المقدمــــــة
الحمد لله الذي جعل كل إنسان يتقلب في نعمه المتصلة ، منها نعم مستديمة وأخرى مستحدثة ، وأخرى تنسخ وتنقض حال البأساء والمرض والشدة ، ومنها نعمة البشارة التي تصاحب الحياة الدنيا ، إذ تولى الله عز وجل بشارة الناس بنفسه ، وبصيغة المضارع ، وفي التنزيل [ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
ومن أسرار بعثة الأنبياء والغايات الحميدة لها مجئ كل واحد منهم بالبشارة في الدنيا والآخرة وهي سبيل مبارك في الدعوة إلى الله.
وهل هذه البشارة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب نعم إذ نزل آدم بالبشارة بتوالي النعم ، والرجوع إلى الجنة بالتقوى والعمل الصالح ، وبها وبتفاصيلها يعض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
وليس من كتاب سماوي إلا وهو يحمل البشارة للناس ، وهو من كرم وفضل الله عز وجل وعمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ]( )، وفيه إكرام للنبي وأتباعه المؤمنين والناس جميعاً وجعل الله البشارة جلية في القرآن فهو كتاب البشارة والدعوة إلى الله.
وقد إتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البشارة سلاحاً سماوياً مباركاً في دعوته منذ الأيام الأولى للبعثة النبوية ، ونزلت بها السور المكية ثم السور المدنية مع اقترانها بوجوب الإيمان وأداء العبادات والإستعداد ليوم الحساب.
ويمكن إنشاء قانون الجامع بين السور المكية والمدنية ، وإن كان الإختلاف في الكم والموضوع وأسباب النزول وهذا الجامع على وجوه منها :
الأول : وجوب التوحيد ، وفي التنزيل[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ).
الثاني : التصديق بالنبوة والتنزيل .
الثالث : أداء الصلاة فحالما يدخل المكلف الإسلام يتوجه له الأمر بالصلاة ومن أكثر الناس الذين لاقوا الأذى بسبب الإسلام هم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الأوائل في مكة، قال تعالى[وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى]( ).
الرابع : البشارة ، وفي سورة الضحى [وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى]( ).
الخامس : الإنذار ، فمثلاً وردت البشارة والإنذار في سورة الأعراف وهي مكية ، قال تعالى [إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
نعم مفردات لغة الإنذار في السور المكية أكثر من البشارة ولكن الناس يدركون أن مفهوم الإنذار هو البشارة لمن إجتنب المنُذَر منه.
السادس : الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والحجة والبرهان ، ليدل قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، على حضّ المسلمين بالإستدلال على أمور:
الأول : الوحدانية .
الثاني : النبوة والرسالة .
الثالث : وجوب الإستقامة والصلاح والتدبر والإتعاظ من الحجج التي جعلها الله عز وجل حاضرة في الآيات الكونية .
السابع : إتصاف السور المكية والمدنية بالدعوة بصبغة السلم واللطف والرفق ، والرفق لين الجانب ، والترغيب بالأسهل وصيغ الإكرام ، وإجتناب الغلظة والشدة والعنف ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وصيغة الدعوة باللين والرفق مطلقة لم تختص بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا بفئة من الناس دون أخرى ، فقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام بدعوة فرعون بالرفق مع أنه ادعى الربوبية ، قال تعالى [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]( )، وقد ورد في الجزء السابق من هذا السِفر المبارك وهو الثلاثون بعد المائتين عدة قوانين بخصوص الرفق واللين، وبيان قانون ملازمته للنبوة منها:
الأول : قانون(بشّروا ولاتنفروا) ( ) زاجر عن الإرهاب.
الثاني : قانون اللين في الدعوة( ).
الثالث : قانون الإرهاب ظلم( ).
وستأتي في هذا الجزء شواهد عديدة تدل على الرفق في السنة النبوية القولية والفعلية.
وهل الخطاب والأمر من الله[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يشاركه أحد ، الجواب لا، إنما هو خطاب للنبي وتشاركه فيه الأمة بالتكليف ، وليس هو من تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع، للتباين الموضوعي ولأن هذه القاعدة مع ظن إشتراك الفرع في الداعي .
وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، ليكون من إعجاز القرآن بخصوص عنوان هذا الجزء وهو (آيات الدفاع سلام دائم) قانون حمل الخطاب الخاص على العام وهو ضد تخصيص العام.
ولا ملازمة بين قصر السورة وكونها مكية ، فقد تكون السورة قصيرة ، وفي آخر نظم القرآن ولكنها مدنية كما في سورة النصر التي هي من آخر سور القرآن نزولاً قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الحمد لله الذي اختص لنفسه بالملكية المطلقة للسموات والأرض ، فليس من شريك له في العبادة أو المشيئة أو الملك أو التصرف في عالم الأكوان لتكون الخلائق كلها محتاجة إليه ، تتطلع إلى فضله ، وترجو إحسانه ، ومنهم الإنسان الذي رزقه الله عز وجل العقل وجعل الشهوة تزاحمه أو تتعارض معه في صراع يومي متجدد.
فتفضل الله عز وجل بأداء الفرائض العبادية مدداً للعقل ، وغلبته ، وقهره للنفس الشهوية ، ومنعه من استحواذ النفس الغضبية على اللسان والجوارح الأخرى.
وليشكر الناس الله عز وجل لهم على هذا الفضل اليومي المتجدد والذي ينتفع منه الأحياء والأموات ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
الحمد لله الذي تفضل بهدايتنا لذكره وعبادته ونسأله تعالى الفوز بحبه ، فان من يحبه الله يهديه إلى سواء السبيل ، وفي التنزيل [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) لذا أمركل مسلم ومسلمة بقول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم.
الحمد لله الذي أنزل القرآن لتبقى خزائن علومه مشرعة للعلماء لينهلوا منها ، ويتجلى لهم وللناس قانون عدم إصابتها بالنقص يوماً ما.
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار الأمن والسلام وهو من رشحات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فمن خصائص الخليفة تعاهد السلم المجتمعي والأمن للناس ، وهو غاية من غايات بعث الأنبياء ، وفي سيرة وقصة كل نبي أمارات ودلالات على سعيه في نشر ألوية السلم ، وتحمله الأذى بصبر ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، والجواب من جهات :
الأولى : لم يقاتل كل الأنبياء ، إنما كان القتال من طائفة من الأنبياء.
الثانية : قد يقع قتال الصحابة والأنصار ، من غير أن يكون النبي قد قاتل معهم.
الثالثة : قتال الأنبياء والصحابة دفاعاً وليس هجوماً أو غزواً لغيرهم.
وهل الآية أعلاه من آيات الدفاع ، المقصود في عنوان هذا الجزء من التفسير ، الجواب نعم ، فلا تنحصر آيات القتال بالتي نزلت بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، بل هي بيان لجهاد الأنبياء في سبيل الله ، وثباتهم في مناهج الدعوة والنهج القويم حتى وإن اضطروا إلى الدفاع.
وتقدير الآية أعلاه : وكأين من نبي وانت منهم دافع معك ربانيون كثير.
لتدل الآية بمعناها الأعم على الثناء على الصحابة.
وقد تقدم في الجزء الأول من التفسير بيان لوجوه الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومنها الدفاع عن النبوة والتنزيل( ).
لتكون آيات القتال والدفاع في القرآن استئصالاً للكفر ، وإزاحة لرؤساء الكفر من مقامات الرياسة وسوق الناس لميادين القتال ظلماً لأنفسهم وللمؤمنين ، وهذه الإزاحة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لتكون من معاني [قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( )، وجوه :
الأول : التأسي بالأنبياء السابقين في الدفاع عن بيضة الإسلام .
الثاني : صرف ودفع القتل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليستمر توالي نزول آيات القرآن ، وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحكام الشريعة ، وهو من مصاديق إتصاف دفاعه وأصحابه بأنه [فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
الثالث : الفصل بين رؤساء الكفر وعامة الناس ، فلا يحملون على قتال النبي ، إنما يتركونهم يتدبرون في معجزاته ، وكانت كثير من القبائل تمتنع عن دخول الإسلام ، خشية من قريش وسطوتها ، ونفوذها وأموالها ، فابتلاهم الله عز وجل بالهزيمة في معركة بدر ، وبما تتجلى معه المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المعركة وغيرها ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ليكون من مصاديق النصر في الآية التخفيف عن الناس جميعاً بازاحة كابوس الخوف من المشركين عنهم.
الرابعة : لم يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا اضطراراً ودفاعاً ورجاء تثبيت السلم في الأرض إلى يوم القيامة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بصناعة الأسلحة كالسيوف والدروع ، ولم يحض أو يشجع على مثل هذه الصناعة ونحوها ، إنما حضّ الناس على أداء الفرائض العبادية ، وعندما تضاعفت أعداد المسلمين ، وأرسل الأمراء والقضاة إلى الأمصار اجتهد في العبادة لبيان أنه لم يطلب الدنيا لا لنفسه ولا لأهل بيته.
و(عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تفطر قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال : أفلا أكون عبداً شكوراً)( ).
الحمد لله الذي أخبر عن كراهية المسلمين للقتال ، وهذا الإخبار من الإعجاز لعلمه تعالى بما تخفي الصدور لأن الكراهية كيفية نفسانية لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وقد يقال إنما هذا الكره ظاهر في عالم الأقوال والأفعال.
الجواب لا دليل على هذا الظهور ، إذ كان الصحابة يتناجون بلزوم الدفاع عن النبوة وبيضة الإسلام .
لقد زحف ثلاثة آلاف من المشركين مدججين بالسلاح لغزو المدينة في منتصف شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، وصاروا على مشارفها ، وأطلقوا لثلاثة أيام خيلهم وإبلهم في زروع أهل المدينة ، ومن يأتي منهم لزرعه يرمونه بالسهام والنبال ، فألتجأوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشكون أمرهم ، وما لحقهم.
وتناجى الصحابة بالخروج إلى قتالهم خصوصاً الصحابة الذين لم يحضروا معركة بدر ، وقد تجلت فيها معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشوهدت الملائكة واثارها في ميدان المعركة، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
وهذا الجزء هو الواحد والثلاثون بعد المائتين من تفسيري للقرآن (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ويختص بقانون (آيات الدفاع سلام دائم) وقد صدر بذات العنوان كل من :
الجزء الثاني والأربعين بعد المائة .
الجزء الخامس بعد المائتين .
الجزء السابع عشر بعد المائتين.
الجزء الثامن عشر بعد المائتين .
وهي معروضة على موقعنا (www.marjaiaa.com) مع أجزاء التفسير الأخرى.
لبيان قانون وهو نزول القرآن بألوية السلم ولتثبيت الأمن في ربوع الأرض إلى يوم القيامة فكل آية من القرآن رحمة في مضامينها ودعوة للتسامح والعفو والرأفة بين الناس ، أما الإطلاق المكاني في نشر الأمن فلقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
فمن إعجاز الآية أعلاه بيان صبغة العالمية لوظائف البشارة الدنيوية والأخروية ، لأهل الإيمان والصلاح ، والإنذار والوعيد للذين كفروا ، وليس في هذا الإطلاق معاني القتال والغزو والهجوم ، ولكن من وجوه تقدير الآية مبشراً للذين يدافعون بالصبر والحجة والبرهان عن بيضة الإسلام ، ونذيراً للكفار الذين يعتدون ويصرون على القتال ، قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
حرر في 7 جمادى الأولى1443
12/12/2021
قانون خلافة الإنسان
الحمد لله الذي جعل الحمد مصاحباً لعمارة الأرض ، لا يفارقها أبداً ، فلابد من وجود حامدين لله عز وجل في كل ساعة من ساعات الليل والنهار من حين هبوط آدم إلى الأرض وإلى وقت النفخ في الصور ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتحتمل النسبة بين الخلافة في الأرض والإنسان وجوهاً :
الأول : التساوي وأن الخليفة في الأرض هو الإنسان.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، ويحتمل شعبتين :
الأولى : الخليفة أعم من الإنسان .
الثانية : الإنسان أعم ، فهو يتولى مسؤوليات الخلافة في الأرض وغيرها.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الخليفة والإنسان.
والمختار هو الأول أعلاه لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وقد سبق عمارة الجن للأرض قبل أن يخلق الله عز وجل آدم ويهبطه إلى الأرض ، قال تعالى [وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ]( ).
وهل كان الجن خلفاء في الأرض كما في قوله تعالى بخصوص الناس [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب لا.
ويفيد ظاهر قوله تعالى ابتداء الخلافة بالإنسان.
وتحتمل خلافة الإنسان في الأرض وجوهاً :
الأول : الإنسان خليفة لله في أرضه ، وتقدير الآية : اني جاعل خليفة لي في الأرض ، وقيل لا يستقيم هذا المعنى لأن الخلافة تكون من ذات الجنس ، وسبحان الله عز وجل هو الخالق [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ]( )، والإنسان مخلوق.
ولكن موضوع الخلافة أعم ، وجاء العلم الحديث ليكون إنساناً ألياً خليفة للإنسان في أمور مخصوصة وهو ليس من جنس الإنسان ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان لله في الأرض وقوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الثاني : الإنسان خليفة لمن قبله ممن كانوا يعمرون الأرض ممن عمّر الأرض من النسناس والجن ، وبه قال جمع من العلماء .
الثالث : وجود حذف في الآية لموضوع الخلافة ، وتقدير الآية : وجعلكم خلائف على أمر في الأرض ، أو وجعلكم خلفاء في التصرف المحدود في الأرض.
الرابع : إرادة الخلافة بين الناس ، فيخلف بعضهم بعضاَ.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لقانون يعطي الله عز وجل بالأوفى والأتم ، والمختار أن الأصل في الخلافة في الآية هو خلافة الإنسان لله عز وجل في الأرض ، خلافة محدودة ومقيدة ، وهي من رشحات قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
والمراد من لفظ (خليفة) اسم مفرد واسم جنس في آن واحد ، من جهتين :
الأولى : خلافة آدم عليه السلام ، إذ هبط هو وحواء وابليس إلى الأرض ، وكان آدم عليه السلام رسولاً نبياً.
الثانية : الخلافة بالمعنى الأعم ومنها : خلافة النبي والرسول المنفرد في زمانه.
الثالثة : الإشتراك في الخلافة بين النبي والناس في زمانه ، لبيان إجتماع الخلافة العامة والخاصة ، وفي هود عليه السلام وخطاباته لقومه ورد في التنزيل [أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
لبيان إجتماع فردي الخلافة ، الفردية بخلافة هود ، والعامة بخلافة قومه في الأرض ، على فرض صحة هذا القول المستحدث الذي نذهب إليه.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقل إذا جعلكم خلف قوم نوح ، الذي يعني التوارث بين الأجيال والأمم للخلاف الذاتية بين الناس ، إنما قالت الآية [خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ]( )، مما يدل على وجود موضوع آخر للخلافة ، وأن تقدير الآية إذ جعلكم خلفاء على أمر من قوم نوح .
وكذلك قوله تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] ( ) .
الثالثة : خلافة الرسول والمؤمنين في الأرض ، كما في قوله تعالى [فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ]( ).
وهل يمكن تقدير الآية أيضاً ثم خلائف من بعد نوح ، الجواب نعم ، بدليل قوله تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] ( ).
وهل يدخل النبي في هذه الخلافة الجواب نعم ،وهو الإمام فيها ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : وجعلني وإياكم خلفاء من بعد قوم نوح .
ثانياً : وجعلني خليفة لنوح .
ثالثاً : وجعلني خليفة لنوح وانتم الخلفاء لقومه فلا تكفروا مثلما كفروا فأخذهم عذاب الطوفان والغرق ، وهل هذا الطوفان إنذار لفرعون وقومه من الغرق عند محاربتهم لموسى عليه السلام ، الجواب نعم .
وهل انتفعت أقوام وملوك من آية عذاب قوم نوح فاجتنبوا الكفر ومحاربة الأنبياء ، المختار نعم ، لقانون لابد من وجود أمة وقوم ينتفعون من الإنذار والموعظة والعبرة التي تقع في الأرض .
الرابعة : خلافة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء والرسل السابقين .
الخامسة : خلافة المؤمنين للأمم السابقة ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
والمختار تعدد مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، وشمولها للوجوه المتقدمة أعلاه ، وهو من معاني نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، وأصالة الإطلاق في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ترى ما هي النسبة بين الخلافة في الأرض والرسالة من عند الله عز وجل ، كما في قوله تعالى [وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، ومن مصاديق خلافة الإنسان في الأرض إقتران طاعة الرسول بطاعة الله عز وجل ، قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
قانون معجزة خلق آدم دعوة للسلم
من بديع صنع الله عزوجل في الكائنات إكرامه للإنسان من حين خلقه من جهات :
الأولى : خلق آدم عز وجل الإنسان بيده وبأمره ومشيئته .
الثانية : تفضل الله عز وجل بالنفخ من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
الثالثة : صيرورة آدم نبياً رسولاً .
(عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله من كان أولهم؟ يعني الرسل قال : آدم قلت : يا رسول الله أنبي مرسل.
قال : نعم . خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسوّاء قبلاً)( ).
وهذا الحديث من جوامع الكلم إذ ذكر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة نعم من الله على آدم وهي :
الأول : خلق الله لآدم بيده من غير أن يمر بتكون في الرحم ، وحال ولادة ، وحضانة وصبا ، وهل فيه بشارة إمكان صناعة الإنسان في الأزمنة اللاحقة من رأس من غير حضانة ونشأة ، الجواب لا ، نعم صارت في هذا الزمان صناعة الإنسان الآلي .
الثاني : لم يوكل الله عز وجل خلق آدم إلى أحد الملائكة أو عدة منهم أو غيرهم من سادة الخلائق ، إنما خلقه الله عز وجل بيده ، وهل إنفرد آدم بهذه النعمة من بين الخلائق ، وأنه ليس من خلق خلقه الله بيده ، الجواب لا ، قال تعالى [وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) إنما انفرد آدم بهذه النعمة من بين الناس .
الثالث : ليس لآدم أب أو أم .
الرابع : قانون إقامة آدم برهة من الزمن في الجنة معجزة .
الخامس: صحبة آدم للملائكة والتعلم منهم .
السادس : تفضل الله عز وجل بتعليم [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) وليس من واسطة كالملائكة بين الله عز وجل وبين آدم في هذا التعليم ، ومن الإعجاز قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ] ( ).
وهل كلمة الله عز وجل آدم من وراء حجاب أم مباشرة ، المختار هو الثاني ، ولكن الوحي في السماء ، مختلف عما في الأرض إذ كلمه الله عز وجل قُبُلاً .
إذ ورد عن أبي (قلت: يا رسول الله؛ أريت آدم، أنبيًّا كان ، قال : نعم ، نبيا رسولا كلمه الله قِبَلا فقال {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ})( ).
والمراد من قُبُلاً أي مقابلة ومواجهة وحضوراً ومباشرة ولا يعني معاينه، كما في قوله تعالى [أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً] ( ).
وقد ورد لفظ [قُبُلاً]في حديث عالم الذر ، إذ (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قبلاً قال {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} إلى قوله {المبطلون})( ).
و(عن الشعبي : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلاً فيقال ابن ليلتين)( ).
ترى لماذا جاء حرف العطف (ثم) في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) ولم يأت حرف الواو.
الجواب تفيد (ثم) التراخي أي هناك فترة بين تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء وبين عرضها على الملائكة ، ومن الإعجاز وبديع خلق آدم في المقام وجوه :
الأول : تثبيت الأسماء في ذهن آدم واستحضاره لها .
الثاني : بيان أثر تعليم الأسماء في قول وعمل آدم .
الثالث : إتخاذ آدم الأسماء وسيلة في الدعاء .
الرابع : بيان مسألة وهي أن الله عز وجل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) لإصلاحه وذريته لخلافة الأرض ، وجاء احتجاج الله عز وجل على الملائكة على نحو عرضي .
الخامس : من لطف الله علم الملائكة ببديع صنع الله في خلق آدم.
السادس : تأكيد أن الفعل والمعرفة عند الإنسان واقية من الفتنة ومن الفساد .
قانون صدور الخليفة عن القرآن
من خصائص الخليفة الرجوع إلى الذي استخلفه للعمل فكان القرآن دستور الرجوع، فما يصدر عنه فرد أو جماعة أو أمة إلا وكان الفلاح مصاحباً لهم ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وقد تغلب النفس الغضبية أو الشهوية على الإنسان وتتعدد رغائبه، وتشطح آماله، ويرجو ما ليس له، ويترك ما يجب عليه، فجاءت آيات القرآن حرزاً وإماماً وهدى، قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ]( ). والدفاع في سبيل الله إحسان للذات والإسلام وللأمة والناس جميعاً لما فيه من الحسن الذاتي من وجوه : الأول : الدفاع عن الحق والهدى . الثاني : زحزحة الكفر عن منازله . الثالث : منع التعدي والظلم . الرابع : القتال في سبيل الله رحمة بالناس الذين يقاتلهم المسلمون، لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ). الخامس : نجاة الأجيال من العذاب، إذ ينشر الإسلام مفاهيم الصلاح، ويحارب الفساد والفجور. (عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)( )، ونزول العذاب من مصاديق قوله تعالى[وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ). لبيان أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفع هذه العاقبة عن الناس . ومن إفاضات الآية أنها جمعت أمراً وشرطاً ونهياً في موضوع متحد بأن أمرت بالقتال دفاعا , ونهت عن التعدي، قال الشاعر: ضدان لما استجمعا حسنا … والضد يظهر حسنه الضد( ). والمراد من الضد الحسن هنا ليس التعدي بل انقطاع القتال والنهي عن التعدي لبيان التكامل العقائدي والإرتقاء الأخلاقي عند المسلمين، بأن يدافعوا عن النبوة والتنزيل في سبيل الله، ويمتنعوا في ذات الوقت عن التعدي والظلم، وهو من المصاديق العملية لقوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ). لقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية جامعة مانعة ليكون المسلمون أئمة في الإمتثال للأمر والنهي النازلين من عند الله، وكل من الإمتثال في باب الأمر والنهي له بهاؤه وإشراقته، وهما معاً آية يومية متجددة تدعو الناس لمحاكاة المسلمين والإقتداء بسيرتهم، والتحلي بأدب العبودية لله بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتهوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ). قانون آيات الإنذار سلام لا يختص الإنذارالقرآني بالألفاظ التي تدل عليه بل يشمل الآيات والألفاظ التي تتضمن في مفهومها الإنذار والوعيد ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ..] ( ) وهذه الآية من آيات إنذار المشركين وزجرهم عن العودة إلى قتال ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . والإنذار هو الإعلام المقترن بالتحذير أو التهديد أو الوعيد ، وليس في القرآن لفظ (إنذار) سواء كاسم أو مصدر . وأنذر ، ينذر ، إنذاراً ، فهو منذر ، ومن يتوجه إليه الإنذار يكون مُنذَراً ، بفتح الذال ، قال تعالى [فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ]( ). (وفي المثل : وقد أُعذر من أَنذر)( ). نعم وردت مادة (انذر) بصيغ كثيرة منها صيغ الفعل الثلاثة الماضي كما في قوله تعالى [وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ]( )، وصيغة الفعل المضارع [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، وصيغة فعل الأمر كما في قوله تعالى [وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ]( ). والاسم كما في قوله تعالى [أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ]( )، وقد ورد لفظ (نذير) بصيغة الرفع والنصب والجر أربعاً وأربعين مرة في القرآن ، وهو أكثر عدد لهذه المادة في القرآن . كما ورد بصيغة الجمع (منذرون) بصيغة الرفع مرة واحدة [وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ]( )، كما وردت بصيغة النصب والجر وبصيغة المبني للمعلوم ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ]( )، وورد بصيغة المبني للمجهول ، قال تعالى [وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا]( ). أو اسم مصدر كما في قوله تعالى [عُذْرًا أَوْ نُذْرًا]( ). ولا يصح أن يقال وقد أُعذر الله لأنه أنذر ، إذ أن المثل يخص إنذار العباد ، والعذر بين الناس ، أما مقام الربوبية فهو أسمى لأن الله عز وجل تفضل بخلق الناس وجعل علة الخلق عبادتهم له ، وأكثر من الإنذار لما فيه نفعهم في النشأتين ، فان قيل قد ورد قوله تعالى [مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ]( ). والجواب تدل الآية على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه واجب ، وإعتذار منا إلى الله لبراءة الذمة وعسى أن تكون من معذورين عند الله. ومن كنوز القرآن آيات الإنذار ، ولا يعلم ما نشرته من ألوية السلام ، وما حالت دونه من سفك الدماء وهدر الأموال إلا الله عز وجل . ليتجلى قانون من الإرادة التكوينية وهو آيات الإنذار من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ). بحث كلامي والفتنة: الإبتلاء والإختبار، وقد وقد ترد الفتنة بمعنى العقوبة والعذاب، وهي عنوان جامع للشر والفساد ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ). وورد لفظ الفتنة في قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، في ذم الذين كفروا وما قاموا به من إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة . فان قلت خرج أكثر المهاجرين إلى المدينة طواعية ، والجواب لم يخرجوا إلا بعد أن اشتد عليهم عذاب قريش ، وسقط عدد منهم قتلى تحت التعذيب ، ومنهم سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ، لبيان الملازمة بين الكفر والإرهاب ، وتفضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتنزيه المجتمعات من الإرهاب بالإيمان والتقوى والخوف من الله عز وجل. وقيل(الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، مثل من الأمثال القرآنية العديدة، وكثير من كلمات القرآن البليغة قد ذهبت مذهب الأمثال كقوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)( ). ولكن كلاً من الآيتين ليس من المثل وإرادة الشبه بل هو قانون كلي، ومدرسة في بيان ووصف عالم الأفعال والمقارنة بينها في الشدة والضعف، وهذا القانون تأسيس لتعيين مصاديقه في الواقع العملي ، ولو على نحو الإجمال . ومعرفة حقيقة وهي أن أضرار الفتنة والمكر والكيد أكثر من أضرار القتل، من وجوه: الأول: الفتنة تدخل الجماعة النار , والقتل قد يقع على الفرد الواحد. الثاني: الفتنة مقدمة لقتل الكثير بغير حق. الثالث: إستدامة الآثار المترتبة على الفتنة في الواقع، وثقلها على النفس عند أدائها وفيما بعد حدوثها. الرابع: في القتل موعظة وعبرة، أما الفتنة فهي فساد وإفساد. الخامس : تكون الفتنة في ميادين القتال وخارجها، وذم القرآن للفتنة وبيان شدة ضررها دعوة للصلاح وواقية من الظلم والإرهاب. قانون النبوة استئصال للفتنة الفتنة هي الإمتحان والإبتلاء ، يقال فتنت الذهب والفضة أي أذبنها بالنار للفصل بين الجيد والردئ منهما ، وتأتي الفتنة بمعنى المحنة وبمعنى سوء الإختيار والقصد الذي يجلب الضرر والأذى ، ومنه إختيار الكفر. ومن إعجاز القرآن حربه على الفتن ومنعه من تجددها بالحكمة والموعظة والبشارة والإنذار ، وهناك مسائل : الأولى : ورد ذكر الفتنة في القرآن ما يقرب من سنتين مرة وهي وهذا العدد وما فيه من المعاني مدرسة في مضامين وأسباب ومعالجة الفتنة وما تعنيه مخالفة من لزوم اجتناب الإنذار والتحذير. الثانية : وقيل اصل الفتنة عرض الذهب على النار لإستخلاصه من الفشل الغش فهي اسم لكل امتحان واختبار وابتلاء وبلية ومقدمة للحرب أو سبب للقتال، ومعناها الإصطلاحي اعم من هذا الأصل على فرض تماميته، واصبح للتحذير من الفتنة موضوعية في جميعوحضور كثير في العقائد والمذاهب والمناهج. الثالثة : تارة تكون الفتنة تارة شخصية وأخرى نوعية، ومرة تكون ابتلاء ذاتياً وأخرى تأتي من الغير والآية مطلقة وشاملة لها. الرابعة : ظاهر الآية يفيد أن الفتنة من وجوه الشر والإبتلاء والأذى. الخامسة : مضامين هذه الآية قاعدة كلية وإنذار وتحذير عام لجميع الناس. السادسة : تدعو الآية للتأمل والتفكر والتدبر لأن القتل اقسى ما يواجه الإنسان، واثره لا ينحصر بالمقتول بل يشمل القاتل ايضاً وغيرهما لعظيم وقع القتل في على النفوس والمجتمعات. السابعة : قد تقود الفتنة الى القتل والى الفساد المؤدي الى الهلاك والعذاب لذا فان عذاب الفتنة لا يكون الا شديداً. الثامنة : يقال فتن الرجل يفتن فتوناً إذا أراد الفجور، وعلى هذا المعنى فان الإفساد في الأرض أشد ضرراً واذى من القتل وقد يكون سبباً للقتل كموضوع اضافي ولعله من فروع هذه المسألة أن البينة في الزنا اربعة شهود يرون ابشرط رؤيتهم للميل في المحكحلة، أما في القتل فان البينة شاهدان. التاسعة : تأتي الفتنة بمعنى الإزالة عن الحق وطيق وسبل الصواب كما في قوله تعالى [ وان كادوا ليفتنوك عن الذي اوحينا اليكوَإِنْ كَادُوا لَيَفْــتِــنُونَــكَ عَـنْ الَّذِي أَوْحَــيْــنَــا إِلَيْكَ ]( ) واخراج المؤمنين من ديارهم محاولة لإمالتهم عن الهداية والإيمان، كما انه تخويف لغيرهم ممن يريد الحاق الاذى بالمسلمين. العاشرة : تصدق الفتنة على مقدمات وأسباب القتال وما يؤدي الى نشوب القتال فيكون معنى الآية أن الأسباب اخطر واشد من المسبب والنتيجة، ولو على نحو الاجمال والموجبة الجزئية. الحادية عشرة : القتل جناية باستثناء القتل بالحق والحد ونحوه، والجناية يتحملها المباشر ولكن قد يتحملها المسبب بحسب قوة الأثر، وقد يتحملها الطرفان، فالآية تتعلق بالأسباب. الثانية عشرة : الآية تحذير وإنذار وتأديب وتعليم للناس، وفيها نهي عن الفتنة ولكي مطلقاً وتحذير للكافرين كي لا يفتنوا المؤمنين. الثالثة عشرة : افتتان المؤمنين وايذاؤهم يعتبر قد يكون حاجزاً ومانعاً من دخول الآخرين في الإسلام بالإضافة الى ما فيه من الأذى والضرر على المسلمين. الرابعة عشرة : قد تكون الفتنة نوع كفر ومحاربة للإسلام ، أو الامتناع عن الإسلام فبالقتل يصبح الإنسان معدوماً أما صاحب الفتنة فيبقى يؤذي نفسه والغير ، وقد تسفك دماء كثيرة بسببها. الخامسة عشرة : ومن معاني الفتنة الإبتلاء في الأنفس والأموال، فتكون الفتنة اعم من القتل وتتضمن قتل المؤمنين وسلب أموالهم وايذاءهم. السادسة عشرة : في قوله تعالى [ أن الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ]( ) قيل : فتنوهم بالنار أي امتحنوهم وعذبوهم فتكون الفتنة اعظم , لما فيها من القتل والتعذيب والإرهاب. السابعة عشرة : الآية جاءت الآية على نحو المقارنة فان فتنة الكفار وايذاءهم للمؤمنين اشد واخطر واكبر من اخراج المسلمين لهم من الديار بل وقتلهم. الثامنة عشرة : الآية بناء وتنظيم وتشريع لأسس ومبادئ العمل بصيغ احترازية بعيدة عن الضرر القادم من الأعداء. التاسعة عشرة : في الآية حذف وتعني أن فتنتهم للمؤمنين أكبر وأشد عند الله من قتل المؤمنين لهم لأنهم يستحقون القتل بكفرهم فكيف وقد آذوا المسلمين وعذبوهم واخرجوهم من ديارهم وبذا تكون الفتنة المذكورة في الآية ليست قضية مهملة، بل مخصوصة ومعلومة من ظاهر الآية ، فالأذى الذي يقصد به المسلم اكبر واشد عند الله من القتل الذي يتعرض له الكافر. ولقد خلق الله الدنيا فالدنيا خلقها الله، للناس سواء بالذات أو الواسطة ليعبدوه فيها ويذكروه ويتنعموا بطيباتها. العشرون : الآية تنبيه للمسلمين بان الإرتداد قد يكون اشد ضرراً من القتل والموت وكلذا فانها بحسب المفهوم ترغيب في بالإسلام ودعوة للناس لعدم الإلتفات الى تهديد الكفار وان صدودهم عن الإسلام والخشية وخوفاً والخوف من الكفار اشد واخطر من القتل لما ينبعث منهما من أسباب التردد والفزع والامتناع عن اختيار الإنصياع والإنقياد للآيات. دلالة السلم في نظم آيات القتال لقد نزلت آيات عديدة تتضمن مادة (قتل) وموضوع القتال ، ولابد من استقراء المسائل الخاصة بالقتال والدفاع فيها ، وهو من وجوه : الأول : المسائل الخاصة بكل آية . الثاني : المسائل والقوانين المستقرأة من الجمع بين كل آيتين منها. الثالث : دلالات آيات القتال في القرآن ، وكيف أنها تدل على الدفاع المحض ، وزجر المشركين عن الهجوم وغزو المدينة (يثرب). الرابع : لحاظ موضوعية أسباب النزول . الخامس : كلمات العفو والصلح والموادعة ضمن آيات القتال ، فمثلاً وردت خمس آيات متتالية عن القتال ، وهي أكثر عدد متتال في آيات القتال. وقد ورد في ثناياها الإمهال والصبر ، والإمتناع عن القتال ، وهذه الآيات [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وموارد التخفيف والإمهال والكف عن القتال فيها من وجوه :
الأول : قانون عدم وقوع القتال ضد الكافرين بالربوبية والنبوة والتنزيل إلا أن يكون هذا القتال دفاعاً ، وهو سبيل هداية للناس ،ولنجاتهم من العذاب الأخروي ، قال تعالى بخصوص الآخرة [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا] ( ).
الثاني : توجه الخطاب في هذه الآيات إلى المسلمين لعطفها على نداء الإيمان في آية الصيام في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
وهل يمكن القول بقانون وهو تقدم المعطوف عليه على المعطوف من الأحكام في الشأن والمرتبة ، الجواب لا دليل عليه .
نعم تقدم فرض الصيام في نظم هذه الآيات لأنه أهم ومصاحب لأيام الدنيا ، ففي كل شهر مرضان من كل سنة يتجدد فرض الصيام ليشمل المسلمين والمسلمات جميعاً إلا المعذور .
ومن إعجاز سياق الآيات هنا بيان القرآن لأحكام الصيام وأوانه السنوي ، وتحديد ساعة الإمساك والإفطار وفق آيات كونية.
ثم ذكرت آية لزوم التقوى وعدم التعدي في المعاملات ، ثم بينت موضوعية الهلال في العبادات ، ولزوم تعاهد الحج بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وهل من معاني قوله تعالى أعلاه [وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] ( ) التقيد بالقوانين الوضعية بلحاظ أن معنى الآية أعم من أسباب النزول ، وأن الله عز وجل يريد للمسلم اتباع الأصول ، وعدم مخالفة القوانين.
المختار نعم ، وهل من البر والتقوى التقيد بالأنظمة العامة ، الجواب نعم .
ومن معاني الآية إجتناب التزوير في الغش في الوثائق الرسمية ، وكان أهل الجاهلية إذا أحرموا ثم أرادوا الدخول إلى بيوتهم فلا يدخلون من أبوابها ، بل يفتحون كوة يدخلون منها أو يأتون من ظهورها ، وكذا بالنسبة لأهل الخيم يرفع أحدهم الخيمة ويدخل .
ومن خصائص الآية القرآنية عدم إنحصار موضوعها بأسباب وموضوع النزول ، إنما المدار على عموم المعنى ، لقد أراد الله عز وجل أن يكون المسلم الأسوة الحسنة في التقيد بالأنظمة والقوانين ، ومن هذا التقيد الإمتناع عن الإرهاب الذي هو من مصاديق المنكر ، لا لتسور الجدران ، وفتح كوة وثغرة خلاف النظام ، والظاهر أن نزول الآية أعلاه قبل خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية .
وهل في الآية توطئة لقبول الصحابة بالصلح وصيرورته منهاجاً في حياة المسلمين إلى يوم القيامة ، ليكون التقيد بالقوانين ونبذ الإرهاب وحرمة الإخافة العامة للناس من مصاديق قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
إذ أن هذا التقيد من التقوى وطاعة الله ، وفيه فلاح ونجاح .
ومن إعجاز سياق الآيات تقدم الأمر من الله بالتقوى والبشارة بالفلاح لموضوع القتال ، لتكون الخشية من الله عز وجل حاضرة .
الثالث : بعد الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين بالتقوى والخشية منه عز وجل والبشارة برجاء الفلاح والتوثيق بسبب التقوى وطاعة الله إبتدأت آيات الدفاع بالأمر بالقتال دفاعاً ، والنهي عن القعود عند هجوم الكفار بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ولم يأت هذا الأمر مطلقاً ، إنما هو مقيد ومشروط بأنه في سبيل الله عز وجل ، وعدم التعدي ، وقد قدمت الآية شرط في سبيل الله دلالة على أنه أكثر شأناً وأهمية ، الجواب نعم ، لتعدد وجوهه منها:
الأول : صدّ هجوم المشركين.
الثاني : إخافة عموم المشركين .
الثالث : إمتناع المؤمنين عن الهجوم والغدر .
الرابع : قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأدنى مراتب السلم ، ومرتبة الأدنى يدل عليها معنى الجنوح في قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الخامس : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن البدء بالقتال .
السادس : التقيد بشرط (في سبيل الله) في القتال تنمية لملكة التقوى ، واستحضار هذا الشرط وقصد القربة في العبادات والمعاملات.
لتكون النسبة بينه وبين الأمر بالتقوى الذي اختتمت به الآية السابقة عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالتقوى أعم ، وهي حاضرة في حال السلم والحرب .
بحث كلامي
مما تسالم عليه العقلاء ان الدنيا مملوءة بالإبتلاءات والإختبارات وان الإنسان يحس بنشوة نصر حينما يجتاز امتحاناً مما يداهمه في الليل والنهار، والتأمل في وقائعها يظهر لك انها تحتوي على الكثير من الأشياء المتضادة .
وهل النكاح وسيلة لمحاربة الإرهاب ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] ( )
مما يدل على منع استيلاء النفس الغضبية أو الشهوية على الإنسان .
ومع التدبر يتبين قانون وهو تجلي رحمة الله في هذا الإختبار ، ولا تنحصر هذه الرحمة بالمؤمنين ، إنما هي عامة ، فمن أسماء الله عز وجل (الرحمن ) و (الرحيم) (وأرحم الراحمين ) لتكون هذه الرحمة على وجوه :
الأول : إنها من الشواهد على فضل الله عز وجل على الناس مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : حينما أخبر الله عز وجل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا بأمرين من فعل عامة الناس وليس من ذات الخليفة [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) .
الثالث : الرحمة سبب لإستدامة الحياة ، والتناسل .
الرابع : التعاون لبناء الأسرة .
فأجابهم الله عز وجل بالحجة والبرهان واللغة التي يفهما الملائكة وهي أعظم وأكبر من جوامع الكلم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علمه تعالى تغشي رحمته للناس جميعاً البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، والصغير والكبير ، ومن رحمته تعالى إجتياز العباد أفراداً وجماعات الإمتحان والإختبار في الدنيا .
(وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده ) ( ).
ليصبح التكليف باختيار الأحسن والإمتثال إلى الأوامر الإلهية طريقاً الى الجنة وهو يحتاج الى ملكة نفسانية وسجايا أخلاقية ، وتقيد بالضوابط العقلية لأن العقل رسول باطن .
والإنسان كممكن تلازمه الحاجة والنقص، وهو محتاج الى المال والكسب، ومقدار الحاجة منه لا يقود الى الحرام لأن الله كفل رزق العبد الا انه قد يمد بصره الى ما خلف الحاجة والحق الخاص الذي كتبه الله له، فجاء التنزيل والنبوة لضبط أفعال الناس .
وعن سليم بن قيس قال : سمعت امير المؤمنين يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهومان لا يشبعان، طالب دنيا، وطالب علم، وفي رواية الخصال منهوم العلم ومنهوم المال( ).
فجاءت الآية لإضاءة النفوس بالعلم ليصبح حارساً ومانعاً من الإندفاع وراء الطمع واللذات وليزيدها قوة تقهر بها النفس الشهوية ، والآية صلاح للجسد ولذة للروح وطريق للسرور الدائم.
فبعد آية اصلاح المجتمعات, جاءت هذه الآية لاصلاح احوال المسلمين في الدفاع والتهيئ له وعدم استعمال السيف الا وفق قواعد وحالات محددة وبما لا يقبل اللبس, لذا جاءت الآية على نحو متصل وخالية مما يدل على العطف , فلا يمكن التفكيك بين القتال في سبيله تعالى وان يكون موجهاً الى الذين يقاتلون المسلمين دون غيرهم .
وتمنع الآية من إقتتال المسلمين فيما بينهم وتحذر منه وحتى لو وقع قتال بين طائفتين من المسلمين فالواجب العام وسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلزمهم التدخل والوساطة والشفاعة لإنهاء القتال ودرء الفتنة ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا أن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
والآية في مفهومها وبلحاظ مضامين الآية السابقة تأمر بالاتحاد والألفة وجمع القوى لصد خيل المشركين , لان الذي يريد قتال الأعداء عليه أن يجمع الإخوان والأعوان والأنصار ويمنع أسباب الفرقة والتشتت والتمزق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
وهذا المفهوم يتضمنه خطاب الآية الانحلالي المتوجه إلى كل مسلم باصلاح نفسه وتهذيب صِلاته والتأهيل للدفاع بالعدة والزاد وتنمية القوة البدنية والمهارة وأصول الرماية وفنون القتال .
فالامر بالقتال دفاعاً يتفرع عنه جريا وانطباقاً ايجاد الأهلية الشخصية والنوعية للقتال وتهيئة مستلزماته ومقدماته الواجبة لوجوب ذيها، أي أن الوجوب يترشح على المقدمات بسبب وجوب ذي المقدمة وهو الدفاع .
وتبين هذه الآية قانوناً وهو حصر القتال بالدفاع تخفيفاً ورحمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
ثم جاءت الآية بالنهي عن الإعتداء وهي صرخة قرآنية تملأ ما بين الخافقين وفيها مسائل :
الأولى : الرد على كل الأصوات التي تحاول النيل من فلسفة الجهاد في الإسلام .
الثانية : إنها تأديب للمسلمين .
الثالثة : تقويم وتوثيق الوقائع والأحداث ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ) .
الرابعة : اظهار للوجه المشرق للعقيدة الإسلامية التي تحث على عدم الإعتداء وتنهى عنه مطلقاً, سواء في حال الحرب أو السلم وضد المسلم وغير المسلم، وضد الرجل والمرأة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
الخامسة : حرمة النفوس والأعراض والأموال لأصالة الإطلاق، ومبغوضية الإعتداء وتعارضه مع أحكام السماء وكما أن قوله تعالى [قَاتِلُوا] ( ) يبعث الرعب والفزع في قلوب الأعداء فان قوله تعالى [وَلاَتَعْتَدُوا] دعوة لهم لدخول الإسلام ، ويتجلى مصداق لها بامتثال المسلمين لها ، وإمتناعهم عن ابتداء القتال وتحليهم بالعفو والصفح ، وهو مرتبة أعلى من عدم التعدي .
سكن إسماعيل مكة مقدمة لبعثة النبي (ص)
ومن الإعجاز في طبيعة أرض الحجاز وبواديها استقلالها عن سلطان دولة الروم وفارس لسعة الصحراء وشحة مياة الآبار والأمطار والكلأ في البوادي الشاسعة إلى جانب قلة المنافع للغزاة فيها ، وخشيتهم من تعرضهم للسلب والنهب من قبل جماعات من العرب .
وذكر أن أول من سكن مكة هم العمالقة ، ثم قبيلة جرهم ، وفي أيامهم جاء إبراهيم عليه السلام بزوجته هاجر وابنه إسماعيل ، للإقامة في مكة كما في قوله تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( )، ليعود إبراهيم عليه السلام إلى الشام حيث زوجته سارة التي لم تنجب بعد .
ولكنه كان يأتي إلى مكة بين الحين والآخر حيث قام بأمر من الله عز وجل ببناء البيت الحرام ، وكان إسماعيل يساعده ويناوله الحجارة لدعوة الناس لحج البيت ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ليكون من الإعجاز في مكة مجئ الرجال فرادا وجماعات لحج بيت الله الحرام ، مع عجز وعزوف ملوك تلك الأزمنة عن غزوها .
وليس في الحج استفزاز لهم ، أو أذى لسلطانهم أو شعوبهم لأن عبادة الحج خالصة لوجه الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( ) .
وليكون مقدمة وتوطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبليغ الرسالة ، لينقل وفد الحاج والمعتمرين آيات القرآن إلى مدنهم وقراهم .
وصيرورة الحج سبباً لبيعة العقبة الأولى والثانية وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة لوجود الأنصار فيها ببركة البيت الحرام وبناء إبراهيم له على القواعد التي وضعها آدم عليه السلام بأمر من جبرئيل .
وهل كان سكن إسماعيل وأمه في مكة مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو من وجوه تفضيله بالمقدمة والتوطئة لنبوته إذ توارثت ذرية إبراهيم في مكة البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وورد في التنزيل دعاء إبراهيم وإسماعيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
ليأتي الدعاء في المقام على وجوه :
الأول : دعاء إبراهيم بمفرده .
الثاني : دعاء إبراهيم وتأمين إسماعيل .
الثالث : الدعاء المشترك من قبل إبراهيم وإسماعيل .
الرابع : دعاء إسماعيل وحده عند غياب إبراهيم عليه ، وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
الخامس : دعاء إبراهيم وإسماعيل ومن آمن من سكنة مكة سواء من قبيلة جرهم أو غيرها.
السادس : دعاء إسماعيل وأولاده .
السابع : وراثة أبناء إسماعيل للدعاء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ترى ما هي النسبة بين هذا الدعاء وبين البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالدعاء أعم ، وهو نوع طريق لتنجز البشارة ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
قانون الجمع بين كل آيتين وهو علم جديد
أنشأنا موضوعه في هذا السِفر ، وكان آخر جزء من هذا السِفر خاصاً بالصلة بين آيتين متجاورتين هو الجزء (191) إذ يختص بالصلة بين قوله تعالى [وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( )وقوله تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
بينما صدر الجزء (189) من التفسير خاصاً بالآية الأولى منهما ، والجزء (190) بالآية الثانية منهما في إعجاز قرآني يطل على الأرض لأول مرة ، ويبعث الفخر عند المؤمنين ، وهو من مصاديق [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( ).
ومن فضل الله في هذا التفسير شموله للتفسير الموضوعي الذي يتناول الجمع بين الآيتين في المقاصد السامية إلى جانب التفسير التحليلي من جهات :
الأولى : أخذ كل آية وشطر منها على نحو مستقل.
الثانية : ذكر ما يخصها من العلوم اللغوية والفكرية والفقهية والإجتماعية والإقتصادية.
الثالثة : بيان مضامين البشارة والإنذار فيما الدنيا ويخص الآخرة فيها.
وأقوم بتأسيس مدرسة من العلوم اللامتناهية في باب تفسير القرآن ، على العلماء في الأجيال القادمة التوسعة فيها بجهود ومؤسسات علمية وأكاديمية ، فمثلاً يأخذ قوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وهي الآية الأولى من سورة الفاتحة ، ويقوم العلماء بالتفسير بالجمع بينهما وبين كل آية من آيات القرآن إلى آية [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] ( ) وهي آخر آية في نظم القرآن .
ثم تؤخذ آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وتفسر بلحاظ صلتها بكل آية من القرآن ،كما تفسر كل آية من القرآن بلحاظ صلتها بهذه الآية وهكذا.
لتستخرج ذخائر من العلم لم تطرأ على بال أحد من الناس ، قال تعالى [وَمَا كَان هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
لبيان قانون وهو استنباط علوم عديدة من الصلة بين الآيتين المتجاورتين ، وكذا كل آيتين من القرآن غير العلوم والتفسير الموضوعي والتحليل للآية القرآنية الواحدة .
لتكون أقسام الموضوع في التفسير على وجوه :
الأول : التفسير الموضوعي لمصطلحات القرآن مثل [حَبْلِ اللَّهِ] في قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَألف بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
الثاني : التفسير الموضوعي للموضوع القرآني ، كالإيمان والصلاة ، والتقوى ، والسلام ، والصبر ، النكاح، الطلاق ، المعاد.
فمثلاً يتم إحصاء وجمع الآيات الخاصة بموضوع الصلاة ، وتتم دراستها واستنباط الأحكام من وجوه :
الأول : الموسوعة الفقهية لآيات الصلاة .
الثاني : الصلاة ، قراءة في علم الأصول .
الثالث : الصلاة وعلم الإجتماع .
الرابع : قانون الصلاة مرآة لحسن الخلق .
الخامس : قانون نهي الصلاة عن الإرهاب .
السادس : الصلاة حصن في المعاملات .
السابع : القواعد الفقهية المستقرأة من آيات الصلاة .
الثامن : قانون الملازمة بين الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
التاسع : قانون الصلاة وسيلة العبور على الصراط الأخروي ، قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
العاشر : قانون الصلاة شفيع .
الحادي عشر : فتاوى الفقهاء في الصلاة بمنظار آيات الصلاة.
والفقهاء : جمع فقيه وهو الذي (يُفتي أي يَبَيِّنُ المُبهم، ويقال: الفُتْيا فيه كذا، وأهل المدينة يقولون: الفَتَوى) ( ).
الثاني عشر : الصلوات الخمس في القرآن ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ) .
وورد ذكر صلاة الفجر والظهر والعشاء في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( )كما ذكرت في قوله تعالى [فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ] ( ).
ثم جاءت آية أخرى بأقامة الصلاة كما في قوله تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ).
وقال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
ودلوك الشمس زوال الشمس عن كبد السماء وميلها إلى جهة المغرب وفيه أمارة على دخول وقت صلاة الظهر .
الثالث عشر : أداء الصلاة طريق العفو والمغفرة ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيتٍ من بيوت الله يقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة)( ).
الثالث : التفسير الموضوعي للآية القرآنية ، مثل قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) إذ تتضمن الآية موضوع الأمر ، وإقامة الصلاة.
وإخراج الزكاة ، ورجاء فضل الله والفوز برحمته .
الرابع : التفسير الموضوعي لشطر من الآية القرآنية ، فمن خصائص الآية القرآنية أن أولها في شئ ووسطها في شئ وآخرها في شئ آخر ، فمثلاً قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَألف بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إذ أنها تتضمن المواضيع الآتية :
الأول : الأمر من عند الله [وَاعْتَصِمُوا] والأصل في الأمر هو الوجوب إلا مع القرينة التي تدل على إرادة الإستحباب .
الثاني : صدور الأمر من عند الله عز وجل ومجيئه بصيغة الجمع ليشمل المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة لبيان عطف الآية على الآية السابقة لها ، في صيغة النداء وهي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ) .
ويكون تقدير آية البحث بلحاظ هذا العطف والتفصيل في شطر الآية إلى أجزاء من جهة المعنى على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اعتصموا بحبل الله جميعاً .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تفرقوا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم .
وهل [نِعْمَةَ اللَّهِ] موضوع مستقل ، الجواب نعم ، وهو من اللامتناهي ، ومنه نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
وذات آية البحث نعمة مستقلة إلى جانب النعم العامة ، فمن وجوه تقدير الآية على جهات :
الأولى : واذكروا نعمة الله عليكم في نزول هذه الآية .
الثانية : واذكروا نعمة الله في منافع تلاوة هذه الآية .
الثالثة : واذكروا نعمة الله في أثر وبركة هذه الآية .
الرابعة : واذكروا نعمة الله بجعل هذه الآية وسيلة سماوية للتآخي والمودة بينكم .
الخامسة : واذكروا نعمة الله في صرف هذه الآية للإقتتال بينكم .
السادسة : واذكروا نعمة الله في إجتناب الكفار لمحاربتكم خشية من هذه الآية وعظيم نفعها .
السابعة : واذكروا نعمة الله المتعددة الواردة في هذه الآية ، ومنها وجوب التمسك على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والإفرادي بالقرآن وأحكام الشريعة.
ودخل جابر بن عبد الله الانصاري على الإمام علي عليه السلام فقال أمير المؤمنين (يا جابر قوام هذه الدنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني جواد بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره.
ثم قال : فإذا كتم العالم العلم أهله ، وزها الجاهل في تعلم ما لابد منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره حل البلاء وعظم العقاب) ( ).
قانون هزيمة المعتدين
بعد أن تقدم ذكر شروط القتال المستقرأة من الآية السابقة والتي قد يظن بعضهم عدم وجود صلة بينها وبين آية البحث خاصة عندما تعرب الواو في [وَقَاتِلُوا] ( )، للإستئناف إذ يفيد هذا الإعراب معنى الإنفصال في المعنى بين الآيتين ، وهو خلاف دلالات نظم الآيات ، وأسرار التوقيف الذي يتصف به ، إذ كان جبرئيل ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقول له ضع هذه الآية بين الآية الفلانية والآية الفلانية فلذا تجد هناك سوراً مكية ولكن فيها آيات مدنية وكذا تجد العكس.
فمثلاً نزلت سورة الأنعام بمكة جملة واحدة إلا ثلاث آيات نزلت في المدينة ، وتقدم البيان في الجزء السابق ، وقيل كلها مدنية.
فهناك آيات كثيرة قيل أنها مدنية ووردت في سورة مكية أو العكس ، ولم يثبت هذا القول بتمامه عند التحقيق.
إلا أن عدم الثبوت هذا لم يمنع من حقيقة نزول جبرئيل بآيات منفردة ويقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يضعها في مكان مخصوص من سورة سواء سبق نزولها بآيام أو أشهر أو سنوات ، وفيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف.
ومن إعجاز القرآن ورود قيود كثيرة للقتال فيه ، إلى جانب آيات الذم والتبكيت والإنذار والوعيد للذين كفروا في حربهم على النبوة والتنزيل ، فمثلاً قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
فصحيح أن الخطاب في الآية موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلا أن مفهومها يدل على مسائل :
الأولى : بيان نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة مخصوصة.
الثانية : توثيق المعركة وموضعها وهو مياه بدر التي تبعد (150) كم عن المدينة والمنع من التحريف فيه إلى يوم القيامة ، وفيه أيضاً توثيق إجمالي لزمانها بمجيئها بصيغة الماضي أي أنها وقعت قبل السنة الثالثة للهجرة.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها مدد سماوي لتوثيق أحداثها ، ومحل وقوعها ، ويتفرع عنه ضبط الناس لأوانها ، كما أنها أكدت حقيقة نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمعجزة ، وفيه دعوة إلى الناس في كل زمان للتدبر في هذه المعجزة ، ولو دار الأمر بين كونها متحدة أو متعددة فالأصل هو الثاني ، إذ تدل على تعدد أسباب النصر ، ومنها قلة عدد المسلمين وأسلحتهم وحالهم بين القوى الكبرى ، لذا قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )فلم يكن أحد يتوقع نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على قريش ذات الصيف والمجد والزهو والمال والسلاح والظهر ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( ).
الثالثة : تأكيد خسارة وهزيمة المشركين في معركة بدر.
الرابعة : دعوة الناس للتدبر في المعجزات في الآية لنسبتها النصر إلى الله عز وجل منها ميل كفة الكثرة في العدد والعدة والمؤن إلى جانب جيش المشركين.
الخامسة : إنذار المشركين من تجديد القتال.
السادسة : دعوة أهل مكة والقبائل لعدم إعانة قريش في قتالها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : ترغيب الناس في الإسلام .
الثامنة : الزجر عن محاولات إغتيال وقتل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالله عز وجل الذي نصره هو الذي يجعل أيدي المشركين لا تصل إليه.
لبيان قانون في الحياة الدنيا وهو أن القتال دفاعاً لن يضر أصحابه ، إنما الكافر الذي يقوم بالهجوم والغزو المتكرر للقرى والمدن يلقى الخسارة ولو بعد حين.
لقد أخبر الله عز وجل بأن السماء والأرض ملك طلق له سبحانه ، وفي التنزيل [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا]( ).
ومن الإعجاز في صلة آيات القتال لما قبلها وعطفها عليها ابتداء آية ببدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، بالحرف الواو ، والمختار إفادته العطف والإستئناف معاً ، خاصة وأن الآية التي سبقتها تتعلق بحال القتال .
ومن معاني الجمع بين الآيتين بيان التباين بين المسلمين والكفار في ميدان القتال.
فبينما انهزم جيش المشركين بكامله من ميدان معركة بدر بعد أن خلّفوا سبعين قتيلاً صرعى في المعركة ، وسبعين أسيراً ، فان المسلمين في معركة أحد لم ينهزموا إنما همت طائفتان منهم بالتراجع والإنسحاب ثم صرف الله عز وجل هذا الهمّ عنهم.
لذا ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه (قال : نزلَتْ هذه الآيةُ فينا؛ إذ همَّت طائفتان في بَنِي سَلِمَةَ وبَنِي حَارِثَةَ ، وما أحب أنها لم تنزلْ ، واللَّهُ يقولُ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا( ).
قانون منع الآية القرآنية للقتال بين المسلمين وغيرهم
آيات القرآن حجة على أهل الكتاب وغيرهم لأنها اخبار عن نزول الكتب السماوية السابقة بالنهي عن التعدي والإعتداء.
ويفيد الجمع بين الآيات لزوم عدم حدوث قتال بين المسلمين وغيرهم لأن المسلمين نهوا عن القتال ابتداء، واهل الكتاب وجميع الخلق يجب أن يتقيدوا بالقاعدة السماوية الثابتة وهي بغض الله تعالى للإعتداء ونهيه عنه مطلقاً.
كما ورد في ذم الكتب السماوية لقتل قابيل لأخيه هابيل ، وقال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، وما منزلة الأمير الجائر المعتدي الذي لم يصلح لرعيته، ولم يقم فيهم بأمر اللّه؟
قال : هو رابع أربعة، وهو أشد الناس عذابًا يوم القيامة : إبليس، وفرعون، و (قابيل) قاتل النفس، والأمير الجائر رابعهم. ومن احتاج إليه أخوه المسلم في قرض فلم يقرضه وهو عنده حرَّم اللّه عليه الجنة يوم يجزي المحسنين.) ( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم- لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) ( ).
وقال معاوية بن عمار (سألت الصادق عليه سلام اللّه عن آدم (عليه السلام) أكان زوّج ابنته من ابنه،
فقال : معاذ اللّه والله لو فعل ذلك آدم ما رغب عنه رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} وما كان دين آدم إلاّ دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ اللّه تبارك تعالى لما نزل آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حوّاء بنتاً وسمّاها ليوذا فبغت وهي أوّل من بغت على وجه الأرض فسلّط اللّه عليها من قتلها فولدت لآدم على أثرها قابيل،
ثم ولد له هابيل،
فلما أدرك قابيل أظهر اللّه جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية وأوحى اللّه تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوجها من قابيل فزوجها منه فلما أدرك هابيل أهبط اللّه تعالى حوراء إلى آدم (عليه السلام) في صورة إنسية وخلق لها رحماً وكان اسمها نزلة،
فلما نظر إليها قابيل ومقها،
وأوحى اللّه تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوّج نزلة من هابيل،
ففعل ذلك،
فقال قابيل له : ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به منه. فقال له آدم : يا بني إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء.فقال : لا ولكنّك آثرته عليّ بهواك. فقال له آدم : إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقرّبا قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أولى بالفضل من صاحبه.
قالوا : وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء فأكلتها.وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلتها الطير والسباع،
فخرجا ليقرّبا وكان قابيل صاحب زرع وقرّب حبرة من طعام من أردى زرع وأضمر في نفسه : ما أبالي أيقبل مني أم لا لأتزوج أختي أبداً،
وكان هابيل راعياً صاحب ماشية فقرّب حملاً سميناً من بين غنمه ولبناً وزبداً وأضمر في نفسه الرضا للّه عز وجل.) ( ).
لقد أكرم الله عز وجل آدم وذريته بأخبار الملائكة بالقول [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فاحتجوا بمسألتين :
الأولى : فساد طائفة من الناس .
الثانية : سفك الدماء في الأرض ، فأجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وقد تحقق مصداق متعدد للمسألتين أعلاه من قبل كفار قريش ونحوهم ففسدوا في الأرض ومنه عبادة الأصنام في البيت الحرام ، وسفكوا الدماء بالحروب القبلية ، وبالوأد ، وبالقتل حمية والثأر من غير القاتل .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً بألوية السلام السماوي الشامل ، وهو من مصاديق الإطلاق والجمع بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
بحث اصولي
ينقسم الحكم الشرعي بلحاظ موضوعه ودليله الى قسمين:
الأول : الحكم الواقعي : وهو الحاكم الثابت للشيء الذي لا يصل اليه الشك، وحجته ثابتة له بالذات مثل وجوب الصلاة ويسمى الدليل عليه الدليل الإجتهادي.
الثاني : الحكم الظاهري : وهو الحكم الذي يكون طريقه وبرهانه الظن المعتبر ويأتي بالمرتبة الثانية فلا نلجأ اليه الا بعد غياب وتعذر الوصول الى الحكم الواقعي الذي يفيد القطع ويسمى الدليل عليه الدليل الفقاهتي او الأصل العملي.
وعلم الأصول يتناول الحكمين معاً كي لا يبقى المكلف متحيراً في باب التكليف والعمل، فعند تعذر الحكم الواقعي يلجأ يرجع الفقيه الى الأدلة الظنية المعتبرة كخبر الثقة ، ومطلق الأمارة ، وترتيب الأثر عليها او العمل بالأصول العملية والقواعد الفقهية .
كما لو شك وفرغ من الصلاة بإتيانه ببعض أجزائها او أركانها، فلو شك هل سجد في الركعة الأخيرة سجدتين او لا، فيعتمد قاعدة الفراغ ويبني على صحة صلاته لأن الفراغ كاشف عن صحة الفعل العبادي في الجملة.
والبينة من الإمارة فقد تخطأ البينة والشاهدان العدلان ومع هذا يبني القاضي حكمه على قولهما كحجة شرعية وعقلائية يرجع اليها عند غياب الدليل الإجتهادي والقطعي، او يتوجه اليمين على المدعي عليه بعد عدم تمكن المدعي من البينة، وهذه اليمين ان كانت كاذبة فهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار.
فنزل القرآن بالزجر عن أكل مال الغير ومن الإقدام على اليمين الغموس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) وعن أبي أمامة الحارثي (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حقه ، حرم الله عز وجل عليه الجنة ، وأوجب له النار قيل : يا رسول الله ، وإن كان شيئا يسيرا.
قال : وإن كان سواكا من أراك) ( ) .
وفي الآية مسائل :
الأولى : إرشاد وتأديب القضاء .
الثانية : تنزيه للقضاء الإسلامي .
الثالثة : تعاهد القضاء وإيجاد الأسباب القرآنية لجعله طريقاً لحفظ حقوق الناس وأموالهم .
الرابعة : حلّ الخصومات من غير تسويف وإطالة في الوقت .
الخامسة : منع الفتنة بين المسلمين .
السادسة : موضوعية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة( ) والذي ينفي الدعوى لا يطالب بالدليل .
السابعة : بيان مصداق لفصل الخطاب ، والحكم بالحق ، وفي داود عليه السلام ورد قوله تعالى [وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ]( ) لبيان أن التعدي محل الخصومات بين الناس وبالحق والعدل رحمة ، وفيه تثبيت للحكم ودعوة للتقيد بسنن التقوى .
الآية والحكم بالحق سلاح ووسيلة لحفظ النظام واستقرار المجتمعات ومناسبة ليكون العدل والإنصاف وعاء ومناسبة كريمة لأداء الفرائض والإنقطاع الى الله تعالى فان الظلم يسبب حالة من الجزع والإرباك والإنشغال بالخصومات والنزاعات وتصاحبها أنماط الأخلاق الذميمة كالغيبة والإفتراء والتعدي.
فاذا تعذر الحكم الواقعي على الفقيه فانه يلجأ إلى الحكم الظاهري لبيان شاهد على تكامل الشريعة الإسلامية ، ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إنتفاء الظلم والتعدي بين الناس في المعاملات ، وتأكيد قانون وهو مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنع التعدي على نحو الإطلاق ، سواء في ميدان القتال أو في الحياة العامة .
قانون الجمع بين التقوى والدفاع
من معاني الجمع بين الأمرين [وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ) و[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) وجوه :
الأول : لا تقاتلوا إلا من منازل التقوى .
الثاني : التقيد بسنن التقوى صارف للقتال ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن صرف القتال باب لدخول الناس الإسلام وهو من الشواهد على أن عدم انتشار الإسلام بالسيف إنما انتشر بالمعجزة.
الثالث : من التقوى الصبر على الكفار ، وهو صارف عن القتال.
وهل في صبر المؤمنين هذا أجر ، الجواب نعم ، وهو مانع من الإرهاب والإرهاب الموازي ، وسبب في نشر ألوية الأمن ومن أبهى التقيد بالنهي من الله [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الرابع : تحلي المسلمين بالتقوى حجة على الذين كفروا ، ودعوة لهم للإيمان .
الخامس : إشراقة سنن التقوى والخوف والرهبة من الله عز وجل لأول مرة في الجزيرة العربية ، فقد كان الناس يأتون إلى مكة لحج البيت الحرام ويتزلفون للأصنام ، فصاروا يدخلون مكة للعمرة أو الحج أو الزيارة ليجدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حال ركوع أو سجود أو يجلس اليهم ليخبرهم عن رسالته ، ويتلو عليهم آيات من القرآن أو سور قصيرة من السور المكية والتي تتضمن الإنذار والوعيد .
ومن خصائص العرب آنذاك سرعة الحفظ ، وكان حفظهم للشعر تنمية لملكة الحفظ ، فأصبح القرآن وإعجازه حديث الركبان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
السادس : تقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية على جهات :
الأولى : واتقوا الله في سبيل الله .
الثانية : وقاتلوا في سبيل الله لعلكم تفلحون .
الثالثة : واتقوا الله وقاتلوا في سبيل الله .
الرابعة : وقاتلوا في سبيل الله واتقوا الله حال القتال وفيما بعده.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية ابتدأ وصيته لهم بالقول (أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا) ( ).
وعندما جهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيش مؤتة خرج معهم ماشياً حتى بلغ ثنية الوداع .
فوقف الجيش والقى فيهم خطبة ابتدأها ببسم الله وقال (وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين للناس، فلا تعرضوا لهم) ( ).
لبيان رأفة ورفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل الكتاب ، وهو من الشواهد على حرمة الإرهاب وعلى منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منه ، قال تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ) .
وقال ايضاً (ولا تقتلن امرأةً ولا صغيراً ولا مرضعاً ولا كبيراً فانياً، لا تغرقن نخلاً ولا تقطعن شجراً، ولا تهدموا بيتاً) ( ).
السابع : بيان قانون وهو إنقطاع القتال وبقاء التقوى .
الثامن : لما أخبرت الآية السابقة عن ترتب الفلاح والنجاح على التقوى والخشية من الله ، فمن الفلاح بلحاظ القتال مسائل :
الأولى : صرف كثير من أفراد القتال ،وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) .
الثانية : تنزه المسلمين عن الغضب وإمتناعهم والجوارح عن إستحواذ النفس الغضبية.
ولما تساءلت الملائكة عن علة جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) مع أن شطراً من الناس يفسدون في الأرض ويقتلون غيرهم بغير حق جاء الإحتجاج والدفاع عن الناس من عند الله عز وجل قبل أن يهبط آدم إلى الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
الثالثة : عصمة المسلمين من التعدي أثناء القتال ، وعدم الإجهاز على الجريح ، وقد نهى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والشيوخ وأصحاب الصوامع .
وفي القتال غلبة وهزيمة، ونصر وخسارة، وسقوط قتلى ، وهو نوع مفاعلة بين الطرفين، أما الأمر بالقتل فهو دفاع وضرورة وفعل من طرف واحد وهم المسلمون.
وفي الجمع بين الآيتين بشارة للمسلمين وهي أن قتالكم للكفار لن يستديم وأنه ينتهي بالنصر والغلبة لكم ,قال تعالى[حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ أن نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ).
ليكون ثواب المسلمين على القتال في سبيل الله الجنة واللبث الدائم فيها، فبعد أن مكر إبليس وصار سبباً في خروج آدم وحواء من الجنة ونعيمها , قال تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( )، صار الناس في دار الإمتحان والإبتلاء وتفضل الله سبحانه ببعثة الأنبياء[مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
وجاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وهادياً إلى الجنة لتصبح بعثته حرباً على الكفار بالحجة والبرهان إلى يوم القيامة.
وقال الإمام علي عليه السلام (إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل)( ).
قال ابن القيم :
فحي على جنات عدن فإنها … منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى … نرد إلى أوطاننا ونسلم( ).
والعدو هنا هو الشيطان أما الأوطان في الجنة.
ومن الشواهد على عدم إستدامة القتال وقوع ثلاثة معارك متتالية قام الكفار فيها بغزو المسلمين وهي بدر وأحد والخندق، ثم عجز الكفار عن الغزو وبعده بسنوات أصبحوا غير قادرين على الدفاع في ديارهم ومنها البشارات بالنصر والفتح التي جاءت أثناء معارك الإسلام الأولى.
وليس بين معركة الخندق ، وصلح الحديبية إلى نحو سنة واحدة وتفضل الله سبحانه وسمّى هذا الصلح فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
قانون المنافاة بين إدراك العقل والإعتداء
يدرك العقل قبح الإعتداء وحسن العدل كما تقدم في باب قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، فوظيفة الناس أن لا يعتدوا على المسلمين في شعائرهم ومبادئهم وعباداتهم ووظيفة المسلمين ، كما تدل هذه الآية عدم مقاتلة الآخرين وإن كانوا مشركين الا الذين يقاتلونهم .
فيظهر من الآية أن مشركي قريش وحلفائهم هم الذين كانوا يبدأون القتال أو يكيدون بالمسلمين ويعتدون على حرماتهم لأن القتال اعم من المواجهة في ميدان القتال .
فيشمل الإعتداء على الأفراد والممتلكات ومحاولات تثبيط عزائم المسلمين بالغيلة والظلم والحيف ، ومنه استيلاء كفار قريش على أموال ودور النبي وأهل بيته والصحابة في مكة عند هجرتهم إلى المدينة ، وعندما نقضت قريش بنود صلح الحديبية وكانوا بالأصل لا يستحقون ولاية البيت والرئاسة لأنهم يثيرون الفتن ، ولقوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
وجاء وفد خزاعة شاكياً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومبيناً للوقائع التي تؤكد نقض قريش لشروط الصلح ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتهيئ الجاد والعاجل للخروج .
وتوجه بالدعاء (وَقَالَ اللّهُمّ خُذْ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا فَتَجَهّزَ النّاسُ) ( ) لبيان قانون لحوق الخزي بالكفار لإصرارهم على التعدي حتى بعد إمضائهم لصلح الحديبية .
هذا مع كثرة أصحابه إذ خرج معه عشرة آلاف وقلة المشركين في مكة ، إذ دخل أكثر أهلها الإسلام بين مهاجر إلى مكة ومقيم فيها ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد الفتح من غير إراقة دماء من الطرفين ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وحينما تم فتح مكة بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ لم يتوجه إلى بيت (وَقِيلَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِك بِمَكّةَ ( )؟
فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ) ( ) .
لقد كان فتح مكة استئصالاً للتعدي في الجزيرة ، وهو من الشواهد العملية على بغض الله للمعتدين .
ثم سأل الصحابة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل في بعض بيوت مكة غير منزله فأبى وقال ( لا أدخل البيوت ” ولم يزل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا، وكان ياتي المسجد لكل صلاة من الحجون.) ( ) وفيه تأديب لأصحابه من المهاجرين والأنصار بعدم التعدي أو النهب أو السلب من باب الأولوية القطعية .
وفيه دعوة للصحابة للصبر وعدم الرجوع على الكفار الذين استولوا على ممتلكاتهم المنقولةوغير المنقولة .
وعن صهيب قال (لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك ، وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبداً ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني؟
قالوا : نعم .
فدفعت إليهم مالي فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ربح البيع صهيب مرتين) ( ).
وهل الحصار الذي فرضته قريش على أهل البيت من هذا الإعتداء ، الجواب نعم .
فمثلاً فيما يخص معركة بدر وهي أول معارك المسلمين وقد واجه المسلمون فيها قريشاً وخيلائها وكان التعدي من قريش ابتداء واستدامة، فنزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
فقد حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل حتى اضطروهم الى الهجرة المتعددة والإستقرار في يثرب ولم يتركوا المسلمين وشأنهم بل اخذوا يكاتبون اليهود ومشركي يثرب ويطلبون منهم محاربة المسلمين والتضييق عليهم ومنعوا المسلمين من الوصول الى البيت الحرام واستحوذوا على أكثر أموال المسلمين في مكة المكرمة وحالوا دون هجرة بعضهم ، وتصدّوا لهم في الجادة العامة في السفر والتجارة ، وقاموا بتحريض الأعراب عليهم وأعانوا المنافقين في الشماتة عليهم .
وأخذ المسلمون صيغ الإحتراز وملازمة السلاح وحراسة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي قام بارسال السرايا الى خارج المدينة ويخرج معها احياناً بنفسه وأطلقتُ على السرية التي يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها اسم (كتيبة) بدل غزوة .
و لا تعني الكتيبة بالضرورة الإغارة والهجوم على الآخرين ،وعادت أكثر كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه من غير أن تلقى قتالاً ، ومن خصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إتصافه بالتواضع ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ولم يجعل بواباً في المسجد أو باب داره ، وهي آية حسية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع كثرة محاولات الإغتيال له من قبل الكفار ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ) .
وعن الحسن البصري قال (ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يغلق دونه الابواب ولا يقوم دونه الحجبة ولا يغدى عليه بالجفان ولا يراح عليه بها كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بارزا من اراد أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيه .
كان يجلس بالارض ويوضع طعامه بالارض ويلبس الغليظ ويركب الحمار ويردف خلفه ويلعق والله يده) ( ).
لقد كانت كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استطلاعية ولنشر الإسلام وإقامة الصلاة في أفواه القرى من غير التعرض لأهلها أو ممتلكاتهم وإن كانوا كفاراً تمتلأ بيوتهم بالأصنام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
فمن معاني هذه الآية : يا محمد لا تبقى في بيتك أو بلدتك بل أخرج إلى القرى والبلدات تدعوهم الى الله [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، وقد كان عدد من الأنبياء يطوفون على القرى في الدعوة إلى الله مثل عيسى عليه السلام.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن دينار قال : كان عيسى ابن مريم عليه السلام إذا مر بدار وقد مات أهلها وقف عليها فقال : ويح لأربابك الذين يتوارثونك كيف لم يعتبروا فعلك باخوانهم الماضين( ).
وتسمية الغزوات لا يتناسب مع البعوث التي قادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه لأن القتال لم يلازمها كلها وإن وقع فيها قتال فهو دفاع وضرورة وبسبب قيام المشركين بالتعدي والغزو والإصرار على القتال ، وكذا لم يكن قوم مقصودين بعينهم للهجوم عليهم فاول سرية بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية سيف البحر ، وسيف البحر ساحله وكان اوان بعثها هو شهر رمضان من السنة الأولى من الهجرة أي قبل معركة بدر بسنة .
أي أن الصيام لم يفرض بعد، وأمر عليها عمه حمزة بن عبد المطلب وعدد رجالها ثلاثون كلهم من المهاجرين ووصلوا الى ساحل البحر الأحمر من ناحية جهة العيص، واعترضوا عيراً لقريش عليها أبو جهل محملة بالبضائع في طريقها من الشام الى مكة، واصطف الفريقان ولكن لم يقع قتال بينهم.
وتتابع خروج السرايا من دون حصول قتال وكانت أول كتيبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خروجه في سبعين رجلاً من المهاجرين إلى الأبواء في صفر من السنة الثانية( ) للهجرة وعقد ميثاق الأمان والتناصر مع عمرو بن مخشي الضمري .
ثم خرج في الشهر التالي وهو شهر ربيع الأول الى بواط من ناحية رضوى في مائتين من المهاجرين ولم يقاتل ولم يكره أحداً على دخول الإسلام.
وفي ذات الشهر أغار كرز بن جابر الفهري على مراعي المدينة وساق بعض المواشي، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبه في سبعين من المهاجرين .
ولكن كرز لجأ إلى الفرار وسميت هذه الكتيبة غزوة بدر الأولى ، فالشواهد التأريخية تدل على حرص المسلمين على عدم الإبتداء بالقتال مع المشركين ، وهو من مصاديق [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) .
ليدرك العقلاء من أيام التنزيل وإلى يوم القيامة أن المشركين هم المعتدون ، وأن تعديهم خلاف ادراك وحكم وماهية العقل ومقابلته للمعجزة النبوية حسية كانت أو عقلية خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم اتصف من بين الأنبياء بالجمع بين المعجزتين وعلى نحو التعدد لكل منهما .
(عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الله بن مسعود إن الكتب كان تنزل من السماء ، من باب واحد ، وأن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف ، حلال وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وضرب أمثال ، وآمر وزاجر ، فأحل حلاله ، وحرم حرامه ، واعمل بمحكمه ، وقف عند متشابهه ، واعتبر أمثاله ، فإن كلا من عند الله { وما يذّكَّر إلا أولوا الألباب})( ).
بحث إعجازي
النهي في الآية [وَلاَ تَعْتَدُوا] ( ) لا ينحصر بصيغ وكيفية القتال وسـوح المعارك فهو عام لأصالة الإطلاق وظاهر الآية الكريمة وللقانون السماوي الذي أختتمت به الآية [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] وهو سيال يتغشى أفراد الزمان الطولية ، ويشمل الناس جميعاً.
وفيه حجة على الذين كفروا ، ولا سبيل للنجاة من التعدي على الذات والغير إلا بالإيمان ، واتباع الشرائع السماوية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ) كقاعدة كلية لذا تجد في الشريعة أحكام قاعدة السلطنة ومضمونها الناس مسلطون على اموالهمان كل انسان له الحق في التصرف في ماله ولا يجوز لغيره التصرف فيه من غير إذنه.
وقاعدة اليد والضمان لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (على اليد ما اخذت حتى تؤدي”( ) .
ونبذ الغصب وان كان حصوله بين ذوي الأرحام، وأحكام قطع يد السارق والقصاص والجنايات وغيرها وحرمة المعاصي والسيئات ، وهو يدل على أن الآية القرآنية لا تكون لحال دون حال أو زمان دون آخر.
ومن الإعجاز عدم تعطيل الأحكام فاذا لم يعمل بها في موضوع النزول فانها تعمل في مواضيع وميادين أخرى تكون ابتلائية ايضاً وهذا سـر من أسـرار القرآن وفيه دعوة إلى عدم تقييد الآية القرآنية بمناسبة الحكم والموضوع لأن لها حركة جوهرية وصيغ إرادية ذاتية، وأهلية على العموم والإتساع واستيعاب وقائع مستحدثة في عالم اللامحدود.
قانون قبح التعدي
التعدي هو مجاوزة الحدود وإرتكاب المحظور بالغير دون وجه حق ، وهو ظلم الإنسان لغيره ، ويكون التعدي على وجوه :
الأول : تعدي وظلم الإنسان لغيره .
الثاني : تعدي الإنسان الحدود التي جعلها الله عز وجل له ، ومن التعدي الإمتناع عن أداء الفرائض .
الثالث : التعدي بالمقابلة من الطرفين .
ومع ابتداء الآية بالأمر فانها تضمنت النهي ، فقد أمر الله عز وجل فيها بالقتال ثم تعقبه النهي عن التعدي ، وقد تقدم الكلام تفصيلاً( ).
والنسبة في موضوع التعدي والقتال هو العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وهي آلة الحرب ونوع مفاعلة بين طرفين ، أما التعدي فيكون بالقتال وغيره ، وقبل وبعد القتال ، إذ قد يكون سبباً للقتال أو مصاحباً له أو نتيجة له .
وتقدير [وَلاَ تَعْتَدُوا] ( ) على وجوه منها :
الأول : ولا تعتدوا فيكون التعدي حجة للذين كفروا.
الثاني : فلا تعتدوا فانكم لا تحتاجون إلى التعدي.
الثالث : فلا تعتدوا فان الناس قريبون من الهدى والإيمان مع تقادم الإيام.
الرابع : إن الله عز وجل يحب المؤمنين فلا تعتدوا.
الخامس : فلا تعتدوا فان الإعتداء قبيح.
السادس : فلا تعتدوا للتضاد بين الإيمان والتعدي.
وتقدير الآية جمعاً بين الإطلاق والتقييد في المقام (وقاتلوا دفاعاً عن النبوة والتنزيل عند الحاجة والضرورة ولا تعتدوا).
ويدل اختتام الآية بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، على أن قتال المسلمين للدفاع وهو ليس من التعدي أو الظلم للذات أو الغير.
وتعقبت هذه الآية آيات بخصوص موضوع القتال أيضاً ، وفيه حضّ على دفع المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأخرجوهم من مكة ظلماً ، وسعوا في الفتنة ومنع الناس من دخول الإسلام.
ثم بينت الآيات حرمة البيت الحرام ، ولزوم إجتناب المسلمين القتال فيه ، وتعيين الذين يقاتلهم المسلمون وهم الكافرون بالله والنبوة الذين يصرون على القتال والتعدي على الحرمات لقوله تعالى [كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
ومع هذا أخبرت الآية بكف الأيدي عنهم إذا انتهوا عن القتال وعن التعدي والهجوم على المسلمين فان قلت قد ورد في هذه الآيات الإذن للمسلمين بالتعدي في قوله تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
والجواب هذا من تخصيص العام ، فلا يصح التعدي مطلقاً ، واستثني منه الرد على المشركين بالمثل في الشهر الحرام ، لأنه شهر أمان وفيه منع للقتال ، وجاءت الآية لمنع ميل المسلمين للسكينة والطمأنينة في الأشهر الحرم وهي رجب شهر منفرد ، وشهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم متصلة.
ولتكون الآية إنذاراً للمشركين ، واسقاطاً لما في أيديهم فاذا عزموا على الغدر في الشهر الحرام فان هذه الآية تصرفهم عنه ، وتجعل الصحابة في حيطة وحذر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
بحث في علم الاخلاق
ينقسم كل علم إلى ثلاثة أقسام :
الأولى : الموضوع.
الثانية : المسائل.
الثالثة : المبادئ.
والعلم بالنسبة لموضوعه كالاسم للمسمى والعنوان للمعنون.
وموضوع كل علم هو عوارضه الذاتية ويطلق العرض على الكليات وبذا يطابق مفهومه اللغوي، وموضوع علم الأخلاق السجايا النفسية والملاكات التي تتحكم بالسلوك والباعثة عليه، ومباحثه تنمي الفضيلة في النفس وتساهم في تهذيب المجتمعات من الرذيلة والكدورة، وتحول دون غلبة النفس الشهوية والغضبية لتبقى السيادة للقوة الناطقة والعاقلة سعياً للسعادة الحقيقة وبلوغ منازل التقوى والإرتقاء في سلّم الإيمان.
فموضوع الفقه الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب، والندب أي الإستحباب، والإباحة، والكراهة، والحرمة، وعوارضه الذاتية أفعال المكلفين.
وعلم أصول الفقه هو الكتاب، والسنة، والأدلة الأخرى المترشحة عنهما ومنها ، على خلاف في بعضها كالعقل والقياس و الإستحسان وحجية الأمارات الظنية والظواهر والمصالح المرسلة وهي المصلحة التي لم يرد فيها دليل خاص من الكتاب والسنة والإجماع باعتبارها أو ابطالها ، إنما تستند إلى عمومات مقاصد الشريعة وتختص بالمعاملات ، ولا تشمل العبادات الواجبة التي هي توقيفية.
وموضوع علم النحو الكلمة العربية وتركيب الجملة لحفظ اللسان من الخطأ، ويرتكز علم الأخلاق على قواعد في الكمال والفضيلة تساهم في جلب النفع أو دفع المضرة، ويجعل الدنيا دار أمان وإلفة، لذا فإن مسائله تتعلق بحسن الخلق والسيرة والأخلاق المحمودة والحكمة والعفة، وكل علم لا يتقوم إلا بمسائله.
وسجايا الإنسان وطبعه ومزاجه وحالته النفسية قابلة للحسن والقبح، والمدح والذم، ويمكن معرفة خلق الشخص من خلال سلوكه وسيرته بالبرهان الإني وهو الإستدلال بالمعلول على العلة، وإتخاذ المعلول بعد معرفته سبيلاً لمعرفة العلة، والإستدلال بعدم المعلول على عدم العلة، ولعل مدارس التحليل النفسي التي ظهرت حديثاً منه.
كما يمكن معرفة سلوكه من خلال خلقه وطبعه وهو المسمى بالبرهان اللمّي وهو الإستدلال بالعلة على المعلول، وبعدم العلة على عدم المعلول، لذا يكون من الفراسة معرفة رد وجواب شخص ما بسبب معرفة سجاياه ومزاجه.
والحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق( )، مدرسة في علم الإجتماع وفيه إكرام لمن قبله من الأنبياء، ولطف في وصف أفعال الناس وأنها لم تكن على نحو الموجبة الجزئية، وأن الإسلام يضفي على الصفات الحميدة صفة كمال.
ومن الصفات الحميدة التي تحمل أمارات الكمال الإنساني الهداية إلى الصراط المستقيم، لذا جاءت هذه الآية هبة الهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتفضل الله سبحانه وجعل المسلمين يقرأونها كل يوم عدة مرات لتكون سؤالاً ملحاً وتضرعاً دائماً، واقراراً بالحاجة الى رحمته وهدايته تعالى.
ومن الأخلاق الحميدة تغليب لغة الحوار ، وقد رزق الله عز وجل النبي محمداً المعجزة التي تجذب الناس للهدى والإيمان من غير قتال ، فأدرك رؤساء الشرك هذا القانون بشواهد عديدة منها دخول ابنائهم وبناتهم الإسلام فالتجأوا إلى السيف وغزو مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
قانون وصايا النبي (ص) سلام
قال تعالى [وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا]( )، الحمد لله الذي جعل الأرض محلاً لعبادته وذكره وتسبيحه وتفضل ببعث مائة وأربعة وعشرين ألف نبي تباعاً ، وتصاحب كل نبي معجزة منفردة أو متحدة تكون شاهداً سماوياً على صدق نبوته ، فمثلاً كانت الناقة معجزة صالح عليه السلام وورد عنه في التنزيل [هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
لقد سألوا صالحاً أن يأتيهم بآية فخرجت لهم الناقة من وسط الصخرة .
والنبي صالح هو (صالح بن عبيد بن أسف ابن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود) ( ).
والنفرة كيفية نفسانية وتترجل بالخارج بالتباعد والكره ، وعزوف وإعراض النفس وعدم الميل والقرب .
ترى ما هي النسبة بين النفرة والبغض ، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالبغض أشد .
مما يدل على لزوم إجتناب الإرهاب لأنه يؤدي إلى البغض والكراهية بين الناس ، وإنما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ولسيادة مفاهيم السلم والتعايش المجتمعي .
وعن أبي موسى الأشعري أن النبي (بعثه ومعاذا إلى اليمن فقال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا قال وكان لكل واحد منهما فسطاط يزور كل واحد منهما صاحبه فيه) ( ) .
وكانت اليمن مقسمة إلى اقليمين يسمى كل واحد منهما (مخلافا) فأرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل إلى الجهة العليا له فيها مسجد قائم إلى اليوم .
أما جهة أبي موسى فهي السفلى ، وكانا يلتقيان لتنظيم العمل والتذاكر وتنسيق العمل ، وهو من مصاديق (تطاوعا ) ، ومخاليف اليمن كثيرة وكل واحد منها كالوحدة الإدارية ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث كلاً من معاذ وأبي موسى الأشعري لأكثر من مخلاف منها مخلاف صنعاء ، ومخلاف صَعدة ، ومخلاف البون ، ومخلاف الحِردة ومخلاف جوف ومخلاف همدان وغيرها إلا أن يكون الإنشطار فيها حدث بعد زمن النبوة.
وفي قرية مأرب قصر سليمان ، والقشيب وهو قصر بلقيس .
وقد ذكر عدداً من مخاليف اليمن ياقوتُ الحموي ت 626 هجرية في معجم البلدان ، ويرتبط تقسيم المخاليف في اليمن بسكن القبائل ، كما لو كان لسكن كل قبيلة مخلاف .
وأصل تسمية مخلاف ، أنه لما كثر ولد قحطان في اليمن لم يكفهم محل واحد ، فارتأوا التفرق في نواحي اليمن ، والإنتفاع من الثروات في كل موضع ، وإجتناب الخصومة ، والقتال على الأرض ، والزراعة والسقي في الموضع الواحد .
فانتشروا في ربوع اليمن ، وصاروا يعمرون القرى والنواحي ، وكلما تخلف أبناء أب في موضع عن عامة القبائل الذين تخلفوا سُمي موضعهم باسم أب هؤلاء الأبناء القبيلة فيقال مخلاف زبيد ، ومخلاف لحج ، ومخلاف أبين وغيرها كثير .
ومن معاني قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ وأبي موسى (تطاوعا ) أي يكون العمل مشتركاً بما يفيد وحدة أراضي اليمن وإقامة الصلاة وأحكام الفرائض من غير اختلاف في الفتوى والعمل.
فمثلاً لا يتوضأ أو يصلي أحدكما خلاف وضوء أو صلاة الآخر ، وهل منه تعيين أوان رؤية الهلال ، المختار نعم .
ترى ما هي النسبة بين وصية وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معاذ وأبي موسى هذا وبين ما ورد في الجزء السابق
(أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث أحد أصحابه في أمر ولكنه يوجه الخطاب الى الجميع للإصلاح والتفقه في الدين( ).
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فوصية وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معاذ وأبي موسى أعم لأنها في مقام الحكم والولاية لذا اضاف له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (تطاوعا ) وبدأت الوصية به لتمنع الولاية والحكم من الخلاف والخصومة ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
ومن معاني صيغة الجمع في الحديث تعاهد الأمر بالمعروف ومنه البشارة والتيسير ، والنهي عن المنكر .
ومن التيسير في الدين إختيار الرخصة ، والإمتناع عن التشديد على النفس ، فمثلاً ورد عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) ( ).
ولا يعني أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) ( )، التفريط بالفرائض والواجبات العبادية ، ولكن الأمر باتيانها بلطف وتخفيف ، وبيان الدليل والحجة وتهيئة المقدمات .
ومن خصائص الإرهاب أنه نقيض البشارة ، وليس فيه إلا الحزن والأسى ،وهو من أسباب النفرة والسخط والبغض العام لمن يقوم به ، وقد يتعدى هذا البغض إلى الجهة التي ينتمي إليها .
لذا لابد من التعاون بين المسلمين للتنزه عن الإرهاب ، واستئصاله ، والمنع من وقوعه لأنه ضرر محض ، ويؤدي إلى النفرة من الوسيلة والغاية والطريق إليه.
ومن الإعجاز في هذا الحديث النبوي أنه من جوامع الكلم ، وأن بعضه يعضد بعضاً حتى في ذات الواقعة الواحدة ، فبعد أن قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم( بشروا ولا تنفروا ) أمر باتخاذ اليسر والتيسير منهاجاً في الحياة العامة والأفعال والعبادة ، فيجب أن يختار المسلم الطريق الأيسر والأسهل لتحقيق الغايات الحميدة ، ومن خصائص صيغة الجمع في الحديث التعاون في التيسير ، وترك العسر والتعب والتضييق على النفس .
ليكون من الإعجاز في السنة النبوية وتنظيم شؤون الإدارة والحكم تقسيم اليمن إلى اقليمين ، تقع في كل اقليم عدة مخاليف وقبائل ، وهذا التقسيم ظهر لسنوات عديدة في هذا الزمان ، إذ صارت دولتان في اليمن .
لقد أمرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأخذ بما فيه يسر وسهولة ، ومنع من الأخذ بما فيه شدة وضيق وإرهاق للناس سواء في أداء الصلاة ، أو الزكاة أو الصيام ، فلا يجهد المسلم نفسه في النوافل ولا يصلي المريض عن قيام إذا لم يقدر عليه ، ولا يصوم المريض أو المسافر .
وقال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) لبيان لزوم الإتيان بالإنذار من غير بعث للنفرة والبغض في النفوس .
ومن خصائص السنة النبوية وما فيها من الأوامر والنواهي بقاؤها حية طرية تتوجه إلى كل جيل من المسلمين ، وتشمل الذكور والإناث ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وهل يتضمن الإمتثال في (بشروا ) المنع من الإرهاب ، الجواب نعم ، لذا قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشارة فالذي ينتظر البشارة لا ينتقم ولا يثأر ، ولا يقوم بقتل نفسه وغيره قنوطاً ويأساً ، قال تعالى [قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ]( ).
ولا تختص البشارة بمادة (بشر) ومشتقاتها فتأتي بوجوه منها الوعد والجملة الخبرية ، والوقائع ، كما في قوله تعالى [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، لبيان حرمة البطش والعقاب بالأشد من ذات العقاب وأن الأولى هو العفو عن السيئة ، وقصد الإصلاح ، وفيه الأجر العظيم.
ويتنافى الإرهاب مع كل من العفو والإصلاح مجتمعين ومتفرقين في الذات والغير .
وهل تدل الآية أعلاه على عدم كفاية العفو فلابد من اقتران الإصلاح به ، الجواب لا ، ولكن الجمع بينهما من مراتب الكمال ، ولإجتناب تكرار السيئة أو مضاعفتها ويمكن تقسيم البشارة إلى :
الأولى : البشارة الدنيوية.
الثانية : البشارة الأخروية .
أجزاء هذا التفسير دعوة للأمن والسلم
لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة الأجيال ، قال تعالى [وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً] ( ) لتكون القواعد القوانين الواردة في القرآن سور الموجبة الكلية ، لضبط علوم التفسير والتأويل ، ومنع الشطط فيها ، وتضمن هذا السفر المبارك تفسير الآيات حسب نظم القرآن ابتداء من سورة الفاتحة التي صدر الجزء الأول بخصوصها ، ولا زلت عند تفسير الآية (189) من سورة آل عمران ، وقد صدرت أجزاء من هذا التفسير بخصوص عدة مواضيع منها بيانية وإبتلائية في هذا الزمان وهي :
الأول : قانون لم يغز النبي (ص) أحداً.
وقد صدرت منه خمسة وعشرون جزءّ وهي الأجزاء (164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196—204-212-216-221-229).
ترى ما هي الصلة بين حديث (بشروا ولاتنفروا) وهذا القانون ، الجواب إن الغزو والقتل والسلب والنهب سبب لبعث النفرة عند الذي يتعرض للغزو والقتل والسلب ، وعند غيره من الناس لفقد الأمن ، لذا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرص على بسط الأمن والسلم ،وعدم إخافة الناس الآمنين .
وتبين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم الحاجة إلى الغزو لأن المعجزة كانت تجري بين يديه وتصاحبه ، وهي تدعو الناس إلى الهدى والإيمان بصيغ الرحمة والرأفة.
و(عن ابن عباس في قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) قال : من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب ، من المسخ والخسف والقذف)( ).
لبيان حرمة الإرهاب من باب الأولوية القطعية سواء ضد المسلمين أو غيرهم من جميع أهل الأرض فإذ يتفضل الله عز وجل بصرف ما يصيب الناس من أنواع البلاء والعذاب في الآفات الكونية السماوية والأرضية فانه يجب أن يكف المسلم يده عن الناس ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، الجواب نعم ، ليكون من معاني شكر المؤمن لله الرفق والعطف بعامة الناس.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ( ).
والمسلم هو الذي نطق بالشهادتين.
وورد بصيغة العموم عن عبد الله بن عمرو قال (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) ( ).
وهل يفيد الجمع بين الحديثين تقييد المطلق ، الجواب لا ، إنما هو من التوسعة في الحكم ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن أبيه (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ألا انبئكم لم سمي المؤمن مؤمنا ؟
لايمانه الناس على أنفسهم وأموالهم، ألا انبئكم من المسلم ؟
من سلم الناس من يده ولسانه الخبر) ( ).
ومع أن النسبة بين المسلم والمؤمن هي العموم والخصوص المطلق ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، فيجب على كل مسلم عدم إخافة الناس في أنفسهم وأموالهم .
الثاني : صدرت بمدد وعون من الله عز وجل عشرة أجزاء من هذا التفسير بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب) وهذه الأجزاء هي (184-185-188-195-198-199-203-210-211-219).
لبيان مجئ القرآن بالبشارة والأمن ، وأن آياته رسماً وتلاوة ومعنى ودلالة لا تؤد إلا إلى الأمن والرضا والطمأنينة ، أما الإرهاب فليس فيه إلا أمور :
أولاً : الضرر المتعدد .
ثانياً : التخويف العام .
ثالثاً : النفرة من الفعل الإرهابي وصاحبه.
الثالث : صدرت خمسة أجزاء من هذا التفسير بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) وهي (222-223-224-227-230).
لبيان نزاع القرآن مع الإرهاب بلحاظ الحديث النبوي (بشروا ولا تنفروا) من وجوه :
أولاً : آيات البشارة زاجر عن الإرهاب .
ثانياً : آيات التفكر في الخلق دعوة للسلم ، ومناسبة للتدبر في عالم الأكوان ، وماهية الخلق ، وفي هذا التدبر مسائل :
الأولى : في أمور الدين والدنيا .
الثانية : إنه صارف عن الإرهاب .
الثالثة : إدراك حقيقة وهي عدم الإنتفاع الخاص أو العام من الإرهاب.
ثالثاً : قانون بيان القرآن لقبح التعدي وشدة الحساب عليه ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
والإرهاب تعد على النفس والملة والمجتمعات ، وهو آفة وشر لابد من التنزه عنه فأجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحصانة وعصمة المسلمين منه .
رابعاً : من خصائص القرآن ومطلق الكتب السماوية التذكير بعالم الحساب ، والوعد والوعيد ، فيه ترغيب بالبشارة واشاعتها ، وإجتناب أسباب النفرة والتعرض للحساب والعقاب.
ويمكن إحصاء كل من :
الأولى : آيات البشارة في القرآن .
الثانية : آيات الإنذار في القرآن .
بأن نبدأ بالقرآن آية آية إلى سورة الناس ، ترى أيهما أكثر آيات البشارة أم آيات الإنذار ، المختار هو الأول ، وقد لا تظهر البشارة في منطوق الآية ولكنها تدل عليها ، وتشير إليها.
فمثلا آيات سورة الفاتحة فكل واحدة منها بشارة وأمن ، وتملأ القلب بالبهجة والطمأنينة ، لذا تفضل الله عز وجل وألزم كل مسلم ومسلمة بتلاوتها سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية .
الرابع : صدرت بفضل من الله الأجزاء (202-203-204-210-211) من هذه السفر بعنوان آيات السلم محكمة غير منسوخة وفيه إتخاذ الدليل النقلي والعقلي والتأريخي لنفي نسخ هذه الآيات مع كثرتها.
الخامس : من لطف الله عز وجل صدور الأجزاء (142-205-217-218) بقانون (آيات الدفاع سلام دائم) وآخرها هذا الجزء المبارك.
وأسال الله عز وجل عناوين مستحدثة أخرى في هذا السفر تستنبط من ذخائر القرآن.
قانون سورة الفاتحة باعث للنفرة من الإرهاب
من خصائص القرآن في باب الإعجاز وجوه :
الأول : ذات القرآن ونزوله إعجاز.
الثاني : ما بين الدفتين معجزة ، قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثالث : كل سورة من القرآن معجزة وإن كانت قصيرة كسورة الكوثر التي تتألف من ثلاث آيات قصار ، وهي من السور المكية أي أنها نزلت قبل قوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
ومن معاني سورة الفاتحة أنها منهاج قويم في الدنيا ، وسبيل فلاح وحرز للآخرة وتكون آياتها كالآتي :
الأولى : البسملة وهي آية من سورة الفاتحة ، وتتضمن البشارة نزول الرحمة والرأفة من عند الله في حال اليسر والعسر ، وفيها حضّ على ابتداء الأعمال بالبسملة لتترشح عنه البركة وأسباب الأمن .
وحينما يسمع الناس المسلم يقول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فهل يركنون ويطمئنون إليه ، المختار نعم ، وفيه حجة وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
ولا تبعث البسملة النفرة في النفوس ، وكأن الآية تدعو المسلم إلى تعاهد حسن الظن به وإلى إجتناب إخافة الناس وبعث الذعر بينهم أو القيام بعمل إرهابي لأنه يتنافى مع البسملة.
لذا تفضل الله عز وجل وجعل المسلم يتلوها في الصلاة اليومية ليحترز بها من الإرهاب والظلم ، وذات البسملة واقية لصاحبها من الشيطان والبلاء ، إذ أن الإستعاذة مستحبة ، لذا فان الذي يأتي بها تجزيه عن الإستعاذة .
الثانية : قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) اقرار بالنعم ،وثناء على الله لعظيم فضله وإحسانه.
ومن مصاديق الحمد الشكر لله عز وجل على نعمة التنزه عن الإرهاب وعن أسباب نفرة الناس من المسلم وعباداته.
ومن مصاديق [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) أنها دعوة للتعايش العلمي والرأفة بين الناس ، إذ يدرك كل إنسان وجوب القول الحمد لله لكثرة نعم الله على الفرد والجماعة ، لقول الحمد لله ، وجاء الحمد لله بصيغة الجملة الاسمية التي تدل على الإستدامة والثبوت.
ويأتي الحمد لله بالقول والفعل ، وأما الإرهاب فهو ضد لكل من الحمد القولي والفعلي ، لبيان أنه مناف ومخالف للسنة النبوية في الدنيا ، وسبب للحجب عن شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة والذي يحمل يومئذ لواء محمد .
(عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني دعوت للعرب ، فقلت : اللهم من لقيك منهم مؤمناً موقناً بك مصدقاً بلقائك ، فاغفر له أيام حياته . وهي دعوة أبينا إبراهيم ، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ، ومن أقرب الناس إلى لوائي يومئذ العرب) ( ) .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر)( ).
الثالثة : قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) اسمان من الأسماء الحسنى يكرر كل مسلم ومسلمة تلاوتهما سبع عشرة مرة كل يوم ، عدا البسملة لبيان المبالغة والسعة في رحمة الله عز وجل بالناس والمخلوقات ، وأنها لا تختص بالمؤمنين أو جميع الناس، بل تشمل الخلائق كلها ، وتتغشى عالم الدنيا والآخرة ، ولم يخلق الإنسان ويجعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إلا برحمة من الله عز وجل .
وفي تلاوة (الرحمن الرحيم) مسائل :
الأولى : إنها بشارة وأمل ، قال تعالى [قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ]( ).
الثانية : الآية رجاء ودعوة للصبر.
الثالثة : فيها إخبار عن خلق وهداية الناس برحمة من الله عز وجل ، وفي الآية بشارة الرحمة في عالم القبر ، ويوم القيامة.
الرابعة : في الآية دعوة للتعايش السلمي.
الخامسة : تبعث الآية على التسامح بين الناس وكتمان الغضب والغيظ ، قال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )،.
ويحيط الله عز وجل الإنسان بالرحمة والعناية واللطف من حين ولادته إلى ساعة مغادرته الدنيا مما يلزم الشكر لله بأداء الفرائض العبادية ، وإجتناب الإضرار بالناس في أنفسهم ومعايشهم.
وهل يدل قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، على لزوم هذا الإجتناب ، الجواب نعم ، وفيه دعوة للناس ، وبشارة بعضهم بعضاً بالرحمة من عند الله في حال السراء والضراء .
والآية حجة على بعض بعض المذاهب المادية الذين يقولون بأن الحياة أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، فهذا النظام الدقيق في كيفية الولادة والحياة ثم الممات إنما هو رحمة من عند الله ، وستتجلى للناس في الآخرة جبال من الرحمة كانت تتغشى الفرد والجماعة في الدنيا وهو من أسباب طمع الناس يوم القيامة بالشفاعة والعفو والمغفرة من عند الله لإدراكهم لقانون من الإرادة التكوينية وهو رحمة الله في الآخرة أضعاف رحمته في الدنيا، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( )، ولذا أخبرت الآية التالية عن ملكية الله المطلقة لعالم الآخرة.
هكذا فكل آية من آيات سورة الفاتحة باعث للنفرة من الإرهاب وكذا الجمع بين كل آيتين منها ، والجمع بين آيات سورة الفاتحة على نحو العموم المجموعي.
الحقيقة والمجاز
قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
وهل علم الله عز وجل الأسماء الحقيقية للمعاني والمسميات أم علمه المجازات أيضاً أم الحقيقية وبعض المجازات ، المختار هو الأول ، مع قواعد المجاز .
وتدل كثرة الأسماء للذات الواحدة على شرف ورفعة وعلو المسمى ، أو على كماله في أمر مخصوص أو على أهميته أو تعدد اسمه عند القبائل مع تداخلها .
و (عن سليمان بن مهران، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة، وهي: الله، الاله، الواحد، الاحد، الصمد، الاول، الآخر، السميع البصير، القدير، القاهر، العلي، الاعلى، الباقي، البديع، البارئ، الاكرم، الظاهر، الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحق، الحسيب، الحميد، الحفي، الرب، الرحمن، الرحيم، الذارئ، الرازق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، السيد،
السبوح الشهيد، الصادق، الصانع، الطاهر، العدل، العفو، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المقيت، المصور، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف/ الضر، الوتر، النور، الوهاب، الناصر، الواسع، الودود،
الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البر، الباعث، التواب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي) ( ).
وسليمان بن مهران أبو محمد الاسدي مولاهم الاعمش الكوفى، وردت ترجمته مع إطرائه وقال ابن حجر في ص 210 من تقريبه:
سليمان بن مهران الاسدي الكاهلى، أبو محمد الكوفى الاعمش ثقة، حافظ، عارف بالقراءة، لكنه يدلس، من الخامسة، مات سنة سبع وأربعين أو ثمان ومائة، وكان مولده أول احدى وستين سنة.
(وروى الصادق عن النبي صلى الله عليه واله أنه قال: إن لله مائة
رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده) ( ).
وهل من صلة بين عدد أسماء الله عز وجل ، وهذا العدد من الرحمة ، وهل لكل فرد منها اسم مخصوص كما لو كان يتعلق بأحد الأسماء الحسنى .
المختار نعم ،وهناك صلة بينهما ، وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأوفى والأتم ، وكل اسم من أسمائه تعالى رحمة عامة للخلائق ، وهي غير عدد الرحمة الذي يتضمنه الحديث أعلاه .
وفي تقسيم الكلام وجوه :
الأول : الكلام العربي كله حقيقة ، وقال أبو إسحاق الإسفراييني : اللغة العربية لا مجاز فيها .
والحقيقة اللفظية هو استعمال اللفظ فيما وضع له .
الثاني : الكلام العربي كله مجاز وهو بعيد.
الثالث : الكلام العربي حقيقة ومجاز ، وهو المشهور ، والمختار.
الرابع : أضيف هنا قسيماً مستحدثاً وهو ذات اللفظ القرآني الواحد يتضمن معنى الحقيقة والمجاز ، فيفسر مرة على معنى الحقيقة وأخرى لإرادة المجاز ، وذكر القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي .
والمجاز هو استعمال اللفظ في معنى غير الذي وضع له لعلاقة ومشابهة أو قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي مثل إطلاق لفظ .
وتنقسم القرينة إلى قسمين :
الأول : قرينة لفظية كما لو قلت رأيت أسداً في الميدان ، والمراد رجل شجاع فالعلاقة المشابهة بين الأسد وهذا الرجل هي الشجاعة ، أما القرينة فهي في ميدان المعركة .
الثاني : القرينة العقلية ، مثلاً قوله تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ] ( ) كان موسى عليه السلام يخشى بطش فرعون وهو الذي تربى في حجره ، فعرف مكائد الطاغوت فسأل الله عز وجل أن يجعل أخاه هارون وزيراً له فأستجاب الله عز وجل له .
فالمشابهة الشد والتقوية ،والقرينة نسبة العضد إلى موسى (عضدك) ، وهو من المجاز العقلي ، إذ ينقسم المجاز إلى قسمين :
الأول : المجاز اللغوي ، يكون في المفرد ، ومنه (طلع البدر علينا).
الثاني : المجاز العقلي ، ويكون في الإسناد والتركيب .
وتقول مثلاً : رأيت أسداً في حديقة الحيوانات ، فهذا حقيقة ، أما دخل إلى بيتنا أسد فهذا من المجاز ، والمراد دخل رجل شجاع .
ترى ما هي النسبة بين علم الحقيقة والمجاز في اللغة ، وفي علم الأصول ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فهو في اللغة أعم .
ووقع المجاز في الكتاب والسنة وهو المشهور والمختار نعم لا يقع المجاز في العقائد ، ومنهم من أنكر وجود المجاز ، وهذا العلم على أقسام :
الأول : علم الحقيقة والمجاز في اللغة .
الثاني : علم الحقيقة والمجاز في القرآن والسنة .
الثالث : علم الحقيقة والمجاز في علم الأصول .
الرابع : علم المجاز في العرف .
ويمكن تقسيم المجاز إلى أقسام :
الأول : المجاز اللغوي ، وهو استعمال اللفظ لإرادة معنى غير الذي وضع له مع قرينة صارفة .
الثاني : المجاز الشرعي ، وهو استعمال الصلاة في الرحمة والدعاء ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ) .
ومن المجاز الشرعي قال تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ).
فالمراد أن الملامسة هنا الوطئ والجماع ، وعليه نصوص وقرائن عقلية وقيل المراد حقيقة الملامسة وإليه ذهب المالكية ، قالوا بأن الملامسة كالمصافحة تنقض الوضوء اذا قصد الملامسة ، واستدلوا بأخبار ، وعن الشافعية النقض مطلقاً قصد اللذة أم لم يقصدها ، وسواء كانت المرأة زوجته أو أي امرأة أجنبية من غير المحارم واستدلوا بالآية أعلاه .
وعن الإمام علي عليه السلام : اللمس هو الجماع ولكن الله كنى عنه وكذا عن ابن عباس .
(عن عمر قال : إن القبلة من اللمس فتوضأ منها) ( ).
وكذا ورد (عن ابن مسعود في قوله { أو لامستم النساء } قال : اللمس . ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيها الوضوء) ( ) .
والمختار أن الملامسة هنا هي الجماع ، وأن اللمس والقبلة لا تنقض الوضوء ، وبه قال الإمامية والحنفية ، قال السرخسي (لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ الْقُبْلَةِ ، وَمَسُّ الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ ، أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ) ( ).
ومن إعجاز القرآن يجعلون أصابعهم في أذانهم وكذا من المجاز [فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ] ( ).
ومن منكري المجاز ابن تيمية وابن القيم الجوزية ت 751 هجرية .
الثالث : المجاز العرفي ، وهو اللفظ الذي يستعمل في غير ما وضع له بالأصل .
والنسبة بين الحقيقة والمجاز في اللغة وفي علم الأصول هو العموم والخصوص المطلق ، إذ أن القدر المتيقن من استعمال الحقيقة ، والمجاز في علم الأصول هو جعلهما نوع طريق لإستنباط الحكم الشرعي ، ومادة للإستدلال ، فلا يعتني علم الأصول بالعناصر البلاغية وضروب الجمال وعلوم البيان في المجاز مثلاً وكما أن الحقيقة هي الأصل والمجاز فرع لها .
فكذا فان علم الحقيقة مقدم ، والمجاز في علم الأصول فرع لها ، أما النسبة في الحقيقة والمجاز بين اللغة وآيات القرآن ، فالمختار أنها نسبة التساوي مع زيادة ورجحان لآيات القرآن بفتحها لعلوم عديدة في هذا الباب .
كما اختلف من جهتين :
الأولى : الحقيقة في اللغة العربية أكثر من المجاز وإليه ذهب ابن فارس .
الثانية : المجاز في اللغة العربية أكثر من الحقيقة وإليه ذهب ابن جني في الخصائص( ) .
والمختار الجهة الأولى .
ومنهم من قال المجاز موجود في اللغة ، ولكنه غير موجود في القرآن ، فالقرآن كله حقيقة ، ولكنه ظاهر في المركبات .
ومن الذين انكروا المجاز في القرآن ابن القاص ، وحكي عن داود الظاهري ، وأبي مسلم الاصبهاني ،وحجتهم أن المتكلم لا يعدل عن الحقيقة الى المجاز إلا إذا تعذر عليه البيان بصيغ الحقيقة فيلجأ إلى الإستعارة ، وهو مستحيل على الله سبحانه.
وهذا القول والحجة لا أصل لها ، إنما الكلام العربي فيه حقيقة ومجاز ، ولا تكاد لغة من اللغات الحية تخلو من الحقيقة والمجاز.
أسماء القرآن حقيقة
أسماء الله عز وجل كلها حقيقة وليست مجازاً ، وكذا بالنسبة للقرآن فله أسماء كثيرة، وقد أوصلها بعضهم إلى ثلاثة وتسعين اسماً ، ومنها ما ورد بالنص في القرآن ،ومنها ما هو مستقرأ من آيات القرآن أو من السنة النبوية منها :
الأول : القرآن ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرً] ( ).
الثاني : التنزيل ، قال تعالى [تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : الكتاب ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع : الفرقان ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]( ).
الخامس : الحق ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
السادس : التذكرة ، قال تعالى [إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
السابع : الحكيم ، قال تعالى [تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ]( ).
الثامن : الحكمة البالغة ، قال تعالى [وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ]( ).
التاسع : الوحي ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ]( ).
العاشر: كلام الله ، قال تعالى [أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
الحادي عشر : الصراط المستقيم ، ، إذ ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟
قال : كتاب الله .
فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين ، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم)( ).
الثاني عشر : التبيان ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
الثالث عشر : الصدق ، قال تعالى [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ]( ).
الرابع عشر : أحسن الحديث ، قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
الخامس عشر : البرهان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ) ، وهو لا يمنع من إرادة معاني أخرى من لفظ البرهان أعلاه ، ومنها الحجة والمعجزة .
السادس عشر : أحسن القصص ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
السابع عشر : الهدى ، قال تعالى [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
الثامن عشر : المفصل ، قال تعالى [أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ]( ).
التاسع عشر : حبل الله ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
العشرون: المبين ، قال تعالى [الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ]( ).
الحادي والعشرون : الرحمة ، قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الثاني والعشرون : النور ، قال تعالى [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ) وقال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا] ( ) وقد ذكرت هذه الآية في تسمية القرآن بالبرهان في الوجه الخامس عشر أعلاه ، ولا تعارض بينهما ، ليكون من عطف البيان ، وهو لا يمنع من تعدد معاني البرهان في الآية .
الثالث والعشرون: النذير ، قال تعالى [قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ]( ).
الرابع والعشرون: القول الثقيل ، قال تعالى [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً]( ).
الخامس والعشرون: القول الفصل ، قال تعالى [إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ]( ).
السادس والعشرون : المجيد ، قال تعالى [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ]( ).
السابع والعشرون: الروح ، قال تعالى [رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِي]( ).
الثامن والعشرون : البلاغ ، قال تعالى [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
التاسع والعشرون : النبأ العظيم ، قال تعالى [قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ]( ).
الثلاثون : الشفاء ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
الحادي والثلاثون : البشير ، قال تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ]( ).
الثاني والثلاثون :النذير ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
الثالث والثلاثون : البصائر ، قال تعالى [وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الرابع والثلاثون : المبارك ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( ).
وقد ذكرت في الجزء الأول من معالم الإيمان في تفسير القرآن لسورة الفاتحة أربعة وأربعين اسماً ( ).
وقيل أورد العرب للأسد خمسمائة اسم كما عن ابن خالويه ، ومنهم من أوصلها إلى ثلاثمائة وهو بعيد ، ومنها :أسد أشجع ، أحيد ، باسل ، نهيم ، جروان ، أصهب ، سرحان ، حيدر ، ابو الحارث ، همّات ، أصهب ، وغيرها .
وهذه الأسماء كلها من المجاز .
قانون إجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ قرآني واحد
الحمد لله الذي جعل القرآن حصناً للغة العربية ، وآياته ضابطة لمعانيها ، والتوسعة فيها بما زادها بهاءً ، وجعلها تتضمن معاني وقواعد كلية مستحدثة لبيان قانون وهو إعجاز القرآن في تقويم وتزيين اللغة العربية وعلوم البيان والبلاغة والنحو والصرف فيها ، ومنع الشوائب من الدبيب إليها .
والقول في إعجاز القرآن على وجهين :
الأول : ليس في القرآن مجاز ، فكل كلماته حقيقة .
الثاني : في القرآن حقيقة ومجاز ، فقد يكون اللفظ حقيقة ، أو يكون مجازاً ،ومن المجاز مثلاً ، قال تعالى [وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا] ( ) أي جاء أمر وقضاء الله عز وجل ، وقيل (هذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل) ( ).
ولعل نواميس عالم الآخرة أعم وأوسع من عالم الدنيا ، فيكون للمجئ هنا معنى آخر أكبر من المتصور الذهني للإنسان .
والمختار أن قوله [وَجَاءَ رَبُّكَ] من المجاز .
الثالث : إجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ، وهذا القسيم علم مستحدث هنا يفتح آفاقاً من ذخائر القرآن مثلاً قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] ( ) وفيه مسائل :
الأول : هذا الكلام من المجاز وهو المشهور ، وتقديره :واسأل أهل القرية وأسال أصحاب العير والأجراء .
الثاني : هل يمكن حمل الكلام على الحقيقة أيضاً ، الجواب نعم .
الثالث : الفرد الجامع للحقيقة والمجاز في موضع واحد بما يعني سؤال يعقوب النبي عليه السلام لذات القرية وأبنيتها ودورها وشجرها ، وأن من الأنبياء من رزقه الله عز وجل تكليم هذه الجمادات أو تكليم الدواب التي فيها من البقر والإبل والغنم والطيور والدجاج التي تعود لأهل القرية .
وقد ورد عن سليمان عليه السلام أنه كلم الطير والحيوان قال تعالى [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ] ( ).
نعم زمان سليمان مـتأخر عن زمان يعقوب النبي ولكن الآية وردت بصيغة الجمع [عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ] مما يحتمل تعلم يعقوب أيضاً اذا ثبتت القرينة .
فمثلاً يفيد لفظ[وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا] ( ) المجاز فانه يفيد الحقيقة أيضاً ، وهو غير النص والظاهر والمجمل والمبين ، وغير التخصيص والإضمار ، ومن الأمثلة على إجتماع الحقيقة والمجاز لفظ واحد ، قوله تعالى [فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ] ( ) .
فنسبة الإنقضاض إلى الجدار مجاز ، فليس عنده هذه الإرادة على الظاهر ، ولكن قد يكون المقصود الحقيقة وهي مما جعل الله عز وجل عند الجمادات من فعل محدود يتعلق بذاته لا يعلمه إلا الله عز وجل في ذات الفعل وزمانه وكيفيته ، وأن الجدار مال لجهة السقوط كي يقوم الخضر وموسى عليهما السلام باعادة بنائه ، فوجودهما بجواره فرصة لحفظ الكنز ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ونقل القرطبي قولاً بعدم وجود المجاز في القرآن .
جاء هذا في تفسيره في بيان قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
(قال : ليس في القرآن مجاز قال : المقابلة عدوان وهو عدوان مباح كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح لأم قول القائل :
(وكذلك :
( امتلأ الحوض وقال قطني )
وكذلك :
( شكا إلي جملي طول السرى )
ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق ، وحد الكذب : إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله كما قال عمرو بن كلثوم :
( ألا لا يجهلن أحد علينا … فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
وقال الآخر :
( ولي فرس للحلم بالحلم ملجم … ولي فرس للجهل بالجهل مسرج)
( ومن رام تقويمي فإني مقوم … ومن رام تعويجي فإني معوج )
يريد : أكافىء الجاهل والمعوج لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج) ( ).
ولكن ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظّه من الزنا أدركه ذلك لا محالة،
فزنا العينين النظر،
وزنا اللسان المنطق،
وزنا الشفتين التقبيل،
وزنا اليدين البطش،
وزنا الرجلين المشي،
والنفس تتمنى وتشتهي،
والفرج يصدق أو يكذبه،
فإنْ تقدّم بفرجه كان زانياً وإلاّ فهو اللمم) ( ).
لكنه قياس مع الفارق ، وهناك تباين بين المجاز والكذب ، وهو ظاهر عند المتكلم والسامع.
عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال: ليس في المذي من الشهوة، ولا من الإنعاظ (1)، ولا من القبلة، ولا من مس الفرج، ولا من المضاجعة وضوء ولايغسل منه الثوب ولا الجسد(1).
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال: ليس في القبلة، ولا المباشرة، ولا مسّ الفرج وضوء.
هل من خلق آخر بعد يوم القيامة
تتجلى البشارة في قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، فالآية تسليم وإقرار من المسلمين بأن الملك يوم القيامة لله وحده ، وأن الأشياء جميعاً حاضرة عنده سبحانه ، وهل يدل عليه دخول الإنسان القبر بالكفن وحده.
الجواب نعم ، إذ أن هيئة الدخول هذه موعظة وعبرة لأهل الدنيا الذين يفارقهم الميت قهراً ومن غير وداع أو يكون هناك وداع قهري ، ولكن ليس بعده لقاء إلى [يَوْمِ يُبْعَثُونَ].
ترى لماذا خصت الآية ملكية الله بـ[يَوْمِ الدِّينِ] وهو يوم القيامة وعالم الحساب ، الجواب من جهات :
الأولى : تأكيد البعث والنشور ، ووقوف الناس بين يدي الله عز وجل يوم القيامة .
الثانية : بيان قانون فقر الناس التام وفاقتهم يوم القيامة ، فمن لم يتعظ في الدنيا من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( )، يرى هذا القانون يتجلى بوضوح في الآخرة ، وقال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
الثالثة : قد ينسب الملك في الدنيا للأفراد والمنظمات والدول ، وليس في الآخرة ملك لغير الله ، سواء على نحو الحقيقة أو المجاز والظاهر أو الباطن.
الرابعة : انقطاع ملك الناس وإلى الأبد يوم القيامة فلا يستحدث ملك لأحد من الناس ، وهل تدل الآية على عدم خلق مخلوقات أخرى لله عز وجل في الأرض أو غيرها من الكواكب يكون لها حق التصرف والملكية.
الجواب لا ، إذ قيدت الآية إنتفاء الملك لغير الله بخصوص يوم القيامة [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( )، ولابد من الرجوع إلى آيات القرآن والنصوص من السنة ودلالتها.
والمختار هو خلق الله عز وجل لأجناس تمتلك ويكون التملك باباً للإمتحان والإبتلاء والجزاء ويكون من معاني الآية لمن الملك في الأرض اليوم.
وحينما سأل جابر بن يزيد الإمام الباقر عليه السلام عن قول الله عز وجل [أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ]( )، فقال: يا جابر تأويل ذلك أن الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وأسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد الله عزوجل عالما غير هذا العالم.
وجدد خلق من غير فحولة ولا اناث يعبدونه ويوحدونه.
وخلق لهم أرضا غير هذه الارض تحملهم، وسماء غير هذه السماء تظلهم.
لعلك ترى أن الله عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد وترى أن الله عزوجل لم يخلق بشرا غيركم.
بلى والله لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم واولئك الآدميين)( ).
ولو دار الأمر بين هل يستمر مثل هذا الخلق الإبتلائي أم ينقطع ، المختار هو الأول لبديع صنع الله عز وجل وأصل الإستصحاب في الخلق.
وهل يطلع الناس في الآخرة سواء أهل الجنة أو النار على الخلق الجديد وأعمالهم للمقارنة ، وبيان عظيم فضل الله عز وجل على الناس في الدنيا والآخرة ، الجواب نعم إن سأل أهل الجنة هذا وشاء الله الإستحابة لهم.
الخامسة : إرادة ظهور سلطان الله المطلق ، وعجز الناس عن نفع أنفسهم ، وليس هناك إعانة بينهم ، ولا ثأر أو انتقام ، والمراد هو يوم الجزاء والحساب على الأعمال ، قال تعالى [يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ]( ).
السادسة : بيان قانون حضور أملاك وأموال وأنعام الدنيا في الآخرة ، فبعد أن كان الناس ينسبون ملكيتها لهم صاروا يسلمون يوم القيامة بأنها ملك طلق لله عز وجل.
وقد تقدم في الجزء الأول من هذا السِفر (ونعت يوم القيامة بأنه يوم الجزاء والحساب شاهد على عظيم قدرة الله تعالى، فهو الذي يجمع أجزاء الإنسان المتفرقة في التراب والشجر وغيره ويفصلها عن غيرها، ولا يؤثر التداخل والإستهلاك بين الأشياء في دقة الجمع فلا يحصل إشتراك أو لبس بل يعود كل إنسان الى ما كان في الدنيا من غير نقص.
ولا عبرة بما ذكر من شبهة الآكل والمأكول لأن القوة لله جميعاً وهو الذي أحاط علماَ بالموجودات والمعدومات، والقادر على الممكنات كلها)( ).
السابعة : إخبار الآية عن حصر الملك يومئذ لله عز وجل وحده بشارة للناس وتتكرر البشارة عند الجمع بين الآية السابقة (الرحمن الرحيم) ( ) وبين هذا الآية إذا تكون هذه الملكية المطلقة بمعاني الرحمة ومصاديق الرأفة بالناس جميعاً.
قال أعرابي (يا رسول الله ، من يحاسب الخلق يوم القيامة ؟ قال : الله ، قال الأعرابي : الله ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الله.
قال : نجونا ورب الكعبة قال : وكيف يا أعرابي ، قال : لأن الكريم إذا قدر عفا)( ).
بيان إن الأعرابي بفطرته أدرك البشارة التي تتضمنها آيات عالم الآخرة ، وأن رحمة الله تتغشى الناس يومئذ جميعاً.
قانون العرف
العرف مقتبس من المعرفة والأمر المتعارف بين الناس، ولا تنفر النفوس منه، ويتعلق موضوع العرف بالعادات وأنماط السلوك والحالات المتكررة التي تتشابه في سنخيتها ، وتعارفت عليه العقول ، وما يلائم الفطرة السليمة ، وقيل العرف هو العادة ، والمختار بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالعرف أعم من العادة إذ يشمل الطبائع والسنن ، منها :
الأول : الصلات الاجتماعية ومنها صلة الرحم.
الثاني : الوسط بين الكرم والبخل ، وبين الشجاعة والجبن .
الثالث : المعاملات كمهر الزوجة.
الرابع : اللباس .
الخامس : حسن الجوار ، وعن عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة ، وصلة الرحم . وحسن الخلق ، وحسن الجوار ، يعمران الديار ويزيدان في الاعمار) ( ).
السادس : إفشاء السلام (عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انْجَفَل الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: “يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، [وصلوا الأرحام] وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام) ( ).
إذ أدرك عبد الله بن سلام وغيره أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب الدنيا لنفسه أو لأصحابه إنما أراد للناس جميعاً النجاة والفوز في الآخرة ، ليكون من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم التذكير اليومي بعالم الآخرة .
السابع : اجتناب لباس الشهرة وما يخالف العرف.
وللعرف في الدين الاسلامي موضوعية، وان لم يؤخذ على نحو التعيين والحصر ، وهو مدرسة للاجيال، ووسيلة لتغشي مبادئ الإسلام الصلات الاجتماعية وصيغ المعاملات .
ومن هذه الموضوعية قانون حرب الإسلام على الإرهاب بسلاح العرف .
فمن الآيات ان القرآن والسنة لم يغفلا عن العرف، بل توجها إليه ومنعا مفاهيم الضلالة من النفاذ اليه، والاستحواذ على قواعده وأعرافه.
وقد ورد لفظ (العرف) في القرآن بقوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( )، والمراد من العرف في المقام لغة المعروف والإحسان .
وعن الشعبي وهو من التابعين قال (لما أنزل الله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}( ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا جبريل ، قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فذهب ثم رجع فقال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك)( ).
وقال عطاء : وأمر بالمعروف يعني لا إله إلا الله( ).
وقيل المراد من العرف أي الجاري بين الناس واحتج المالكية في الحكم بالعرف الجاري بين الناس.
ويدرك الناس جميعاً استهجان العرف للإرهاب ، سواء العرف في المجتمعات الإسلامية أو غيرها ، وقد أظهر نظام العولمة ملائمة العقل والعرف لأحكام القرآن وما فيها من الدعوة إلى التراحم ونبذ العنف والتطرف والمكر والغدر.
قانون الإختصاص في حديث (نصرتُ بالرعب)
لقد أنزل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن جامعاً للأحكام ، وضياء ينير سبل الهداية للناس جميعاً ، ويمنع من الكفر والضلالة والفتنة.
وتفضل الله وأمدّ رسوله بالوحي وجعله مصاحباً له في الحل والترحال ، وفي حال السلم والحرب ، لذا أفردتُ باباً مستقلاً اسميته السنة الدفاعية لبيان أنها فرع الوحي لبيان وجوه :
الأول : قانون لم يغز النبي (ص) قبيلة أو بلداً ، وقد صدرت خمسة وعشرون جزءً من هذا التفسير خاصة بهذا القانون
الثاني : لم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الكفار المشركين.
الثالث : لم يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا دفاعاً عن النبوة والتنزيل ، ويدل عليه قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً وعلى مراحل متتالية في أفراد الزمان ، لبيان وجوب أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالذب عنه ، ومنع قتل المشركين له .
وهل حياطة أبي طالب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحمل أهل البيت حصار قريش القاسي لثلاث سنين من الدفاع عن القرآن حتى يتم تنزيله ، الجواب نعم ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
لبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يحاربون الإرهاب ، وقانون التضاد بين الإسلام والإرهاب ، فالمسلم لا يكون إرهابياً ولا يخيف ويرعب الآخر.
فان قلت قد ورد (عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء الله ، قلنا يا رسول الله ما هو؟ قال : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي تراب الأرض طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم)( ).
كما ورد الحديث عن أبي ذر يرفعه وكذا عن ابن عباس ، وعن أبي هريرة ، وجبير بن مطعم لذا فالحديث من المتواتر اللفظي ولا يخرجه الإختلاف القليل في بعض كلماته إلى المتواتر المعنوي.
والجواب من جهات :
الأولى : هناك مختصات عديدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعث الرعب في قلوب أعدائه من مختصاته .
الثانية : بيان حفظ ووقاية الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللتنزيل .
الثالثة : هذا الرعب من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الرابعة : هذا الرعب أصاب الذين كانوا يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويجهزون الجيوش لغزو المدينة المنورة .
الخامسة : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )بعث الرعب في قلوب أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكف أيديهم عنه وعن الصحابة .
السادسة : بيان معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي نفاذ الرعب منه إلى قلوب أعدائه قهراً عليه وفيه دعوة لهم وللناس جميعاً للإيمان .
السابعة : هذا الرعب زاجر عن الإرهاب ، والإرهاب الموازي.
الثامنة : فضل الله في التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة في منع الكفار من مواصلة الهجوم على المدينة.
فمن مصاديق هذا الرعب التباعد الزماني بثلاثة عشر شهراً بين معركة أحد ومعركة الخندق .
التاسعة : إزالة الموانع دون دخول الناس الإسلام ، لإنشغال رؤساء الكفر بأنفسهم ، وعجزهم بسبب الرعب عن صدّ الناس عن التدبر بمعجزات النبوة ، وعن دخول الإسلام .
العاشرة : تفقه المسلمين في الدين ، وإقامة الصلاة وأداء الفرائض العبادية من غير دخول خوف من مباغتة المشركين لهم .
الحادي عشرة : قلة الكتائب والسرايا التي تخرج من المدينة للتخفيف عن المؤمنين بسلاح الرعب .
الثانية عشرة : قانون سلاح (نصرت بالرعب) حرب على الإرهاب.
الثالثة عشرة : قانون بالرعب يدرك الكفار قبح عبادة الأصنام وأنها لا تستحق الدفاع والذب عنها .
وعن أبي أمامة (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم)( ).
لبيان أن نصر الله عز وجل للنبي محمد بالرعب خاص به ، وتفضيل له على الأنبياء ، وهو بكل الأحوال ، ولا يكون سبباً للتفجيرات والإرهاب والقتل الوحشي وبدون حق.
وفي إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إرسال الله له للناس جميعاً حجة على المسلمين والناس بالتراحم فيما بينهم ونبذ العنف والإرهاب .
ومن بديع الحجة في الحديث أعلاه أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم تارة عن مختصاته وأخرى عن الأمة كما في قوله نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب (أعدائي) .
فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نصرنا) بصيغة الجمع ، إنما ورد الضمير بصيغة المتكلم المنفرد بينما وردت حلية الغنائم في ذات الحديث بصيغة الجمع (وأحل لنا الغنائم).
قانون قيود آية (وقاتلوا)
يتضمن قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) قيوداً فيها تخفيف ورحمة:
الأول : القتال المأمور به في سبيل الله دفاع محض، لإخراج القتال غيظاً وغضباً وحمية وثأراً وطمعاً ونحوه من أغراض الدنيا.
الثاني : حصر الأمر بالقتال بالذين يقاتلون المسلمين لإخراج الذين لم يقاتلوهم وان كانوا كفاراً، وفيه نوع من التخفيف وهذا التخفيف قاعدة كلية دائمة وهو المناسب لتلك المرحلة وغيرها لما فيه من المراعاة للحال الشخصية والنوعية ودرجة التقوى.
الثالث : قانون تنزه المسلمين عن التعدي ، والنسبة بين التعدي والظلم عموم وخصوص مطلق .
ولم تتطرق الآية لمن يعين الآخرين على قتال المسلمين ويمدهم بالسلاح، وقد يتبادر الى الذهن من خلال بعض الشواهد التأريخية انهم من الذين يقاتلون المسلمين بالواسطة، ولكن القدر المتيقن في المراد من الآية هم الذين يقاتلون المسلمين فعلاً ويشهرون السلاح في وجوههم .
اما الذين يمدونهم فكأنهم برزخ ومسكوت عنهم في هذه الآية ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) .
وقد جمع كفار قريش بين الإنفاق في الكفر وتجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسير في مقدمتها .
والآية لا تنحصر بأيام النزول بل هي مطلقة وحكمها باق الى يوم القيامة، كما أن موضوعها ليس تعليقياً من جهة الزمان أي قاتلوهم متى ما قاتلوكم فمصاديق التعدي والقتال موجودة في ايام التنزيل .
نعم هذه الآية مما يساهم في تعليق الكفار ووقف لتعديهم على المسلمين، وفيها شرط مقدر، أي قاتلوهم اذا قاتلوكم .
وهل يحتمل أن يكون المراد من (يقاتلونكم) ابتداء أي هم الذين يبدأون القتال ام يشمل الذين يصدون سرايا الدفاع، الجواب أن المراد الذين يبدأون القتال ويعتدون على المسلمين في ديارهم واوطانهم وحقوقهم.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض , كما ورد في التنزيل[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
جاءت هذه الآية لتبين حقيقة وهي أن المسلمين لا يسفكون الدماء، وأنهم لا يبدأون الكفار، ومع هذا فأنهم يستأصلون الشرك ويقضون على الفتنة ومنها سفك الدماء لقوله تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ]( ).
الثالث : نهي المسلمين عن الإعتداء والظلم، ويحتمل المنهي عنه وجوهاً:
الأول : تعدي الجماعة من المسلمين على الفرد.
الثاني : تطاول الفرد من المسلمين على الجماعة.
الثالث : إعتداء الجماعة من المسلمين على الجماعة من غيرهم ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الرابع : تجاوز الفرد من المسلمين على الفرد من غيرهم، ويتجلى الإعتداء بنقض الميثاق والعهد بغير حق مثلاً، قال تعالى[وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ]( ).
وليس من حصر لمنافع امتناع المسلمين عن التعدي عليهم بالذات وعلى الغير منها :
الأول : دعوة الناس لدخول الإسلام.
الثاني : إنه من الإصلاح في الأرض.
الثالث : فيه مصداق عملي لقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في الرد على إحتجاج الملائكة أعلاه، لأن عدم التعدي تنزه عن الفساد وحرب عليه.
الرابع : بيان التغيير والتبدل النوعي الذي حصل عند أهل الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه الصلاح والإصلاح.
الخامس : الإخبار عن القبح الذاتي والغيري للتعدي.
السادس : بيان المائز بين المسلمين وأعدائهم، بأن المسلمين لا يعتدون , لذا أختتمت الآية بقوله تعالى(إن الله لا يحب المعتدين).
السابع : إنه من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ وجوب تنزه المسلمين عن التعدي والظلم.
الثامن : تأكيد حقيقة وهي أن الدفاع في سبيل الله ليس من التعدي.
التاسع : الآية مناسبة لقيام المسلمين بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما بينهم، ومع غيرهم، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
العاشر : بيان قانون كلي وهو تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الإلهية، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترغيب للناس بدخول الإسلام.
قانون الدفاع إبتلاء
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحكمة والكلمة والبرهان وبكلامه النازل من السماء ، ومن نعم الله عز وجل على الإنسان سماعه وتلاوته لكلام الله ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أمور :
الأول : نزول كلام الله من السماء .
الثاني : عدم نزول كلام الله إلا على نبي رسول .
الثالث : قيام جبرئيل وهو من أكبر الملائكة بنقل كلام الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ] ( ) .
الرابع : تلاوة كل مسلم ومسلمة كلام الله خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ، وبحال خشوع وخضوع يناسب المقام السامي لكلام الله سبحانه .
الخامس : عدم وجود برزخ أو حاجب بين تلاوة كلام الله وبين عامة الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
إذ تبين الآية أعلاه معالم الإيمان في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس بأنه يقوم بالبشارة بالسعادة وسعة الرزق والبركة والعافية في الدنيا ، والجنة في الآخرة للمؤمنين ، والإنذار والوعيد للذين كفروا بالخزي وإمتلاء قلوبهم بالرعب في الدنيا مقدمة للفزع والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة إن لم يتوبوا .
ومن لطف الله عز وجل ورحمته الواسعة بالناس بلوغ كلامه لأهل المشرق والمغرب ، وتعريفه القرآن بنفسه بأنه سلام وأمن ، وبرئ من الإرهاب، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ) .
قانون سلاح الرعب رحمة
من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )بعث الخوف والرعب في قلوب المشركين ليكفوا أيديهم عن القتال والإضرار بالمؤمنين ، وعن محاولاتهم وقف التنزيل بالتخطيط لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتستعمل الدول الرعب والإعلان لإفزاع العدو ، وتجعله مقدمة للقتال ، أما الرعب الذي يأتي من عند الله عز وجل فهو دعوة للهداية والإيمان ، ونبذ القتال ، ومنع الغزو .
وهل منه قيام المشركين بإخافة الصحابة ، الجواب نعم ، وقد قاموا بتعذيبهم والإضرار بهم ، والإستيلاء على أموالهم وأملاكهم.
والنسبة بين فرض قريش الحصار على أهل البيت من السنة السابقة إلى السنة العاشرة ، وبين الرعب عموم وخصوص مطلق ، فقد أرادوا إخافتهم وحملهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وقف التبليغ ، ولكنهم تحملوا الأذى بصبر .
ومن منافع سلاح الرعب بقذفه في قلوب المشركين الذين يصرون على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج من مكة مهاجراً خائفاً ، ومعه واحد من أصحابه ليعود بعد سبع سنوات لعمرة القضاء ، وبعدها بسنة ومعه عشرة آلاف مسلم لفتح مكة ، وتوجه إليها في السنة العاشرة للهجرة في حجة الوداع ، ومعه نحو مائة ألف من أصحابه ليس للقتال إنما للنداء العام (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ).
ويتضمن قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).الوعد والوعيد وهو من إعجاز القرآن باجتماع المتضادين في كلمة واحدة من القرآن مع إختلاف المحل لكل منهما ، الوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والوعيد لمشركي قريش قبل وأثناء وبعد معركة أحد .
وتبين الآية قانوناً عاماً يتغشى أيام الحياة الدنيا لذكرها علة وسبب وموضوع هذا الرعب ، وهو الشرك بالله ، ومن لطف الله عز وجل عدم إكتفائه بذكر الشرك بصيغة الذم ، إنما أخبر بأن هذا الشرك لا أصل ولا دليل عليه ، وفيه دعوة للناس لإتباع الحجة والبرهان.
وبيان بأن البرهان القاطع في العبادات ينزل من عند الله عز وجل .
ولبيان إنتفاء العذر عند المشركين في الدنيا والآخرة ، وبين الرعب والخوف عموم وخصوص مطلق ، فكل رعب هو خوف وليس العكس ، فالرعب أشد رتبة وإيقاعاً في القلب وأثراً على الجوارح .
فمن إعجاز الآية إخبارها عن نفاذ الرعب إلى قلوب الذين كفروا قهراً عليهم ، ولكن هذا الرعب لا يقف عند القلب وحده إنما يجري في الدم ويبلغ الأركان والجوارح والفعل ، وتكون له موضوعية في الخطط والمنهاج والهجوم والإنسحاب .
ويحتمل إصابة المشركين بالرعب كسلاح وجوهاً :
الأول : إنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الرعب سلاح مصاحب للنبوة ، إذ يبتلى الذين كفروا بالرعب عند بعثة النبي أو الرسول ، ليكون هذا الرعب برزخاً دون حربهم على النبوة ، وصدّ الناس عنها .
الثالث : الرعب سلاح مصاحب للأنبياء الذين حاربهم الكفار كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
والمختار هو الوجه الثاني أعلاه ، وهل سلاح الرعب رحمة أو نقمة ، المختار أنه رحمة عامة بالناس بما فيهم الكفار الذين ينفذ إلى قلوبهم من غير إختيار أو رضا منهم ، وفيه تخفيف وأمن للمؤمنين ، ومنع للمشركين من التمادي في التعدي والظلم .
ومن الإعجاز إختتام آية الرعب بأن عاقبة ومثوى الذين كفروا الإقامة الدائمة في النار بقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( )، ولا يعلم كثرة عدد الذين دخلوا الإسلام بسبب الرعب من النبوة والتنزيل إلا الله عز وجل.
لبيان المائز والتباين بين المؤمن والكافر ، فما يأتي للمؤمن من الأذى والضرر والمرض لتخفيف الذنوب ، أما ما ينزل بالكافر من الرعب والبلاء فانه لا يخفف عنه عذاب الآخرة .
وعن عبد الله( ) قال (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلاّ كفر الله عنه بها خطاياه النصب التعب والإعياء والوصب المرض ، عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلاّ حط الله عنه من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) ( ) .
(عن أبي سعيد قال : قال رجل : يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟
قال : كفارات .
قال أبي : وإن قلت؟
قال : وإن شوكة فما فوقها) ( ).
وهل من سبب حسي ظاهر للرعب الذي ينفذ إلى قلوب المشركين أم ليس من سبب ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، فيأتي الرعب للذين كفروا من غير سبب ظاهر ، ويأتيهم بقاعدة السبب والمسبب ، والعلة والمعلول ، وهو من أسباب دخول جماعات من الناس في الإسلام ، ومنهم أبناء لرؤساء من قريش ذكوراً أو إناثاً .
ومن الأسباب قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر) ( ).
وهل يكون هذا الرعب بالأسباب أم أنه من غير سبب ، الجواب لا تعارض بينهما ، إذ يخشى الذين كفروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئه والصحابة ، وفيه بيان لرحمة الله عز وجل بفزع المشركين وعجزهم عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتفرقهم قبل وصوله إليهم .
وهل يقود هذا الرعب فريقاً من الناس إلى الهدى والإيمان ، الجواب نعم ، فيدرك الإنسان المعجزة سواء بالرعب الذي يدخل قلبه بسبب الشرك أو الضرر المتتالي الذي يلحق قومه لإختيارهم الشرك ومحاربة النبوة والتنزيل بالإضافة إلى بيان الآية ما هو أشد من الرعب وهو العذاب الأليم للذين كفروا في الآخرة .
وهل يدل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…]( )على أن الرعب المستديم سلاح بيد الله عز وجل وحده ، ويختص بالذين كفروا.
المختار نعم , وهو من أسرار مجئ الآية بسين الإستقبال ، وما فيه من الإمهال للذين كفروا ، وهو لا يمنع من سبق قذف الرعب في قلوب الكفار قبل نزول الآية ، ومنه نزول آيات الوعيد المكية .
وهذا الإمهال مناسبة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية ، وفيه شاهد بأنها تصل إلى الذين كفروا ، ويتدبرون فيها بالفطرة العامة مع الخوف والرعب من الإعراض والصدود عنها .
ولما أصروا على الكفر وجهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعث الله عز وجل في قلوبهم الرعب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) ، وقال تعالى [لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
وإذ ينحصر نزول الرعب من الله بالذين كفروا لمحاربتهم الحق والنبوة فان الإرهاب في هذا الزمان يبعث الخوف والفزع الطارئ في قلوب المؤمنين وأهل الكتاب والناس جميعاً رجالاً ونساءاً ، وصغاراً وكباراً ، لذا فانه حرام بالذات والأثر ، ولا يرضى الله عز وجل أن يؤذى عامة الناس ويعكر صفو حياتهم ، ولابد من مصاديق لعدم الرضا هذا .
وفي قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…]( ) نهي للمسلمين عن الإرهاب وإخافة الناس ، وفيه بيان لحرمة التفجيرات العشوائية ، واستهداف المساجد والحسينيات ودور العبادة والذكر .
معجزة عمرة الحديبية
هذه العمرة معجزة حسية متعددة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يطلق عليها اسم المعجزة ، ولكنها ظاهرة لما فيها من التحدي والخرق للعادة ، وترشح الحديبية عنها .
فلم يلبث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد كتيبة بني المصطلق التي وقعت في شهر شعبان سنة ست للهجرة إلا شهر رمضان وشوالاً ، فخرج في ذي القعدة معتمراً.
(قال ابن إسحاق : واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الاعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الاعراب.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والانصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه)( ).
مما يدل على أن ليس استنفاراً للعرب إنما دعوة لتعظيم شعائر الله.
لقد كانت سنوات المعجزة التي سبقت هذا الخروج مليئة بالحروب والقتال والقتل بين المسلمين وكفار قريش .
وقد زحفت قريش بكل جيوشها ومعها الاحابيش وغطفان وغيرهم للنيل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعجزوا وخابوا .
ثم جاءهم هو وأصحابه من غير سلاح قتال، ومؤونة كافية ، ولبست قريش جلود النمور وقدموا خالد بن الوليد في خيلهم إلى كراع الغميم.
(فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا ويح قريش أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فان هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام.
وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تطن قريش فو الله لا أزال أجاهد على الذى بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة( )، ثم قال من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها)( ).
وغيّر المسلمون طريقهم ، وشق عليهم ونزلوا بارض ليس فيها ماء فاخرج النبي سهماً من كنانته فاعطاه رجلاً من أصحابه فغرزه بالقليب( ) فتدفق الماء .
لقد صار النبي وأصحابه مكشوفين للمشركين ، وكونهم في ذي القعدة وهو شهر حرام لم يكن أمراً مانعا من غدر المشركين , الذين ارتبكوا أيما إرتباك ، وعجزوا عن الحيلة ، وأرسلوا الوفود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون لقريش أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت لحرب أو قتال، ولكن قريشاً لا يسمعون، ويغلظون على الرسول الذي يبعثون.
ومنهم الحليس سيد الأحابيش الذي رجع إلى قريش إذ أخبرهم أن النبي جاء للعمرة (فقالوا له اجلس فانما انت أعرابي لا علم لك)( ).
قال ابن اسحاق : عن عبد الله بن أبي بكر : أن الحليس غضب عند ذلك وقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لانفرن بالاحابيش نفرة رجل واحد، قالوا : مه كف عنا حتى نأخذ لانفسنا ما نرضى به)( ).
ليس من قائد في التاريخ يأخذ أصحابه عزلاً من غير سلاح إلى بلاد عدوه، ومضارب القوم الذين أخرجوه من أرض آبائه ومن البلد الحرام طريداً مهاجراً , قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) ، ولكنه الوحي الذي يترشح عنه والأمن والمعجزة المتعددة .
وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى صلح الحديبية مقدمة لفتح مكة ، وهل هو شاهد متقدم على كون مكة لم تفتح عنوة ، الجواب نعم.
وفي الآية أعلاه ورد (عن ابن عباس أنه قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : بل اقتلوه.
وقال بعضهم : بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً عليه السلام يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم،
فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه علياً رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري ، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال)( ).
وبعد بضعة سنوات من القتال والدفاع ، يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجأة بأصحابه متوجهين إلى البلد الذي جاءت منه قريش بآلاف من المقاتلين , وعن السدي في قوله تعالى في آية البحث [ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ] قال : لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستٍّ من مُهاجَره، صدَّه المشركون وأبوا أن يتركوه، ثم إنهم صالحوه في صُلحهم على أن يُخْلوا له مكة من عام قابل ثلاثةَ أيام، يخرجون ويتركونه فيها، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خَيْبر من السنة السابعة، فخَلَّوْا له مكة ثلاثة أيام، فنكح في عُمرته تلك مَيمونة بنت الحارث الهلالية)( ).
ومن الآيات أن هذا الخروج مناسبة لكف يد قريش عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فلم يقوموا بغزو المدينة المنورة مرة أخرى واكتفوا بأن منعوا النبي عن دخول مكة في عامه ذاك ، وعقدوا معه صلحاً . لتدرك القبائل حقيقة وهي أن الكفار أصبحوا عاجزين عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وليدخل الشطر الأكبر منهم في الإسلام لأن معجزاته العقلية تدعوهم إلى جانب المعجزات الحسية بصلح الحديبية التي أكدت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج وأصحابه من غير سلاح إلا بوحي وأمر إلهي فكان النصر فيها ظاهراً جلياً , قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى أن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومن الإعجاز في عمرة الحديبية أن أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يعترضوا ولم يشكوا بالخروج من غير سلاح، والإقتحام على قريش في ديارهم ولهم هيبة خاصة في مكة، وتخشاهم القبائل وفي صدورهم غل ويطلبون الثأر.
فخرج أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم لا يشكون بأن خروجهم فيه نصر وفلاح. ومنه صلح الحديبية، فكانت قريش تهجم على المدينة بجيوشها، بينما اضطرت لعقد صلح مع النبي مع رجوعه في تلك السنة، وذكر بأنه فيه نزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، وأدعي الإجماع على نزول الآية أعلاه عند رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية المقصود من الفتح .
وفي المراد بالفتح وجوه:
الأول : المقصود فتح مكة (وعن جابر قال : ما كنا نعلم فتح مكة إلا يوم الحديبية)( ).
وهذا القول وحده لا يكفي للدلالة على أن المراد فتح مكة إذ لا ملازمة بين العلم بالفتح وبين الآية ، وربما المراد من كلام جابر العلم بمقدمات فتح مكة ، والأعم من فتح مكة ، وأنه يشمل إقامة الحجج, والظفر بالأعداء وعجزهم عن الهجوم مرة أخرى على المسلمين.
الثاني : المراد صلح الحديبية ، وهو أوان نزول الآية ، وعن مجمع بن جارية الأنصارى قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم إذا الناس يوجفون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس .
قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته على كراع الغميم فاجتمع الناس عليه،
فقرأ عليهم {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}( )، فقال رجل : يا رسول الله : أو فتح هو؟
قال : والذي نفس محمد بيده إنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهماً)( ).
لبيان مسائل :
الأولى : قانون الصلح فتح.
الثانية : قانون الإستغناء بالصلح عن القتال .
الثالثة : قانون صلح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الكفار كف لأيديهم عن المسلمين .
الرابعة : صلح الحديبية من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتصر بالسيف .
الخامسة : قانون ميل ورضا وغبطة المسلمين بالصلح ، وتفضل الله عز وجل لإصلاحهم لهذا الرضا وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
وجاء صلح الحديبية من غير قتال وظهر فيه عجز قريش عن مواصلة القتال ، قال الفراء : الفتح قد يكون صلحا و معنى الفتح في اللغة فتح المنغلق و الصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله , وقال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية)( ).
الثالث : المراد فتح خيبر الذي جاء بعد صلح الحديبية ، وبه قال مجاهد.
الرابع : المراد بالفتح الظفر بالأعداء وإقامة الحجة والبرهان بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار أن الفتح في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) هو صلح الحديبية .
لقد كان صلح الحديبية مقدمة لدخول الناس في الإسلام ، وفتح الباب لإختلاط المسلمين بالقبائل ، وأظهر المسلمون الذين كانوا يخشون من الكفار إسلامهم فكان هذا الكشف آية إعجازية جاءت على رؤساء الكفر وجعلتهم في وهن وجبن .
وكانت الدعوة الإسلامية سرية في مكة ، ثم صار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة في حال دفاع .
فكانوا سور يثرب الواقي ليس من سور سوى صدورهم , نعم جاء مشروع الخندق عوناً وتعضيداً لهم .
ثم خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقصد مكة المكرمة , قال تعالى [ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ] ( ).
والمراد من البلد مكة فأراد الله عز وجل إصلاحها للعبادة وتنزيهها من الشرك والضلالة ، ودخول المسلمين إليها للحج كل عام ، وللعمرة كل يوم ، وهو مصاديق قوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
فهذه الآية وإن جاءت بصيغة الجملة الإنشائية والخطاب للمسلمين، إلا أنها تتضمن البشارة لهم بالفتح وإزاحة الكفر عن مكة إلى يوم القيامة، لتكون مكة على وجوه :
الأول : قانون مكة منار للهداية .
الثاني :هي مادة للصلاح .
الثالث : قانون مكة ومناسك الحج حرب على الغواية والفسوق، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
ومن بركات البيت أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه بالخروج إليها معتمرين ففتح الله عليهم .
وفي صلة الآية بقوله تعالى [ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) مسائل :
الأولى : بين الأشهر الحرم وأشهر الحج عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء هي شهرا ذي القعدة وذي الحجة , أما مادة الإفتراق ، فهو على وجوه :
الأول : شهر شوال فهو من أشهر الحج , وليس من الأشهر الحرم .
ومحرم ورجب من الأشهر الحرم ، وليس من أشهر الحج .
الثاني : أشهر الحج ثلاثة ، والأشهر الحرم أربعة .
الثالث : أشهر الحج متتالية هي شوال ، ذو القعدة ، ذو الحجة ، والأشهر الحرم أربعة هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم سرد متتالية ، وشهر رجب منفصل بينه وبين المحرم خمسة شهور .
الثانية : جاء التكليف في آية السياق بالحج مع النهي في أيامه عن الرفث وهو الجماع والتعريض بالنساء وهو المروي عن ابن عباس( )، والنهي عن الفسوق وهو الكذب والسباب ، والنهي عن الجدال واللجاج واليمين المعتاد لا والله ، وبلى والله ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
وجاءت آية البحث بالحث على الجزاء والقصاص من الكفار بالقتال في الشهر الحرام إن هم اعتدوا فيه على المسلمين .
والجمع بينهما آية في تأهيل المسلمين لمنازل العبادة والصلاح ونفرتهم للجهاد في سبيل الله مع المتقين بسنن الفرائض والأحكام .
الثالثة : تكررت مادة (وقى) في كل من الآيتين ، وفيه تأكيد للزوم تقوى الله ، وتعاهد المسلمين لمنازل التقوى في أداء العبادات ، وفي دفع الأذى والضرر القادم من الكفار .
الرعب حرب على الإرهاب
تبين آيات الدفاع اضطرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتال ، ليكون طريق نجاة واستئصالاً للإرهاب ، ولا أحد يملأ قلوب طائفة أو أكثر من الناس بالرعب إلا الله عز وجل ، فخص به الذين كفروا ليكفوا عن العدوان والظلم.
لبيان قانون وهو آيات القرآن حرب متقدم زماناً على الإرهاب ، ومصاحب له ، ومتأخر عنه .
وأخبرت الآية عن موضوعية البرهان والحجة من عند الله بقوله تعالى [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) وصحيح أن الآية تتعلق بمفاهيم الشرك ، ولكن المعنى الأعم يدل على حرمة الإرهاب لعدم نزول برهان وسلطان له من عند الله عز وجل ، بل البرهان بخلافه وآيات القرآن زاجر عنه .
لقد امتحن الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بارهاب الذين كفروا فاظهروا الصبر والتحمل ، وأنزل الله الهزيمة والخزي بالذين كفروا ، وجعلهم في حال فزع ورعب ،وفيه شاهد بأن الذي يرهب الناس يصاب هو نفسه بالرعب والخوف ويلحقه الضرر .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) إنفراده سبحانه بسلاح الرعب العام الذي ينزل بالطائفة والجيش والأمة ، ويدخل إلى البيوت وينفذ إلى قلوب ربات الحجال ليتعاون الناس على نبذ الكفر والإرهاب ومفاهيم الضلالة .
النهي عن الإبتداء بالقتال
قوله تعالى (اخرجوهم) ظاهر في عدم الإبتداء بالقتال أو استعماله وسيلة للإخراج الا اذا انحصر الإخراج بالقتال مما يعني أن القتال يكون حينئذ بمقدار الضرورة والحاجة، وهذا الإخراج ايضاً لا يحصل ابتداء بل هو رد على اخراجهم المسلمين من ديارهم.
وقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، قاعدة كلية وجملة خبرية ولكنها تفيد الإنشاء والنهي عن الفتنة ورد بخصوص اخراج المسلمين من ديارهم الا انه جاء على نحو العموم ففيه تحذير للمسلمين من الفتنة ومقدماتها التي يسببها غيرهم والإستدراج اليها.
ومن مفاهيم الآية النهي عن القتال في المسجد الحرام لإيجاد حالة من الإنضباط عند المسلمين وايلاء الحرمات والمقدسات اجلالاً وعناية خاصة ومع بيان المنزلة العظيمة للبيت الحرام واهمية تعاهد مناسك الحج فالآية تقطع الطريق امام استغلال موسم الحج للقيام بالعدوان على المسلمين واثارة الفتنة والتعدي وما يحصل معه الإرباك والخوف والإنشغال عن ذكر الله تعالى وهي دعوة للإنقطاع الى العبادة ، واجتناب المبادرة الى القتال في البيت الحرام.
وفي فتح مكة نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن النداء: “من دخل المسجد الحرام فهو آمن”( ) وأسرع الناس الى المسجد الحرام.
وعندما تم الفتح دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكعبة الشريفة ومعه أسامة بن زيد وبلال ، ويلاحظ في أيام الفتح قلة الصحابة الذين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم كانوا عشرة آلاف مما يدل على التواضع والزهد والتذلل إلى الله عز وجل الذي يظهره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الشواهد على صدق نبوته .
لقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين داخل الكعبة وكبر الله ووحده
ثم خرج وكانت قريش قد ملأت المسجد الحرام فخطب خطبة بليغة اسقط فيها سنن الجاهلية واعلن إشراقة أحكام الإسلام, وقال: يا معشر قريش ما ترون اني فاعل بكم قالوا: خيراً اخ كريم وابن اخ كريم( ).
قال: لا تثريب عليكم، اذهبوا فانتم الطلقاء فمع ما عاناه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من قريش عفا عنهم، وجعل المسجد الحرام هو المكان المبارك للعفو والذي تتغشى فيه الرحمة الناس جميعاً وليكون العفو وجهاً من وجوه الشكر لله تعالى على النصر والتمكن من العدو المشرك .
ولذا جاءت هذه الآية لتؤكد على شرط قيام الكفار بمقاتلة المسلمين بمعنى ان الرد على قتال الكافرين في المسجد الحرام انما هو اكرام للبيت الحرام.
وتركهم يقاتلون المسلمين ويعتدون عليهم في البيت الحرام مخالف لمفاهيم اكرام البيت.
والقتال يكون حينئذ وقاية ضرورية وحاجة وليس احترازاً فقط.
لذا وردت خاتمة الآية بالإمضاء وصيغة التشبيه التي تفيد البشارة بالنصر وقتل المعتدي على الحرمات , وهي في مفهومها على وجوه:
الأول : تحذير الكافرين من التعدي على البيت الحرام وعلى المسلمين اثناء ادائهم لمناسكهم وعباداتهم.
الثاني : بيان قدسية البيت الحرام.
الثالث : لزوم تطهير البيت الحرام.
الرابع : تهيئة أسباب ومستلزمات أداء مناسك الحج ، وفي إبراهيم وإسماعيل ورد قوله تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
ومن مفاهيم الآية النهي عن استدراج الكافرين إلى البيت الحرام وجعل القتال في البيت الحرام باختيار وتهييج وخدعة من المسلمين، فصحيح أن الحرب خدعة , ولكن هذه الآية تخرج البيت الحرام بالتخصص وتحصر الإذن بالقتال فيه بما إذا إبتدأ الكفار القتال والتعدي فيه.
قانون حصر القتال بالدفاع رحمة
لقد جعل الله عز وجل القتال في سبيله ، وعند الحاجة للدفاع ذخيرة إدخرها للمسلمين، لتكون المائز لهم بين الناس، والشاهد العملي على إيمانهم ، ومانعا من تفشي معاني الشرك والضلالة بين الناس، وفي قيام المسلمين بالدفاع وجوه:
الأول : حفظ بيضة الإسلام .
الثاني : إنه مقدمة لأداء العبادات.
الثالث : فيه دعوة للناس لنبذ محاربة النبوة والإسلام.
فقوله تعالى (وقاتلوهم) متجدد يطل على المسلمين كل يوم، ويكون لهم إماماً في ميادين القتال، لذا جاء قوله تعالى (فإن انتهوا ) بصيغة الفعل المعلوم، لإفادة أن الكفار هم الذين يختارون الانتهاء والكف عن القتال مع تعدد أسباب هذا الانتهاء , وهي على وجوه:
الأول : الضجر والملل من إستدامة القتال.
الثاني : كثرة خسائر الكفار في القتال والحرب.
الثالث : النقص في الرجال لتخلي الأتباع عنهم خوفاً من حر سيوف المسلمين، ولرؤية الناس للمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إنعدام الغاية فليس عند الكفار غاية وهدف يقاتلون من أجله، ويستحيون من إظهار حقيقة أنهم يقاتلون دفاعاً عن الشرك والضلالة، لإدراك العقل الإنساني قبحه الذاتي.
الخامس : إصابة أعمال الكفار بالشلل، وتجارتهم بالركود.
السادس : الأذى الذي يأتي من عوائل الكفار وأهليهم، لأنهم يدركون إنتفاء النفع من قتالهم للمسلمين وأن المسلمين يواظبون على القتال إلى أن ينتهي ويكف الكفار.
السابع : دخول فريق من الكفار في الإسلام، وتوبتهم وإصلاح أمورهم وهو من عمومات قوله تعالى في الآية(فإن انتهوا ) قال تعالى[فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ]( ).
إن انتهاء الكفار عن القتال فضل من الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً ، ومن أسبابه قتال المسلمين لهم دفاعاً ، وعصمتهم من التعدي وفيه حجة على الذين كفروا ودعوة لهم للكف عن القتال ، لذا فإن المسلمين يبذلون النفس والأموال، من أجل هداية الكفار وصلاحهم، (قال عمرو بن معد يكرب :
أريد حياته ويريد قتلي … عذيرك من خليلك من مراد)( ).
ويريد المسلمون حياة الناس بالمعنى الحقيقي والمجازي، فهم يريدون لهم الإيمان , قال تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ]( )، ويطلبون لهم العيش الرغيد والآمن في الحياة الدنيا، لأن البقاء على الكفر علة للهلاك العام ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وبالإيمان وسنن التوحيد تنزل البركة من السماء ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الواو للعطف والإستئناف في آن واحد
يقسم علماء النحو الحرف الواو إلى قسمين :
الأول : حرف عطف فعل على فعل ، أو جملة على جملة .
الثاني : حرف استئناف يبدأ معه كلام جديد لا يرتبط أو يتصل بما قبله من جهة المعنى والإعراب.
وتأتي حروف العطف الواو ، الفاء ، ثم ، للإستئناف أيضاً، والمختار أن الحرف الواو يأتي على وجوه :
الأول : للعطف مثل [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، فلابد أن تكون الإستعانة من العبادة وفرعاً لها.
الثاني : للإستئناف ، وتسمى أيضاً واو الإبتداء ، وواو القطع ، ومنه قوله تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ( ).
وقد يتضمن حرف الواو أعلاه العطف أيضاً بلحاظ إتحاد موضوع وشخص صاحب الأجل .
الثالث : للعطف والإستئناف معاً.
والمختار أن الأصل هو الوجه الثالث أعلاه لقاعدة وهي أن معاني الحرف القرآني أعم من تقسيم النحويين الإستقرائي ، ولابد أن ينظر عالم التفسير والفقيه للحرف القرآني والحديث النبوي بالمعنى الأعم ، والأصل أن الإستئناف النحوي يجب ألا يختلف عن الإستئناف البياني.
وأسال الله عز وجل أن أقوم باحصاء واو الإستئناف في القرآن وبيان كيف أنها تفيد العطف أيضاً إلا ما دلّ الدليل على اختصاصها بالإستئناف.
ومن إعجاز سياق الآيات الأمر بالتكاليف العبادية لها ، كالصوم والحج ،كما في الآيات التي سبقت آية [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، مع الأمر بالتقوى والخشية من الله عز وجل رجاء الفلاح والفوز واستدامة الخير .
ثم جاء الأمر بالقتال بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..] ( )، وحروف العطف تسعة وهي الواو ، الفاء ، ثم ، حتى ، أم ، أو ، لا ، بل ، لكن .
والنسبة بين حروف العطف والإستئناف عموم وخصوص مطلق ، فكل حرف استئناف هو حرف عطف وليس العكس.
وواو العطف من الحروف التي تفيد وجوهاً :
الأول : اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم مع المغايرة بالذات بينهما نحو قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
الثاني : إفادة الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه .
الثالث : اقتران المعطوف والمعطوف عليه ،وما يسمى بالمعية والمصاحبة.
وبين هذا الوجه والوجه السابق عموم وخصوص مطلق ، فالجمع أعم من الإقتران كما في قوله تعالى[وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) وقوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ..]( ) لبيان أنهما من المتضادين ، فلا يجتمعان في محل واحد.
ومن العطف قولك : أشرقت الشمس وحلّ النهار .
الرابع : الترتيب بأن يأتي المعطوف بعد المعطوف عليه سواء كان الترتيب الزماني أو المكاني ، وورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل [وَالسَّلاَمُ عَلَيّ َيَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا] ( ) .
وهل سأل عيسى (عليه السلام) السلام وتغشي رحمة الله له بخصوص هذه الأيام الثلاثة أم أراد الإطلاق في أفراد العوالم الطولية الثلاث :
الأول : عالم الدنيا .
الثاني : عالم البرزخ .
الثالث : عالم البعث والنشور .
الجواب أنه أراد الأطلاق طمعاً برحمة الله ، ولمنزلته عند الله ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد له ولأمته وكذا يقوم يوم القيامة بالشفاعة .
و(عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }( ) فقال : إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ( ).
الخامس : تبادل الترتيب ، وهذا الوجه والإصطلاح مستحدث في اللغة هنا ، بافادة الجملة تقدم المعطوف عليه مرة ، والمعطوف أخرى للحال المتحرك وبحسب القرائن ، وبلحاظ اللف والنشر مع أن الأصل تقديم المعطوف عليه ، وهو المتبادر كما في قوله تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
فقد يكون المال عند الإنسان قبل زواجه أو أنه يتزوج ثم تكثر أمواله ولكن ليس عنده ولد .
والتبدل في المقام فتارة يتزوج الإنسان وهو فقير وقليل المال ثم يكون عنده الولد ، فتكثر أمواله ، قال تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وهل تدل هذه الآية على أولوية الزواج من واحدة ، والتعاون والتعاضد لزواج الذي ليس عنده زوجة ، الجواب لا ، لأن الجمع الأيامى في الآية أعلاه يشمل الذكر والأنثى ، ممن ليس له زوج.
وقال تعالى [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ] ( ) وهل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ) من التشريك والجمع ، أم من الترتيب ، أم من تبادل الترتيب.
المختار أنه من الترتيب وتقديم الوالدين والأقربين إلا مع الحاجة وشدتها بالأصناف الأخرى ، كاليتامى والمساكين ، فيكون تبادل الترتيب أحياناً ، لبيان قانون وهو ليس من قانون ثابت في معاني ودلالات العطف .
من وجوه العطف
عكس الترتيب بأن يتقدم المتأخر ويكون معطوفاً عليه بينما يتأخر المقدم زماناً أو موضوعاً أو كونه علة أو سبباً خلاف الأصل لترتب المعلول على علته .
وأستدل في هذا الباب بتقديم السجود على الركوع في خطاب الملائكة لمريم عليها السلام في التنزيل [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ) وفيه بيان للإجتهاد بذكر الله مع الخشوع والخضوع له .
ومن القنوت الدعاء وإطالة الصلاة وأداء الفرائض العبادية والمستحبات ، ولكن تقديم السجود في الآية يحتمل وجوهاً :
الأول : كان في شرع قوم مريم تقديم السجود على الركوع في الصلاة .
الثاني : المراد السجود خارج وقت الصلاة .
الثالث : بعث الملائكة لمريم بأن تكون عبادتها لله أكثر من عبادة قومها ، فاذا كانوا يحضرون للصلاة في وقتها فهي دائمة على القنوت والسجود لتكون الآية أعلاه تفسيراً لقوله تعالى [فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
لبيان إمتثال مريم لأمر الملائكة لها وهو أمر من عند الله عز وجل ،وتحليها بالإجتهاد في العبادة والزهد ، وإنقطاعها إلى الصلاة والتسبيح والتهليل ، ولبيان أن ما آتاها الله عز وجل من نعمة حضور الطعام عندها بمعجزة مركبة ، ومنها حضور فاكهة الصيف في الشتاء ، وحضور فاكهة الشتاء في الصيف .
وقيل أن المراد من الركوع في الآية الخشوع والإخبات ، ولكنه خلاف الظاهر والمتبادر في معنى اللفظ ، والتبادر من علامات الحقيقة ، فالمراد من الركوع في الآية أعلاه هو هيئة الإنحناء التام في الصلاة ، ويدل عليه قوله تعالى في ذات الآية [وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
وفيه وجوه :
الأول : إرادة تقيد مريم بصلاة الجماعة أي أن جلوسها المتصل في المحراب وإنقطاعها إلى الذكر والسجود يجب إلا يمنعها من حضور صلاة الجماعة ، وكذا بالنسبة للأقاويل عليها وعلى عيسى عليه السلام ، فيجب أن لا تنتقم من القوم بالعزوف عن صلاة الجماعة حنقاً وإجتناباً لسماع الإفتراء وخشية الإعتداء عليها وضربها أو قتلها.
الثاني : لابد من حضور صلاة الجماعة ، وفي الآية أمن ووعد من الله لمريم بالسلامة والسلامة من الأذى عند حضورها صلاة الجماعة .
الثالث : أداء مريم الصلاة بشرائطها وأجزائها ، ومنها الركوع ، وفي الآية شاهد بجزئية الركوع من الصلاة في الملل السابقة ، ويؤكده قوله تعالى في إبراهيم [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ) .
وورد لفظ [الرَّاكِعِينَ] مرتين في القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
كما ورد ذات اللفظ بصيغة الرفع مرتين :
الأولى : قوله تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]( ).
وورد لفظ [رَاكِعًا] بصيغة المفرد بخصوص داود عليه السلام [وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ] ( ).
والخلاصة أن قوله تعالى [وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ) لا يدل على العطف بعكس الترتيب لقاعدة ، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال.
كما استدل على العطف عكس الترتيب بما ورد في التنزيل [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ] ( ) بتقديم الموت على الحياة .
يحتمل أن المراد هم القائلون بتناسخ الأرواح ، ورجوع الروح في جسد إنسان يولد عند أو بعد الذي مات وفارقته الروح ، ولا أصل له.
لذا ذكرت الآية قولهم بأن الهلاك بسبب سلطان الدهر وتقادم الأيام ولعله لضعف الأرواح عن الإنتقال بين البشر .
معنى الواو في (وقاتلوا)( )
من وجوه تقدير آية البحث [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أن الواو في [وَقَاتِلُوا] للعطف والإستئناف وعلى جهات :
الأولى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس بأداء الفرائض العبادية والتفقه في الدين
وتقدير الجمع بين الآيتين : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وقاتلوا في سبيل الله ، لبيان مسائل وقوانين :
الأول : قانون تقدم أداء العبادات على القتال الواجب ، فصحيح أن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاع وحاجة إلا أن أداء الفرائض كالصلاة والصوم والزكاة والحج وعلى نحو الإطلاق من غير تقييد كالقيود العديدة التي وردت بخصوص القتال .
الثاني : يقاتل المسلمون دفاعاً عن الناس جميعاً في أنفسهم وأحكام الشريعة التي يجب أن يتقيدوا بها لقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) في الآية أعلاه بأن الأهلة التي يسألون عنها هي مواقيت للناس جميعاً .
وأيهما أهم أداء الفرائض أم المواقيت .
والمواقيت للعبادات أم المواقيت للمعاملات الجواب أداء الفرائض ومواقيتها هو الأهم .
الثالث : من معاني الجمع بين الآيتين دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأخذ الحائطة في الدفاع والقتال ، إذ أن كثيراً من أحكام وأوقات العبادات تتعلق بالهلال مثل الحج والصيام ، وحتى الزكاة وأوانها ، وفي تعيين أوان الصيام قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
ويدل سياق الآيات على أن المراد هو شهر رمضان وهو الشهر الوحيد الذي ورد ذكره بالاسم في القرآن ، لبيان موضوعية وشأن الصيام .
وقد اختارت قريش أن يكون قتالهم في معركة بدر في ذات شهر رمضان نفسه في السنة الثانية للهجرة ، وفي اليوم السابع عشر منه لتنزل بهم الهزيمة والخزي ، بينما نزل للمسلمين قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وهذا النصر مقدمة للإنتفاع الأمثل من الأهلة في العبادات ، ليكون قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر دفاعاً عن الفرائض وعن الإنتفاع من الأهلة في أحكام العبادات .
الثانية : أولوية سنن التقوى لقوله تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى] ( ) وفيه احتجاج ودعوة عقلية للناس للإيمان ، وبيان قانون وهو محاربة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلم وخلاف الأولى والأصلح .
وتقدير الجمع بين الآيتين (ولكن البر من أتقى وقاتلوا في سبيل الله) لبيان أن التقوى سبب لحسد الذين كفروا وقيامهم بالتعدي والهجوم وغزو المدينة .
وتقدير الجمع بين الآيتين (ولكن البر من اتقى وقاتلوا في سبيل الله).
والنسبة بين التقوى والقتال في سبيل الله عموم وخصوص مطلق ، فالتقوى أعم ، وهي الباعث للدفاع وتصاحب السلم قبل ، وعند القتال وبعده وهي سبب بمحو أفراد كثيرة منه ، بينما لا يمحو القتال التقوى ، فلذا تفضل الله عز وجل وقال في آية البحث [وَلاَ تَعْتَدُوا]( ) لقانون لتضاد بين التقوى والتعدي ، وبيان تأكيد كون هذا التضاد من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
الثالثة : لقد تضمنت الآية السابقة الأمر من الله بالتقوى والخشية منه ، بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ]الذي ورد خمساً وخمسين مرة في القرآن في خطاب وأمر إلى المسلمين ، إلا ما قلً كما ورد في التنزيل [إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
وتقدير الجمع بين الآيتين (واتقوا الله وقاتلوا في سبيل الله ) لبيان ضرورة حضور التقوى في القتال دفاعاً وصبر المسلمين على الأذى الذي يلحقهم بسبب تعدي وظلم الذين كفروا ، وإصرارهم على القتال .
شواهد مستحدثة على عكس الترتيب
ويمكن أن نأتي بشواهد من القرآن على العطف على عكس الترتيب منها :
الأول : قوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ]( ) إذ تتقدم عمرة التمتع مثلاً على أداء الحج ، وجاء تقديم الحج لبيان أهمية أداء مناسك الحج كاملة ، ولأن العمرة لا تنحصر بعمرة التمتع فتشمل العمرة المفردة التي تنبسط على طيلة أيام السنة ، وهو من الإعجاز في إكرام البيت الحرام في الشريعة ، ومنه توجه المسلمين والمسلمات له خمس مرات في اليوم في الصلاة ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
الثاني : قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ] ( ) فالأصل تقدم ديون الناس على الوصية .
ومن إعجاز القرآن في باب العطف أمور :
الأول : مجئ أدوات العطف كافة فيه مثل الواو، الفاء ، ثم ، حتى ، أم ، بل ، لكن ، لا .
الثاني : إفادة الواو معنى العطف والإستئناف في مواضع كثيرة من القرآن ، وإختصاصها بالعطف أو الإستئناف في مواضع أخرى .
الثالث : الدلالات العقائدية للعطف في القرآن ، وتجدد المسائل والقوانين المستنبطة منه .
كما في آيات القتال من سورة البقرة التي سبقتها آية تتضمن العطف بالواو في أربع مواضع منها ، وهو قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
فنغزوه قبل أن يغزونا
لقد كان فتح مكة رحمة للناس جميعاً ، وكان الإسلام قد انتشر في مكة قبل فتحها.
ولكن هوازن وثقيفاً خشوا على أنفسهم ، ومشى بعض ساداتهم ، ورجال ثقيف بعضهم إلى بعض وقالوا قد فرع محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لنا فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه، فحشدوا وبغوا وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال فاجمعوا أمركم، فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فاجمعت هوازن أمرها، وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النصري بالصاد المهملة – وأسلم بعد ذلك، وهو – يوم حنين – ابن ثلاثين سنة، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال)( ).
وعن (ابن أبي الزناد عن أبيه: أقامت هوازن سنة تجمع الجموع وتسير رؤساؤهم في العرب تجمعهم)( ).
واطمأن المسلمون الى كثرة عددهم، الذي بلغ اثني عشر ألف مقاتل وقيل أكثر , ففاجأهم العدو بالنبال فتساقط عليهم كالمطر وهجموا كرجل واحد على المسلمين وهم ينحدرون في الوادي ففرت عامتهم وارتبكوا ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدد قليل من المهاجرين والأنصار ليجتمع فيما بعد المسلمون ويتحقق النصر ، قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
وانتهاء الكافرين عن الغزو والقتال يستلزم أموراً :
الأول : الكف عنهم وعدم تتبع آثارهم.
الثاني : الحذر من غيرهم ومن الأخطار المحتملة .
الثالث : الإجتهاد في أداء الفرائض والتفقه في الدين ، والتدبر في آيات القرآن وانتهاء الكفار عن القتال على وجوه :
الأول : يكون تاماً ونهائياً واختيارياً.
الثاني : قد يكون مؤقتاً واضطرارياً .
الثالث : يكون مكراً وحيلة .
وجاءت الآية بعدم تعيين فعل المسلمين ازاءهم لأن الإنتهاء قد يستلزم كما في الصورة الأخيرة الحذر ، وأخذ الحائطة ، وعدم الركون اليهم في انتهائهم من القتال.
ومن إعجاز الآية أعلاه إبعادها للوجه الأخير لإدراك الناس صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي المعجزات على يديه.
ومن مصاديق مكر الله عز وجل في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، أن دخول أفواج من الناس الإسلام أسرع من خطط المشركين في الإجهاز والهجوم على النبوة والتنزيل.
ولكنها أكدت على بيان عظيم إحسان وسعة ورحمة الله سبحانه ليبعث الله في قلوب المسلمين الرأفة والرحمة بالناس جميعاً ، وتكون هذه الرحمة باباً لدخول الناس إلى الإسلام ولإنقطاع القتال وسفك الدماء في الأرض ، وهي من مصاديق علم الله في احتجاجهم ورده على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولكي لا يتردد الذي حارب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويخاف دخول الإسلام خشية الإنتقام منه خصوصاً في زمان الثأر والإنتقام وبقايا القيم القبلية ، جاءت الآية لتجعل الحكم وفق قيم الإسلام وصيغ الرحمة والعفو.
وتبين هذه الآية وجوهاً :
الأول : قانون قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفاع ، وعن إضطرار.
الثاني : الأمر من عند الله باقتصار القتال على حال التعدي من المشركين ، فاذا انتهوا عن القتال ينتهي المسلمون عنه.
الثالث : عدم انتشار الإسلام بالسيف ، ولم يلجأ له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا عند الضرورة الدفاعية.
وهذا الإصطلاح قانون مستحدث ، والنسبة بين الضرورة وبينها عموم وخصوص مطلق .
الرابع : غالباً ما يكون انتهاء الكفار عن القتال عن ضعف ووهن ، خاصة مع دخول طائفة منهم الإسلام وتفضل الله سبحانه باصابتهم بالنقص والعجز كما في قوله تعالى في معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، ومع هذا فان الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكف عنهم إن انتهوا عن القتال ، وتقدير الآية (فان انتهوا عن ضعف ووهن منهم فلا تغزوهم).
قانون الأصل سلامة الفطرة من الرعب
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ومن خصائص هذه الخلافة الإكرام ، ومنه السلامة من الفزع والرعب ، فلا يوكل الله عز وجل عباده بوظيفة عظيمة ويملأ قلوبهم بالرعب مع أن هذا الرعب يصيب القلب بالخفقان الزائد ، والعقل بالإرتباك في التدبر ، والجوارح بالتردد ومجانبة الصواب .
وهو من الإعجاز بمجئ آية الرعب بسين الإستقبال [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…]( ). وصحيح أن هذه السين للمستقبل القريب ، وليس ثمة مدة بين نزول هذه الآية وإلقاء الرعب في قلوب كفار قريش وحلفائهم من القبائل العربية ، وفيه إنذار من الكفر وأنه يضر بالصحة النفسية والبدنية وتأكيد لقانون : ما يجلبه القبيح قبيح إلا أن يشاء الله غيره).
ولا يأتي الكفر إلا بما هو أذى وشر ، ترى لماذا لم يأت الرعب إلا بصيغة المستقبل القريب [سَنُلْقِي] الجواب من جهات :
الأولى : تقدم آيات الإنذار والوعيد على الرعب .
الثانية : فتح باب التوبة والإنابة للناس .
الثالثة : جعل الكفار والناس جميعاً يلتفتون إلى التغير الحاصل عند الكفار حال نزول الرعب إلى قلوبهم ، ويظهر هذا التغير في القول والفعل ، ليكون سبيلاً للتوبة والإنابة العامة.
الرابعة : إقامة الحجة على الذين كفروا ، فمن رحمة الله بالناس وأسرار الخلافة عدم تعجيل العقوبة العامة عند الجحود بالنبوة ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التدارك والأمل .
الخامسة : تمادي الكفار بالتعدي وقيامهم بالهجوم على المدينة في معركة أحد ومناجاتهم بقتل النبي محمد يومئذ.
لقد أحب الله عز وجل العباد وسخر لهم ما في الأرض ، وجعل الآيات تتزاحم أمام أعينهم ، وتصل معانيها إلى عقولهم لتبين لهم أن الله سبحانه خالق كل شئ وهو [الرؤوف الرحيم].
مما يملي على المسلمين العناية واللطف مع الناس جميعاً ، والإرهاب ضد للرحمة واللطف ، وهو إفساد في الأرض وباب للنفرة العامة فلابد من إجتنابه .
دلائل السلم في آيات معركة أحد
من الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تظافر وتعاضد القرآن والسنة النبوية والإجماع والأخبار على أنه وأصحابه كانوا في حال دفاع في معارك الإسلام كلها.
ويتجلى هذا القانون في معركة أحد وفيه دفاع عن القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد دافعوا عن الإسلام وإجتنبوا الغزو ، فنزل القرآن بالدفاع عنهم إلى يوم القيامة ، ولا يعلم ما صرفته هذه الآيات من الأذى والإفتراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل كما أنها مدرسة سماوية متجددة لاقتباس المسائل منها .
لقد نزلت آيات القرآن الخاصة بمعركة أحد قبل وقوعها ويوم وقوعها وما بعده من الأيام ، لتكون سبب هداية وموعظة وحكمة ، ومن هذه الآيات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في نظم الآيات تقدم إخبار القرآن بأن الله عز وجل هو مولى المؤمنين والوعد لهم بالنصر والغلبة بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( )،
وهل تتضمن الآية أعلاه إشارات من علم الغيب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيتعرضون إلى خسارة فادحة في المعركة ، وأن الله عز وجل يعدهم بالنصر ليثبتوا في مواضعهم ، ويتلقوا الخسارة برضا ، الجواب لا دليل عليه ، ولكنها تدعو للصبر.
والآية أعلاه أقل آيات سورة آل عمران كلمات عدا الحروف المقطعة في أول السورة.
ولكن الآية تتضمن قوانين وعهداً متجدداً إلى يوم القيامة ، وإخبار بالمشيئة المطلقة لله عز وجل في الدنيا والآخرة.
جراحات النبي
كانت جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهات هي:
الأولى : كسرت الرباعية من أسنان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي التي تكون بين الثنايا والناب كما في الرسم البياني الآتي.
وقد كسرت من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سن واحدة وهي إحدى الرباعيات وهي اليمنى السفلى ولم تقلع من الأصل ، إنما ذهبت فلقة منها ليبقى مع الأيام شاهداً على أمور :
الأول : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : كيف أن الله عز وجل صرف عنه القتل يومئذ بمعجزة.
الثالث : قانون المشركون هم الغزاة.
ومن الآيات تكرار دنو القتل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساعات معركة أحد ومن أكثر من جهة وسلاح.
فقد كان سيف المشركين قريباً منه وتصله سهامهم ، والحجارة التي يرمونها بأيديهم ، وعن نافع بن جبير قال (سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتى من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه.
ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنبه ما معه أحد، فجاوزه.
فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه)( ).
الثانية : كسر أنف النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : شقت شفته السفلى ، إذ رماه عتبة بن أبي وقاص ، وجعل الدم يسيل منها .
الرابعة : قام عبد الله بن شهاب الزهري بشج جبهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم( ).
وهل يتعارض هذا الخبر مع عجز عبد الله بن شهاب هذا عن قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الجهة الأولى أعلاه ، أم أنه يحتمل غير عبد الله بن شهاب ، الجواب هذا الإحتمال وارد ، كما أن الخبر لا يتعارض مع الجهة الأولى أعلاه ، فانه عجز عن قتله وليس عن جرحه ، وربما قام عبد الله بن شهاب برمي حجارة غاربة لا يقصد بها شخصاً معيناً ولكنه يعلم أن الجماعة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاصابت شفته.
الخامسة : سال الدم من وجنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ رماه عبد الله بن قمئة بالحجارة ، ولم ينقطع الدم إلى أن قامت فاطمة الزهراء عليها السلام بحرق حصيرة ، وادخال الرماد في الجرح.
و(عن سعد بن أبى وقاص، قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبى وقاص، وإن كان ما علمت لسيئ الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفانى فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله)( ).
السادسة : وقع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر عشية معركة أحد ليقع فيها المسلمون فيسهل على المشركين قتلهم ، فأخذ الإمام علي عليه السلام بيده.
وعندما رمى عتبة رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم شق شفته ، وأصاب رباعيته.
وعن الزهري عن عثمان الجزري عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا ، فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار)( ).
وذكر ابن كثير عثمان هذا باسم عثمان الحروري في السند وهو خطأ من النساخ .
وورد اسمه في الإستيعاب (عثمان الخوزي) قال ابن عبد البر (وحدثنا معمر عن عثمان الخوزي عن مقسم عن ابن عباس قال : أول من أسلم علي)( ).
والصحيح هو عثمان الجزري كما في التأريخ الكبير 6/358 وفي الإصابة 2/408 ومقسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، والشائع أنه مولى عبد الله بن عباس لملازمته له.
ومع أن حديث دعاء النبي على عتبة بن أبي وقاص ضعيف سنداً فهو على فرض وقوعه وهو الأقرب لا يتعارض مع نزول جبرئيل بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعاء على قريش يوم معركة أحد ونزل قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]( )، لعلم الله عز وجل بدخولهم الإسلام .
وذكرت أقوال أخرى بسبب وزمان نزول الآية أعلاه منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا على ناس من المنافقين ، ومنها أن موضوعها يتعلق بحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من فقدهم من أصحابه في بئر معونة.
(قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بئر معونة وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرهم المنذر بن عمرو،
وبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجد في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليعلّموا الناس القرآن والعلم ، فقتلوا جميعاً غدراً وغيلة جميعاً.
قتلهم عامر بن الطفيل وأصحابه ، وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فلما قتل رفع بين السماء والأرض ، فوَجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك وَجداً شديداً وحزن عليهم شهراً فنزلت لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ( ).
لبيان أن سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تخرج لغزو إنما كانوا يبلغون آيات القرآن ومع هذا أجهز عليهم المشركون وقتلوهم.
وحالما انسحب المشركون من ميدان معركة أحد جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه مع كثرة جراحاتهم ليتوجه بالشكر والثناء على الله عز وجل .
و(عن ابن رفاعة الزرقى، عن أبيه، قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا.
فقال : اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت .
ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إنى أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إنى أسألك النعيم يوم العيلة والامن يوم الخوف.
اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك)( ).
وفيه شاهد بأن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كان دفاعاً ، وأن المشركين لم ينتصروا في معركة أحد خلافاً لما إدّعوه.
أسماء أسنان الفك العلوي
مسائل في هجرة الحبشة
لقد اشتد أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فأمر طائفة منهم بالهجرة إلى الحبشة ، وقال لهم (إنّ بِهَا مَلِكًا لَا يَظْلِمُ النّاسَ عِنْدَهُ)( ).
فلم يتأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر بالهجرة ، وعدم التأخر هذا من الوحي لما فيه من الوعد الإلهي بحفظ هؤلاء المهاجرين والمهاجرات مع أهوال الطريق ، وما تخفيه الأيام في الغربة ، وقلة ما في اليد عند المهاجرين ، وهل أدرك هؤلاء الصحابة أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالهجرة من الوحي ، الجواب نعم .
وفيه مسائل :
الأولى : معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأحوال الممالك والأمم بفضل من الله عز وجل.
الثانية : لو دار الأمر بين إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة عن الوحي أم إجتهاد منه فالأصل هو الأول ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، والآيتان أعلاه من سورة النجم وهي مكية ، نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
الثالثة : تأكيد قانون وهو اجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال والإغتيال والخصومة ، والهجرة شاهد على صبغة السلم في رسالة النبي محمد.
الرابعة : بيان قانون وهو طمأنينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسلامته وسط مجتمع المشركين الذين يريدون اغتياله وقتله ، وهذه الطمأنينة فرع السكينة التي تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
فان قيل نزلت هذه السكينة في طريق الهجرة فهل كانت موجودة قبلها ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو ملازمة السكينة للنبوة ، ومصاحبتها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين البعثة ليبلغ أحكام الشريعة على أحسن حال ، وتتجلى بوضوح عند الوقائع والشدائد .
الخامسة : عدد الذين هاجروا الهجرة الأولى إلى الحبشة (اثنا عشر رجلاً واربع نسوة) ( )، وأقاموا في الحبشة على أحسن حال ، وبلغهم أن قريشاً أسلمت فعاد رهط منهم .
ثم تبين كذب الخبر ، فرجعوا وهاجر آخرون من الصحابة وصار عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً ، وثماني عشرة امرأة في تلك الأحوال القاسية وضنك العيش ، وأهوال السفر في البر والبحر في الطريق الطويل إلى الحبشة من أجل الحفاظ على دينهم وعقيدة التوحيد .
وفيه إعجاز غيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من البرهان الإني بالإستدلال من المعلول إلى العلة ، فلم يثبت الإيمان في قلوب الصحابة ويتحملوا شتى ضروب الأذى والعناد لولا الطمأنينة والقطع بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والإستدلال بالبرهان الإني على صدق نزول القرآن ، وعلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باب واسع وكبير تستقرأ منه قوانين ومسائل كثيرة ، وفيه حجة ، وكذا بالنسبة للإستدلال بالبرهان اللمي وهو استدلال من العلة على المعلول مثل: الشمس طالعة فالنهار موجود .
أهل هلال رمضان فالصيام واجب لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
قراءة تأريخية في هجرة الحبشة
هل من صلة بين هجرة كفار قريش إذ هاجرت طائفة من الصحابة إلى الحبشة إعراضاً ، وبين قوم صالح الذين أرادوا قتله فلم يدركوه فعقروا الناقة ، فطلب منهم صالح أن يدركوا فصيلها رجاء كشف العذاب عنهم ، الجواب نعم إذ يلتقي الطرفان بشدة البطش ولمحاربة النبوة .
إذ ورد عن عمرو بن خارجة في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وأرادوا أن يمكروا بصالح ، فمشوا حتى أتوا على شرب طريق صالح فاختبأ في ثمانية ، وقالوا : إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله فبيتناهم .
فأمر الله الأرض فاستوت عليهم لبيان حفظ الله عز وجل للأنبياء ودفع كيد المشركين عنهم إلى حين تبليغ الرسالة ، فاجتمعوا ومشوا إلى الناقة وهي على حوضها قائمة .
فقال الشقي لأحدهم ، ائتها فاعقرها . فاتاها فتعاظمه ذلك فاضرب عن ذلك ، فبعث آخر فأعظمه ذلك ، فجعل لا يبعث رجلاً إلا تعاظمه أمرها حتى مشى إليها وتطاول فضرب عرقوبيها فوقعت تركض ، فرأى رجل منهم صالحاً فقال : ادرك الناقة فقد عقرت . فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان إنه لا ذنب لنا .
قال : فانظروا هل تدركون فصليها؟ فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب . فخرجوا يطلبونه .
فلما رأى الفصيل أمه تضطرب أتى جبلاً يقال له القارة قصير ، فصعد وذهبوا ليأخذوه .
فأوحى الله إلى الجبل ، فطال في السماء حتى ما تناله الطير .
ودخل صالح القرية فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ، ثم استقبل صالحاً فرغا رغوة ، ثم رغا أخرى ، ثمم رغا أخرى فقال صالح لقومه : لكل رغوة أجل فـ [تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] ( ).
الا أن آية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني محمرة ، واليوم الثالث مسودة ، فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنها قد طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم.
فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب ، فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنها خضبت بالدماء .
فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا أنه العذاب ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب ، فلما أصبحوا اليوم الثالث فإذا وجوههم مسودة كأنها طليت بالقار ، فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب فتكفنوا وتحنطوا .
وكان حنوطهم الصبر والمغر وكانت أكفانهم الانطاع ، ثم ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلبون أبصارهم فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة فلا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، من فوقهم من السماء أم من تحت أرجلهم من الأرض خسفاً أو قذفاً .
فلما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، فاصبحوا في ديارهم جاثمين)( ).
وفي هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة مسائل :
الأولى : إنذار لقريش .
الثانية : لزوم الكف عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : زجر المشركين عن الخطط لسجنه أو قتله .
الرابعة : تجلي قانون وهو صيرورة الصحابة دعاة للرسالة في الأمصار البعيدة .
الخامسة : قانون عجز كفار قريش عن النيل من الصحابة المهاجرين ، وتحذيرهم من استمرار إيذائهم لأهل البيت والمسلمين في مكة وما حولها .
السادسة : علم أهل مكة والقبائل بهجرة رهط من المسلمين إلى الحبشة ، وسلامتهم ودينهم هناك ، فقد كان رجال القبائل يفدون إلى مكة لحج البيت والعمرة ، والتجارة والتسوق ، وطلب حلّ الخصومات والإقتراض ، وكل جماعة منهم ينزلون على بعض وجهاء وأشراف قريش ، ويختلطون بأهلها ، فيعلمون هجرة بعض أبنائهم ورجالهم ، كما كانوا يتصلون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يتصلوا به فانه يجلس إلى جانبهم في البيت الحرام ، ويبدأهم في الدعوة إلى الله ، ويتلو عليهم آيات القرآن ، ويطلب منهم كتمان الدعوة سواء قبلوها أو امتنعوا عن قبولها .
وما أكثر الذين ندموا بعد صلح الحديبية وفتح مكة على عدم استجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لدخول الإسلام عندما كان في مكة ، كما في قصة عفيف الكندي ، وقد تقدم ذكرها ( ) وبيان نزول العذاب بالمشركين .
ومع هذا فعندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وساروا بالجيوش لمحاربته لم ينزل بقريش الهلاك العام لأن النبي محمداً رحمة للناس إنما اصابهم والبلاء والفرقة وسقط عدد من رؤسائهم قتلى في المعارك.
بين الهجرة ومعركة بدر
لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة (يثرب) مضطراً ليجد الأنصار في استقباله ويبني المسجد النبوي ويكون هذا المسجد معجزة أخرى للنبي محمد في بنائه وإقامة الصلوات اليومية الخمسة فيه ونزله قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
ومن بين وجوه تأويل هذه الآية عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة.
واجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إقامة صرح الإيمان في المدينة في بقعة صغيرة من عموم الأرض ، ولم يكن أهل المدينة كلهم مسلمين ، فمن أهلها من تأخر إسلامه عن دخول النبي إلى المدينة ، ومنهم يهود بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع على ديانتهم كأهل كتاب واتباع نبي وهو موسى عليه السلام وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تصبر قريش ومن خلفهم عامة الكفار في الجزيرة على حال الإيمان في المدينة ، والتي تدل معالمها على الثبوت والرسوخ .
وقامت بارسال وفد إلى النجاشي لطلب تسليم المهاجرين إليهم وهم(عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فِي جَمَاعَةٍ) ( ).
فردهم خائبين بعد أن التقوا جميعاً عند النجاشي ، وأظهر رضاه بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقامت قريش بمحاصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت في شعب أبي طالب لثلاث سنين .
ثم جهزوا الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقعت معارك كبرى بين الطرفين أولها :
الأولى : معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة إذ زحف أكثر من ألف من المشركين وأصروا على القتال عند مياه بدر التي تبعد عن المدينة نحو (150) كم ، وعن مكة نحو (300) كم .
وكانت قريش تبغي في هذه المعركة استئصال الإسلام ، وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات القرآن لأنهم والناس جميعاً يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، وليس من نبي بعده ، وأن كلام الله والفرائض والنواهي لا تنزل إلى على نبي ، فارادوا حجب النبوة وسبل الصلاح والتعايش السلمي الذي تجاهد من أجله النبوة والتنزيل .
وكان عدد جيش قريش أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين في ميدان المعركة أما في العدة والمؤن ، فالفارق أكبر بكثير .
وكانت مجموع إبل المشركين سبعمائة ، أما إبل المسلمين فهي سبعون أي نسبة واحد إلى عشرة .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ إبِلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَعِيرًا ، فَاعْتَقَبُوهَا ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا ، وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَأَبُو كَبْشَةَ ، وَأَنَسَةُ مَوْلَيَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله سَلّمَ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا) ( ).
أما بالنسبة للخيل وهي أهم أداء وآلة حرب يومئذ واحدة ، فكان عند المشركين في الميدان مائة وعند المسلمين فرسان ، وقيل واحدة (قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ كَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْخَيْلِ فَرَسُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ السّبَلُ وَفَرَسُ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ بَعْزَجَةُ وَيُقَالُ سَبْحَةُ وَفَرَسُ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْيَعْسُوبُ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ مِائَةُ فَرَسٍ) ( ).
ولكن كيف يكون لمرثد فرس ومع هذا يتعاقب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأمام علي عليه السلام على بعير .
وكان مع المشركين ستمائة درع وأعداد كثيرة من الإبل ، وكانوا يذبحون في كل يوم تسعة أو عشر من الإبل ، ولكن طائفة منهم رجعوا من وسط الطريق وفيه إنذا لقريش .
ولقد هزمت قريش في المعركة لأن الله عز وجل له [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
وأراد الله عز وجل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزول القرآن كاملاً على الوقائع القادمة ، وهو معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ونزل بخصوص معركة بدر قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
معجزة قصر المدة بين هجرة النبي (ص) وفتح مكة
قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( )، ولو دار الأمر بالنصر في المقام بين الإطلاق والتقييد فالأصل هو الإطلاق ، وهو يتناسب مع المشيئة المطلقة لله عز وجل وقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، ويكون هذا النصر على وجوه :
الأول : العموم المجموعي بأن ينتصر كل الرسل جملة واحدة بقانون من الإرادة التكوينية مصاحب للحياة الدنيا ، ويتجلى في ورود ذكرهم في القرآن بسلطان العز والنصر والفوز بشرف الرسالة والتبليغ وتسليم المؤمنين برسالتهم ، وهذا التسليم من النصر ، لذا وردت الآية بصيغة المضارع مع إنقطاع الرسالات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من رسول أو نبي بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الفترة بينهما نحو ستمائة سنة.
الثاني : العموم الإستغراقي بأن ينصر الله عز وجل الرسل كل واحد منهم في أيام رسالته ، وفي قومه ، وجاء القرآن بذكره بالاسم أو الفعل الجهادي والتبليغ والصبر.
الثالث : العموم البدلي بتوجه النصر إلى نبي مخصوص .
والمراد في قوله تعالى [فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( )، عموم أيام الحياة الدنيا وفيه مسائل :
الأولى : بشارة استدامة الإيمان .
الثانية : تلاوة القرآن كل يوم قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( ).
الثالثة : إقامة الصلاة إلى يوم القيامة.
وتقدير الآية إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في كل يوم من أيام الحياة الدنيا مما سبق نزول القرآن وأيام نزوله وما بعده ، لتكون موضوعية لنزول القرآن منجماً في ثلاث وعشرين سنة مدة النبوة المباركة.
ولا يختص هذا النصر بميادين القتال إنما هو عام يشمل ظهور الدعوة ، والذكر الحسن للأنبياء والرسل .
وقد سمّى الله عز وجل صلح الحديبية فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
والنسبة بين الفتح والنصر عموم وخصوص مطلق فالفتح أعم وأعظم وقد تم هذا الفتح من غير قتال ، بينما ورد بخصوص معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ويمكن القول أن صلح الحديبية أعظم وأكبر مع أن النصر في معركة بدر معجزة عظمى وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ونزول قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، في صلح الحديبية كما ورد عن مجمع بن جارية الأنصاري في حديث طويل ، وعن أنس بن مالك ، وعن ابن عباس الذي قال :
(انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة حتى إذا كان بين المدينة ومكة نزلت عليه سورة الفتح فقال {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} إلى قوله {عزيزاً}( ).
ثم ذكر الله الأعراب ومخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقال [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ]( )، إلى قوله {خبيراً} ثم قال للأعراب [بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( )، إلى قوله {سعيراً} ثم ذكر البيعة فقال [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، إلى قوله [وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) لفتح الحديبية)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بأن سبب نزول هذه الآية هو صلح الحديبية إذ أنها نزلت في طريق العودة إلى المدينة ، إذ قال (ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وأنزل الله في الطريق سورة الفتح [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، قال الصادق عليه السلام : فما انقضت تلك المدة حتى كاد الاسلام يستولي على أهل مكة)( ).
وجاءت آيات عديدة تبين حقيقة اضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للهجرة وإرادة المشركين قتله لولا أن أنجاه الله بالوحي ونزول جبرئيل ، ومن الآيات الخاصة بالهجرة :
الأولى : قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وبين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خفية ومعه أحد أصحابه من مكة مكرهاً مضطراً ، وبين دخوله مكة ومعه عشرة آلاف من أصحابه فاتحاً ومزيحاً للأصنام وعبادتها ، ثماني سنوات فقط.
وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المدة مع شدة قتال المشركين له معجزة حسية عظمى وشاهد على لطف الله في حفظه وسلامته ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
المجاز والحصر في (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)
ويحتمل قوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ]( )، وجوهاً :
الأول : الحقيقة وإرادة قتل المشركين .
الثاني : التخصيص وإرادة المشركين الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويبقون في حال حرابة.
الثالث : إرادة المجاز المرسل ، فورد اللفظ بصيغة العموم ويراد منه بعض المشركين ، وهو من المجاز المرسل .
والمجاز المرسل هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له بالأصل لعلاقة وصلة غير المشابهة بينهما ، فهناك قرينة تصرفه عن المعنى الحقيقي ، رأيت أسداً في الغابة لإرادة الحيوان المفترس حقيقة ، بينما تقول دخل بيتنا أسد لإرادة الرجل الشجاع.
وهناك مشابهة وهي الشجاعة بين الأسد والرجل الداخل إلى البيت إلى جانب قرينة دخوله البيت ، وينقسم المجاز إلى قسمين :
الأول : المجاز العقلي ، ويكون في المركبات .
الثاني : المجاز اللغوي ، ويكون في المفردات .
وينقسم المجاز اللغوي إلى قسمين :
الأول : الإستعارة : وهو وجود علاقة مشابهة .
الثاني : المجاز المرسل : وهو وجود علاقة غير المشابهة.
ومن المجاز المرسل [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ]( )، إذ أن كلمة رقبة مجاز مرسل ، لذكر الجزء وإرادة الكل والمقصود من قوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ]( )، في أية السيف هو طائفة من الكفار قالتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآية السيف ومنها قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وهي قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، مع تعدد التقييد المستقرأ من جهات :
الأولى : مضامين ذات الآية الكريمة ، ومنها آيات السلم والموادعة ، إذ لم يثبت نسخها ومنها :
الأول : المهلة والإمهال في مدة الأشهر الأربعة فلا يؤاخذ كافر فيها وإن كان حربياً وفيه شاهد على انقطاع تحشيد الكفار الجيوش على المدينة المنورة.
الثاني : أسباب نزول هذه الآية وان المراد هم مشركوا مكة الحرابة .
الثالث : ما ورد قبل ثلاث آيات [فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( )، لبيان وجود طائفة يتوجه لها الخطاب ، وتختص بهذا الحكم ، وعن الإمام الباقر عليه السلام في الآية قال (هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر)( ).
الرابع : إرادة خصوص المشركين الذين يعبدون الأصنام من أهل مكة وما حولها ممن كان يحارب النبوة والتنزيل ، وتقدير الآية : فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الذين يقاتلونكم.
الخامس : القيد المكاني : حيث وجدتموهم.
السادس : بعد الأمر بالقتل جاء الأمر في ذات الآية بالأخذ والحصر ، والمراد من [وَاحْصُرُوهُمْ] أي ضيقوا عليهم ولا تجعلوهم يسافرون إلى البلدان بالتجارة.
وتحريض القبائل والإمارات والدول الكبرى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
السابع : تخلية سبيل المشركين إذا تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة بلحاظ أنها واجب عيني على المكلف .
الثانية : آيات القرآن الأخرى التي تبين حصر القتل والقتال بالمعتدين من المشركين من أهل مكة والقبائل المحيطة بها منها الآية التالية لآية السيف بقوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : دلالة السنة النبوية القولية والفعلية على إرادة الحصر والتقييد في آية السيف ، موضوعاً وزماناً ومكاناً.
وقد انتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وهناك عدد من اليهود في المدينة ، ومنهم جار له.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تُوفِّي وَدِرْعُه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير، رهنها قوتًا لأهله ، وفي رواية: من يهود المدينة ، وفي رواية الشافعي: عند أبي الشحم اليهودي)( ).
وكانت وفود العرب تأتي إلى المدينة بعد نزول هذه الآية ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرجعوا إلى قومهم من غير أن يكرههم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام ، أو يعرضهم على السيف ، مما يدل على أن آية السيف خاصة بالمشركين الحربيين وفي مدة معينة ومكان محصور.
ومنهم من قال باجتماع الحقيقة والمجاز في اللفظ ونسب إلى الشافعي وبعض المعتزلة ، ولكنه غير الذي نذهب إليه هنا.
إذ أرادوا تعدد المصداق للفظ وليس ذات اللفظ ، مثلاً لفظ (الأم) قالوا انه يصدق على الأم حقيقة وعلى الجدة مجازاً ، وهو أيضاً لا يتم لأن الجدة أم أيضاً ولكن يكون الفرق في الميراث مثلاً للتباين في الرتبة فتحجب الأم الجدة.
واستشهد أيضاً بآية المحرمات [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
ولكن هذه الآية شاهد بأن المراد من الأم والجدات أمهات على نحو الحقيقة ، وفيه دعوة للبر بالأم والجدة والإحسان لهما.
واختلف في كون المجاز خلفاً عن الحقيقة في الكلام دون التكلم فلابد من ترتب الصحة على المجاز استفادة ذات الحكم من الحقيقة.
قانون التقوى برزخ دون القتال
هل من معاني [اتَّقُوا اللَّهَ] النهي عن الإبتداء بالقتال بما فيه ظلم ، الجواب نعم ، بل ومطلقاً ، إذ يدرك المؤمنون أن المعجزة سبيل للهداية العامة وقد رزق الله عز وجل النبي محمداً المعجزة الحسية والعقلية.
والنسبة بين موضوع التقوى والقتال في سبيل الله عموم وخصوص مطلق ، إذ تحضر التقوى والخشية من الله في العبادات والمعاملات والأحكام ، وفي المسجد والسوق والبيت ، وفي الصلات بين الفرد والجماعة ، وبين المسلمين وأهل الكتاب ، وبين المسلمين والكفار .
ومن معاني الجمع بين الآيتين النهي عن القتال قبل بلوغ مرتبة التقوى فمن فضل الله أن القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين لم يقع في مكة ، ولا في بداية الهجرة إنما ابتدأ في السنة الثانية للهجرة وبهجوم من قبل مشركي قريش.
إذ كانت أول معركة بينهم هي معركة بدر لبيان تأهيل المسلمين لمنازل التقوى مع أنهم ليسوا الذين اختاروا أو ابتدأوا القتال.
الرابع : من معاني وتقدير الجمع بين الآيتين لعلكم تفلحون وقاتلوا في سبيل الله.
فمن إعجاز القرآن وجود صلة بين خاتمة الآية وأول الآية التي قبلها ، وإمكان اقتباس الدروس والمواعظ منها ، ومنها تقييد قتال المسلمين بشرائط متعددة تسبق الآية التي تتضمنه كما توجه في ذات الآية والآيات التالية.
لبيان أن الإسلام دين السلام اسماً ومسمى ، وهو من فضل الله عز وجل في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا لم تبدأ آية البحث بالأمر (قاتلوا) إنما ابتدأت بالحرف الواو الذي يفيد معنى العطف والإستئناف في آن واحد كماً وكيفاً فقد فرض الصيام على كل مسلم ومسلمة شهراً كاملاً في السنة إذ قال تعالى بخصوص شهر رمضان [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
بينما لا يكون القتال إلا أمراً طارئاً ، وكان في تضاؤل وإنحسار حتى تم فتح مكة ووقعت معركة حنين التي انهزمت فيها هوازن وثقيف.
وهل يحتمل أن يكون مجئ (لعلكم تفلحون) في خاتمة الآية مانعاً من عطف الآية التالية عليها ، الجواب لا ، إنما يفيد قيام المسلمين بالقتال والدفاع عن منازل الفلاح ، لتثبيت أقدامهم في هذه المنازل ، وصدّ كيد ومكر وحسد الذين كفروا.
ومن معاني الجمع بين خاتمة الآية السابقة وهذه الآية وجوه :
الأول : لعلكم تفلحون في القتال بالنصر على الذين كفروا.
الثاني : لعلكم تفلحون باجتناب القتال ، وصرفه عنكم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وكتب أي فرض.
وهذا الفرض من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، ومن معاني العطف تجلي اللطف الإلهي وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، في ميدان القتال ، إذ تحضر التقوى فلا يعتدي المسلمون وإن امتنع الكفار عن القتال قابلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالمثل.
الثالث : لعلكم تفلحون بتحقيق الغايات الحميدة من غير قتال ، فصحيح أن معركة بدر وأحد والخندق قد وقعت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين إلا أن ما صرف من القتال عن النبي وأصحابه لا يعلمه إلا الله عز وجل
وقد يرد حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الائمة المعصومين يجمع بين الواجب والمستحب بحرف العطف الواو فهل يفيد الإستئناف للتباين في مرتبة التكليف ، الجواب لا ، إنما يفرق بين الواجب والمستحب بالقرائن والجمع بين آيات القرآن ، وذات الحديث والنصوص الأخرى .
قانون قيود القتال رحمة عامة
لقد نزل قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، على صدق نزوله من عند الله، من جهات :
الأولى : الأمر للمسلمين بالقتال من وجوه :
الأول : الدفاع في سبيل الله .
الثاني : وقاية الثغور الإسلامية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : محاربة العدو الذي يهاجم المسلمين، والذي يسعى للإستحواذ على بلادهم.
الرابع : الصبر على الأذى .
الثانية : تقييد القتال بأن يكون في سبيل الله ، وفيه شاهد على وجوه :
الأول : فقاهة المسلمين في الدين .
الثاني : معرفة المسلمين لفنون القتال .
الثالث : فصل المسلمين بين القتال في سبيل الله وطاعة له ، والقتال للدنيا والمنافع الخاصة ، والثأر ونحوه ، مما يدل على انقطاع الخصومات القبلية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الصحابة إخوة وإن كانوا من قبائل متنازعة وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الرابع : منع الخصومة بين الصحابة في موارد الدفاع ، وفي السرايا إذا كانوا بعيدين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا المنع من إعجاز القرآن والمعجزات الحسية الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : حصر القتال بالذين يعتدون على المسلمين في ميادين القتال لتخرج بالتخصص حالات السلم ، وبالتخصيص حالات الإغتيال والغدر بالمسلمين وعلى نحو القضية الشخصية .
الرابعة : بيان حرمة التعدي مطلقاً سواء صدرت من المسلم أو غير المسلم ، وهو من الشواهد على رحمة الله بالناس ، وعلى وجود قوانين تحكم الناس عامة وأن اختلفت مذاهبهم.
لتكون الآية دعوة لأهل الملل والنحل بالعزوف عن غزو المدينة وأطرافها ، وإجتناب قتال المسلمين ، فإن قلت قد يكون الكفار ذوي عدة وعدد يفوق كثيراً عدة وعدد المسلمين.
والجواب كانت معركة بدر شاهداً تأريخياً على نصر المسلمين مع قلتهم ونقص العدة والظهر والمؤن التي عندهم في حال السلم والدفاع يومئذ ، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
والمسلمون في نصرهم وظهورهم على الكفار لا يعتدون لأن الآية التي أمرتهم بالقتال نهتهم عن التعدي والظلم .
ومن منافع هذا الجمع بين الضدين طرد الغفلة عن المسلمين، فلا القتال ينسيهم لزوم ترك التعدي، ولا ترك التعدي يؤدي إلى التفريط في القتال.
وجاء قيد (في سبيل الله) ليكون حاضراً في الأمر والنهي بأن لا يندفع المسلمون في القتال، ويحترزون من التعدي المنافي لسبيل الله ، فاذا كف المشركون عن الهجوم على المدينة فليس من قتال .
صلة آية [فَإِنْ انتهوا]
صلة آية [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ…] ( ) بقوله تعالى[فَإِنْ انتهوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وفيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : وقاتلوا في سبيل الله إن الله غفور رحيم).
ليكون القتال في سبيل الله دفاعاً محضاً ووسيلة للفوز بالمغفرة والعفو من الله، وباباً للنجاة من العذاب يوم القيامة و(عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ رَوْحٌ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أو قُتِلَ فَلَهُ أَجْرُ الشُّهَدَاءِ.
وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ كَأَغَزِّ وَرَوْحٌ كَأَغْزَرِ وَحَجَّاجٌ كَأَعَزِّ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ وَمَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ)( ).
الثانية : بعث المسلمين للتفقه في الدين، وإن الكفار الذين يقاتلونهم هم في معرض التوبة والإنابة، ليكون من باب الأولوية رجحان توبة الذين لم يقاتلوا المسلمين.
وهو من الآيات في الأمر الإلهي للمسلمين بعدم الإعتداء، (وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال : كنا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتى يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول انطلقوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا)( ).
الثالثة : عدم وجود تعارض بين بغض الله عز وجل للمعتدين وبين قبول توبة من أناب منهم، وتلك آية في البعث على الإنابة، والحث على الكف من التعدي على الإسلام والمسلمين، وقطع صيغ التعدي إلى يوم القيامة .
فإن آية السياق جاءت بقوة وسلطان لجذبهم إلى التوبة، وترغيبهم بالإسلام والكف عن قتال المسلمين، ليكون من إعجاز الجمع بين آيات القرآن أن آية البحث تأمر بالقتال، وآية السياق المدد للمسلمين لإستغنائهم عنه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
وتعود الواو في وان انتهوا للذين يقاتلون المسلمين وفي الآية حذف وتقديره :
الأول : فان انتهوا عن قتالكم.
الثاني : فان انتهوا عن التعدي عليكم .
الثالث : فان انتهوا عن تحشيد الجيوش للهجوم على المدينة المنورة .
الرابع : فان انتهوا وتابوا إلى الله .
الخامس : فان انتهوا ودخلوا الإسلام .
وقيل التقدير فان انتهوا عن الشرك ، ولكن نظم الآيات لا يدل عليه لبيان معجزة وأمارة لمفهوم قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وهو أن الله عز وجل يأمر بالكف عن الذي يمتنع ويكف عن الإعتداء.
قانون مواجهة الكفار النبوة التعدي
ما أن أعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته ودعوة الناس للإسلام حتى جاء الرد سريعاً وقاسياً من كفار قريش بمحاربته ومحاولة قتله وتعذيب الذين صدّقوا بنبوته أشد العذاب .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية إجتهاده بصفة النبوة في الدعوة إلى الله مع شدة اضطهاد المشركين له ولأهل بيته وأصحابه .
وبعد وفاة أبي طالب إزداد أذى المشركين له ، فخرج مهاجراً إلى الطائف ، ولم يجد من أهلها إلا الإعراض والجفاء والأذى ، فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ولم يدخلها إلا بمشقة وأمان ثم خرج إلى مدينة يثرب مهاجراً في ذات الليلة التي أراد الكفار فيها قتله والإشتراك بدمه، وتوزيع مسؤولية قتله على أقطاب قريش في محاولة لتضييع دمه، وصيرورة بني هاشم متخلفين عن الأخذ بثأره ، فيرضون بتوزيع ديته على القبائل , وبعد الهجرة زحفت قريش في معركة بدر ثم معركة أحد فقتل من المشركين يوم أحد مثلاً إثنان وعشرون رجلاً، وهم من بني عبد الدار، وبني أسد، وبني زهرة، وبني مخزوم، وبني جمح وبني عامر قال تعالىوَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
ووثق القرآن قتلهم هذا وما لحقهم من الخزي يوم معركة أحد بقوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أو يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
وأظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أسمى مراتب الصبر والتي أراد الله عز وجل لها ضياء وموعظة للمسلمين والمسلمات، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ) .
وبعد الهجرة إلى المدينة تغيرت صيغ تعامل الكفار مع الدعوة الإسلامية، فازدادت شدة وبطشاً ، وتناجوا بالإنتقام منه ، والأصل لزوم التدبر بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة منها وجوه :
الأول : أوان الهجرة في الساعة التي أراد المشركون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها .
الثاني : طريق النجاة من مخاطر طريق الهجرة ، قال تعالى [ِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
الثالث : تجلي معجزات حسية في طريق الهجرة ، وقد تقدم بيانه.
الرابع : استقبال الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كرسول من عند الله عز وجل .
الخامس : بناء المسجد النبوي .
السادس : إقامة الصلوات اليومية في المسجد النبوي .
فجهزوا الجيوش في مكة وساروا بها إلى المدينة للإجهاز على الإسلام ومنع توالي نزول القرآن، ودخول الناس في الإسلام.
فجاء الأمر من الله عز وجل[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) لبيان حقيقة تأريخية وهي أن القتال ليس بأمر النبي ولا لحاجات الدنيا بل هو في سبيل الله، ولنشر مبادئ الإسلام، وهل الدفاع عن النبي ومنع حصول يد الكفار إليه من(سبيل الله).
الجواب نعم، وهو من أبهى مصاديق القتال في سبيل الله، لذا إفتدى المسلمون الأوائل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم وأموالهم، وخرجوا إلى معركة بدر وأحد والخندق، فإن قيل قد فروا من معركة أحد ، وتركوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب من وجوه:
الأول : خروج المسلمين للقتال يوم أحد من الشواهد على دفاع المسلمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الثاني : لما إنخزل المنافقون في الطريق إلى أحد، وكان عددهم نحو ثلاثمائة رجل وهو ثلث جيش المسلمين، لم يأبه بهم المؤمنون، وساروا مع النبي إلى القتال، وقاتلوا الكفار بضراوة وتضحية وإستبسال، وسقط خمسة وستون شهيداً من المهاجرين والأنصار( ) وروي أنهم سبعون .
وقد وردت آيات القرآن والأحاديث النبوية في فضل الشهادة والقتل في سبيل الله، بما لا يفوقه فضل .
و(عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة غدوة وعشية)( ).
الثالث : لم يفر المسلمون كلهم ولم يتركوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وحده بل كان نفر يقاتل دونه حتى عاد المسلمون وأجبروا الكفار على الهزيمة ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الرابع : نزول آية بالإخبار عن همّ فريق من الصحابة يوم أحد بالتراجع والجبن ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وتدل الآية بالدلالة المطابقية على أن هؤلاء الصحابة لم يتراجعوا ولم يجبنوا لأن الهم الرغبة والعزم على الفعل دون تحققه ، إذ يهّم الإنسان بالفعل الحسن أو ضده ثم يتراجع عنه ، وفي قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، فلم تقع الفحشاء .
الخامس : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
السادس : حصل الهم الطارئ من فريق من المسلمين وسرعان ما زال ، ورجعوا إلى القتال والذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإسلام، قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
السابع : حادثة الفرار النسبي إنما هي ضمن ميدان المعركة، وهي قضية في واقعة، وسرعان ما إنتفى عند المسلمين الهم بالفرار لتكون واقعة أحد موعظة ومدرسة مباركة للصحابة وأجيال المسلمين اتعظ منها الصحابة في معركة الخندق ، وأظهروا الصبر والعودة الفورية إلى الميدان في معركة حنين ، كما سيأتي بيانه ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
الثامن : نزول العفو من الله عن المؤمنين والمجاهدين، والذين لم يصبروا في إحدى ساعات القتال، قال تعالى[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( ).
لتكون لهم موضوعية في قرار الدفاع بلحاظ حالهم وقدراتهم، وللتخفيف عنهم وعن المؤمنين جميعاً، والله واسع كريم، فانه سبحانه حينما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع تكفل المدد والإعانة والنصر على الكفار وإن كان هناك رجحان جلي لكفة الكفار في العدد والعدة.
(أخرجوكم)
في قوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( )، اعجاز آخر وهو المنعة والأمان والرحمة الإلهية والسلامة للمؤمنين عند عدم اجتماع هذه الشرائط وحملهم على القتال، فعدم القتال ايضاً رحمة ومناسبة لترسيخ الإيمان في النفوس واتساع الإسلام و تفيد الشواهد التأريخية أن القتال اكثره كان بسبب الحسد للمسلمين والمكر والبغض لدخول الناس من الإتباع والضعفاء والفقراء الإسلام بالإضافة إلى غيرهم من الوجهاء والسادة والرؤساء، لذا قيدت الآية القتال بقتالهم وابتدائهم للقتال .
والآيتان حجة كبرى على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ولم يستعمل سلاح السيف الا لأغراض الدفاع وعند الحاجة وبكيفية وشرائط سماوية دلت على صدق العقيدة وسماوية الرسالة مما ينتج عنه قهراً هزيمة أعدائه وتخاذلهم وانحسار امرهم سواء كانوا قوماً أو ملة أو قبيلة وهؤلاء مع الهزيمة يقولون خلاف الحق، والأمر بالقتل لا يمنع من اخذهم اسرى ودعوتهم للإسلام أو عقد الهدنة معهم.
وقد اسلم بعض كفار مكة يوم الفتح عندما رأوا قوة المسلمين وعددهم واستعراضهم على نحو منظم امام الرسول الأكرم والفاتح السماوي، والقدرة على اخراج الخصم المعتدي عنوان العز والقوة فأمر المسلمين باخراج الكافرين دليل بلوغهم مراتب العز وانهم لن يخشـوا الكافرين مما يستلزم الشكر والثناء عليه تعالى.
وتحث الآية على استثمار هذا العز والقوة في سبيل الله والرفق وعدم الإنتقام من الذين اساءوا للمسلمين في بدايات الدعوة وفيها حاجز وبرزخ دون استعمال القوة للفرقة والخلاف لذا لم يسجل التأريخ حدوث خلافات بين الصحابة والقبائل العربية ايام النبوة لإنشغالهم باحكام الشريعة وتظافر الجهود وشحذ الهمم للدفاع عن الإسلام وسرايا الدفاع والفتح.
وبعد أن كانت القبيلة والجماعة تتعرض للغزو ، صارت بعد البعثة النبوية المباركة تتصدى للمشركين بولاء مطلق للنبوة ومبادئها ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
ومن اخرج المسلمين أو ساهم في الإخراج اذا اتفق عند ارادة اخراجه انه اصبح مسلماً لا يجوز اخراجه لأن الإخراج بلحاظ قيد الكفر، بل انه نفسه قد قام بالإخراج الذاتي فقد اخرج الكفر والجحود من نفسه وتخلص من علة وسبب اخراج المسلمين، فالإخراج يدور مدار الكفر وعدمه وليس الأشخاص، وكذا لو حل قوم من الكفار في المكان غير الذين اخرجوهم فيجب اخراجهم وان نزلوا به بطردهم للذين اعتدوا على المسلمين لأن الآية تأمر برجوع الإيمان الى الديار وتخبر عن اشتياقها للمؤمنين ولفظها للكافرين ولتعلق الطرد والإخراج بالموضوع والمحل وليس بالعناوين الشخصية القابلة للتبدل والتغيير وكذا عندما يكون في حال الدفن وبدايات عذاب البرزخ، فان الأرض تتأذى من الكافر سواء كان يمشي عليها، أم ميتاً بين طياتها.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية أن الذين يتوجه لهم الخطاب (واخرجوهم) في إزدياد مطرد ، كل يوم وكل أسبوع أما الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة فهو في نقصان متصل ، لدخول طائفة منهم الإسلام ، وهلاك أخرى ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وقوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ] ( ) عطف للإخراج على القتل يفيد التغاير الموضوعي بينهما، فلا يعقل الجمع بينهما على موضوع واحد، أي أن الذي يقتل ينتفي وينعدم اخراجه، فالإخراج يتعلق بغير مواضيع واشخاص القتل.
نعم قد يجتمع الإخراج مع القتال كما لو قاتلهم المسلمون الى أن اخرجوهم من ديارهم، أو لم يوقفوا القتال الا بشرط خروجهم من ديارهم كما في شرط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على اهل خيبر وتشديدهم على انفسهم بعدم الرضا به أول مرة، وقد يكفي الإخـراج وحده من غير أن تصل النوبة الى القتال.
الصلة بين آيتي القتال
صلة [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، بقوله تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( )، مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : وقاتلوهم في سبيل الله) فإن قتال المسلمين للكفار ليس عن عصبية قبلية أو ثأر أو أمور دنيوية، بل موضوع القتال وعلته الغائية هي جذبهم للإسلام .
ولما احتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأن رهط من الناس يفسدون في الأرض ويفعلون المعاصي ، ويجعلون الأرض تشرب الدم الحرام مكرهة ، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علم الله عز وجل بعث الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، إذ يبشرون الذي يعمل الصالحات ويتنزه عن الحرام ، وينذرون الظالم والفاسق والمعتدي.
وقد نزل القرآن بتنزيه النفوس وبيان جهاد الأنبياء في إصلاح المجتمعات ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وتحقيق مصداق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فإن قلت يكفي المسلمين أنهم يعبدون الله، وليس عليهم قتال الناس لحملهم على دخول الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
والجواب لقد أصر الكفار على الهجوم والغزو والقتال ، فصار قتالهم دفاعاً مقدمة وحاجة لأمور :
الأول : إستدامة ثبات المسلمين في منازل الإيمان، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( )، وتدل الآية أعلاه على حاجة المسلمين للدفاع لحفظ دينهم ، وملة التوحيد في الأرض.
الثاني : ابطال سعي المشركين لوقف نزول القرآن ويتجلى هذا السعي بمحاولات قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : سلامة القرآن من التحريف.
الرابع : دوام تعظيم شعائر الله، إذ أن الكفار هم الذين يزحفون بجيوش عظيمة لوأد الإسلام في مهده، وحتى بعد صيرورته قوياً كما في قطعهم أكثر من أربعمائة وخمسين كيلو متراً من مكة إلى المدينة بأرض وعرة وعلى رواحل هزيلة .
ولعل شطر منهم مشى هذه المسافة سيراً على الأقدام، وتحملوا المؤن والنفقة وعطلوا الأعمال طغيانا وجحودا , وعلى نحو متكرر في بدر وأحد والخندق , فجاء النصر من عند الله عز وجل , قال تعالى بخصوص بدر[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الثانية : تبين الآية أعلاه حقيقة وهي أن الأمر الإلهي للمسلمين يقترن معه المدد الملكوتي وأسباب النصر والفلاح، ومن هذه الأسباب ما ورد في آية البحث وهو على وجوه:
الأول : تقييد الدفاع بأنه في سبيل الله.
الثاني : حصر القتال بالذين يقاتلون المسلمين.
الثالث : نهي المسلمين عن التعدي.
الرابع : الإخبار بأن الله عز وجل لا يحب المعتدين وهل عدم الحب هذا لذواتهم ، المختار لا ، إنما بصفة التعدي ، وهو من أسباب بقاء باب التوبة لهم مفتوحاً ، لذا ورد [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثالثة : بعث المسلمين على الدفاع والإمتثال لأمر الله عز وجل الوارد في هذه الآية بتفقه المسلمين في الدين، ومعرفة عاقبة التخلف والقعود عن قتال الكفار ومنها وقوع الفتنة .
وورد عن ابن عباس والإمام جعفر الصادق عليه السلام : أن الفتنة هي الشرك)( ).
الرابعة : تصدي المسلمين لتحمل أعباء الدفاع في سبيل الله، وإزاحة رؤوس الكفر والضلالة عن مقامات حمل الناس على البقاء على الكفر والضلالة وظيفة عقائدية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بمدد وعون من الله سبحانه لبلوغ هذه المرتبة، ومن مصاديق هذه الإعانة بلحاظ المقام أمور:
الأول : آية البحث.
الثاني : آية السياق.
الثالث : الجمع بين آية البحث والسياق.
الرابع : الشواهد العملية التي تؤكد هذه الإعانة ، وهي على شعبتين:
الأولى : منافع الدفاع بدخول أقوام في الإسلام وكف أذاهم وأذى الذين من خلفهم ممن لا زال على الكفر.
الثانية : الأضرار المترشحة من ترك الكفار المعتدين وإرجاء أو ترك قتالهم مع تعديهم لإنشغال المؤمنين في جبهات أخرى كما في أهل الطائف ووقوع معركة حنين، قال تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : وقاتلوا في سبيل الله دفاعاً حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله).
وتبين هذه الآيات أن القتال أمر لازم ومقدمة واجبة لسيادة مبادئ الإسلام، وزحزحة الكفر عن مواقعه، وهو من عمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بلحاظ أن القتال في سبيل الله بذاته صراط مستقيم، وهو مقدمة وبلغة للصراط المستقيم ، ليكون من معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وجوه :
الأول : اللهم أهدنا إلى مقدمات الصراط المستقيم .
الثاني : اللهم أزح عنا الموانع التي تحول دون الصراط المستقم .
السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين).
السابعة : لما تضمنت آية البحث النهي عن التعدي، جاءت آية السياق بتأكيد حقيقة وهي أن العدوان على الظالمين أثناء ظلمهم ليس من التعدي المنهي عنه، لأنهم استحقوا بظلمهم وجورهم التأديب والعقوبة بما يمنع من أذاهم وإضرارهم بالمسلمين.
قانون عدم التضاد بين الشرائع السماوية
في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) مسائل :
الأولى : هدم الأفكار الفاسدة .
الثانية : إنها حرب على التحريف .
الثالثة : الآية دعوة للرجوع الى جادة الصواب .
الرابعة : بيان الرأفة النوعية العامة في الإسلام .
الخامسة : تأكيد صيغ العفو وحسن الإستقبال لمن يتوب ويبادر الى دخول الإسلام والشواهد على ذلك اكثر من أن تحصى، فيمن يسلم قبل انتهاء المعركة أو يأتي طواعية حال السلم وان كان من رؤساء الكفر والشرك فالإسلام يجبّ ما قبله.
وخاتمة الآية توكيد على منافاة الإعتداء لقيم السماء ومن شرائط الإسلام وأحكامه نبذ الإعتداء .
والنسبة بين التعدي وبين الإرهاب عموم وخصوص مطلق .
واذا كان الإعتداء على غير المسلم منهي عنه فمن باب أولى أن يكون النهي شاملاً للمسلم في نفسه وذريته وعرضه وماله وحقوقه الإعتبارية والقانونية لذا ورد التشديد في النهي عن غيبة المسلم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( ).
وتبين هذه الآية حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية ، والهجوم على المسلمين وغيرهم في المساجد ودور العبادة والأسواق ووسائط النقل ، ومن معاني الحرمة في المقام أن الذي يقدم على هذه الأفعال المحرمة لا يجد إلا الخسارة والضرر والخزي .
وتمنع الآية من الإسراف في القتال أو قتل الكافرين, أو المبادرة الى القتال والتعدي فكما أن الآية السابقة أمرت باتيان البيوت من ابوابها بقوله تعالى [وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] ( ) وقيدت الأمر بتقوى الله، فكذلك هذه الآية امرت بالدفاع في سبيل الله تعالى ، وقيدته بعدم الإعتداء ليكون بين التقوى وعدم الإعتداء عموم وخصوص مطلق ، فالتقوى والخشية من الله أعم .
وجاءت خاتمة الآية لأمور:
الأول : الحث على اجتناب الإعتداء .
الثاني : الدعوة لنشر العدل .
الثالث : إشاعة الإنصاف .
الرابع : نبذ الميل واتباع الهوى والشهوة .
الخامس : تؤكيد قانون عدم التعدي ، قال تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
إسلام عدي بن حاتِم الطائي
لما عاد عدي بن حاتم الطائي من الشام ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مسجده، فسلم عليه، قال النبي: مَن الرجل.
وفيه آية بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الشخص عن اسمه وقبيلته لمعرفة مقامه ، وموضوع قدومه قال (فقلت : عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانطلق بي إلى بيته)( ).
وفيه دلالة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرفه وعرف أباه وبادر إلى إكرامه والإنفراد به في إستقبال خاص في بيت النبي ليرى بواسطته التواضع الذي عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدلالات الظاهرية التي تدل على صدق نبوته، خصوصاً وان عدي جاء من بلاد الروم ورأى حال الأبهة في البلاط وأسباب الترف .
فمع إتساع رقعة الإسلام وكثرة الغنائم التي تأتي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه بقى على ذات الحال من قلة المؤونة والزهد.
عن مجاهد عن الشعبي أن عدي بن حاتم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بمنبذة وقال ” إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه( ).
والمنبذة الوسادة سميت بذلك لأنها تنبذ أي تلقى ويجلس عليها( )، وقد هرب عدي بعد دخول جيوش المسلمين إلى قريته وترك أخته سفانة فجيئ بها مع الأسرى والسبايا إلى المدينة فأكرمها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال عدي : فوالله أنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته ( ).
ويظهر الحديث أن النبي يسلك طريقاً بين المسجد وبيته بحيث يراه ويصل إليه الناس فيه مع أن بيوت النبي وغرف ازواجه مجاورة للمسجد ولم تغلق أبوابها التي تطل على المسجد، مما يدل على إنعدام الحاجب والبرزخ بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الناس ذكوراً أو إناثاً.
وبعد أن جلس النبي وجلس معه عدي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه.
ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف.
ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.
قال : فأسلمت. قال فكان عدي يقول : مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكونن الثالثة، ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه ( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم القصص والشواهد الخاصة بكيفية إسلام الصحابة مجتمعين ومتفرقين.
وعدي بن حاتم بن عبد الله ، يكنا أبا طريف وقدم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان من السنة التاسعة صلح الحديبية ، وعندما انتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى منع عدي بن حاتم قومه من الإرتداد.
وعنه قال (ما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا وسع لي أو تحرك لي وقد دخلت عليه يوماً في بيته وقد امتلأ من أصحابه فوسع لي حتى جلست إلى جنبه)( ).
وقال (ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء)( ).
ومات عدي بالكوفة على قول سنة سبع وستين في أيام المختار على قول.
(وهو ابن مائة وعشرين سنة ، روى عنه جماعة من البصريين والكوفيين منهم: همام بن الحارث وعامر الشعبي وتميم بن طرفة وعبد الله بن معقل بن مقرن والسري بن قطري وأبو إسحاق الهمداني وخيثمة بن عبد الرحمن)( ).
دخول مكة بأمان وليس فتحاً
لم تفتح مكة ولكن النبي (ص) دخلها بسلام، المختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل مكة فاتحاً وليس من موضوع للفتح إنما رجع وأصحابه إليها بأمن ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وأختلف في فتح مكة على قولين :
الأول : فتحت مكة عنوة ، لما ورد عن (ابن إسحاق : أَنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا ، وَقَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ ، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدّ سِلَاحًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لِمَاذَا تُعِدّ مَا أَرَى ؟ قَالَ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا أَرَاهُ يَقُومُ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ :
إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلّهْ … هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ
ثُمّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَسُهَيْلٍ وَعِكْرِمَةَ ، فَلَمّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ( ).
ورجع حماس بن قيس المذكور أعلاه منهزماً، ودخل بيته وقال لإمرأته أغلقي علي بابي.
قالت فاين ما كنت تقول.
فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمه إذ فر صفوان وفر عكـــــــــــــــرمه
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه واس تقبلتهم بالسيوف المســــــــلمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا يسمع إلا غمغـــــــمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلـــــمه( ).
وقيل أنه أقبل على إمرأته فقال : ويحك هل من مختبأ؟فقالت له : فاين الخادم، فقال: دعيني منك وأنشد الأبيات أعلاه.
وقتل رجال عند (الخندمة وهو جبل عند الشعبين المعروفين بأجياد الأكبر وأجياد الأصغر)( )، وقيل الخندمة هو الجبل المستعلي على أبي قبيس من ناحية المشرق.
الثاني : فتحت مكة صلحاً واستدل بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) ( ).
إذ أن الفتح عنوة يعني الإقتتال الشديد ، وفي الفتح صلحاً أطراف :
الأول : الفاتح .
الثاني : الصلح .
الثالث : شروط الصلح كما في صلح الحديبية .
الرابع : أهل البلد .
ولم يتم أي عقد صلح ، إنما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بسلام إلى مكة ، ولا يصدق على دخولهم فتح إذ أن البيت الحرام ينتظر مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد غلب الإسلام على أهل مكة.
وفي ذم كفار قريش قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، ولا تنفي هذه الآية فتح مكة عنوة أو صلحاً ، ولكن الشواهد والحال تدل على أنه لم يكن فتحاً عنوة أو صلحاً ، إنما فتحت مكة أبوابها لقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معجزاته ومختصاته.
وجاءت الآيات بالإذن بالقتال في المسجد الحرام إذا قام الكفار بقتال المسلمين فيه ، قال تعالى[وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ]( ).
ومن منافع هذه الآية الكريمة دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى مكة يوم الفتح وهم مستعدون للقتال، ودخلوا من عدة طرق، ومنها أن الكفار أصيبوا بالفزع والخوف يومئذ بعد أن كانوا يهددون بالقتال، ومنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من دخول مكة.
ويمكن أن نضيف قولاً آخر واصطلاحاً مستحدثاً وهو أن مكة دخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون بسلام ورضا من أهلها ، وهم من أبناء مكة وأن أكثر أهلها كانوا قد دخلوا الإسلام وينتظرون قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أما القتال الذي وقع عن دخولهم فكان قليلاً وانتهى سريعاً ، ولا عبرة بالقليل النادر.
وكان أكثر أهل مكة بين صحابي مهاجر أو أسلم وهو في مكة ينتظر قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .وتلك آية في بركات البيت الحرام ودعاء إبراهيم [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( )، وجاء قول النبي أعلاه لتيسير الفتح، وجعل الكفار مشغولين بالهزيمة والفرار الشخصي، وإظهار حرمة البيت الحرام وكأنه يستقبل الإسلام بالضرب على أيدي الكفار وإمتلاء قلوبهم بالفزع.
قانون الصدّ عن البيت فتنة
من الفتنة التي يريدها الكفار صد المسلمين عن البيت الحرام، وإرتداد عدد من المسلمين.
فجاءت آية البحث بالأمر بقتال الكفار وهذا الأمر يحمل على الوجوب، وفيه زجر للكفار عن صد المسلمين عن البيت الحرام.
ولما أمر الله عز وجل أن يتموا الحج والعمرة، والكفار يحاولون صدهم وإشغالهم عن البيت الحرام فقد يقع قتال كمقدمة لأداء الحج والعمرة , وهل هو قوله تعالى[وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ] ( ) كما في آية السياق المختار لا ، بدليل صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن أداء العمرة في صلح الحديبية ، ورجوعهم إلى المدينة ثم عودتهم في العام التالي لأداء عمرة القضاء ، ولأن قتال ومكر الكفار في المسجد الحرام مانع دونه.
وفي قوله تعالى [فَإِنْ انتهوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، بشارة النصر والظفر ودحر قوى الكفر وارجاع كيد الظالمين الى نحورهم ولا يعني هذا انحسار الكفر وانعدام مفاهيم في الأرض بقرينة قوله تعالى [فَإِنْ انتهوا]( ).
أي عن العدوان ويكفي سيادة الإسلام وظهوره وإمكان أداء المسلمين لعباداتهم وتعاهد مجتمعاتهم وحفظ ممتلكاتهم واقرار الآخرين بهم كأمة، وحينئذ يستطيع المسلمون بث دعوتهم والتوجه الى عامة الناس بتلاوة القرآن.
وبيان أحكام الرسالة التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فالملأ من الكفار يلجأون إلى القتال لصد عامة الناس عن الإسلام ومنع معرفتهم بالآيات فيأتي دفاع المسلمين وقتالهم لإزالة هذه الحواجز.
والأمر بالقتال مقيد ببدء الكفار له وكيفيته بالنسبة للمسلمين تنحصر بصيغ الدفاع في الميدان بل انه يحدد من اجتماع :
الأول : عدم حصول فتنة.
الثاني : أن يكون الدين لله وان يمارس المسلمون شعائرهم ويحجوا البيت الحرام.
الثالث : انتهاء الكفار عن القتال والتعدي على المسلمين.
وهذه الوجوه الثلاثة قد لا تتحقق بمجرد الدفاع وصد الكافرين إنما تستلزم الدعوة إلى الله بالحكمة والبرهان بدليل قوله تعالى [فَإِنْ انتهوا ] ( ) أي يبقى الناس على كياناتهم ولكن بشرط أن لا يعود الكفار الى التعدي على حرمات المسلمين ولا يلجأون الى صيغ المكر والتحرش بالمسلمين بما يسبب الفتنة وضعف المسلمين.
ومن مفاهيم الآية أن توجه المسلمين الى الدفاع ودخولهم ميادين المعارك يسبب تشتت قوى الكفر واختيار شطر منهم الكف عن مواجهة ومحاربة المسلمين سواء لما يظهره المسلمون من القوة ومواصلة القتال أو بما يبعثه الله عز وجل في نفوس الكفار من الفزع والخوف والرعب أو نتيجة الخسائر التي تلحق بهم أو بسبب رؤيتهم لآيات النصر وعزائم المسلمين وعشقهم للشهادة.
والأقوى إجتماع هذه الوجوه، فيميل قسم من الكفار الى الصلح كما حصل في بدايات معارك المسلمين مع الكفار، ويلجأ بعضهم الى الإعتزال فلا يبقى الا الأقل منهم وقد نعتهم القرآن بانهم ظالمون وظلمهم لأنفسهم، ولغيرهم وللدين، والآية تشير الى أن الدفاع يستلزم المبادرة الى ردعهم ومنعهم من التعدي ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
وقد تقدم أن هذه الآية لا تعني القتال والإرهاب ،إنما هي تمنع من الإرهاب في الأرض ، إذ ينحصر موضوعها بالإحتراز لزجر المشركين عن الهجوم فهي من أسباب عدم وقوع قتال بين المسلمين والمشركين وإذا توقف القتال برزت إلى السطح المعجزة ، ونفذت مضامين الآية القرآنية إلى شغاف القلوب ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
فان قلت قد ذكرت السورة أعلاه النصر فلابد من القتال.
الجواب قد نسبت الآية النصر إلى الله عز وجل وهو أعم من القتال ونتائجه ، بدليل أن الله عز وجل سمّى صلح الحديبية بالفتح قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) والنسبة بين الفتح والنصر عموم وخصوص مطلق ، فالتفتح أعم وأكبر وقد تم من دون قتال ، فمن باب الأولوية أن يأتي نصر الله من غير قتال ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
النسبة بين الفلاح والدفاع
من الإعجاز في نظم آيات القتال تقدم الفلاح عليها ، فلم يأت الأمر من عند الله [وَقَاتِلُوا] إلا بعد أن نزل الأمر بتقوى الله ، واقترن برجاء الفلاح والنجاح .
ومن إعجاز الدلالة في القرآن ابتداء آيات القتال بالحرف الواو ، وهو وإن قيل حرف استئناف إلا أنه لا يمنع من العطف أيضاً والمختار أنه حرف عطف واستئناف .
لقد قال النحويون أن الواو في قوله [وَقَاتِلُوا]حرف استئناف( ) .
وليس لأهل صنف من العلوم تقييد معنى الحرف أو الكلمة القرآنية ، ولو دار الأمر بين إطلاق المعنى أو تقييده فالأصل هو الإطلاق .
ولا أحد ينكر جواز الجمع بين الآية القرآنية والآية السابقة بل وجوبه واستقراء المسائل منه ، خاصة وأن نظم القرآن توقيفي مما يدل على تعدد الأسرار والخزائن في هذا النظم ، فمثلاً صلة الآية من جهات :
الأولى : صلة الآية بالآية السابقة لها .
الثانية : صلة شطر من الآية بالآية السابقة .
الثالثة : صلة شطر من الآية القرآنية بالآية السابقة .
الرابعة : صلة شطر من الآية بشطر من الآية السابقة.
وذات الوجوه الأربعة بالنسبة لصلة ذات الآية القرآنية بالآية التي بعدها ، فتكون الوجوه ثمانية .
ومنه على سبيل المثال قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).
والآية الوسط قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) وليس بينها وبين الآية السابقة لها حرف عطف كالواو أو الفاء ، ولكن العطف الموضوعي ظاهر وجلي لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وقد ابتدأت الآية بالاسم الموصول [الَّذِينَ] مما يدل على صلتها بالآية السابقة والتي ابتدأت أيضاً بذات الاسم.
فمن إعجاز نظم الآيات أن المهاجرين والأنصار لم يصابوا بالخوف وأسباب الفزع من المشركين ، وجاءهم الناس بالتخويف بعد أن استجابوا لله والرسول في الخروج للدفاع في معركة أحد ، ويدل قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] ( )، على قانون قتال المسلمين دفاع لأنه استجابة لله والرسول ، ولا يأمر الله عز وجل إلا بما هو رحمة بالمسلمين والناس جميعاً ، ولمصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فان قلت تتعلق الإستجابة في الآية أعلاه بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه خلف جيش المشركين الذين انسحبوا من معركة أحد بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزم المشركين على العودة للقتال والإغارة على المدينة لكثرة التلاوم بينهم في طريق العودة .
و(عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا.
فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فندب المسلمين، فانتدبوا) ( ).
وهل علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعزم قريش هذا بالوحي أم بالإخبار من الناس ، الجواب هما معاً ، إذ قدم إلى المدينة معبد بن أبي معبد الخزاعي ،وهو مشرك ولكن خزاعة سلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم .
(فقال: يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك. ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان وقريشاً بالروحاء، وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل)( ).
وخرج النبي إلى حمراء الأسد لإخافة المشركين ، وحينما عسكروا فيها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بجمع الحطب حتى إذا أرخى الليل سدوله أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوقدوا النار بأن يقوم كل رجل بايقاد نار بعيداً قليلاً عن أصحابه .
والمشهور أن عدد الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ مائتان ونيف ، ولكن هناك خبر ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري يدل في مفهومه على أن عددهم نحو خمسمائة .
(قال جابر: وكانت عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين جملاً حتى وافت الحمراء. وساق جزراً فنحروا في يومٍ اثنين وفي يومٍ ثلاثاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمرنا أن نوقد النيران. فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نارٍ حتى ترى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجهٍ حتى كان مما كبت الله تعالى عدونا)( ).
فحينما أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفير للخروج خلف جيش المشركين بادر الصحابة للإستجابة مع شدة جراحاتهم الذي يدل عليه قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ] ( ) .
وكان عددهم في معركة أحد سبعمائة واستشهد منهم سبعون .
وصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يخرج معنا من تخلف عن معركة أحد إلا أنه أذن للذين تخلفوا عنها بسبب عذر ، كما في جابر بن عبد الله الأنصاري نفسه ، إذ استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج بعد حبس أبيه له في معركة أحد للبقاء مع أخواته فاذن له الرسول .
وهل يحتمل الجمع بين المشهور من عدد المسلمين في كتيبة حمراء الأسد وبين ما ذكره جابر بن عبد الله الأنصاري وإرادة عدد وسط بينهما ، الجواب نعم ، مع ثبوت صحة السند ، ولم يشهد جابر بن عبد الله معركة بدر وأحد ، إذ كان أبوه يخلفه على أخواته وكان عددهن تسعاً( ).
لقد حرص الصحابة على الخروج مع النبي ومنه ما ورد عن ابن إسحاق قال (وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرهبا للعدو)( ).
وهل يختص قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ]بكتيبة حمراء الأسد ، المختار لا ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : الذين استجابوا لله والرسول في الخروج إلى معركة بدر.
الثاني : الذين استجابوا لله والرسول في الدفاع والقتال في معركة بدر .
الثالث : الذين استجابوا لله والرسول في الخروج إلى معركة أحد .
الرابع : الذين استجابوا لله والرسول في الخروج إلى حمراء الأسد .
الخامس : الذين استجابوا لله والرسول في أداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] ( ).
السادس : الذين استجابوا لله والرسول بالخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب لعلمهم بأن خروجهم إلى حمراء الأسد بالوحي والأمر من عند الله عز وجل .
السابع : الذين استجابوا لله والرسول في إتيان ما أمر الله ورسوله به ، وإجتناب ما نهى الله ورسوله عنه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ولا ملازمة بين الدفاع مطلقاً والفلاح ، إنما تختص ملازمة الفلاح بالدفاع عن النبوة والتنزيل والأنفس لذا ورد التقييد بأن يكون القتال في سبيل الله ضد أولئك الذين يقاتلون النبي وأصحابه.
وإن قيل تتضمن هذه الآية القتال مطلقاً وليس الدفاع وحده ، فاذا هجم الصحابة على قوم وقاتلهم هؤلاء فيجب قتالهم ، والجواب من إعجاز الآية ورود قيد آخر في ذات الآية وهو [وَلاَ تَعْتَدُوا].
ومن فضل الله عز وجل فتحه باب الفلاح للمؤمنين في الحياة الدنيا بأداء الفرائض وعمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا يغلق باب الفلاح ساعة واحدة على الناس.
قانون عمارة مكة سلام
من الإعجاز في قانون النبوة توالي بعثة الأنبياء وبشارة النبي والرسول السابق بالرسول اللاحق ، وقد جاءت بشارات الأنبياء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وزاد الله عز وجل عليه من فضله بقيام الرسل السابقين بالتوطئة لنبوته وتهيئة أسباب دعوته لأهل بلدته وبلدات وقرى كثيرة من أول إعلانه لبعثته من غير أن يتنقل ويطوف بين القبائل أو يرسل رسلاً إليها .
إذ أمر الله عز وجل آدم وحواء بالتوجه إلى مكة وبناء البيت الذي أعانه جبرئيل في إنشائه ليحجه آدم .
(عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . أن آدم عليه السلام قال : أي رب أني أعرف شقوتي لا أرى شيئاً من نورك بعد ، فأنزل الله عليه البيت الحرام على عرض البيت الذي في السماء وموضعه من ياقوت الجنة ، ولكن طوله ما بين السّماء والأرض ، وأمره أن يطوف به فأذهب عنه الهم الذي كان قبل ذلك ، ثم رفع على عهد نوح عليه السلام)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (قال: لما أفاض آدم عليه السلام من عرفات تلقته الملائكة فقالوا له: بر حجك يا آدم أما إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام) ( ).
ثم تفضل الله عز وجل وجعل إبراهيم يُسكن إسماعيل وأمه في مكة وكان إبراهيم يدرك أن سكنهما بجوار البيت الحرام مما يدل على أنه موجود حينئذ ، كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
وتبين الآية شمول السكن لطائفة من ذرية إبراهيم ، وأن علة هذا السكن إقامتهم الصلاة.
وتفيد صيغة الجمع التي تدل عليها واو الجماعة [لِيُقِيمُوا] على الإعجاز في نبوة إبراهيم عليه السلام وأنه لا يقصد سكن إسماعيل وحده بل إنه يدرك نجاة إسماعيل وزواجه وتكاثر ذريته.
وهل في الآية شاهد على سلامة إسماعيل من الذبح ، قال تعالى [فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ *فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ]( ).
هذا على فرض أن إسماعيل عليه السلام هو المقصود في الآية ، وهو المختار وليس إسحاق .
وجاءت بشارة أخرى لولادة إسحاق بحضور سارة ، كما ورد في التنزيل [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ] ( ) لبيان فضل الله عز وجل بتعدد البشارة لإبراهيم ، وكان عمر إسماعيل حين ولد إسحاق أربع عشرة سنة ، وفي التوراة :
(22: 9 فلما اتيا الى الموضع الذي قال له الله بنى هناك ابراهيم المذبح و رتب الحطب و ربط اسحق ابنه و وضعه على المذبح فوق الحطب
22: 10 ثم مد ابراهيم يده و اخذ السكين ليذبح ابنه
22: 11 فناداه ملاك الرب من السماء و قال ابراهيم ابراهيم فقال هانذا
22: 12 فقال لا تمد يدك الى الغلام و لا تفعل به شيئا لاني الان علمت انك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني
22: 13 فرفع ابراهيم عينيه و نظر و اذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه فذهب ابراهيم و اخذ الكبش و اصعده محرقة عوضا عن ابنه) ( ).
لقد كانت عمارة مكة معجزة مكانية من بديع صنع الله متجددة كل يوم إلى يوم القيامة ، وهل من صلة بين قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، وبين بناء بيت الله ، وعمارة مكة ، وأحكام الحرم وما فيها من سنن الأمن والسلام ، الجواب نعم ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات لتعاهدها.
قانون التباين في غاية القتال
لقد كانت الغاية من القتال متباينة ومتناقضة، فالمسلمون يقاتلون لأمور:
الأول : لا يقاتل المسلمون إلا دفاعاً وفي سبيل الله.
الثاني : الثبات على الهدى والإيمان.
الثالث : درء الفتنة وطرد أسباب الشرك من الأرض، قال تعالى[قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( ) وتقدير الآية : قاتلوهم إن غزوكم وهجموا عليكم ، أما الذين ينوون الهجوم على المدينة فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتوجه إليهم لتفريق جمعهم ومنعهم من إعادة محاولة الهجوم ومقدماته .
الرابع : هداية الناس للإيمان، وهل يشمل هذا القصد الكفار الذين يقاتلون المسلمين، الجواب فيه وجوه:
الأول : يشملهم جميعاً.
الثاني : تتغشى إرادة الهدى طائفة منهم، قال تعالى[فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
الثالث : الكفار الذين يقاتلون المسلمين خارجون بالتخصيص عن مسالك الهدى ومعرضون عنها .
والجواب هو الأول، فالمسلمون يقاتلون الكفر والضلالة من أجل هداية الناس جميعاً، ومنهم ذات الكفار الذين يقاتلون المسلمين، وهو من مصاديق لغة العموم في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) .
فليس من فرد أو جماعة يخرجون بالتخصص أو التخصيص من مصاديقالرحمة التي تغشت الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وليس من حصر للشواهد على دخول الكفار المقاتلين في الإسلام وحسن إسلامهم، وهو من مصاديق تعدد وجوه ومصاديق خروج المسلمين للناس بالإيمان وحسن السمت ، وقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجافَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
ومن اللطف الإلهي في الآية أنها تمنع بلغة الحرمة التعدي ، وتبعث المسلمين على أمور :
الأول : الإحتراز بالتقوى أوان الحرب والقتال .
الثاني : التنزه عن القتل بغير حق .
الثالث : العصمة من الغدر والسرقة والظلم.
وبالإسناد عن ابن عُمَرَ قَالَ وُجِدَتِ امرأة مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ كتائب رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ)( ).
بحث عقائدي
لقد بعث الله سبحانه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، وقد شاعت في الجزيرة عبادة الأوثان، وهي جمع وثن أي الصنم المصنوع من الخشب أو الحجر أو الفضة ونحوها، وفرق بعضهم بين الوثن والصنم، فالوثن ما له جثة على صورة الآدمي أو غيره يعمل وينصب للعبادة، والصنم صورة بلا جثة، وقيل انهما بمعنىً واحد.
لم يرد لفظ (وثن) بصيغة المفرد في القرآن وورد بصيغة الجمع وبلغة الإنذار والوعيد في ثلاث آيات وهي :
الأولى : قوله تعالى [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]( ).
وفي الآية إنذار وزجر للعرب عن عبادة الأوثان أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتذكير بقانون من أيام إبراهيم عليه السلام وهو التضاد بين حج البيت وتقديس الأوثان.
وجاءت الآية بصيغة [اجْتَنِبُوا] لبيان المعنى الأعم من عبادة الأوثان فيشمل التوسل إليها ، ونصبها ، واتخاذها وسيلة في الدعاء ، والنذر لها ، وإيذاء الذي يقوم بتكسيرها وهدمها ، بل وشتمها.
وأخرج عن محمد بن كعب القرظي (كان لآدم خمسة بنين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فكانوا عبّاداً فمات رجل منهم ، فحزنوا عليه حزناً شديداً.
فجاءهم الشيطان ، فقال : حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا : نعم.
قال : هل لكم أن أصوّر لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه.
قالوا : لا نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئاً نصلي إليه.
قال : فأجعله في مؤخر المسجد . قالوا : نعم فصوّره لهم حتى مات خمستهم فصوّر صورهم في مؤخر المسجد وأخرج الأشياء حتى تركوا عبادة الله وعبدوا هؤلاء ، فبعث الله نوحاً فقالوا [لاَ تَذَرُنَّ وَدًّا]( )، إلى آخر الآية)( ).
ولم يثبت هذا القول ولم يرفعه محمد بن كعب القرظي وهو من التابعين ، ومنسوب إلى بني قريظة ودخل أبوه الإسلام ، وهو من حلفاء الأوس بن حارثة ، يكنى أبا حمزة.
وروى محمد بن كعب القرظي عن الإمام علي عليه السلام( ).
وليس من دليل بدبيب الشرك وعبادة الأصنام إلى أولاد وأحفاد آدم ، الذي غادر الدنيا وقد بلغت ذريته نحو أربعين ألفاً ، وهناك أحقاب بين آدم ونوح عليهما السلام .
وعن محمد بن كعب القرظي قال (كان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود من المهاجرين، وسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة مولى لهم ليس من المهاجرين)( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
وجاءت كل من الآيتين أعلاه في جهاد إبراهيم عليه السلام ضد عبادة وتقديس الأصنام.
ولقد كانت عبادة الاوثان منتشرة بين عرب الجزيرة، ومن اهم اسبابها انهم يقدســون اشـــخاصاً وزعماء لهم فلما ماتوا صنعوا لهم تماثيل واصــناماً وعكــفوا عليها تكــريماً وتقديساً واجلالاً، ثم اتجهوا صــوب التعـدد الفرعـي لها فاوجــدوا نموذجــاً مصــغراً لها في كل بيت من بيوتهم تعلقــاً وتخفيفاً عن انفسهم من عناء زيــارتــها.
ثم لم يلبثــوا حتــى اتخــذوا منها آلهةً مســتقلة واعرضوا بســببها عن عبــادة الله الذي خـلقــهم وتـركـوا الحنيفيــة، وبذلك كـفــروا وجحدوا واضــلــوا كـثــيراً من الناس وحــرمــوهم من الثواب وعرضوهم وانفسهم للعقاب.
فكانت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم انقاذاً لهم من الضلالة ونجاة من الهلاك ورحمة مهداة، وقيل أن بعض من اولئك كانوا يحزنون لموت ذويهم تمثل لهم الشيطان وقال لهم: (صوروا موتاكم وضعوا صورهم في بيوتكم فاذا اشتقتم لهم فزوروهم في بيوتكم ففعلوا.
ولما جاء ابناؤهم وقد رأوا تقديس آبائهم لتلك الصور واشخاصها فظنوا انهم كانوا يعبدون تلك الصور وانها صور الآلهة، وسرى هذا الوهم والضلالة فتراهم يأبون قبول دعوة التوحيد بجحود واصرار [ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا أن كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ])( ).
ولم ينحصر الجهاد ضد عبادة الاصنام في مكة ويوم فتحها المبارك بل شمل مناطق أخرى من الجزيرة، وارسلت بعض السرايا خصيصاً لكسر بعض الاوثان.
وفي الآية توكيد على ما أداه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمل عظيم في هدم قيم وعقائد سائدة تحمل عناوين الشرك والضلالة والكفر في مجتمعات كبيرة وعديدة ومنتشرة في الأرض، وان الذي وفقه الله عز وجل لادائه لم تستطع أمة كاملة انجازه.
وتبين الآية أن وظيفة أصحابه وأنصاره من بعده إتباع نهجه المبارك وتثبيت مباديء الاسلام .
لقد بُني صرح خالد للاسلام وعليهم المحافظة عليه وتعاهده بالنفس والمال ووجوه الصبر والجهاد ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ان البشرية اليوم وغداً مدانة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجميع الأنبياء بالفضل والرأفة، وما قادهم اليه من سبل الفلاح والحياة الكريمة التي تتأطرها نعمة التوحيد، الأمر الذي يملي على الناس اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته التي هي من وجوه الوحي قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* أن هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، والعمل بالمبادئ السامية التي جاء بها في أبواب أصول الدين، والعبادة، والأخلاق والاجتماع وغيرها من وجوه الشريعة السماوية الخالدة ونبذ الإرهاب والتطرف.
ويتجلى هذا التكامل العام بقوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ولم يتم كمال الدين بالسيف والقتال ، إنما تم بنزول القرآن واجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في تثبيت معالم الإيمان ، ومنه الدفاع عن بيضة الإسلام وهذا المعنى لا يتعارض مع ما ورد بنزول هذه الآية يوم الغدير.
من أسرار ذكر أعضاء البدن في القرآن
قال تعالى بخصوص معركة الأحزاب [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
لقد تفضل الله عز وجل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )ونزل القرآن بتوثيق الأسماء بما فيه ارتقاء للمسلمين في العلوم والمعارف والتفقه في الدين ، ومنه ذكر أعضاء الإنسان في القرآن ، ومنها :
الأول : الرأس ، قال تعالى [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا] ( ) (1) .
الثاني : الجبين ، قال تعالى [فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ] ( ).
الثالث : العين ، قال تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ.
وقد فرق القرآن بين الحاسة وبين الإنتفاع منها ، قال تعالى [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ]( ).
الرابع : الأنف : قال تعالى [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) ( )
الخامس : الأذن : قال تعالى [وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ( ).
السادس : الفم ، قال تعالى [لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
السابع : الشفة ، قال تعالى [وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ]( ).
الثامن : اللسان ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ] ( ).
التاسع : السن ، قال تعالى [وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ] ( ).
العاشر : الخد ، قال تعالى [وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ]( ).
الحادي عشر : الحنجرة ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
الثاني عشر : الوجه ، قال تعالى [اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ]( ).
الثالث عشر : الرقبة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( ).
الرابع عشر :العظام ، قال تعالى [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ]( ).
وعدد عظام الإنسان البالغ (206) عظماً ومن بديع خلق الإنسان البالغ أن عدد عظامه عند الولادة هو 270 عظماً لتندمج بعضها.
الخامس عشر : الجلد ، قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ).
السادس عشر: البنان ،أي أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، والظاهر إرادة الأيدي لمنع المشركين من القتال ، وتجلي علامة برهان في أجسادهم يدعو عامة الناس إلى التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو عدم إنحصار منافع نزول الملائكة للنصرة بميدان المعركة إنما يستمر ويتصل خارجها بشواهد وأمارات تدل على نزولهم لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم المعركة وترغب الناس بالإسلام ، وتزجرهم عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ويبقى مصداق حسي يومي متجدد بين الناس لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ) .
وهذه الآية بخصوص معركة بدر ، و(عن أبي داود المازني قال : بينا أنا أتبع رجلاً من المشركين يوم بدر ، فاهويت إليه بسيفي فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه ، فعرفت أن قد قتله( ) غيري)( ).
السابع عشر : العنق ، قال تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] ( ).
الثامن عشر : الصدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ]( ).
التاسع عشر : القلب ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] ( ).
العشرون : الظهر ، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ] ( ).
الواحد والعشرون : صيرورة العظام بالية فانية يابسة تتفتت من القدم ، قال تعالى [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ] ( )وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد عن ابن عباس أنه قال ( جاء أُبيّ بن خلف الجمحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعظم نخر فقال : أتعدنا يا محمد إذا بليت عظامنا ، فكانت رميماً أن الله باعثنا خلقاً جديداً ، ثم جعل يفت العظم ويذره في الريح فيقول : يا محمد من يحيي هذا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم . يميتك الله ، ثم يحييك ، ويجعلك في جهنم ، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه }( ))( ).
الثاني والعشرون : اليد ، قال تعالى [وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ] ( )، كما ورد لفظ (أيديهما) بصيغة المثنى في القطع بسبب السرقة كما ورد بصيغة جمع المذكر السالم (ايدينا) (أيديهم) و(ايديكم) في مواضع متعددة وورد صيغة جمع المؤنث السالم ، قال تعالى [وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ]( ).
الثالث والعشرون : الذراع ، قال تعالى [ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ] ( )، وورد ذكر الذراع في الآية كوحدة قياس ، وفق متوسط ذراع الإنسان.
الرابع والعشرون : العضد ، قال تعالى [قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ] ( ) إذ كان موسى عليه السلام يخشى فرعون وسطوته، ويعرف سلطانه وبطشه من الصغر .
فأراد الله عز وجل تقوية قلبه (عن الضحاك قال : دعاء موسى حين توجه إلى فرعون ، ودعاء النبي عليه السلام يوم حنين ، ودعاء كل مكروب : كنت وتكون وأنت حي لا تموت ، تنام العيون وتكدر النجوم وأنت حي قيوم ، لا تأخذك سنة ولا نوم ، يا حي يا قيوم) ( ).
الخامس والعشرون : البطن ، قال تعالى [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
السادس والعشرون : الترائب وهو جمع التريبة ، قال تعالى [يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ]( )، والترائب عظام موضع القلادة من المرأة .
السابع والعشرون : الدم ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ]( ).
الثامن والعشرون : التراقي ، قال تعالى [كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي]( ) (الواحدة تَرْقُوَة، الأصمعي، الثُّغْرة الهَزْمة التي بينَ التَّرْقُوَتين وقيل هي التي في المَنْحَر) ( ) .
والتراقي هي العظام التي تحيط بحفرة النحر عن يمين وشمال ، جمع ترقوة .
(عن بًسر( ) قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين}( ) إلى قوله {كلا إنا خلقناهم مما يعلمون}( )، ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كفه ، ووضع عليها إصبعه ، وقال : يقول الله ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا ، حتى إذا سوّيتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق ، وأنى أوان الصدقة)( ).
ومن معاني مهطعين : مسرعين وقيل مديمي النظر.
التاسع والعشرون : الأمعاء ، قال تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ]( ).
الثلاثون : الصلب ، قال تعالى [يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ]( )، والصلب فهو (الظَّهر، وهو عَظمُ الفَقارِ المتصِّل في وَسَطِ الظَّهْرِ)( ).
الواحد والثلاثون : الجنب ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا]( ).
الثاني والثلاثون : القدم ، قال تعالى [وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
الثالث والثلاثون : الكعب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
واختلف في الكعبين على وجهين :
الأول : هما العظمان الناتئان في مفصلي الساقين .
الثاني : الكعب : العظم الناتئ من ظهر القدم يجري عليه الشراك ، وطرف الحذاء .
وسمي الكعب كعباً لإرتفاعه ، وقد ذكرته مفصلاً في البحث الخارج الفقهي في الحوزة العلمية أنظر كتابنا الموسوم كنوز الشرائع.
ويمكن أن يستدل على كل من الوجهين أعلاه بالتثنية الواردة في قوله تعالى [وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
الرابع والثلاثون : الرحم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الخامس والثلاثون : الأذقان ، قال تعالى [إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ]( ).
والأذقان جمع ذقن وهو طرف الوجه من الأسفل ، حيث منبت اللحية ، ومقحمون أي رافعوا رؤسهم إلى الأعلى لأنهم لايستطيعون طأطأة الرؤوس لوجود الأغلال تحت الذقن لتبعث هذه الحال الندامة في نفوسهم على جحودهم في الدنيا ، وعدم التوجه إلى الله عز وجل بالعبادة والذكر.
السادس والثلاثون : النواصي ، قال تعالى [يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ]( ).
السابع والثلاثون : الجناح وهو جنب الإنسان مستعار من جناح الطير ، قال تعالى [وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى]( ).
الثامن والثلاثون : اللحم ، قال تعالى [فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا]( ).
التاسع والثلاثون : الفؤاد : قال تعالى [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الأربعون : الأرحام ومراحل نشوء الجنين ، قال تعالى [وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ]( ).
ومن أسرار ذكر إعضاء البدن في القرآن مسائل :
الأولى : لما أخبر الله عز وجل عن جعله الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فانه سبحانه ذكره وأعضاء بدنه في القرآن.
الثانية : إكرام الله عز وجل للإنسان وهذا الذكر من عمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
الثالثة : بيان فضل الله عز وجل على الإنسان في بديع خلقه ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الرابعة : هذا الذكر المتعدد من مصاديق حب الله عز وجل للناس .
الخامسة : دعوة الإنسان لشكر الله عز وجل على نعمة الخلق وحسن الهيئة ، وتعدد النعم الإلهية عليه .
السادسة : دعوة الإنسان لتسخير أعضاء بدنه في طاعة الله عز وجل.
السابعة : زجر الناس عن الكفر والجحود ، ومفاهيم الضلالة.
الثامنة : جعل آيات خلق الإنسان مادة للإحتجاج في دعوة الناس للإسلام.
قانون الزواج والمساعدة فيه حرب على الإرهاب
قال تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) مما ينشغل طلبة البحث الخارج عادة بعلم الرجال ، وترجمة رواة الحديث وهو أمر حسن وفيه تنمية للملكة ، ولابد من العناية بالإستدلال بآيات القرآن وقتاً وكتاباً وجهداً ، ولا يختلف اثنان من العقلاء أن دراسة آيات الأحكام وعامة آيات القرآن والإستدلال بها أفضل من علم الرجال ، وأكثر ثمرة إذا تساوا في الوقت والجهة .
لذا فان بحثنا ثورة في تأريخ الحوزة العلمية باعطاء موضوعية ومساحة لآيات القرآن في البحث الخارج ، وقد رزقني الله عز وجل بضله ولطفه تأليف أحسن تفسير للقرآن وباب المقارنة ممكن ومتيسر .
وأعطي البحث الخارج في هذا المكتب في النجف الأشرف من سنة 1999 أي منذ أثنتين وعشرين سنة لفضلاء بلغوا المئات لا نزال نحتفظ بأسماء كثير منهم ، رحم الله الماضين ، وحفظ الله الباقين وزادهم بسطة في العلم .
وابدأ بحثي الخارج بآية قرآنية في الغالب سواء البحث الفقهي أو الأصولي أو في التفسير أو الأخلاق .
والأيامى : جمع أيم وهو الذي لا زوج له من الرجال أو النساء، ليكون الخطاب في الآية للذكور والإناث ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا انكحوا النساء اللاتي ليس لهن أزواج سواء البكر أو الثيب ، كن عازبات أو مطلقات أو أرامل .
الثاني : يا أيتها اللائي آمّن أنكحن الأيامى من رجالكم الذين ليس لهم نساء وارضين بالخطيب .
الثالث : يا أولياء النساء اللائي ليس لهن زوج ارضوا بالكفئ اذا جاء لخطبتهن .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا في نكاح الأيامى منكم .
وهو من المسارعة في الخيرات ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل تدل الآية على اشتراط إذن الولي .
وقال بالإذن من الولي في النكاح الإمامية ومالك والشافعي ، وخالف أبو حنيفة .
وقوله تعالى [مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ] ( )أي من غلمانكم وجواريكم ، أي ذكوراً وأناثاً ممن يصلح للزواج .
ومن إعجاز الآية صيغة الإطلاق في تزويج الأحرار ممن لا زوجة له بقوله تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ] ( )بينما اشترطت الآية الصلاح في العبيد والإماء لأن الذي ليس له صلاح وحسن خلق من الإرقاء لا خير فيه ، لتدعوهم إلى الإسلام والإيمان وإلى الصلاح وحسن السمت .
وتبين الآية عناية الإسلام بالعبيد وتأديبهم وإكرامهم بالنكاح والتناسل ، ومنعهم من الزنا وإرتكاب الفواحش ، قال تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ) .
واستدل الشافعي بالآية بأن السيد يجبر على تزويج عبيده ، أما مالك فقال : يجبر السيد عبده على النكاح .
وقوله تعالى [إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ] ( ) إرادة الزوج والزوجة لبيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو طلب الغنى بالنكاح .
وهل النكاح من سبل محاربة الإرهاب ، الجواب نعم ، وفيه سكينة وطمأنينة وسعادة بتكوين أسرة وحياة هانئة معها ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
وعن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع الله بينهما) ( ).
(عن سماعة بن مهران ، وعن الصادق ( عليه السلام ) قال : من زوج أعزبا كان ممن ينظر الله إليه يوم القيامة ) ( ).
وأختلف في حكم النكاح بلحاظ الأحكام التكليفية الخمسة على وجوه:
الأول : النكاح واجب على المسلمين ، وبه قال الظاهرية، وأن الذي يتركه آثم واستدلوا بالآية المتقدمة وقوله [وَأَنكِحُوا] لإفادة الأمرالوجوب إلا مع القرينة الصارفة واستدلوا بأن الزواج طريق للتنزه عن الحرام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وهل السنة النبوية تقيد إطلاق الآية ، الجواب نعم ، إذ وردت نصوص عديدة تفيد الإستحباب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)( ).
الثاني : النكاح مستحب وليس بواجب ، وبه قال الإمامية والمالكية والحنفية والحنابلة .
الثالث : الزواج مباح ، وبه قال الشافعي فلا إثم في تركه ، واستدل بأنه قضاء لذة ونيل شهوة فهو مباح كالأكل والشرب .
وورد عن الباقر عليه السلام قال (تزوجوا بكرا ولوداً ولا تزوّجوا حسناء جميلة عاقرا ، فإني اباهي بكم الامم يوم القيامة)( ).
الرابع : النكاح مستحب ، وقد يكون واجباً عند الخشية من الوقوع في الحرام .
إمتناع جماعة من قريش عن الخروج إلى معركة بدر
لقد تناجت قريش للخروج على عجالة إلى معركة بدر، ولم تكن هذه المناجاة عامة إذ كان بعض الرؤساء يعارضها ، واستمرت هذه المعارضة من وجوه :
الأول : في مكة عند الندب للنفير بعد أن جاء ضمضم بن عمرو رسول أبي سفيان يخبرهم بأن محمداً وأصحابه يريدون الإستيلاء على القافلة ، ولا أصل لهذا القول ، فمثلاً أجمع أمية بن خلف وهو من رؤساء قريش على القعود (وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا ثَقِيلًا ، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ بِمِجْمَرَةِ يَحْمِلُهَا ، فِيهَا نَارٌ وَمِجْمَرٌ حَتّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا أَبَا عَلِيّ اسْتَجْمِرْ فَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ النّسَاءِ ؟ قَالَ قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ مَا جِئْت بِهِ قَالَ ثُمّ تَجَهّزَ فَخَرَجَ مَعَ النّاسِ) ( ) .
فقتل في المعركة هو وابنه علي.
الثاني : المعارضة وسط الطريق ورجوع طائفة من بني هاشم إلى مكة.
الثالث : تصاعد الأصوات في جيش المشركين بالعودة عندما جاء رسول أبي سفيان وهم بالجحفة يطلب منهم العودة ، إذ أن قريشاً ساروا مسرعين يقصدون مياه بدر ، فسلكوا طريق وادي عُسفان ، ثم قديداً وحينما وصلوا الجحفة التي تبعد عن مكة (183)كم ، وهي ميقات أهل الشام ومصر وبلاد المغرب ومن يمر عليها في حج التمتع ، والعمرة المفردة.
إذ أن أبا سفيان عجل المسير إلى مكة بساحل البحر حتى أدرك أنه نجا وصار قريباً من مكة ولم ير أثراً للنبي وأصحابه أو عيونه أو طلائع له.
وصارت القافلة قريبة من مكة كتب إلى جيش قريش (أَنْ ارْجِعُوا ، فَإِنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ فَأَتَاهُمْ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَة ِ فَهَمّوا بِالرّجُوعِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَقْدَمَ بَدْرًا ، فَنُقِيمَ بِهَا ، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ الْعَرَبِ ، وَتَخَافُنَا الْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَشَارَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ عَلَيْهِمْ بِالرّجُوعِ فَعَصَوْهُ فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُو زُهْرَةَ ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا زُهْرِيّ فَاغْتَبَطَتْ بَنُو زُهْرَةَ بَعْدُ بِرَأْيِ الْأَخْنَسِ فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظّمًا)( ).
وعلى القول المستحدث في هذا التفسير وهو أن الأرجح رسالة واستنفار أبي سفيان ومن معه في القافلة ومنهم عمرو بن العاص كانت كيداً وإرادة لاشعال الفتنة وفتيل الحرب ، وفيه مسائل :
الأولى : إرسال أبي سفيان رسولاً الى قريش للخروج لمنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الإستيلاء على القافلة دراية وأمر ثابت بذاته وآثاره وهياج قريش بسببه .
أما خبر رسالة أبي سفيان يطلب من قريش الرجوع فهو رواية ، والدراية مقدمة على الرواية عند التعارض بينهما.
الثانية : هذه الرواية مشهورة والظاهر صحة خبرها لقيام الحجة على الذين كفروا ، ورواية ابن اسحاق لها مرسلة لم يذكر لها سنداً وهو من الشواهد على ضعفها ، قال ابن إسحاق .
(ولما رأى أبو سفيان بن حرب انه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش انكم انما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم واموالكم وقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل بن هشام والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان)( ).
الثالثة : في خبر أن بني زهرة اعتزلوا القتال في بدر ورجعوا يومئذ ، وفي قوله تعالى [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ]( )، أن المشركين كانوا يوم بدر (أَلْفًا، فَانْخَذَلَ عَنْهُمْ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ بِبَنِي زُهْرَةَ فَصَارُوا سَبْعَمِائَةٍ أَوْ نَحْوَهَا)( ).
الرابع : حصول جدال وخصومة في الطريق وعودة نفر من بني هاشم وجماعة منهم طالب بن أبي طالب الذي لم يصل إلى مكة ولم يعلم خبره.
الخامس : لقد كانت قريش تتابع أخبار القافلة وتقدر عدد الأيام التي تصل فيها إلى مكة ولابد وأن علم جيش قريش المتوجه إلى بدر من الركبان وأهل القرى بسلامة القافلة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يسيرون نحو بدر ، فلا يتعلق الأمر برسالة من أبي سفيان.
قانون تقييد قتال المسلمين موضوعاً ومكاناً وزماناً
قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) .
لقد قيدت الآية الجهة التي يقاتلها المسلمون بأنهم الكفار الذين يقاتلون المسلمين، لقيد في سبيل الله .
وفيه نكتة عقائدية وهي أن الكفار يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، ويهجمون على المسلمين في عقر دارهم لإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فالكفار لم يقاتلوا النبي وأصحابه عن طمع ومغانم فليس عند المسلمين منها شئ ، أو لعصبية قبلية .
والمسلمون مجتمعون من ذات القبائل العربية والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أوسطهم ، وهم لا يحاربون أو يقاتلون لخصومة وخلاف قبلي إنما قاتل وهجم الكفار لغايات :
الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إرادة الكفار الإقامة على تقديس الأصنام ، وهل إدعاء الكفار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبّ آباءهم لأنهم يعبدون الأصنام لإتخاذ هذا السبّ ذريعة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والهجوم على المدينة .
الجواب لا ، ثم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسّب آباء المشركين ، إنما نزلت آيات القرآن بذم عبادة الأوثان وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
الثالث : حب التعدي وإثارة الفتن والغرور بكثرة الأموال التي عند قريش ،لذا حينما نهى الله عز وجل المسلمين عن التعدي ذكر قانوناً من الإرادة التكوينية مصاحباً للحياة الدنيا ، وهو بغض الله للمعتدين مجتمعين ومتفرقين ، إذ قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الرابع : سعي كفار قريش لوقف التنزيل ، ليكون نزول القرآن على نحو النجوم وتوالي نزول الآيات والسور تحد للكفار ، وإخبار سماوي بسلامة النبي من القتل أو الموت إلى حين تمام نزول القرآن .
إذ كانت آيات وسور القرآن تنزل تباعاً وعلى التوالي وبلحاظ الأسباب والوقائع والأحداث ، فأرادوا منع التنزيل وما فيه من فضح للكفار .
واستمرار نزول آيات القرآن في ثلاث وعشرين سنة مدة البعثة النبوية من مكر الله في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) لبيان قانون وهو أن مكر الله عز وجل لطف ورحمة وإحسان ، وصرف للأذى والضرر والكيد والمكر الخبيث .
ولم يعلموا أن من أسرار حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من القتل هو نزول القرآن نجوماً من حين أول البعثة إلى يوم مغادرته الحياة الدنيا إلى الرفيق الأعلى .
لذا كان من آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) إذ تجمع الآية القرآنية بين الواجب والحرمة والرخصة والتفقه في الدين .
لذا إستحق الكفار القتل الذي جاءت به الآية التالية بقوله تعالى[وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( )، وفيه تخويف وزجر للخصم الذين أخرجوا المسلمين من مكة ظلماً وقهراً ، وأصروا على قتالهم بعد الهجرة .
ومن اللطف خاتمة الآية التي تدل على سعي المسلمين في مرضاة الله وبذلهم الوسع في حبه تعالى .
وعدم التعدي خير محض وإحسان للذات والغير، وهو من مصاديق التقوى والخشية من الله عز وجل، قال تعالى[بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
وتضمن قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( )، الأمر بقتل خصوص الكفار الذين هجموا ويهجمون على المدينة أينما وجدوا.
وجاءت آية السياق ببيان علة القتال وهي المنع من الفتنة ووقف هجومهم وإستدامة الشرك، والضلالة.
وبعد أن جاءت آية البحث بالأمر الصريح بالدفاع ، جاءت آية السياق والآية السابقة لها بقوله تعالى[فَإِنْ انتهوا ] ( )، وفيه آية في نظم القرآن وما يتضمنه من تأديب المسلمين، ومنعهم من التعدي بالنص والواسطة بقوله تعالى[وَلاَ تَعْتَدُوا] ( ).
ويفيد الجمع بين هذه الآيات إجتناب قتال وقتل الكفار الذين يكّفون عن قتال المسلمين، والذين يتوبون منهم، وقيل(فان انتهوا ) أي (امتنعوا من الكفر وأذعنوا للإسلام)( ).
والقدر المتيقن إمتناعهم عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
وجاءت خاتمتا الآيتين بالوعيد والإنذار للكفار الذين ظلموا أنفسهم ، وأصروا على غزو المدينة ، وتعدوا على الحدود، وقابلوا معجزات النبوة بالجحود والصدود، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
قانون نصر الله بخذلان المشركين وهدم الأصنام
لقد جمع قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) عونه ونصرته ويتخلف أي ناصر عنه ولو اجتمعت الخلائق على نصرة طرف وأراد الله عز وجل نصر طرف آخر لا ينتصر الذي أراد الله نصره .
وهل من ولاية الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نزول الملائكة لنصرتهم ، الجواب نعم ، وتتقوم الحياة الدنيا بقانون نصرة الله عز وجل لأهل الإيمان ، وخذلانه للذين كفروا .
وابتدأت الآية بحرف الإضراب (بل) وهو يفيد معنى القطع بولاية ونصرة وإعانة الله عز وجل للمسلمين .
وآية [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) من آيات معركة أحد لبيان التباين في ميدان القتال ، فقد يظن أن النصر للأكثر عدداً وعدة وهم المشركون ، فجاءت آية البحث لبيان أن النصر بالعون والمدد من عند الله عز وجل لأهل الإيمان ، وفيه شاهد بأن آيات الدفاع على وجوه :
الأول : نشر ألوية السلام .
الثاني : بعث السكينة في قلوب المسلمين والمسلمات .
الثالث : إصابة الذين كفروا بالوهن والضعف قبل أن يقع القتال بابتلاء قلوبهم بالخوف والرعب ، إذ تخبر الآية أن قلوب العباد بيد الله عز وجل وأن مشيئته تنفذ إليها وتجعلها كيف يشاء .
وهل يدل إلقاء الله عز وجل الرعب في قلوب الذين كفروا في مفهومه على أن الله عز وجل يلقي القوة والمنعة في قلوب المؤمنين ، ويلهمهم الصبر والتحمل.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق الآية السابقة ، وذكرها لولاية الله للذين آمنوا ونصرته لهم .
لبيان قانون وهو إنفراد الله عز وجل بتعدد وكثرة صيغ النصر كماً وكيفاً ، فتارة تأتي بصدّ المشركين وإخافتهم ، وأخرى بتقوية عزائم المؤمنين وكثرتهم ، وإبتلاء المشركين بالنقص في الأموال .
ترى لماذا لم ينزل الله الفقر المدقع بقريش عندما حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب لقد ابتلاهم الله عز وجل بتعطيل التجارات وكثرة الديون ، والإنفاق على القتال والإستعداد له ، لتكون سبلاً لإصابتهم بالفقر إن أصروا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدمت شواهد ولكن بعثته [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
فقد أذن الله عز وجل له بفتح مكة بعد نقض قريش بنود صلح الحديبية ، وتجلت نصرة الله عز وجل يومئذ بعدم وقوع قتال يعتد به لإزاحة الأصنام عن البيت الحرام ، وكانت تلك الإزاحة ضرورة لإصلاح المجتمعات ، ونزول البركة ، وشيوع سبل الهداية والرشاد .
ومع أن المشركين هم الغزاة في معركة أحد فان تلك المعركة من مقدمات صلح الحديبية ، ومع وقوعها على مشارف المدينة فانها طريق لفتح مكة ، وإقامة الصلاة في المسجد الحرام وإلى يوم القيامة من غير خوف أو خشية بين الرعب والخوف في معركة أحد .
أجزاء الصلة
من خصائص القرآن قانون أن ذخائر كنوزه التي لم تستقرأ أكثر من التي استقرئت واستخرجت ، وهل ينقطع هذا القانون ، الجواب إنه ثابت ومتجدد كل يوم إلى قيام الساعة ، وهو من الشواهد على إعجازه وصدق نزوله من عند الله عز وجل ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وقد صدرت لي أجزاء متعددة بالصلة بين آيتين متجاورتين وهي:
- الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
- الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
- الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
- الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
- الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
إلى جانب مبحث في سياق الآيات في تفسير كل آية من آيات القرآن التي قمت بتفسيرها.
ومع صدور الجزء الواحد والثلاثون بعد المائتين من تفسيري للقرآن فلا أزال في تفسير الآية (189) من سورة آل عمران ، وقد اختص بتفسيرها الجزء السادس والعشرون بعد المائتين والحمد لله ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وفيه شاهد على العطف والإتصال بين مضامين آيات القرآن.
وسأقوم ان شاء الله باحصاء واو الإستئناف في القرآن حسب الصناعة النحوية ثم أبين كيف أنها تفيد العطف والإستئناف مجتمعين إلا ما تجلى فيه العطف أو الإستئناف وحده.
وأقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح لكتبي بمفردي والحمد لله ، وكثير من كتبي الفقهية والكلامية لا زالت مخطوطة ، ومنها مجلدات خاصة بتدريسي في الحوزة العلمية الشريفة منذ نحو ثلاثين سنة.
قيود القتال في آية واحدة
لقد ملأ الله عز وجل الدنيا وعالم الأكوان بالآيات والبراهين الدالة على ربوبيته وسعة سلطانه ، ومشيئته مطلقة غير مقيدة بشئ أبداً .
ومن معاني المطلق هو الماهية بلا قيد وقد تفضل الله سبحانه بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لا ينافسه أو يزاحمه جنس آخر ، نعم جعل الله عز وجل هذه الخلافة مقيدة ومحدودة لبيان قانون وهو صبغة التقييد في عالم الإمكان ، والمقيد في الإصطلاح هو ما طرأ عليه عارض يمنعه من الشيوع.
ولم يطلق الله عز وجل للإنسان خلافته وأعماله إنما هو مقيد في وجوب عباداته ومعاملاته ، وفي يومه وليله ، وبعد هذا لابد وأن يغادر الدنيا قهراً .
ومن الآيات عجز الإنسان عن معرفة أوان مغادرته الدنيا ، ليكون هذا العجز سبباً لعمله وفق القيود الشرعية والأخلاقية ، ومن وجوه التباين بين الخالق والمخلوقين الإطلاق في ملك ومشيئة وسلطان الله عز وجل وهو سبحانه الأول والآخر ، والحي الذي لا يموت.
أما المخلوق فهو محتاج وفقير ومحدود العمر ، ثم يقف بين يدي الله عز وجل للحساب ، وبه جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليغتنم الناس الدنيا وأداء الفرائض فيها ، ولكن المشركين شهروا سيوف الغدر والجهالة عليه ، فلم يبح الله عز وجل له القتال ابتداءً ، ولم يطلق يده فيهم ، إنما أمره بالصبر ، وقيد دفاعه بشروط وقيود عديدة ومنها آيات السلم والموادعة ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وتدل هذه الآية بالدلالة التضمنية على أن المشركين هم الذين يبدأون القتال وهم الذين يقومون بالهجوم والغزو ، ومن قيود الآية الكريمة [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وجوه :
الأول : مع أن الأمر (قاتلوا) يتضمن النص على وجوب القتال فانه لا يدل على الأمر بالغزو أو الهجوم على الغير ، لتأتي مضامين ذات الآية بيان ماهية القتال وأنه دفاع محض.
الثاني : حصر قتال المسلمين بأنه في سبيل الله ، وليس للدنيا ومصالحها ، ولا للثأر والإنتقام.
وهل يمكن القول أنه ليس في سبيل رسول الله ، الجواب إن الدفاع عن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته وتوالي ما ينزل عليه هو في سبيل الله.
إنما يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ممن يتوجه إليه الخطاب في ذات الآية وتقديرها : يا أيها الرسول قاتل في سبيل الله ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الإمتثال لآيات القرآن ، لبيان وجوب تنزهه عن الإنتقام من قريش مع شدة أذاهم له ، وهذا التنزه من معجزاته الحسية ، حتى أنه لم يؤاخذ المشركين يوم فتح مكة على قتالهم له ، قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (ودافعوا) الجواب النسبة بين القتال والدفاع عموم وخصوص مطلق ، ومن الدفاع ما يكون مباغتة وخديعة ، ومنه قطع طريق الهجوم والغزو على المشركين ، لذا كان النبي محمد أحياناً إذا بلغه عن قوم أنهم يعدون العدة للهجوم على المدينة يسير إليهم ومعه أصحابه ليفرق شملهم فيكون سبباً لمنع حدوث القتال.
مما يدل على عدم إرادة الإطلاق في مناسبات وماهية القتال ، إنما لا يكون هذا القتال إلا عند الحاجة والضرورة.
الثالث : من مصاديق التقييد في سبيل الله ، حضور الضوابط الشرعية في القتال وعدم قتال غير المشركين لأنهم أعداء لله ولأن من وظائف النبوة جذبهم للإيمان ، وحملهم طوعاً أو كرهاً على هجران الكفر.
الرابع : من خصائص القتال في سبيل الله حال الطمأنينة وبذل الوسع في الدفاع وعدم وقوع خلاف بين المؤمنين ، ومنها إرادة الأجر والثواب ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ]( ).
الخامس : إنذار المسلمين من الإقتتال فيما بينهم ، فاذا كان كل فريق وطائفة لا تقاتل إلا في سبيل الله فانه لايقع بينهم قتال ، وهو من الإعجاز في ورود لفظ (سبيل) في الآية بصيغة المفرد .
وقد ورد لفظ (سبيل الله) سبعين مرة في القرآن ، وتتعلق بالتقوى والصبر والدفاع والإنفاق وذم الذين يحاربون النبوة والتنزيل .
ولم يرد لفظ (سبل الله) بصيغة الجمع في القرآن إنما قال تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ]( ) ، وفيه زجر أن الفرقة وتعدد المذاهب والإجتهاد خلاف النص .
كما ورد لفظ سبل بخصوص السلام بقوله تعالى [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
السادس : توجه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحصر قتالهم بخصوص الذين يقاتلونهم لبيان أن المشركين لم يقاتلوا المسلمين إلا لأنهم [قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( )، ليكون في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( )، مسائل :
الأولى : إرادة قصد القربة في قتال المسلمين المشركين .
الثانية : إقتران الأمر الإلهي بالقتال بالوعد بالنصر فحينما يأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار بالقتال ، ويخبرهم بعلمه بأن القتال في سبيله فلابد أنه ينصرهم ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، أي قد شكر الله قتالكم في سبيله ، فاشكروه بالتقوى .
وتجلى هذا الشكر بالنصر المبين على المشركين يومئذ ، ومن أسماء الله عز وجل الشاكر والشكور ، فان قلت هل تدل تسمية يوم بدر (يوم الفرقان) ( ) على هذا المعنى.
الجواب نعم ، فمن شكر الله عز وجل للمسلمين جعله يوم بدر يوم التمييز بين الحق والباطل ، وإظهار صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال ، وإلحاق الخزي بالمشركين.
الثالثة : لقد نزل القرآن لتأديب وتعليم المسلمين ، ومنع الإختلاف بينهم ، فاقام الله الحجة في هذه الآية بأن المسلمين لا يقاتلون إلا الذين يقاتلونهم ، وفيه زجر للناس عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لبيان أن الدعوة للإسلام ليست على نحو الإكراه والإجبار.
ويخرج قيد [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ) قيام المشركين بتعذيب الصحابة الأوائل في مكة لذا لم يأمر النبي يومئذ بقتال قريش إنما كان يدعو إلى الصبر ، ومنه قوله لعمار بن ياسر وأبويه وهم في التعذيب في بطحاء مكة ساعة الظهيرة (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة فَأَمّا أُمّهُ فَقَتَلُوهَا ، وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ)( ).
ومن مفاهيم الآية الكريمة وجوه :
أولاً : لا تقاتلوا أهل الكتاب .
ثانياً : لا تقاتلوا المشركين الذين لم يقاتلوكم ، فاذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أصحابه الذين تحت التعذيب للصبر والتحمل فمن باب الأولوية الصبر على المشركين الذين لم يقاتلوا المسلمين أو يقوموا بتعذيبهم.
ثالثاً : لا تقاتلوا الذين لم يقاتلونكم فان آيات القرآن ومعجزات النبوة تصل إليهم وتدخل بيوتهم وأيهما أكثر في جذب الناس إلى الإيمان المعجزة أم القتال ، الجواب هو الأول .
رابعاً : لا تقاتلوا إلا الذين يقاتلونكم ، فيكون قتالهم حجة عليهم ، وسبباً لهزيمتهم ولحوق الخزي بهم .
وعندما زحفت قريش بثلاثة آلاف مقاتل في معركة أحد وصاروا على بعد (5) كم من المسجد النبوي لحقهم الخزي ولم يحققوا أي غاية جاءوا من أجلها .
وتصدق مضامين آية البحث على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لهم ، إذ قاتلوهم في سبيل الله دفاعاً ، ولم يعتدوا ، فحالما انسحب المشركون تركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنهم .
وليكون قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) الذي نزل بخصوص معركة أحد شاهداً على العطف بين قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) وبين آية البحث ففي إنسحاب المشركين يوم أحد وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل فلاح ونجاح لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة.
ليكون من إعجاز هذه الآية بأن تتقي طبقة المهاجرين والأنصار الله عز وجل في السيرة ووجوه الجهاد ، والإمتناع عن قتال الذين لم يقاتلوهم ، فيتفضل الله عز وجل بالفلاح والتوفيق لكل المسلمين في أقطارهم المختلفة.
خامساً : بيان قانون وهو تغشي الأرض بالسلام والأمن ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل الناس يتناجون بلزوم ترك القتال ، فاذا كانت كل طائفة لا تقاتل إلا الذين يقاتلونهم لا يقع قتال .
سادساً : لقد كان العرب يتقاتلون كقبائل وعشائر بحمية الجاهلية ، فنزل القرآن بالأمر بالقتال في سبيل الله على نحو الحصر والتعيين، فأصطف المهاجرون والأنصار تحت لواء النبوة والتنزيل وانحصر القتال بأن يكون في سبيل الله ، وخال من التعدي والإضرار بالآمنين ، قال تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ).
سابعاً : تفقه المسلمين في الدين بالفصل والتمييز ومعرفة ضوابط القتال الدفاعي ومعاني في سبيل الله ، وهي مستقرأة من القرآن ، ومن مصاديق البيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ورود البيان والتقييد والتخصيص في ذات الآية التي تتضمن الأمر أو النهي ، كما في آية البحث إذ توجه الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالقتال ، وقيدت الآية القتال بوجوه .
ثامناً : بيان مصداق يومي متجدد لقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
قانون إبتداء هزيمة الإرهاب
لقد إبتدأت عمارة الإنسان للأرض بهبوط آدم وحواء إليها بعد الإقامة في الجنة برهة من الزمن ، لتكون معالم الجنة حاضرة في أنماط السلوك ، وتركة يتوارثها ذريتهما ، وحجة عليهم إلى يوم القيامة بأن هيئ لهم الله عز وجل مقدمات الأمن المقترن بالرزق الكريم والسعادة ، ولكن الشيطان أبى إلا الفتنة بين الناس ، وبدأ مبكراً باغواء قابيل بن آدم لقتل أخيه هابيل فيُسفك الدم في الأرض بغير حق .
لقد كان هذا القتل أول إرهاب في الأرض ، وصار قابيل نادماً وملأت قلبه الحسرة على عجزه عن دفن أخيه لتكون ندامته على قتله أعظم ، وفي التنزيل [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( ).
ومن خصائص هذه الندامة أنها زاجر عن القتل وموعظة للناس باجتناب البطش والإرهاب .
ولم يختص ذكر قابيل وهابيل بالقرآن ، بل نزلت به أيضاً الكتب السماوية السابقة لكونه أول قتل في الأرض ووقع بين أخوين قد نزل أبواهما من الجنة وكانا يخبران عن تفاصيل النعيم فيها ، وإنقطاع الملائكة إلى التسبيح والذكر.
وفي التوراة (4:1 وعرف ادم حواء امراته فحبلت وولدت قايين وقالت اقتنيت رجلا من عند الرب.
4:2 ثم عادت فولدت اخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم وكان قايين عاملا في الارض.
4:3 وحدث من بعد ايام ان قايين قدم من اثمار الارض قربانا للرب
4:4 وقدم هابيل ايضا من ابكار غنمه ومن سمانها فنظر الرب الى هابيل وقربانه.
4:5 ولكن الى قايين وقربانه لم ينظر فاغتاظ قايين جدا وسقط وجهه
4:6 فقال الرب لقايين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك.
4:7 ان احسنت افلا رفع وان لم تحسن فعند الباب خطية رابضة واليك اشتياقها وانت تسود عليها.
4:8 وكلم قايين هابيل اخاه وحدث اذ كانا في الحقل ان قايين قام على هابيل اخيه وقتله.
4:9 فقال الرب لقايين اين هابيل اخوك فقال لا اعلم احارس انا لاخي.
4:10 فقال ماذا فعلت صوت دم اخيك صارخ الي من الارض.
4:11 فالان ملعون انت من الارض التي فتحت فاها لتقبل دم اخيك من يدك)( ).
وفي انجيل لوفا (11: 49 لذلك ايضا قالت حكمة الله اني ارسل اليهم انبياء و رسلا فيقتلون منهم ويطردون.
11: 50 لكي يطلب من هذا الجيل دم جميع الانبياء المهرق منذ انشاء العالم.
11: 51 من دم هابيل الى دم زكريا الذي اهلك بين المذبح والبيت نعم اقول لكم انه يطلب من هذا الجيل)( ).
صلة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بالآيات السابقة
من معاني الجمع بين هذه الآية والآيات السابقة من سورة الفاتحة وجوه:
الأول : بسم الله مالك يوم الدين ، لبيان استحضار السلم لعالم الآخرة ، في واقعه اليومي.
الثاني : الحمد لله مالك يوم الدين ، لحضور الحمد لله في الآخرة ، وهو الذي ينفع الإنسان يومئذ.
الثالث : رب العالمين هو مالك يوم الدين ، وفيه إقرار بعظيم فضل الله ، وسعة سلطانه ، ترى ما هي النسبة بين الربوبية وملكية يوم القيامة.
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالربوبية أعم وأكبر والله مالك للدنيا والآخرة وما فيهما ، وقد ورد لفظ (مالك) مرتين في القرآن ، إحداهما في سورة الفاتحة ، والآخرى في قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]( ).
لبيان قانون وهو ليس من ملك يوهب أو يعطي في الآخرة لأحد من الناس أو الملائكة أو مطلق الخلائق.
وفيه بشارة وإنذار للناس جميعاً ، بشارة برحمة الله عز وجل لأهل الإيمان ، وإنذار للذين كفروا بعدم وجود شفيع ، ولا يمكن دفع بدل أو عوض كطريق نجاة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]( )، وهل تنقطع طرق النجاة يوم القيامة ، الجواب لا .
الرابع : الرحمن مالك يوم الدين ، وفيه بشارة العفو والمغفرة للمذنبين والمقصرين في الدنيا .
الخامس : الرحيم مالك يوم الدين ، وفيه لطف وبعث للسكينة في نفوس المؤمنين في كل زمان بأن رحمة الله تتلقاهم في الآخرة .
ومن خصائص أفراد هذا الجمع أن كل واحد منها شاهد على التوحيد ، وحرب على الشرك ، ومفاهيم الضلالة .
ومن دلالات الجمع بين آيات سورة الفاتحة بعث الخوف والفزع في قلوب الكفار ، ومنعهم من الظلم والتعدي بعد احتجاج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأنه يفسد في الأرض ويقتل بغير حق.
ومن إعجاز الآية إدراك الناس في كل بلدة وجود من يفسد ، ومن يعتدي ويقتل بغير حق.
وأجاب الله عز وجل الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : تفضل الله عز وجل ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
الثاني : نزول سورة الفاتحة في مكة في الأيام الأولى للبعثة النبوية الشريفة .
الثالث : إجهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بتلاوة سورة الفاتحة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، وإدراك الناس أنهم يقرأونها في كل ركعة من الصلاة اليومية.
الرابع : مجئ سورة الفاتحة أول سورة في رسم ونظم سور المصحف الشريف .
الخامس : تلاوة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني ، لبيان قانون وهو مصاحبة هذه السورة للناس إلى يوم القيامة.
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية.
ومن معجزاته في المقام سلامة هذه السورة وآياتها من الزيادة والنقيصة سواء في الكلمات أو الحروف أو الحركات ، ولا تنخرم هذه المعجزة بتعدد قراءة (مالك) و(ملك) وكذا قراءة (الصراط) و(السراط) لوجود النص بجواز التلاوة بكل منهما.
والأرجح تلاوة الحرف المرسوم في المصاحف ، والله هو الملك والمالك للدنيا والآخرة ، والقادر على التصرف فيهما على نحو مطلق ، فلا يمنعه أحد.
السادس : موضوعية ومنافع تلاوة سورة الفاتحة في تهذيب الأقوال وعالم الأفعال ، وهذا التهذيب مناسبة لإستحضار أسباب البشارة في الدنيا والآخرة ، فمن رحمة ولطف الله ترشح البشارة عن الإخبار بيوم الجزاء.
ولا تتعارض معاني البشارة في الآية مع لغة الإنذار والوعيد لذا كان الإمام علي بن الحسين إذا قرأ [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، يكررها ويكاد أن يموت، كما ورد عن الزهري( ).
وتتضمن كلمات وآيات سورة الفاتحة ثناء الله عز وجل على نفسه ، وبيان عظيم سلطانه وإنفراده في الملك ، لكي تكون تلاوة المسلم لهذه الآيات إقراراً منه بالمعاني الملكوتية والقدرة المطلقة لله عز وجل ، ليرجع العباد نواله ، ويسألوا فضله واحسانه.
ومن معاني التذكير بيوم القيامة زجر الناس عامة عن الإقتتال وعن الظلم والتعدي ، قال تعالى [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
البشارة في آية [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )
وهذه هي الآية الخامسة من سورة الفاتحة.
ومن إعجاز الآية جمعها بكلمات قليلة بين عبادة المسلمين لله واستعانتهم به سبحانه ، فمضامين الآية ومصاديقها الفعلية حاضرة في الواقع اليومي للمسلمين والمسلمات.
وفي الآية دعوة للمسلمين والمسلمات للشكر لله عز وجل على نعمة الهداية لعبادته والإستعانة به سبحانه في قضاء حوائج الدنيا والآخرة ، ولم تعين او تحدد الآية موضوع الإستعانة وأوانها مما يدل على صيغة الإطلاق ، وأن المسلمين يستعينون بالله ويلجأون اليه في كل أمورهم المعاشية وحال الأمن والسلم ، ودفع الوباء والبلاء.
ولقد قدمت الآية العبادة على الإستعانة مع إنحصارها بالله عز وجل وحده ، وفي هذا التقديم بلحاظ موضوع البشارة في الآية مسائل :
الأولى : وجوب العبادة ، وأولويتها ، وهي نوع طريق للبشارة.
الثانية : بيان تقوم الحياة الدنيا بعبادة الناس لله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالثة : بيان قانون وهو العبادة طريق قضاء الحوائج ، ولا يرفع الدعاء إلا من الذين يؤمنون بالله ، ولا يشركون به شيئاً ، قال تعالى [فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
لتكون تلاوة المسلمين لهذه الآية في الصلاة اليومية دعوة للناس بأنه إذا أردتم قضاء حوائجكم فاعبدوا الله وحده ولابد من ترشح مصاديق لفضل الله عز وجل على المسلمين والناس في كل يوم بسبب قراءة المسلمين لها جهرة واخفاتاً.
و(عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم . أن آدم عليه السلام قال : أي رب أني أعرف شقوتي لا أرى شيئاً من نورك بعد ، فأنزل الله عليه البيت الحرام على عرض البيت الذي في السماء وموضعه من ياقوت الجنة ، ولكن طوله ما بين السّماء والأرض ، وأمره أن يطوف به فأذهب عنه الهم الذي كان قبل ذلك ، ثم رفع على عهد نوح عليه السلام)( ).
الرابعة : يتجلى الإعجاز في هذه الآية من وجهين :
الأول : الإعجاز الذاتي ، وفيه مسائل :
الأولى : مضامين الآية مدرسة عقائدية متكاملة .
الثانية : من معاني تأخر الإستعانة في الآية ترتبها على العبادة ، وكأنها من الأصل والفرع.
الثالثة : بين العبادة والإستعانة من جهة العوالم الطولية أن العبادة في الدنيا أما الإستعانة فهي لقضاء حوائج الدنيا والآخرة .
الرابعة : جعل ذات العبادة نوع استعانة ، الجواب نعم ، ولكن أفراد الإستعانة أكثر وتشمل القول والفعل.
الخامسة : لغة الحصر والقطع بأن المسلمين لايعبدون إلا الله عز جل ، وهو عهد ووعد ، قال تعالى [الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ]( ).
السادسة : من معاني (الواو) في [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، الحال أي نستعين بك ونحن في حال الإنقطاع إلى عبادتك ، ومن مصاديق الإستعانة رجاء البشارة ، وتنجز وتحقيق مصاديقها.
الثاني : الإعجاز الغيري : وفيه مسائل :
الأولى : بيان موضوعية عبادة الناس لله عز وجل ، وأنها ضرورة.
الثانية : مجئ الآية بصيغة الجمع لبيان وحدة المسلمين في عبادتهم الله عز وجل ونبذ الشرك وهذه الوحدة هي من أسمى معاني الإتحاد والألفة وهي واقية من الإرهاب والظلم والتعدي ، وفيها دعوة للمسلمين والمسلمات للتعاون في أداء الفرائض وفي الدعاء والمسألة وقضاء الحوائج.
الثالثة : تدل الآية على تقديم العلم والفقاهة ، فقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ، وجعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار ، وملأ السموات والأرض بالآيات الكونية التي تجذبه الى الإيمان والهدى.
وتدل الآية على إقامة المسلمين على عبادة الله ، وتوارثهم هذه العبادة ، ولتكون تلاوتهم لهذه الآية كل يوم على نحو الوجوب العيني عصمة لهم من الشرك وإلى يوم القيامة .
الرابعة : استعانة المسلم بهذه الآية في الآخرة طلباً لرحمة الله ، وللشفاعة ، وهل تقوم ذات الآية بالشفاعة لمن يواظب على تلاوتها ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق البشارة في هذه الآية .
الخامسة : التسليم العام بغنى الله المطلق ، وان مقاليد الأمور بيده ، لعبادته وحده ، وللإطلاق في مصاديق الإستعانة ، لذا تقدم في الآية الثانية الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وهل قول الحمد لله من العبادة التي تذكرها الآية [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، الجواب نعم ، ليكون من فضل الله تحقق الشاهد للمسلمين على قولهم [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
السادسة : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً وسط قوم مشركين ينصبون ثلاثمائة وستين صنماً في البيت الحرام ويبيحون المعاصي الفردية كشرب الخمر والقتل ، والتي تستلزم المفاعلة بين طرفين كالزنا.
فنزلت آيات وسور القرآن المكية وهي تدعو إلى التوحيد ولا تقبل التقصير أو التهاون أو التفريط فيه فاستقبلها رؤساء الشرك واتباعهم بايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وحصارهم ، وبالإضرار بالصحابة الأوائل لتكون الآية إنذاراً وحجة على الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
وفيه بيان لقانون سلاح الصبر في المقام من العبادة ومن الإستعانة معاً.
فصحيح أن الآية تعطف الإستعانة على العبادة إلا أنها لا تمنع من وجود شواهد من الإمتثال تجمع بين العبادة والإستعانة ومنها الآية التالية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
لقد كان الصبر سلاحاً عبادياً لمواجهة الذين كفروا ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يلجأ إلى الغزو ولا اغتيال رؤساء الشرك ، وكان إذا جاءت جيوش المشركين لقتاله وإرادة قتله كما في معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة الخندق ، فانه يقف بين الصفين وينادي (قولوا لا اله إلا الله تفلحوا).
لبيان قانون وهو مجئ النبي بالبشارة في النشأتين ، ولم يبعث الله نبياً إلا وهو يحمل البشارات وأسباب السعادة في الدنيا والآخرة .
وهل في العبادة وقول [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] بشارة ، الجواب نعم ، فانه حرز وأمل ورجاء وأمل ، وفي التنزيل [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ]( ).
وهل تكون الواو للإستئناف في [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )، مثلما هي للعطف ، الجواب لا مانع منه ، وهو لا يتعارض مع كونها ، إذ أن الإستعانة مع الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل والتقيد بسنن العبادة سبيل لقضاء الحوائج ، ومن معاني الإستئناف اتخاذ الإنسان الإستعانة بالله عصمة وسلاحاً حاضراً في الليل والنهار ، وفي حال الإنتباه والغفلة واليقظة والمنام.
وقد يقال أن المسلم يسعى في أموره ومكاسبه ومعاملاته ويرجو فيها المدد والعون من عند الله عز وجل وهو غير العبادة كالصلاة والصوم.
ولكن الآية تدل على اقتران الإستعانة بالعبادة ، وأنها من رشحاتها ، والنسبة بينهما أحياناً هي العموم والخصوص المطلق ، خاصة وأن الإستعانة شاملة لأمور الدين والدنيا ، وقد تقدم الكلام في الجزء الأول من هذا السفر( ).
ومن الإعجاز في تلاوة كل فرد من المسلمين والمسلمات لقوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، سبع عشرة مرة عصمة من الإرهاب والتعدي والظلم ، وهي بشارة قضاء الحوائج ، وإزاحة الموانع عنه ، وتفضل الله عز وجل بتقريب النعمة البعيدة.
والآية دعوة للسلم والصلح والموادعة وتقديم تفويض الأمور إلى الله على الخصومة والقتال.
البشارة في آية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )
قانون التجاء المسلمين للدعاء بيان لمصداق لمضامين الآية السابقة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، إذ تتضمن آية البحث التضرع إلى الله من المسلمين بأن يعبدوا الله حق عبادته ، وبقصد القربة ، ومن غير تبديل أو تحريف لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وتبين الآية الإقرار العام من المسلمين أن الله عز وجل يرشد الذين آمنوا الى سبل الهداية والصلاح ، لذا لم يأت الدعاء والمسألة في هذه الآية إلا بعد إعلان المسلمين بأنهم يعبدون الله وحده ، ليكون سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم من مصاديق الإستعانة الذي ورد في الآية السابقة .
وتبين الآية أن المسلمين ليسوا طلاب دنيا إنما يسعون للغايات الحميدة ، وبسبل الخير والطرق التي تأذن بها الشريعة السمحاء.
وتبين الآية إقرار المسلمين بالضعف والحاجة إلى المدد من عند الله عز وجل.
ترى أين تكون البشارة في الآية ، الجواب من جهات :
الأولى : بيان الآية لوجود صراط مستقيم ، وسبيل هدى وفلاح.
الثانية : قانون تفضل الله بالهداية إلى الصراط المستقيم ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : من سنن الحياة الدنيا التضرع إلى الله عز وجل ، واللجوء إليه في حال الرخاء والشدة ، وأمور النشأتين.
الرابعة : من الصراط المستقيم حب الله عز وجل وأداء الفرائض.
الخامسة : ذات البشارة صراط مستقيم ، وكذا سؤالها من عند الله عز جل.
السادسة : بيان قانون وهو لا تستعصي على الله مسألة.
وهل طلب السلم والسعي إليه ، ونبذ العنف والإرهاب من الصراط المستقيم ، الجواب نعم .
لذا فان تلاوة كل مسلم ومسلمة لهذه الآية سبع عشرة في الصلاة اليومية واقية من الإرهاب ، وبعث للنفرة من التعدي والظلم والجور في النفوس .
ومن خصائص أحكام الشريعة الإسلامية ، عدم وقوف العبد عند الدعاء فلا يسأل الله عز وجل الهداية ويجلس من غير عمل وجهد إنما يواظب على أداء العبادات ، ويجتهد في الصالحات ، ويحرص على الإبتعاد عن المعاصي والنواهي ، وهو من مصاديق سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم ، والعصمة من طرق الضلالة والغواية .
ومن خصائص هذه الآية حضور مضامينها في عالم الآخرة ، لما تتضمنه من سؤال العبور على الصراط الذي جعله الله عز وجل على جهنم فلا يعبر إلا أهل الإيمان والصلاح ، ومن اختاروا التوبة والإنابة قبل فوات الأوان بمغادرة الدنيا فجأة.
وجاءت الآية الأخيرة من سورة الفاتحة [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]( )، لبيان أن أمماً فازوا بالهداية إلى الصراط المستقيم ، ونالوا معه النعم والمال والجاه ، وهذا الصراط من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( )، فالتوفيق والهداية إلى الصراط المستقيم رحمة على الذات والغير.
ومن البشارة في الآية أنها رجاء النعم التي تترشح عن الصراط ومع أن الصراط هو نعمة ، فانه يفتح الأبواب لنعم كثيرة في الدنيا والآخرة ليكون من معاني الآية التحدي بمصاديق النعم التي فاز بها المسلمون وأتباع الأنبياء من الأمم السابقة.
ومن الإعجاز في سورة الفاتحة بيانها لموضوعية ومنافع الدعاء في الهداية والصلاح.
وهل في تلاوة المسلمين لسورة الفاتحة كل يوم صرف لضروب القتال عنهم ، الجواب نعم.
وصرف القتال من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وكماً وكيفاً ، وقد يكون لمدة قصيرة أو طويلة ، وقد يبتلى العدو أو ينشغل عن القتال والهجوم ، فينقطع المؤمنون إلى قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ) ، وهو من وجوه الجمع بين آيات سورة الفاتحة.
وجاء صرف القتال عن المسلمين معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن إنقطع واستئصل الكفر من الجزيرة ، فبينما كان رؤساء الكفر من قريش يجمعون الجيوش وينفقون الأموال لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ثم أحد ، ثم الخندق ، وهم في نقصان من جهات :
الأولى : قتل عدد من رؤساء المشركين في كل معركة من معارك الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثانية : إصابة أموال المشركين بالنقصان وانتفاء البركة فيها وركوب الديون لذممهم سواء ديون ثقيف أو تجار الشام أولئك الذين يريدون تيسير سبل وطرق التجارة وقبض أموالهم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميل التجار وأرباب الأموال إلى ظهور رسالته ، وتوليه أمور الإمامة والحكم للتسليم العام بأنه لا يحكم إلا بالعدل والإنصاف ، ولا يأمر إلا بالهداية والرشاد.
فمن خصائص النبوة بعث الطمأنينة في قلوب الناس من النبي ومنهاجه والنسبة بين هذه الطمأنينة والرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وعموم وخصوص مطلق.
فهذه الرحمة أعم وأعظم وهي دعوة متصلة للناس لدخول الإسلام ولإجتناب قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدلالة هذه الآية على إدراك الناس قانوناً من الإرادة التكوينية وهو بعثة النبي محمد نعمة عظمى على أهل الأرض ، وتتجلى مصاديق هذه النعمة للناس على نحو يومي متجدد فحينما يتلو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كل يوم قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، فان الله عز وجل ينعم عليهم بهداية الناس إلى التدبر في المنافع والنعم العظيمة في الإسلام ومبادئه.
الثالثة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انحسار الإرهاب ببعثته ، واصابة المشركين بالوهن العام ، والعجز عن الإضرار بالناس لذا كان المستضعفون من أوائل الناس الذين دخلوا الإسلام.
ويفيد حرف الجر (من) أعلاه التبعيض لإفادة قانون وهو تعدد طبقات الذين دخلوا الإسلام في سني الدعوة الأولى فقد دخل رجال ونساء من قريش ، وعلية القوم ، وأول من أسلم خديجة بنت خويلد زوجة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وكانت صاحبة أموال تضارب بها في التجارة ، ولا يعني هذا أنها تزاول التجارة بنفسها ، وإنما بالوسائط ، وكان ابن أخيها حكيم بن حزام يتولى سؤون تجارتها ، وهو الذي اشترى لها زيد بن حارثة من سوق حباشة في مكة باربعمائة درهم بعد أن أصابه سباء من قبل خيل لبني القين بن جسر عندما كانت أمه سعدى بنت ثعلبة في زيارة لأهلها من بني طي.
ليخلد بسبب الإيمان المبكر للمستضعفين ذكر زيد في القرآن بالاسم قال تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً]( )، ويكون من أسباب نزول قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ]( ).
ويرد ذكره في السنة النبوية في شواهد ووقائع كثيرة ، وتؤلف عنه المجلدات ويرث ولده أسامة بن زيد منزلته عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت.
لقد طلبت خديجة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج في تجارتها إلى الشام لترى الصدق والأمانة والبركة.
(فرآه نسطور الراهب وقد أظلته غمامة فقال هذا نبي)( ).
وكان عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ خمساً وعشرين سنة ، ليتزوج خديجة بعدها بنحو ثلاثة اشهر ، و(كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة)( ).
ولم يجمع معها غيرها إلى أن غادرت إلى الرفيق الأعلى ولم يكن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تجارة خديجة هو الأول في حياته فقد خرج إلى الشام ، وعمره ثلاث عشرة سنة (فرآه بحيرا الراهب فقال احتفظوا به فإنه نبي وشهد بعد ذلك بثمان سنين يوم الفجار وذلك سنة إحدى وعشرين) ( ).
وكان أول من آمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام وهو ابن عمه وهما من اسمى بيوتات قريش.
الرابعة : دخول أفواج من الناس الإسلام ، فمن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الذين يقفون في الميدان محاربين له ، لا تلبث طائفة منهم أن تدخل الإسلام [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
إذ يرى الناس معجزاته ، ويدركون أنه على الحق ولم يبعث إلا لصلاح أهل الأرض ، وسلامة أبنائهم من الأخلاق المذمومة.
الخامسة : لقد حرص المشركون على عدم الإذن للمهاجرين بالمغادرة إلى المدينة إلا بعد أن يتخلوا عن أموالهم وبيوتهم لمنع الناس من الهجرة ، وللضغط الإقتصادي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنصار ، وأهل المدينة عامة .
وقد كانت قريش رجال تجارة ، ويعلمون أثر المعاش والإقتصاد ، وقد سبق وأن فرضوا الحصار الشامل على بني هاشم بين السنة السابعة والسنة العاشرة للبعثة النبوية.
وحينما خرج صهيب بن سنان الرومي من مكة مهاجراً يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودار الهجرة في المدينة اتبعه رجال من قريش ليردوه ، وحينما علم أنهم خلفه ، وصاروا قريبين منه (نثر كنانته ، وقال لهم : تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلاً ، والله لأرمينَّكم ما بقي لي سهم ، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء)( ).
لقد تفاجئوا بهذا الفعل الشجاع من صهيب ، وكانوا ينظرون إليه كمستضعف في مكة إذ أنه مولى لبني تيم بن مُره .
وولد صهيب في قرية من نينوى من العراق ، وعندما اغار الروم على منازل قومه أخذوه أسيراً ، ثم اشتراه رجل من كلب ، وباعه في مكة إلى عبد الله بن جدعان التيمي الذي اعتقه.
وكان صهيب صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة ، ولما بعثه الله رسولاً أسلم صهيب وعمار بن ياسر في ساعة واحدة ، أيام دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وكان كلاً منهما مستضعفاً في مكة فتعرضا لأشد التعذيب من قريش.
وحينما خرج رجال قريش خلف صهيب ظنوا أنه سيخاف ويفزع منهم ، ويعود معهم ، إلا أن الإيمان مدد وقوة غيبية.
فاستعد صهيب لقتالهم ونزل عن راحلته وتوعدهم وأنذرهم وعلى فرض وقوع المراماة والقتال بينهم فهل قتال صهيب هذا دفاع عن نفسه وعقيدته ، الجواب نعم.
فهو ليس عبداً لأحد ، ولم تنشغل ذمته بحق لقريش ، ويظهر أن صهيباً قد استعد لهذا الأمر واحترز لأهوال الطريق ، فنثر كنانته وهي وعاء من جلد يجمع فيها السهام ، وجعلها بين يديه ليرميهم بسهامه ، وإن لم تصبهم جميعاً بقتالهم بسيفه لتأكيد عزمه على الهجرة حقاً بسلامة دينه ولنصرة النبي محمد لبيان أن قريشاً كانوا يزاولون الإرهاب والتعدي والظلم ، والإجهاز على المستضعف.
ولما رآى النفر من رجال قريش عزم صهيب على الدفاع عن نفسه وحصر الأمر بين الهجرة أو الشهادة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( )، كفوا أيديهم عنه.
لقد أدركوا أنه لا يقتل إلا بعد أن يقتل عدداً منهم فمالوا إلى الإبتزاز وجددوا الإرهاب بصيغة أخرى .
(فقالوا له : لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك ونتركك ، فدهلم على ماله وتركوه)( ).
فتوجه صهيب إلى المدينة من غير خوف على نفسه ، وهو يأمل أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع التنزيل حتى إذا ما وصل إلى المدينة بادره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الكلمة المشهورة التي تتردد في كل زمان (ربح البيع ، ربح البيع)( ).
وهل شهرة هذه الكلمة من الربح الذي فاز به صهيب ، الجواب نعم.
وفيه شاهد بكثرة طرق الفوز في الدنيا والآخرة ومنها الهجرة بسلامة الدين ، وورد في لوط عليه السلام قوله تعالى [إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
بحث أصولي
ينقسم اللفظ تقسيماً إستقرائياً بلحاظ التعدد والإتحاد إلى قسمين:
الأول : العام وهو اللفظ الذي ينطبق مصداقه على جميع أفراد الموضوع أو الحكم.
الثاني : الخاص وهو اللفظ الذي يختص ببعض أفراد الموضوع أو الحكم.
وهناك قسمان في التخصيص والتعيين لبعض أفراد العام وهما :
الأول : التخصص وهو أن يكون اللفظ من أول الأمر العام غير شامل لفرد مخصوص من غير مجيء قرينة أو إستحضار ومؤونة زائدة.
الثاني : التخصيص : وهو إخراج بعض الأفراد من الحكم العام بدليل أو قرينة بعد أن كان اللفظ العام في الأصل شاملاً له , وقال ابن العربي : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة فبينا نحن ذلك إذا دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء فقال القاضي الزنجاني : من السيد.
فقال : رجل سلبه الشطار أمس وكان مقصدي هذا الحرم المقدس وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم فقال القاضي مبادرا : سلوه ـ على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم ـ ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا .
فأفتى بأنه لا يقتل : فسئل عن الدليل فقال قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه}( ).
قرئ ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم فإن قرىء ولا تقتلوهم فالمسألة نص وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل فاعترض عليه القاضي منتصرا لـلشافعي و مالك وإن لم ير مذهبهما على العادة فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ]( ).
فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه فإن هذه الآية التي إعترضت بها عامة في الأماكن والتي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول : أن العام ينسخ الخاص فبهت القاضي الزنجاني وهذا من بديع الكلام)( ).
ولكن عدم قتال الكفار في المسجد الحرام من المخصص وهو على وجهين:
الأول : إنه من المخصص المتصل بلحاظ الأمر الإلهي في الآية السابقة [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( )، الذي يفيد إرادة ما عدا الخاص من اللفظ العام الوارد في نفس الكلام.
الثاني : إنه من المخصص المنفصل بلحاظ قوله تعالى[وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
والمنفصل هنا هو المخصص الذي يأتي في كلام آخر وفي موضع ومناسبة غير موضع العام، ويكون أيضاً قرينة على إستثناء الخاص من العام.
ليكون النهي عن القتال في المسجد الحرام كالقرينة الصارفة عن العام والإطلاق ، فالقتال مقيد بحال قيام المشركين بالبدء بالقتال ، فإن قلت أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم(قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمّاهُمْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ)( ).
وكان هناك سبب وراء الأمر بقتل كل واحد منهم وقد تم قتل عبد الله بن خطل، الذي كان مسلماً وأئتمنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعثه مصدقاً، ومعه رجل من الأنصار ومولى له مسلم يخدمه (وأمر المولى أن يذبح له تيسًا ويصنع له طعامًا ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركًا)( ).
وأكثر الذين أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم حصلوا على الأمان، (وفر رجلان من قريش إلى بيت أم هانئ بنت أبي طالب قالت : فَدَخَلَ عَلَيّ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِي ، فَقَالَ وَاَللّهِ لَأَقْتُلَنّهُمَا ، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي ، ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَوَجَدْته يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ أن فِيهَا لَأَثَرَ الْعَجِينِ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشّحَ بِهِ ثُمّ صَلّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مِنْ الضّحَى ثُمّ انْصَرَفَ إلَيّ فَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا أُمّ هَانِئٍ مَا جَاءَ بِك ؟ فَأَخْبَرْته خَبَرَ الرّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيّ فَقَالَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ ، وَآمّنّا مَنْ أَمّنْت ، فَلَا يَقْتُلْهُمَا , قَالَ ابن هِشَامٍ : هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ)( ).
ثم أن موضوع وزمان قوله تعالى[وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] متأخر زمانه فآية التوبة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين .
أن أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل نفر مخصوص جاء قضية في واقعة، وفي الساعة التي أحلت له مكة والقتال فيها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : أن هذا البلد حَرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحِل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة)( )، إذ كانت دار حرب، لما يدل عليه الحديث الآتي، وهو دال على أن عدم قتال الكفار في المسجد الحرام من المخصص والإستثناء لأن تلك الرخصة لا تأتي مرة أخرى إلى يوم القيامة لبيان قانون عام في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو صرف القتال عنه وعن الناس إلى يوم القيامة لقانون وهو النبوة لطف.
آية (فان انتهوا)
من مفاهيم [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، حث المسلمين في حال انتهاء الكافرين عن القتال على التوجه إلى ميادين اخرى في العبادة والنسك وتنظيم الصفوف وترسيخ احكام الدين وقواعد الحلال والحرام وعدم الإنشغال بالكافرين بعد امتناعهم عن مواصلة القتال.
فمسؤوليات المسلمين كثيرة ومتعددة ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
والأحداث متعاقبة وقد ينتهي قوم عن قتال المسلمين ويبدأ آخرون باعداد العدة لقتالهم ، وفيه شواهد عديدة منها معركة حنين.
فمثلاً في فتح مكة تجلى عز الإسلام وازدياد قوة ومنعة المسلمين بدخولها وازيلت الأصنام، وفتح الطريق لإسلام القبائل العربية والإنطلاق من مكة نحو الجزيرة والعالم وكفت قريش يدها.
واعلن رؤساؤهم دخولهم الإسلام طوعاً أو كرهاً ولكن المكائد لم تنتهِ فاجتمع الملأ من قبائل قيس عيلان ومنهم هوازن وثقيف (وقالوا: قد فرغ محمد من قتال قومه ولا شيء يمنعه عنا.
في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بخصومته فانما اقتطع قطعة من النار، مما يعني ان الأكل بالباطل قد يكون عن طريق القضاء أيضا، فالآية تمنع من جعله حجاباً يستر الباطل وتفضح الذي يتخذ القضاء واخفاء الحقائق على القاضي سبباً في اطلاق يده في مال الغير.
قانون التقوى زاجر عن التعدي
التقوى طريق مبارك للدفاع في سبيل الله، وإدراك الحاجة إليه لإستدامة مصاديق الإيمان في الأرض .
لقد زحفت جيوش قريش من مكة إلى معركة بدر بذريعة تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلة أبي سفيان ، ولم يثبت هذا التعرض.
ثم أرسل أبو سفيان رسالة ثانية إلى قريش يخبرهم بسلامة القافلة وقربها من مكة ويطلب منهم الرجوع ولكن بعض رؤسائهم كأبي جهل أبو الرجوع ثم أصروا على القتال [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
أما في معركة أحد فقد زحف ثلاثة آلاف من المشركين في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ليصلوا إلى مشارف المدينة ، وهم يريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليكون الدفاع ودفعهم ضرورة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، إذ تبين هذه الآية صيرورة العدو قريباً من المسجد النبوي فلا يبعد جبل أحد عنه إلا (5) كم.
وإذا كانت عاقبة تقوى الله هي الفلاح، فما هي العاقبة لو إجتمع مع التقوى الدفاع في سبيل الله، الجواب لا يعلم مراتب وسمو الفلاح إلا الله عز وجل وهو الذي في مراتبه وهل منه الشفاعة ، الجواب نعم.
الجواب جاءت خاتمة آية [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ]( ) بلغة الرجاء (لعلكم تفلحون) ( ) وعطفت عليها هذه الآية لينال المسلمون مرتبة الفلاح عند الإمتثال لأحكامه.
وهو من أسرار صيغة العطف في آيات القرآن ، وتعدد الأفعال التي يؤمر بها المسلمون , فإن قلت ما هي النسبة بين التقوى والقتال في سبيل الله.
الجواب إنها العموم الخصوص المطلق، فهذا القتال من مصاديق التقوى وفرع منها، إذن كيف يكون القتال للفوز بعد لغة الرجاء في الآية السابقة، والجواب من وجوه:
الأول : التقوى من الكلي المشكك كثرة وقلة في أفرادها، ومصاديق كل فرد منها.
الثاني : القتال دفاعاً وحاجة من أبهى مصاديق التقوى.
الثالث : تكليف إضافي طارئ على العبادات البدنية والمالية كالصلاة والزكاة.
الرابع : يبلغ الصحابي أسمى مراتب التقوى بالدفاع في سبيل الله، قل تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
وتأمر الآية بترك عادة إتخاذ نقب في ظهر البيت إمتثال مقدمة للقتال في سبيل الله، وهذا الترك من مصاديق وحدة المسلمين في نهجهم وسيرتهم , فجاء الإسلام ليقضي على التقسيم الثنائي في أداء المناسك إلى:
الأول : خاص وهم الحمس، قريش ومن تبعها.
الثاني : عام وهم غير الحمس.
لتتصف أحكام الحج بالبركة والإفاضة على أمور الحياة العامة والإجتماعية، وهو من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا أن أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أن اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
قانون ذخائر التقوى
تكون التقوى على وجوه :
الأول : قانون التقوى صلاح وفلاح .
الثاني : قانون التقوى تنزيه للنفوس ، قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( ).
الثالث : قانون التقوى والخشية من الله مقدمة للدفاع ومصاحبة له .
الرابع : قانون التقوى طريق لملاقاة الله عز وجل.
الخامس : قانون الملازمة بين التقوى وحسن السمت .
السادس : الرزق الكريم والبركة للذي يتخذ التقوى منهاجاً منفرداً أو متحداً ، ومن الإعجاز مجئ آيات القرآن بالبشارة بصيغة الجمع كما في قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
السابع : قانون التقوى حرز وواقية ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ]( ).
الثامن : مجئ المدد والعون من الله عز وجل للمتقين ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ) .
التاسع : الأجر والثواب العظيم في الآخرة على التقوى ، قال تعالى [قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا]( ).
وهذا التدرج في الجهاد يبين الإرتقاء في سلم العبادات وان الفضائل النفسية آلة وسبيل للنصر على المشركين لأنها ركن في وحدة المؤمنين وتآزرهم، ولا يعني هذا أن التقوى مغايرة للدفاع أو انها تؤثر به نوعاً وموضوعاً ولا تتأثر وتنفعل به فهو وجه من وجوه التقوى , ومن اعلى مصاديقها وسبيل لتعاهدها للذات والغير من الأحياء والذين يولدون فيما بعد ، ولابد انه إدراك ونية وعزيمة وكيفية في النفس بالإضافة الى كونه شاهداً عليها.
وفي موثقة سماعة أن عباد البصري قال لعلي بن الحسين عليه السلام في طريق مكة : تركت الجهاد وصعوبته، واقبلت على الحج ولينه أن الله عز وجل يقول [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
فقال علي بن الحسين عليه السلام : اذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم افضل من الحج.
وفيه حجة ونوع اعتذار وحث للناس على القيام بوظائفهم العبادية وفيه إعراض عن الجدال في الحج ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
بحث كلامي
ورد قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] في القرآن ثلاثاً وخمسين مرة بصيغة الأمر والخطاب مما يدل على اهمية التقوى والحث عليها فهي خزينة تتضمن كنوز الدارين وخيرات كثيرة ظاهرة وباطنة وعاجلة وآجلة وغنيمة وهي ملك عظيم يتقوم بلزوم وقاية النفس وعدم وقوعها بما يخالف أحكام الشريعة.
وتنبسط التقوى على الأفعال المتعلقة بالدنيا والآخرة، وهي من الكليات المشككة وتتصف بالسعة التي تكون مناسبة وفرصة سانحة لإكتناز الصالحات حسب استطاعة المكلف وايمانه واخلاصه والمراتب هي :
الأولى : اجتناب ما فيه انكار لضرورة من ضرورات الدين وصيانة النفس من الخلود في النار بالإقرار بالتوحيد وفي هذه الصيانة والإحتراز نوع أمان من تمادي الشيطان وكثرة اغوائه.
الثانية : التنزه والتوقي من السيئات وصغائر الذنوب وهذا التوقي حرز وحراسة للنفس من شرور الأعداء سواء على القول بقسمة الذنوب الى قسمين صغيرة وكبيرة وهو المختار.
او أن الذنوب كلها كبائر والنظر لبعضها أدنى من بعض بلحاظ المقارنة بينها كماً وكيفاً وانها على درجات مختلفة، نعم الصغيرة مع الإصرار تلحق بالكبائر .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار)( ).
الثالثة : الإخلاص في العبودية في السر والعلانية والإنقطاع الى الله عز وجل وخشيته سبحانه في الأفعال واستحضار الخوف منه حال النية والهم بالفعل وعدم الغفلة عن الآخرة وأهوال الحساب فيها.
وهذه المرتبة من التقوى سبب في حصول التأييد والعون والمدد من الله تعالى للمتقي وفوزه بالمحبة والإكرام.
وتكون باعثاً على الوقار والهيبة في النفوس والمدحة والثناء بسبب ذات الفعل أو لأن الناس تأمن غوائله أو لهما معاً وهو الظاهر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ] ( ).
وتقوى الله خشيته والإمتثال لأوامره واجتناب نواهيه وهي سلاح في النشأتين .
وتفضل الله تعالى بالأمر بالتقوى تنبيه كريم ولطف إلهي للإنجذاب الى الطاعة وعدم المعصية ، وللتنبيه والتحذير من التعدي، لأن الإذن والرخصة بالقتال في الأشهر الحرم انما جاء تخصيصاً ومقيداً ، ودفعاً للتعدي ابتداءً واستدامة.
وفي مورد واحد فيجب أن لا يؤدي الى التعدي إلى أيام الشهر الحرام الأخرى الخالية من القتال لأن مثل هذا التعدي مخالفة تهدد الشهر الحرام وقدسيته ومع أن الأمر بتقوى الله مطلق الا انه في المقام يتعلق بأمور مخصوصة للمعنى السياقي وموضوع الآية وقرائن الحال فمنها :
الأولى : إكرام الشهر الحرام وعدم التعدي فيه.
الثانية : إجتناب التفريط وترك الرد في الشهر الحرام ، او بخصوص القتل والجرح في الشهر الحرام وردت زيادة ثلث على الدية.
الثالثة : الزجر عن التعدي بأكثر من صيغ الظلم الموجهة للمسلمين.
الرابعة : النهي عن توسيع القتال في الشهر الحرام بحجة جواز الرد فيه.
الخامسة : يبين الأمر والرخصة بالرد في الشهرالحرام لزوم تعاهد حرمة الاشهر الحرم.
قانون التضاد بين دفاع النبي (ص) والفساد
لقد جاء الأمر للمسلمين من الله بالدفاع للقضاء على الفساد، والمنع من القتل ظلماً، ويترشح هذا المنع عن حكم التنزيل وسيادة مبادئه، والعمل بسننه في الحلال والحرام، وفي العبادات والمعاملات.
وقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) شاهد على حقيقة وهي أن المسلمين رافعو لواء التوحيد، وهم المدافعون عن مبادئ الدين القويم ، والحفظة للحنيفية والإستقامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( ).
ومن الآيات أن القتال مقيد بأنه خاص بالذين يقاتلون المسلمين، ويعتدون عليهم وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في الإحتجاج على الملائكة ، فببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنقطعت سيادة سفك الدماء والإستخفاف بالنفوس ، فالمسلمون لا يقاتلون إلا من يقاتلهم .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجدد في كل مناسبة إعلان حرمة التعدي والظلم ويظهر حزنه وغضبه على سفك الدماء ، كما يقوم بدفع دية المقتول خطأ أو من غير تعد ظاهر وإن كان من الكفار .
وبعد فتح مكة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرايا حول مكة يدعون القبائل إلى الإسلام بالحجة والبرهان ، ومنها بعث خالد بن الوليد في سرية إلى بني جذيمة من كنانة ، واسرهم خالد وقتل منهم رجالاً .
وأنكر عليه عبد الرحمن بن عوف في الميدان ، وقال له (عَمِلْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ فِي الْإِسْلَامِ .
فَقَالَ إنّمَا ثَأَرْت بِأَبِيك . فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ كَذَبْت ، قَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي ، وَلَكِنّك ثَأَرْت بِعَمك الْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ ، حَتّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرّ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْك أَصْحَابِي ، فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَك أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكْت غُدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ) ( ).
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ عليه السلام قَالَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَلِيّ ، اُخْرُجْ إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك .
فَخَرَجَ عَلِيّ عليه السلام حَتّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَوَدَى لَهُمْ الدّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتّى إنّهُ لَيَدِي لَهُمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ .
حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ إلّا وَدَاهُ بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ.
فَقَالَ لَهُمْ عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْهُمْ هَلْ بَقِيَ لَكُمْ بَقِيّةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يُودَ لَكُمْ ؟ قَالُوا : لَا .
قَالَ فَإِنّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيّةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِمّا يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ .
ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ : فَقَالَ أَصَبْت وَأَحْسَنْت .
قَالَ ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ حَتّى إنّهُ لَيُرَى مِمّا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّات) ( ).
ومع تقادم الأيام تجد أهل الملل الأخرى يجتنبون قتالهم، وقيام فريق منهم بالدخول في الإسلام.
وقد ورد الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتال الكفار فهل يعني التوسعة في أحكام الآية، (فقد ورد عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : “اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلّوا، ولا تَغْدروا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا أصحاب الصوامع”)( ).
الجواب على وجهين:
الأول : المراد من حديث النبي بلحاظ آية البحث هو (قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله الذين يقاتلونكم).
الثاني : جاءت آيات أخرى بقتال الكفار كما في آية السيف[فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ) وقيل نسخت هذه الآية أكثر من مائة آية من القرآن ، ولا أصل لهذا النسخ .
الثالث : على فرض صحة السند في نقل الألفاظ فان كلمة غزوا لا تدل على إرادة قصد بلد أو قرية ،وهذا اللفظ يتعارض مع السنة الفعلية التي هي دراية وهي مقدمة على الرواية .
وفي تقييد قتال المسلمين بالذين يقاتلونهم رحمة وتخفيف عنهم، وعن الناس جميعاً، وزجر للمشركين عن قتال المسلمين وقد رضي وفد نصارى نجران بدفع الجزية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد حديث المباهلة وخروجه على ميعاد معهم مما يدل على إنتفاء صفة الحرب والقتال بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الكتاب لأنهم لم يهجموا على المدينة ، قال تعالى [تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] ( ) ودخول بعض القبائل الإسلام في عهد النبوة وهو من عمومات قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
لتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته العامة دعوة سماوية لإجتناب الإبادة الجماعية وتجاوز حدود الله والهجوم على الناس العزل الآمنين وقتلهم بغير حق.
لتمنع الآية من قتل نساء وذراري المشركين، وتقيد المسلمون بهذا المنع ، وفيه تخفيف عنهم وعن غيرهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بلحاظ عموم الرحمة في هذه الآية ، وهي لا تختص بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل تشمل المنهاج الذي يتبعه فيه المسلمون ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ…]( ).
والآية برزخ دون تأليب الكفار عليهم، فحينما يسمع الناس بأن المسلمين لا يقاتلون إلا الذين يقاتلونهم ويعتدون عليهم فانهم يجتنبون التحريض عليهم والتعاضد لمحاربتهم أو التعدي على ثغورهم .
والمنع أعلاه لم يمنع من بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسائل إلى الملوك والسلاطين في زمانهم يدعوهم إلى الإسلام، وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ بعث رسالة دعوة إلى النجاشي ملك الحبشة وإلى قيصر ملك الروم، وإلى كسرى ملك بلاد فارس وغيرهم من الأمراء في الجزيرة وخارجها .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللاحقة أي التي حدثت بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حفظ نصوص هذه الرسائل ورد الملوك القولي والفعلي عليها وأثر هذه الرسائل.
فبعد أن تم صلح الحديبية نزل قوله تعالى [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ]( )، فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك عصره و(عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ]( )، كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل ، وليس النجاشي الذي صلى عليه.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسارى فقال لهم : هل دعيتم إلى الإسلام .
قالوا : لا .
فخلى سبيلهم ، ثم قرأ {وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}( ) ثم قال : خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا)( ).
وعن (سعيد بن المسيب قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى ، وقيصر ، والنجاشي : أما بعد : فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.
فلما أتى كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر فقرأه قال : إن هذا الكتاب لم أره بعد سليمان بن داود : بسم الله الرحمن الرحيم)( ).
وبعد الأمر بالقتال المقرون بالبيان والتعيين وأنه دفاع محض لقاعدة نفي الجهالة والغرر جاء النهي عن التعدي، وهذا النهي عام شامل للمسلمين جميعاً المجاهدين وغيرهم، ومطلق من جهة أوانه وزمانه، وهو في مفهومه بيان إضافي لموضوع القتال، ليكون قتل الأعزل والعجوز والمرأة من التعدي.
وفيه آية في الإنضباط الذي عليه المسلمون عامة والمقاتلون منهم خاصة، فلا تستطيع النفس الغضبية مزاحمة هذه الآية القرآنية في مرتكز فعل وقول المسلم، وفيه تأديب للناس جميعاً بإجتناب قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وتدل الوقائع والأحداث أيام البعثة النبوية على طمأنينة الناس من الإسلام، وكان اليهود في المدينة المنورة في مأمن ، والمسلمون يخوضون المعارك مع قريش وغطفان إلى أن حصل نقض العهد من فريق منهم.
وأختتمت الآية ببيان قانون ثابت ملازم للحياة الدنيا، وهو عدم حب الله عز وجل للمعتدين، وفيه تخويف من التعدي وإنذار لقريش الذين يعتدون على المسلمين وبلادهم بغير حق.
بحث عقائدي
الجهاد دفاعا من أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض العبادية من الصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوها وجاءت آيات عديدة في فضله والترغيب فيه والندب اليه وإكرام رواده، وأحاديث السنة الواردة في بيان فضله كثيرة ومستفيضة بل متواترة وهي مدرسة عقائدية واخلاقية مستقلة، ومن اهم مصاديق الجهاد الكسب والإنفاق على الأسرة وحسن الخلق والذكر والصبر على الأذى.
وعن طلحة (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحج جهاد ، والعمرة تطوّع) ( ).
بالإضافة الى السنة الفعلية وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بخوض غمار الجهاد بل أن حياته صلى الله عليه وآله وسلم كانت كلها جهاداً وصبراً ومواجهة للكفار وان تباينت صيغ واساليب هذا الجهاد.
ومن مصاديق النهي عن الإبتداء في القتال وجوه :
الأولى : إجتناب مقاتلة من لم يقاتل المسلمين.
الثانية : عدم ابتداءهم بالقتال في الأشهر الحرم، وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم الا أن يبدأ العدو بالتعدي ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة : ترك مقاتلة الذي له مع المسلمين عهد وميثاق وذمة.
الرابعة : الإعراض عن قتل النساء والصبيان والشيخ الفاني ، ومن يعتزل القتال .
وهناك وجوه مجتمعة ومتفرقة خرجت عن الأمر بالقتال الوارد في الآية بالتخصص وقيل أن هذه الآية منسوخة سواء قصد مجيء النسخ عليها تدريجياً أو دفعياً، أو انه يأتي على بعض هذه الوجوه دون البعض الآخر كما في عدم قتال النساء والصبيان والشيخ الفاني فانه محكم غير منسوخ ، والمختار أن الآية والقيود التي فيها غير منسوخة .
ويمكن إستنباط واستقراء قاعدة وقانون ثابت في الأرض وانعكاس حب وبغض الله تعالى للأشياء والأفعال على الناس جميعاً، فما يحبه الله يحبه الناس على مختلف مذاهبهم ومشاربهم، وما يبغضه سبحانه يبغضه الناس لما جعل الله عندهم من العقل والتمييز، ولا عبرة بالشاذ النادر.
فالناس بفطرتهم يحبون ما أحب الله ويبغضون ما ابغضه الله، وهو جزء من فلسفة وآثار نفخ الروح في آدم ، قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( ).
وتدل مضامين الآية وإتصال لغة الخطاب في الآية لعموم الناس وفضل الله عز وجل برزقهم الحواس والقلوب على أن أثر نفخ الله من روحه موجود عند كل انسان وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة فهو أكرم من أن يرفعها.
ووردت مسألة النفخ في القرآن بالآية أعلاه وبالنفخ من روح الله في مريم عليها السلام [فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
كما تكرر في القرآن الإخبار عن قانون النفخ في الصور يوم البعث وبيان تعدده ، قال تعالى [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ]( )، وهل فيه إشارة بأن للنفخ من روح الله في آدم عليه السلام موضوعية يوم البعث والنشور ، الجواب نعم ، وهو من معاني رحمة الله عز وجل بالناس يومئذ.
وجاء القرآن ليثبت عدم خروج الفطرة عن علة الخلق ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ويدعو المسـلمين لتعاهدها والمحافظة عليها وليتقيدوا بها عن ارادة وقصد واختيار ومتى ما علموا أن الله يبغض الإعتداء فانهم يتجنبونه لما يترتب على البغض الإلهي من النهي وترتب العقاب.
لقد جاء هذا البيان وذكر هذه الحقيقة الثابتة في بدايات القتال وهجوم المشركين على المدينة لتكون لها موضوعية في حياة المسلمين الجهادية وإلى يوم القيامة.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذا اراد أن يبعث سرية دعا اميرها فاجلسه الى جنبه واجلس اصحابه بين يديه ثم يقول : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله لا تضلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً الا أن تضطروا اليها.
ومن مصاديق عدم الإعتداء تقيد المسلمين بالأمان الذي يعطيه ادناهم لبعض الكفار أي أن الإسلام يبعث الأمن والطمأنينة حتى اثناء المعركة ويفتح باب التدارك والندم والتوبة في ساعة التقاء الأسنة واشتداد المعركة.
وفي خبر ابن صدقة ان الإمام علي عليه السلام اجاز امان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال : هو من المؤمنين( ).
وفي الآية تعليم وارشاد للتقوى وطرد للغدر والمكر، ولتكون الأخلاق الفاضلة ملكة راسخة في النفوس تحول دون سيطرة الغضب مما يهيء حالة من التدبر والتفكر في احكام الإسلام والاعجاز في اتقانها ، وهي حرب على الإرهاب.
فمن أسرار هذه الآية وما فيها من الأمر بقتل الكفار المشركين الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى[حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]( )، أن الكفار أصبحوا قلة وعاجزين عن جمع الجيوش العظيمة ضد المسلمين , ولكنهم يصرون على مواصلة إثارة الفتن ، ومنه مثلاً الخلاف هل فتحت مكة صلحاً أو عنوة ، ولا أصل لموضوع هذا الخلاف لأن أكثر أهل مكة دخلوا الإسلام قبل يوم الفتح .
فجاءت الآية بطلبهم أينما وجدوا ما داموا يجمعون الجيوش ويحرضون الناس ضد النبي ، وفي المنتديات ، لأن وجودهم فتنة وإبتلاء، وإضرار بالإسلام بمواظبتهم على تكذيب معجزات النبوة، وإصرارهم على الكفر، وتحريض الناس على المدينة وأهلها المسلمين، وأشعلوا معركة بدر وأحد، ثم الخندق، فهم لم يكفوا عن الحرب والقتال عن التوبة وصلاح بل للعجز بعد أن أخزاهم ، الله قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ومن الحجة على الكفار أنه بعد فتح مكة وقعت معركة حنين بهجوم مباغت من ثقيف وهوازن .
ومع أن كفار قريش قوم مجرمون، وتعدد التعدي والظلم منهم فان الآية التالية جاءت بفتح باب التوبة والأمان لهم مجتمعين ومتفرقين بقيد الإقلاع عن الكفر، والكف عن القتال في الحرم والتعدي على الإسلام ، قال تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وهو دليل آخر على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه منزه عن عادة الثأر المتأصلة في المجتمع، وليكون قبول توبة الكفار إجتثاثاً لها.
وفيه شاهد على حسن سمت المسلمين، ودليل على صحة إيمانهم وإخلاصهم في مرضاة الله، فهم لم يستمروا بالقتل بعد توبة الكفار لتبدل الحكم بتغير الموضوع، ولم يحتج المسلمون بارادة الثأر، وطلب الإنتفاع من الكفار بل تلقوا هذه الآيات بالإمتثال، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
إن الله عز وجل ينتصر للمؤمنين، فحينما أخرج الكفار المسلمين من ديارهم وحملوهم على الهجرة من مكة، جاءت هذه الآية لتبين جريمة تهجير المسلمين عنوة، وإضطرارهم إلى الفرار طلباً لسلامتهم الشخصية ، وكانت قريش تنشر الرصد حول مكة لمنع المسلمين من الخروج مهاجرين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، فجاءت الآية لتخبر بأن [الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ).
ومن الفتنة إخراج المسلمين من مكة بأنفسهم، وتعرضهم للهلاك في الطرق الجبلية الوعرة، وما فيها من الوحوش والآفات، وتركهم عيالهم من خلفهم مع إيذاء هذه العوائل حتى في حال خروجها إلى المدينة , قال تعالى[الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ]( ).
ومنها أن بقاء الكفار على كفرهم ضرر وفتنة على وجوه:
الأول : إنه سبب لبذر الفتن.
الثاني : إنه مناسبة لزرع الشك في النفوس.
الثالث : إثارة الجدال بالباطل.
الرابع : قيام الكفار بالمغالطة حرب على النبوة، وحب بمنافع دنيوية عاجلة وعجز عن التخلص عن عبادة الأوثان.
مسائل مستقرأة من آية (فان انتهوا)
وهذه الآية هي [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ومن إعجاز القرآن أن تأتي آية رحمة ورأفة وسط آيات القتال ، وهو من الشواهد على صبغة السلام في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
الأولى : وتشمل الآية الذين يؤذون المؤمنين باخـراجهم من ديارهم ومحاربتهم في ارزاقهم وتوجيه اللوم الشديد لهم لإختيارهم الإسلام، والانتهاء عن القتال نص صريح في الآية الكريمة خصوصاً وانها جاءت متعقبة لقوله تعالى [ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ] ( )، أي أن انتهائهم عن القتال يترشح عنه التوقف عن قتالهم ، وإشاعة الأمن والسلام ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
الثانية : تمنع الآية من الإسراف في القتل فلو ترك الإنسان وما جبل عليه من الإسترسال والإستمرار في الفعل فلربما استمر المسلمون يبقتل الكافرين اجتثاثاً لهم من الأرض وثأراً وتأدباً واستصحاباً للحكم وحملهم قهراً على دخول الإسلام.
الثالثة : جاءت هذه الآية لتقييد الفعل، ففي القرآن مطلق ومقيد، وبعض الآيات تقيد افعال المسلمين وتخرج من الحكم الشرعي الذي تتضمنه الآية مصاديق بالتخصص أو التخصيص، لتكون عوناً للمسلمين وتمنع من الإرباك والإنشغال بالمهم وترك الأهم.
الرابعة : الآية دفاع عن المسلمين بنفي دعوى انتشاره بالسيف.
الخامسة : وفي الامتناع عن الإنتقام من الكفار عند ندمهم ورجوعهم عن قتال المسلمين مناسبة لهم للتدبر في ماهية الإسلام وحقيقته , وما في القرآن من الآيات الأحكام القرآنية ومن الإعجاز ومضامين الرأفة والإحسان.
السادسة : تحول الآية دون تغذية روح الإنتقام والبطش واصرار الكفار على الجحود ورجوعهم الى القتال بحجة الدفاع عن النفس، فيحمل القتال معها صيغة القضية الشخصية.
السابعة : تدعو الآية تدعو المسلمين الى حث الكفار ومنعهم بالموعظة والتخويفعن الإمتناع عن قتال المسلمين والى التبصر بحقائق التنزيل ليخفف عن الإسلام والمسلمين فلا تتعدد جبهات القتال وليوجهوا جهودهم وسعيهم الى تثبيت أحكام الشريعة وترسيخ أسس المجتمع الإسلامي.
الثامنة : تبين الآية الإرتقاء الإخلاقي في الإسلام وصدق سماوية احكامه، فالذي يكف عن المسلمين يكفون عنه وعن الثأر منه.
التاسعة : تدل الآية على الرفعة والسمو الفكري والحضاري الذي احدثه القرآن واحكامه في النفوس، فالآية نبذ للتآمر والقتال حمية وغضباً، وامر بالتوقف عن القتال عند اعتزال الكفار واقلاعهم عن التعدي على المسلمين.
العاشرة : مع ما يحتله الثأر من المنزلة والأهمية في الواقع اليومي للعرب انذاكآنذاك، فبعضهم يحرض بالنفس الغضبية ابن المقتول وأخاه ووليه مطلقاً على التأثأر وقتل القاتل، أو من ينتمي اليه، والعدو ايضاً يعيرهم لتخلفهم عن الثأر فجعلت الآية المدار على استمرار التعدي من الكافرين أو عدمه وحجبت الثأر بأحكام الشريعة.
الحادية عشرة : تحث الآية المسلمين على ترك الضغائن ولتهذيب انماط السلوك واخضاعها لصبغة الإيمان وجعلها لا تصدر الا من عن القرآن.
الثانية عشرة : من اعجاز الآية بيانها وجوه المواجهة ومصاديقها بتعيين من يستثنى منها وشرط الإستثناء وهو الانتهاء عن التعدي على المسلمين.
الثالثة عشرة : تبين الآية موضوعية واعتبار اكرام المسلمين وعدم الإساءة اليهم.
الرابعة عشرة : في الآية درس للناس بان محور تعامل المسلمين مع الآخرين هو الكف عن الأذى ، وقد تقدم الخطاب من الله عز وجل لعموم المسلمين والمسلمات [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الخامسة عشرة : تظهر هذه الآية نبراس معالم الإيمان وهي سمو اخلاقي ودعوة لسيادة العدل والإنصاف على الأرض.
السادسة عشرة : الآية تمنع من التفريط في قتال المعتدين فاستثناء الذين انتهوا عن القتال يعني مواصلة قتال اولئك الذين يعتدواصلون الإعتداء على المسلمين أو يستحدثون له صيغاً أو يبتدئون به غياً وضلالة وعناداً.
السابعة عشرة : تخبر الآية عن وجود من ينتهي ويكف عن القتال من الكفار، وهي بشارة لأن الانتهاء جاء بلغة الإطلاق والجمع والتنكير فظاهرها الرحمة والتخفيف عن المسلمين وانتهاء الكافرين عن القتال على نحو العموم المجموعي والإستغراقي ولكنه تعليقي لما تدل عليه الفغاء في [فَإِنْ انتهوا فان انتهوا ] وهذا التعليق قد يكون بلحاظ الزمان.
الثامنة عشرة : الآية وعد كريم وإخبار عن سيادة أحكام الإسلام.
التاسعة عشرة : تنفي الآية وجود برزخ بين القتال والكف عنه ولم تدع المسلمين الى الصبر والتريث إذا هجم المشركون أي انها تخبر بان مرحلة الإرجاء وتحمل الأذى واظهار اقصى درجات الصبر قد انتهت لا اقل من هذه الجهة وبلحاظ الحيثية وهي القتال واخراج المسلمين من مكة وديارهم.
العشرون : الآية اعم من أن تنحصر باسباب النزول وفيها قواعد كلية للتعامل مع الكفار الذين يبغون الإضرار والإساءة للإسلام والمسلمينبالإسلام والإساءة للمسلمين ، وإشاعة فلسفة سفك الدماء.
الحادية والعشرون : تحذر الآية تحذر من الظلم والتعدي على الناس واخراجهم من ديارهم وتهججيرهم إلى أماكن أخرى ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وجوه :
الأول : البشارة بظهور دولة الإسلام .
الثاني : وجوب عدم محاكاة المشركين في ظلمهم وتعديهم.
الثالث : بعث النفرة في نفوس المسلمين من التعدي فلا يرضون لأنفسهم الإجتماع مع المشركين في بغض الله للمعتدين ، وفيه تحذير لأجيال المسلمين من الإرهاب.
الثانية والعشرون : تبين الآية اهمية الطرد من البلاد واخراج المسلم من ارضه وصحيح انه في الآية ليس علة تامة للقتال، لأن اخراج المؤمنين يأتي بلحاظ ايمانهم واعلان اسلامهم فهو جزء علة وهذه الجزئية لا تنفي موضوعيته واعتباره.
ولكن المشركين لم يقفوا عند هذا الإخراج وما فيه من الفتنة وإثارة الأحقاد ، إنما توجهت جيوشهم للهجوم على المدينة.
الثالثة والعشرون : في الآية اخبار عن لزوم وجود سبب للقتال وقد تدل آية أخرى على تضييق السبب وحصره.
الرابعة والعشرون : في الآية تنزيه تأريخي للمسلمين في بالتقييد السماوي لاسباب قتالهم وخلو مقدماته ايضاً من التعدي، أي انهم لم يقاتلوا طمعاً أو حمية أو غروراً.
الخامسة والعشرون : الآية وثيقة سماوية كريمة تبين أن المسلمين يكرمون ويكفون عمن يكف عنهم وان كانوا هم أهل القوة.
و(عن عبد الرحمن بن أبزى قال : كان النبي صل الله عليه وسلم يقرأ هؤلاء الأحرف [ادخلوا في السلم] ( )، [وإن جنحوا للسلم] ( )، { وتدعوا إلى السلم } بنصب السين)( ).
السادسة والعشرون : الآية انذار وتحذير للكفار بان اخراج المسلمين من ديارهم لن ينفع اهل الكفر والجحود وان العاقبة ستكون للمسلمين.
السابعة والعشرون : من اعجاز هذه الآيات انها تضع القواعد والضوابط الثابتة والواضحة لبدء القتال دفاعاً وانتهائه.
الثامنة والعشرون : تبعث الآية اليأس والخيبة في قلوب الكفار بان تعديهم على المسلمين لن يؤدي الى الإضرار العقائدي بهم عقائدياً.
ويدل ظاهر الآية على الانتهاء عن القتل وايذاء المسلمين وفتنتهم خصـوصاً وان التسـبيب قد يكون اشهر اكثر تأثيراً من المباشرة ويدل عليه ما جاء في الآية السابقة [ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِوالفتنة اشد من القتل]( )، أي قد تكون حالات معينة من الإيذاء والفتنة بمستوى القتل أو اكثر ضرراًرراً أو أذى.
وهذه الكثرة تترشح عن عنها كونها طريقاً وسبباً للقتل وما فيها من الأذى والأضرار التي تلحق بالمسلمين افراداً وجماعات وأمة.
فقد تعرقل الفتنة اتساع الإسـلام ووصـول التبليغ الى قبائل وافراد ذوي شأن وتأثير في مجتمعاتهم أو انها تحول دون الشروع بالأحكام الشرعية وأداء الواجبات والفرائض كما في قيام الكفار باغواء بعض الناس وصدهم عن دخول الإسلام واشتداد حملات الإفتراء واظهار التحريف كواقع.
ان التلبس بالكفر وحده فتنة خصوصاً اذا تعلق ببعض الذوات من الوجهاء والملأ وأصحاب الرياسة الإجتماعية ونحوها.
ويمكن القول أن الانتهاء الوارد في الآية من الأمور التشكيكية موضوعاً وكيفية، فهو لا ينحصـر بالانتهاء من القتال ولا يكون على مرتبة واحدة وهذا لا يعني وجود ابهام في الآية بل هو اجمال تتبينه الآيــات القــرآنية الآخرى الاخرى كقوله تعالى [ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ]( ).
ا