكف عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزجراً للقبائل عن نصرة قريش.
    ومن إعجاز القرآن بلوغ هذه الإنذارات إلى القبائل بواسطة الوفود التي تأتي إلى مكة لأداء حج بيت الله الحرام ، وهو من مصاديق صيرورة دعوة إبراهيم عليه السلام للناس لحج البيت مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنذاراً للذين يقاتلونه.
    والأذان في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما تساءلوا عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).إذ تفضل الله عز وجل وجعل رسالة إبراهيم مقدمة لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهورها وإستدامة أحكامها إلى يوم القيامة .
    وتبين الآية شدة الأذى الذي أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في الدعوة إلى الله ، وكيف أنهم تلقوه بالصبر والمواظبة على الدعوة إلى الله ، وحتى في الأشهر الحرم وهي شهر رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ،حيث يحرم القتال والتعدي فيها ، فان المشركين يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسخرية والإستهزاء والضرب ، وتكذيب التنزيل.
    ولم يؤذن له بالقتال إلا بعد أن إنحصر الأمر بين الدفاع والقتل الذي يكون فيه إنقطاع التنزيل وأحكام الشريعة.
    ومن البشارة بحفظ وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين تمام نزول آيات وسور القرآن أن شطراً من أحكام الشريعة جاء في سورة المائدة ، وأنها تتضمن النسخ وما فيه من التخفيف عن أجيال المسلمين المتعاقبة ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
    وإذ أذن الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فليس من إذن بالإرهاب والتكفير ، والتفجيرات العشوائية أمس واليوم وغداً.
    لقد كان الإذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالقتال دفاعاً مشروعاً وحاجة وضرورة ،والضرورات تقدر بقدرها ، أي عندما يكف المشركون عن القتال يمتنع المسلمون عن قتالهم ، لذا قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) أما الأعمال الإرهابية فليس فيها إذن ، وهي من النواهي ، والتي يترشح عن فعلها الضرر المحض بالذات والغير ، ولا يتحقق بها نصر أو ظفر ، إنما هي أفعال فردية متناثرة تبعث الناس على الحيطة والحذر والوقاية منها ، مع النفرة من الذين يقومون بها ، والمناهج التي يتخذون .
    وهل تدل آية البحث [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا] ( ) على إنحصار الإذن بالقتال بحال الدفاع ، الجواب لا ، لأن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، ولكن عند الرجوع لآيات القرآن وهي تفسر بعضها بعضاً يتجلى قانون تقييد إنحصار الإذن بالقتال في حال الدفاع ، ومنه قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
    قانون استقراء حرمة الإرهاب بشواهد من السنة النبوية( )
    لقد جعل الله عز وجل قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المصدر الثاني للتشريع لأنهما من الوحي ، قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( ).
    ومن مصاديق حرمة الإرهاب في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحمله أذى قريش قبل الهجرة بالصبر ، وعدم الرد بالمثل ، ولكنه لم يكّل أو يمل أو يتوقف عن الدعوة إلى الله ، وإخبار الناس بأنه رسول مبعوث من عنده ، مع علمه بأن هذا الإخبار يغبظ قريشاً ، ويثير مكامن الحسد عندهم.
    وقال عثمان بن طلحة بعد أن دخل الإسلام وكان عنده مفتاح الكعبة (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الاسلام فقلت يا محمد العجب لك حيث تطمع إن اتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل يوما يريد ان يدخل الكعبة مع الناس فغلظت عليه ونلت منه وحلم عني)( ).
    لبيان مسألة وهي فتح قريش الكعبة للناس جميعاً ليدخلوها ، وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدخول مع الناس ولكنهم أغلظوا عليه ، في الوقت الذي ينفرد هو بالصلاة في الكعبة ليكون يوم فتحها من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
    لم يراع عثمان بن أبي طلحة حرمة البيت وكونه تعدى على النبي بمرأى ومسمع من الناس لجعلهم يصدون عن دعوته ، ويمتنعون عن الإستماع إلى آيات القرآن خصوصاً وأن الذين يحضرون لدخول الكعبة يدركون أنها بيت الله ، ويقرون بالفطرة أنه ما دام في الأرض بيت الله عز وجل فان التوحيد هو الذي يسود.
    ولا غرابة أن يكون الرسول من أهل وسكنة ذات البقعة الطاهرة التي فيها البيت الحرام ، ولم يجادله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمام هؤلاء الناس ، ولم يحتج عليه ، ولكنه أخبره بعلم من علوم الغيب إذ قال (لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت)( ).
    وأيهما أكبر هذا الإخبار أم الإحتجاج ، الجواب هو الأول ، لما فيه من إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتبدل نوعي في ولاية البيت الحرام.
    واحتمال تغيير ونسخ لما توارثته قريش من تقاسم المسؤوليات والرياسات بين أبناء قصي بن كلاب فكانت السقاية والرفادة بين بني عبد مناف.
    والرفادة إطعام الحجيج ، ويلتقي بنو هاشم وبنو أمية في النسب إلى عبد مناف.
    وكان عبد شمس بن قصي كثير الأسفار ، وهو جد أبي سفيان.
    واسم أبي سفيان هو : صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف( )، أي أنه يلتقي مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جده : عبد مناف بن قصي.
    وقد جرت دماء بين (بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وبين بني هاشم بن عبد مناف ، قبل وبعد البعثة النبوية الشريفة)
    وكانت الحجابة واللواء ودار الندوة بيد بني عبد الدار الذين سخروها لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فابتلوا بكثرة القتل بينهم خاصة في معركة أحد إذ سقط سبعة منهم من حملة لواء المشركين واحداً بعد الآخر كلما يحمله أحدهم يقتله الإمام علي عليه السلام ، وأخرهم كان غلامهم صواب .
    والحجابة سدانة البيت الحرام ، ومنها الولاية على مفتاح الكعبة ، والقيام بخدمته.
    ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عدوه لم ينكر معجزاته ، فلم يجادل عثمان فيما أظهره النبي محمد من علم الغيب ، وصيرورة مفتاح الكعبة بيده ، ويجعله حيث يشاء من المسلمين ، والذي هو من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( )، ونسخ ونقض ولاية المشركين للبيت الحرام ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
    إنما تبادر إلى ذهن عثمان أصحاب النبي محمد والذين فيهم مستضعفون وعبيد والذين هم يومئذ كالوزراء والأعوان في الدعوة إلى الله عز وجل وكان عثمان يظن بقاءه على الكفر فقال : هلكت قريش وذلت ، فاجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحال بما فيه دفع الوهم وهذا الظن عنه ، قائلاً (بَلْ عَمَرَتْ وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ)( ).
    لبيان العز والعمران والأمن الذي يأتي بسيادة الإسلام ، وهو الذي تحقق بعد فتح مكة وإلى يومنا هذا ، وبما يفوق التصور الذهني مما يستلزم الشكر لله عز وجل بتعاهد الأمن وإجتناب إيذاء الناس.
    ثم دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكعبة مع عامة الناس ولم يستطع عثمان بن أبي طلحة منعه ، إذ بقي مذهولاً مندهشاً من كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيه من البشارة وعلوم المغيبات.
    إذ قال عثمان (فوقعت كلمته مني موقعا فظننت أن الامر سيصير كما قال، فأردت الاسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا، فلما كان يوم الفتح قال لي يا عثمان : ائت بالمفتاح ” فأتيته به.
    فأخذه مني، ثم دفعه الي وقال : خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم الا ظالم، يا عثمان ان الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما وصل اليكم من هذا البيت بالمعروف)( ).
    وذكر في أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المفتاح أن عثمان بن أبي طلحة كان قد أعطاه يوم الفتح إلى أمه سلافة وامتنعت عن دفعه في بادئ الأمر ثم أدخلته (في حجزتها، وقالت: أي رجل يدخل يده ههنا)( ).
    وسلافة بنت سعد أحد بني عوف من الأوس ، ولكنها متزوجة في قريش ، مما يدل على الصلة والمصاهرة بين أهل يثرب وأهل مكة.
    وقد حضرت مع زوجها طلحة بن أبي طلحة ، معركة أحد مع الكفار فرأت مصرعه ، ومصرع ولديها الحارث ومسافع ابني طلحة.
    و(نذرت أن تشرب في قحف رأس عاصم الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة)( )، ثم أسلمت بعد.
    ففي معركة أحد يسقط اللواء من بني عبد الدار لقتله واحداً بعد آخر ، وبقي ساقطاً الى أن حملته امرأة من غير قريش وهي (عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيّةُ ، فَرَفَعَتْهُ لِقُرَيْشِ فَلَاثُوا بِهِ)( ).
    وأخرى يجعلون المفتاح عند امرأة من أهل يثرب ، وسيأتي التفصيل والبيان في باب تسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح الكعبة( ).
    وفيه وصية من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ولاة البيت الحرام في الأجيال والأزمنة المتلاحقة .
    ومع توالي الأحداث يوم فتح مكة وكثرة الصحابة من حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان عددهم عشرة آلاف فانه نادى على عثمان هذا بعد أن انصرف ليذكره بالحديث الذي جرى بينهما وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن المفتاح سيصل إلى يده وأنه يعطيه إلى من يشاء وبالوحي.
    قال عثمان (فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال: ” ألم يكن الذي قلت لك ؟ فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة ” لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت ” فقلت: بلى.
    أشهد أنك رسول الله) ( ).
    للتذكير بأن قتال بني عبد الدار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق ، وسقوط حملة اللواء منهم كان ظلماً لأنفسهم.
    قانون اللين في الدعوة
    لم يأت الأنبياء بالوصاية على الناس في عقولهم ومعتقداتهم إنما جاءوا بوجوب التوحيد ، وبيان أن الدنيا دار العبادة والصلاح ، قال تعالى [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] ( ) (عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا هلك المتنطعون) ( ).
    والتنطع : الغلو والتكلف في القول والعمل .
    لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتصف باللين ، وكان بسّاماً ويمنع من التشدد ، ويكره العنف ، وينهى عن الضرر ، ومن خصائص الإرهاب في هذا الزمان أنه من ضروب الغدر ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِى مُعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِى مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا) ( ).
    والمعنت هو الذي يشدد على نفسه ، ويملي على الناس ما فيه المشقة والصعوبة ، بينما جعل الله عز وجل الدين يُسراً ونعمة ، وفيه تخفيف ورخصة أكثر من عزائمه ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ).
    وتتجلى حرمة الإرهاب في ثناء الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) وتتجلى في السنة النبوية القولية ، وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها تتبين بوضوح في السنة الفعلية ، إذ كانت سيرته تأسيساً لقوانين حرمة الإرهاب ، ومانعاً من ظهوره في الأرض.
    فقد كان يحاربه عند الأسرة الواحدة وبين الأفراد عند الأمم والشعوب.
    ولم تكن آنذاك قوانين دولية وأنظمة خاصة تحكم سلوك قريش ، فيتصرفون في مكة حسب القوة والهوى الذي يرتكز على عبادة الأوثان فلا يطيقون ذمها لأن فيه شتماً لآبائهم الذين غادروا الدنيا ، وانقلاباً في المفاهيم والأعراف السائدة ، ومنها الغزو بين القبائل ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحرمة عبادتها ، وأجهزت عليه الفرائض العبادية إذ يقف المسلمون في صفوف متراصة في الصلاة اليومية ، ويسلمون بالأخوة الإيمانية بينهم .
    وهل من صلة بين الغزو الذي نهى عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأعمال الإرهابية ، وقتل الأبرياء ، الجواب نعم ، فكل منهما يجعل عامة الناس في خوف يومي على أنفسهم وأموالهم ، ويبعث النفرة في النفوس من الجهة التي تريد تعريضهم للهلاك وأموالهم للتلف .
    ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) نهي كل من القرآن والسنة عن الإرهاب ، ومنع إنخراط الشباب فيه ، ويدعو القرآن والسنة الآباء والأمهات إلى حسن تربية الأبناء وبث روح التسامح والصفح والعفو ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
    لقد كانت مدة البعثة النبوية ثلاثاً وعشرين سنة ، منها ثلاث عشرة سنة في مكة ليس فيها إلا الصبر وتحمل الأذى من المشركين ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد على أذاهم ، ولم يطلب اغتيال أحدهم ، ولا الثأر لشهداء مثل سمية بنت خياط ، إنما كان يدعو إلى الصبر ، ويبشر بالفرج واستئصال الإرهاب.
    عن ابن إسحاق قال (وكان ياسر عبداً لبني بكر من بني الأشجع بن ليث فاشتروه منهم، فزوجوه سمية أم عمار، فولدت عمار، وكانت سمية أمة لهم، فأعتقوا سمية، وعماراً، وياسراً) ( ).
    وكان نزول آيات القرآن على نحو التوالي تقويضاً للطغيان والعتو والإرهاب ،حتى إذا عزمت قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحددوا ساعة التنفيذ في ذات ليلة المبيت نزل جبرئيل بالأمر بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليتغير التأريخ والمجتمع نحو الصلاح وإلى يوم القيامة ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد لبيان إجتماع مصاديق الرحمة فيها بليلة ويوم واحد.
    ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) قانون اليوم الواحد من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين لما فيه من مقدمات الصلاح والقضاء على الإرهاب .
    ومن سبل هذا القضاء أمور :
    الأول : توالي نزول آيات القرآن، ومن إعجاز الآية القرآنية أنها تأديب وإصلاح في منطوقها ومفهومها ، وباعث للسجايا الحميدة ، وحرب على الظلم والتعدي .
    الثاني : مدرسة الصبر النبوية ، إذ تصاحب أيام البعثة النبوية كلها ، وبين الصبر وبث الرعب تضاد ، والإرهاب رعب وتخويف للآباء والناس الآمنين لذا فهو يتنافى وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الثالث : الخلق الكريم الذي يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأثره في تهذيب النفوس .

    معنى غيبوا مفتاح الكعبة
    لقد دفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح الكعبة لعثمان بن أبي طلحة يوم فتح مكة ليس عن إستحقاق ، إنما بفضل من الله ورسوله (قالوا: وأعطاه المفتاح ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطبع بثوبه عليه، وقال : غيبوه)( ).
    وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم (غيبوه) مسائل :
    الأولى : لم يقصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجهة التي تستلم المفتاح خصوص عثمان بن أبي طلحة ، ولا أولاده من بعده وحدهم ، إنما المراد العناية والحفظ للكعبة.
    الثانية : العناية بالمفتاح فانه أمانة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
    وفي نزول هذه الآية ورد عن ابن عباس أنه (قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة ، فلما أتاه قال : أرني المفتاح . فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قدم العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية . فكف عثمان يده.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرني المفتاح يا عثمان . فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى . فكف عثمان يده ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح . فقال : هناك بأمانة الله .
    فقام ففتح باب الكعبة ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما للمشركين – قاتلهم الله – وما شأن إبراهيم وشأن القداح.
    ثم دعا بجفنة فيها ماء ، فأخذ ماء فغمسه ثم غمس بها تلك التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة ، ثم قال : يا أيها الناس هذه القبلة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ، ثم قال { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }( ) حتى فرغ من الآية) ( ).
    الثالثة : عدم ترك المفتاح عند النساء والصبيان وعدم بعث العبيد مثلاً بالمفتاح لفتح باب الكعبة .
    الرابعة : مفتاح الكعبة عهد وأمانة من الله ورسوله ، فلا يجوز التفريط به وتعريضه للسرقة .
    الخامسة : الإمتناع عن بيع أو هبة المفتاح أو جعله جزء من الشركة في قسيمة الميراث .
    السادسة : ترك عرض مسؤليات مفتاح الكعبة للخلاف والخصومة .
    السابعة : إجتناب جعل الولاية على المفتاح والكعبة والحجابة مغنماً ووسيلة للجاه والمكاسب .
    الثامنة : الحيطة والحذر من أسباب الحسد على ولاية المفتاح .
    التاسعة : لزوم التعاون في حفظ مفتاح الكعبة .
    العاشرة : صحيح أن الأمر (غيبوه) موجه إلى عثمان وإخوته إنما يتضمن في مفهومه دعوة المسلمين والحكام منهم إلى حفظ الكعبة ومفتاحها وتنظيم الدخول إليها.
    الحادية عشرة : الإشارة النبوية بأن ولاية الكعبة والعناية بها لا تختص بالمفتاح إنما هي مسؤولية أولي الأمر والحكام والفقهاء ، وهي جزء من تهيئة سبل أداء المسلمين والمسلمات مناسك الحج والعمرة .
    الثانية عشرة : منع النزاع وأسباب الإرهاب بسبب مفتاح الكعبة.
    الثالثة عشرة : لولا قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غيبوه لرأيت بعض ولاة البيت في الأزمنة اللاحقة لأيام النبوة يجعل المفتاح قلادة في رقبته ، وبعضهم يتخذ إظهاره بين الناس وسيلة للرياسة أو لجمع المال.
    فأراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (غيبوه ) درء الفتنة التي قد تترشح عن مفتاح الكعبة ، وتكون سبباً لأخذه منهم وتداول الأيدي له ، وصيرورته سبباً للخلاف ، والإقتتال ، وقد تعرض الحجر الأسود مع قدسيته إلى النهب من قبل القرامطة سنة 317هجرية-908 م عندما أغاروا على البيت الحرام ، وغيبوا الحجر الأسود عندهم عدة سنين.
    قال ابن الأثير فلما رد القرامطة الحجر الأسود (حملوه إلى الكوفة، وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة) ( ).
    وقيل كسر عدد من الإبل عندما حملوه من مكة بينما أعيد على بعير واحد .
    الرابعة عشرة : وفي قول النبي محمد (غيبوه ) إحتراز من الإرهاب ، ودعوة لإجتناب الفتنة الخاصة والعامة بخصوص الكعبة والبيت الحرام ، وفيه دعوة للمسلمين لعدم إيلاء عناية فائقة بمفتاح باب الكعبة ، إنما جعل الله عز وجل الكعبة قبلة للمسلمين ، وقال تعالى [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ] ( ).
    وهذا الوصف للكعبة من إعجاز القرآن وبيان موضوعيتها في حياة الناس ، إذ يلجأ إليها المؤمنون ، ويأمن فيها الخائف ، ويستجير عندها المظلوم ، ويتوجه إليها وفد الحاج كل عام ، وتبين الآية أنها سبب للرزق الكريم والبركة ، ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (قياما للمسلمين) إنما قالت قياماً للناس لإنتفاع أهل الأرض ، لبيان أمور :
    الأول : قانون استقبال المسلم للكعبة في الصلاة مانع له من الإرهاب والتفجيرات .
    الثاني : قانون الكعبة هبة من الله للناس جميعاً .
    الثالثة : قانون إنتفاع الناس جميعاً من استقبال المسلمين للكعبة .
    الرابع : قانون الكعبة عنوان وحدة المسلمين ، وتعاهد أحكام الفرائض (عن ابن عباس في قوله { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} قال : قياماً لدينهم ومعالم لحجهم) ( ).
    ولو دار الأمر في الألف واللام هل تفيد الجنس والعموم أم الخصوص ، الجواب هو الأول لأصالة العموم (ولفظ الناس هنا عام وقيل أراد العرب خاصة لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة)( ).
    وقوله (قيل) أعلاه تضعيف لهذا القول الذي هو خلاف لغة القرآن ، والآيات التي تخص البيت الحرام ، ومعاني العموم والشمول فيها ، كما في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
    وقوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
    وقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) وقوله تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
    قانون حفظ القرآن مانع من الإرهاب
    الحفظ : الحراسة وتعاهد الشئ ، يقال (حَفِطْتُ الشيءَ حِفْظاً، أي حَرَسْتُه. وحَفِظْتُهُ أيضاً بمعنى استظهرته. والحَفَظَةُ: الملائكةُ الذين يكتُبونَ أعمالَ بني آدم) ( ).
    ومن معاني العصمة : الحفظ .
    والحفظ والذكر نقيض النسيان ، وحفظ القرآن في الإصطلاح استظهاره وتلاوته عن ظهر قلب .
    لقد جعل الله عز وجل القرآن كتاب التشريع والسنن والأخلاق الحميدة ، وهو علم البصائر .
    وقد كان حفظ القرآن في أيام النبوة حاجة للمسلمين ، لما فيه من تعضيد للتدوين ، وكان القرآن يكتب في العسب أي جريد النخيل ، واللحاف وهي صفائح الحجارة.
    والإقتاب وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير.
    ويكون كل من الحفظ والتدوين مانعاً من ضياع كلمة أو حرف منه ، وقد حضّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حفظ القرآن عن ظهر القلب ، وبيّن الثواب العظيم في حفظه .
    قال صلى الله عليه وآله وسلم ({ مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ })( ).
    وعن الإمام علي عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اعلمك دعاء لا تنسى القرآن، قل: اللهم ارحمني بترك معاصيك أبدا ما أبقيتني، وارحمني من تكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك) ( ).
    لبيان مسألة وهي حفظ القرآن زاجر عن الإرهاب الذي هو أشد من التكلف فيما لا يعني الإنسان ، وخلاف حسن النظر ، ومرضاة الله سبحاته.
    لقد جعل الله عز وجل القرآن نوراً يملأ الآفاق ويهدي إلى الصراط ، ومن خصائصه أن حفظه وتلاوته حصن للجوارح من المعصية.
    ترى ما هي النسبة بين المعصية والإرهاب ، المختار أنها العموم والخصوص المطلق .
    وهل حفظ بعض آيات وسور القرآن يصدق عليه حفظ القرآن الجواب نعم بدليل قوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) والمراد صلاة الصبح ، نعم معنى مسألة حفظ القرآن هو حفظ القرآن كله ، وهو لا يمنع من حفظ أجزاء أو سور من القرآن.
    والنسبة بين أهل القرآن وحفظته هو العموم والخصوص المطلق ، فأهل القرآن أعم ، فيشمل كلاً من :
    الأول : تالي القرآن .
    الثاني : حافظ القرآن .
    الثالث : الذي يقوم بتفسير القرآن .
    الرابع : الذي يتخذ القرآن سلاحاً ووسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه إتخاذ القرآن حجة في النهي عن الإرهاب والتفجيرات وسفك الدماء .
    ومن خصائص حفظ القرآن مصاحبته للإنسان في حله وترحاله ، وليله ونهاره ، ليكون سبيل هداية وصلاح ، إذ يستحضره عند القول والفعل ، ويتخذه حجة وبرهان وداعياً إلى الله ، وفيه الأجر والثواب .
    وهل يختص هذا الأجر بما إذا كان حافظ القرآن يقظاً أم يشمله حتى وإن كان نائماً ، المختار هو الثاني ، وهو من فضل الله وسعة رحمته .
    ومن إعجاز القرآن أن الإنشغال به تلاوة وحفظاً ودراسة برزخ دون الإرهاب والظلم والتعدي ، لذا يجب الترغيب بحفظ القرآن وآداب التلاوة ، والتدبر في معانيه.
    وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، الجواب نعم ، وفيه بعث وطمأنينة في النفوس بسلامة القرآن من التحريف ، وبالتعاهد الخاص والعام لهذه السلامة ، وكما أن هذا التعاهد وسيلة لإستدامة سلامة القرآن من الزيادة أو النقص ومانع من الميل إلى الإنحراف والعنف.
    ومن خصائص كلام الله إضفاؤه الرحمة على الذي يتلوه وهي مدد له في العمل بأحكامه وسننه ، لذا فمن إعجاز تلاوة القرآن في الصلاة اليومية أنها وسيلة سماوية مباركة للتنزه عن الإرهاب والظلم والعنف.
    ومنه تلاوة سورة الفاتحة التي تجب قراءتها في كل صلاة من الصلوات اليومية الخمس ، ومن خصائصها أنها ثناء على الله ودعاء وليس فيها قتال أو عنف.
    وهل في تلاوة كل مسلم ومسلمة لها كل يوم حجة على الذي يقوم بالفعل الإرهابي والذي يهيئ له مقدماته ويبذل له المال ، الجواب نعم .
    فقد أراد الله عز وجل للمسلمين بتلاوة سورة الفاتحة في كل صلاة التـأديب والإصلاح والرشاد والعصمة من التعدي ومن الظلم ، ومنه الحجة بالجهد بالصلاة والتلاوة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، لينتفع من هذا الجهد وأدائه بحال الخشوع والخضوع التالي للآيات والمستمع والسامع لها ، مسلماً كان أو غير مسلم ، ليتجلى قانون وهو تلاوة سورة الفاتحة في الصلاة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
    قانون الإرهاب ضد للنبوة
    من إعجاز القرآن إخباره عن الملازمة بين النبوة ووجود الإنسان في الأرض ، فلا يقدر على هذا الإخبار والقطع به إلا الله عز وجل ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، ويحتمل وجوهاً :
    الأول : إبتداء الوحي في السماء .
    الثاني : كان كلام الله عز وجل لآدم مباشرة وقبُلاً من غير حجاب.
    الثالث : قد يكون التعليم بتلقين وكيفية أكبر من الوحي .
    ولا تعارض بين هذه الوجوه .
    وفي حديث الصور الطويل الذي رواه ابن كثير عن الطبراني في كتابه (الطوالات) وفي باب رجاء الذين لم يدخلوا الجنة (يقولون : سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سُبُّوح قدوس قدوس قدوس، سبحان ربنا الأعلى، رب الملائكة والروح.
    سبحان ربنا الأعلى، الذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه، ثم يهتف بصوته يا معشر الجن والإنس، إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم.
    فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
    ثم يأمر الله جهنم، فيخرج منها عنق (مظلم) ساطع ، ثم يقول [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( )، أو : بها تكذبون – شك أبو عاصم [وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ]( ).
    فيميز الله الناس وتجثو الأمم . يقول الله تعالى [وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، فيقضي الله عَزَّ وجل، بين خلقه، إلا الثقلين الجن والإنس، فيقضي بين الوحش والبهائم، حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن، فإذا فرغ من ذلك، فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى قال الله (لها) كوني ترابًا. فعند ذلك يقول الكافر [يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا]( ).
    ثم يقضي الله عَزَّ وجل بين العباد ، فكان أول ما يقضي فيه الدماء، ويأتي كلّ قتيل في سبيل الله عَزَّ وجل، ويأمر الله عَزَّ وجل كلّ قتيل فيحمل رأسه تَشْخُب أوداجه يقول : يا رب، فيم قتلني هذا.
    فيقول : وهو أعلم : فيم قتلتهم؟ فيقول: قتلتهم لتكون العزة لك. فيقول الله له: صدقت. فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة…الحديث)( ).
    وقد رواه أيضاً البيهقي في كتاب البعث والنشور وابن جرير في تفسيره ، وهذا الحديث ضعيف سنداً ، خاصة باسماعيل بن رافع( )، قاضي أهل المدينة.
    وفي مضامين الحديث نكارة ، وهو غير حديث الشفاعة الطويل أيضاً ، وكل منهما روي عن أبي هريرة يرفعه، إلا أن الحديث لا يطرح كله ، لورود بعض سياقاته ومضامينه في أحاديث نبوية أخرى.
    وكما أكرم الله عز وجل الإنسان بأن جعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، فان الله عز وجل أكرم الأرض بأن جعلها محل سكن وإمامة الأنبياء ، وأن أول من هبط عليها هو نبي رسول ، ومنهم من قال أن آدم نبي وليس رسولاً ، والمختار هو الأول .
    وفي حديث أبي ذر (قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: “مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا”. قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: “ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمّ غَفِير”. قلت: يا رسول الله، من كان أولهم ، قال : “آدم”. قلت: يا رسول الله، نبي مرسل ، قال : نعم ، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سَوَّاه قِبَلاً)( ).
    وهبطت مع آدم زوجته حواء التي خلقها الله في الجنة أيضاً، ورأت بديع صنع الله ، والتقت الملائكة ، واستمعت لهم ، وأدركت أن آدم لم يهبط إلا بصفة النبوة وتبليغ الأحكام الشرعية لها ولذريتها من الأبناء الصلبيين والأحفاد .
    وقد هبط معهما إبليس ليكون الرأس والقائد في الإرهاب والداعية إليه ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
    لقد رنّ وأنّ إبليس في حالات ووقائع منها صبر أيوب وعجز إبليس عن فتنته وجزعه مع شدة البلاء والداء والمرض الذي إبتلاه الله عز وجل به ، ومنها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من مصاديق الرحمة بالناس ، وإشاعة روح الألفة.
    قانون سكن آدم في الجنة نهي عن الإرهاب
    لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بأن جعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ترى لماذا جعل الله أول سكن آدم وحواء في الجنة مع أنه خلقهما وذريتهما للحياة في الأرض وعمارتهم لها بالعبادة والذكر ، الجواب إنه من بديع صنع الله.
    وفيه من الآيات والنعم الظاهرة والخفية والمستقرأة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل منها :
    الأول : إكرام الإنسان .
    الثاني : موضوعية نفخ الله من روحه في الإنسان ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
    الثالث : دعوة الملائكة لإكرام الإنسان، وبيان أن سكنه في الأرض لا يقل شأناً عن السكن في العالم العلوي .
    إذ زاد الله عز وجل على أهل الأرض بالخلافة فيها ، وليس عند الملائكة خلافة في السماء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
    الرابع : البشارة العملية والشواهد على إمكان عودة الإنسان إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح ،ومن الآيات أن آدم وحواء حينما سكنا الجنة لم يخالطا المعصية ، وحالما خالفا النهي عن الأكل من الشجرة كما في قوله تعالى [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) ولم يرد لفظ [تَقْرَبَا] في القرآن إلا مرتين وبذات موضوع آدم وحواء والشجرة .
    الخامس : تهيئة الملائكة للنزول بالوحي إلى الأنبياء ، فحالما هبط آدم إلى الأرض اتصل به الملائكة وصاروا يواسونه ، ويبينون له الأحكام .
    السادس : جعل الملائكة على استعداد لنصرة الأنبياء في دفاعهم عن عقيدة التوحيد والنبوة والتنزيل ، لبيان أن من خصائص خلافة الإنسان في الأرض تعضيد وإعانة الله له بالملائكة .
    السابع : ترغيب الناس بالإيمان والصلاح كسبيل لدخول الجنة .
    الثامن : منع الناس من الإرهاب لأنه ظلم وضد للصلاح ، قال تعالى [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ).
    لبيان حتمية البعث والنشور ، وصيرورة الإنسان إلى الجنة أو النار ، وإنعدام البرزخ ومحل الإقامة الوسط بينهما ، وفيه تأكيد للزجر عن الإرهاب الذي لا يجلب إلا الأذى والخزي للإنسان في الدنيا والآخرة .
    و(عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم ألا أن كل ما هو آت قريب ، ألا إنما البعيد ما ليس بآت) ( ).
    وتتضمن آيات سكن آدم في الجنة وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخصوص دعوة للمسلمين والناس جميعاً للسعي الحثيث في الخيرات وإكتناز الصالحات ، للتوفيق لدخول الجنة ، وإجتناب الإرهاب الذي يبعد الإنسان عنها ويحرمه من شم رائحتها فضلاً عن الإقامة فيها .
    وهل تؤخذ حسنات الذي يقوم بالعمل الإرهابي لتعطى للذي يظلمه ويقع عليه العمل الإرهابي ، المختار نعم .
    وعن (شيخ من الأنصار ، عن سالم مولى أبي حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليجاءن بقوم يوم القيامة معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جيء بهم ، جعل الله أعمالهم هباء ، ثم قذفهم في النار ، قال سالم : بأبي وأمي يا رسول الله ، جل لنا هؤلاء القوم حتى نعرفهم ، فوالذي بعثك بالحق إني لأتخوف أن أكون منهم.
    قال : كانوا يصومون ، ويصلون ، ويأخذون هنة من الليل ، ولكن كان إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليها ، فأدحض الله أعمالهم) ( ).
    وفي الحديث نهي عن المناجاة بالعمل الإرهابي والإغراء بالثغرات وحال الطمأنينة عند الناس ، فهي ليست غفلة إنما إمتحان.
    قانون نهي آية عن الإرهاب
    لقد جعل الله عز وجل القرآن كتاب الأحكام ، إذ تنفذ أوامره ونواهيه لنواحي الحياة المختلفة في رحمة للناس جميعاً ، ولتتغشى أحكام القرآن مستحدثات المسائل من غير أن يتعارض مع الفرائض الواجبة ، والسنن الثابتة.
    وهل تدخل هذه المستحدثات في الأحكام التكليفية الخمس ، الجواب نعم ، ومنه ظاهرة الإرهاب التي جاء القرآن بتحريمها لما فيها من أمور :
    الأول : الضرر على الذات .
    الثاني : إدخال الذي يفعل العمل الإرهابي الحزن على والديه وذوي قرباه .
    الثالث : سفك الدماء وكثرة القتل بالعمل الإرهابي .
    الرابع : الإضرار العام والجراحات والأمراض النفسية التي يسببها الإرهاب حتى بالنسبة للذي لم يطاله ضرره مباشرة .
    ولذا تفضل الله عز وجل وأنقذ الناس من الإرهاب بآيات عديدة من القرآن ، ويتجلى هذا الإنقاذ في نبذ المسلمين له ، ولا عبرة بالقليل النادر ، إذ تذّكر آيات القرآن المسلم بالقبح الذاتي للإرهاب ، وتدعوه للإنصراف عنه .
    ويأتي هذا التذكير من جهات :
    الأولى : منطوق الآية القرآنية بالنص وبيان حرمة الإرهاب كما في قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
    الثانية : مفهوم الآية ودلالة معناها ، وقد تجمع الآية النهي عن الإرهاب في منطوقها ومفهومها ، كما في قوله تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] ( ) .
    إذ يدل قوله تعالى [وَمَنْ أَحْيَاهَا]في مفهومه على حرمة الإرهاب ، وعلى الأجر والثواب في النهي عنه .
    ولو كان إنسان ينوي عملاً إرهابياً ويمنعه أحدهم ويحول دون فعله ، فهل يكون هذا الناهي ممن أحيا نفساً ، الجواب نعم.
    وعن(محمد بن يوسف القاضي يقول اعتل أبي علة شهورا فأتيته ذات يوم ودعا بي وبإخوتي أبي بكر وأبي عبد الله فقال لنا رأيت في المنام كان قائلا يقول كل لا واشرب لا فإنك تبرأ.
    فقال له أخي أبو بكر إن لا كلمة وليست بجسم ولا ندري ما معنى ذلك.
    وكان بباب الشام( ) رجل يعرف بأبي علي الخياط حسن الدراية بعبارة الرؤيا فجئنا به فقص عليه المنام.
    فقال ما أعرف تفسير ذلك ولكني اقرأ في كل ليلة نصف القرآن فاخلوني الليلة حتى أقرأ رسمى من القرآن وافكر في ذلك فلما كان من الغد جاءنا فقال مررت البارحة وأنا أقرأ على هذه الآية شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية فنظرت إلى لا وهي شجرة الزيتون اسقوه زيتا وأطعموه زيتونا قال ففعلنا فكان سبب عافيته) ( )( ).
    وإذا كانت آيات القرآن تأويلاً للرؤيا وسبباً لشفاء المريض ، فمن باب الأولوية القطعية أنها واقية من الإرهاب ، وعلاج وطريق للتوبة ، والإقلاع عن الإرهاب ، فلابد من الإجتهاد في استنباط القوانين والمسائل التي تتعلق بحرمة الإرهاب من ثنايا آيات القرآن وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
    الثالثة : الجمع بين آيتين من القرآن ، فقد لا يدل ظاهر موضوع آية مخصوصة على حرمة الإرهاب والنهي عنه، ولكن يتجلى هذا النهي بالجمع بينها وبين آية أخرى .
    من آيات النهي عن الإرهاب
    لقد جعل الله عز وجل القرآن دستوراً للهداية وبيان صالح الأعمال ، والترغيب باتيانه ، وبشر بالثواب على فعله ، وذكر المنكر والقبيح من الأعمال وزجر عنه وتوعد عليه العقاب ، ومن الآيات التي تحذر وتنهى عن الإرهاب :
    الأولى : آيات الخشية والرهبة والخوف من الله عز وجل ، مثل قوله تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
    الثانية : آيات الصلح والسلم والموادعة كما في قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، وقوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
    الثالثة : آيات التراحم .
    الرابعة : آيات العفو والتسامح ، ومنها قوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وقوله تعالى [وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    وقوله تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
    وقوله تعالى [مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وقوله تعالى [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
    لبيان أن العفو عن الجاني عمل صالح ، وأنه لا يتعارض مع العدل ، ولا يحل بديلاً أو ناسخاً له ، إنما هو مرتبة تتقوم باجتناب الإنتقام والتعامل بالمثل لبيان قانون وهو تنمية القرآن للأخلاق الحميدة ، وإشاعة العفو والصفح ، وجعله محل تفاخر وعز ورجاء للأجر والثواب من عند الله سبحانه.
    ولم يكن العفو والصفح خاصاً بالإسلام والشريعة التي جاء بها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ جاء به الأنبياء السابقون أيضاً ، وهو من مصاديق نفخ الله من روحه في آدم ، ومصاديق خلافة الإنسان في الأرض وأسباب استدامة الحياة على الأرض ، والصلات الإجتماعية فيها.
    وأظهر آدم الحزن عندما قتل ولده قابيل أخاه هابيل ، فلم يقتص منه آدم.
    والمختار أن حكم القصاص لم يكن موجوداً عند وقوع هذا القتل ، وعدم وجوده ابتداءً لا يتعارض مع قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، ولم يبين القرآن عاقبة قابيل ، بعد أن كان سبب القتل هو قبول الله لقربان هابيل دون قابيل ، ولم تثبت قصة الزواج من الأخوات ، وقيل هي من الإسرائيليات .
    وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (رن إبليس أربع رنات : أولهن يوم لعن، وحين اهبط إلى الأرض، وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله على حين فترة من الرسل، وحين انزلت ام الكتاب، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة ، وحين اهبط من الجنة)( ).
    ومعنى رنّ أي صاح جزعاً وحزناً ، والنخير : صوت بالأنف للدلالة على فرح إبليس عندما أكل آدم من الجنة ، وأهبط إلى الأرض ، لبيان أن تقوم عداوة ابليس لآدم وذريته بالحسد ، ومن خصال الإيمان التنزه عن الحسد ، والحسد من أسباب الإرهاب.
    وعندما علم آدم بقتل قابيل اكتفى بلعن هابيل وإظهار الآسى ثم توجه إلى الله عز وجل بالدعاء ليبشره الله بولد زكي اسمه هبة الله إذ ورد عن الإمام (علي بن الحسين عليه السلام يحدث رجلاً من قريش قال: لما قرب أبناء آدم القربان قرب أحدهما أسمن كبش كان في ضأنه، وقرب الآخر
    ضغثا ” من سنبل فتقبل من صاحب الكبش وهو هابيل، ولم يتقبل من الآخر، فغضب قابيل.
    فقال لهابيل : والله لأقتلنك، فقال هابيل [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ]( ).
    فلم يدر كيف يقتله حتى جاء إبليس فعلمه فقال: ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه، فلما قتله لم يدر ما يصنع به فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر الذي بقي الأرض بمخالبه ودفن فيه صاحبه.
    قال قابيل : ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فاواري سوأة أخي فأصبح من النادمين ” فحفر له حفيرة ودفن فيها فصارت سنة يدفنون الموتى، فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل.
    فقال له آدم : أين تركت ابني قال له قابيل: أرسلتني عليه راعيا.
    فقال آدم : انطلق معي إلى مكان القربان وأحس قلب آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان قتله، فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، وامر آدم أن يلعن قابيل، ونودي قابيل من السماء : لعنت كما قتلت أخاك، ولذلك لا تشرب الأرض الدم، فانصرف آدم فبكى على هابيل أربعين يوما وليلة ، فلما جزع عليه شكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه : إني واهب لك ذكرا ” يكون خلفا ” من هابيل، فولدت حواء غلاما ” زكيا ” مباركا ، فلما كان يوم السابع أوحى الله إليه: يا آدم إن هذا الغلام هبة مني لك فسمه هبة الله، فسماه آدم هبة الله)( ).
    لقد فتح الله عز وجل لآدم وذريته باب الدعاء الذي تأتي به النعم إبتداء ، ومضاعفة ، وبديلاً ، وعوضاً لما فات منها فان قلت حتى وإن فاتت النعمة عن تفريط أو تعد ، الجواب نعم ، وهو من الإطلاق في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
    الخامسة : صبغة الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، وقد ورد لفظ (بالحكمة) مرتين في القرآن .
    السادسة : قانون جهاد الأنبياء بالبينات والأمارات وصيغ البرهان ، وورد بخصوص عيسى عليه السلام [وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
    لبيان سنخية دعوة الأنبياء الى الله وهي الحكمة ، ومنها :
    الأول : الحجة والبرهان .
    الثاني : اللطف والإحسان .
    الثالث : إجتناب الغضب والإكراه .
    الرابع : الإمتناع عن الإرهاب ومقدماته.
    ومن معاني الجمع بين آيتي (بالحكمة) أعلاه وجوه :
    الأول : دعوة الأنبياء للإيمان بالحكمة ، وذكر عيسى عليه السلام من باب المثال الأمثل .
    الثاني : الأمر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة بالحكمة ، من مصاديق قوله تعالى [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
    الثالث : كفاية الدعوة إلى الله بالحكمة .
    الرابع : قانون التضاد بين الحكمة والإرهاب ، مما يدل على عدم جواز الدعوة إلى الله بالإرهاب والتخويف
    وعن (محمد بن عمر الواقدي ، عن عبد الله بن عمر بن علي، عن أبيه، سمعت علي بن الحسين عليه السلام قال : كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نعلم السورة من القرآن ( ).
    ترجمة الواقدي
    الواقدي (130-207) هجرية هو محمد بن عمر بن واقد من موالي بني سلم من قبيلة أسلم العربية.
    قال ابن قنفذ (وفي سنة ست ومائتين توفي عبد الله بن نافع صاحب مالك وكان أمياً لا يكتب. وفيها توفي قطرب النحوي صاحب المثلث وأخذ عن سيبويه.
    وفي التي تليها توفي محمد بن عمر الواقدي)( ).
    ولد في المدينة المنورة وهو من أوائل من كتب التأريخ والسير ، قدم بغداد في أيام المأمون فتولى القضاء في الرصافة إلى حين وفاته.
    وسبب صلته مع خلفاء بني العباس قيام يحيى بن خالد البرمكي بتقريبه إليهم إذ أدخله على هارون الرشيد عند زيارته المدينة المنورة سنة 170 للهجرة.
    وبقي الواقدي يترحم على البرامكة حتى بعد نكبتهم .
    ومن مداراته للعباسيين حذف اسم العباس بن عبد المطلب من أسماء الأسرى يوم بدر خلافاً لأخبار السنة النبوية والإجماع .
    وكما نعت ابن إسحاق بالتشيع فقد نعت ابن النديم الواقدي بالتشيع خاصة وأنه فصّل مقتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
    ومن شيوخ الواقدي الأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وثور بن يزيد ، وأبو بكرة بن زيد .
    وحديث (مغازي النبي) أعلاه لا يخلو من ضعف ، وعلى فرض صحة السند فانما ورد لفظ (مغازي) للبيان.
    وللواقدي مؤلفات كثيرة منها كتاب التأريخ الكبير وفيه أخبار البعثة النبوية والهجرة والوقائع الإسلامية إلى سنة 179 هجرية أي قبل ذهابه إلى بغداد.
    وقد اقتبس منه الطبري في كتاب تأريخ الرسل والملوك ، ومنها:
    الأول : كتاب المغازي ، وهو أشهر كتبه ، بمنهاج منه .
    الثاني : تأريخ الكتيبة أو السرية باليوم والشهر والسنة.
    الثالث : مقدمات القتال .
    الرابع : كتاب الردة والدار .
    الخامس : كتاب أخبار مكة .
    السادس : كتاب الجمل .
    السابع : كتاب صفين .
    الثامن : كتاب ضرب الدنانير والدراهم.
    التاسع : كتاب فتوح الشام.
    العاشر : كتاب فتوح العراق.
    الحادي عشر : كتاب مقتل الحسين ، وغيرها.
    وقيل أن بعص الكتب التي نسبت اليه لم تصح نسبتها هذه.
    وقيل له نحو ثلاثين كتاباً ، ومن كتبه ما فقد وضاع ، أو أن اقتطعت موضوعاته وذكرت باسماء آخرين.
    ومشهور الرجاليين رموه بالضعف خاصة في الحديث ، ومنهم من وجه إليه اللوم لتوليه القضاء .
    و(قال ابن معين: ليس بثقة.
    وقال مرة : لا يكتب حديثه، وقال البخاري وأبو حاتم: متروك.
    وقال أبو حاتم أيضا والنسائي: يضع الحديث.
    وقال الدار قطني: فيه ضعف)( ).
    وقال أحمد بن حنبل (كان الواقدي يقلب الأحاديث يلقى حديث بن اخي الزهري على معمر ونحو هذا)( ).
    ومن الرجاليين من اثنى عليه حتى في رواية الحديث .
    قال الذهبي عن مجاهد بن موسى (ما كتبت عن أحد أحفظ من الواقدي.
    قلت: صدق، كان إلى حفظه المنتهى في الاخبار والسير، والمغازى والحوادث وايام الناس، والفقه، وغير ذلك.
    وقال أحمد بن على الابار: بلغني عن سليمان الشاذكونى أنه قال: إما أن يكون الواقدي أصدق الناس، وإما أن يكون أكذب الناس، وذاك أنه كتب عنه، فلما أن أراد أن يخرج بالكتاب (أتاه به) فسأله، فإذا هو لا يغير حرفا.
    قال: وكان يعرف رأى سفيان ومالك، ما رأيت مثله قط.
    وقال أبو داود: بلغني أن على بن المدينى قال: كان الواقدي يروى ثلاثين ألف حديث غريب)( ).
    والمختار أن الواقدي وعاء للعلم ، وعنده مراسيل كثيرة ، ومناكير ، وهو لا يمنع من الأخذ منه لمطابقة كثير مما ذكره من الوقائع لما ورد عن الصحابة والتابعين.
    والمختار أن نقله عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام تعليمهم أبناءهم كتائب وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحيح.
    قانون الهجرة إصلاح للأسرة
    لقد أظهرت إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لمدة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة النبوية أنه لم يبعث للقتال ، إنما بعثه الله عز وجل لمنع سفك الدماء والظلم مطلقاً ، ونزل القرآن بإصلاح الأسرة إبتداء من حرمة الوأد ، فلا يختص قوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) بتحريم الوأد عند المسلمين بل هي عامة للعرب وغير العرب ، وفي الجزيرة العربية وكل بقاع الأرض ، وأوان التنزيل وما بعده إلى يوم القيامة.
    والآية إنذار من ظلم الأولاد ذكوراً وإناثاً والنساء مطلقاً ، فهم سيسألون عن أسباب تعرضهم للظلم ، لبيان قانون وهو العناية بتربية الناشئة صلاح لهم وللأسرة ، وبرزخ دون نماء روح البطش والإنتقام أو اليأس والقنوط.
    ومن أكبر أبواب جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة حربه على تقديس وعبادة الأصنام .
    وهل من صلة بين هذه الحرب والإرهاب ، الجواب نعم ، إذ أثارت هذه الحرب قريشاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأدركوا معها أن نزول آيات القرآن يفضحهم بين الناس ، ويسفه عقولهم ، ويجعل وفود القبائل توجه لهم اللوم على إتخاذهم ولاية البيت الحرام وسيلة لعبادة الأوثان ، إنما قام إبراهيم ببناء البيت الحرام بعد أن كسّر الأوثان ، وأنقذه الله من النار التي أراد قومه حرقه بها بسبب هذا التكسير ، قال تعالى [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ) لبيان قانون وهو أن الرسول لا يكتفي بمحاربة عبادة الأوثان بالقول والفعل ، إنما يؤسس لمعالم في التوحيد.
    فان قلت كيف تفتضح قريش بين الناس ، وكل قبيلة تأتي بصنم خاص بها تنصبه في البيت الحرام مما يدل على اتحاد الموضوع في تنقيح المناط وأن كل قبيلة تفتضح أيضاً.
    والجواب هذا صحيح ولكن قريشاً أكثر خزياً من القبائل لأنهم أولياء البيت ولابد أن يظهروا التوحيد ، ويحتجوا على نصب الأصنام في البيت الحرام ويمنعوا نصبها.
    وكانت قريش تقول نحن ولاة البيت الحرام ، ندخل من نشاء ونصدّ من نشاء ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
    فاذا كانوا يصدون من لا يريدون دخوله مكة والبيت الحرام فمن باب الأولوية أنهم يقدرون على منع دخول الأصنام إلى البيت الحرام ، ولكنهم منعوا المسلمين من دخول مكة ومن أداء العمرة والحج ، وحتى في صلح الحديبية فانهم اشترطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار الذين معه أن يرجعوا عامهم هذا ، ومنعوهم من العمرة ، ومع هذا نعت الله عز وجل هذا الصلح بأنه فتح ، فقال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
    وكانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق الإصلاح في رسالته بلحاظ كبرى كلية وهي أن عقيدة التوحيد زاجر عن الظلم مطلقاً وعن الإرهاب والتعدي خاصة وأنها علة خلق الناس ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
    وهناك ملازمة بين عقيدة التوحيد وتهذيب الغرائز وكبحها وتقييدها بأحكام وقوانين الشريعة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ] ( ).
    وقد جاءت أكثر أحكام الأسرة والنكاح والميراث في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول والإمام والحاكم .
    ويمكن القول بقانون في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجوه :
    الأول : قانون إمتثال المسلمين والمسلمات لأحكام الآية القرآنية حالما تنزل .
    وفي يحيى عليه السلام ورد قوله تعالى [يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ]( )، أي بجدِ وتعاهد بالعمل به ، والمسلمون ورثة الأنبياء في سنن التقوى ، وهل من معاني ورشحات أخذ الكتاب بقوة ، الإمتناع عن الإضرار بالناس ، الجواب نعم.
    الثاني : قانون إنعدام الفترة بين نزول الآية والعمل بها ، وعدم وجود إنقطاع في العمل بأحكام الآيات .
    الثالث : قانون إستدامة عمل المسلمين بأحكام الآية القرآنية من غير إنقطاع .
    الرابع : قانون تلاوة المسلمين آيات القرآن في الصلاة عون ومدد يومي للإمتثال لأحكامها .
    الخامس : قانون عمل المسلمين بآيات الأحكام برزخ دون تحريفها وتبديلها .
    السادس : قانون تنمية آيات القرآن الأسرية ملكة الحب والمودة داخل الأسرة ، وهو من مصاديق الإصلاح المجتمعي ، وبرزخ دون الإرهاب ، وقهر للنفس الغضبية .
    ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه منع وإلى يوم القيامة تفكك الأسرة ، وقد يكون هذا التفكك من مقدمات ضياع الفرد ، واستغلاله للإرهاب .
    و (عن ابن عباس ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسافر امرأة إلا مع محرم ، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم فقال رجل : يا رسول الله ، إنى أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا ، وامرأتي تريد الحج ، قال : فاخرج معها ) ( ).
    لبيان أولوية الفرض العبادي ووحدة الأسرة .
    قانون المنع من الإرهاب من النهي عن المنكر
    من الواجبات العامة والكفائية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ويتقوم بالنصيحة في الدين وليس العنف والقتل والتفجيرات .
    والمعروف هو كل فعل يعرف العقل حسنه ، وموافقته لأحكام الشريعة إذ يترتب عليه وعلى الدعوة إليه الثواب ، ومنه طاعة الله ، وفي التنزيل [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
    والمنكر هو المعصية والفعل المخالف لأحكام الشريعة والعقل .
    والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعاهد للقيم والأخلاق الحميدة ، واستقرار المجتمعات والتعايش السلمي فيها ، ونبذ للعنف والتطرف والإرهاب وبرزخ دون النزاعات.
    وفي وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه معلماً لأهل اليمن وحضرموت ، قال (وإذا قدمت عليهم فأقم فيهم كتاب الله وأحسن أدبهم وأقرئهم القرآن يحملهم القرآن على الحق وعلى الأخلاق الجميلة) ( ).
    ومن الأخلاق الجميلة الرحمة والرأفة بالناس جميعاً ، وإجتناب الفتن وسفك الدماء ، لبيان مصاديق من قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إذ تتجلى هذه الرحمة في كل زمان ومكان بحسن سمت المسلمين وإمتناعهم عن المنكر ومنه المعاصي ، والنسبة بينها وبين الإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإرهاب معصية لله ولرسوله ، وخلاف لمبادئ الإسلام ، فلابد من التعاون لإجتنابه وإجتثاث أصوله وتجفيف منابعه.
    وعن عبد الله بن مسعود (قال جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت آخر من اتاه ونحن اربعون رجلا فقال انكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم فمن ادرك ذلك فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر وليصل الرحم ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ( ).
    لبيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم عبر مؤسسات وهيئات رسمية وقوانين وأنظمة لمنع الإجتهاد المخالف لأحكام الشريعة والتجاوز والتعدي في هذا الباب ، وهو لا يتعارض مع قيام الفرد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    قانون الإرهاب ظلم
    لقد أراد الله عز وجل لمعركة بدر أن تكون شاهداً على مناهج النبوة في التنزه عن الإرهاب والقتال ، فاذا استعرضت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجدها عزوفاً عن سفك الدماء لأن في المعجزة الحسية والعقلية غنى عنه ، ولأن الله عز وجل بعثه لمنع القتال والقتل، ولوأد الفتنة ومقدماتها .
    ومن خصائص الإرهاب وقبحه الذاتي أنه على وجوه :
    الأول : إنه فتنة .
    الثاني : إنه مقدمة للفتنة .
    الثالث : الإرهاب مخالف لأحكام الشريعة .
    الرابع : الإرهاب ظلم .
    ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محاربة الظلم ، ومنع صدوره من الفرد والجماعة والدولة ، قال تعالى [وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا] ( ) والإرهاب انتهاك للقوانين وحقوق الإنسان الخاصة والعامة .
    ويحرم تسخير التكنولوجيا الحديثة لأغراض الإرهاب والفتك وبث الخوف والرعب في المجتمعات .
    وقد جاء القرآن والسنة النبوية بأمور :
    الأول : قانون النهي عن الظلم .
    الثاني : قانون القبح الذاتي للظلم .
    الثالث : قانون الأضرار الخاصة والعامة للظلم .
    الرابع : سوء عاقبة الظلم في الدارين.
    قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ]( ).
    والنسبة بين الظلم والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، فيجب بيان التضاد بين الإسلام والإرهاب ، ولابد من التعاون لتنزيه الأرض من الإرهاب (عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد })( ).
    ويأتي الظلم تارة على نحو القضية الشخصية ، ومسألة عين ، فيصدر من الفرد ليضر فرداً أو أسرة أو جماعة ، أما الإرهاب فانه يأتي من الفرد ولكنه يضر الطائفة والشعب والأمة ، ويضر بالدولة ومؤسساتها ، وهي لا تبقى مكتوفة الأيدي إنما تتحرك لمحاربته بالمال والإعلام والسلاح مما يدل على عدم تحقق نفع من الإرهاب ، إنما هو ظلم للذات والغير ،إلى جانب ما فيه من الزهد بالأرواح وإزهاقها إذ لا تعوضها الأموال .
    وليس للإرهاب هوية أو دين ، ولا ينتمي إلى ملة ، وتتجلى لعموم أهل الأرض يوماً بعد يوم براءة القرآن والسنة وأحكام الإسلام من الإرهاب ، وهذا التباين من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الزمان ، ومن الشواهد على حضور قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
    ومن معجزات النبوة عدم طغيان مفاهيم الظلم والإرهاب على مفاهيم وسنن السلام ، وقد تقدم أنه لو أحصيت أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوجدت أن أيام القتال قليلة جداً سواء في حياته أو حياة أصحابه والسرايا التي يبعثها حول المدينة ، وللتبليغ والدفاع ، وكذا في مجموع تأريخ الإنسانية ، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل في صرف الناس عن الإقتتال ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ).
    لبيان قانون يحكم حياة الإنسان في الأرض ، وهو سلامة الأرض من تأصيل الظلم ومفاهيم الكفر والضلالة ، ومن مصاديق استئصال الإرهاب منع الشعور بالحيف والظلم ، ولابد من إنصات المؤسسات العامة والدولية لمن يشعر بالقهر والغبن فرداً أو جماعة .
    واقناعه ودفع الوهم والظن الذي عنده أو قضاء حاجته وفق الأصول والقوانين ، وفيه غلق لأسباب الإرهاب وإن كانت بالأصل واهية ، وأن الشعور بالقهر ليس ذريعة للعمل الإرهابي ضد المؤسسة والأنظمة والأفراد ومنهم الأبرياء لحرمة الإرهاب مطلقاً وبالذات والأثر .
    ومن السنة النبوية توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وغيرهم بالسؤال لإستقراء المسائل وتثبيت الأحكام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ، قَالَ:”أَلا تُحَدِّثُونَ بِأَعَاجِيبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَقَالَ فِتَّيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَفَّيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا، فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلْتُهَا.
    فَلَمَا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكُسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا.
    قَالَ : يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ:”صَدَقَتْ، صدقت كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ قَوْمًا لا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِم)( ).
    فلابد من العدل والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه ، ومنع الظلم وتجاوز الحد.
    ويجب أن يدرك الناس جميعاً قانوناً وهو لا يؤدي الإرهاب إلا إلى الضرر بصاحبه وغيره ، وليس فيه نفع في العقيدة أو السياسة أو الإجتماع أو الأخلاق ، والوجدان شاهد.
    قانون الإرهاب عدو العرفان (بحث عرفاني)
    من العلوم التي نشأت عند فئة خاصة من طلاب العلوم الدينية علم العرفان ، وينقسم إلى قسمين :
    الأول : العرفان النظري وهو التفكر في بديع صنع الله وسعي العارف في صلته مع نفسه ومع العالم ، وعبوديته المطلقة لله عز وجل وهي عمدة هذا القسم ، ولا يصل العارف إليها إلا بواسطة التفكير والعقل والمجاهدة والرياضة القلبية والبدنية وقهر الهوى .
    الثاني : العرفان العقلي وهو التطبيق والسلوك للوصول إلى الله تعالى ، ويسمى هذا القسم أيضاً السير والسلوك العرفاني ، وفيه مقصد وبدء ومنازل يرتقي فيها السالك بالتوالي إلى أن يصل إلى التوحيد .
    والحق أن التوحيد هو البدء والمنزل الوسط والأخير .
    وتدل الوقائع اليومية على قانون خلافة الإنسان في الأرض ، ليتجدد في كل يوم للناس والخلائق كلها أن عمارة الأرض مظهر من مظاهر جلال وعظيم مشيئة الله عز وجل .
    وتتجلى حقيقة حب الله لجنس الإنسان مطلقاً ، فان قلت حتى الكافر ، الجواب نعم ، إنما سلخ الكافر نفسه وحجبها عن هذا الحب ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) ولابد أن يتعاهد المؤمن حب الله له ، وللمسلمين بالإمتناع عن الإرهاب وإخافة الناس .
    إن التلذذ بنعم الله الظاهرة والباطنة وسيلة ودعوة للإنسان لشكر الله عز وجل على النعم .
    ومن حب الله عز وجل للعباد مضاعفة النعم على هذا الشكر مع أنه واجب عقلاً وشرعاً ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
    وعلى فرض وجود علم اسمه العرفان فهو حاضر في آيات القرآن والسنة النبوية ، جاء رجل (وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جَهْوَرِيّ، وهو في بعض أسفاره فناداه فقال: يا محمد)( ).
    فلم يغضب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمناداة الأعرابي له باسمه مع أنه بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، ولبيان منافع أسفار وكتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتصاله بالناس ، ورؤيتهم وسؤالهم له.
    لذا تكرر لفظ (يسألونك) خمس عشرة مرة في القرآن ، وأن هذه الكتائب ليست للغزو والإغارة على الناس ، إنما هي دعوة سلمية للإيمان بالله الذي له مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
    فاجاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأعرابي بنفس وتيرة صوته : هاؤم ، اسم فعل بمعنى تعال ، لمنع الحواجز بين النبي وعامة الناس ، وفيه دعوة للصحابة للإفراج لوصول الناس إليه .
    ويأتي هاؤم بمعنى خذ ، وفي التنزيل [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي]( ).
    نعم قد أمر الصحابة الأعرابي أن يخفض صوته في خطابه مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه أبي إذ ورد عن صفوان بن عسال وهو صحابي خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اثنتي عشرة كتيبة (وتوفى في حدود سنة الأربعين للهجرة)( ).
    قال (أن رجلاً من أهل البادية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يناديه بصوت له جهوري : يا محمد يا محمد ، فقلنا : ويحك أخفض من صوتك فإنك قد نهيت عن هذا ، قال : لا والله حتى أسمعه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هاؤم ، قال : أرأيت رجلاً يحب قوماً ولم يلحق بهم ، قال : المرء مع من أحب)( ).
    لذا يلزم عدم محبة الفعل الإرهابي لقانون النفرة من الإرهاب تقربة إلى الله عز وجل.
    وهناك مسألتان :
    الأولى : ما هي النسبة بين مضاعفة النعم بالشكر وبين اللامتناهي فيها .
    الثانية : ما هي النسبة بين إرتكاب العمل الإرهابي وبين الشكر لله عز وجل.
    أما المسألة الأولى فالمختار هو التساوي لأصالة الإطلاق ولأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم ، ولا تنفد خزائنه .
    وأما المسألة الثانية فالنسبة هي التنافي والتضاد لكثرة نعم الله عز وجل على الناس في هذا الزمان ، ولأن بيان الحاجة والمطلب لا يكون بالظلم والتعدي.
    بحث أصولي
    اختلف الأصوليون في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وهل يلزم من حكم العقل بحسن أو قبح شيء حكم الشارع على مثله ، واذا أدرك العقل وجود مصلحة أو مفسدة في شيء هل يلزم عقلاً إتباع الشرع للعقل، وحكمه بما أدركه العقل.
    وقال بعضهم ان الحكم الشرعي معلول لما يدركه العقل من المصالح والمفاسد ، ولكن الحكم الشرعي ثبت بالتنزيل ولم يكن محتاجاً إلى العقل، صحيح ان العقل حجة ذاتية على الإنسان ولكن وظيفة هذه الحجة مقيدة بالحكم الشرعي ولزوم الإنقياد له، والإقرار بوجوب عبادة الله ، وإتباع التنزيل وما جاء به الأنبياء من عند الله عز وجل.
    ويقال في المقام عبارة الإقرار بوجود الصانع ، ولا تخلو من تكلف ، وكأن الإنسان يمّن بالتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وقد قال تعالى [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
    فحكم العقل ليس بعرض واحد مع حكم الشرع ، وحكم الشرع مقدم عليه رتبة ، ولم يرد في القرآن لفظ “حكم العقل” أو لفظ (العقل) وحده بل جاءت الآيات بالحث على توظيف العقل في طاعة الله، والتدبر في الآيات كما في قوله تعالى [وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ( ) وقوله تعالى [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
    والمختار هو الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل بمعنى كل ما حكم به الشرع يحكم به العقل ولا يتنافى معه على فرض أن للعقل حكماً.
    والأصل ليس من إنفكاك بين حكم الشرع وإدراك العقل إلا ما خرج بالدليل .
    وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قال: إن الله خلق العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر ،ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحب إلي منك لك الثواب وعليك العقاب)( ) ويظهر الحديث أن وظيفة العقل الإستجابة للحق والإمتناع عن المعصية .
    ويحكم الشرع والعقل بوجوب طاعة الله عز وجل ، وإجتناب المعصية والظلم ، ومنه الإرهاب .
    ومنهم من جعل للعرف حكماً ، ويحكم الشرع والعقل بحرمة الإرهاب ، كما أنه مستهجن عرفاً.
    وأختلف في تعريف العقل على أقوال منها:
    الأول: أنه قوة التمييز بين الحق والباطل.
    الثاني: العلوم الضرورية التي يتمكن بها من إكتساب العلوم.
    الثالث: مناط التكليف هو العلم بوجوب الواجبات وإستحالة المستحيلات.
    الرابع: العلم بخفيات الأمور التي لا يتوصل اليها الا بالإستدلال والنظر.
    الخامس: العقل مجموع علوم اذا اجتمعت سميت عقلاً.
    السادس: جسم لطيف مضيء ومحله الرأس.
    وكون العقل قوة للتمييز بين الحق والباطل، يعني الوجود الخارجي للحق والباطل، وظهور الفارق والتضاد بينهما.
    والنزاع صغروي والأصل هو حكم الشرع وما ورد في الكتاب والسنة، وان العقل تابع للتنزيل وخازن وحافظ له ، كما أنه يتعاهده بلحاظ كونه أمير الجوارح ، ولا يصح ان يكون في عرض واحد مع الشرع بل هو تابع له، وسواء كان للعقل حكم أو لم يكن له حكم فأنه تابع ومنقاد لحكم الشرع.
    لذا فان لفظ المعروف في قوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ]( )، يحتمل وجوهاً :
    الأول: المعروف هو ما عرف حسنه في الشرع.
    الثاني: ما عرف حسنه في حكم العقل.
    الثالث: العنوان الجامع للأمرين معاَ وهو ما عرف حسنه في الشرع والعقل.
    الرابع: ما يكون عرفاً عاما عند الناس، وقد ورد لفظ العرف في القرآن بقوله تعالى [ خُذْ الْعَفْوَ وَأمربِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ] ( )، والمراد من المعروف في الآية ليس ما تعارف بين الناس فقط، بل المراد هو المعروف بصفة الحسن.
    والعرف هو ما عرف نفعه وحسنه في الشرع والعقل وهو لا يتعارض مع الوجوه الأخرى، ولكنها تابعة له وفي طوله وليس في عرضه.
    فمن الآيات ورود الآيات بلفظ المعروف وفيه آية على بقاء أحكام الحلال والحرام على حالها بين الناس إلى يوم القيامة ، وهل تدخل القوانين والأنظمة الوضعية فيها.
    الجواب نعم ، إذ أنها مستقرأة من الشرع والعقل والعرف وهي تنهى عن الإرهاب وتحاسب وتعاقب عليه فلابد من إجتنابه ، قال تعالى [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
    ولا يستطيع العقل مستقلاً تعاهد هذه الأحكام ولا دليل على وجود حكم له قائم بذاته، فلا تصل النوبة إلى المقارنة بين حكمه وحكم الشرع، وعلى فرض القول بحكم للعقل فأنه لا يرقى إلى مرتبة القسيم لحكم الشرع.
    فعلى العقول ان تتبع الشرع وتعرف ما يحسنه، لكون المعروف شرعاً معروفاً عقلاً، واذا تخلف العقل عن هذه المعرفة فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوارد في قوله تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( )، مركباً من تصحيح المفاهيم، وتنقيح الآراء من الغواية والضلالة مع الأمر بالمعروف على نحو فعلي وواقعي، وكذا الحال بالنسبة للمنكر فان المنكر هو ما قبحه الشرع وأمر بتركه وإجتنابه .
    وتدل الآية أعلاه على حرمة الإرهاب حرمة قطعية ، فاذا مكّن الله عز وجل الفرد فعليه بالتقوى وأن يأمن الناس بوائقه.
    وقد ذكرت الآية أعلاه أربع واجبات ، ويكون الإرهاب ضداّ لها مجتمعة ومتفرقة ، ثم اختتمت بالبشارة للذين يتقون الله ويمتنعون عن الظلم والإرهاب والإنذار.
    والعقل نعمة عظمى على الناس وينقاد إلى حكم الشرع، والحكم تابع لعلته وجوداً أو عدماً، وهو يدرك المفاهيم وفق أحكام الكتاب والسنة، فيكون قائداً للجوارح في طاعة الله ، ومانعاً من الزيغ والتفريط والتعدي والإرهاب.
    والعقل نعمة عظمى على الناس وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض فحينما احتجت الملائكة على أمر خاص في هذه الخلافة إذ [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، رجاء إصلاح الناس وعصمتهم من الفساد والإقتتال فاجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].
    ومن علمه تعالى أن رزق الإنسان العقل ، وجعله يميز بين الحق والباطل ، ويقر بوجوب الإيمان ، والعدل ، وقبح الظلم والإرهاب.
    وليكون قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، شاهداً على نعمة العقل عند الإنسان وأن العقل النوعي العام لا يخرج عن أحكام التنزيل وسنن النبوة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، ومما نهى عنه الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل الظلم والغدر وإخافة الناس وسفك الدماء بغير حق.
    وقد ذم القرآن المنافقين بقوله تعالى [يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( )، فلابد أنهم يحاولون الإجتهاد في تحريف الحقائق وتغيير الوقائع وإنكار ما هو حق وصدق، فيأتي الأمر بالمعروف حرباً عليهم وفضحاً لما تأمرهم به أهواؤهم ، وذماً لإنقيادهم لشهواتهم وحسدهم، وفي ذمهم تحذير من التحريف ومحاولات تغيير بعض مصاديق المعروف لأن الذي يأمر بالمنكر لا يقول أنه منكر وأنه يدعو إلى القبيح بل يحاول تزيينه.
    فيأتي الأمر بالمعروف لتعاهد الصورة الحقيقية للمعروف ووجوده في عالم التصور والواقع ومنه العفة والصدق والإحسان للغير مطلقاً والنفرة من الإرهاب والتفجيرات وإثارة الرعب .
    قانون الدعوة والعولمة
    من الأمور المستحدثة نظام العولمة وظهور آثاره في ميادين متعددة، والقرآن هو الدستور العام لأفعال المسلمين وسنن الحياة في الأرض، ولابد من أثر لآياته في هذا النظام.
    ومن إعجاز القرآن دلالته وإخباره عن زمان العولمة ولزوم تعاهد الإيمان والتراحم ورأفة المسلم بالناس جميعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
    وهذا الأثر ليس مستحدثاً ولكنه إمتداد لموضوعية الآية القرآنية في حياة الناس اليومية، كما في هذه الآية اذ تأخذ مضامينها أبعاداً جديدة ، فلا تكون الدعوة إلى الخير شخصية فحسب بل تكون جماعية وعامة وعالمية، وبذا يمكن توظيف العولمة لصالح الإسلام ونشر مبادئ الصلاح وحصول النفع الأتم من الدعوة إلى الخير والفلاح.
    ومن الآيات ان الدعوة إلى الخير تخاطب العقول وتتعدى في شطر من موضوعاتها الإنتماء الديني ، لتنفذ أحكام الإسلام إلى القلوب ويعم الصلاح الأرض، وينتفع الناس من القرآن بالواسطة، أي بواسطة قيام المسلمين بالدعوة إلى الخير، والإنتفاع من هذا النظام وتداخل الحضارات وتكون عالمية الدعوة سبباً للزجر عن الفواحش والسيئات، وحثاً على إجتناب الظلم والتعدي.
    ومن معاني العولمة إنتشار الأمر أو الواقعة أو القول أو العمل على مستوى العالم سواء كان فردياً أو جماعياً ، أو قرار دولة وسلطان ، إذ أصبح العالم كالقرية تتصل أجزاؤها بالفضائيات ، وشبكات الإتصال .
    ومن إعجاز القرآن مجيؤه بالعولمة ، ولكن بصيغة الهداية والرحمة والتعايش السلمي بين الناس ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
    ويتلو كل مسلم ومسلمة كل يوم قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
    ومن خصائص عولمة التنزيل والشريعة أنها سور الموجبة الكلية للعقيدة والسياسة والإجتماع والأخلاق لإصلاح النفوس والمجتمعات ، والإمتناع عن الظلم والإفتتان .
    وهل الأذان من العولمة الإعلامية ، الجواب نعم ، ومن الإعجاز في تشريعه البيان في فصوله ودعوته للألفة والسعي للنجاح والفلاح الذي يتحقق بالتقوى والصلاح ، ونبذ الإرهاب .
    قانون تضاد الإرهاب مع الدعوة إلى الخير
    قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) ( )، إبتدأت الآية أعلاه بالأمر الإلهي بأن تكون أمة من المسلمين تدعو إلى الخير والصلاح ، والوقاية من الفساد ، وهو عنوان جامع لأسباب الصلاح ومنه وجوه :
    الأول : إشاعة مفاهيم المودة والرحمة .
    الثاني : السلم بين الناس .
    الثالث: لزوم إجتناب القتال والإرهاب والتفجيرات.
    والدعوة مرآة للكمالات الأخلاقية التي يتصف بها المسلمون، فحينما يدعو المسلمون إلى فعل الخير ويقومون بإشاعة الصلاح ومحاربة الفساد في عموم الأرض، فان الناس يدركون الحسن الذاتي للإسلام، وتفتضح عندهم المقالات الباطلة ضد الإسلام والمسلمين، ويتجلى الوجه المشرق للإيمان الذي هو نقيض الإرهاب والتفجيرات العشوائية.
    ويستقرأ من لفظ الدعوة إلى الخير حصول حوار ونصح وإرشاد وإقامة الحجة لجذب الناس لفعل الخير، ليشارك عالم الفضائيات في تلك الدعوة فتدخل كل بيت في مشارق الأرض ومغاربها وبمختلف اللغات واللهجات تخفيفاً عن الناس وإعانة لهم على فعل الخير، ولتكون العولمة وقواعدها وميادينها مناسبة للثواب العظيم للمسلمين، وباباً لتوسعة دائرة الجهاد بالكلمة والموعظة.
    ترى من المدعو إلى الخير ، الجواب من وجوه :
    الأول : عموم المسلمين .
    الثاني : خصوص المؤمنين .
    الثالث : المنافقون .
    الرابع : أهل الكتاب .
    الخامس : عموم الناس .
    السادس : أهل المعاصي والسيئات .
    السابع : الذي ينوي فعل الخير بحضه على بذل الوسع ، وعدم الإبطاء والتسويف فيه .
    ويحتمل إستثمار نظام العولمة في الدعوة إلى الخير وجوهاً:
    الأول : أنه أمر واجب.
    الثاني : يكون مستحباً ومندوباً.
    الثالث : يأتي نافلة وعرضاً زائلاً.
    الرابع: هذا الاستثمار مكروه، ولا يخلو من أخطار وأضرار، والأولوية للإعراض عن العولمة خصوصاً مع ما فيها من الشرور الجانبية والوضعية.
    والصحيح هو الأول والثاني ، من وجوه:
    الأول: العولمة كالآلة المشتركة التي تتضمن النفع والضرر، فلابد من الإنتفاع منها في الخيرات ، والتنزه عن السيئات والظلم.
    الثاني: أنها واسطة لم يشهد لها التأريخ مثيلاً في إيصال الكلمة والرأي والمبدأ فمبادئ وأحكام الإسلام أولى من غيرها في استثمار العولمة والإنتفاع منها.
    وقد أخبر الله عز وجل عن كيفية التبليغ وأنه لا يكون إلا [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، أمس واليوم وغداً ، وسواء في أيام النبوة أو العولمة أو ما يستحدث في قادم الأيام.
    الثالث : جاءت الآية مطلقة بالأمر بالدعوة إلى الخير، والوسائل الإعلامية ، وتقارب البلدان من أفضل وسائل الدعوة إلى الخير.
    الرابع: اذا أنعم الله عز وجل بنعمة على أهل الأرض، وصارت بعض جوانب العولمة ذات نفع ووسيلة من نعم الله وهو أمر ظاهر للوجدان فيجب أن ينتفع منها لصالح الإيمان والتقوى ومفاهيم الزهد والعفة ونشر مبادئ الحق والصلاح، والعولمة من الإعجاز في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
    الخامس: توظيف العولمة في أمور الصلاح إزاحة لأسباب الشر والأذى فيها، ومحاربة للفجور والفسوق وتنحيته عن الأذهان.
    وتعد الثورة المعلوماتية أمراً مستحدثاً ذا أهمية خاصة، وجاءت الآية الكريمة أعلاه للوقاية من شرورها ، وللإنتفاع من مضامينها وعلى نحو السباق والتسابق بالحسنى والعلم ، والإنتفاع العام منها إذ صار الناس فيها شرعاً سواء ، وهذا العموم حجة في لزوم الإمتناع عن الإرهاب وقتل الأبرياء .
    ولابد من التعاون لمنع الذي يريد إشاعة الفساد في الأرض ونشر مفاهيم الضلالة، فمن الإعجاز القرآني ان تأتي هذه الآية على نحو الوجوب والأمر الإلهي.
    فالآية القرآنية حرز متقدم وسلاح سابق لزمان العولمة، والتقدير ان حصلت العولمة فلتكن [مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ) .
    وهذه الشرطية لا تمنع من إتصال وظائف الآية منذ أيام النزول وإلى يومنا هذا، وعند ظهور أنظمة أخرى أوسع وأكثر شمولاً من العولمة والثورة المعلوماتية وحتى يوم القيامة، وهو من أسرار الآية القرآنية وأهليتها للريادة في كل زمان، وبقائها عوناً للمسلمين في مختلف الأحوال والأمصار.
    فالدعوة إلى الخير عالم مستقل في زمن العولمة، وتتآزر مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتكون هذه الآية مدرسة عقائدية متكاملة في هذا الزمان، وداعية إلى الله، ورسالة إلى الناس جميعاً تبين ماهية الإسلام، وتدعوهم للإيمان وتزجرهم عن إيذاء المسلمين والتعدي على ثغورهم وثرواتهم وتراثهم.
    ومن الأسباب في المقام إستثمار وسائل الإعلام والفضائيات للدعوة إلى الخير والمحبة والود بين الناس على نحو جاد ومؤثر وفعال.
    ويحتمل الأمر الإلهي في الدعوة إلى الخير من جهة القوة والضعف وجوهاً:
    الأول : كفاية المسمى وصرف الطبيعة في الدعوة إلى الله سبحانه.
    الثاني : الدعوة عند تهيء الوقت المناسب من غير سعي لمظان الدعوة.
    الثالث: عدم الحاجة إلى بذل الوسع والجهد في الدعوة، فيكفي الممكن والميسور من غير عناء.
    الرابع: إستثمار الفرص وبذل الوسع والسعي الدؤوب في الدعوة إلى الخير.
    الخامس: إنتظار ظهور الفتن، والبلاء والشدة، فتكون الدعوة إلى الخير حاجة، ويكون الناس في حال أحسن للإستماع اليها وقبولها.
    السادس: المبادرة إلى الدعوة إلى الخير في كل أوان الا مع الضرر على النفس والغير.
    والصحيح هو الرابع والسادس أعلاه فتأتي العولمة وأنظمتها لتكون مناسبة لمخاطبة العقول، وحثاً للناس على التفقه في مصاديق الخير ومنافعه والمبادرة إلى توظيف الدنيا للخير ، وحمل الزاد فيها إلى الآخرة.
    قانون التنافي بين الإرهاب ودعوة الخير
    لقد جاءت الآيات بدعوة الناس مطلقاً للتقيد بسنن الخير والصلاح، والنهى عن الفواحش والمعاصي، وحذرت من الشيطان وإغوائه، وبينت القبح الذاتي للذنوب، وجعلت النفوس عامة تنفر منها وممن يأتيها، كما أنها أسست عرفاً ثابتاً إلى يوم القيامة قائماً على الصلاح وتقوى الله.
    ونسخت الأعراف السائدة قبل الإسلام والتي تتعارض وأحكام القرآن والسنة، فمثلاً كان الربا أمراً متعارفاً قبل نزول القرآن، وهو إلى الآن أمر متعارف عند بعض الملل ، وجزء من العرف العام عندهم، فجاءت آية لتغير العرف عند المسلمين بخصوص الربا، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( )، وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ( ).
    فصارت النفوس تنفر من الربا وصاحبه، ويتجنب المسلمون الربا وكتابته والشهادة عليه ليصبح هذا الاجتناب عرفاً سائداً في المعاملات، ويأخذ صبغة عالمية تتضمن التحدي ببيان أضرار الربا الاقتصادية والاجتماعية، وهذا البيان من مصاديق هذه الآية الكريمة في دعوة الناس إلى الخير والاحسان، وتحذيرهم من المنكر والسيئات، فالدعوة إلى الخير على اقسام:
    القسم الاول : الدعوة الفردية، بان يقوم شخص بالدعوة إلى الصلاح والاحسان، وهو على جهات :
    الاولى : الدعوة لمرة واحدة في العمر.
    الثانية : الدعوة لعدة مرات ولكن في موضوع واحد.
    الثالثة : الدعوة الشخصية الموجهة إلى شخص واحد من فرد واحد ايضاً.
    الرابعة :الدعوة المتعددة بان تصدر من شخص واحد إلى جماعة متعددين، وهي على اقسام:
    الاول : اتحاد الدعوة بان تصدر مرة واحدة كما لو كانت في مجلس أو نداء واحد.
    الثاني: تعدد وتكرار الدعوة في موضوع واحد لشخص واحد لما في الاعادة من الافادة، والتكرار من التذكرة ، قال تعالى [وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
    وهل تدل الآية أعلاه على إنحصار النفع من الذكرى بالمؤمنين ، الجواب لا ، فان اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، وجاء معنى أعم بقوله تعالى [فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( )، وتكون الذكرى بالقرآن والموعظة والثواب والعقاب والترغيب والترهيب.
    الثالث : تعدد المخاطَبين ، وتوجيه الدعوة إلى أناس كثيرين في مرات متعددة ، وهذا القسم على شعبتين :
    الاولى: اتحاد موضوع الدعوة، وأبواب الخير.
    الثانية: تعدد أبواب ومصاديق الخير والصلاح التي يدعى لها.
    القسم الثاني : كثرة الداعين إلى الخير وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( )، وفيه وجوه:
    الوجه الاول : توجيه دعوتهم إلى فرد واحد وهو على أقسام:
    الاول : دعوتهم مرة واحدة على نحو الاجتماع، كما لو جاء خطاب مشترك منهم لشخص ذي شأن على نحو السؤال والرجاء أو الحث والترغيب في الخيرات.
    الثاني: توجيه دعوتهم إليه بصورة متفرقة، فكل شخص يخاطبه مرة واحدة مع اتحاد وموضوع الخطاب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
    الثالث : اتفاق جماعة بخصوص صيغة الدعوة لذات الشخص، واختيار الكيفية المناسبة في الدعوة بما يجعلها اكثر نفعاً.
    الرابع : صدور قانون يبعث على الخير ، لبيان بعث الآية أعلاه السلطات التشريعية والتنفيذية سنّ قوانين للصالح العام واشاعة فعل الخير ، لتكون وسيلة لحجب الناس عن الإرهاب.
    الخامس : تعاقب الدعوة، فمرة تصدر من شخص ، وأخرى من غيره، فتتوإلى الدعوات إلى الخير على شخص واحد وهو على اقسام :
    الأول: اتحاد موضوع وكيفية الدعوة ، ومجيؤها بالأمر بالصلاح أو النهي عن الذنوب والمعاصي.
    الثاني: تعدد موضوع وكيفية الدعوة.
    الثالث: اتحاد موضوع الدعوة مع التباين في الكيفية، وعلة هذا التباين على شعب:
    الاولى: حال الداعي إلى الخير.
    الثانية : الصلة بين الطرفين الداعي إلى الخير والمدعو له.
    الثالثة : ما يراه الداعي مناسباً في كيفية الدعوة.
    الرابعة : مناسبة الحال، فقد تأتي دعوة في حال انقطاع إلى الله ، وفي مواضع العبادة، أو عند الحاجة إلى الخير، وظهور اسبابها ومقدماتها، أو لبيان قبح المعاصي والذنوب ، والإضرار بالناس وممتلكاتهم.
    الخامسة: التباين في حال المتلقي للدعوة، فمرة يكون في حال ينصت معها إلى الدعوة الصريحة وأخرى تكفي فيها الإشارة إلى فعل الخير.
    الرابع: تعدد موضوع الدعوة مع الاتحاد في الكيفية.
    الخامس: التعدد مطلقاً في الموضوع والكيفية، مع الاتحاد في جهة الخطاب.
    الوجه الثاني : توجه دعوتهم إلى أشخاص متعددين.
    الوجه الثالث : تعدد مضامين ومواضيع الدعوة لكثرة مصاديق الخير.
    الوجه الرابع: وجود أمة من المسلمين تدعو إلى الخير على نحو متصل ودائم.
    فالدعوة إلى الخير ملازمة للاسلام، واينما وجد المؤمنون تكون الدعوة إلى الصالحات حاضرة وجزء من العرف العام، وتلك آية إعجازية للشريعة السماوية في انماط السلوك العام، ومناهج تفكير وعمل الناس وما يكون متعارفاً عندهم، وفيها دلالة على بناء الإسلام لصرح التقوى بين الناس ، وجعل موضوعية للدعوة إلى الخير والصلاح في الواقع اليومي والمنتديات والبيوت، فتميل النفوس لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وتنفر ممن يرتكب المعاصي ويظهر الإصرار على السيئات.
    القسم الثالث : الدعوة المتصلة، بان تكون مستديمة سواء بلحاظ جهة الصدور أو ببقاء الدعوة، فقد يغادر صاحب الدعوة الدار الدنيا، ولكن دعوته تبقى حية وذات تأثير في الناس.
    القسم الرابع : الدعوة التي تصدر من الجماعة والمؤسسة والدولة، وقد تتضمن صفة القانون الوضعي.
    ويمنع قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( )، من تغيير العرف السليم، وخروجه عن المفاهيم الشرعية، اذ أنها تطل كل يوم على المسلمين، وتحثهم على تعاهد هذا العرف، وتبين حسنه الذاتي والعرضي.
    ومن خصائص الدعوة إلى الخير أنها اصلاح للمجتمعات وتهذيب للنفوس.
    وتتتصف كل آية قرآنية بأمور :
    الأول : تأسيس عرف سليم في موضوعها وحكمها .
    الثاني : قانون الآية بناء في صرح الإسلام الخالد .
    الثالث : قانون الآية حصانة من مسالك الضلالة، قال تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ]( ).
    الرابع : قانون الآية سلاح للأمن الفكري ، وهي سلامة العقيدة وثبوتها في أذهان الناس .
    الخامس : قانون الآية القرآنية مانع من طرو عرف مغاير للعرف الاسلامي القائم على فعل الخيرات واتيان الصالحات واجتناب السيئات والنفرة منها ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
    قانون منع الإرهاب في المقولات العشرة
    من بديع صنع الله في الدنيا عدم إنحصار شكر العبد لله عز وجل في المقولات العشرة وهي أنواع الدلالات التي تحيط بالموجودات وهو الجوهر وتسعة أعراض هي المحمولات له والمقولات العشرة هي :
    الأول : الجوهر ، وهو الأصل مثل الإنسان .
    الثاني : الكم ، مثل أفراد القياس والطول والعرض .
    الثالث : الكيف ، مثل السنخية ، ومنه الصحة والقوة والهيئة ويدخل فيه العرض كاللون مثل البياض والسواد .
    الرابع : المكان أو أين ، مثل المسجد ودور العبادة والمنتدى والسوق والبيت ، وهل يشمل الراحلة وواسطة النقل أم أنها من العرض ، الجواب هو الأول ، ويحرم العمل الإرهابي والتخويف به في كل فرد من أفراد الممكن .
    الخامس : الزمان أو متى ، وأفراده المتعددة ، القصيرة كالساعة واليوم أو الطويلة كالسنة.
    لقد بعث الله عز وجل الأنبياء لتأكيد حرمة الإرهاب في أفراد الزمان الطولية وإلى يوم القيامة
    السادس : الوضع لبيان الهيئة والتركيب ، ومنه الجلوس .
    السابع : الإضافة ، والنسبة إلى الآخر مثل الأبوة والبنوة ، ومثل الربع والنصف ، لإرادة الجزء من الكل .
    الثامن : الملك ، مثل التلبس بأمر وحمل لواء القلم ، ولبس السلاح.
    التاسع : الفعل ، مثل هذا يكتب ، وهذ يصلي ، وهذ يحج البيت الحرام ، وفعل الإرهاب منكر ومكروه في ذاته ، وهو عائق دون فعل الصالحات .
    العاشر : الإنفعال وترتب الأثر ، وينفعل بشئ ويجمع الإرهاب بين الإضرار في الفعل والإنفعال .
    والمقولات العشرة استقراء من ارسطو ونحوه من العلماء في العلوم العقلية في الأزمنة الغابرة ، وهي لا تحيط بالمعلوم من الموجودات من جواهر وأعراض وقوانين الحياة ، والطبيعة ، وقواعد العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، وعالم المغيبات ، وبعض العلوم المستحدثة ، قال تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
    وهناك فارق بين الجوهر والأعراض التسعة أعلاه فالجوهر هو الأصل والأساس في الأجسام ، وهو موجود ظاهر.
    أما الأعراض فهي صفات وخواص تطرأ عليه وعلى المادة وقيل بالتفصيل في الجوهر وأنه ينقسم إلى خمسة ، هيومي ، وصورة ، وجسم ، ونفس ، وعقل .
    بلحاظ أنه أما مجرد أو غير مجرد.
    لقد خلق الله الجواهر بصفات سليمة وبهيجة ، أما الإرهاب فهو تشويه لها.
    وهو ضرر في كمه وكيفه قليلاً كان أو كثيراً بفعل فردي وسلاح أبيض أو بالتفجيرات ، وهو ضرر محض في أي موضع ومكان من الأرض ، وفي أي فرد من أفراد الزمان وفي حال نسبته إلى مذهب أو ملة أو تنظيم , وليس من ملة للإرهاب.

    قانون تعدد القوانين في الآية الواحدة
    قد تقدم الجزء الثامن والأربعون من هذا التفسير بخصوص تفسير آية الدين ، وكذا الجزء الثالث والثلاثون بعد المائة منه ومن خصائص قوانين الآية القرآنية أنها سلام ودعوة سماوية لنشر مفاهيم الرحمة والهداية ، ومناسبة للشكر لله عز وجل على توالي النعم ، وفيها :
    الأول : قانون نداء الإيمان : وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، وقد صدرت الأجزاء (131-132-136-137-138-139) من هذا التفسير بخصوص هذا القانون.
    الثاني : قانون (إذا تداينتم) وصحيح أن هذه الجملة شرطية إلا أنها تتضمن الإخبار عن حال إجتماعية واقتصادية وأخلاقية ، وفي التداين وقضاء الدين خلق حسن ورجاء للثواب ، وبرزخ دون الإرهاب ومقدماته.
    الثالث : قانون الدَين والقرض إلى أجل مسمى وشرائطه.
    الرابع : قانون خلو القرض من الربا ، وكما أن الدَين والقرض حرب على الربا ، فكذا فان التعاون بين الناس درء للإرهاب .
    الخامس : قانون كتابة الدَين لقوله تعالى (فاكتبوه) ولا يعلم منافع كتابة وتوثيق الدين إلا الله.
    السادس : قانون فورية كتابة الدين لمقام الفاء في (فاكتبوه) والتي تفيد التعقيب والحضور ، فلم تقل الآية (واكتبوه) لبيان إعجاز القرآن في التوثيق العام ، وإجتناب الإختلاف والخصومة.
    ترى ما هي النسبة بين الفاعل (تم) في تداينتم ، وبين واو الجماعة الفاعل في (فاكتبوه) المختار أنها نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالخطاب بالواو هنا أعم فلا يختص الأمر بكتابة الدَين بطرفي الدين ، وهما الدائن والمدين بل يشمل غيرهم.
    وهل يشمله قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، الجواب نعم.
    لذ قيل أن الكاتب غير المتداينيين.
    السابع : قانون كتابة كاتب عدل بالحق للدَين ومقداره وكيفية قضائه وأجله.
    الثامن : قانون كتابة الدَين من غير تبديل أو تغيير.
    التاسع : قانون عدم اعتذار الكاتب من غير ذريعة وحاجة وعذر.
    وقيل كان الكتّاب قلة أيام النبوة ، ولكن الآية مطلقة ، إذ أن امتناع الكتاب عن كتابة الدَين قد يكون سبباً في تضييع بعض الديون أو حصول خلاف بين الأطراف ، وتولي كتابة الدَين والقرض أمر مستحب ، وهو كفائي ، وقد يكون عينياً ، أو واجباً عينياً عند عدم وجود كاتب آخر ، وخشية تضرر صاحب الدَين.
    العاشر : قانون إملاء وإقرار الذي عليه الدَين عند الكتابة
    الحادي عشر : قانون التقوى عند كتابة الدَين ، من غير زيادة ربوية ، أو نقيصة ، أو تحريف لشرائطه أو للأجل لبيان قانون وهو كتابة الدَين رحمة وتخفيف ، وليس سبباً للضرر أو مقدمة للفتنة.
    الثاني عشر : قانون عدم البخس والنقص من الدَين عند كتابته ، وهو لا يتعارض مع عمومات الصلح أثناء الكتابة أو بعدها ، للتباين الموضوعي بينهما.
    الثالث عشر : قانون إملاء ولي اليتيم والسفيه مقدار وشرائط الدَين على الكاتب ، لقاعدة نفي الجهالة والغرر ، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
    الرابع عشر : قانون الشهادة على الدَين.
    الخامس عشر : قانون التقوى مانع من بخس حق الغير ، لقوله تعالى بخصوص المدَين والكاتب [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ]( ).
    وهل التقوى برزخ وحاجز دون الإرهاب والتخويف في باب الدَين وغيره ، الجواب نعم.
    ولم يرد (ليتق الله) في القرآن إلا في آية البحث والآية التي تليها بقوله تعالى [فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ]( )، والنسبة بين الأمانة والدَين موضوعاً وأداء عموم وخصوص مطلق ، فالامانة أعم .
    وهل المواطنة وتعاهد القوانين الوضعية في الوطن أو بلد الإقامة والسفر من حفظ الأمانة ، الجواب نعم.
    السادس عشر : قانون الشهادة على الدَين والقرض ، وجاءت الآية بصيغة الأمر [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ]( )، والأصل بالأمر هو الوجوب إلا مع القرينة الصارفة ، والمشهور والمختار أن الإشهاد هنا مستحب ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي ، وكذا في قوله تعالى [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ]( ).
    السابع عشر : التكامل في الشريعة الإسلامية ، ومنه حفظ حقوق الناس من الضياع بالتوثيق والكتابة والإشهاد والرهن ، وُذكر الرهن في الآية التالية لآية الدَين [وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ]( )، ولا يشترط إنحصار الرهن بحال السفر.
    وقد رهن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم درعه عند أبي الشحم اليهودي( )، في المدينة وهم حُضر على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها لأهله ، والصاع نحو ثلاثة كيلو غرام.
    وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطرد جميع اليهود من المدينة ، ولم يمتنع عن المعاملة معهم.
    الثامن عشر : قانون عناية أحكام الشريعة بالمحسنين ، ومنهم الذي يقوم باقراض غيره ، بتوثيق حقه.
    ولو تزاحم عند الدائن إقراض ذي القربى والأجنبي ، فيقدم ذي القربى لقوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]( ).
    أما الأثر (الأقربون أولى بالمعروف) فهو ليس من القرآن ولا من الحديث ، نعم هو قول مشهور مستقرأ منهما.
    وورد عن أنس أنه لما نزلت هذه الآية [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا]( )، (قَالَ جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَائِطِي الَّذِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا وَلَوْ اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُسِرَّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اجْعَلْهُ فِي فُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ أَوْ قَالَ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ)( )، وجعلها أبو طلحة لحسان بن ثابت وأبي بن كعب واسم أبي طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن الحرام من بني النجار ، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام ، أي أنهما يلتقيان في جدهما حرام.
    التاسع عشر : التخفيف والتيسير في الإشهاد بأن يكون الشهود رجلين أو رجلاً وامرأتين .
    العشرون : وجوب أداء الشاهد شهادته إذا دعي إلى الشهادة ، وقيل يتعلق الوجوب بتحمل الشهادة فاذا دعي المسلم للشهادة فليس له أن يعتذر ، أي في بداية القرض وكتابته سواء استلزم الأمر الشهادة فيما بعد عند الإختلاف والخصومة أو تم القضاء حسب الشروط ، وعند الأجل.
    الحادي والعشرون : قانون عدم السأم من كتابة الدَين والقرض ، ومقدار وضبط أجله ، وإن كان قليلاً لقاعدة نفي الحرج في الدين ،ومن إعجاز الآية تعدد الأوامر فيها ثم انتقلت إلى النهي والإحتياط والإضرار ، كما في قوله تعالى [وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا..] ( ) [وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا] ثم عادت الآية إلى صيغة الأمر [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] ( ) لبيان فضل الله عز وجل في بلوغ المسلمين مراتب من الفقاهة .
    الثاني والعشرون : قانون لزوم دفع الريب والشك في المعاملات.
    التضاد بين [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] وبين الإرهاب
    لقد جعل الله عز وجل القرآن ضياءً وسبيل هدى ، وكل كلمة منه مادة للإحتجاج والبرهان ، بما ينمي المدارك العقلية ويشيع الأخلاق الحميدة ويمنع من الرذائل والفسوق والعنف.
    ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) بيان القرآن لقانون من الإرادة التكوينية وهو بعث الله الناس للإحسان للقريب والبعيد وبالقول والفعل ، وفي قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] مسائل:
    الأولى : لحاظ موضوع الآية التي يرد فيها قوله تعالى [اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
    الثانية : بيان ماهية الإحسان الذي تذكره آية [الْمُحْسِنِينَ].
    الثالثة : الجمع بين مضامين آيات [الْمُحْسِنِينَ] وتقسميها حسب الموضوع والحكم وكيف أن كل آية منها تنهى عن الإرهاب ، وتمنع منه وتبين كونه حاجباً للمنافع الدنيوية والآخروية ، وهذه الآيات هي :
    الأولى : قوله تعالى [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    الثانية : قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    الثالثة : قوله تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    الرابعة : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    الخامسة : قوله تعالى [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    قانون الإرهاب نقيض الوفاء بالعهود
    من الشواهد على نفخ الله عز وجل من روحه في آدم بقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، حرص الناس على الوفاء بالعهد في الجملة ، ونفرتهم من الذي ينقض العهد ويخالفه ، وهذا الحرص من أسباب استدامة خلافة الإنسان في الأرض وتعظيم شعائر الله.
    فالى جانب كون الوفاء بالعهد حسن عقلاً ، فقد جاء الأنبياء بتعاهده والأمر به ، وإظهار التقيد به حتى وإن كان مع الكفار ، ويكون العهد تارة عقداً بين طرفين أو أكثر ، وقد يكون إيقاعاً من طرف واحد فيأتي مثلاً باليمين والنذر والوعد.
    والوفاء بالعهد الذي هو عقد هو الأهم والأولى بالعناية لتعلق موضوعه والمصلحة فيه بطرف آخر لذا يكون نقضه نوع غدر.
    وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الوفاء بالعهد والميثاق ، والتقيد بشروطه وآدابه وكان يتقيد بالعهد والموادعة حتى ولو كانت مع المشركين وكان يستقبل الرسل والذين يوفدهم قومهم فيسمع منهم ويجيبهم ، ويردهم سالمين من غير أن يهيجهم ، وان أظهروا الكفر بنوته في حضرته وبين أصحابه.
    وكان لايحبس الرسول والموفد من قومه وإن أظهر رغبته بالبقاء في المدينة ودخوله الإسلام.
    (قَالَ أَبُو رَافِعٍ : بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا أَتَيْتُهُ وَقَعَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لَا أَرْجِعُ إلَيْهِمْ . فَقَالَ إنّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الّذِي فِيهِ الْآنَ فَارْجِعْ)( ).
    وكان هذا في مدة الهدنة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش في صلح الحديبية بأن يرد عليهم من جاءه مسلماً منهم.
    ويتناقض الإرهاب مع الوفاء بالعهد ، وحياة الأمن التي يعيشها الناس في يومهم ، وهل قوانين الأخوة في المواطنة من العهد الذي لا يجوز مخالفته من غير دليل شرعي وفي مورد مخصوص ، الجواب نعم.
    وورد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ذمة المسلمين واحدة، فإن أجارت عليهم امرأة فلا تحقروها، فإن لكل غادر لواء يوم القيامة)( ).
    وفرّ صفوان بن أمية من مكة يوم الفتح متوجهاً إلى البحر ، وهو من رؤساء بني جمح من قريش وكانوا من أكثر الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    (فأقبل عمير بن وهب بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إن صفوان بن أمية سيد قومه وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمنه صلى الله عليه وسلم فإنك قد أمنت الأحمر والأسود
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك ابن عمك فهو آمن.
    قال يا رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة وهو يريد أن يركب البحر فقال يا صفوان فداك أبي وأمي الله الله في نفسك أن تهلكها فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به قال ويلك اغرب عني فلا تكلمني.
    قال أي صفوان فداك أبي وأمي أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمك عزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك.
    قال إني أخافه على نفسي.
    قال هو أحلم من ذلك وأكرم.
    فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صفوان إن هذا يزعم أنك أمنتني ، قال صدق.
    قال فاجعلني فيه بالخيار شهرين ، قال أنت بالخيار أربعة أشهر)( ).
    وقد سبق أن بعث صفوان عمير بن وهب هذا بعد معركة بدر إلى المدينة ليغتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنيته والقصد الخبيث الذي جاء به ، ومن بعثه فأدرك عمير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبره من علم الغيب فدخل الإسلام يومئذ.
    ولجأ رجلان من بني مخزوم إلى بيت أم هانئ بنت أبي طالب في مكة يوم الفتح .
    وكان زوجها هبيرة بن أبي وهب من بني مخزوم ، ولكنه لم يبق في مكة إنما فرّ إلى اليمن ، ومات هناك كافراً.
    وعن ابن إسحاق باسناده ان أم هانئ (قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيّ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِي ، فَقَالَ وَاَللّهِ لَأَقْتُلَنهُمَا ، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي ، ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَوَجَدْته يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ إنّ فِيهَا لَأَثَرَ الْعَجِينِ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشّحَ بِهِ ثُمّ صَلّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ مِنْ الضّحَى ثُمّ انْصَرَفَ إلَيّ فَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا أُمّ هَانِئٍ مَا جَاءَ بِك ، فَأَخْبَرْته خَبَرَ الرّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيّ فَقَالَ ” قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت ، وَأَمّنّا مَنْ أَمّنْت ، فَلَا يَقْتُلْهُمَا)( ).
    لقد أكثر كفار قريش من الإرهاب والتخويف العام ، وتجهيز الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل ، وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله ، ولما عجزوا عن بلوغ غاياتهم الخبيثة وكثر عدد المسلمين ، رضوا بصلح الحديبية وهم ينوون نقضه والتحايل عليه بغدر وخبث ، فجاء فتح مكة وفيه نصر من الله لرسوله والمؤمنين ، ودعوة متجددة لنبذ الإرهاب ، وتنزه المسلمين عنه في بلادهم وعموم بقاع الأرض.
    لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الصلح والموادعة فتح وفيه زجر عن إرهاب الناس والظلم.
    فتوى جواز زراعة كلية الخنزير
    بسم الله الرحمن الرحيم
    سماحة المرجع حفظكم الله ورعاكم…
    تمكن فريق من الأطباء مؤخرا من زراعة كلية خنزير معدله جينيا خارج جسم امرأه ميته سريريا وقد نجحت العمليه وستزرع للانسان المصاب بالفشل الكلوي في الأيام القادمة.
    ووجد ان هنالك أعضاء أخرى مطابقه لاعضاء الإنسان مثل صمامات القلب زرعت للانسان … ممكن أن تتفضلوا علينا برأيكم الشرعي لكم كل التقدير والاحترام….
    الجواب :
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    العدد : 2085/21
    التاريخ: 4/11/2021
    رقم الفتوى : 600
    قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )
    الحمد لله الذي جعل أيام الصحة والعافية عند الإنسان أضعافاً مضاعفة لأيام السقم والمرض ،وقد يكون الإنسان فقيراً ، ولكن نعمة الصحة تصاحبه وتتغشاه ، وفيه بعث للشكر لله عز وجل على نعمة العافية وموضوعيتها في استدامة العمل والبناء وتحقيق الرغائب ، وأداء العبادات.
    ومن مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) إقرار العقلاء جميعاً بأن نعمة العافية أعظم من نعمة الغنى.
    ولم يرد لفظ [تَقْوِيمٍ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان الله عز وجل فضله على الإنسان بجمال خلقته ومناسبة هيئته لقضاء حاجاته ورغائبه ، وخلوها من النقص والعيب ، وفيه دعوة للإنسان للشكر لله عز وجل ، والرأفة بغيره من بني جنسه ، وإجتناب الفساد وسفك الدماء.
    وحينما قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فانه سبحانه أمدهم بالعافية والصحة ، وتفضل وخفف عن المرضى من جهات مثل أداء الصلاة عن جلوس لمن لا يقدر على القيام لأنها لا تترك بحال ، وبسقوط الصيام عنه لقوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
    وهل يجب الصوم على ذي العجز الكلوي ، الجواب لا ، لحاجته للإحتفاظ بدرجة من السوائل وللخشية من مضاعفات بعد الصيام إلا أن يأذن الطبيب الحاذق له بالصيام عندما تكون حالته المرضية خفيفة.
    لقد جعل الله عز وجل حال المرض مناسبة للدعاء ولتخفيف الذنوب ، وعن السكوني عن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عليهم السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بادر بأربع قبل أربع: بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك)( ).
    (عن الحسن البصري قال : طلبت خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجمعة فأعيتني ، فلزمت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك ، فقال : كان يخطب فيقول في خطبته يوم الجمعة : يا أيها الناس إن لكم علماً فانتهوا إلى علمكم ، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، فإن المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري كيف صنع الله فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري كيف الله بصانع فيه .
    فليتزوّد المؤمن من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشباب قبل الهرم ، ومن الصحة قبل السقم ، فإنكم خلقتم للآخرة ، والدنيا خلقت لكم والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ، وما بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار ، واستغفر الله لي ولكم)( ).
    وعن الإمام علي عليه السلام قال (خير ما يسأل الله العبد العافية.
    وقال عيسى عليه السلام: الناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا المبتلى، واحمدوا الله على العافية، وفي حكمة آل داود: العافية الملك الخفي)( ).
    ولم ينحصر تحريم الخنزير بالشريعة الإسلامية ، فقد حرمت التوراة أكله ولمسه أيضاً .
    فورد في سفِر التثنية (والخنزير لانه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم فمن لحمها لا تاكلوا وجثثها لا تلمسوا) ( ) وقريب منه ورد في انجيل برنابا 5/100 .
    ويحتاج المصاب بالفشل الكلوي وحالة التقدم في أمراض الكلى إلى إزالة الفضلات من مجاري الدم لإنقاذ حياته بأحد طريقين :
    الأول : جهاز غسيل الكلى .
    الثاني : زراعة الكلى .
    ويكون بأحد طرق :
    الأول : أخذ كلية من متبرع حي .
    الثاني : أخذ كلية من ميت ، وهو الأكثر في زراعة الكلية في البلدان المتقدمة .
    وزاعة الكلية أفضل في سبل العلاج ، وقلة مخاطر الوفاة ، وتكفي كلية واحدة لحاجات الجسد .
    ويلزم العناية بالكلية من حين أخذها من الجسم المنقولة منه إلى الشخص المتلقي الذي تزرع في جسمه بوضعها في الثلج أو ربطها بجهاز يمدها بالأوكسجين ونحوه ، لذا غالباً ما تكون عملية الإنتقال هذه في ذات الموضع والمستشفى .
    الثالث : أخذ الكلية من الحيوان وعدم رفض جسم الإنسان لها، وهو نعمة عظمى ، وتخفيف عن أفراد المجتمع المعافى والمريض ، وبعث للسكينة في النفوس .
    ونجاح تجربة زرع كلية خنزير في جسم الإنسان هذه الأيام نعمة ، والمؤمن أولى بالإنتفاع من النعم .
    وتجوز هذه الزراعة بلا إشكال ، وتستهلك هذه الكلية في بدن الإنسان وتلحقها طهارته ، إنما القدر المتيقن من نجاسة الخنزير هي حرمة أكله وثمنه وليس التداوي به ، قال تعالى [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
    وقال أحد مراكز الإفتاء في العالم الإسلامي بالجواز أيضاً ، واستدل بقوله تعالى [فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ] ولكن لا تصل النوبة إلى الضرورة والإضطرار إنما هو نعمة وتخفيف عن الصحيح والسقيم.
    وينطبق عليها قوله تعالى [وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] ( ) وتمام الآية هو [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] ( ) والآية أعلاه مدنية ومن آخر ما نزل من القرآن .
    لندعو دوائر الإفتاء إلى النظر لمستحدثات المسائل بعين السماحة والتخفيف وليس استثناء من الحرمة والمنع لعمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
    و(عن مِحْجَن بن الأدرع: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة ، فقال : أتراه يصلي صادقًا، قال : قلت : يا رسول الله، هذا أكثر أهل المدينة صلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تُسْمِعْه فَتُهلِكَه ، وقال: إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر، ولم يرد بهم العُسْر)( ).
    وجواز زرع كلية الخنزير للمصاب بالعجز الكلوي من مصاديق قوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعثت بالحنيفية السمحة( ).
    وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)( )، كما تقدم بيانه مع الشرح.
    ومن البشارة والتيسير في المقام الإفتاء بجواز نقل الكلية من الخنزير إلى الذي يحتاجها مسلماً أو غير مسلم ، ذكراً أو أنثى .
    نعم لو وجدت زراعة كلية من حيوان طاهر فهي أولى وأفضل إذا كانت بذات خصائص كلية الخنزير أو أحسن ، وقد لا تستديم هذه المسألة.
    الرابع : الكلية الصناعية اكتشاف علمي جديد سيخفف عن الناس كثيراً ، ويستغنى معه عن كلية الخنزير ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
    وقيل أن (800) مليون حول العالم يعانون من أمراض الكلى المختلفة ، وهم أكثر ممن يعانون من مرض السكري .
    إن حرمة أكل الخنزير ونجاسة عينه لا تعني الإمتناع التام عن الإنتفاع منه في غير موارد الحرمة مع الحاجة .
    وفي صحيحة زرارة أنه سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام (عن الحبل يكون من شعر الخنزير تسقى به الماء من البئر أيتوضأ من ذلك الماء ، قال : لا بأس ).
    وصحيح أن الشعر مما لا تحله الحياة فلا تشمله الحرمة إنما يفيد وفق قاعدة تنقيح المناط جواز الإنتفاع من الكلية للزراعة ، وكذا بالنسبة لإستبدال أعضاء أخرى تالفة من الإنسان مثل صمامات القلب ، كما في مفروض السؤال أعلاه ، والعلم عند الله .
    وستتم قريباً زراعة الكلية الصناعية ، ولو كانت زراعة الكلية من الخنزير أحسن للمريض وأطول أجلاً وأنقى للدم ، ونحوه مما يكون راجحاً على إستعمال الكلية الصناعية خاصة في بدايات زراعتها فالأولى زراعة كلية الخنزير لقاعدة نفي الحرج في الدين ، ومنع التشديد على النفس .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn