المقدمــــــة
الحمد لله الذي جعل الحمد والثناء والتسبيح له سبحانه فرائد تخترق حجب السموات ومصابيح لا تنطفئ في الدنيا ولا في الآخرة ، وهل يحضر حمد العبد لله عز وجل يوم القيامة ، الجواب نعم ، ويكون مصاحباً له ويعرفه والخلائق كماً وكيفاً فيغبط الناس الذي أكثر من الحمد لله في الدنيا ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على نحو الوجوب العيني .
وهل تزيد حال الخضوع والخشوع في الصلاة من ثواب قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) أم أن ثوابه واحد سواء في الصلاة أو خارجها ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق التفضيل واللطف الإلهي بأهل الإيمان ، فمن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ملازمة الحمد للإنسان من أيام آدم عليه السلام .
وهل الحمد لله من الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )، الجواب نعم.
وهل كان تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء بالترتيب من حيث الأولوية والأهمية ، كما لو بدأ التعليم بالأسماء الحسنى ومصاديق بديع صنع الله ثم اسماء الملائكة والأنبياء والكتب السماوية .
أم على الحروف الأبجدية أم على الحروف السريانية ، المختار هو الأول ، ومن الشواهد عليه ابتداء القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم ، وقال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الحمد لله بعدد نسمات الهواء في عموم الأرض والسماء ، وعدد ذرات التراب ، وأفراد وجزيئات كنوز الأرض مما ظهر الكشف عنها ، وما لم يتم اكتشافه .
اللهم إني استحي منك أن أغادر الدنيا مع قلة حمدي وثنائي عليك ، فتفضل ومدّ في عمري وأعاهدك أن أجتهد في الحمد لك ، والتضرع إليك ، والقيام بين يديك في الفرائض الخمس ، وأن أتطلع وأرصد هلال شهر رمضان طيلة أيام السنة حباً لك وحرصاً على أداء الفرائض وأجعلني اللهم ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، مع وجود آذان صاغية .
وهل ثواب الأمر بالمعروف لصاحبه من الكلي المتواطئ الذي يكون بمرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، الجواب هو الثاني في حالات ومسائل :
الأولى : استجابة المأمور أو عدم استجابته .
الثانية : التباين الموضوعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما في الأمر بالصلاة الواجبة والأمر بالصدقة المستحبة مثلاً .
الثالثة : الأمر بالمعروف مع الإنفاق والبذل لتيسير الإمتثال الحسن ، وما إذا كان الإنفاق واجباً كالزكاة في مواردها المقررة والخمس أو الإنفاق المستحب أو الأمر بالمعروف من دون الإنفاق ، وهذا على قسمين :
الأول : حبس الحق الشرعي مع أن ذات الأمر بالمعروف من أصناف الزكاة .
الثاني : الإمتناع عن الإنفاق المستحب في تنجز الإمتثال وعملا بالمعروف.
الرابعة : الأمر بالمعروف مع إحتمال أو رجحان الأذى بسببه والأمر بالمعروف مع القطع بعدم لحوق الأذى بسببه ، كما في الأمر بذكر الله والثناء عليه ، وعدم الغفلة عن الفرائض ، وفي حال الأمن.
ومثل هذه المسائل الأربعة ترد أخرى في باب النهي عن المنكر.
وهل كان المشركون يريدون الإبادة الجماعية العامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه سواء في معركة بدر أو معركة أحد أو معركة الخندق ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( ) لبيان أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعركة بدر حاجة وواقية من الإبادة العامة ، وزاجر للمشركين عن مواصلة القتال واشعال الفتن ، إذ كانوا يتصفون بالجمع بين أمور :
الأول : الكفر والإلحاد وعبادة الأصنام .
الثاني : إرتكاب المعاصي والظلم العام والخاص .
الثالث : إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحمل السيوف لمحاربته .
الرابع : إخراج المؤمنين من مكة ، والإستيلاء على أموالهم وأملاكهم ظلماً .
الخامس : تحشيد وجمع الناس لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والإصرار على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوقف نزول القرآن الذي تتجلى في كل زمان ومن أيام النبوة حاجة الناس العامة له ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
لقد ذم الله عز وجل المشركين وتحداهم بسبب خصامهم وجدالهم بالباطل فكيف وقد اصروا على قتال الحق والنبوة والتنزيل ، فنزل قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
مما يدل على أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع المحض ، وورد عنه أنه قال (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا)( ).
ومن إعجاز تعدد المسائل المستقرأة من الصلة بين الآيتين أعلاه ، أن دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سبب لهزيمة جيوش المشركين مع كثرتها ، وغلق باب الجحود والخصام والمغالطة والجدال بالباطل ، ليكون هذا الدفاع ونزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الحق في قوله تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] ( ) وليكون من الباطل قصد المشركين الإبادة الجماعية العامة .
ويحتمل دفع الباطل من عند الله في المقام وجوهاً :
الأول : صرف القتل عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إرادة سلامة المهاجرين والأنصار .
الثالث : حفظ المؤمنين في الأجيال المتعاقبة ، فلما قتل قابيل أخاه هابيل فانه قضية في واقعة كانت سبباً في بعث النفرة في النفوس من سفك الدماء ،وحرزاً من الإكثار من الإقتتال والقتل ، وهو من الإعجاز في اهلية الإنسان للخلافة في الأرض ، فلم يكن أول قتل في الأرض بالإقتتال مع المبارزة والسيف والرمح ، إنما كان من طرف واحد ، وبالرمي بالحجارة باشارة من إبليس ، بينما امتنع المقتول عن المبادرة إلى القتل أو المبارزة أو المكر والحيلة مع بيانه لعلة هذا الإمتناع وهي الخشية من الله عز وجل ، كما ورد في التنزيل [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
فدبّ الندم إلى نفس القاتل واستحوذ على جوارحه ، وأدرك أن العقاب الأخروي ينتظره ، بينما ترسخت مفاهيم التقوى في الأرض بتوالي بعث الأنبياء ، ونزول الكتب السماوية .
وهل من صلة بين حرب قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل قابيل لهابيل .
الجواب نعم ، فلم تتعظ قريش من قصص الماضين وهلاك الظلمة وزوال حكم الجبارين ، ولا ينحصر هذا الزوال بهلاك ذات شخص الطاغوت بل يأتي على العرش والدولة ، ويزيحها ، وليس من حصر لأسباب هذا الزوال سواء من داخلها أو من الخارج أو بافة سماوية أو أرضية ، قال تعالى [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
وقد صدر لنا فتوى بعدم جواز كتابة (بسمه تعالى) بدل (بسم الله الرحمن الرحيم) وفي كتابة البسملة تعظيم لشعائر الله ، قال تعالى [وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا]( ).
وعن ابن عباس (قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت قريش : دقّ الله فاك).
وولد عبد الله بن عباس قبل الهجرة بثلاث سنوات أي أنه لم يحضر الحادثة ولكنه سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من أحد الصحابة ، والأرجح هو الثاني وتوفى سنة 68 للهجرة .
ترى لماذا قالت قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول الجواب من وجوه :
الأول : إدراك قريش أن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتقوم بالتوحيد .
الثاني : حب قريش للأصنام .
الثالث : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمفاهيم الرحمة والعفو من عند الله ، وفيها ترغيب للناس بالإيمان.
ومن جهة الإعراب لآية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) :
الحمد : مبتدأ مرفوع بالضمة .
لله : اللام حرف جر ، اسم الجلالة مجرور .
وهما في محل رفع خبر .
رب : صفة (لله) مجرور بالكسوة ، وهو مضاف .
العالمين : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.
ويستحب تأليف مجلد أو مجلدات ورسائل خاصة بآيات الحمد في القرآن من جهات :
الأولى : احصاء هذه الآيات .
الثانية : النسبة الموضوعية بينها.
الثالثة : صلة كل آية من آيات الحمد بالآيات المجاورة .
الرابعة : تقسيمات آيات مثل :
الأول : الحمد الدنيوي .
الثاني : الحمد الأخروي .
الثالث : حمد الأنبياء لله.
الخامسة : منافع الحمد لله في الدنيا والآخرة .
السادسة : الحمد لله في منهاج النبوة والرسالة من آدم أبينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : قول أهل الجنة الحمد لله ، كما في قوله تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله الذي أبى إلا أن يجعل نعمه على كل إنسان لا تعد ولا تحصى إلا من قبله تعالى ، فان قلت قد تعدها الملائكة ، وجاءت الأجهزة الالكترونية التي تعد آلاف المليارات .
والجواب من وجوه :
الأول : تعدد وجوه ومواضيع النعم الإلهية .
الثاني : في كل ثانية هناك نعم كثيرة على الإنسان في نفسه وبدنه .
الثالث : نعمة الشهيق والزفير ، فاذا كان معدل النفس الواحد 15 مرة في الثانية فيكون المجموع :
15 ×60 × 24 = 21600 نفس في اليوم الواحد .
21600 × 365 = 7,88,4000 في السنة .
ويضرب هذا العدد × 2 بلحاظ أن عملية التنفس مركبة من الشهيق والزفير .
الرابع : استدامة التنفس بيسر وعافية .
الخامس : توفر الهواء للناس جميعاً ، وليس من حاجب له إذ تعجز الخلائق عن حجبه عن الإنسان والحيوان والنبات ، بل يكون النفع منها تكافلي إذ يبعث النبات الأوكسجين الذي يحتاجه الإنسان ،ويكون غير الإنسان من ثاني أوكسيد الكاربون الذي يمتصه النبات.
السادس : نعمة الطعام ومصدره وتهيئه أسبابه وإزالة الموانع عنه.
السابع : صرف البلاء عن الإنسان مما يعلم به ، وما لا يعلم به ،وهو مما ينكشف للإنسان يوم القيامة، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
الثامن : نعم الله عز وجل على الإنسان كفرد من الجماعة والأمة .
التاسع : ذكر الإنسان لله عز وجل نعمة عظمى من عند الله ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ] ( ).
العاشر : هناك نعم على أي إنسان لايعلمها إلا الله عز وجل ، وهي لا تحصى أيضاً لبيان أن الخلائق تعجز عن إدراك النعم الإلهية على الإنسان فمن باب الأولوية أنها تعجز عن عدّها وإحصائها وقول الحمد لله سلام وأمن للقائل والسامع.
ومن خصائص التقوى أنها واقية من القتال ، ودعوة للإيمان ، ودفع للتعدي، وسبب لبيان قبحه، وهي بذاتها أمن وحرز، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا…]( ).
حرر في الثامن من جمادى الآخرة 1443
12/1/2022
قانون توارث البشارات بالنبوة الخاتمة
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار موعظة واعتبار ينتفع فيها الفرد والجماعة من حياة الآخرين وقصصهم ، ومما يتعرض له ذات الأفراد ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ) وجعل الله عز وجل الدنيا دار التخفيف في الأحكام والعبادات ، وطلب الرزق ، والمعاملات، ومن التخفيف عن الناس كافة توارث البشارة بالنبوة ، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتلقى الناس المعجزات بالقبول والتصديق .
ومن أسرار حج البيت الحرام من أيام إبراهيم عليه السلام إطلاع قريش وقبائل العرب على قصص الأنبياء والأمم السابقة وما فيها من ذخائر الأخبار ، والمتشابهات ، والشواذ ، والمجتمع ، والمتفرق .
ومن موارد توارث وإشاعة هذه الإخبار إنشاء قريش دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب وهو الجد الرابع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي كانت ملاصقة للبيت الحرام مع قلة مساحة الطواف آنذاك وإطلالة البيوت عليه ، إلى جانب قيام قريش بعدد من الرحلات في السنة إلى كل من الشام واليمن.
وكانت النصرانية منتشرة في الشام ، والمجوسية والنصرانية في اليمن ، كما يمر تجار قريش بالقبائل في الطريق مع مهادنتهم وإقراضهم خشية التعرض لقوافلهم ، فيسمرون معهم ، ويتبادلون الأحاديث والأخبار والأشعار ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
ومن خصائص العرب التفاخر بالآباء ، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينلقب موضوع التفاخر فجأة إلى الإيمان والتفاخر باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهجران عبادة الأوثان ، وبيان سوء عاقبة أهلها .
ولم يكن هذا الإنقلاب مجرداً إنما اقترن بالمعجزات والبراهين الساطعة التي تدل على سلامة إختيار معالم الإيمان لوجود المقتضي وفقد المانع ، ومن الآيات ان أخبار الديانة اليهودية والمسيحية ، وقصص الأنبياء ومنهم موسى وعيسى عليهما السلام حاضرة في الجزيرة من جهات :
الأولى : كانت طائفة من اليهود تقطن المدينة وهم كل من بني النضير ، وبني قريظة ، وبني قينقاع ، وكانوا يتلون التوراة وما فيها من بشارات النبوة.
الثانية : بشارة الملوك العرب الأوائل بصيرورة النبوة عند العرب ونسخها لحكم القبائل وتيجان العرب ، ومنهم سبأ بن يشجب ين يعرب بن قحطان وقيل اسمه (عامر) و(عبد شمس) ، وكان أول من سبى السبايا فسمي سبأ وهو أول من فرض الإتاوات والضرائب وأول من خطب في جمع ، وكان ملكاً على صنعاء وما جاورها ، وبنى مدينة مأرب ، وأتخذها عاصمة له ، وقد ذكرت (سبأ) في مواطن عديدة من التوراة منها :
(10: 1 و سمعت ملكة سبا بخبر سليمان لمجد الرب فاتت لتمتحنه بمسائل
10: 2 فاتت الى اورشليم بموكب عظيم جدا بجمال حاملة اطيابا و ذهبا كثيرا جدا و حجارة كريمة و اتت الى سليمان و كلمته بكل ما كان بقلبها
10: 3 فاخبرها سليمان بكل كلامها لم يكن امر مخفيا عن الملك لم يخبرها به
10: 4 فلما رات ملكة سبا كل حكمة سليمان و البيت الذي بناه
10: 5 و طعام مائدته و مجلس عبيده و موقف خدامه و ملابسهم و سقاته و محرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب لم يبق فيها روح بعد) ( ).
(ويقال إنه أول من تتوج.
وذكر بعضهم أنه كان مسلما، وكان له شعر بشر فيه بوجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن ذلك قوله :
سيملك بعدنا ملكا عظيما * نبى لا يرخص في الحرام
ويملك بعده منهم ملوك * يدينون العباد بغير ذام
ويملك بعدهم منا ملوك * يصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبى * تقى، مخبت خير الانام
يسمى أحمدا يا ليت أنى * أعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري * بكل مدجج وبكل رامى
متى يظهر فكونوا ناصريه * ومن يلقاه يبلغه سلامى)( ).
وعن فروة بن مسيك الغطيفي ثم المراري أنه حينما سأل النبي محمداً قتال من أدبر من قومه ، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدع القوم فمن أجابك منهم فاقبل ومن أبى فلا تعجل عليه حتى تحدث إلي؛ فقال رجل من القوم: يا رسول الله وما سبأ ، أرض هي أو امرأة.
قال: ليست بأرض ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فأما ستة فتيامنوا وأما أربعة فتشاءموا، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة وحمير والأشعرون وأنمار ومذحج، فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: هم الذين منهم خثعم وبجيلة)( ).
الثالثة : وجود عدد من الموحدين العرب يتحدثون عن نبي آخر زمان ويتطلعون إلى أوان بعثته مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وكعب بن لؤي الذي كان يجمع الناس يوم الجمعة ، وكان يسمى يوم العروبة، فيبشرهم بنبي يبعث من بينهم هم العرب .
الرابعة : وجود بعض القبائل العربية على دين النصرانية وما عندهم من بشارات عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : رحلة قريش للتجارة إلى الشام وسماع الرهبان وما عند الراهب بحيرى في منطقة بصرى في جنوب بلاد الشام ، وكانت قوافل تجارة الشام تنزل قريباً من الدير الذي يقطنه .
قانون آيات عالمية الدعوة سلام
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً بينما العرب يتمسكون بالعصبية القبلية ويتقاتلون وفق الإنتماء القبلي وسفك الدماء ، وهو من الإعجاز في نبوته ، وإنقياد عامة الناس على اختلاف المشارب والإنتماء لرسالته ، قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وهي قبيلة عدنانية من نسل إسماعيل النبي تسكن مكة فان دعوته ملائمة لكل القبائل والشعوب .
واختار لهم هذا السكن إبراهيم عليه السلام كما رد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (المحرم) في القرآن إلا في الآية أعلاه وفيه إشارة إلى الشأن العظيم للبيت الحرام من بين بقاع الأرض .
وهل تشير الآية أعلاه إلى عمل قريش بالتجارة ببركة ولطف واستجابة لدعاء إبراهيم ، الجواب نعم ، لذا ورد قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
ولما قال الله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى قبائل العرب كلها ، وإلى العجم ، والأبيض والأسود ، فاستجاب له شطر من الناس.
والتعدد في انتماء الذين استجابوا لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السنين الأولى لها ومن غير إكراه معجزة خالدة له ، ويزيد في بهائها وتجليها أن قريشاً عشيرته كانوا أكثر الناس حرباً عليه ، ومنهم عمه أبو لهب فتكفل الله عز وجل الرد عليه بذمه في القرآن [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ]( )،.
لبيان قانون وهو لا يقدر على صرف افتتان الناس بعم النبي وكفره بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل ، وفيه نصر ومدد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، وذم أبي لهب من الشواهد على عالمية رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلميتها لدلالته على كون الإيمان مدار المدح والثناء ، وأن الكفر سبب للذم من السماء والناس ، فكما أمن الناس في المشرق والمغرب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهم يتلون كل يوم ذم عمه صنو أبيه مع تسليمهم بأن هذا الذم من الله عز وجل ، وأن النار في انتظار أبي لهب وزوجته أم جميل .
فان قلت نزلت الآية سورة [تَبَّتْ] في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل بيعة العقبة في السنة الحادية عشرة للبعثة النبوية أي قبل اسلام الأنصار فهل انتفعوا منها ، الجواب نعم.
لأنها غلقت باباً من الكفر ، ومنعت من الجدال بأن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤمن برسالته فكيف يؤمن البعيد عنه في النسب والسكن.
لقد كان اسلام كل قبيلة مدرسة عقائدية مستقلة تبين معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكثير من هذه القبائل تلقت النبوة بالإعراض والإنكار ، ومنهم من سار لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتوجهت القبائل مع قريش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد والخندق ، لتمر الأيام سريعاً ، وتدخل هذه القبائل الإسلام ، ويتوجهون في السنة الثامنة للهجرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لفتحها.
ونأخذ تأريخ كل قبيلة أيام النبوة على نحو مستقل مثل :
الأولى : قريش .
الثانية : غطفان ، التي تسكن (ذات نخل) شرق المدينة.
الثالثة : قبيلة فزارة.
إذ أرسل لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر في سرية في السنة الرابعة للهجرة وهم فرع غطفان ومن قبائل قيس المضرية ، وقد تأخر إسلام أكثرهم إلى السنة الثامنة تقريباً .
الرابعة : قبيلة محارب .
وينتمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نسبه إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وعدنان من ذرية إسماعيل بن إبراهيم خليل الله ويلتقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم في جدهم عبد مناف بن قصي مع بني المطلب ، وبني أمية ، وبني نوفل.
ويلتقي معه في جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرابع قصي بن كلاب بن مرة نحو (400-480)م بنو عبد العزى ، وبنو عبد الدار وعندهم حجابة البيت ، وهم حملة اللواء وقد لاقى منهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى الشديد ونزل بهم البلاء في معركة أحد إذ قتل منهم كل من تقدم لحمل اللواء ، ومع هذا أعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن بقي منهم مفتاح الكعبة يوم فتح مكة.
وقيل أن قصياً أول من أعاد بناء الكعبة بعد إبراهيم عليه السلام الذي جعل ارتفاعها تسعة أذرع أي نحو 4,5م بلحاظ أن الذراع بين 48-50 سم وكانت جدران وسقف الكعبة تتعرض للشقوق والتصدع بسبب السيول وتقادم الأيام ، فتقوم القبائل العربية باصلاحها منها قبيلة (جرهم) و(العماليق) إلى أن قامت قريش ببنائه بناء سميكاً ، وزادت في إرتفاعها الى الضعف وجعلوه ثمانية عشر ذراعاً.
أما في هذا الزمان فان ارتفاع الكعبة هو (15) م وتبلغ مساحتها عند القاعدة (45) متر مربع.
قانون الإبتداء بالبسملة
الإبتداء باسم الله تعالى إقرار بالتوحيد ، وإلتماس للبركة ، ورجاء للهداية والسداد في التأليف , وبرزخ دون الشطط وهو دعوة ظاهرة للتوحيد، وإشارة إلى إرادة قصد القربة واليمن ودعوة للإهتداء إلى المسائل بدقيق النظر.
و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،”أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَنْ ” بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ” ، فَقَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ اللَّهِ إِلا كَمَا بَيْنَ سَوَادِ الْعَيْنَيْنِ وَبَيَاضِهِمَا مِنَ الْقُرْبِ) ( ).
وهي شعار إسلامي حاضر في كل مناسبة، وملاذ يلجأ إليه الناس , ومنهم العلماء إذ أن الحاجة ملازمة للناس جميعاً بلحاظ أن الإنسان كائن ممكن، ووجود البسملة في أول كل سورة من سور القرآن إلا براءة دعوة للمواظبة على قراءتها وتعاهدها وحفظها وملازمتها وعدم التفريط فيها لعظيم نفعها وبركاتها خصوصاً وأنها تتضمن مع قلة كلماتها ثلاثة من أسماء الله عز وجل.
وبلحاظ قراءتها في الصــلاة اليوميــة فإنها عنوان وحدة المسلمين وهذا من الإعجــاز الغيري للقــرآن، فلا يختلف إثنان من المسلمين وفي كل الطبقــات والأماكن في وجــوب قراءة ســورة أو عدة آيات مع الفاتحــة في الصلاة. ,
وآية بسم الله الرحمن الرحيم من وجوه تفضيل المسلمين بنزولها في أول القرآن وافتتاح السور كلها بها عدا براءة ، وتلاوة المسلمين لها في الصلاة ، وعند كثير من المعاملات والحاجات وتسليمهم بموضوعيتها في حياتهم اليومية الخاصة والعامة، وما من مسلم أو مسلمة إلا ويقر بالحاجة إلى البسملة وما لها من المنافع العظيمة.
والبسملة جزء من الإعجاز البلاغي للقرآن فمع قلة كلماتها فانها تتضمن قوة المعاني وجزالة الألفاظ والإختيار الإلهي لإسم الجلالة وإسم الرحمن وإسم الرحيم ، وذكر كل واحد منها ، وإجتماعها في هذه السورة أمور تستلزم الشكر لله تعالى على لطفه وفضله تعالى على المسلمين.
وهي حبل مبارك ممتد من السماء إلى الأرض يدعو المسلمين للتمسك به، ومن الآيات أن كلمات البسملة قليلة وسهلة النطق والحفظ، وخالية من غير أسماء الله تعالى، وليس فيها إلا اسم الجلالة وإسم الرحمن ، واسم الرحيم.
وكل واحد منها يدل على توالي النعم الإلهية، وسعة رحمة الله وتغشيها للناس جميعاً، وفيه سلام ووفاق وسلامة من الغلو، وحرز من الإستعانة بغير الله، دعوة لنبذ الشرك.
وفي الدعاء عن الإمام علي عليه السلام: “يا من دل على ذاته بذاته( ) والبسملة دلالة على وجوب عبادة الله، فهي سبيل الى الهدى والتفكر بآيات الله وبديع صنعه، وتجعل البسملة قلب المسلم روضة من رياض الجنة ، وينبوعاً للخير والصلاح.
وبداية القرآن بالبسملة شاهد على أن القرآن لطف محض وفيض متصل، وتبعث البسملة الأمل في نفس المسلم عند قراءتها، لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان ونفخ فيه من روحه ليكون صلة بين الرب والمربوب، وتفضل وجعل بدايته [بسم الله الرحمن الرحيم] ( )، لتسبح روحه في عالم الملكوت ويتخذ التوكل على الله سلاحاً يقهر به الصعاب، وفي البسملة أمور:
الأول: أنها جذبة من جذبات الخالق للعبد بقيد الإسلام.
الثاني: إنها نعمة ورحمة اختص الله بها المسلمين.
الثالث: هي حرز من الآفات وأسباب الهلكات.
الرابع: ذكر الله واقية من غلبة النفس الشهوية والغضبية، ومن وسوسة الشيطان.
الخامس: البسملة وسيلة سماوية مباركة للإرتقاء في مراتب المعراج.
والبسملة سر من أسرار خلق الإنسان ، وشاهد على تعاهد الإنسان لوظائف الخلافة بأن يتلو البسملة ويجعلها بداية لعمله ومفتاحاً لقوله، وفيها تأديب للمسلمين والناس جميعاً، ودعوة لإستحضار ذكر الله تعالى في حال الشدة والرخاء.
وحينما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء، رد الله عز وجل عليهم بقوله سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فأذعن الملائكة مسبحين، ومن علم الله عز وجل في المقام إمتلاك المسلمين لسلاح البسملة وإبتداؤهم به في عباداتهم وأعمالهم، وهو من مصاديق الفلاح والذكر المتصل في الأرض.
وهل البسملة من مصاديق الذكر في قوله تعالى في وصف المتقين[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، الجواب نعم لأن البسملة نوع توكل على الله، وعزم على الشروع بما يرضي الله.
وورود البسملة في بداية القرآن من مصاديق إمامة القرآن للناس جميعاً، لما فيها من الهداية إلى الرشاد وسبل النجاة، والحث على إفتتاح الأعمال الفردية والعامة ببسم الله تعالى، وتلاوة البسملة نزع لرداء الكبرياء عن الإنسان سواء من يقوم بتلاوتها أو من يستمع لها أو يسمعها، وهي حرب على الشرك والضلالة، وسلاح سماوي لجذب الناس إلى منازل التوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كل أمر ذي بال لم يبدء باسم الله أو بحمد الله فهو أبتر( ).
وتقدير البسملة ابتدأت باسم الله ، أو ابدأ باسم الله الرحمن الرحيم ، فيكون (بسم الله) في موضع نصب مفعول به .
أما على مذهب مدرسة البصرة النحوية فيكون التقدير : ابتدائي باسم الله ، فيكون الظرف الجار والمجرور خبراً للمبتدأ.
وجاء الباء في (بسم الله) للالصاق أي ابدأ باسم الله ، رجاء التوفيق من عند الله لانجاز عمله على الوجه الذي يرضي الله عز وجل ، وفيه الأجر والثواب ، وهل هذا الإبتداء عون لتيسير الأمور وتنجز المطالب ، وحلّ معضلات المسائل ، الجواب نعم إلى جانب ما فيها من الثواب العظيم .
وتتضمن البسملة مع قلة كلماتها ثلاثة أسماء من أسماء الله وهي اسم الجلالة ، الرحمن ، الرحيم .
لبيان قوة المعاني وجزالة الألفاظ في آيات القرآن وعظيم النفع في كل كلمة من القرآن.
والبسملة عنوان وحدة المسلمين ، وقراءتهم لها في الصلوات اليومية وهي من وجوه تفضيل المسلمين والناس جميعاً ، وهل فيها دعوة للإيمان والتعايش المجتمعي والأمن ووسيلة لإنجاز الحاجات الجواب نعم .
ويمكن تسمية الآية آية البسملة والنسبة بينها وبين التسمية عموم وخصوص مطلق فالتسمية أعم ، ويجزي فيها (بسم الله).
وبين الذكر والتسمية عموم وخصوص مطلق أيضاً ، فالذكر أعم فكل تسمية ذكر وليس العكس .
فتكون البسملة تسمية وذكراً ، وقال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، لبيان المندوحة والسعة في فضل الله ، وامتلاء النفوس بالغبطة والسعادة عند ذكر الله.
وقد أنعم الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة بتلاوة القرآن في الصلاة سبع عشرة في اليوم.
والتسمية في بداية كتابة الكتاب والرسالة مستحبة.
وكذا بالنسبة للتسمية في الوضوء وهو مشهور علماء الإسلام ، وقال أحمد : أنها واجبة في الإبتداء بالوضوء.
وعن الإمام الصادق عليه السلام : إذا سميت في الوضوء طهر جسدك كله ، وإذا لم تسمه لم يطهر من جسدك إلا ما مرّ عليه الماء.
وقد صدرت لنا فتوى بعدم جواز كتابة (بسمه تعالى) بدل (بسم الله الرحمن الرحيم).
وفي كتابة البسملة تعظيم لشعائر الله ، قال تعالى [وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا]( ).
وعن ابن عباس (قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت قريش : دقّ الله فاك) ( ).
وولد عبد الله بن عباس قبل الهجرة بثلاث سنوات أي أنه لم يحضر الحادثة ولكنه سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من أحد الصحابة ، والأرجح هو الثاني وتوفى سنة 68 للهجرة .
نسب النبي (ص)
ويعود نسب عدنان جدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام على اختلاف في عدد الأجداد بينهم اختلافاً كثيراً ، ومنهم من قال أنهم ثلاثة .
عدنان بن أدد بن بشجب بن أيوب بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم ( ).
وقيل أنهم خمسة عشر ، عشرون ، أربعون جداً ، ومنهم من قال يتعذر عدّ الأجداد بينهم ، وظهر هذا الإختلاف في أشعار العرب ومنهم علماء النسب إلا أن الإجماع على أن نسب عدنان إلى إسماعيل .
أما قحطان فهو جد العرب العاربة ، وهم قبل إبراهيم عليه السلام ، ومنهم من قال أن نسبه إلى إسماعيل ، وكان ابن عمر يشهد على هذا القول، واستدل عليه بقوله تعالى [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
وخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من الأنصار بأن أباهم إسماعيل .
(عن سلمة بن الأكوع قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال : ارموا يا بني اسمعيل فإن أباكم كان رامياً ، ارموا وأنا مع بني فلان – لاحد الفريقين – فأمسكوا بأيديهم فقال : ارموا . . . ! قالوا : يا رسول الله كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ قال : ارموا وأنا معكم كلكم)( ).
والأوس والخزرج من غسان من عرب اليمن من سبأ ومنهم من قال أن قحطان من سلالة إرم بن سام بن نوح ، وقول أنه من سلالة عابر وهو هود عليه السلام ( ).
قال ابن اسحاق (وولد إرم بن سام عوضاً وغائراً وحويلاً، فولد عوض غاثراً وعاداً وعبيلاً، وولد غائر بن إم ثمود وجديساً، وكانوا عرباً يتكلّمون بهذا اللسان المصريّ، وكانت العرب تقول لهذه الأمم ولجرهم العرب العاربة، ويقولون لبني اسماعيل العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أطهرهم، فكانت عاد بهذا الرمل الى حضرموت، وكانت ثمود بالحجر بين الحجاز والشام الى وادي القرى، ولحقت جديس بطسم وكانوا معهم باليمامة إلى البحرين، واسم اليمامة إذ ذاك جوّ، وسكنت جاشم عمام، والنبط من ولد نبيط بن ماش بن إرم بن سام، والفرس بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام) ( ).
فكان العرب يتناقلون أخبار النبوة ، ومنها البشارة بنبي آخر زمان ، وأن مكان بعثته في جوار البيت الحرام ، ومنها أنه في يثرب ، ولا تعارض بين الأمرين لأن الأخيرة دار هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهذا التعدد من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السابقة لبعثته من جهات :
الأولى : مجئ الكتب السماوية السابقة بأنباء رسالته .
الثانية : الإخبار عن قرب زمان بعثة النبي .
الثالثة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال في أيام صباه وقبل البعثة مطلقاً لوجوه :
الأول : عجز الناس عن معرفة علوم الغيب وتعيين أوان البعثة وشخص النبي .
الثاني : تعدد الأخبار بخصوص محل بعثته.
الثالث : تشتت أذهان أعداء النبوة والتنزيل.
الرابع : المنع من سلطان العداوة والبغضاء القبلية .
الخامس : حجب أثر الخصومة بين قريش وكنانة وغيرها
السادس : إطفاء نائرة الحسد في ذات بيوتات قريش والذي ظهر عند إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته وهم عشيرته أهله .
السابع : فضل الله عز وجل في حفظ وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) وأن الحسد والبغضاء لم يمنع من جمعه لبني هاشم وإنذارهم ، ومن قيامه بدعوة رجالات قريش للإسلام .
أقسام الرؤيا
وفي الليلة البارحة( ) وبعد أن وضعت رأسي على الوسادة بعد منتصف الليل رأيت في المنام كأن أكتب قانون الجدال بين أهل الكتاب والكفار ، فنهضت من السرير إلى مكتبي وهو ملاصق له ، أو بين شطرين منهما في دعوة للعلماء للغوص في كنوز القرآن وذخائر دلالاته ومعانيه غير المتناهية.
الرؤيا الصالحة , وهي حض وبشارة , ومنها رؤيا البشارة للإنذار حديث النفس ما يحدث به الإنسان نفسه في اليقظة .
اضغاث أحلام
ومن أهم معاني الرؤيا الدعاء لتثبيت البشارة , ومحو الإنذار .
عن (عامر بن واثلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
لا نبوة بعدي إلاّ المبشرات.
قيل : يا رسول الله وما المبشرات.
قال : الرؤيا الصالحة)( ).
وهل الرؤيا الصادقة من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) الجواب نعم.
وهو من مصاديق قانون إذا أنعم الله عز وجل بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، وقانون تعدد منافع وفروع النعمة الإلهية فمن منافع نعمة النفخ من روح الله في آدم استدامة الرؤيا الصالحة عند الناس ، ومن الإعجاز في المقام مجيؤها للبر والفاجر ، ويمكن القول بقانون وهو ما من إنسان إلا وقد رآى أكثر من رؤيا صادقة في حياته.
قانون جدال واحتجاج أهل الكتاب على الكفار في نبوة محمد (ص)
[وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ).
وصحيح أن المودة كيفية نفسانية ألا إن قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ] يدل على ظهور هذه المودة بعالم القول والفعل .
والحوار المراجعة بالكلام بين اثنين أو أكثر والنسبة بين الحوار والجدال عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء أنها من اللسانيات والمفاعلة بين طفرن أو أكثر ،ووجود موضوع لها .
ومادة الإفتراق أن الحوار مراجعة الكلام بين اثنين أو أكثر من غير خصومة ، أما الجدال فهو نوع اختلاف ونزاع لفظي ، وتدافع في الكلام أو ما يفيد معناه من الإشارة أو الدلالة .
ومن إعجاز القرآن بيانه للضروب المتباينة من الجدال ، ومنها قوله تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
قانون تلاوة أهل الكتاب تمهيد لرسالة النبي محمد (ص)
من وجوه التباين بين الأديان السماوية والوثنية تلاوة المؤمنين لآيات التنزيل ، فتجد اليهودي والنصراني يتلوان الكتاب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن المشركين ليس عندهم تلاوة إنما هي عبادة الأوثان .
وتتضمن هذه التلاوة البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإطلاع العرب ولو على نحو الموجبة الجزئية عليها ، كما أنها شاهد مقارنة على إعجاز القرآن لمضامينه القدسية وبلاغته ودلالاته .
وفي قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( ).
(قال ابن عباس : نزلت في أهل السفينة الذّين قدموا مع جعفر بن أبي طالب عليه السلام وكانوا أربعين رجلاً اثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من رهبان الشّام منهم بحيرا) ( ).
(وقيل : كان بعضهم من أهل نجران ، وبعضهم من أهل الحبشة ، ومن الروم ، وثمانية ملاحون أصحاب السفينة أقبلوا مع جعفر)( ).
وبعد أن بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً إلى الأصحم عظيم الحبشة يدعوه إلى الإسلام ذكر أنه أرسل ولده وأنه بعث إليه ابنه (اريحا بن الأصحم بن أبجر ) ( ) .
وهل كان حديث النجاشي وحواره مع جعفر الطيار ووفد قريش من مصاديق قانون : قانون جدال واحتجاج أهل الكتاب على الكفار في نبوة محمد (ص)، الجواب نعم .
لبيان قانون شمول الأمصار المتعددة بجدال أهل الكتاب للكفار حول نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
الأول : جدال أهل الكتاب للكفار في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل وأثناء بعثته إذ كان بعض النصارى يفدون إلى مكة للتسوق والتجارة ، كما كان بعض الأحناف والمتألهين من العرب ومن قريش خاصة يتطلعون إلى بعثة نبي آخر زمان ، وكان بعضهم يرجو أن يكون هو نفسه هذا النبي .
وفي التنزيل [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ) والمراد مكة والطائف .
وعن ابن عباس (قال : لما بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك ، ومن أنكر منهم قالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد . فأنزل الله { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم . . . } الآية . { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم . . . }( ) الآية . فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشراً فغير محمد كان أحق بالرسالة { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}( ).
يقولون : أشرف من محمداً يعني الوليد بن المغيرة من مكة ، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف ، فأنزل الله رداً عليهم { أهم يقسمون رحمة ربك}( ) الآية . والله أعلم) ( ).
وكان أفراد من العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤمنون بالله ، وقيل منهم أبو ذر الغفاري.
وقد أجمع زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى ، وهو من قريش على الخروج من مكة ، والضرب في الأرض طلباً للحنيفية، فطاف في البلدان ، وهو يسأل الرهبان والأحبار إلى أن وصل إلى بلدة الموصل والجزيرة.
ثم توجه نحو الشام وطاف بها (انتهى إلى راهب بميفعة من الارض البلقاء كان ينتهى إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين ابراهيم عليه السلام .
فقال إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظلك زمان نبى يخرج من بلادك التى خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية فالحق به فانه مبعوث الآن هذا زمانه.
ويسمى زيد بن عمرو بن نفيل مسلم الجاهلية وقال من المتقارب:
وأسلمْتُ وجهي لمن أسلمتْ … له الأرضُ تحمل صخراً ثِقالاً
دحاها فلمّا استوت شدّها … سَواءً وأرسى عليها الجبالا
وأسلمْتُ وجهي لمن أسلمَتْ … له المُزنُم تحمل عذباً زُلالاً
إذا هي سِيقَتْ إلى بلدةٍ … أطاعتت فصبّت عليها سجالا
وأسلمْتُ وجهي لمن أسلمت … له الريحُ تصْرفُ حالاً فَحالا)( ).
وقد كان زيد شام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال ، يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه.) ( ).
الثاني : أخبار اليهود في المدينة عن نبي آخر زمان وتطلعهم إلى بعثته ، وهذه الأخبار هي علة سكنهم في المدينة وهجرتهم إليها من الشام .
وهل لهذه الأخبار موضوعية في بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة ، الجواب نعم .
الثالث : إيواء النجاشي للصحابة المهاجرين إلى الحبشة ، ورضاه ببقائهم على الإسلام ، وإقامتهم الصلاة اليومية في بلاده ، ثم احتجاجه على وفد قريش بعدم التعارض بين ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات والتنزيل مع رسالة عيسى عليه السلام.
وترشح عن هذا الإحتجاج امتناع النجاشي عن تسليم المسلمين إلى وفد قريش.
لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا إلى النجاشي والبطارقة الذين حوله ليشفعوا لهما عنده ، مع إخبارهم بأن المسلمين يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، وأنه عبد ، وذكروا صفة العبودية على نحو الإطلاق أي من غير إضافتها لله عز وجل وأنه عبد الله.
ولما وصل الوفد إلى الحبشة والتقوا بالنجاشي وحاشيته استدعى جعفر الطيار وأصحابه المسلمين وسألهم (ما يقول صاحبكم في ابن مريم قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التى لم يقربها بشر ولم يفرضها ولد.
فتناول النجاشي عودا من الارض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه)( ).
الرابع : بلوغ أنباء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشام ، وموافقتها للبشارات التي يتوارثها علماء النصارى في الشام عن نبي آخر الزمان كما في حديث هرقل مع أبي سفيان وأصحابه من قريش بعد وصول كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوه إلى الإسلام.
الخامس : توارث الرهبان في الديرة المتفرقة في الجزيرة والشام وأطرافه أخبار بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإدراكهم لحلول أوان البعثة وعلاماتها الكونية والإجتماعية.
قانون التبرأ والنفرة بين الكفار
أبى الله إلا أن يرى الناس وهم في الدنيا القبح الذاتي والغيري للكفر ، ومفاهيم الضلالة ، وهذه الرؤية مطلقة عقلية وحسية ، وتكونعند المؤمن والكافر ، فيشكر المؤمن الله عز وجل ،ويصيب القنوط الكافر ، ويظهر هذا القنوط على اللسان وفي العمل ، وهو من أسباب تعجل المشركين بالإنسحاب من المعركة التي خططوا لها وبذلوا في التهيئ لها الأموال الطائلة ، وفيه حجة عليهم ، ودعوة لهم للتوبة والكف عن الظلم والتعدي .
ومن معاني الحجة في المقام قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، في بيان التلاوم بين رؤساء الكفر وأتباعهم يوم القيامة ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
لقد أنكر رؤساء الكفر أن يكونوا هم السبب في غواية وكفر أتباعهم لأن عندهم عقولاً يفكرون بها وبينوا لهم كيف كانت عندهم فرص لإجتناب نصرتهم ، ولأنهم اتبعوهم طلباً للدنيا ، وانقياداً للهوى والعادة المذمومة من عبادة الأوثان ، ولعل الرؤساء استشهدوا ببعض أبناء قومهم من الذين لحقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحسنوا إسلامهم ، وصاروا يومئذ ممن [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وكان الرؤساء الأتباع في عرصات الآخرة في طريقهم إلى النار ومع هذا رد عليهم الإتباع بالقول [بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، إذ تتوجهون لنا بالأوامر التي فيها كفر بالله عز وجل سواء بالقول أو الفعل ، ومنها الزحف لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المدينة في معركة بدر وأحد والخندق.
لقد كانت البعثة النبوية رحمة للناس ، ونعمة عامة وسبيلاً للنجاة من الفقر ومفاهيم الشرك ومن الإمتثال والغزو المتجدد والوأد قال تعالى [وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ]( ).
لبيان قانون وهو الإبتلاء بالمرض أو الفقر أو البلية الطارئة سبب للجوء الإنسان إلى الله عز وجل .
والمراد من الإنسان في الآية أعلاه جنس البشر لإفادة الألف واللام في الإنسان الجنس والإستغراق فيرجع إلى الله عز وجل يدعوه ويرجوه ويسأله ، فاذا استجاب له الله عز وجل وكشف ما به وزاد عليه من فضله وإحسانه ، كما في قوله تعالى [ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ] فانه قد ينسى حال الشدة والضرر التي كان عليها ، وتخلف عن أداء الشكر لله عز وجل الذي يتجلى بالإيمان ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ]( ).
لقد نزل القرآن بالإحتجاج على الذين كفروا ، وفيه مدد وعون من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
توجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج على ا لذين كفروا وبيان أنهم والأرض التي يعيشون عليها خلق لله عز وجل ، وتفضل الله وذكر أن [خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ] ( ).
وهما الأحد والاثنين ، وقد تقدم عليها خلق السماء وإن جاءت هذه الآيات بتقديم ذكر الأرض ، ولكنها ذكرت أن السماء كانت دخاناً.
ومن الآيات الي ذكرت تقدم خلق السماء على الأرض قوله تعالى [أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا]( ).
ولا يتعارض خلق الأرض في يومين مع قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، إنما أجزاء وطبقات الأرض كلها بالكاف والنون أي خلقها على مراتب ، كما تفضل وأنزل القرآن نجوماً في ثلاث وعشرين سنة مدة البعثة النبوية الشريفة.
ومن إعجاز القرآن عدم ورود لفظ (أنداد) بصيغة الرفع وكأنه إشارة لزوال مفاهيم الشرك .
قانون حفظ الناس
لقد أخبر الله عز وجل عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وفيه دلالة على حفظ الله عز وجل للإنسان في نفسه ورزقه وعمارته للأرض ، وتقريبه إلى سبل الرشاد في أمور الدين والدنيا ، وهل من ملازمة بينهما ، الجواب نعم ، فاصلاح المعاش والأمن والإستقرار ، مناسبة للتدبر في النشأة والخلق ، والذكر والخشوع لله عز وجل ، وإدراك قانون وجوب عبادة الله وأداء الفرائض ، وفيها حفظ للناس ، والتعايش السلمي ، وتلقي النبوة بالتصديق.
ويكون الحفظ من عند الله للناس على أقسام :
الأول : الحفظ لكل إنسان إلى حين أجله صغيراً كان أو كبيراً ، ذكراً كان أو أنثى ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ] ( ) .
عن الإمام علي عليه السلام (لكل عبد حفظة يحفظونه ، لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة ، حتى إذا جاء القدر الذي قدّر له ، خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله أن يصيبه .
وفي لفظ لأبي داود : وليس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك ، فلا تريده دابة ولا شيء إلا قال اتقه اتقه ، فإذا جاء القدر خلى عنه) ( ).
الثاني : تفضل الله عز وجل بحفظ المؤمن وصرف الأذى والضرر عنه مما يحتسبه أو لا يحتسبه (عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وكل بالمؤمن ثلثمائة وستون ملكاً ، يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف ، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل ، كلهم باسط يديه فاغر فاه ، وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين ، لاختطفته الشياطين)( ).
الثالث : الحفظ النوعي العام للأسرة والجماعة والقبيلة ، والشعب والأمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
الرابع : جعل أسباب الرزق والكسب أضعاف ما يحتاجه الناس ، وهذه الأضعاف قانون متجدد في كل زمان ، ومن معاني البركة في قوله تعالى [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( )، ويعجز الناس عن عدّ وإحصاء النعم والخيرات والثمار والأشجار والأنهار والآبار واصناف الأطعمة والنعم التي رزقهم الله عز وجل وهي من سبل استدامة الحياة ، ومعاني اللطف والجود والإحسان من عند الله على الخليفة ، إذ أن قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، نوع وعد من الله عز وجل بالإغداق على الناس ، ومن مصاديق الآية أعلاه سلامة وحفظ النبي والرسول إلى حين تبليغه الرسالة.
الخامس : فضل الله في حفظ النبي في صباه وشبابه ولحين بعثته .
السادس : الذب عن النبي عند إعلانه نبوته ، وقيامه بالتبليغ والدعوة ، وهو من المعجزات التي يتصف به الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
وهل يمكن إغتيال نبي قبل بعثته ، الجواب لا .
فاذا أراد الله عز وجل تشريف وإصلاح واحد من الناس لمنزلة النبوة فانه سبحانه يهيئ له أسباب ومقدمات البعثة ، ويذب عنه إلى أن يأتيه الوحي وينال مرتبة النبوة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً]( ).
بين هاشم وعبد شمس
لقد إبتدأ وجود قريش في الجزيرة العربية بمجئ إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وأمه هاجر زوج إبراهيم للسكن بجوار البيت الحرام ، كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
وتزوج إسماعيل من جرهم القبيلة التي كانت مقيمة هناك ، وتكاثر نسل إسماعيل بفضل الله ودعاء إبراهيم ، وهل لجوار البيت الحرام موضوعية في هذا التكاثر المبارك ، وهي مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، كما كانت دعوة إبراهيم الناس لحج البيت حضاً لذريته للتناسل وإدراك الحاجة إلى الرجال لا للغزو والقتال إنما لأداء المناسك وعمارة البيت ، وإستضافة وفد الحاج والعناية بهم ، والنفع العام من الموارد والتجارات بسبب الحج وزواجهم من نساء القبائل العربية التي تفد إلى مكة أو الذين يتعاطون معهم المكاسب .
وصار وجوه قريش يعملون بالتجارة لعمارة أسواق مكة فيرحلون إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء للتسوق ، وهل هذه الرحلات من فضل الله عز وجل وفيها معجزة ، الجواب نعم ، فهي مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا انفردت سورة قريش بالإبتداء بلام التعليل ومعناها (من أجل ) واتصالها بسورة الفيل وهلاك أبرهة مقدمة للشأن الإجتماعي والإقتصادي العام لقريش ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
وقيل أول من سن رحلة الشتاء والصيف هو هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي ولد نحو سنة (127) قبل الهجرة النبوية ، وفي سنة 500م تقريباً وسمي هاشم لأنه يهشم الخبز والثريد لقومه في سنة المجاعة .
وقد كانت الرئاسة عند قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي صارت داره منتدى الرؤساء .
وكانت ملاصقة للمسجد الحرام (من الوجه الشامي من الكعبة)( ).
وجعلتها قريش داراً للإجتماع والتشاور فسميت دار الندوة ، وهي الآن ضمن توسعات البيت الحرام الأولى كونها كانت قريبة من الكعبة .
وعندما حضرت الوفاة قصي بن كلاب قسّم وظائف البيت الحرام والتي فيها الشرف والرفعة بين ولديه :
الأول : عبد مناف بن قصي واسمه المغيرة بن قصي وولد نحو سنة (430) ميلادية ، وجعل لقصي سقاية الحاج والرفادة، وهي ووظائف عامة في موسم الحج ، والقيادة ، وجعل عبد مناف السقاية والرفادة لولده هاشم جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجعل القيادة لابنه عبد شمس .
الثاني : عبد الدار بن قصي ، وجعل عنده أبوه قصي حجابة البيت الحرام ودار الندوة واللواء .
إذ وُلد لعبد مناف بن قصي بن كلاب أربعة أولاد منهم توءمان وهما :
الأول : هاشم وهو الجد الثاني للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسم هاشم عمرو.
الثاني : عبد شمس ، وإليه يرجع نسب بنو أمية .
الثالث : نوفل .
الرابع : المطلب وهو أصغرهم .
وأم نوفل واقدة بنت عمرو المازنية( ) وأم الآخرين هي عاتكة بنت مرة السلمية.
وكانوا يسمون المجُبرين بكسر الراء ، لأنهم أخذوا حبلاً وأماناً من ملوك زمانهم ، ومن رؤساء القبائل التي تمر عليها قوافلهم فجبروا قلوبهم وقدموا لهم الهدايا ، وأتاحوا لقريش مزاولة التجارة ،وهو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ) .
إذ أخذ (هاشم حبلا من ملوك الشأم والروم وغسان وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة وأخذ لهم نوفل حبلا من الأكاسرة فاختلفوا بذلك السبب إلى العراق وأرض فارس وأخذ لهم المطلب حبلا من ملوك حمير فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن فجبر الله بهم قريشا فسموا المجبرين) ( ).
وذكر (إن عبد شمس وهاشماً توأمان، وأن أحدهما ولد قبل صاحبه، وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت عنها فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء.) ( ).
ونسبة الخبر إلى القيل تضعيف له .
من مقدمات البعثة النبوية
لقد كان هذا التآلف مع القبائل والدول من قبل الأخوة الأربعة من قريش مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، ويعطي الله عز وجل بالأتم والأوفى ، فتعدد المقدمات للبعثة النبوية بسنخيتها وكيفيتها وعددها ، ومنها :
الأول : بشارات الأنبياء والكتب السماوية السابقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وورد عن عيسى عليه السلام في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
الثاني : العلامات الكونية التي تشير إلى قرب أوان بعثته ، وفي سنة ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلع نجم يسمى نجم أحمد وذات الاسم متوارث قبل طلوعه عند أهل الكتاب والمنجمين للدلالة على أوان ولادته وبعثته ، وعن (حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ أَعْقِلُ كُلّ مَا سَمِعْت ، إذْ سَمِعْتُ يَهُودِيّا يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أَطَمَةٍ بِيَثْرِبَ .
يَا مَعْشَرَ يَهُودِ حَتّى إذَا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ قَالُوا لَهُ وَيْلَكَ مَا لَك ؟ قَالَ طَلَعَ اللّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدِ الّذِي وُلِدَ بِهِ .
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَقُلْت . ابْنُ كَمْ كَانَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَقْدَمَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ؟
فَقَالَ ابْنُ سِتّينَ ( سَنَةً ) ، وَقَدِمَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَسَمِعَ حَسّانُ مَا سَمِعَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ) ( ).
و(عن أسامة بن زيد، قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: قال لى حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبى، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه) ( ).
وأخرج ( ابن سعد وابن عساكر عن علي عليه السلام قال بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فإني لأخطب يوما على الناس وحبر من أحبار يهود واقف في يده سفر ينظر فيه .
فلما رآني قال صف لنا أبا القاسم فقلت ليس بالطويل البائن ولا بالقصير وليس بالجعد القطط ولا بالسبط وهو رجل الشعر أسود ضخم الرأس مشرب لونه حمرة عظيم الكراديس شثن الكفين والقدمين طويل المسربة أهدب الاشفار مقرون الحاجبين صلت الجبين بعيد ما بين المنكبين إذا مشى يتكفأ كأنما ينزل من صبب لم أر قبله ولا بعده مثله .
قال علي عليه السلام ثم سكت فقال لي الحبر وماذا ؟
قلت هذا ما يحضرني .
قال الحبر في عينيه حمرة حسن اللحية حسن الفم تام الأذنين يقبل جميعا ويدبر جميعا .
قال علي عليه السلام هذه والله صفته .
قال الحبر وشيء آخر .
قلت وما هو قال وفيه جناء قلت هو الذي قلت لك كأنما ينزل من صبب .
قال الحبر فإني اجد هذه الصفة في سفر آبائي ونجده يبعث من حرم الله وأمنه وموضع بيته ثم يهاجر إلى حرم يحرمه( ) هو ويكون له حركة كحرمة الحرم الذي حرم الله .
ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوما من ولد عمرو بن عامر أهل نخل وأهل الأرض قبلهم يهود .
قال علي عليه السلام هو هو قال الحبر فإني أشهد انه نبي وأنه رسول الله إلى الناس كافة) ( ).
الثالث : هلاك أبرهة وجيشه عندما زحفوا لهدم الكعبة ، وقد ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد قدوم الفيل بأيام ، وعن الإمام الباقر عليه السلام (كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة) ( ).
لينزل بعد البعثة قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ).
الرابع : من الآيات في المقام ورشحات هلاك أصحاب الفيل أنه لو دخل أبرهة وجيشه مكة لسفكوا الدماء وسبوا النساء ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حملاً في بطن أمه إذ ولد بعد حادثة الفيل ، فسلمت نساء قريش والصبيان والرجال من أهل مكة ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبارك حتى وهو حمل في بطن أمه .
لقد أدركت قريش وعامة العرب يومئذ قدسية الكعبة ، ولزوم تقديسها وتعظيم شأن النبوة والتدبر في البشارات والأخبار الخاصة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتحتمل البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول : دعوة للحرب والإقتتال .
الثاني : فيها رحمة وبشارة الألفة والوئام .
الثالث : إنها أمر مستقل لا صلة لها بالحرب أو السلم والرحمة .
والصحيح هو الوجه الثاني أعلاه .
ولا يعلم منافع هذه العلامات والأمارات في جذب الناس إلى الهدى والإيمان إلا الله عز وجل ، فهي تصديق كوني لنبوته ، وهل هي مادة لإحتجاج المؤمنين في الدعوة إلى رسالته تصديقاً وتعضيداً ونصرة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وتحتمل هذه المقدمات سعة وضيقاً وجوهاً :
الأول : تختص هذه المقدمات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتكون من أسباب تفضيله على الأنبياء والرسل السابقين .
الثاني : فوز عدد من الأنبياء بهذه النعمة والتكريم .
الثالث : تغشي هذه النعمة والمقدمة الكريمة لبعثة كل نبي ، وعدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي .
الرابع : إختصاص الرسل بهذه المقدمة التي من أسباب الحفظ والأمن لهم قبل بعثته .
والمختار هو الثالث أعلاه ، مع التباين في المقدمات كماً وكيفاً .
وهو من التخفيف عن الناس بلحاظ الزمان والمكان والحال ، وسنخية المجتمع الذي بعث فيه النبي ، وهو شبيه بحال الأنبياء في ملاقاتهم المشركين في ميدان القتال ، فليس كل نبي قاتل هو وأصحابه المشركين ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
ليثبتوك
لم يرد هذا اللفظ كلمة [لِيُثْبِتُوكَ]( )، في القرآن إلا في هذه الآية وهو من مكر قريش القبيح والسيئ ، ويتبادر إلى الذهن أن المراد من مكرهم ، الفعل المقرون بالدهاء ، والتدبير للخداع وتحقيق المراد بخفاء ، وقد لا يخلو من مباغتة أو غيلة أو خبث .
و(المَكْرُ: احتيال في خفية، والمَكْرُ: احتيال بغير ما يضمر، والاحتيال بغير ما يبدي هو الكيد، والكيد في الحرب حلال، والمكر في كل حال حرام)( ).
ولكن القرآن قيد المكر الخبيث بوصفه بأنه سيء ، قال تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( ).
وهل هذه الآية قانون عام من الإرادة التكوينية أم أنه خاص بمكر المشركين وسعيهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب هو الأول.
وقد تضمنت آيات كثيرة ذم الذين كفروا بسبب مكرهم ، ويعرف خبث مقاصدهم بهذا المكر بالقرائن الحالية والمقالية التي تتجلى في ذات آيات القرآن منها توجه خطاب التخفيف والمواساة إلى النبي محمد بقوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
وورد في التنزيل حكاية عن فرعون [إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ]( )، في اتهامه للسحرة عندما أظهروا اسلامهم وتصديقهم بالمعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام و[قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ]( )، وليس في إعلان السحرة إيمانهم سعي أو قصد أو دلالة على إرادتهم إخراج القبط من مصر ، إنما هو مكر من فرعون لوجوه :
الأول : حجب أهل مصر عن اكتشاف حقائق التنزيل ، ومنعهم من دخول الإسلام.
الثاني : مغالطة فرعون بالخلط بين المعجزة والسحر.
الثالث : الإرهاب والوعيد لمن يدخل الإسلام ، ويصدق بالنبوة ، فبعد أن نعت السحرة بالمكر ، قال [لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
الرابع : بيان مصداق إدعاء فرعون [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين دخول سرايا الإسلام مصر من غير قتال يذكر وصيرورة مصر قلعة الإيمان ، ويحتمل قصد المشركين الذي تدل عليه كلمة [لِيُثْبِتُوكَ]( )، وجوهاً:
الأول : إرادة الحبس والوثاق والسجن .
الثاني : قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : جرح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإصابته بما يجعله عاجزاً عن السعي في التبليغ في البيت الحرام وفي مِنى وأسواق مكة .
فلم يطق المشركون تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس آيات القرآن التي تذم عبادة الأوثان ، وسوء عاقبة الذين غادروا الدنيا بتقديمها والتوسل إليها ، منها [احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ]( )، [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ]( ).
ولم يختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء بذم عبادة الأوثان فقد جاء به كل نبي ورسول كان شائعاً في زمانهم عبادة الأوثان أو عبادة الطاغوت واتباعه في كفره وضلالته.
حديث جئتكم بالذبح
هذه الكلمة وردت ضمن حديث طويل يرويه ابن إسحاق قال (حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ قُلْت لَهُ مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابُوا مِنْ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ ؟
قَالَ حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ قَطّ ، سَفّهَ أَحْلَامَنَا ، وَشَتَمَ آبَاءَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَفَرّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَسَبّ آلِهَتَنَا ، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ أَوْ كَمَا قَالُوا : فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إذْ طَلَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتّى اسْتَلَمَ الرّكْنَ ثُمّ مَرّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمّا مَرّ بِهِمْ غَمَزُوهُ.
قَالَ: فَعَرَفْت ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
قَالَ ثُمّ مَضَى ، فَلَمّا مَرّ بِهِمْ الثّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ثُمّ مَرّ بِهِمْ الثّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَوَقَفَ ثُمّ قَالَ أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَمَا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذّبْحِ . قَالَ فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا كَأَنّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتّى إنّ أَشَدّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ حَتّى إنّهُ لِيَقُولَ انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَوَاَللّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا .
قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتّى إذَا بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ . فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ ( عَلَيْهِمْ ) رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
فَوَثَبُوا إلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ أَنْت الّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، لِمَا كَانَ يَقُولُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَعَمْ أَنَا الّذِي أَقُولُ ذَلِكَ . قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْت رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ . قَالَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبّي اللّهُ ؟
ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ لَأَشَدّ مَا رَأَيْت قُرَيْشًا نَالُوا مِنْهُ قَطّ)( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة ووفق ترجمة الرجال وابن اسحاق هو محمد بن إسحاق بن يسار نزيل العراق ولد سنة 80 للهجرة ، وجده يسار عربي نصراني ممن سُبي حينما دخل المسلمون عين تمر ولا زالت تحمل ذات الاسم وتقع بين الأنبار وكربلاء وأسلم محمد بن إسحاق واعتقه مواليه وهم بنو قيس بن مخرمة بن عبد المطلب ، وكان حسن الوجه ،وقال ابن خلكان كان أحول وأتهم بانه قدري وأنه معتزلي .
و(قال الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق وأكثر ما عيب به التدليس مات سنة خمسين أو إحدى وخمسين ومائة)( ).
ورميه بالتدليس ، تضعيف له مع الإقرار بتوثيقه في الجملة لكتائب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ووثقه جماعة من الرجاليين وضعفه عدد منهم.
ويروي محمد بن إسحاق عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام والزهري ، ونافع ، وعن ابيه إسحاق بن يسار .
وروى عنه (الثوري وشعبة وسفيان بن عيينة ويزيد بن زريع وإبراهيم بن سعد وإسماعيل بن علية ، ويزيد بن هارون ، ويعلى ومحمد ابنا عبيد ، وعبد الله بن نمير وغيرهم، ومن الناس من تكلم فيه.
وكان خرج من المدينة قديما إذ عاش فيها ثلاثين سنة فأتى الكوفة والجزيرة والري وبغداد فأقام بها حتى مات في سنى إحدى وخمسين ومائة ودفن في مقابر الخيزران)( ).
أما (ابن معين فوثقه مرة وضعفه أخرى)( ).
لقد أكثر محمد بن إسحاق من الرواية والأخبار التي تتعلق بكتائب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا يكون الضعف من جهات :
الأولى : كثرة الأخبار عن الوقائع خاصة مع تقدم زمانه على رواية باكثر من مائة سنة .
الثانية : انتقاله في سن الشباب من المدينة ، وذهابه إلى (الكوفة والجزيرة والري (طهران) وبغداد) ( ).
الثالثة : اكثر أخبار محمد بن إسحاق مرسلة ، والإرسال علامة الضعف.
ومن ضعف حديث (جئتكم بالذبح) الإختلاف والتباين في تأريخ ولادة عمرو بن العاص.
الرابعة : لقد نزلت آيات القرآن بالإخبار على أن بعثة النبي محمد [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وكان يدعو الناس إلى الإيمان ويبشرهم بالخير والفلاح والخلود في النعيم الأخروي.
الخامسة : إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ، وتحمل أذى كفار قريش من غير رد ، فلا يغضب أو يتوعدهم بالذبح لأنهم غمزوه.
السادسة : إنفراد ابن إسحاق بهذا الخبر ، وحتى خبر الآحاد فان عدداً من التابعين سمعوه من الصحابة.
وقد تولى عبد الله بن عمرو الولاية لمعاوية بن أبي سفيان في الكوفة ، برهة من الزمن وسكن مصراً وكان يكثر من إظهار الندم على خروجه في صفين إلى جانب معاوية ، ويستغفر الله ، ويقول ما قاتلت ولكن خرجت طاعة لأبي عمرو بن العاص ، وأقر بأنه كان يرفع اللواء ولو كان سمع حديث جئتكم بالذبح لكرره أمام المسلمين.
السابعة : لم يرد الحديث عن أبي بكر الذي ذكر ابن إسحاق أنه كان حاضراً في البيت الحرام يومئذ.
الثامنة : لقد كانت قريش تثور وتنعت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يشتم آباءهم لنزول آيات في ذم عبادة الأوثان فكيف إذا قال لهم (جئتكم بالذبح).
التاسعة : ليس من قتال أو دعوة له أيام إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة فكيف يتوعد قريشاً بالذبح ، وقد أمر طائفة من الصحابة بالهجرة إلى الحبشة لسلامة دينهم ، والإعراض عن أذى قريش ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( )، ومن معاني هذه الآية أعرض عن أذى قريش ، وقابله بالصبر والصفح وتلاوة آيات الرحمة والمغفرة .
العاشرة : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسأل وفود الحج من القبائل بايوائه للنجاة من قريش وتبليغ الرسالة.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَبِثَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتّبِعُ النّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ وَمَجَنّةَ وَعُكَاظَ يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي.
حَتَى أُبَلّغَ رِسَالَاتِ رَبّي وَلَهُ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ الْيَمَنِ إلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ لَهُ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْك.
وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ.
حَتّى بَعَثَنَا اللّهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ.
وَبَعَثَنَا اللّهُ إلَيْهِ فَائْتَمَرْنَا وَاجْتَمَعْنَا وَقُلْنَا : حَتّى مَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يُطَرّدُ فِي جِبَالِ مَكّةَ وَيَخَافُ فَرَحَلْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ فَوَاعَدَنَا بَيْعَةَ الْعُقْبَةِ)( ).
ليوثق حديث جابر هذا حقبة تأريخية وأياماً في تأريخ النبوة ، وهل أراد جابر التفاخر في الحديث وبيان فضل الأنصار ، الجواب نعم ، وقد أثنى الله عز وجل عليهم في القرآن.
إن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القبائل لإيوائه وحمايته شاهد على صبره ، وعدم رده على الأذى الذي يلاقيه من قريش وأنه لا يقوم بالتهديد والوعيد بالذبح مع أنه وأصحابه مستضعفون بينهم.
نعم كانت آيات القرآن تنزيل بالوعيد بالنار للكافرين ، وفي ذات الوقت تنزل آيات البشارة بالجنة لأهل الإيمان والتقوى .
ومع شهرة إبن اسحاق في أخبار المغازي وكتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهذا الحديث (جئتكم بالذبح) ليس من المغازي.
والمختار أن لا أصل لهذا الحديث ، ولم يثبت ، وأن أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخلافه وعلى الضد منه قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، ولو تنزلنا فان تقديره : جئتكم بالذبح إن صررتم على الشرك وواصلتم محاربة النبوة والتنزيل والإنذار من وقوع معركة بدر وأحد والخندق ، قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ولكن أكثر رجالات قريش دخلوا الإسلام طواعية وحتى اذا ما جاء أوان فتح مكة كان الإسلام قد غلب على أهلها.
و(عن ابن عباس قال: لما أنزل الله، عز وجل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}( ) ، أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفا فصعد عليه، ثم نادى: “يا صباحاه”. فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل، تريد أن تغير عليكم، صدقتموني.
قالوا : نعم. قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فقال أبو لهب : تبًّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا، وأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ))( ).
وقال أحمد بن حنبل باسناده عن الإمام علي عليه السلام قال (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، قَالَ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَاجْتَمَعَ ثَلَاثُونَ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا قَالَ فَقَالَ لَهُمْ مَنْ يَضْمَنُ عَنِّي دَيْنِي وَمَوَاعِيدِي وَيَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ وَيَكُونُ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ يُسَمِّهِ شَرِيكٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ كُنْتَ بَحْرًا مَنْ يَقُومُ بِهَذَا قَالَ ثُمَّ قَالَ الْآخَرُ قَالَ فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا)( ).
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نذير لقومه ويرغبهم بالإيمان ويبين نفعه العظيم في النشأتين.
وتوفى عبد الله بن عمرو بن العاص (ليالي الحرة سنة خمس وستين قاله أحمد بن حنبل ، وقال البخاري سنة تسع وستين وهو ابن ثنتين وسبعين سنة)( ).
أي أنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين.
وقال البخاري (ومات عبد الله بن عمرو ليالي الحرة في ولاية يزيد بن معاوية وكنيته أبو محمد ويقال مات سنة خمس وستين وهو بن ثنتين وسبعين)( ).
أي أنه ولد بعد الهجرة النبوية بسبع سنين ، ولكن ورود عنه أنه قال استزاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة القرآن في ثلاث ليال (فقال صلى الله عليه وسلم إنه لن يفقه فيه رجل قرأه في أقل من ثلاث)( ).
وحتى على فرض قبول هذا الخبر فانه لا يدل على أن عبد الله بن عمرو استزاده لنفسه وتلاوته، وابن الجزري أبو الخير محمد بن محمد بن علي الشهير بابن الجزري (751-833) هجرية من القراء ولد في دمشق ومات في شيراز .
ولكن ودرت الرواية مطلقاً عن عبد الله بن عمرو نفسه .
إنما وردت الرواية (عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال : يا رسول الله، أقرأ القرآن في ثلاث .
قال : نعم ، إن استطعت. قال: فكان يقرؤه كذلك حتى توفي)( ).
والمختار أن عبد الله عمرو لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يختم القرآن في ثلاث ليال ، إنما سمع منه كراهة ختم القرآن في أقل من ثلاث ليالِ.
ولم يختصر كتابه على الذين لهم رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر عدداً من الذين ولدوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبوين مسلمين.
وقال ابن عساكر (عبد الله بن عمرو بن العاص يكنى أبا محمد مات سنة خمس وستين وهو ابن سبعين سنة)( ).
وعادة ما تكون العناية والضبط في سنة ومحل الوفاة اكثر منه في سنة وتأريخ الولادة بالنسبة للذوات والسادة ، لأن الوفاة تكون في الطبقات اللاحقة ، وأيام التابعين أو تابعي التابعين وكثرة التدوين والتوثيق في علم الحديث وتراجم الرجال.
كتاب الإستيعاب في معرفة الأصحاب تأليف يوسف بن عبد الله النمري (368-463) وهو من أوائل الكتب التي اختصت بترجمة عدد من الصحابة وتوثيق أسمائهم وأحوالهم وكناهم ، وما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن روى عنهم وتأريخ وفاة كل منهم وعمره وقد اثنى عليه تلميذه ابن حزم الأندلسي.
ولم يثبت الحديث لا بالتواتر اللفظي ولا بالتواتر المعنوي ، وعلى فرض صحته فالمراد الإنذار والتخويف والوعيد من البقاء على حال الكفر ، ولا يعني تحقق الذبح واقعاً لدخول أكثر رجالات قريش الإسلام ، ولقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وخبر ابن إسحاق خبر آحاد في كل سلسلة رجاله وأختلف في خبر الواحد العدل الثقة هل يوجب العلم والعمل ، أم العمل وحده ، وخبر الواحد هو الذي دون المتواتر ، ولا تجتمع فيه شروطه برواية جماعة عن جماعة ،ومن وجوه خبر الواحد :
الأول : المشهور .
الثاني : العزيز وهو الذي رواه اثنان فقط .
الثالث : الغريب ، وهو على قسمين :
الأول : الغريب المطلق الذي ورد المنفرد فيه بأصل السند .
الثاني : الغريب النسبي الذي حصل المنفرد أثناء السند.
ويجمع هذا الحديث قسمي الغريب .
فهذا الحديث يرويه الواحد عن الواحد إلى آخره .
وهو لا يوجب العلم ولا العمل .
فاذا كان أبو بكر حاضراً واقعة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمشركي قريش (جئتكم بالبذح ) فلماذا لم يقم بروايته وذكره وفيه ثناء عليه ، وهل سمع غيره عروة الحديث عن عبد الله بن عمرو ، خصوصاً وأن الصلة بين أل الزبير وام عمرو بن العاص ليست على حال خاصة بعد ثورة عبد الله بن الزبير .
وقد دخل عدد كثير من مشركي مكة الإسلام وحسن إسلامهم ، ولم يذكروا هذا الحديث والوعيد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما سألهم في فتح مكة .
لقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح ومعه عشرة ألف من الصحابة ، ولم يبعد من قريش على الكفر إلا جماعة قليلة بنحو ثلاثمائة رجل وأكثر أهل مكة يومئذ مسلمون .
و(وقف على باب الكعبة ، ثم قال : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم قال : يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم ، قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم.
قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئاً ، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام)( ).
والمختار أنهم ليسوا فيئاً ولم يصبحوا بالفتح عبيداً عتقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة خمس عشرة ليلة بسط الأمن وتنظيم شؤون البيت الحرام ، وتثبيت سنن التوحيد وإقامة الصلاة في أوقاتها خمس مرات كل يوم في البيت الحرام ، ومنع الإختلاف أو التفريط فيه.
ومع القول بحجية خبر الثقة إلا أنه لا يمنع من إحتمال خطئه واشتباهه ونسيانه ، ولكن الأصل هو إعتماد كلامه .
لرجحان تنزهه عن الكذب ، وهو لا يمنع من مناقشة خبره بتدبر ، وعرضه على القرآن والسنة ، وفهم الفاظ الخبر وفق لغة القرآن والقواعد العامة في الإستدلال ، وتعيين الموقف العملي من الخبر.
ومن دون معرفة معاني ودلالات آيات القرآن والجمع بينهما واستنباط الحكم الشرعي منها ، والعلم بالقواعد العامة أو العناصر المشتركة ، يكون الإنسان كالفلاح الذي يعرف كيفية البذر والسقي والزراعة ، ولكنه يقف وسط الأرض التي يريد زراعتها ، وهو لا يعرف حدودها ، ولا يملك البذور ولا أدوات الحرث والسقي ونحوها فيقع في المحذور .
وقد يرد حديث متعدد المسائل فيعرض على القرآن والسنة فيكون فيه ما يوافق القرآن ، ووردت بخصوصه نصوص أخرى معضدة له ، ومنه ما يخالف القرآن فيطرحه جانباً.
وحديث ابن إسحاق مع ضعف سنده لا يخلو من اضطراب في المتن ، إذ ذكره ابن ابي حاتم في تفسيره باسناده قال (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ, ثنا مُحَمَّدٌ, ثنا سَلَمَةُ, عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ, قَالَ: فَحَدَّثَنِي يَحْيى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, قَالَ: قُلْتُ لَهُ:”مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ.
فَقَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ إجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ, سَفَّهَ أَحْلامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ, أَوْ كَمَا قَالُوا.
فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَسْلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ.
فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ, قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ, ثُمَّ مَضَى طَائِفًا.
فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَوَقَفَ, ثُمَّ, قَالَ: أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ.
فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ مِنْ رَجُلٍ إِلا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ وَحَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمُ فِيهِ وَضَاءَةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَأُهُ بِأَفْضَلِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ, حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ رَاشِدًا فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولا, قَالَ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ, اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ, فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمُ الرَّجُلَ وَمَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ مِنْهُ, حَتَّى إِذَا بَدَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ.
فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ, فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوابِهِ.
يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا, لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ .
قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: نَعَمْ, أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ, قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلا أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ.
وَقَامَ أَبُو بَكْرٍدُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي وَيْلَكُمْ [أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ]( )، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لأَشُدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ) ( ).
وأورد ابن أبي حاتم هذا الخبر في تفسير قوله تعالى [إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً] ( ) .
كما ذكر أحمد الحديث في سنده 14/277 .
وابن حيان في صحيحه 27/177 .
والبيهقي في دلائل النبوة 3/161 .
ولم يذكر الحديث في الكتب الستة مع ورود أحاديث ضعيفة في بعضها وهي :
الأول : صحيح البخاري .
الثاني : صحيح مسلم .
الثالث : الجامع للترمذي .
الرابع : سنن أبي داود .
الخامس : سنن النسائي .
السادس : سنن ابن ماجه القزويني ، وجعل بعضهم موطأ مالك بدل سنن ابن ماجه .
ويطلق بعض المتأخرين على هذا الكتب (الصحاح الستة ) ولكنه لا ينطبق على قصد ذات المؤلفين لها ، فعدا مسلم والبخاري لم يشترط الباقون صحة الأحاديث في كتبهم ، ففيها الضعيف بمراتبه ، والمنكر ، والموضوع وإن لم يكن كثيراً .
لذا يكون فيها ترتيب وتفصيل وهو : كتاب مسلم والبخاري والسنن ، ولم يسم الترمذي كتابه إلا (الجامع ) ومع هذا وردت طبعات متأخرة وعلى غلافه (الجامع الصحيح ) ومنها النسخة التي في مكتبتي ومنهم من سماه (السنن ) بدل الجامع .
وحكى الطبري
والقرطبي عن عكرمة ومجاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمشركي قريش (أَنَا نَبِيُّ الرِّحْمَةِ ونَبِيُّ المَلْحَمَةِ، وبُعِثْتُ بالحصادِ وَلمْ أبْعَثْ بالزِّرَاعَةِ) ( ).
ولم يرد حديث الذبح هذا في كتب الحديث المعتبرة ، وهو ضعيف بالإرسال والمتفرد ومخالفته لآيات الرحمة والصفح ، ولغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرأفة واللطف إلى جانب مجيئه بالحض على النكاح وكثرة الإنجاب وعدم التعرض للشيوخ والصبيان والنساء ودور العبادة .
نجاة الإمام علي (ع) ليلة المبيت
لقد مكرت قريش بالعزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المبيت فمكر الله عز وجل بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة في تلك الليلة وفوز الإمام علي عليه السلام بالمبيت في فراشه تورية على كفار قريش الذين أرادوا قتل الإمام علي عليه السلام من جهات :
الأولى : الظن بأنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم كانوا يعلمون بأنه نائم في فراشه ، ولم يعلموا بهجرته في تلك الليلة.
الثانية : قتل الإمام علي عليه السلام انتقاماً منه لأنه خدعهم بالمبيت في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتفويت الفرصة عليهم من إدراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أطراف مكة قبل الإبتعاد عنها.
الثالثة : إسراف قريش في سفك الدماء ، وعدم التورع من قتل الإمام علي عليه السلام خاصة وأن أبا طالب قد مات قبلها .
الرابعة : البطش بالإمام علي عليه السلام لأنه أول من آمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان يصلي معه في المسجد الحرام هو وخديجة بنت خويلد .
الخامسة : قذف الحزن في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الإمام علي عليه السلام وفجعه فيه ، ودعوته للرجوع إلى مكة مواساة وحزناً عليه .
السادسة : منع الإمام علي عليه السلام من تولي الدعوة إلى التوحيد والنبوة في مكة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن قريشاً علموا ببيعة الأنصار .
السابعة : إيذاء وتخويف بني هاشم .
الثامنة : بعث الخوف في قلوب المسلمين والمسلمات الذين بقوا في مكة .
التاسعة : منع الناس من دخول الإسلام .
العاشرة : اشغال الناسعن الإنشغال بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسبابها ، ونتائجها ، وتوجيه اللوم إلى رؤساء قريش بسببها .
الحادية عشرة : منع الإمام علي عليه السلام وبعض الصحابة من اللحوق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة.
ولم يكن الإمام علي عليه السلام يحمل سيفاً ولم يضع سيفاً تحت فراشه لإقامة الحجة على الذين كفروا ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعده بالسلامة .
وعندما رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توافد رجال قريش إلى باب داره وهم يرصدونه حتى ينام فيهجمون عليه قال قال للإمام علي عليه السلام(نم على فراشي، واتشح بردائي الحضرمي الأخضر؛ فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم، فرد هذه الودائع إلى أهلها. وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وآله وسلم لصدقة وأمانته. فبات علي كرم الله وجهه على فراشه صلى الله عليه وسلم وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغار، ولما خرج قام على رءوسهم، وقد ضرب الله على أبصارهم، ونزل تلك الليلة أول سورة يس، فأخذ قبضة من تراب، وجعل ينثر على رءوس القوم وهو يقرأ: ” إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَقِهِمْ أَغْلَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلَنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ “( ) يس وتلا ” وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً “)( ).
قانون إخراج النبي (ص) من مكة ظلم
قال تعالى[إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ أن اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]( ).
وفيه تحذير للكفار من إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين آمنوا بنبوته من مكة، وإخبار بأن عاقبة هذا الإخراج الهزيمة والخسارة للكفار، والغلبة والنصر للمسلمين، ولم تمر الأيام والليالي حتى دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً بعشرة آلاف مسلم في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، وخرج منها باثني عشر ألف على أقل الروايات.
لبيان أن قصر المدة بين خروجه طريداً من مكة وليس معه إلا أحد أصحابه ، وعودته بعد ثمان سنوات بعشرة آلاف صحابي باسلحتهم وليس من جيش في مكة يواجههم معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لابد من دراستها وبيانها ، ولا تتم إلا بأمر خارق ومشيئة من عند الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ) لقانون أعداء الأمس اتباع اليوم ، وهوشاهد على صدق النبوة .
لقد كان فتح مكة نصراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة.
ومن وجوه الإعجاز في المقام زحف جيش المشركين في معركة بدر بألف رجل ثم في معركة أحد في السنة الثالثة ، [فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ) و[كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) وقال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وتتجلى في هذا الزمان تأكيد الدساتير والقوانين على حق الإنسان في الإقامة في وطنه ، وعدم جواز التهجير والمنع منه.
والظلم هو تجاوز الحد والتعدي والإضرار بالغير من دون حق ، وسلبه حقه أو منعه من التصرف فيه ، والظلم على شعبتين :
الأولى : الظلم نوع مفاعلة وفيه أطراف :
الأول : الظالم .
الثاني : موضوع الظلم .
الثالث : الذي يقع عليه الظلم .
الثانية : الظلم الذاتي بأن يظلم الإنسان نفسه .
وقد يجمع مصداق بين الشعبتين أعلاه في أفراد من المعاصي كالزنا والربا .
ووردت مادة (ظلم ) في القرآن (275) مرة وتدل هذه الكثرة على لزوم التنزه عن الظلم ، وتستقرأ من كل آية منها مسائل :
الأولى : إنها مدرسة في علم الكلام .
الثانية : إرادة وإصلاح الناس .
الثالثة : بيان القبح الذاتي للظلم .
الرابعة : العصمة العامة من الظلم .
الخامسة : اللجوء إلى الإستغفار والترغيب فيه ، وأول من أناب وتاب هو آدم وحواء ليكونا أسوة لذريتهما من بعدها .
و(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: “قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ، أَعَايِدِي إِلَى الْجَنَّةِ ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ” فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ( ).
ولقد أخبر الله عز وجل في آيات عديدة عن تنزهه عن الظلم ، وهو الرؤوف الرحيم الذي لا تنفد خزائنه ، والكل عبيده ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ( ) ، ومن مصاديق شطري الآية أعلاه تجلي قانون قصر الظلم وإنحساره في كل زمان وعلى نحو القضية النوعية والشخصية .
وفي التنزيل [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] ( ) ليكون في الآية أعلاه إنذار متجدد للظالمين في كل زمان ومكان ، ولا يختص الظلم في المقام في الحكم بين الناس بل يشمل وإرتكاب المعاصي والسيئات والعزوف عن عبادة الله .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] ( ) نفرة الناس من الظالم وأعوانه ، والتطلع إلى هلاكه وزوال سلطانه ، وهذا التطلع من الفطرة ومصاديق خلافة الإنسان في الأرض .
ومن القرى [الظَّالِمِ أَهْلُهَا] ( ) مكة أيام الجاهلية بعبادتهم الأصنام ، ونصبها بالبيت الحرام ، فاستحقوا العقوبة العاجلة لأنهم أولى الناس بالتقيد بسنن التوحيد ، وعدم إغواء الناس في عبادة وتقديس الأصنام .
ولكن الله عز وجل [رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) أكرم البيت الحرام بأن أمهل أهله ومجاوريه ، وتفضل وبعث بينهم خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من مصاديق دفع الظلم مجئ النعم والفرج وسبل الهداية للناس جميعاً ، وفيه تنزه عن الظلم للذات أو الغير ، فاعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسالته وأخبر الناس عن عدم جواز الشرك لأنه ظلم عظيم ، وعن حرمة الزنا والفواحش والوأد ، وتلا آيات التنزيل التي تعدهم بالجنة ثوابا على التقوى والصلاح .
ولكنهم قابلوا النبوة بالجحود ، وفرضوا الحصار على أهل البيت وآذوا الصحابة ، ثم تمادوا في الظلم باخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، وكان هذا الخروج نجاة من القتل ، وهل يشمل قوله تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً] ( ) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم فهو الإمام بالصبر والهجرة .
قانون النهي عن العدوان
لقد اقترن خلق آدم ببيان قبح العدوان وذمه وضرره على الذات والغير وحضّ الناس على التنزه عنه ، إذ كان إمتناع إبليس عن السجود لآدم عدواناً وظلماً .
ليكون من إصلاح الناس لطاعته صدور الظلم من غير جنسهم ، وفيه دعوة للتضرع إلى الله بالوقاية من الظلم والتعدي ، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) وجاءت السنة النبوية ببعث النفرة من العدوان ، وبيان سؤء عاقبته ، وعن أبي هريرة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتدرون من المفلس ؟ ، قالوا : المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ، ولا متاع له .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته ، وقد شتم هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا .
فيقعد فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يعطي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار) ( ).
ويحتمل قوله تعالى [فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ) وجوهاً:
الأولى : إرادة إستمرار الدفاع ضد الظالمين الذين لم ينتهوا عن القتال والتعدي على المسلمين.
الثانية : المراد من الظالمين في الآية الكريمة هم الكفار الذين قاتلوا المسلمين أوان تلبسهم بالقتال والتعدي.
الثالثة : بيان حقيقة وهي الملازمة بين الكفر والظلم، قال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) ليترشح عن هذه الملازمة حق المسلمين في الدفاع بوجه الكافرين الجاحدين بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وقيامهم بغزو المدينة وأطرافها على نحو متكرر .
الرابعة : إرادة عدوان الظالمين بعضهم على بعض بالتسبيب والمباشرة بالظلم والتعاون فيه ، لذا قال تعالى [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
وفي باب المشتق من علم الأصول ثلاث حالات متعاقبة بخصوص إتيان الفعل وإنطباق العنوان على الفاعل وهي:
الأولى : ما قبل تلبس المبدأ بالحال كما لو كان الطالب يدرس في معهد القضاء ليصير قاضياً.
وهذا تطلق عليه صفة القاضي مجازاً وليس حقيقة.
الثانية : أوان تلبس المبدأ بالحال بأن يباشر القضاء أو يباشر الطبيب الطب ،وهكذا وهو من استعمال اللفظ في المعنى حقيقة .
الثالثة : مغادرة المبدأ لمتعلق الصفة . كما في خروج القاضي على المعاش، وتركه الحكم والفصل بين المتحاكمين وقد أختلف في القسم الأخير على قولين:
الأول : يطلق عليه لفظ القاضي حقيقة بلحاظ تلبسه بالقضاء فعلاً مدة من الزمان.
الثاني : يطلق عليه اللفظ مجازاً لأنه إنسلخ عن المهنة، ولم يعد يزاول القضاء .
والمشهور والمختار هم الثاني.
وجاءت آية البحث لتبين أن كفار قريش ظالمون سواء اعتدوا على المسلمين أو كفوا عن الإعتداء, قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
فاختيار الكفر ظلم للنفس والغير ,ليكون من معاني الآية الكريمة دفع الشك ومنع الإختلاف بين المسلمين في إستحقاق الكفار المعتدين للذم والسعي لحملهم على الإقرار بالتوحيد والعبودية لله عز وجل، وكان الكفر وراء زحف قريش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإجهاز على الإسلام ، لإنعدام الواعز والزاجر الذاتي عند المشركين عن الغزو والتعدي فنزل القرآن لتنمية ملكة التقوى في النفوس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
قانون إصرار المشركين على التعدي
من خصائص الأنبياء مجيؤهم بالحوار ولغة البرهان ، وعزوفهم عن أسباب الظلم لقانون الأنبياء لا يعتدون .
وإذا أُعتدي عليهم فانهم يجتنبون الرد بالمثل إنما يلجأون إلى الصبر من غير التخلي عن الحجة والبرهان ، ولكن فريقاً من رؤساء الكفر يصرون على جمع الجيوش وإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كما في معركة بدر وأحد والخندق ، فنزل قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ) .
وجاءت الآية بصيغة الجمع للدلالة على التعدي العام حتى في القضية الشخصية ولا يتعارض مع شموله .
وفيه آية وإعجاز لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه زجر للكفار عن التعدي، ومنع من إفتتان الناس بهم وبقبيح فعلهم وضلالتهم، وإذ كف المسلمون أيديهم عن الكفار المعتدين فانهم يتمادون في غيهم، ويفتتن بهم الناس، وقد يؤل سكوت المسلمين أنه عن ضعف .
فجاءت الآية باظهار قدسية الشهر الحرام بالرد فيه على الإعتداء، كما يتجلى في آية القصاص[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، فاذا علم الذي يهم بالقتل أنه يُقتل قصاصاً فانه ينزجر عن القتل، ويعرض عنه حتى في ساعة إستحواذ النفس الغضبية عليه، فيكون في الآية أعلاه سلامة للقاتل والمقتول، وسبب للصلاح وبعث الأمن، وكذا بالنسبة لقوله تعالى (والحرمات قصاص).
فان الكفار إذا علموا بأن المسلمين يقتصون منهم في الشهر الحرام يتجنبون القتال فيه لأنهم يفتقرون للأمن والطمأنينة في الأشهر الحرم فلا يعلمون متى يباغتهم المسلمون بالرد، لأن المثلية المذكورة في الآية تشمل المفاجأة والمباغتة، والإعتداء في المقام على أقسام:
الأول: القضية الشخصية بأن يعتدى على أحد المسلمين.
الثاني: الإعتداء على القبيلة والجماعة من المسلمين.
الثالث: إرادة الهجوم العام والتعدي على ثغور المسلمين .
الرابع : التعدي على السرايا التي يبعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها التي تكون للتبليغ ومنها سرية الرجيع ، وجاءت الآية مطلقة وشاملة لهذه الوجوه وما يصدق عليه أنه تعد على المسلمين.
ومن آيات الدفاع عن الملة والنفوس ، قال تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ] ( ) .
ومن معاني حرف العطف الواو في الآية أعلاه عدم قتال المشركين حتى يبدأوا بالقتال والهجوم من جهات :
الأولى : ما ورد في سورة البقرة الآية (191) وفيه وجوه :
الأول : اختصاص القتال بالمشركين من أهل مكة لقوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( ) .
الثاني : لزوم إمتناع المسلمين عن قتال المشركين في مكة وغيرها إلا عند ابتدائهم القتال والغزو لقوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] ( ) .
الثالث : لبيان قانون وهو إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة ليس علة تامة لقيامهم بالغزو والقتال ، فمع التمكن من المشركين يخُرجون من مكة ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
وقد دخلوا الإسلام يوم الفتح وهو من مصاديق الآية السابقة [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
الرابع : تقدير خاتمة الآية : فان قاتلوكم فاقتلوهم كذاء جزاء الكافرين ) أي جزاء المشركين الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويغزون المدينة وأطرافها .
الخامس : حالما يكفوا عن القتال والغزو لا يجوز قتالهم لأن الله عز وجل رحيم بالناس جميعاً ، وهو من مصاديق الآية السابقة [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
إن تعاهد المسلمين لسنن الإيمان، الإذن لهم برد تعدي الكفار بمثله برزخ دون الفتنة وظهور الشرك ومفاهيم الكفر بين الناس، وهو من الشواهد أن الإسلام دين الرحمة والسلم المجتمعي ، وبتقوى الله تدفع شرور الفتنة، ويرجع للمؤمنين القالي ويلحق بهم المتأخر.
قانون علم الناس بالبعثة النبوية
من معجزات الأنبياء معرفة الناس بالبنوة ومعجزاتها وهذه المعرفة على وجوه :
الأول : المعرفة السابقة للبعثة بالبشارات بها .
الثاني : مقدمات البعثة .
الثالث : معرفة الناس بالبعثة أوان الوحي والنبوة .
الرابع : إتساع المعرفة والعصمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ أن هذه المعرفة من الكلي المشكك سعةَ وضيقاَ , ومن فضل الله عز وجل ومصاديق المدد الإلهي للأنبياء إتساع المعرفة والعلم بالنبوة أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها , وهي ليست معرفة مجردة بل تقترب بزيادة عدد المؤمنين , وشيوع العمل الصالح , وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
وتجلت سعة المعرفة بالنبوة وإحاطة الناس بعلومها وذخائرها بنزول القرآن , وهذه السعة من مصاديق تلاوة أجيال المسلمين والمسلمات لآيات القرآن كل يوم بالصلوات الخمسة الواجبة وما في القرآن من قصص الأنبياء وأمجادهم , قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
وكان الناس بخصوص العلم بالبعثة النبوية على وجوه :
الأول : علم أهل مكة ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعلانه مجيئه بالرسالة من عند الله عز وجل .
الثاني : علم جماعات وطوائف من القبائل والمدن القريبة من مكة ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند وفودهم إلى مكة لحج البيت الحرام أو لأداء العمرة، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصل بهم ويدعوهم إلى الإسلام ، كما كان بعض الصحابة يخبرونهم عن البعثة عند الإطمئنان منهم، وعدم الخيفة من إخبار رؤساء قريش عنهم وقد لا يعني هذا أن كل وفد الحاج يعلمون ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنوات البعثة مما قبل الهجرة النبوية , ولكن أخبار النبوة تتوالى عليهم حتى بعد العودة إلى أهليهم وتصل إليهم آيات القرآن .
الثالث : أهل القرى والمدن الذين بلغتهم الدعوة النبوية ومنهم أهل الطائف إذ ذهب إليها التبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة أبي طالب واشتداد أذى قريش له .
الرابع : الذيم ينقل لهم نبأ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته ،فمن أهم وسائط انتشار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي المعجزة وقيل انتشر الإسلام بالسيف ، ولا أصل لهذا القول .
فلم يرد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل السيف بمفرده بداية الدعوة ،وصار عنده أصحاب بواسطة سيفه ، ولم يهاجر (ثلاثة وثلاثون صحابياً ، وثمان عشرة امرأة ) ( ) إلى الحبشة تحت حد السيف من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هاجروا هروباً من سيوف وتعذيب المشركين ، فمن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية تحمل أصحابه الأذى والتعذيب ، وملاقاة أهوال الهجرة ومخاطر الطريق لسلامة دينهم ، فان قلت قد قال الله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وقد قتل بعض المسلمين تحت التعذيب مثل سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ،كما سقط أربعة عشر صحابياً شهيداً في معركة بدر وسبعون في معركة أحد .
وهل الآية أعلاه بخصوص الفاسقين من أهل الكتاب ، وفق نظم الآية الآيات أم أنها قانون عام ، الجواب هو الثاني ، والمقصود هو سلامة المؤمنين من الضرر العام كأمة ، وفي دعوتهم إلى الله ، وقد نال الشهداء مرتبة الخلود ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ).
لقد كانت هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة سبباًُ في علم أهلها بالبعثة النبوية ، وهل ترتب على هذا العلم منافع ، الجواب نعم ، منها إقرار النجاشي بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يأت بما يخالف ما جاء به الأنبياء السابقون .
لقد فرح كفار قريش بانتصار كسرى على الروم ، لأن كسرى يتبع المجوسية ، والروم أهل كتاب فتوعدهم الله عز وجل بالحزن والكآبة عندما يتحقق نصر الروم بقوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
لغة الخلافة
يدل قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، على وجود لغة نزل بها آدم وأصبحت هذه اللغة نواة ومادة لكل اللغات فيما بعد لعمومات خلافة الإنسان في الأرض والحجة لله في التكاليف ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) ولما فيها من الافاضات التي يترشح الثبات والبقاء عنها، لذا قيل ان لغة آدم هي العربية وهي لغة أهل الجنة، وقيل أنها السريانية .
وخلافة الناس في الأرض حجة عليهم ، ووسيلة للإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية ، ومادة للحساب يوم القيامة ، فلم يهبط آدم إلا وهناك لغة يتخاطب بها مع حواء ، ولو دار الأمر بين بقاء ذات اللغة التي تعلمها من الله عز وجل قبلاً وبين استحداث لغة.
فالصحيح هو الأول وتوارث أبناؤه وأحفاده هذه اللغة ، فهي لغة الخلافة ، واللغة الأم والأصل ، ولم تستحدث لغات إلا بالتفرع عنها على نحو التدريج.
وهل تدل لغة الخلافة على أن المراد من الخليفة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، المتعدد من الناس للإشتراك بالتخاطب ، الجواب لا.
ويقسم الوضع من جهات السبب والنشأة إلى قسمين :
الأول : الوضع التعييني والوضع التعيني .
والقرن الأكيد هو تصور اللفظ وتصور المعنى أو المنطق باللفظ وتصور المعنى , إذ تحصل بكثرة الإستعمال أيضاَ فيقع الإقتران في التصور الذهني بين اللفظ والمعنى.
وهل ترشح عن الوضع التعييني والتعيني إختلاط واشتراك وتداخل في اللغات .
الجواب نعم , وهو من أسرار القول بأن بعض الكلمات في القرآن ليست عربية مثل :
المشكاة : سجيل , الطور , اليًم , أباريق , استبرق , وسئل عن ابن عباس عن قوله تعالى [فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ]( )، (فقال هو بالعربية الأسد , وبالفارسية شار).
والمختار أنه ليس من لفظ في القرآن إلا هو عربي , ومن خصائص العربية أنها تأخذ وتتداخل مع غيرها شأنها شأن اللغات الأخرى , وعلى فرض وجود كلمات غير عربية في القرآن فهل يتعارض مع قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا] ( ) الجواب لا، لأن هذه الكلمات قليلة وأخذت صبغة العربية بتداول العرب لها وهي من الوضع التعيني وليس التعييني ، من جهات :
الأولى : تقدم زمان نشوء اللغة العربية على نزول القرآن.
الثانية : اختلاط العرب مع غيرهم .
الثالثة : تجارة العرب في الأمصار ، ومنه البيان والتوثيق التأريخي في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، وهل كانت هذه التجارة حجة على قريش في لزوم التوحيد لما يرون من مظاهره في الأمم الأخرى ولو على نحو الإجمال كالروم والحبشة واليهود إلى جانب حنيفية إبراهيم ، الجواب نعم.
وقد جاء شطر من البيان في (قانون جدال واحتجاج أهل الكتاب على الكفار في نبوة محمد (ص)) أي في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك أقوال أخرى :
أولاً : هذه الألفاظ مشتركة بين العرب وغيرهم .
ثانياً : أخذ العرب هذه الألفاظ واستعملوها فصارت معربة , وإن كان أصلها غير عربي .
ثالثاً : قول آخر مستحدث نذكره وهو أن هذه الكلمات عربية بالأصل , واستعملها غير العرب بالصلات والتداخل بين العرب وعامة الشعوب ونزل القرآن ليؤكد عربيتها .
ومع أن نوحاً نجا هو وأهل بيته بعد أن أصاب الناس الطوفان فلم يرد أنه اخترع لغة جديدة ، لبيان انفراد آدم عليه السلام وحده بتلقي تعلم اللغة من عند الله عز وجل ، ويدل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( )، على تعدد اللغات وأنها من إبتكار البشر باستثناء لغة آدم التي يمكن أن نسميها (لغة الخلافة ).
ترى ما هي منزلة وشأن آدم بالآية أعلاه خاصة وأنه كان نبياً رسولاً ، يحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : تقدير الآية : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه إلا آدم فانه جاء لحواء وذريته بلغة علمها الله له قبلاً .
الثاني : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ومنهم آدم لأن زوجه وذريته هم قومه .
الثالث : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ومنهم ذرية آدم فهم قومه .
وعن أبي ذر قال (قلت يا رسول الله أرايت آدم نبياً كان ، قال نعم ، كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً ، قال له : [يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ( ).
التضاد بين الإسلام والظلم
من خصائص خلافة الإنسان في الأرض ملازمة الإسلام للناس وعدم الإنفكاك بينهما ، وهو من أسرار ومنافع تعليم الله عز وجل الأسماء لآدم ، قال سبحانه [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )وما فيه من تنزيه آدم وذريته عن الظلم والتعدي ، لذا امتنع هابيل عن مقابلة تهديد ووعيد أخيه قابيل بالقتل بمثله ، وفي التنزيل [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ).
ويدل قوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ) وجوب الإنقياد لأوامر الله عز وجل ونشر ألوية السلم والعدل الذي يترشح عن التقوى والإيمان .
وورد في المأثور أن الظلم ثلاث : ظلم الإنسان لربه ولنفسه ولغيره.
وليس من حديث بهذا النص ، إنما ورد هذا القول من باب المجاز ، فظلم الإنسان لربه أي بالكفر والجحود ، والشرك ، قال تعالى [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، والمراد ظلم الإنسان لنفسه وغيره من الناس.
والمختار أن قول ظلم الإنسان لربه غير تام ، وظلم الإنسان لنفسه بالإسراف في المعاصي وبترك الواجبات العبادية ، وأما ظلمه لغيره ، فالإضرار بالناس ، وأكل المال بالباطل وإشاعة الفساد وهجران الفرائض العبادية .
ولكن موضوع الآية وسياقها يكون قرينة على ارادة التعدي على المسلمين وايذائهم.
وفي الآية تحذير وتنبيه بان انتهاء المشركين عن الفتنة لا يعني تخليهم عن أفراد الظلم الأخرى الشخصية منها والنوعية وإخبار بأنها لا تترك سدى.
وفيه دليل على أن قوله تعالى [وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ] ( ) رحمة بالمسلمين والناس جميعاً بما فيهم الكفار لأنهم إذا علموا أن المسلمين يقتصون منهم في الشهر الحرام والمسجد الحرام فانهم يتجنبون التعدي فيها، فتصير مناسبة لمعرفة الناس بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذات امتناع الكفار من التعدي في الحرمات مسائل :
الأولى :إنها معجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : فيه شاهد على صدق نبوته.
الثالثة : تفاني المسلمين في الدفاع عن الإسلام وتعاهدهم للإمتثال للأوامر الإلهية.
وحتى في أحكام الديات فان القتل في الحرمات موجب للتغليظ فيها وهذا التغليظ في ثلاثة أمور:
الأول : مكانية بالقتل في الحرم وفيه دية وثلث.
الثاني : حاليه إذا كان المقتول محرماً في حج أو عمرة وفيه دية وثلث.
الثالث: زمانية بحصول القتل في الأشهر الحرم ففيه دية وثلث الدية.
وذكر أنه إذا قتل شخص محرماً في الحرم وفي الشهر الحرام فعليه ديتان، وبه قال ابن عباس وابن عمر، ودية المسلم مائة من الإبل، فتكون المغلظة مائتين منها أو ما يعادلها من أصول الديات الأخرى، وتحتمل إباحة القتال للمسلمين في الشهر الحرام وجهين:
الأول: إنه قتال مدافعة ودفع للفتنة والضرر.
الثاني: إنه رد وجزاء لإستباحة الكفار للقتال في الشهر الحرام.
والصحيح هو الثاني، وبينه وبين الأول عموم وخصوص مطلق من دون الخروج عن المماثلة في كيفية القتال والرد في الإنتصاف والمجازاة.
ويمكن تقسيم الحرمة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الحرمة الزمانية وهي الأشهر الحرم الأربعة ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
الثاني : الحرمة الحالية عند التلبس بالإحرام .
الثالث : الحرمة المكانية وهي حرمة الحرم المكي.
وهو الموضع الذي يحيط بمكة من جهاتها الأربعة وقد حدده إبراهيم عليه السلام ونصب له علامات تعرف بها حدوده وجددها قصي جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبدا لقريش نزع تلك النصب , والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة , ولكنهم تركوا إزاحتها وتغييرها .
فلما كان عام فتح مكة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تميماًَ بن أسد الخزاعي فجددها.
وهل لأداء الناس الحج من أيام إبراهيم مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل له موضوعية في منع تغشي الظلم ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن أداء مناسك الحج تعضيد عام لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبب في شيوع آيات القرآن ودخولها القرى والمنتديات والبيوت ، وصيرورتها حديث الركبان بما يدل على إعجازها ، وهذا الشياع ليس مجرداً إنما هو سبب لتفكر الناس بالآيات القرآنية والتدبر في معانيها بما جعل الناس يدركون صدق نزولها ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] ( ).
من غايات كتائب النبي
ومن غايات الوحي والنبوة في الكتائب وجوه :
الأول : إظهار صيرورة المؤمنين أمة متحدة في الحل والترحال .
الثاني : الإخبار العملي عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجود أتباع وأنصار له يصدّقون برسالته.
الثالث : دعوة الناس للإيمان.
الرابع : بيان قانون وهو عدم إنحصار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مكة أو أهل المدينة ، لما في هذا الخروج والكتائب من دعوة الناس للإسلام سواء على نحو القضية الشخصية بترغيب بعض الأشخاص بالإسلام وعرضه عليهم ، أو القضية النوعية كون هذا الخروج دعوة عامة للناس ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتتضمن هذه الآية الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج في كتائب وعدم الإكتفاء بالإقامة الدائمة في المدينة ، الجواب نعم ، وهذ علم مستحدث في دلالات الآية القرآنية لبيان أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب بآيات من القرآن وليس من الوحي الخاص في المقام ، فاذ أخبر الله عز وجل بأنه بعث إلى الناس جميعاً فلا يصح أن يبقى في المدينة وحدها ، ولم يعتد الناس الوفود إليها مثل وفودهم إلى مكة لأداء مناسك الحج في كل عام مرة وفي أداء الأفراد والجماعات العمرة طيلة أيام السنة .
الخامس : بيان شاهد عملي لتعاضد الصحابة حفظ شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذبّ عنه ، ومنع أيدي المشركين من الوصول إليه .
السادس : لقد كانت قريش تسير القوافل التجارية إلى الشام واليمن وغيرهما طلباً للمال ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً من بين ظهرانيهم ليسير بأصحابه في الدعوة إلى الله عز وجل من غير طلب ربح أو كسب مال.
السابع : إنذار قريش وزجرها من الإستمرار بايذاء وتعذيب الصحابة وعامة المسلمين في مكة.
الثامن : تحذير القبائل من إعانة قريش ونصرتها إذا قامت بغزو المدينة ، ليكون من الوحي قطع مقدمات الظلم والتعدي على النبوة والتنزيل ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر وقانون لم يغز النبي (ص) أحداً ، الذي صدرت بخصوصه خمسة وعشرون جزءّ من هذا السِفر ، وقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) والذي صدرت فيه أربعة أجزاء وهي (222-223-224-227-230) فيخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسلام لمنع السلاح ولمعان السيوف ، وجريان الدماء بين المسلمين والمشركين ، لتكون هذه الكتائب من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
التاسع : بيان حقيقة وهي قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من المدينة في الكتائب بنفسه ليلتقي بالناس وجهاً لوجه ، ويروا المعجزات ، وتشيع بين الناس.
وبيان قانون وهو تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات وسور القرآن على الناس إبتداءً منه وجعلها وسيلة سماوية لجذبهم للإيمان من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله ، وقانون سلامة آياته من التعارض أو التزاحم في الموضوع أو الحكم.
وقانون عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخشية على القرآن من جدال ، ومغالطة الذين كفروا ، وهذه العصمة متصلة ومتجددة في كل زمان ومكان.
العاشر : لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة خائفاً حذراً ، يطلب النجاة بنفسه من القتل ، ومع أن قريشاً جعلوا لمن يأتي به حياً وميتاً بمقدار ديته وهي مائة بعير ومع هذا فانهم فرحوا بمغادرته مكة محل الدعوة إلى الإسلام بين القبائل الوافدة لها ، وتتجلى معاني فرحهم هذا بقوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
أي أنهم أرادوا خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة لعلمهم بأثر التبليغ في البيت الحرام ، ولظهور الإستجابة للدعوة في بيوتات مكة ، وفي وفود الحاج والمعتمرين ومنهم وفد الأوس والخزرج نواة الأنصار.
ليصير خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب سبباً لخيبة وخزي قريش ، ويدركون حقيقة فتح أبواب الدعوة إلى الله عز وجل في الآفاق بسبب هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو انتشار الدعوة الإسلامية سواء في حال إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أو عند هجرته وخروجه منها ، وهو من مصاديق خاتمة الآية أعلاه [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الحادي عشر : لقد كانت القبائل العربية تكرم قريشاَ لجوارها البيت الحرام ، وعند خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب من المدينة أدركت أنها أكرهنّه على الخروج ولم تحافظ على قدسية البيت وهو في جواره ، ومستجيراً به ، وجاءه الوحي والتنزيل.
لتكون كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حول المدينة رسائل شكاية من ظلم وبطش قريش ، وأن ادعاءهم ولاية البيت الحرام ، وقيامهم بالعناية بشؤون وفد الحاج من جهة السقاية والرفادة وأصول الضيافة لم يمنعهم من الظلم والتعدي على النبوة والتنزيل ، قال تعالى [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
الثاني عشر : كانت قريش تنعت النبي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه شاعر ، وأنه مجنون ، وفي التنزيل [وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ]( ). وعن الشعبي قال (قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن كنت نبياً كما تزعم ، فباعد عن مكة اخشبيها هذين مسيرة أربعة أيام ، أو خمسة أيام ، فإنها ضيقة حتى نزرع فيها أو نرعى ، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا إنك نبي ، أو احملنا إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى الحيرة ، حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت إنك فعلته . فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ( ).
وتمر الأيام وتتحقق ذات الرغائب بفضل الله بازاحة الجبال عن وسط مكة وبسرعة وكثرة النقل وحضور البضاعة إلى مكة بالهاتف ليس من الشام وحده بل من أمريكا وأوربا والشرق ، ويبقى القرآن معجزة خالدة ، سالماً من التحدي.
التقوى مانع من القتال
من معاني قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) تحلي المؤمنين بالصبر ، والإنقطاع إلى الذكر والعبادة خشية من الله عز وجل ورجاء صرفه الفتنة والشرور والآفات عنهم وعن الناس جميعاً ، ولا يمنع هذا الإنقطاع من أخذ الحيطة والحذر من المشركين ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
وقد تقدم بأن هذه الآية حرب على الإرهاب ، واستئصال له ، فالقدر المتيقن منها الإستعداد وأخذ الحيطة من المشركين بما يجعلهم يكفون عن الغزو والهجوم .
وفيه آية فان المسلمين يدافعون عن تفقه وإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، وإدراك حقيقة وهي أن درء الفتنة عن المسجد الحرام وعن المسلمين والناس جميعاً إنما هو بفضل من الله عز وجل لأنه مع المتقين، وهو ناصرهم، وممدهم بأسباب القوة والتمكين وفيه استدامة لشعيرة الحج , قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا] ( ).
إن في رد المسلمين لإعتداء الكفار في الشهر الحرام وهتكهم لقدسيته إزاحة للكفر من الأرض، وبداية لسيادة أحكام الشريعة السمحاء.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن دفاع المسلمين في الشهر الحرام نوع ضرورة، للحاضر والمستقبل لأن فيه إستقامة وهداية إلى الصراط المستقيم، فمتى ما أزاح المسلمون الفتنة بصبرهم ودمائهم وأموالهم وتنزههم عن الظلم فان الدين يكون لله عز وجل, ولا يحصل قتال في الحرم في الأشهر الحرم وفي غيرها.
ومن الإعجاز في هذه الآيات سرعة حصول فتح مكة، فلا يمكن تصور التغيير السريع في مجريات الأمور وسير المعارك، والتبدل في عقائد الناس خلال بضعة سنوات إلا بمعجزة من عند الله عز وجل .
فقد كان زحف جيوش الكفار في قوس الصعود عتوا وعنادا ، فأخرجوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته قهراً، كما في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولم ينقطع هذا الإخراج والوعيد به , فقد صدر في المدينة أيضاً ولكن على نحو الوعيد ومن قبل المنافقين , وفي التنزيل[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ).
وتأتي الآية القرآنية بالأمر للمسلمين بالدفاع فيخاف الكفار ويمتنعون عن القتال والإصطفاف ، فتكون الآية سلاحاً وجيشاً يدرء عن المسلمين الكيد والمكر والقتال وهو من عمومات قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
حتى إذا ما جاء الشهر الحرام بأحكام الكف عن القتال فلا تسمع فيه قعقعة السلاح فيكون مناسبة لنشر مبادئ الإسلام ، وهو مصداق من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومنه قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتثبيت حرمة وقدسية الأشهر الحرم ، ووقف القتال فيها إلى يوم القيامة لتكون مناسبة للعبادة والتقوى.
وهل التقوى من الفطرة [الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] ( ) الجواب نعم لبيان قانون وهو أن المسلمين على دين الفطرة ، وأن مشركي مكة ركبهم الجهل والعناد فاختاروا خلاف الفطرة .
وقد ورد ذكر التقوى في كلام العرب قبل الإسلام بمعنى الوقاية والإحتراز من العدو ونحوه ، كما في شعر امرئ القيس ت 96 ق . الهجرة ، وعنترة بن شداد ت18 ق . الهجرة ، والنابغة الذبياني ت 18 ق . الهجرة ، وغيرهم من الشعراء .
نعم استعمل الشاعر زهير بن أبي سُلمى التقوى بمعنى الخشية وقيل توفى قبل البعثة النبوية بسنة واحدة عن عمر ناهز مائة عام .
وكان يتأله في شعره ويحض على الأخلاق الحميدة ، ووردت أبيات في معلقته تدل على إيمانه بالله والحساب في الآخرة .
ومن شعر (زُهَيْرٍ يمدح هَرِمَ بن سِنانٍ:
ومن ضَريبتَهِ التقَّوْىَ ويَعْصِمُه … من سَيء العَثرَات اللُه والرُّحُمُ) ( ).
وقال في مدحه أيضاً :
(تَقِيٌّ نَقِيٌّ لم يُكَثِّرْ غَنيمةً … بِنهْكَةِ ذي قُربى ولا بحَقَلَّدِ
والحَقَلَّدُ: البخيل السيئ الخلق ) ( ) .
وهِرم بن سنان رئيس قومه (ذبيان ) في الجاهلية سعى في صلح وإيقاف حرب داحس والغبراء ، وتحمل ديات القتلى هو ، والحارث بن عوف وعددها ثلاثة آلاف بعير ، وحلف هرم (ألا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه: عبداً أو وليدة أو فرساً. فآستحيا زهيرٌ مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحاً غير هرمٍ، وخيركم استثنيت. وروى المهلبي: وخيركم تركت) ( ).
لقد نزل القرآن بقانون حضور التقوى في الوقائع والأحداث وعالم القول والفعل ، وقانون موضوعية التقوى في اختيار المسلم ، ومنه التنزه عن الغزو والتعدي والظلم مطلقاً .
وكان زهير لا يمدح إنساناً إلا بما فيه من الخصال الحميدة.
قانون البيان العام للمعجزة إعجاز
من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) إظهار المعجزة للناس وبالناس ، فيتحدث عنها المسلم وغير المسلم ، وتنتقل بوسائط متكثرة ، ومن الناس من يظهر تصديقه لها وإن لم يدخل الإسلام بعد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وبيان المسلمين لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية .
وهو من إعجاز القرآن بأن تكون الآية منه سلاحاً يصاحب المسلمين في مختلف الأحوال فان إعتدى الكفار على المسلمين في الشهر الحرام جاءهم الرد بمثله ، وإن سكتوا لم يقيدوا شعاع أنوار الإسلام ، وتدخل تلاوة القرآن إلى بيوتهم ، فيزدادوا حنقاً ، ومنهم من يهتدي ويدخل الإسلام .
ليكون التنزيل أمضى سلاح شهده التاريخ ، وهو شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتصر بالسيف بل إنتصر بالمعجزة التوليدية المتجددة ، فحذر ويقظة المسلمين وإستعدادهم للرد وإستعمال السيف لا يصدق عليه أن الإسلام انتشر بالسيف ، لأنهم لم يزاولوا القتال بالشهر الحرام ، ولم تأمرهم هذه الآية إلا بالرد على التعدي بمثله ، فيكون هذا الأمر وإظهار الإمتثال له فتحاً ونصراً مبيناً : قال تعالى [فَعَسَى اللَّهُ أن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ]( ).
وتظهر الآية الإذن الإلهي للمسلمين والسعة في صيغ الدفاع والذب عن الدين، كما انها تقطع الطريق أمام المنافقين والمرجفين الذين يحاولون اضعاف المسلمين بالتوكيد على حرمة الشهر الحرام.
أي في الوقت الذي يزاول الكفار اعتداءهم على المسلمين في الشهر الحرام فان المنافقين يقومون بالإرجاف وبث الخلاف بين المسلمين يطالبون علناً باحترام هذا الشهر والسكوت والصبر وعدم الرد على الكافرين، وقد تجد هذه الأقوال آذاناً صاغية مما يسبب بدبيب الإفتتان داخل معسكر المسلمين.
فجاءت الآيات لتخرج حالات العدوان من حرمة هذا الشهر ولقاعدة تقديم الأهم على المهم ,والأهم متعدد من وجوه :
الأول : بقاء الإسلام .
الثاني : دوام العمل بأحكامه .
الثالث : إستدامة حرمة الشهر الحرام .
الرابع : موضوعية أولوية سلامة المسلمين ، وتعاهد أموالهم ومجتمعاتهم .
الخامس : تنجز مصاديق متصلة من الرحمة الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ولأن الكفار لم يبقوا لهذا الشهر حرمة فالباء في (بالشهر) ( ) للسببية أي بسبب قتال وتعدِ الكفار في الشهر الحرام يصح قتالهم في الشهر الحرام وكأنه نوع قصاص ومقابلة بالمثل.
ولم يرد لفظ [بالشهر ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهل هذا الإنفراد علامة وأمارة على إنقطاع القتال في الشهر الحرام ببركة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقرب فتح مكة ، وإنحسار الشرك ، الجواب نعم .
قانون حفظ المسلمين لقدسية الشهر الحرام
من مفاهيم قوله تعالى [ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ…] ( ) بقاء المسلمين في حال يقظة وحذر وتحد واستعداد للمواجهة فلا يلقون أسلحتهم في الأشهر الحرم ولا يميلون إلى الراحة والسكينة خشية قيام الأعداء بمباغتة المسلمين ، ولم يرد لفظ الحرمات في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وهذه الحال واقية من القتال في الشهر الحرام وعامة أيام السنة والأشهر الحرم ثلث أيام السنة ، ورحمة الله في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتغشى أيام السنة كلها ، وكان المشرك يأتي إلى المدينة ليسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يخرج منها على شركه لا يتعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومنهم من يغلظ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيلقاه بالحلم والرأفة ويحتج عليه بآيات التنزيل .
خصوصاً وان ثلاثة من الأشهر الحرم الأربعة تأتي سرداً ومتصلة وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وهي مدة يكفي شطر منها الأعداء كي يستعدوا ويتهيئوا لشن العدوان والهجوم على المسلمين اذا بلغهم انهم وضعوا سيوفهم احتراماً للأشهر الحرم ومالوا الى الراحة كما أن وضع السيوف يترك فراغاً في الوقت فتوجه الطاقات في شطر منها إلى أمور الحياة اليومية والإنشغال بالمسائل الشخصية وشؤون الأٍسرة ولا يصعب معه اعادة تنظيم الصفوف بسرعة والتفقه في الدين.
فقد وردت العناية به على نحو التخصيص والإختصاص بقوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( )، وهذه الطائفة تساعد في منع الفتور وتطرد الملل والسأم من التلاوة والفقاهة بما تبينه من وجوب العبادات والصبر ولزوم طاعة الله تعالى والإخبار عن ثواب الدفاع في سبيله تعالى ومضامين فلسفة الشهادة ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
ومن اعجاز القرآن ظهور الدروس التأديبية في كل آية منه، فموضوع هذه الآية يتعلق باعتداء الكافرين على المسلمين وعلى حرمة الشهر الحرام والإذن بالرد مع انه ليس بهين على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين كما أكدت الآية على تقوى الله والخشية منه ولزوم عدم الإبتداء بالقتال ، وعدم اتخاذ التحرش والكيد سبباً وعذراً لهذا الإبتداء.
وقد خاطب القرآن المسلمين [وَلاَ تَعْتَدُوا] لتنزيه المسلمين عن الإبتداء بالتعدي كماً وكيفاً ، وسواء كان كثيراً أو قليلاً ، ومرة واحدة أو مكرراً ، مع النهي عن الإعتداء والظلم ، للذات والمسلمين أنفسهم وأهل الكتاب والناس جميعاً.
وهل هذا التأديب والتنزه من أسباب جذب الناس لدخول الإسلام أفواجاً والإمتناع العام عن نصرة رؤساء الشرك ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
ومن مصاديق الأمر بالتقوى في المقام اجتناب الإنتقام وكثرة البطش والتمادي في الرد.
وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى [وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وفي الأمر بالتقوى رحمة بالكافرين ايضاً لأن الله سبحانه أرأف بعباده وهو الرحمن الرحيم، فالآية تدعو المسلمين الى الحيطة والرد بالمثل إذ صار الدفاع حكم ضرورة.
والضرورات تقدر بقدرها فيكفي الرد الوقائي وإكرام الشهر الحرام والمقابلة بالمثل ، ولو اظهر الله عز وجل المسلمين على الكافرين فهل عليهم الرد بالمثل .
الجواب لا ، لانتفاء المقتضي وترك الكافرين يتأملون في اخلاق المسلمين والتزامهم بالأمر السماوي ، وفي التنزيل [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
فعدم تمادي المسلمين في القتال وجعجعة السلاح دعوة للناس لدخول الإسلام وشاهد عملي على التزامهم بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله مما يجعل النفوس مطلقاً تميل الى الإسلام ومبادئه.
وقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) تحذير من مفارقة منازل التقوى ، واخبار سماوي خالد عن عدم تعدي المسلمين في كيفية الدفاع وسعته لأن المسلمين هم المتقون أي أن الآية حث لهم على ملازمة التقوى واستحضار الخشية من الله تعالى حال ابتداء القتال واثناءه وعند انتهائه ، والنسبة بين التقوى وإشاعة الأمن عموم وخصوص مطلق ، ومن سنن التقوى التقيد بالأوامر الإلهية ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
قانون قيود القتال في آية واحدة
تدل آيات القرآن على أن الإسلام دين الرحمة وإبتدأت كل سورة من القرآن بالبسملة إلا سورة براءة مع وجود البسملة في آية من سورة النمل [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
وفي البسملة وابتداء التلاوة بها حتى لو كانت من وسط السورة دعوة للسلم ونشر للأمن ، وبعث للطمأنينة في نفوس الناس من المسلم جاراً وصديقاً وصاحباً وشريكاً في العمل .
ومن معاني البسملة أنها قيد من قيود القتال والدفاع عند المسلمين وليس من حصر لهذه القيود في رحمة ورأفة من الله عز وجل بالمسلمين والناس جميعاً.
وموضوع هذا القانون القيود الخاصة بالقتال في آية واحدة مثل قوله تعالى [وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ]( ).
وهذه القيود من وجوه :
الأول : ابتدأت الآية بحرف العطف الواو [وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ]( )، ويعود الضمير فيها للمشركين لقوله تعالى [كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ]( ).
وهو من إعجاز القرآن أي أن المشركين لا يستحقون العهد والميثاق لأنهم خالفوا وظيفتهم بعبادة الله .
لقد جعلوا لله الذي خلقهم واكرمهم بعبادته شركاء ، فبعث إليهم رسوله محمداً بالمعجزة والبينة الباهرة فأصروا على الشرك ، وزادوا عليه بمحاربة النبوة ، ومع هذا فان الله عز وجل أمر الرسول وأصحابه بالإمتناع عن محاربة المشركين والإضرار بهم ما داموا لم يحاربوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الشواهد على أن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً إنما دعوته ذات صبغة سلمية تدعو حتى المشركين إلى الإمتناع عن إثارة الفتن ، وزعزعة السلم المجتمعي.
الثاني : تبين الآية قانوناً وهو أن الشرك ليس سبباً للقتال ، فقد كان أهل مكة مشركين ولم يحاربهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف ، ولم يأمر أصحابه باغتيال عدد من رؤسائهم مثل أبي جهل ، نعم بعد أن قام المشركون بغزو المدينة وأطرافها اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الدفاع عن أنفسهم وأهل المدينة .
الثالث : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن قتال المشركين ليس مانعاً من الإحتراز منهم ، قال تعالى [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً]( )، ومع التحذير الوارد في الآية أعلاه فان الله عز وجل لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمبادرة إلى غزو المشركين ، والإجهاز عليهم .
فمن فضل الله عز وجل منع ظهور المشركين وهل للمعجزة موضوعية بهذا المنع , الجواب نعم.
الرابع : من أسرار العطف في آية البحث عدم تعجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بالقتال ، إنما كانوا يتعاهدون السلم ويدعون المشركين إلى التوبة والإنابة .
ومن مصاديق هذه الدعوة الإحتجاج والبرهان والمعجزة ، وإظهار الصدق والإيمان لذا ورد قبل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ) .
لبيان معجزة في هداية القرآن لسبل الصلاح بقانون تقوى المسلمين طريق هداية الناس إلى الإيمان ، فاذا رآى الناس أن المسلمين يخشون الله في القول والعمل ولا يأتي منهم إلا ما هو نافع ومفيد فانهم يبادرون إلى التوبة والإنابة.
وهل التقوى دعوة صامتة إلى الله أم علانية ، الجواب هي جامع مشترك بينهما ، فمن التقوى الصلاة والصدق والتنزه عن الغدر والخيانة ، وهي أمور ظاهرة ، ومن التقوى الصيام والزهد والعفة.
وفي الحديث القدسي (عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ :كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ يُضَاعَفُ ، الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، قَالَ اللَّهُ : إِلاَّ الصَّوْمَ ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، إِنَّمَا يَدَعُ شَهْوتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي)( ).
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعدد ضروب العبادة ، فمنها اليومي والشهري والسنوي ، ومنها الظاهر والعلني ، ومنها الخفي الخاص بين المسلم وربه مثل الصيام ، وإن كانت أماراته تظهر على المكلف لقانون وهو العبادة نور يتغشى العبد ويظهر في قوله وفعله ، ليكون مظهراً وبشارة للنور الذي يصاحبه يوم القيامة.
وفي قوله تعالى [يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، ورد عن قتادة قال (ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن من المؤمنين يوم القيامة من يضيء له نوره كما بين المدينة إلى عدن أبين إلى صنعاء فدون ذلك حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه ، والناس منازل بأعمالهم)( ).
وفي الآية شاهد على إلزام الكافر بيمينه ولم يرد لفظ (نكثوا) في القرآن إلا في آية البحث والآية التالية لها .
الخامس : لا يجوز قتال المشركين إلا بعد تحقق شرطين :
الأول : نكث ونقض المشركين لأيمانهم التي حلفوها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بأن لا يعتدوا عليهم ولا يعينوا عليهم بالمال أو السلاح أو الأنفس.
الثاني : إعراض المشركين عن العهود التي قطعوها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ومخالفتهم لها بالقول والفعل.
وكأن الآية مقدمة وإذن بدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة كثرة تعدي كفار قريش ، ولبيان أن القتال سيكون محدوداً وقصيراً.
السادس : من إعجاز الآية حصر القتال بخصوص رؤساء الكفر لقوله تعالى [فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ]( )وهم أفراد قلائل .
وورد عن قتادة (في قوله (أئمة الكفر) قال : أبو سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وهم الذين نكثوا عهد الله تعالى وهمّوا باخراج الرسول من مكة)( ).
ولم يرد لفظ (أئمة الكفر) في القرآن إلا في الآية أعلاه من سورة التوبة وهي من آخر سور القرآن نزولاً ، وفيه مسائل :
الأولى : كثرة الناس الذين دخلوا الإسلام.
الثانية : يواظب رؤساء الكفر على ذات العناد والتحريف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاولة جمع الأعوان .
الثالثة : فان قلت ما دام رؤساء الشرك بقوا قلة فلماذا تأمر الآية بقتالهم ، الجواب من وجوه :
أولاً : إثارتهم الفتنة ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
ثانياً : الصلة والتعاون على الإثم بينهم وبين المنافقين .
ثالثاً : رجحان قيام رؤساء الكفر بالإتصال بالدول العظمى آنذاك مثل فارس وبلاد الروم والأمراء في الجزيرة وأطرافها.
رابعاً : يختص الأمر بقتال رؤساء الكفر عند نقضهم المواثيق في صلح الحديبية وغيره ، وصاروا يحرضون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، ويطعنون بالقرآن ، ويدل في مفهومه على عدم جواز قتالهم مع قلتهم إذا تقيدوا بالشروط والعهود التي اختاروها ولم يطعنوا بالإسلام وأحكامه ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
السابع : إخبار آية البحث عن خصلة مذمومة عند رؤساء الكفر والضلال وهي عدم تقيدهم بالأيمان والعهود والمواثيق ، وهل فيه إشارة إلى نقض مشركي مكة شروط صلح الحديبية ، الجواب نعم .
ترى لماذا لا يتقيد رؤساء الكفر بإيمانهم وعهودهم ، الجواب من جهات:
الأولى : قانون الملازمة بين رئاسة الكفر ونقض العهود .
الثانية : قانون غلبة الحسد والغيظ والخنق على رؤساء الكفر لما يشاهدون من إقبال الناس على دخول الإسلام طواعية.
الثالثة : خشية رؤساء الكفر على منافعهم التي ينالون من هذه الرئاسة.
وهل يدل قوله تعالى [أَئِمَّةَ الْكُفْرِ]( )، على وجود اتباع لهم ، الجواب نعم ، وهم قلة أيضاً ، ولا ملازمة بين إمامة الكفر ووجود الأتباع ، لذا فمن إعجاز الآية أنها لم تقل (أئمة الكفار) وليس في القرآن مثل هذا اللفظ.
واختتمت الآية بقوله تعالى [لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ]( )، وفيه وجوه :
الأول : لعلهم ينتهون من الكفر والضلالة.
الثاني : لعلهم ينتهون عن إمامة الكفر ورياسة الشرك .
الثالث : لعلهم ينتهون عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : لعلهم ينتهون عن نقض الأيمان والعهود .
الخامس : لعلهم ينتهون عن الطعن في الإسلام .
السادس : لعلهم ينتهون عن جمع الجيوش والهجوم على المدينة.
السابع : لعلهم ينتهون ويتوبون إلى الله عز وجل .
وتدل خاتمة الآية على أن الأمر بقتال أئمة الكفر نوع تهديد ووعيد لهم لدلالة قوله تعالى [لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ] على بقائهم أحياء.
وفي قوله تعالى [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ]( )، في الآية التي تسمى آية السيف ، قال الحسن البصري (حرمت هذه دماء أهل القبلة)( ).
ومن إعجاز القرآن تعدد الإستثناء فيه للذين تابوا ، منه الآية أعلاه ومنه [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد تبدأ آية بذات الإستثناء كما في قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( )، وقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( )، وقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( )، وقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، لبيان موضوعية التوبة وأنها أمر مستقل يترتب عليه الصلاح.
معجزة عمرة القضاء
لقد أخرج المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قهراً عند الهجرة إلى المدينة ومعه أحد أصحابه بعد أن عزموا على قتله في فراشه ليلة المبيت ليواجه أخطار الطريق ، ولحوق رجال قريش الذي يريدون قتله والفوز بالجائزة من رؤساء قريش وهي مائة ناقة .
ليدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة بدل عمرته في صلح الحديبية التي حرموه منها وكان معه أصحابه الذين حضروا صلح الحديبية وعددهم ألف وأربعمائة لم يتخلف عنهم أحد ، وغاب عنها الذين ماتوا في تلك السنة أي بين صلح الحديبية وعمرة القضاء.
وعن أنس قال (لما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة بين يديه، وفي رواية وهو آخدُ بغرزه وهو يقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله * قد نزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله * نحن قتلناكم على تأويله
وفي رواية بهذا الاسناد بعينه :
خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله)( ).
ولم ينهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قول هذا الشعر الذي فيه شكر لله في المناسبة ولكنه قال له (يا ابن رواحة قل : لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الاحزاب وحده)( ).
وحينما سأل كعب بن مالك النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الشعر قال (لكأنما تنضحونهم( )، بالنبل( )، فيما تقولون لهم من الشعر)( ).
لقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة مكبرين ومهللين وملبين (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك) لإحياء سنة إبراهيم.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً بالأذان فوق الكعبة ، وذكر كل من عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وخالد بن أسيد آباءهم في تلك الساعة بأنهم ماتوا قبل أن يتأذوا بسماع صوت بلال بالأذان.
ولم يعلموا أنهم في عذاب البرزخ ، وأن سماع الأذان رحمة للأحياء ومناسبة للتوبة والإنابة.
ومع العهد والميثاق في صلح الحديبية فان المشركين هموا باخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة في عمرة القضاء إذ لم يطيقوا التكبير والنداء بالرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن خزاعة امتنعوا عليهم فعملوا على الإنتقام منها.
لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم محترزاً من كيدهم ، فجاء بالسلاح والخيل معه ، فظنت قريش أنه يدخل مكة بالسلاح وكان الإتفاق في صلح الحديبية أن يدخل وأصحابه بسلاح الراكب ، أي سيوف قصيرة في القرب .
فقدم مكرز من حفص في نفر من قريش في بطن يأجج في بدايات الحرم وذكرّوه شرط عدم دخوله مكة بالسلاح.
فقال أنه لن يدخل مكة بالسلاح فرضوا وفرحوا إذ كانوا يخشون إجهاز المسلمين عليهم لصيرورة عدد المشركين في مكة قليلاً فقد أنهكتهم الحروب ، ودخل شطر منهم الإسلام.
فابقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتين من الصحابة في بطن يأجج ومعهم السلاح والخيل خشية أن يقدر بهم أهل مكة فيكون السلاح قريباً ، كما أن هذا السلاح زاجر للمشركين عن التعدي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وكان مجموع مدة بقائه وأصحابه في مكة ثلاثة أيام بشرط من مشركي قريش ، فلما أكمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الطواف أمر مائتين من أصحابه أن يذهبوا إلى بطن يأجج فيقيمون على السلاح
(ويأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : تضييق المشركين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في وقت وكيفية أداء المناسك .
الثانية : أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم المناسك عن خوف من الذين كفروا .
الثالثة : وفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعهد ، وتنزهه عن الغدر وما هو خلاف الشرط مع قوة وكثرة عدد المسلمين ، ووهن وضعف كفار قريش .
الرابعة : لم يكن كفار قريش أولياء على البيت الحرام فكانت شروطهم ظلماً وعتوا ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )
اسم عمرة القضاء
وفيه وجوه :
الأول : قضاء عمرة صلح الحديبية التي حرم المشركون منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولا يعني هذا وجوب هذه العمرة ،ولكن للبيان والدلالة .
الثاني : سميت عمرة القضاء لمقاضاة الذين كفروا الذين حرموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من عمرة الحديبية ، وبه قال الشافعي .
وليس من مقاضاة في المقام خاصة وقد نفى القرآن ولايتهم للبيت ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، لقد كان منع المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من العمرة في صلح الحديبية من ظلم المشركين لكل من :
الأول : النبوة والتنزيل .
الثاني : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : البيت الحرام .
الرابع : الصحابة .
الخامس : التأريخ .
السادس : ظلم المشركين لأنفسهم .
وقد فتح هذه التعدد في الظلم أبواب دخول الناس في الإسلام جماعات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الثالث : قضاء وتنجز مصداق الرؤيا التي رآها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) .
وفي تأويل هذه الرؤيا ورد عن ابن عباس أنه قال (كان تأويل رؤياه في عمرة القضاء) ( ).
والمختار عدم إختصاص السلامة من عدم الخوف في الآية بخصوص عمرة القضاء ، إنما تتصل مضامين الآية وفضل الله بهذه السلامة إلى يوم القيامة ، والمدار على عموم المعنى وليس سبب النزول وحده.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كثير الرؤيا و(لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصباح) ( ).
الرابع : معنى عمرة القضاء : قضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نسكهم فيها ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه متلهفين لزيارة البيت برداء الإسلام ، قال تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
وعن القرطبي نزلت فيها الآية[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
وورد عن الحسن البصري في الآية أعلاه (سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل تقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل ، فنزلت).
وقيل المراد من قوله تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ] ( ) .
الشهر الأول أعلاه هو شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، والشهر الثاني هو شهر ذي القعدة من السنة السابعة .
الخامس : سميت هذه العمرة بعمرة القصاص وهو اسم مشهور لها يأتي بالمرتبة الثانية بعد تسمية عمرة القضاء ، قال ابن هشام (وَيُقَالُ لَهَا عُمْرَةُ الْقِصَاصِ لِأَنّهُمْ صَدّوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ سَنَةِ سِتّ فَاقْتَصّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ مَكّةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ الّذِي صَدّوهُ فِيهِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ . وَبَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ })( ).
ولا تعارض بين هذه التسميات ، وكلها تصلح أسماء لمسمى واحد هو عمرة القضاء .
والمختار في رجحانه هو قضاء ما فات من عمرة الحديبية لا بمعنى الواجب ، ولكن صدّ المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عنها , فقضيت بغيرها في السنة الثانية , وفيها حجة ومعجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورد على الصحابة الذين قالوا قد أخبرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الخروج إلى صلح الحديبية أننا سنطوف بالبيت إذ لم يعين أوان هذا الطواف , ولأن وقوعه في السنة السابعة كأنه في السنة السادسة مع تأكيد قانون وهو السلامة من الحرب والإقتتال .
فعادة ما يكون الإحتجاج بالمسمى دون الاسم , ولكن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإحتجاج بكل من .
الأول : الاسم .
الثاني : المسمى .
الثالث : الاسم والمسمى مجتمعان .
الرابع : وضع الأسماء للمسميات سواء بنظرية الإعتبار بأقسامها الثلاثة أو نظرية التعهد كما يأتي في البحث الأصولي اللاحق وهو من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) بلحاظ أن الآية القرآنية خزينة تفتح منها أبواب وكنوز من العلم .
كما وردت مادة المقاضاة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين في صلح الحديبية ، ولم ترد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما وردت عن عطاء وهو من التابعين .
إذ (أخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتمراً في ذي القعدة معه المهاجرون والأنصار حتى أتى الحديبية ، فخرجت إليه قريش ، فردوه عن البيت حتى كان بينهم كلام وتنازع حتى كاد يكون بينهم قتال .
فبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وعدتهم ألف وخمسمائة تحت الشجرة ، وذلك يوم بيعة الرضوان ، فقاضاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت قريش : نقاضيك على أن تنحر الهدي مكانه وتحلق وترجع ، حتى إذا كان العام المقبل نخلي لك مكة ثلاثة أيام ، ففعل .
فخرجوا إلى عكاظ فأقاموا فيها ثلاثة أيام واشترطوا عليه أن لا يدخلها بسلاح إلا بالسيف .
ولا يخرج بأحد من أهل مكة إن خرج معه .
فنحر الهدي مكانه وحلق ورجع حتى إذا كان في قابل من تلك الأيام دخل مكة ، وجاء بالبدن معه ، وجاء الناس معه .
فدخل المسجد الحرام فأنزل الله عليه { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين}( ) وأنزل عليه { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص }( ) الآية) ( ).
لقد أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء الخلق الحميد ، والرحمة والرأفة التي يتصف بها ، ودعا المشركين إلى غذائه إذ تزوج فيها ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية وهي أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب ، وخالة خالد بن الوليد ، وكانت قد جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل التي جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب .
(فَزَوّجَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِمَكّةَ وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ)( ).
وهل من دروس بزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ميمونة في هذه الأيام الثلاثة التي دخل بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة بين ظهراني الكفار , الجواب نعم , منها :
الأول : إشاعة روح السلم والتعايش المجتمعي .
الثاني : بعث الطمأنينة في نفوس المشركين .
الثالث : دعوة أهل مكة وغيرهم إلى الإسلام .
الرابع : إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنساء قريش , وإخباره بأن الهجرة لم تبعده عن قريش وأهل مكة .
الخامس : إئتلاف قريش , والبعث على الهجرة إلى المدينة خاصة وأن شروط صلح الحديبية بعودة الذي يفر إلى مكة لا تشمل النساء .
لقد إنقضت الأيام الثلاثة في مكة بسرعة ولكنها كانت بشارة الفتح إذ ضجت أودية مكة بالتكبير ، ورددت جبالها التلبية .
وجاء حويطب بن عبد العزى مع وفد من قريش وطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغادرة ، وقالوا له (قد انقضى أجلك فأخرج عنا) ( ).
ولم يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يأتهم إنما جاء للبيت الحرام ، وهم ليسوا أولياءه ، ولم يطلب تمديد المدة التي اتفق معهم عليها في صلح الحديبية.
إنما أقام عليهم الحجة بلطف إذ قال (وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، وَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ قَالُوا : لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِك فَاخْرُجْ عَنّا فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَخَلّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ ، حَتّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفَ . فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ هُنَالِكَ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجّةِ)( ).
أي لم يبق عن الحج إلى بضعة أيام ، مما يدل على حضور وفود القبائل إلى مكة تلك الأيام ، ورؤيتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسماع تلاوته وأصحابه القرآن ودعوتهم إلى الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
وقد تقدم تفسير قوله تعالى [الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ) وفيه بيان لشدة
ضرر الكفر والتلبس به وهو بذاته فتنة ، وتترشح عنه الفتن على نحو الإطلاق من جهات :
الأول : الفتنة العامة مقدمة للإقتتال .
الثانية : قد تكون الفتنة الخاصة برزخاَ دون الإيمان .
الثالثة : الفتنة سبب للخلاف والشقاق والإحتراب .
الرابعة : من الفتنة صدً المؤمنين عن الدفاع .
الخامسة : بعث الفتنة على الإرتداد .
السادسة : ترتب الأذى العام على الفتنة , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ] ( ).
السابعة : من أقبح ضروب الفتنة الشرك بالله ، وهو ظلم للنفس والغير , وطريق إلى النار وقد يقع القتل على الفرد الواحد ظلماَ وتعدياَ كما في قتل المشركين لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال .
أما الفتنة فإن أثرها يستمر ويتصل , بالفتنة يحرض المشركون الناس على النبوة والتنزيل , ولابد من لحاظ سياق هذه الآيات وأن المشركين أصروا على إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهو إبتلاء وإستضعاف وفتنة , ووردت كل من الآيتين في سورة البقرة في سياق بيان غرور وطغيان الذين كفروا , ومحاربتهم للنبوة والتنزيل .
فلسفة الأشهر الحرم
كل آية قرآنية كنز وخزينة وكذا كل حكم وتشريع إسلامي مدرسة متكاملة تشـمل وتعالج أوجه الحياة المختلفة ولو على نحو متباين في القوة والضعف فيما بينها.
فأحكام الأشهر الحـرم تتعلق بالزمان وتخصيص فترة دورية منه خالية من القتال الا انها نظام أخلاقي وإجتماعي وتعليمي واقتصادي وجهادي وعقائدي لا يستطيع العقل البشري بلوغ مقاصده السامية.
وفي الأشهر الحرم يستريح المقاتلون من القتال ويتوجهون الى التفقه في الدين وتلقي علوم القرآن وملاحظة الطرق المناسبة والعبرة والدروس من المعارك السابقة للإنتفاع منها ومحاولة سد الثغرات وعدم تكرار الهفوات .
وتستقرأ أكثر هذه الدروس من القرآن كما في الآيات الخاصة بمعركة أحد ، ومنها قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) أي إن وقعت معركة أخرى فلا تهموا بالفشل والجبن ، وكما في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ) فقد اتعظ الصحابة من معركة أحد ، وعندما فاجأتهم جيوش هوازن وثقيف فان الطلائع الأولى من الصحابة ارتدوا إلى الوراء ثم ما لبثوا أن عادوا سريعاً وأحاطوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون موضوعية للإتعاظ من معركة أحد في النصر العام يوم حنين بفضل من الله عز وجل.
وهو من المصابرة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ويمكن للمرابطين الرجوع في الأشهر الحرم إلى أهليهم ومتابعة شؤونهم الخاصة وصحبة العيال ومواقعة الأزواج وحصول الإنجاب وهو أمر حيوي لمواصلة الدفاع في الأجيال والأزمان كما أن الناس جميعاً يعيشون الأمل بدنو وقرب الأشهر الحرم مما ينفي الضجر والملل عن نفوسهم ، ويكون باعثاً لتثبيت السلم المجتمعي في الأرض ونبذ الإقتتال .
وفيه ترغيب بضبط الأهلة وما يتفرع عنها من وجوب رصد هلال شهر رمضان لأداء فريضة الصيام وما في هذا الشهر من البركة وهو وعاء زماني لنزول القرآن ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
وضبط أوان الحج ومقدماته العقلية من قطع المسافة ونحوه ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
ومن ضمن معاني (معلومات) أنها معلومة يكون شهران منها حرم وهما شهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة.
ولقد جعل الله عز وجل ثلاثة من الأشهر الحرم متصلة متتالية وهي مدة مناسبة للإستراحة وقضاء الحوائج والتربص والتفقه في الدين وهداية طائفة من الناس سواء ممن حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك بدر ، وأحد ، والخندق ، أو لم يحاربهم.
وفيها دعوة عامة للجوء للسلم والصلح قال تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وشهر مســتقل هو رجب وفيه تخفيف وتيسير للأمور وتدارك واعانة ومناسبة لإستثمار الوقت وطرد للضجر.
ويخلق نظام الأشهر الحرم عند المسلمين عامة كيفية نفسانية قوامها الإمتثال التام للأوامر الإلهية وعدم الإندفاع وراء الأسباب، فقد يرى المسلمون ثغرة وفرصة للإنقضاض على العدو اثناء الأشهر الحرم ولكن الشريعة تمنعهم ، وهو من مصاديق ورود لفظ [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
فيكون الأمر عبرة وتذكرة للكافرين , وعنواناً للطاعة ومن غير تفريط في صيغ الجهاد , لقد فرض الله عز وجل الأشهر الحرم تخفيفاً ورحمة ، وبما يضمن للمسلمين وعامة الناس المنافع مدتها والأشهر الحرم ملجأ المستضعفين وأمان للعوائل من الغزو والنهب وبشارة تثبيت الأمن والسلم .
وتثبت آية الأهلة والتقيد بالحساب ، وتنمي المدارك وتجعل المسلمين أمة تعتمد الحساب والتخطيط , وادراك قيمة الوقت وموضوعيته في تحقيق الغايات والمقاصد.
والأشهر الحرم مناسبة كريمة لتلقي العلوم الشرعية والإلتفات الى العبادات وأداء مناسك الحج والتفقه في الدين , قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) .
وبذا تتداخل علوم القرآن ، ومن إعجاز القرآن أن آياته تكون تفسيراً عملياً وتثبيتاً واقعياً بعضها للبعض الآخر.
وكما ورد قوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ] في القرآن ثلاث مرات ، فقد ورد قوله تعالى [َإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ثلاث مرات ايضاً وفي هذا التوافق العددي إشارة إلى المعية التي تفيد الحب الإلهي الذي يتضمن المدد والتوفيق واللطف، وفيها حث على التقوى مطلقاً ، وإعانة على التقيد بأحكام الشهر الحرام ورفع الحواجز عن رد الإعتداء فيه.
وفي الآية بشارة النصر والظفر مع التقيد بالأحكام والسنن والحرمات التي جعلها الله عز وجل سواء كانت مكانية كالبيت الحرام أو زمانية كالأشهر الحرم.
لقد نفخ الله عز وجل في الإنسان من روحه، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، وهو سبحانه الذي يرحم الناس جميعاً ومنهم الضعيف ولا يرضى بظلمه والإضرار به من غير حق ، وهو سبحانه الذي يسمع دعوة المظلوم مطلقاً سواء كان مؤمناً أو كافراً.
فجاء قوله [وَلاَ تَعْتَدُوا] بصيغة الإطلاق لتنزيه المسلمين من التعدي عند الضعف، وعند الغلبة لأنها مصاحبة لهم على إختلاف أحوالهم.
لقد تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين يختلفون عن الكفار في الحياة الدنيا والآخرة، بأحكام وآداب القرآن وبشاراته وإنذاراته، وهو من مصاديق تسميته (الفرقان) قال تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
وكما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين فأنه سبحانه أنزل القرآن نذيراً .
وبين الرحمة والإنذار عموم وخصوص مطلق , فالإنذار فرع الرحمة الإلهية، وتبعث الآية المسلمين لإجتناب التعدي، وتنذر الكفار لتعديهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
أما الإختلاف في الآخرة فهو التباين في المقام، فالمؤمنون في النعيم الدائم [وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ]( ).
قانون عصمة كثرة التلاوة والتفسير من الملل
من إعجاز القرآن أن إنفراده بخصوصية كثرة التلاوة ، والتفسير ، والإطناب في الحديث عن آياته وتفسيرها لا يبعث الملل أو السأم عند الناس ، وهل هو من مصاديق الحسن والأحسن في قوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( ) الجواب نعم .
وكل موضوع هناك حد لتفسيره وشرحه وبيانه ، وإن اختلفت المدارك الذهنية ، ولكن القرآن له إعجاز وعصمة ذاتية وغيرية ، إذ تبعث كثرة تلاوته والإستماع له وتشعب تفسيره ومدارسه كماً وكيفاً إلى أمور :
الأول : التفقه في الدين وأمور الحياة .
الثاني : تجدد الإقرار بالتوحيد .
الثالث : إستحضار عالم الآخرة والذي يترشح عن الإستعداد للحساب لكثرة الآيات التي تذكر الآخرة ويوم القيامة وعالم البرزخ ، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ]( ).
الرابع : بعث الطمأنينة والغبطة في النفوس ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ]( ).
آية التطهير وآية صرف السوء عن يوسف
قال تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
ووردت نصوص في كتب المسلمين ، ومنها عن عائشة أن الآية في الخمسة أهل الكساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين قالت (خرج النبي صلى الله عليه وآله و سلم غداة وعليه مرط مرحل( ) من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ( ) )( ).
ومن إعجاز القرآن بيانه بأن الرجس يستجيب لأمر الله فيبتعد عن المعصومين وعمن يشاء الله من خلقه لبيان قانون قدرة وفضل الله سبحانه على إبعاد الرجس عنكم .
وهومن مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وتقدير الآية أعلاه : أدعوني بصرف الرجس عنكم فاستجيب لكم وأصرفه عنكم .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فكما أخبرت الآية أعلاه عن صرف الرجس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ، فقد ورد صرف السوء عن يوسف عليه السلام ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
لبيان قانون وهو صرف الفواحش والمعاصي عن الأنبياء , وهذا الصرف مصاحب لدعوتهم إلى الله عز وجل ، وشاهد على صدق نبوتهم واكرامهم من عند الله عز وجل , وتنزيههم عن الرذائل .
ليكون أسوة وأئمة للناس في سبل الصلاح وبسط الأمن والتعايش السلمي الذي يتقوم بالهدى والإيمان قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا] ( ).
ترى ما هي النسبة بين السوء والرجس
(عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت { وأمر أهلك بالصلاة }( ) كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيء إلى باب عليّ صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول : الصلاة رحمكم الله { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } ( ).
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ثابت قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة : صلوا . . . صلوا . . . قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة) ( ).
لبيان قانون وهو الصلاة درء للبلاء , ووسيلة لصرف الشر والضرر العام والخاص .
ولما تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) جعل الصلاة واجباَ عينياَ على كل مكلف لأنها من أسباب استدامة الحياة والرزق الكريم في الحياة الدنيا , وهي نعمه على الذي يؤديها وغيره وواقية من السوء قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ]( )، ويمكن القول بأن آيات الصلاة ووجوبها وأوانها من مصاديق عنوان هذا الجزء وهو (آيات الدفاع سلام دائم).
ولما احتج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل بخلافة الإنسان في الأرض بأن من الناس قال [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
أخبرهم الله عز وجل بأنه سبحانه يعلم ما لا تعلمون , ومن علم الله عز وجل فرض الصلاة على الرجال والنساء , وفي كل زمان من أيام أبينا آدم إلى ينفخ في الصور وأن الصلاة محصنة من الفساد , وواقية من القتل وسفك الدماء .
وهل يختص موضوع الآية بالخمسة أصحاب الكساء أو العباء أم هو أعم ، الجواب هو الثاني لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولإلحاق الذي لم يولد بعد بالموجود من الأئمة ، مما يدل على قانون وجود المصداق للآية القرآنية في كل زمان ، والمختار أن الأمام المهدي من أهل الآية أعلاه .
في النسخ
الوجه الأول : كثير من الآيات قيل أنها منسوخة ولم يثبت نسخها ، فمثلاً قالوا آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين من الآيات .
ولم يثبت هذا النسخ مثلما لم يثبت اسم آية السيف لقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) لأنه لم يرد لفظ السيف في القرآن ، ولأن الآية تتضمن خيارات متعددة منها الأخذ والحبس والتضييق في الطرق العامة رجاء التوبة والإنابة .
الوجه الثاني : نسخ القرآن بالسنة المتواترة وسنة الآحاد وهو قول ضعيف واستدل عليه بحديث : لا وصية لوارث .
الوجه الثالث : عدم نسخ السنة للقرآن وهو المختار .
لآيات عديدة ولحديث العرض الذي لم يرد عن طرق أهل البيت وحدها ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن سنته تنسخ القرآن ، وعدم الورود هذا أمر وجودي.
(أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام : إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا فردوه) ( ).
وقال الشيخ المفيد أن السنة لا تنسخ القرآن .
وفي كتاب معالم الدين( ) قال يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة.
وقال لا نعرف فيه من الأصحاب مخالف ، والجمهور وافقنا فيه ، وأنكره شذوذ منهم ، والمختار أن الحديث المتواتر لا ينسخ القرآن ، ثم أين هي الأمثلة ؟
وتدل مسألة عرض الحديث النبوي على القرآن عدم نسخه لآيات القرآن لدلالتها على أن القرآن هو الأصل ، وأختلف في هذه المسألة .
وقال الشافعي (روى أن النبي قال ” ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله ) ( ) .
وقال فان هذا الحديث ضعيف ومنقطع ، وقيل أن ذات حديث لا يصح إذا عرضّ على القرآن لأن الله عز وجل يقول [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) وهو استدلال لطيف ، ولكن يرد عليه بأن تقدير الآية على وجوه :
الأول : وما آتاكم الرسول من آيات القرآن فخذوه .
الثاني : وما آتاكم الرسول من البرهان فخذوه .
الثالث : وما آتاكم الرسول من السنن والأحكام فخذوه و(لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرماً وعليه ثيابه، فقال : انزع عنك. فقال الرجل : اتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله؟
قال : نعم { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .) ( ).
(عن ابن عباس قال : ألم يقل الله { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالوا : بلى ، قال : ألم يقل الله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }( ) ب : الآية قال : فإني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت) ( ).
والمراد ليس عرض السنة الثابت صدورها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أحاديث العرض لدفع الأحاديث الموضوعة .
(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعداً من بين عيني جهنم . قالوا : يا رسول الله وهل لجهنم من عين؟
قال : نعم . أما سمعتم الله يقول { إذا رأتهم من مكان بعيد } فهل تراهم إلا بعينين) ( ).
وأحاديث العرض على فرض صحتها شاهد على عدم التعارض بين الكتاب والسنة ، كما أنها تختص بطرح الحديث الذي يخالف كتاب الله ، وقال جمع من الفقهاء بعرض خبر الواحد على الكتاب ، وإليه ذهب جمهور الحنفية ، فيقبل إذا لم يكن في القرآن ما هو بخلافه ، وإليه ذهب أكثر المتكلمين .
والخلاف صغروي إذ يمكن إحصاء وجمع هذه الأحاديث التي يظن مخالفتها للكتاب ، وبيان سندها ، وضعفه براوِِ مجهول أو بالإنقطاع أو الإرسال .
وقد يُرد حديث العرض بما ورد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ( ).
ولكن موضوع هذا الحديث هو ما يرد من خبر صحيح في سنده عن رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو أن السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع ، وهي بيان للقرآن ، ولا تعارض بينه وبين أحاديث العرض .
ومن فضل الله عز وجل إجتهاد الصحابة وأهل البيت والتابعين في منع الأحاديث الموضوعة من التسرب إلى السنة النبوية ، وإن تأخر تدوينها ، وهذا المنع من إعجاز القرآن الغيري ، وفضله على السنة وحاجتها له من غير أن تتعارض هذه الحاجة مع بيانها للقرآن ، وهل يدل قول تعالى [وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) على إختصاص النسخ بالقرآن ، وقانون لا ينسخ القرآن إلا القرآن ، الجواب نعم .
قانون سلامة النبي (ص) في الكتائب معجزة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان أي دراسة لسيرته ومنهاج عمله هي دراسة وتحقيق في مناهج الوحي ، والربط بين سنن الأنبياء لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
فلم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهاجر إلا بالوحي ،ولم يخرج من المدينة في كتيبة إلا بالوحي .
ولم يرسل أصحابه في السرايا إلا بأمر من عند الله عز وجل وقد تكون السرية فرداً واحداً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وعدد الكتائب التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه سبعة وعشرون كما عن ابن إسحاق .
وكان صابراً يتحمل وأصحابه الأذى في هذا الخروج لكن منافعه أكثر من أن تحصى (عن عبد الله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات أوست غزوات فكنا نأكل معه الجراد.
وروى أبو نعيم عن أنس قال: كان أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثنني فألتقط لهن الجراد فيقلينه بالزيت ثم يطعمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عودته سالماً من هذه الكتائب .
وتحتمل المعجزة في المقام وجوهاً :
الأول : إختصاص المعجزة بالكتائب التي وقع فيها قتال مثل معركة بدر وأحد والخندق وحنين .
الثاني : كل عودة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كتيبة وما يسمى غزوة معجزة له .
الثالث : عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تلك الكتائب مجتمعة معجزة واحدة.
والمختار هو الثاني ، وهو من أسباب فزع وهلع كفار قريش ، كما أنه حجة وترغيب للناس لدخول الإسلام من جهات :
الأولى : اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إخلاص الصحابة من حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : عجز أيادي قريش ومكائدهم عن الوصول إليه .
الرابعة : بيان قبح عبادة الأصنام وبطلان الخشية منها , والترويج بأنها تضر أو تنفع ، قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
وكانت هناك شواهد لسعي الكفار لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع أصحابه خارج المدينة لولا فضل الله ، وحضور المعجزة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن استقراء الحكم واستنباط المسائل مستمر ومتجدد ويقتبس بالتحليل والإستنتاج من وجوه :
الأول : آيات القرآن .
الثاني : السنة النبوية .
الثالث : الأخبار والتأريخ .
و(عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)( ).
معجزة الكتائب
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله عز وجل ويخبر الناس عن نبوته ثلاث عشرة سنة وهو مقيم في مكة , ويتحمل اثناءها الأذى الشديد من كفار قريش فهاجر إلى المدينة بأمر من الله عز وجل.
لتكون هذه الهجرة تبدلاً نوعياً في حياة الناس من غير أن يشهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً , ولكن قريشاً أرادت التعجيل بالإجهاز عليه وعلى وأصحابه وإستئصال الإسلام عندما علمت بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب حول المدينة , فقد كبًر عليها الأمر , وامتلأت صدور رجال قريش بالحسد والغيظ والحقد وظهر النفاق في المدينة , بإظهار طائفة الإسلام وإخفائهم الكفر .
وكانت المدينة تسمى يثرب ونزل القرآن بتسميتها المدينة كما في قوله تعالى [وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ]( ).
قال تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
قال تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ومن الإعجاز ورود اسم المدينة لمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المنافقين ، وبيان ضررهم وشرهم ، وفيه أيضاً معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن المنافقين يسعون للخلاص منه ومن أصحابه من المهاجرين والأنصار.
وأن معجزة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل لا تنحصر بخروجه بالكتائب ، وإنكشافه للعدو ، إنما يتعلق قانون سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل بكل يوم يمر عليه من أول أيام البعثة وإلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى ، بل تعرض قبل البعثة للأذى ولكن الله عز وجل دفع عنه .
ولما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن جمعاً من غطفان من بني ثعلبة يجمعون الرجال والأسلحة بموضع اسمه ذو أمر يريدون حرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإغارة على المدينة.
وكان رئيسهم هو دعثور بن الحارث فكان سبب كتيبة اسمها كتيبة غطفان ، وكتيبة ذي أمر وأنمار( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه المتكرر من المدينة وجود من يدخل الإسلام ، ويخبره بحال عدوه من المشركين ، ويدله على الثغرات التي عندهم ، فلا يتخذها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة للإجهاز عليه وإشاعة القتل بينهم ، بل يكتفي بالإحتراز منهم لأنه يعلم أن المعجزات وآيات القرآن تدخل بيوتهم ، وأنهم سيدخلون الإسلام .
فحينا صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من ديار بني محارب بذي أمر وجدوا رجلاً من القوم ، فسألوه اين تريد.
ليطمئنوا هل هو عين ورابية للقوم أم لا ، فأجابهم أريد يثرب .
قالوا : وما حاجتك بيثرب .
لمعرفة قصده من الذهاب إلى المدينة ، فلعله يريد دخول الإسلام ، قال أردت أن أرتاد لنفسي وأنظر ( ).
أي للتسوق ولرؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها عسى أن يدخل الإسلام ، مما يدل على أن أنباء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخلت القرى ، وبلغت أفراد القبائل وأنه يتحرى دلائل النبوة خفية عن قومه ، وأن رؤساء الشرك صاروا يخشون على مقاماتهم ، فجهزوا الجيوش لقتاله .
قال الصحابة له : هل مررت بجمع أو بلغك خبر لقومك .
قال : لا ، أي لم أمر بتجمع الجيوش ، ثم أردف مستدركاً بأن رئيسهم دعثور بن الحارث في أناس من قومه اجتمعوا .
عندئذ أخذه الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبادره بالدعوة لدخول الإسلام فأسلم ، وهذا المعنى من منافع خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب وطرقه أبواب القرى ، ودعوة الأفراد في الطرق العامة إلى الإسلام من غير إجبار أو إكراه مع أن البقاء على عبادة الأوثان أمر قبيح ، عاقبته الخزي والعذاب ، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكره الناس على الإقلاع عن عبادتها ، إنما يدعوهم بالحجة والبرهان إلى منازل الهدى والإيمان , لقد كانت كل آية قرآنية تنزل من السماء تدعوهم لنبذ عبادة الأوثان .
وحالما أسلم جبار قال (يا محمد، إنهم لن يلاقوك، إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائرٌ معك ودالك على عورتهم) ( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبدل حال الإنسان بدخوله الإسلام ، وصيرورته عوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسبباً لتفريق شمل الكفار ، فهو لم يضر قومه بهذا القول إنما حال دون الفتنة والقتال وسفك الدماء .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطمئن لهؤلاء وإن كانوا حديثي عهد بدخول الإسلام ، وهو من معجزاته ، إذ أن هذا الطمأنينة شعبة من الوحي ، ولم يحدث أن وقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في فخ وخسارة كبيرة بسبب هذه المشورة .
فصاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ضم جبار إلى بلال أي يلازمه ويعلمه أمور دينه وأحكام الصلاة لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه لم يطلب الغزو أو القتال أو الغنائم ، إنما يفرح بدخول فرد واحد إلى الإسلام ، وهذه هي الغنيمة ، وهي لبنة في بناء صرح الإيمان ،وتثبيت أركان الإسلام.
وفيه معجزة أخرى وهي وثوق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به وصيرورته دليلاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في أرض قومه من غير أن يخشى من غدرته وغيلته ، ولم يرد عن الصحابة أنهم حذًروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه أو صاروا في حيطة من أمثاله إذ أن الشواهد في المقام كثيرة .
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أول الجيش أم في القلب أو الميمنة أو الميسرة أو المؤخرة والتي تسمى الساقة ، الجواب يسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم تارة في القلب وأخرى في مقدمة الجيش ، وظاهر الخبر هنا أنه في المقدمة .
إذ ذكر (فأخذ به طريقاً أهبطه عليهم من كثيب) ( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حضور ميل الناس الفوري والحال للإسلام من ذات القوم ومن غير إكراه , فهذا الرجل مال إلى ولائه الإيماني ، وتخلى على الإنتماء إلى القبيلة الذي يخالطه الكفر والشرك.
فسار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بطريق قصير وخاص لا يعلمه أحد إلا أهل المنطقة خاصة ، وإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسط باحة القبيلة وبين بيوتها فهرب الكفار إلى رؤوس الجبال نفسهم ،وكانوا قبله قد غيبوا مواشيهم وأنعامهم بعيداً عن أرضهم ، وفرقوها في ذراري الجبال .
وهل هو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب) ( ) الجواب نعم ، إذ أن صرف المشركين سروحهم في رؤوس الجبال ، وهروبهم بأنفسهم من الرعب والخوف الذي لحقهم عند سماع قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
خطة دُعثور لإغتيال النبي (ص)
ترى لماذا لم يلحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمشركين عند فرارهم في رؤوس الجبال خاصة وأنهم تفرقوا فرادى ، وكل جماعة قليلة على رأس جبل أو تل ، الجواب من جهات :
الأولى : لم يأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتحاً أو غازياً .
الثانية : الإكتفاء بتفريق جمعهم ، والبلاغ بأنهم إذا عادوا للتجمع فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعود إليهم ، وهل سيعود بالبطش وملاحقتهم على رؤوس الجبال تأديباً.
الجواب لا ، لأن القدر المتيقن وفق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) هو تفريق جمع المشركين لمنعهم من غزو المدينة ، ولدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب)( ) بالدلالة التضمنية على الإكتفاء ببعث الخوف في قلوب المشركين.
الثالثة : لا يخلو صعود الجبال لملاحقة المشركين من الأخطار والأضرار لأنهم يكونون في حال دفاع ، ويتخذون الصخور متاريس.
الرابعة : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ذات المنطقة دعوة لأهلها ذكوراً وإناثاً لدخول الإسلام ، فبينما كانوا يقدسون الأوثان صار الأذان يرفع في ديارهم خمس مرات ،وهل يسمعه الذين على رؤوس الجبال ، الجواب نعم ، ليدخل الندم والحسرة إلى نفوسهم ، إذ حجبوا عن أنفسهم هذه المنعة .
الخامسة : ترغيب أهل القرى بالإسلام ، والإنسلاخ عن سلطان الرؤساء الكفرة ، بحيث اذا ارادوا جمع الناس لغزو المدينة ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتنعوا عن الإستجابة.
وبلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ماء يسمى ذا أمر فنزل وأصحابه عنده وأصابهم مطر كثير ، وابتلت ثيابهم ، ولم يكونوا يحملون معهم حقائب لملابس إضافية ،فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة ونشر ثيابه على أغصانها لتجف ، واضطجع وانشغل الصحابة بشؤونهم .
أما المشركون فكانوا يرصدون من أعالي الجبال والتلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فتناجوا بينهم ، وحرضوا رئيسهم دعثور -بضم الدال- بن الحارث وكان رجلاً شجاعاً على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبادر ونزل من الجبل ، وتسلل مشتملاً على سيفه إلى موضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام على رأسه شاهراً سيفه وهو يقول :
محمد ؟ من يمنعك متى اليوم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الكلمة الخالدة : (الله).
لبيان مصداق لقوله تعالى [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فدفع جبرئيل في صدر دعثور ، فوقع السيف من يده في الحال ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال له : من يمنعك مني.
فقال دعثور : لا أحد وأنا أشهد أن لا إلا الا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أردف والله لا أكثر عليك جمعاً ابداً .
وفي رواية عن جابر أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال له بعد أن أخذ السيف من يده .
(ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فجاء الى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس)( ).
لقد نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بعض أصحابه ليسمعوا من دعثور نفسه المعجزة وفيه زيادة لايمانهم ، ودعوة للناس للهدى والرشاد ، وقال ابن كثير (غزوة العشيرة ثم غزا قريشاً)( ).
لقد نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بعض أصحابه ليسمعوا عن دعثور نفسه المعجزة وفيه زيادة لايمانهم ، ودعوة للناس للهدى والرشاد ، وقال ابن كثير (غزوة العشيرة ثم غزا قريشاً)( ).
وتدل وقائع هذه الكتيبة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد قريشاً.
وأنه لم يتعرض لعير قريش المتوجهة إلى الشام من جهات :
الأولى : قد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق خروجه من المدينة بعد أن اجتاز بيوت بني دينار تحت شجرة لها ساق ببطحاء ابن أزهر ، وبُني مسجد في ذات الموضع .
الثانية : صنع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه طعام (فأكل منه وأكل الناس معه، فرسوم أثافى البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له المشيرب)( ).
مما يدل على التأني في المسير ، وهو شاهد على عدم خروجه لطلب عدو أو عير مخصوصة ، إذ تتصف العير والقافلة بسرعة السير بانتظام ، خاصة وأن وصول الخبر من مكة إلى المدينة بانفصال العير ، وقصدها الشام يحتاج إلى وقت فيتصدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في الوقت والمكان المناسب ، ثم يستلزم النفير وجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه والتهيئ وإعداد الأسلحة والمؤن ، وكان عددهم كثيراً وهم أربعمائة وخمسون .
الثالثة : أقام النبي في بطن ينبع شهراً كما ورد عن عمار بن ياسر ، ولو كانوا يطلبون قافلة وفاتتهم في ذهابها إلى الشام لأدركوا عودتها إلى مكة محملة بالبضائع من الشام .
الرابعة : وادع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الكتيبة بني مدلج ، وقيل وادع أيضاً حلفاءهم بني ضمرة ، واطمئنان الصحابة في الإتصال وتبادل الحديث مع بني مدلج من غير أن يتعرضوا لهم أو لأموالهم.
ولكن موادعة بني ضمرة تحت في كتيبة ودان.
وقال ابن كثير : فوادعته فيها بنو ضمرة( )، أي أنهم هم الذين طلبوا موادعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجراء عقد معه بعدم إعانة مشركي قريش ونجوهم عليه ، وعلى أهل المدينة فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الموادعة ، وفيه حجة بأنه لم يطلب الغزو بالقتال ، وأنه مستعد لأجراء موادعة وصلح مع أي طرف حتى مع قريش.
وهو الذي دلت عليه سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألوية السلم التي يرفعها في كتائبه ، وتوصياته المتكررة إلى أصحابه بعدم البدء بقتال وتجلت حقيقة طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الموادعة والصلح مع الناس جميعاً بصلح الحديبية إذ صالح قريشاً مع كثرة تعديهم وغزوهم المدينة ، ومنعهم من دخوله وأصحابه إلى مكة لأداء العمرة في ذات السنة ، وتضمن هذا الصلح الأمن للناس لعشر سنوات.
لقد كانت معجزة نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من سيف وغدر قريش نعمة عظمى عليه وعلى أهل البيت والصحابة وأجيال المسلمين ، وهي مناسبة لتوالي نزول آيات القرآن .
لذا دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة ليقوم دعثور نفسه برواية تفاصيل المعجزة فيزيد من إيمانهم ، وهو من أسرار كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبقاء ذكر هذه المعجزة في التأريخ وعند الأجيال المتعاقبة أكبر نفعاً من التعدي لقافلة قريش .
قانون غدر الكفار
لقد كانت حادثة الرجيع وحادثة بئر معونة حجة على الكفار ، ففي شهر صفر من السنة الرابعة وبعد واقعة أحد وما إدعاه مشركو قريش من النصر والغلبة على المسلمين جاء وفد من قبيلة عضل وقارة إلى المدينة ، وذكروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن من قومهم من دخل الإسلام وأنهم بحاجة إلى التفقه في الدين وقراءة القرآن .
فأرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشرة من أصحابه برئاسة مرثد بن أبي مرثد الغنوي والذي كان يتعاقب على بعير هو والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام في طريقهم إلى معركة بدر ، مما يدل على قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقيل عددهم أقل من عشرة ، وهم من القراء ، وفيهم عاصم بن ثابت ، ولما كانوا بالرجيع موضع آبار ماء الهذيل خرج عليهم أحد أحياء هذيل ، وقد تقدم كيف أنهم أحاطوا بهم وقتلوهم ، إلا زيد بن الدثنة ، وخبيب بن عدي ثم باعوهما إلى كفار قريش ، وقد تقدم البيان .
ثم خرج إليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر جمادى الأولى من السنة السادسة يطلبهم بأصحاب الرجيع ، ويذكرهم بقبح فعلهم وتدبيرهم وجمعهم بين الظلم والخيانة والكفر ، وأظهر أنه يريد الشام ليباغتهم ، ولكنهم أخذوا جانب الحذر وهربوا إلى رؤوس الجبال واحترزوا بها .
وتسمى غزوة بني لحيان فلم يلاحقهم النبي ، ولم يقم في ديارهم ويجعلهم في حال حصار وهم على رؤوس الجبال ، إنما توجه إلى عسفان باتجاه مكة ثم عاد إلى المدينة من غير أن يلقى قتالاً ، وحينما عاد من غير قتال أظهر الإستبشار والحمد والثناء على الله عز وجل .
(فكان جابر بن عبدالله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين وجه آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون
أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسواء المنظر في الاهل والمال)( ).
قانون الملازمة بين الشرك والتعدي
لقد كانت الجزيرة قبل الإسلام ساحة للإقتتال والغزو والنهب والسلب ، ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود شواهد في القرآن والسنة توثق هذه الأحوال التي تهدد العرب بالإنقراض وتأذن بانتشارها في الأمصار المجاورة والتي لا تخلو من نظام الغاب أيضاً.
ومن الإبتلاء الذي صاحب الشرك وأد كثير من العرب لبناتهم في المهد ، وهو باب تقطع النسل جرياً وانطباقاً .
وحتى الدول الكبرى كانت الحروب بينها متجددة ويدل عليه قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) والآيات أعلاه أول آيات سورة الروم .
لقد غلبت جيوش فارس أيام البعثة النبوية ، ففرح مشركو مكة لأن فارس مجوس وليس عندهم كتاب ظاهر ، بينما الروم أهل كتاب نزل القرآن بالإقرار بملتهم وأن أكثرهم تبع لعيسى عليه السلام الذي يذكره القرآن بالرسالة والمعجزة من حين ولادته من غير آب وكذا فان انتشار المسيحية بعد رفع عيسى عليه السلام معجزة له.
لقد تفاءل المشركون بهذه الغلبة ، فنزل قوله تعالى أعلاه وفيه مسائل :
الأولى : بيان القرآن وللأحداث والوقائع خارج الجزيرة ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : التحدي للمشركين.
الثالثة : إخبار القرآن عن علوم الغيب ، فيعجز الإنسان أن يرمي الجيوش التي انتصرت تواً بالهزيمة والخسارة القريبة .
الرابعة : بيان التباين والتضاد بين الإيمان والكفر .
الخامسة : دعوة المسلمين للرأفة والوئام مع أهل الكتاب .
وهل قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) من البراهين على قانون الملازمة بين الشرك والتعدي ، الجواب نعم .
وعن ابن عباس (في قوله { الم غلبت الروم} قال : غُلبت . وغَلبت قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان.
وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب ، فذكروه لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما أنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم.
فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا .
فجعل بينهم أجلاً خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : الا جعلته أراه قال : دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله { الم غلبت الروم } فغلبت ، ثم غلبت بعد . يقول الله { لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله })( ).
وإذا كان الفرس قد انتصروا على دولة الروم مع كثرة جيوشها وأسلحتها وكنوزها ، فأنهم قادرون على الزحف نحو الجزيرة بمعشار الجيوش التي حاربت الروم ، وإن كانت قبائل العرب حينئذ تعطل الخصومات بينها ، وتتحدد في محاربة الغزاة بصبر وأناة مع حال الفقر والقفار ونقص الماء والكلأ في الجزيرة الذي اعتاده العربي بينما تعجز جيوش الغزاة عن توفير الطعام لها ، والعلف والماء لدوابها وخيلها ، والفيلة إن جاءوا بها ، إذ يشرب الفيل الواحد نحو مائتي لتر من الماء كل يوم .
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية عدم قيام الفرس أو الروم بارسال جيوش إلى المدينة للقضاء على الإسلام مع إشتداد المعارك بينه وبين قريش ، وقيام بعض رؤساء قريش بالذهاب إلى بلاد الروم وفارس والحبشة وحمل الهدايا إلى الملوك والوزراء ، والمختار أنهم سعوا هناك في التحريض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولأن الله عز وجل لا يرضى بالتعدي في ملكه ، ولم يجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إلا ليعمرها بالعبادة والصلاح ، فانه سبحانه يبغض المعتدين ، كما ورد في قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) ليكون من معاني الآية الكريمة أعلاه بيان قانون وهو وجوب تنزه المؤمنين عن الإلتقاء مع المشركين في صفة التعدي ، وما يترتب عليها من الأضرار.
وهل تفيد الآية أعلاه الإطلاق أم أنها تحصر عدم حب الله للمعتدين بالكفار .
ويكون تقديرها : إن الله لا يحب المعتدين الكفار .
المختار هو الأول لأصالة الإطلاق ولأن الكفار يبغضهم الله عز وجل لكفرهم فهو تعد على الذات والغير ، إلى جانب قيام المشركين بمحاربة النبوة والتنزيل .
لقد نهى الله عز وجل المسلمين عن التعدي ، ليكونوا أسوة للناس جميعاً ، فيرجع الناس في الخصومة إلى الحجة والبينة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستئصاله للشرك ، وبيانه لقبح التعدي سواء الذي يترشح عن الشرك أو عن النفس الغضبية والشهوية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وذات الشرك تعد محض ، قال تعالى [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، وقد تقدم أن النسبة بين الظلم والتعدي هي العموم والخصوص المطلق ، فالظلم أعم .
والمتبادر أن الظلم نوع مفاعلة ، وفيه أطراف :
الأول : الظالم .
الثاني : موضوع الظلم .
الثالث : مادة التعدي .
الرابع : المظلوم الذي يقع عليه الظلم .
الخامس : أثر الظلم.
والتبادر علامة الحقيقة وجاء القرآن بما هو أعم وأكبر من علامات الحقيقة وهي أنه قد يكون الظلم إيقاعاً مثلما هو نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر .
وقد يجتمع الظلم للذات والغير في موضوع واحد ، كما في إختيار الشرك والجحود ، وقد رحم الله المشركين وفتح لهم باب التوبة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتفضل الله وجعل المعجزة تصاحبها رأفة ورحمة بالناس ، ومخاطبة عقولهم ، وحجباً للنفس الشهوية والأهواء من الإستحواذ على الجوارح وعالم الفعل.
ترى لماذا لا ينفك التعدي عن مصاحبة الشرك ، الجواب لأن الشرك نفسه تعد على الذات والغير ، وتفريط بالواجبات ، وتعريض للجسم والنفس لعذاب الله يوم القيامة ، فأراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنزيه الناس عن التعدي ماعظم وما دقّ منه ولكن قريشاً سيّروا الجيوش عظيمة لمحاربته ، وسالت الدماء الغزيرة ، وذاق الناس حرارة السيوف.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع محض لصدّ التعدي ، ودفع الظلم ، وانقاذ الناس من براثن الشرك لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي جهاده لاستئصال التعدي من أصوله ، فقطع الشرك إماتة للتعدي وبداية لإنحساره من الأرض ، وبشارة الرحمة والمغفرة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
قانون نجاة النبي(ص) سبيل هدىّ
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار السلام والأمن ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فمن معاني الخلافة ، التعايش المجتمعي ، وشيوع ألوية السلم ، وتتجلى بسلامة الأنبياء من الغيلة والإغتيال.
وفي هذه الشواهد مسائل :
الأولى : كل واحدة منها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : زجر الناس عن خطط إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : زيادة إيمان الصحابة برؤية توالي المعجزات الحسية إلى جانب المعجزات العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتدل وقائع هذه الكتيبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد قريشاً.
وأنه لم يتعرض لعير قريش المتوجهة إلى الشام من جهات :
الأولى : قد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق خروجه من المدينة بعد أن اجتاز بيوت بني دينار تحت شجرة لها ساق ببطحاء ابن أزهر ، وبُني مسجد في ذات الموضع .
الثانية : صنع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه طعام (فأكل منه وأكل الناس معه، فرسوم أثافى البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له المشيرب)( ).
مما يدل على التأني في المسير ، وهو شاهد على عدم خروجه لطلب عدو أو عير مخصوصة ، إذ تتصف العير والقافلة بسرعة السير بانتظام ، خاصة وأن وصول الخبر من مكة إلى المدينة بانفصال العير ، وقصدها الشام يحتاج إلى وقت حتى لو كان هناك عيون جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الخصوص ، ثم يستلزم النفير وجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه والتهيئ وإعداد الأسلحة والمؤن ، وكان عددهم كثيراً وهم أربعمائة وخمسون .
الثالثة : أقام النبي في بطن ينبع شهراً كما ورد عن عمار بن ياسر ، ولو كانوا يطلبون قافلة وفاتتهم في ذهابها إلى الشام لأدركوا عودتها إلى مكة محملة بالبضائع من الشام , أو لانقلبوا إلى المدينة حالما علموا بفوات القافلة.
الرابعة : وادع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الكتيبة بني مدلج ، وقيل وادع أيضاً حلفاءهم بني ضمرة ، الذين اطمئنوا للصحابة في الإتصال وتبادل الحديث معهم من غير أن يتعرضوا لهم أو لأموالهم.
ولكن موادعة بني ضمرة تمت في كتيبة ودان.
وقال ابن كثير : فوادعته فيها بنو ضمرة( )، أي أنهم هم الذين طلبوا موادعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجراء عقد معه بعدم إعانة مشركي قريش وهجومهم عليه ، وعلى أهل المدينة فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الموادعة ، وفيه حجة بأنه لم يطلب الغزو والقتال ، وأنه مستعد لأجراء موادعة وصلح مع أي طرف حتى مع قريش.
وهو الذي دلت عليه سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألوية السلم التي يرفعها في كتائبه ، وتوصياته المتكررة إلى أصحابه بعدم البدء بقتال وتجلت حقيقة طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الموادعة والصلح مع الناس جميعاً بصلح الحديبية إذ صالح قريشاً مع كثرة تعديهم وغزوهم المدينة ، ومنعهم من دخوله وأصحابه إلى مكة لأداء العمرة في ذات السنة ، وتضمن هذا الصلح شرط الهدنة والأمن للناس لعشر سنوات.
وفي هذا الشرط مسائل :
الأولى : أولوية الأمن في رسالة ومنهاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل هذه الأولوية خاصة بسيرته أم تشمل الأنبياء جميعاَ , الجواب هو الثاني لقانون الأنبياء أئمة السلام .
الثانية : بيان مصداق لتسمية دين الإسلام , ومن معانيه نشر الأمن , وتقديم السلم والسلام .
الثالثة : دلائل طول مدة الهدنة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقريش , لتعمل المعجزة وحدها في الميدان .
الرابعة : كره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتال فلم ترضخ قريش للصلح إلا بعد أن دبً اليأس إلى قلوبهم , وظهر الوهن والضعف فيهم , بينما كان المسلمون يزدادون عدداَ وعدة وقوة وإيماناَ , قال تعالى [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ).
والنسبة بين المسلمين والصحابة يومئذ عموم وخصوص مطلق ، على التعريف بأن الصحابي هو المسلم والمسلمة الذي رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن المسلمين يومئذ من لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الأسباب ظلم المشركين.
بحث منطقي
تتعلق مواضيع علم المنطق بالافكار والتدبر وليس بالإلفاظ ، لذا عرف علم المنطق بوجوه :
الأول : علم قوانين الفكر .
الثاني : العلم الذي يدرس صورة الفكر لا مادته .
الثالث : آلة تعصم الذهن من الخطأ .
الرابع : علم التفكير الصحيح.
نعم يتعرض للألفاظ كونها رموزاً للمعاني وصيغ لسانية وضعت لإفادة المعاني وبيانها، فيحتاج التعرض للألفاظ ببيان دلالتها.
والدلالة هي العلم بوجود الشيء يتبعه وجود ذهني لشيء آخر ملازم له، وتكون الدلالة من الدال والمدلول.
لأن اللفظ الدال على معنى يلزم منه العلم بشيء آخر، وهو المدلول وعلم الأصول يحتاج تعريفات علم المنطق فيما يخص الالفاظ والدلالة وغيرها.
وتنقسم الدلالة الى قسمين :
الأول :الدلالة اللفظية.
الثاني :الدلالة غيراللفظية.
والدلالة اللفظية تنقسم الى اقسام:
الأول :الدلالة اللفظية الطبعية: وهي التي يكون الدال فيها شيئاً طبيعياً او ملازمة طبيعية تتعلق بطبع الإنسان مثل دلالة الأنين على الألم.
الثاني :الدلالة اللفظية الوضعية: وهي الدلالة التي تترشح من وضع اللفظ او استعماله في المعنى الموضوع له مثل دلالة لفظ الطعام على الحنطة، ودلالة لفظ العبادة على الصلاة، وهذه الدلالة هي التي تكون غاية للمنطقي لأنها المستعملة في الصنائع والمحاورات وقد قسمت الى ثلاثة اقسام هي:
أ- الدلالة المطابقية: وهي الدلالة التي يدل اللفظ فيها على تمام المعنى الموضوع له مثل: القرآن كتاب الله النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ب- الدلالة التضمنية: وهي الدلالة التي يدل اللفظ فيها على جزء المعنى الموضوع له مثل دلالة لفظ المسلم على المؤمن، او دلالة الطواف على الحج.
ج- الدلالة الإلتزامية: وهي الدلالة التي يدل اللفظ فيها على امر ملازم ذهنياً للمعنى الموضوع له اللفظ، فهو خارج عنه مثل دلالة الشمس على الضياء، ودلالة المطر على السحاب.
ودلالة صفرة الوجه المفاجئة على الخوف ما هو آت على نحو الرجحان ، وقد تنطبق هذه الأقسام الثلاثة على موضوع واحد بلحاظ التباين الجهتي في الدلالة ، فمثلاً لفظ القرآن ، يدل قوله تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا]( )، فالمراد القرآن كله ، ويدل اللفظ بالدلالة المطابقية على المطلوب.
ويدل قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، على الدلالة التضمنية أي التلاوة قراءة بعض آيات القرآن .
وكذا قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( )، فالمراد بعض آيات أو سور القرآن ، وليس المراد قراءة كل القرآن في جلسة واحدة ، ودلالة القرآن على التنزيل من الدلالة الإلتزامية وكذا دلالته على الوحي ، والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق.
الثالث : الدلالة اللفظية العقلية وهي الدلالة التي يكون الدال فيها هو الإستدلال والحكم العقلي مثل مصاديق العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والأثر والمؤثر.
الرابع : الدلالة غير اللفظية وهي الدلالة بغير اللفظ كما لو كانت بالإشارة او العرض المفاجئ او النظر.
وهي على ثلاثة اقسام:
الأول :الدلالة غير اللفظية الطبعية: وهي التي يكون الدال فيها شيئاً طبيعياً مثل دلالة انتفاخ العينين عند الغضب، واحمرار الوجه عند الخجل، والحزن عند المصيبة، والخوف عند توقع المكروه.
الثاني :الدلالة غير اللفظية الوضعية: وهي الدلالة التي يكون الدال فيها شيئاً مصطلحاً او متعارفاً عند الناس بوضعهم له مثل حدود البلدان.
الثالث : الدلالة العقلية غير اللفظية : وهي الدلالة التي يكون الدال فيها او حكم العقل مثل دلالة امتلاء الآفاق بالضياء على طلوع الشمس، ودلالة الحرب على القتل والضرر.
ولا بأس بايجاد اصطلاح آخر للدلالة غير اللفظية كما لو كانت تسميتها بالدلالة الذاتية، او قسمتها الى الدلالة الذاتية والدلالة العرضية التي تتعلق بالاعراض الدائمة غير اللفظية كالألوان.
ويمكن تقسيم الدلائل تقسيماً آخر أكثر وضوحاً وأيسر لطالب العلم ، وهو :
الأول : الدلالة الوضعية وهي التي يكون فيها سبب الدلالة وضع اللفظ أزاء معنى مخصوص ولا تختص بالحقيقة في أصل الوضع في المقام.
الثاني : الدلالة غير اللفظية كالإشارة.
عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن عليه السلام قال: إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى( ).
وعنه عليه السلام : امر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أمر ابليس ان يسجد لآدم وشاء ان لا يسجد، ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن اكل الشجرة وشاء ان يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل”، فعلمه تعالى في المعلومات ثابت، كما يمكن ان يستدل بهذه الأحاديث في تقسيم الارادة، وان الإرادة المتحدة مع الطلب هي ارادة الحتم وهي المقصودة في المقام، ومن اقسام الارادة ما لا تتعلق بالأمر الى المخلوقين، بل تتعلق بالخلق والايجاد.
ويمكن استقراء تقسيم للإرادة من هذا الحديث وهو ارادة حتم سواء كانت تكوينية او تشريعية وهذه الإرادة لا راد لها، وارادة عزم، ومنها التكليف في الدنيا، اما الإرادة التشريعية فهي العلم بوجود المصلحة في فعل العبد وصدورها عنه باختياره من غير إكراه ولا اجبار لأنها عبارة عن بعث العبد للفعل باحداث الداعي لإيجاد الفعل خارجاً باختياره مما يعني ان علتها التامة ليست الإرادة التكوينية بل إرادة الفعل واختياره.
ترى ما هي النسبة بين الدلالة والوضع في المقام ، الجواب إنها العموم والخصوص المطلق ، فالدلالة أعم لأنها لا تنحصر بالوضع والألفاظ وتقسيم الدلالة إلى ثلاثة أقسام وهي :
الأولى : الدلالة الوضعية ، وهي التي يكون سبب الدلالة فيها هو الوضع ، سواء المواضع بالأصل للمعنى الحقيقي أو الوضع الإستعمالي ويشمل المجاز ، فمع أننا في علم الأصول نقسم الكلام من جهة الوضع إلى قسمين :
الأول : الحقيقة اللفظية وهي إستعمال اللفظ فيما وضع له .
الثاني : المجاز وهو إستعمال اللفظ في معنى غير الذي وضع له لعلامة أو قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي مثل إطلاق لفظ العين ، وهذا التقسيم غير القرينة اللفظية والقرينة العقلية .
وقد قدم سماحة الشيخ المظفر في كتابه المنطق والذي درسناه في الحوزة العلمية الدلالة العقلية( ) فاننا في علم المنطق وباب الدلالة نجمع بينهما في لفظ الوضع ، ولا بأس باختيار إصطلاح وهو إتحاد مصطلحات الألفاظ في العلوم المختلفة الذي يستلزم مؤسسة تختص أو تشرف على هذا المشروع .
الثانية : الدلالة العقلية ، وهي التي يكون فيها سبب الدلالة العقل ، وهي الصلة والعلاقة يدرك العقل موضوعيتها بين الدال والمدلول ، والملازمة بينهما في الوجود الخارجي مثل العلة والمعلول ، فالشمس طالعة إذن النهار موجود ، ومنه قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ] ( ).
معجزة كثرة الأنصار
لقد كانت بيعة العقبة الأولى والثانية معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان وفد الأوس والخزرج المسلمين يخشون من قريش ومن أصحابهم وقومهم المشركين سواء الذين معهم في الحج أو بقوا في المدينة (يثرب) قبل الخروج منها والتوجه إلى الحج أو عند العودة من الحج .
وفي بيعة العقبة الثانية التقوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام الحج ، وتواعدوا معه بعد أداء مناسك الحج عند العقبة ليلاً في مِنى .
ومع هذا الخوف دعوا بعض أصحابهم إلى الإسلام ، إذ فاتحوا أيام الحج عبد الله بن عمرو بن حرام، وهو من سادات أهل المدينة .
وعن كعب بن مالك (وَكُنّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا ، فَكَلّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا جَابِرٍ إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا ، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا ، وَإِنّا نَرْغَبُ بِك عَمّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنّارِ غَدًا ، ثُمّ دَعَوْنَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إيّانَا الْعَقَبَةَ . قَالَ فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ ، وَكَانَ نَقِيبًا) ( ).
وفي ليلة الموعد ناموا مع أصحابهم عامة أهل المدينة ، كيلا يثيروا الشكوك ، ويخبر المشركون من أهل المدينة رجالات قريش بالأمر ، فلما انقضى ثلث الليل وكان العرب ينامون مبكرين خاصة مع كثرة أعمال الحج تسلل الأنصار إلى العقبة على نحو الإنفراد والاثنين والثلاثة، وكانت أيام شهر حرام يأمن فيها الناس .
وتمت بيعة العقبة الثانية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بثلاثة أشهر ، وكان عددهم :
الأول : (11) رجلاً من الأوس .
الثاني : (62) رجلاً من الخزرج .
الثالث : امرأتان من الخزرج .
وأسماؤهم موثقة ، وهذا التوثيق من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من التشريف لهم ، وإكرامهم .
وحفظ وكتابة الملائكة لعملهم الإيماني الرائد هذا أعظم وأكبر ، وهو حاضر يوم القيامة .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] ( ) أن وظيفة الملائكة يوم العقبة لم تنحصر بكتابة عمل الأنصار بل قاموا بحفظهم من شرور ومكر قريش ، ومن تأليب أصحابهم المشركين عليهم ، بل أنهم لم يعلموا بخروجهم ليلاً من بين ظهرانيهم نحو العقبة ، وإن كان الخبر في الجملة قد تسرب يومئذ .
وهل من صلة بين حفظ الملائكة لأهل العقبة وخبر لقائهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر ، الجواب نعم .
إذ يختلف الموضوع فهؤلاء مدد وعون ، كما ورد في حديث طويل عن ابن عباس (وأمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة وكان جبرئيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة .
وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجال بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اختلط القوم .
قال أبو جهل اللهم أولانا بالحق فانصره )( ).
وكان عدد المهاجرين والأنصار في معركة بدر :
الأول : (83) من المهاجرين .
الثاني : (231) من الأنصار .
وهم على شعبتين :
الأولى : (61 ) من الأوس .
الثانية : (170) من الخزرج .
المجموع 314 من الصحابة( ) ، وفي رواية أن عددهم (313) .
وهل يدل هذا العدد على أن المسلمين الأنصار أكثر من المسلمين من معركة وما حولها يومئذ ، الجواب لا ، لوجود مهاجرين إلى الحبشة ، وذكر أن بعضهم عاد قبل معركة بدر ، وهناك مسلمون مستضعفون ونحوهم في مكة لم يهاجروا بعد , أو حالت أسباب دون هجرتهم إلى جانب كثرة المسلمات .
وهل كان الملائكة من الحفظة الكاتبين الحاضرين يوم العقبة هم أنفسهم حضروا معركة بدر ، الجواب نعم ، ولكن الذين نصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان المعركة نزلوا من السماء لهذا الخصوص.
إذ يختلف الموضوع ، فهؤلاء مدد وعون ، كما ورد في حديث طويل عن ابن عباس (وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة وكان جبرئيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجال بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم .
فقال الشيطان للمشركين [لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( ).
فلما اختلط القوم قال أبو جهل اللهم أولانا بالحق فانصره .
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا.
فقال له جبرئيل خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين)( ).
لقد وقعت معركة بدر بعد ثمانية عشر شهراً من مقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، فحضر معه إلى المعركة (314) من الأوس والخزرج وهو عدد كبير خاصة أنه وقع قتال مع المشركين في هذا الخروج.
وهناك كثير من الأنصار غيرهم استقبلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه إلى المدينة من معركة بدر وصاروا يعتذرون له بأنهم لا يعلمون بوقوع قتال وإلا لما تخلفوا عنه ، إلى جانب دخول نساء المدينة الإسلام ، وحرصهن على أداء الصلوات اليومية الخمس ، وقيامهن بتعضيد الصحابة في خروجهم في الكتائب والسرايا.
لقد تحمل الصحابة وعثاء السفر ، والسير على الأقدام في أغلب المسافة بين المدينة ومعركة بدر ، فقد كان عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر, وليس عندهم إلا سبعون بعيراً ، فيكون كل ثلاثة أو أربعة أو خمسة منهم يعتقبون بعيراً ، مما يدل على أن كل واحد منهم يمشي نحو (120) كم نعم كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعتقب بعيراً مع الإمام علي عليه السلام ومرثد بن أبي مرثد وكان يأبى أن يبقى راكباً في نوبة أحد صاحبيه.
فيكون كل واحد منهم قد مشى مائة كيلو متر مركب مسافة (50)كم ، وقطع الصحابة هذه المسافة مشياً مع قلة الزاد وقد كانوا في سكن مستقر ودعة قبل إتيانه له من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم برسالته وليعودوا من معركة بدر وأكثرهم راكباً لمئات الإبل التي وقعت في أيديهم غنائم من المشركين.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكرار خروج الصحابة مشياً في الكتائب والسرايا من غير ملل أو سخط أو رغبة وطمع في الغنائم.
لقد تخلف ثلاثة من الصحابة عن الخروج في كتيبة تبوك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر القرآن تخلفهم ، فجاءت السنة النبوية بتوثيق هذا التخلف وحرصهم على الإعتذار والتوبة ، وإظهار الندامة وربطوا أنفسهم في سواري المسجد مع أنهم سبق منهم الخروج المتعدد في الكتائب والسرايا وهم من أهل بدر .
قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
وعن جابر بن عبد الله أن الثلاثة الذي خلفوا هم (كعب بن مالك , وهلال بن أمية , ومرارة بن ربيعة , وكلهم من الأنصار)( ).
لقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن مخالطة الذين تخلفوا عن الخروج إلى تبوك ولم يكن الثلاثة أعلاه وحدهم ، إنما كان عدد كثير من المنافقين ، قد تخلفوا ، وحينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جاءوا للسلام عليه فاعرض عنهم ، وصار الصحابة يعرضون عنهم أيضاً ، فيمتنع الأخ عن لقاء أخيه وعمه ، فتوجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتذرون بالأسقام وقلة الزاد والراحلة ، فرحمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم ، أما الثلاثة الذين ذكرتهم الآية أعلاه.
فلم يتخلفوا عن نفاق أو شك أو خشية الهلاك عند الخروج إلى أرض الروم وملاقاة جيوش هرقل ، لذا تفضل الله عز وجل وغفر لهم , وجاء توثيق هذه المغفرة في القرآن لمنع دبيب اليأس والقنوط إلى نفوس المؤمنين قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أن هذه المغفرة جاءت لاحقة ، وبعد الإخبار عن تقصيرهم في التخلف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لموضوعية وأثر الفعل سواء بحسن الخروج في الكتائب وما فيه من الأجر والثواب ، أو سوء الفعل في التخلف عن الخروج في الكتائب.
قانون تعضيد السور المكية للبعثة النبوية
لقد صار الناس يرددون آيات القرآن ويتدبرون في معانيها ، ومن إعجاز القرآن وقانون تعضيد السور المكية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وتبليغ رسالته ، من جهات :
الأولى : قصر أكثر السور المكية .
الثانية : اللطف من الله عز وجل بتيسير حفظ الناس لهذه السور.
الثالثة : تأكيد قانون التوحيد ، وبعث الناس لإدراك أنه من المسلمات ومادة الجهاد والتبليغ فتأتي سورة كاملة بالتوحيد كما في سورة الإخلاص والتي تسمى أيضاً سورة التوحيد [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ]( ).
وتأتي آيات متعددة في ذات السورة المكية الواحدة تتضمن وجوب إقرار الناس بالتوحيد ، وأن الله ورسوله لا يرضيان عنه بديلاً ، وفي سورة النحل وهي مكية [يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ]( ).
ولم يتق المشركون الله عز وجل يوم بدر ولم يراعوا الرحم , إذ أصروا على القتال فنزلت الملائكة لإنزال الهزيمة بهم ، قال تعالى بخصوص معركة بدر في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن حضور السور المكية في كل من معركة بدر وأحد والخندق من جهات :
الأولى : هذه السور مدد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : بعث السور المكية الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا.
الثالثة : تجلي احتجاج القرآن والذين كفروا في ميدان المعركة .
الرابعة : إدراك الفريقين للعاقبة , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) فيدرك المؤمنون أن عاقبتهم إلى الجنة والسعادة الأبدية , ويدرك الذين كفروا أن عاقبتهم إلى النار .
لقد نزلت أكثر سور القرآن في مكة قبل الهجرة النبوية لتكون كل سورة سفير النبوة إلى المدينة (يثرب) وإلى المدن والقرى الأخرى.
ومن فضل الله عز وجل في تهيئة مقدمات نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى إزدهار أسواق مكة في الأشهر الحرم , إذ أنها مناسبة لتلاوة آيات القرآن من قبل كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الصحابة .
الثالث : عامة وفد الحاج , لذا تتصف هذه السور بالقصر في كل من :
الأولى : قصر الآية ذات السورة فمثلاَ تتألف سورة الكوثر من ثلاث آيات وعدد كلماتها عشر كلمات , وحروفها اثنان وأربعون حرفاَ .
الثانية : قلة آيات السور المكية .
الثالثة : قلة كلمات الآية المكية .
هذا مع عظيم الأجر والثواب في قراءة كل سورة من هذه السور.
و(عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} : من قرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ( ) سقاه الله من أنهار الجنة وأعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبه العباد في يوم عيد ويقربون من أهل الكتاب والمشركين) ( ).
ويمكن القول بقانون وهو كل سورة من القرآن هي عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعون له في جذب الناس إلى مقامات الإيمان وسبيل هداية ورشاد .
قانون إنذار قريش من معركة بدر
قد ورد ذكر هذا العنوان في الجزء المائتين من هذا التفسير( ) .
فلم ينحصر إنذار السور المكية بخصوص الشرك وعبادة الأوثان ، وهي حال وفعل ذاتي خاص يتصف بالقبح ، إنما تضمنت الآيات والسور المكية الإنذار من محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسرار زيادة إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة على إقامته في المدينة ، إذ أقام بعد النبوة ثلاث عشرة سنة في مكة ، وعشر سنوات في المدينة ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) نزول الآيات بالدعوة إلى الآيات والإحتجاج ، وزجر الناس عن القتال والقتل .
لقد اختصت أكثر الدراسات في معركة بدر بذكر النصر الذي أحرزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهو يستحق الوقوف عنده وتجدد إحياء ذكراه في كل عام , وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
لقد كان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة بالبشارة والإنذار , البشارة لأهل الإيمان بحسن العاقبة قال تعالى [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] ( ) والإنذار للذين كفروا بلحوق الخزي بهم سواء في الدنيا أو الآخرة .
ليكون هذا الإنذار سبباَ لدخول طائفة من الناس الإسلام , وعزوف طوائف أخرى عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما تدعو إليه قريش قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ] ( ).
وهل في سورة الفيل إنذار لكفار قريش من دخول معركة بدر , الجواب نعم للتداخل ووحدة الموضوع في تنقيح المناط بين حرمة البيت وحرمة النبوة والتنزيل , إذ تدل السورة على حضور المشيئة الإلهية في صرف شرور المشركين وإلحاق الهزيمة بهم واستئصالهم , قد أرسل الله عز وجل على أبرهة وجنوده [طَيْرًا أَبَابِيلَ] ( ) تأتي على دفعات , جماعة بعد جماعة في محيطمكة كشاهد لقريش للإنزجار عن محاربة النبوة والتنزيل .
وقد أخبرت آيات أخرى عن هلاك القوم الظالمين بآيات كونية متعددة ومتباينة منها قوله تعالى [وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ]( ).
من أسباب بدر
من خصائص معركة بدر كثرة ما ترشح عنها من سبل الهدى والرشاد , وما دفعه الله من شرور المشركين الذي كانوا لا يرضون بأقل من الإبادة الجماعية العامة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين كانوا في إزدياد مطرد.
فمن قبح إصرار قريش على القتال أن هذه الكثرة والإزدياد لم يصرفهم عن الرغبة في سفك الدماء والإبادة العامة ، وهو من مصاديق إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
لقد امتلأت نفوسهم بالغيظ والحنق عندما علموا ببناء المساجد في مركز مدينة يثرب وأطرافها وكانوا يهيجون عندما يعلمون في صباح مكة بهجرة عدد من الشباب سراً في ظلمة الليل إلى المدينة ، وهل كان لهذا الغيظ والهيجان موضوعية وأثر في إصرارهم على القتال في معركة بدر ، الجواب نعم.
فلم تكن هذه المعركة وليدة ساعة التقاء الصفين ، إنما كان الحنق يملأ صدور المشركين ، الذين توصلوا باتباعهم الهوى بلزوم الإبادة العامة لوقف المد العارم للإيمان.
وتكاد كتب التفسير والسيرة تحصر أسباب معركة بدر بتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلة أبي سفيان وفيه إشارة تضمنية إلى موضوعية فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في نشوب معركة بدر ولو في المقدمات البعيدة بينما الواقع تجرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من هذه الأسباب سواء , كانت القريبة أو البعيدة لمعركة بدر .
فقد مرت القافلة بسلام , ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قريبين من طريقها , ولم يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه أهل القرى والركبان عنها وعن مسيرها نعم ورد قوله تعالى[وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
وهذا الود كيفية نفسانية والمراد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ولا يلازمها مبرز فعلي في الخارج إلا بالقرينة ولبيان , ويمكن أن تكون ناشئة عند إرادة المشركين القتال .
وكثيراَ مايصطدم هذا الود بالإرادة فتحجب ترجله في الخارج وعالم الفعل , ولكن الله عز وجل رؤوف بالمؤمنين فلم يترك هذا الود يذهب هباءً , بل جاءت الغنائم في معركة بدر وما بعدها نتيجة ظلم وتعدي المشركين أنفسهم , ويتحمل مشركو مكة أسباب نشوب معركة بدر وهو من مصاديق ظلمهم لأنفسهم وغيرهم , من جهات:
الأولى : مبادرة قريش للنفير في ثلاثة أيام حالما جاءهم رسول أبي سفيان يدعوهم لنجدة قافلة أبي سفيان .
الثانية : إمتناع قريش عن الرجوع عندما وصلهم رسول من أبي سفيان بأمور واضحة وهي :
الأول : سلامة القافلة من مكة وعدم تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها .
الثاني : قرب القافلة من مكة , وفيه نوع بشارة لقريش , فلو التقى الجيشان لا ضمان بسلامة القافلة , ولكنها توجهت نحو مكة من غير قتال .
الثالث : الطلب والمناشدة من جيوش قريش بالرجوع إلى مكة ، وعدم الإستمرار في المسير .
مما يدل على خشية أبي سفيان من توجه قريش نحو المدينة وأطرافها , والإصرار على القتال .
الرابع : لقد أخبر أبو سفيان جيش قريش بأنه أحرز سلامة العير وكتب إليهم (أَنْ ارْجِعُوا ، فَإِنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ فَأَتَاهُمْ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَة) ( ).
الثالثة : حينما جاءت رسالة أبي سفيان إلى جيش قريش في الجحفة التي تبعد عن مكة نحو (180)كم ، أي أنهم في منتصف الطريق إلى بدر .
قانون معجزات معركة بدر
من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضيل الله عز وجل له برزقه واتيانه المعجزة الحسية والعقلية مجتمعتين ومتفرقتين ، فقد تأتي واقعة واحدة تجمع بين الاثنين [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
وأؤسس في هذا السِفر لقانون وهو (معجزات النبي محمد (ص) في كل معركة من معارك الإسلام.
لقد كانت كل معركة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا سرايا الصحابة مناسبة لتجلي المعجزات الخارقة للعادة وفنون القتال أو أسباب صرفه.
وهل المعارك التي خاضها المسلمون هي الأكثر أم التي صرفها الله عز وجل عنهم مع إجتماع أسبابها ومقدماتها هي الأكثر , الجواب هو الثاني , وهو من مصاديق الجمع بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) لتكون وثائق سماوية تؤكد صدق نبوته وتقتبس منها الدروس والمواعظ.
ومن إعجاز القرآن إخباره عن وقوع معارك بين المسلمين والمشركين وهذا الذي تدل عليه السنة النبوية القولية والعقلية والإجماع ، والأخبار المتواترة والقصائد الشعرية التي وردت في المقام لتكون مادة لاقتباس المسائل واستقراء المعجزات في كل معركة ، وفيه نوع اختصاص وتعيين وإعانة للعلماء في التحقيق والضبط والإستدلال .
وهل المعجزات في معارك الإسلام من الكلي المتواطئ أم من الكلي المشكك ، الجواب هو الثاني .
أي أن هذه المعجزات تختلف كماً وكيفاً من معركة إلى أخرى ولكن الجامع المشترك بينها هو تجلي المعجزة النبوية في كل معركة ، ويحتمل موضوع تجليها وجوهاً :
الأول : تتجلى المعجزة لكل صحابي في الميدان.
الثاني : رؤية وعلم عدد وشطر من الصحابة الذي في الميدان بالمعجزة.
الثالث : معرفة الفريقين بالمعجزة , [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
الرابع : علم المسلمين والمسلمات بالمعجزة التي تقع في المعركة وهو من أسباب الطمأنينة في مجتمع المدينة عند المغادرة المتعددة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة .
الخامس : علم أهل المدينة ومكة والقبائل بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعارك.
والمختار هو الأخير وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، وهذا العلم على مراتب متفاوتة وهو من أسباب دخول الناس الإسلام وهو في إتساع وإزدياد يومي ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ) .
ومن شذرات وفرائد معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر :
الأول : نزول آيات قرآنية خاصة بهذه المعركة .
الثاني : قانون وقائع معركة بدر في السنة النبوية .
الثالث : زيادة إيمان الصحابة بعد معركة بدر .
الرابع : تسارع دخول الناس إلى الإسلام , ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولقد نصركم الله ببدر ليدخل الناس أفواجاَ في الإسلام ويتوافد مدد جديد من المهاجرين إلى المدينة صباح كل يوم , لذا كان عدد الصحابة الذين انفصلوا عن المدينة إلى معركة أحد نحو ألف , بينما كان عددهم في معركة بدر قبل سنة منها (313) صحابي ، وقال ابن إسحاق (جميع من شهد بدراً من المسلمين من المهاجرين والأنصار الأوس والخزرج ومن ضرب له سهمه وأجره ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً من المهاجرين دون الأنصار ثلاثة وثمانون رجلاً، ومن الأوس واحد وستون رجلاً، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلاً) ( ).
معجزة زوال خوف الصحابة من المشركين
لقد كانت لقريش ورؤساء القبائل قبل الإسلام سطوة تتجلى بسبب غياب السلطان والحاكم العادل الذي يأخذ للضعيف حقه ، ويخشاه الغني صاحب الجاه ، فكان أكثر الناس كالمستضعفين واختارت طوائف البوادي والرعي ملجأ مع ما فيها من الفقر( ) وصار الناس ينقادون لأوامر الطغاة يرضخون مكرهين لظلمهم وطغيانهم يحاكونهم في عبادة الأصنام ، وأبى الله عز وجل أن يجتمع الظلم والشرك في الجزيرة ، وعند بيته الحرام .
فتفضل ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ليس لمنع الظلم والشرك فقط لإستئصالهما لأن الله عز وجل اذا أعطى يعطي بالأتم والأوفى.
وجعل أرباب كل منهما بين أمرين أما الإيمان أو القتل ، ويأتي الإيمان طواعية ، أما القتل فيأتي عند تعديهم ومحاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي بأصرارهم على الجمع بين الشرك والظلم والعدوان ، لبيان أن من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) إنذاره ووعيده للذين كفروا ثم البطش بمن بقي منهم على الشرك .
وليس من حصر لمصاديق الإنذار ، إذ يتوجه من جهات :
الأولى : الإنذار بالآيات الكونية الثابتة والمتجددة .
الثانية : الإبتلاء الشخصي والجماعي الذي يلحق المشركين .
الثالثة : ضروب الزجر التي تأتي للمشركين إنذاراً.
الرابعة : موضوعية الأمر بالهداية والرشاد ، والنهي عن المنكر والضلالة والفسوق .
فلا يختص صدور هذا النهي بالمسلمين فقد يصدر من ذات المشركين بأن ينهى بعضهم بعضاً عن الشرك والظلم والتعدي، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
وتتجلى في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال التلاوم بين المشركين على إيذائهم ومحاربتهم له .
فمن معاني قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ) إدراك المشركين لسوء فعلهم وإختيارهم عبادة الأوثان ، ودفاعهم عنها ، لذا فمن مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) الحصانة العامة من الإعراض عن معجزات النبوة في كل زمان ، ومنها آيات القرآن.
فلابد من وجود أمة تتلقى التنزيل بالقبول والتصديق والعمل بمضامينه لذا تجد في كل زمان أمة تستجيب للأمر والنواهي الإلهية ويدل قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) على وجود طائفة ووفد يحج البيت الحرام في كل عام وهو من مصاديق قانون الإمتثال فلابد من أمة تستجيب لأوامر الله طوعاً أو قهراً أو إنطباقاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) فهناك أمة في كل زمان تتقيد بالأوامر القرآنية وما تضمنته السنة النبوية , وتجتنب ما نهى الله عز وجل عنه .
وهو من أسرار مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية الباقية في كل زمان ، وهي القرآن ، وفيها توثيق سماوي لمعجزات الأنبياء ، ومنع من إنكارها أوتحريفها .
ومن منافع وخصائص الإعجاز العقلي لآيات القرآن أمور متداخلة في ذات موضوع الخوف وبعثه دفعة وعلى نحو التدريج في قلوب المشركين ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) فان قلت إنما هذه الآية وعد من الله سبحانه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ووعيد للذين كفروا .
والجواب هذا صحيح فالقرآن كلام الله عز وجل ، وهو حق وصدق.
ومن الإعجاز في الآية أنها نزلت بحرف السين الذي يفيد الإستقبال القريب ، وليس سوف للمستقبل البعيد ، وقد تضمنت الآية ذكر صفات قبيحة عند المشركين استحقوا معها إختراق الخوف والرعب شغاف قلوبهم مع عجزهم عن دفعه وإن اجتمعوا وتناولواالعقاقير , وهي من وجوه:
الأول : الكفر بالله عز وجل وإنكار النبوة .
الثاني : الشرك بالله ، وهو أشد وأقبح أنواع الظلم للذات والغير ، وورد قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( ) وإذ انحصرت موعظة لقمان بخصوص ابنه ، فقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهداية الناس إلى التوحيد وجذبهم إليه وعدم الوقوف عند الموعظة وحدها وعلى نحو القضية الشخصية ، بل توجه بنداء التوحيد إلى الناس جميعاً مجتمعين ومتفرقين .
وهل يتضمن قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) إنذارهم من الشرك والبقاء عليه ، وبيان قانون بأنه ظلم عظيم كما وعظ لقمان ابنه ، الجواب نعم ، وصيغة العموم في الأوامر الإلهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البشارة والإنذار من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين .
الثالث : إنتقاء الحجة والبرهان والسبب العقلاني لإتخاذهم الشرك منهاجاَ .
الرابع : عجز الكفار عن البيان والإحتجاج والدفاع عن الأوثان أو دفاعها عنهم , قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
الخامس : إعراض الذين كفروا الآيات الكونية , وآيات التنزيل.
من قسم الشرك إلى قسمين :
أولاً : الشرك الأكبر وهو عبادة غير الله عز وجل .
ثانياً : الشرك الأصغر ، وهو الرياء ونحوه ، مما يبطل العمل أو يحجب الأجر فيه .
والمختار أن الشرك واحد ، وهو عبادة غير الله ، وإشراك غيره تعالى معه في العبادة والخضوع مثل عبادة الأوثان كما كان عليه أهل الجاهلية من العرب .
لبيان الحاجة العامة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والجهاد بالكلمة والآية القرآنية لتنزيه الأرض من الشرك ومفاهيم الضلالة , ولإنقاذ الناس من العذاب الأخروي ، فمن خصائص الأنبياء مجيؤهم بقانون عاقبة الشرك الخلود في النار .
بنو قريظة
لقد ظن الكفار والمنافقون أن هجوم الأحزاب على المدينة يضعف الإسلام ، ورجحوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشطر من أصحابه ، ولكن طائفة من اليهود قاموا بغلق حصونهم ، وامتنعوا عن نصرة الأحزاب وهم بنو قريظة للعهود التي بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخشية التعرض إلى التهجير الذي أصاب بني النضير ، خاصة وأن بني قريظة حلفاء الأوس الذين دخلوا الإسلام ، وأحسنوا إسلامهم وأظهروا الإخلاص للنبوة والتنزيل وفازوا بالاسم المبارك (الأنصار) قال تعالى [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة في مدح الأنصار (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : آية الإِيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار .
وأخرج أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأزواج الأنصار ولذراري الأنصار الأنصار كرشي وعيبتي ، ولو أن الناس أخذوا شعباً وأخذت الأنصار شعباً لأخذتُ شعب الأنصار ، ولولا الهجرة كنت امرأ من الأنصار .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن الحارث بن زياد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحب الأنصار أحبه الله حين يلقاه ، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله حين يلقاه)( ).
كما تدل السنة الفعلية على إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار ، وابتدأ هذا الإكرام من بيعة العقبة ثم هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إليه ووثاقته بهم والمؤاخاة بينهم وبين المهاجرين ، ويتجلى إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار في كل واقعة (عن أنس بن مالك قالوا يا رسول الله ألا تتزوج من نساء الانصار قال إن فيهن لغيرة شديدة)( ).
ورئيسهم يومئذ سعد بن معاذ وهو من كبار الصحابة إذ أنه أسلم على يد مصعب بن عمير عند مجيئه سفيراً إلى يثرب من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة فاسلم بنو عبد الأشهل لإسلام سعد بن معاذ الذي حضر معركة بدر ،وأحد، والخندق ، حيث أصيب بسهم فقطع منه الأكحل .
والذي رماه رجل من قريش اسمه حبان بن العرقة ، وبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسعد قبة في المسجد النبوي ليعوده كل يوم إلى أن توفى.
وأمتنع صاحب عقد وعهد بني قريظة كعب بن أسد القرظي عن فتح باب الحصن لحيي بن أخطب من بني النضير حينما استأذن عليه عند قدوم الأحزاب ، فألح حيّ بن أخطب وهو يظن أن قدوم الأحزاب يقضي على الإسلام ، فاجابه كعب من داخل الحصن (وَيْحَك يَا حُيَيّ فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ فَإِنّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمّدٍ إلّا صِدْقًا وَوَفَاءً)( ).
ولا زال حبي بن أخطب يمنيه ويبين له كثرة جيوش قريش وغطفان ، وعزمهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعهد له بان يأتي له بتسعين رجلاً من قريش رهائن ، وأنه يدخل الحصن معهم إن رجع الكفار من غير أن يقتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حتى رضى كعب بن أسد وقام وجماعته بتمزيق العهد الذي بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نقض بني قريظة العهود التي بينهم وبينه بعث سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وعبد الله بن رواحة وخوان بن جبير إلى بني قريظة للتأكد من صحة هذه الأخبار المحزنة والمؤذية .
وحينما وصلوا إلى الحصن فتحوا لهم وناشدوهم بالعودة إلى الحلف والعهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروهم بأن الله ينصر رسوله ، وأن المشركين لابد وأن يعودوا خائبين.
وذكروهم بواقعة بدر ، ومعركة أحد وما لحق المشركين من الخزي وكأنهم اعتمدوا أصل الإستصحاب وعدم نقض اليقين السابق بغرور لاحق ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
واستحضر بنو قريظة إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني النضير ومؤازرتهم لهم ، وظنوا أن سعد بن معاذ سيكون من القتلى في معركة الخندق و(نَالُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَقَالُوا : مَنْ رَسُولُ اللّهِ ؟ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ وَلَا عَقْدَ . فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَشَاتَمُوهُ وَكَانَ رَجُلًا فِيهِ حِدّةٌ فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : دَعْ عَنْك مُشَاتَمَتَهُمْ فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى مِنْ الْمُشَاتَمَةِ)( ).
وقام عمرو بن سُعدى القرظي بنصح قومه ، فذكرهم الميثاق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهده ،وفيه لزوم نصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فابوا عليه ، فقال لهم (إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه، فأبوا.
وخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بني قريظة بنو سعنة: أسد وأسيد وثعلبة فكانوا معه، وأسلموا) ( ).
وخرج عمرو بن سُعدى في الأرض ولا يعلم حاله وأين ذهب (فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ شَأْنُهُ فَقَالَ ذَاكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللّهُ بِوَفَائِهِ) ( ).
ويتضمن هذا الجزء جدال أهل الكتاب مع الذين كفروا عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وسيأتي كل من :
الأول : قانون جدال أهل الكتاب فيما بينهم عن نبوة محمد .
الثاني : جدال الكفار فيما بينهم عن نبوة محمد.
ولما انصرفت الأحزاب وضع المسلمون السلاح ، فلما كان أوان الظهر نزل جبرئيل وأخبر النبي محمداً بأن الله يأمره بالمسير إلى بني قريظة لنقضهم العهود والمواثيق .
وقال جبرئيل (فَإِنّي عَامِدٌ إلَيْهِمْ فَمُزَلْزِلٌ بِهِمْ) ( ).
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأداء صلاة العصر في بني قريظة ، وقدّم الإمام علي عليه السلام الذي سمع عند وصوله إلى حصون بني قريظة كلاماً قبيحاً ضد شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولاحق الصحابة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من وصل إليها بعد صلاة العشاء .
وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين ليلة ، عسى أن يدخلوا الإسلام ، الذي يجّب ما قبله ، وأجهدهم الحصار ، فدعاهم رئيسهم محمد بن كعب القرظي إلى التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام بعد أن رأوا المعجزات .
وقال (وَأَنّهُ لَلّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ فَتَأْمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ) ( ) فابوا عليه ذلك.
قانون معجزات النبي (ص) للداخل إلى المدينة
لقد كان أكثر وفد الحاج والناس الذين يفدون إلى مكة يعرضون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند دعوته لهم للإسلام حينما كان في مكة قبل الهجرة ، وكان يسألهم كتمان أمره وعدم إشاعة دعوته لهم للإسلام خشية من بطش قريش ، أما بعد الهجرة فقد تغير الأمر إلى الضد الحسن ، وتجليات البركة ، فحينما يدخل الوافد إلى المدينة يراها بوضوح.
لقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة معجزة قائمة بذاتها من جهات :
الأولى : أسباب الهجرة ، واضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها ومنها امتناع قريش عن الإستجابة لدعوته ، وهذا غير إيذائهم له ، وسعيهم في قتله وأصحابه ، وحصارهم.
الثانية : وجود الناصر في المدينة والا فقد هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلها إلى الطائف وهي أقرب إلى مكة إذ تبعد عنها 70 كم ، بينها تبعد المدينة عن مكة 450 كم.
ومع الصلات بين قريش وأهل الطائف ووجود مصاهرة بينهم ، وبلوغ أنباء النبوة وآيات القرآن لهم ، فان رؤساء الطائف أغلظوا معه ، وحرضوا الصبيان والسفهاء لإيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ، مع بيان القرآن لنسبة هذه السلامة لله عز وجل ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وتتجلى هذه النسبة في الآية أعلاه بإقامة الحجة على الذين كفروا بأنهم الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، فكانت هجرته على نحو الضرورة ، لقوله تعالى [إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، ولفظ الذين كفروا عام ولكن المراد منه في المقام خاص .
وتقدير الآية أخرجه الذين كفروا من قريش ، أو قل إذا أخرجه رؤساء قريش الذين كفروا ، لوجود قرينة حالية تفيد المقصود ، وعليه يمكن تفسير آية السيف وقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، أي المشركين من أهل مكة وما حولها الذين لا زالوا يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ومع عدم انحصار موضوع الآية بالقتل ، بل جاءت أوامر أخرى في ذات الآية تدل على الإبقاء عليهم كما يأتي بيانه في الجزء التالي وهو الثالث والثلاثون بعد المائتين إن شاء الله بعنوان (قانون تعدد أوامر السلم والتعايش والأمل في آية السيف) .
والمتبادر إلى الذهن من معنى الإخراج أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغادرة مكة وعدم البقاء فيها ، ولكن آيات القرآن والسنة النبوية تدل على معنى آخر للإخراج في المقام وهو إنحصار حال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين :
الأول : الهجرة الفورية وخلسة من مكة .
الثاني : البقاء ليلة الهجرة في مكة ، وفيه قتله من قبل مشركي قريش.
لقد توصل كفار قريش إلى فكرة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو تدريجي متعاقب وليس دفعياً ، وبعد كثرة الإنذارات له بالإمتناع عن ذم الأصنام وقبح عبادتها ومفهوم آيات القرآن من ذم آبائهم الذين ماتوا على عبادة الأوثان ، ويدل على هذا التدريج قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ]( ).
وعن ابن عباس قال (أن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم : احبسوه في وثاق ، وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم فأنزل الله في ذلك من قولهم أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ( ).
وبعد هذا التربص وإرادة سجن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشاوروا فيما بينهم وطرحوا عدة وجوه للتخلص من الدعوة النبوية كل فرد منها مكر وخبث وبطش وهو من الإعجاز في تقديم مادة المكر في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، إذ ذكروا وجوهاً :
الأول : حبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوثاق ، وقد حبسوا عدداً من الصحابة قبل وبعد الهجرة ، مما يدل على أن الحبس على الإيمان أمر تلجأ إليه قريش.
الثاني : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيوف ، ومن إعجاز القرآن ورود لفظ (يقتلوك) بصيغة الجمع ، مما يدل على إرادة اشتراك جماعة في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي تجلى ليلة المبيت ، بانفاق قريش على قيام عشرة من فتيانهم بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسيوفهم دفعة واحدة.
الثالث : إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة طريداً إلى مكان بعيد منعزل ، وإغراء القبائل والأعراب به.
لقد كان اتصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوفود القبائل الوافدة إلى مكة يخيف قريشاً ، ثم صار تصديق وفد الأنصار بنبوته سبباً لإزدياد هذا الخوف ، وسعي قريش بجد للتخلص من دعوة النبي إلى التوحيد والفرائض العبادية والعمل الصالح ، والتنزه عن الفواحش والسيئات .
وهل كانت الوجوه الثلاثة أعلاه بعرض واحد في سعي قريش ، الجواب لا ، إذ اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في الأمر ورجحوا مسألة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقبول إقتراح أبي جهل الذي قال (ولكن اقتلوه ، بأن يجتمع عليه من كلِّ بطنٍ رجلٌ ، فيضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ ، فإذا قتلوه تفرَّق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلِّها ، فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه بذلك ، وأمره بالهجرة)( ).
وما دام الأمر بالهجرة من عند الله عز وجل فلابد أنه سبحانه يحفظه في الطريق وإلى حين الوصول إلى المدينة.
الحطم
ممن جاء الى المدينة للقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الحطم) ، واسمه شريح بن ضبيعة وهو من بني بكر بن وائل( ).
وغلب عليه لقب الحطم ، وكان صاحب أموال وتجارة وجعل خيله وأسلحته خارج المدينة ، ودخلها ، والتقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له أنا سيد قوم وداعية قوم ، فأعرض عليّ ما تقول.
وهو كلام حسن في ظاهره أي إذا صدّقت بنبوتك فان ورائي قومي يتبعوني ، واني ادعوك أن تبين لي ما الذي تدعو إليه وكان النبي قد قال لأصحابه في الصباح
(يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلم بلسان شيطان)( ).
فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يدعوه إلى أمور مجتمعة :
الأول : ادعوك إلى الله تعالى وإلى أن تعبده ولا تشرك به شيئاً.
الثاني : وتشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تقيم الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الرابع : تؤتي الزكاة .
وكان الحطم صاحب تجارة ومكاسب أي أن عليه عند دخول الإسلام إخراج زكاة ماله ، وتلك الزكاة سبب لنماء أمواله والبركة في تجارته وكسبه ، ووسيلة للمغفرة والعفو عنه ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الخامس : تصوم رمضان .
فبعد أن تفاجئ الحطم بوجوب الزكاة ، بإخراج جزء يسير من ماله هو 2,5% ليعطى الى الفقراء والمساكين ، أخبره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يلتقي مع الفقراء في الإمساك عن الأكل والشرب والجماع أيام شهر رمضان ، فدفعه الزكاة لهم لا يمنعه من الوقوف معهم بين يدي الله للصلاة ، ومن تلقي التكاليف ومنها الصيام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
السادس : ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحطم : وتحج البيت الحرام.
لقد كان العرب يحجون البيت الحرام ، فلماذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحج ، الجواب لأن سؤال الحطم بأن يعرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أركان وواجبات الإسلام ، ولم يذكر له النواهي مثل حرمة الزنا وشرب الخمر والربا ، ولكنها أمور ظاهرة من منهاج الصحابة في المدينة وآيات القرآن .
وبعد أن استمع الحطم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : في أمرك هذا غلظة , أي في وصف منه للتكاليف.
لذا من إعجاز القرآن نزول الآية القرآنية بالبيان والحكم والرد على أهل الجدال سواء كان هذا الرد قبل جدالهم أم بعده ، لتكون الآية القرآنية قانوناً مستديماً من الإرادة التكوينية ، ومن الرد على قول الحطم هذا وأمثاله قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ثم أردف الحطم (أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت ، فإن قبلوا قبلت معهم ، وإن أدبروا كنت معهم)( ).
ولا يخلو كلامه من تناقض فقد قال أول اللقاء أنه سيد قومه ، وداعية بما يفيد بالدلالة التضمنية أنه إذا أسلم فانهم يسلمون ، بينما فوض في الختام قبول الإسلام إليهم ، مع أن الغائب لا يرى ما يراه الشاهد من المعجزات ، ومظاهر الإيمان في المدينة ، وتبدل الحال بتجلى مصاديق التقوى في أقوال وأفعال الناس.
ولم يجادله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما قال له : فأت قومك ، لبيان قانون وهو [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
فقام الحطم وخرج من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي نظر إلى قفاه فقال لأصحابه (لقد دخل إلي بوجه كافر ، وخرج من عندي بقفا غادر ، وما أرى الرجل مسلما)( ).
لبيان عزمه من البداية على الإقامة على الكفر مما يدل على عدم تدبره في المعجزات وشواهد التنزيل ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحذير وإنذار للصحابة من الحطم.
ترى لماذا قال النبي (وما أرى الرجل مسلما) على نحو الترجيح والظن بما النافية ، ولم يقل (ولم أر الرجل مسلماً) على نحو القطع.
الجواب لعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( ).
والتحق الحطم بخيله التي أبقاها خارج المدينة ومر على إبل وأنعام لأهل المدينة تسرح خارجها فاستاقها وأخذها ، وعجّل في المسير نحو اليمامة ، ولما جاء الخبر إلى المدينة أدرك الصحابة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحة ما أخبر عنه ، وخرجوا في طلبه ولم يلحقوا به.
وأيهما أكبر السرح والأنعام التي استولى عليها الحطم ، أم المعجزات النبوية التي تجلت في هذا اللقاء ، الجواب هو الثاني .
لقد هلكت تلك الأنعام ، وبقيت المعجزات موعظة تستقرأ منها الدروس والعبر ، وتنتفع منها أجيال المسلمين وعامة الناس ، وفيها شاهد على صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار ، وتحمله وأصحابه أذاهم دون رد إنما كانت المعجزة حجة وبرهاناَ ، ومن معانيها توبيخ الكفار لإقامتهم على عبادة الأوثان .
ثم وفد الحطم في موسم الحج إلى مكة تاجراً وحاجاً ، وكانت تجارته عظيمة .
وبلغ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجهزه وتوجهه إلى مكة بتجارته فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلي بينهم وبينه ويستولوا على تجارته مقاصة وعقاباً ، فأبى عليهم وقال : إنه قلد الهدي ، لبيان قانون وهو هذا التقليد عصمة من القتل والنهب ، فقالوا : يارسول الله (هذا شئ كنا نفعله في الجاهلية) ( ) أي لا يرقى لأن يكون مانعاً.
فأنزل الله عز وجل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
تعضيداً وإمضاء من السماء لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل يختص قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذم الحطم عندما نظر إلى قفاه (لقد دخل إلي بوجه كافر ، وخرج من عندي بقفاه غادر) بذات المغادرة ونهبه لسروح المدينة أم أنه يشمل ما بعده من الأيام .
الجواب هو الثاني لأصالة الإستصحاب ، لذا كان من أشهر رؤساء أهل الردة على الإسلام بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
فمثلاً خصص الطبري فصلاً باسم ردة الحطم إذ قال (ردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين)( ).
إذ خرج فيمن اتبعه من بكر بن وائل ومن ارتد محاربين ، وانضمت إليه طائفة من الكفار ممن لم يدخلوا الإسلام .
قال الطبري (ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافراً)( ).
مما يدل على أن آية السيف خاصة بالمشركين من أهل مكة ، لأن هؤلاء الكفار في القطيف وهجر والبحرين لم يتعرض لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى توفى في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة ، مما يوافق سنة (633) ميلادية.
بينما نزلت سورة براءة في السنة التاسعة للهجرة ومنها قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر إلى مكة بالآية ، ثم أعقبه ببعث علي عليه السلام الذي نادى في موسم الحج بأمور أربعة :
الأول : لا يطوفن بالبيت عريان.
الثاني : لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عام النداء هذا .
الثالث : من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده.
الرابع : إن الله برئ من المشركين( ).
وليس في هذا النداء وعيد بالقتل ، ويدل خروج الكفار مع أهل الردة على عدم استعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيف مع المشركين حتى مع نزول آية السيف ، نعم عند إرتدادهم لزم الدفاع عن بيضة الإسلام وإرجاع الناس إلى سبل الهداية والرشاد.
معجزة الإستجابة
لقد خرج ثلاثمائة وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، وهل هذ الخروج من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو خروج الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد بعد يوم من معركة أحد ، المختار هو الأول.
فان قلت لقد كان الخروج إلى معركة أحد سبباً لنزول هذه الآية خاصة وأنها ذكرت إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بالقروح والجروح والأذى في تلك المعركة وأن المشركين جددوا الوعيد بغزو واقتحام المدينة .
الجواب هذا صحيح ، قال تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
ولكن الآية أعم في دلالتها , وهل يصح الإستصحاب القهقري في موضوع الآية القرآنية أم أنه لا يصح للقاعدة العامة بعدم بعدم صحة الإستصحاب القهقري .
الجواب هو الأول فموضوع الآية القرآنية أعم , وهل يشمل سبب النزول , وأوان ما قبله وما بعده .
والمراد من القرح (وهو الجِراح رجل قَريح ومقروح من قَوم قَراحَى وقَرْحى. قال الشاعر:
لا يُسْلِمون قريحاً كان وسطهمُ…تحت العَجاج ولا يُشْوُون من قَرَحوا)( ).
والجواب لقد ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر المهاجرين والأنصار إلى الخروج من المدينة وساروا نحو 150كم ، فكانت واقعة بدر فتحققت الإستجابة منهم لله ورسوله وانتدابهم للخروج مع أنهم لا يملكون إلا أنفسهم وطاقتهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ]( ).
ترى ماذا لو امتنع الصحابة عن الخروج وقدموا الذريعة والمعاذير هل يرجع المشركون من ماء بدر أم يواصلون الزحف إلى المدينة لغزوها وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحجة تأمين طرق سير القوافل.
المختار هو الأول لكثرة الإحتجاج بين صفوفهم على الإستمرار في المسير وإرادة الغزو من دون أسباب عقلانية له .
لقد وقع خلاف في جيش المشركين في الطريق إلى بدر ، وعندما وصل رسول أبي سفيان وهم بالجحفة يخبرهم بسلامة القافلة تعالت الأصوات بالرجوع لتأمين أموالهم .
ولكن أبا جهل أصر على السير حتى بلوغ ماء بدر .
وقال (والله لا نرجع حتى نرد بدرا – وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام – فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها)( ) .
فيعرض الناس في النواحي والأطراف ويمتنعون عن تنفيذ أوامرهم , وتحدث انتفاضة عامة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إكتفاء الناس بهذا الإعراض , إنما يقومون بالإنتقال إلى منازل الإيمان التي هي على النقيض مع مفاهيم الشرك وطاعة أئمة الكفر .
لقد أرادوا تأمين طرق القوافل ، وأن لا تكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبباً لإغراء قبائل العرب والأعراب بتلك القوافل ، والأصل عدم ثبوت هذا الإغراء .
فمن خصائص النبوة والإصلاح تجرأ وخروج بعض الناس على الظالمين وظهور النفرة العامة من رياستهم وأفعالهم .
لقد تكشف للناس قبح الأصنام وعبادتها ، وحمّلوا قريشاً تبعات نصبهم المئات منها في الكعبة فهو خلاف سنن التوحيد التي أبى الله عز وجل إلا أن تبقى في الأرض ، وفي كل بلدة ومحطة للركبان خصوصاً مكة وهو من مصاديق تسميتها أم القرى ، قال تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ومن مفاهيم الآية أعلاه وجود السامع والمستجيب لدعوة النبوة في مكة والمدينة ، ومنه أفراد القبائل .
ومن معجزات البيت الحرام وتعضيده لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عجز قريش عن منع الناس من الإطلاع على معجزات النبي محمد والتدبر فيها ، وإظهار الميل لها ، هذا مع إشراف قريش على شؤون الحجيج ، وكثرة أموالهم وقوافلهم ، وصلاتهم برؤساء القبائل والدول العظمى آنذاك.
حضور النبي إلى سوق حُباشة
أصل حباشة : الجماعة من الناس الذين من قبيلة واحدة .
وتنشط أسواق مكة أيام موسم الحج على نحو الخصوص ، سواء الأسواق الدائمية او التي الموسمية تقام مدة الحج ، ولم تكن هذه الأسواق خاصة بالبيع والشراء بل تتضمن الفخر والذم وذكر أيام العرب والدول والمعارك والقتل والأسر والأشعار التي توثق الوقائع.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التغير النوعي في هيئة وحال هذه الأسواق ، إذ كان يرتادها للدعوة إلى الله وتلاوة آيات القرآن.
وسؤال أفراد القبائل إيواءه وحمايته من بطش قريش ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه:
الأول : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسواق وعاء للدعوة إلى الإسلام.
الثاني : الإنتفاع الرسالي الأمثل من أسواق موسم الحج وكثرة الناس فيها ، وتعدد انتمائهم العشائري والمذهبي.
الثالث : قانون مزاحمة آيات القرآن بعبادة الأوثان في الأسواق طريق لإزاحة الوثنية.
الرابع : قانون عودة الناس من الحج بتحفة إلى أهليهم وهي آيات القرآن ، تلاوة وتدبراً ، وهي شاهد على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا تختص هذه التحفة بالأغنياء ، إنما يحملها الغني والفقر ، والسيد الصبر وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ومن الأسواق التي حضرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوق حُباشة ، ويبعد عن مكة ست مراحل كما عن ابن حجر ، وثمانية عن ابن سعد .
وهي أقرب إلى مكة منها إلى اليمن ، إذ ورد أنه يبعد عن مكة ست ليال .
وهذه السوق أهم أسواق تهامة وتقام لثمانية أيام في السنة .
( قال حكيم بن حزام: وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحضرها، وأشتريت منه فيها بزا من بز تهامة. وهي من صدر قنوني، أرضها لبارق) ( ).
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضوره هذه السوق قبل النبوة .
(عن الزهري قال لما استوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغ أشده وليس له كثير مال استأجرَته خديجة إلى سوق حباشة وهو سوق بتهامة واستأجرت معه رجلاً آخر من قرَيش قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحدث عنها ما رأيت من صاحبة أجيرٍ خيراً من خديجة ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبئه لنا.
قال فلما رجعنا من سوق حُباشة وذكر حديث تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بطوله.) ( ).
وهناك فارق بين حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوق حُباشة للتجارة والمضاربة بمال خديجة وبين حضوره أسواق مكة بعد البعثة النبوية للدعوة والتبليغ , قال تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ]( ).
ولم تكن سوق حُباشة في أشهر الحج ، إنما كانت في شهر رجب وهو أيضاً من الأشهر الحرم إلا أنه منفرد ، وهي آخر سوق من أسواق الجاهلية ، وكانت تقام إلى سنة سبع وتسعين ومائة للهجرة حيث أمر داود بن عيسى العباسي بتخريبها بمشورة من علماء مكة يومئذ ، إذ كان يبعث عليها رجالاً ومعه جند لضبط السوق ، فيقيمون فيها بضعة أيام من أول رجب ، فقتلت الأزد والياً عليها بعثه داود بن عيسى لملوك تلك السنة ،فخّربت السوق.
لقد تاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة في سوق حباشة قبل النبوة ، وهل ذهب إليه بعد النبوة يدعو فيه الناس ، المختار لا ، ولو كان لبان ، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هاجر إلى مدينة الطائف وعاد منها بعد أن لاقى أذى من أهلها ، ولم يدخل مكة يومئذ إلا بأمان .
الواضع للغة
لابد من واضع للغة ولا يختص الأمر بلغة معينة بل يشمل امئات اللغات ومنها المنقرضة ، وأيها أكثر اللغات المتوارثة الباقية إلى زماننا هذا أم التي وجدت وتخاطب بها شعب وأمة ومجموعة من الأمصار والقرى المتجاورة والمتقاربة ثم انقرضت ، المختار هو الأول .
أما بالنسبة للهجات الدارجة فهي فرع اللغة ، وهل يمكن غلبة لهجة على اللغة الأم ، الجواب نعم ، ويستحيل هذا الأمر بالنسبة للعربية ببركة القرآن وفضل الله ويجعله عربياً ووجوب تلاوة المسلمين القرآن بالصلاة بالعربية وهل هذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا]( )، الجواب نعم ، بلحاظ أن حصر قراءة القرآن في الصلاة باللغة العربية حكم .
وفي وضع اللغة وجوه :
الأول: إن الله تعالى هو الواضع ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( )، وبه قال جماعة منهم أبو الحسن الأشعري.
وصحيح ان ايجاد الملازمة بين اللفظ والمعنى عمل أكبر واعظم من ان يتولاه شــخص واحد بعينه كيعـــرب بن قحطان او غيره او انه يتم ويــستقر عند طبقة من جيل واحد، الا ان هذا القول لا يعني الحصــر بان الواضــع هــو الله عز وجل من غير واسطة بشر في اللغات كلها.
لقد وردت أسماء مخصوصة في القرآن مثل [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]( ) فشهر رمضان هو الوحيد من بين الشهور الذي ورد اسمه في القرآن وفي هذه الآية دون غيرها، فهل هذه التسمية وامثالها تدل ان الواضع هو الله عز وجل، الجواب : من جهتين :
الأولى : انها على نحو القضية الشخصية.
الثانية : عدم ثبوت الملازمة بين الوضع والتسمية في القرآن خصوصاً مع استحضار الضابطة الكلية في فلسفة النبوة وهي ان النبي يأتي بلغة قومه والعرف السائد ، قال تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه]( ) .
نعم لابد ان هناك أسماء وضعت من عند الله سواء عند خلق آدم وتعليمه الأسماء او فيما بعد بواسطة الوحي والكتب السماوية المنزلة والقرآن هو الجامع لها ، ومنها اسم النبي يحيى عليه السلام ، قال تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( ).، وانتقلت هذه الأسماء إلى اللغات الأخرى عند تفرعها وتعددها وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
وتبين الآية أعلاه من سورة إبراهيم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بلغة جديدة لقومه ويدل عليه [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا] ( ) .
الثاني: البشر كجماعات ومجتمع متحد وان الله عز وجل جعل عند الإنسان قدرة على الوضع سواء بأصل النطق أو بالعقل، وطبيعة الإنسان في الأنس بالجماعة والحاجة اليها، فجعلوا الفاظاً لإبراز مقاصدهم لتصبح هناك حيثية دلالة اللفظ على معناه، بحيث يستحضر الإنسان المعنى بمجرد سماعه اللفظ كدلالة العلامة الموضوعة في الطريق لابعاد المسافة على معانيها، فالإختصاص والإرتباط من مقومات اللفظ وليس هي ذاته.
الثالث : نسبة وضع اللغة إلى فرد واحد من الناس مثل يعرب بن قحطان بخصوص العربية.
ان نسبة الوضع الى شخص معين بمبادرة ذاتية منه امر مستبعد وخلاف الظاهر.
الرابع : ان وضع الإلفاظ بفعل الناس انفسهم تم بالتدريج والإشتراك في اختيارها وتنقيحها بكثرة الإستعمال بما جعله الله عز وجل عندهم من العقل وقوة التمييز والحاجة الى اختصاص اللفظ بالمعنى وهو ظاهر بالنسبة لأسماء المخترعات الجديدة وكيف يكون التوصل الى اختيارها بالمعاني البيانية والإشتقاقية مما وضع للمواضيع المشابهة من الإلفاظ المخصوصة .
ويمكن ان يعتمد في الأعلام الشخصية والأجناس الإستصحاب القهقري في كيفية ايجادها بعد عدم الدليل على التعيين المباشر من الله تعالى بالوحي والتنزيل .
أي اننا نحس بالوجدان ان وضع الألفاظ لمعاني المخترعات يتم من البشر فكذا بالنسبة لما سبق ولكن يشكل عليه بأن الوضع المستحدث ليس ابتداعاً صرفاً للفظ.
الخامس : هناك لغات اخترعها فرد واحد ، هو وأسرته أو جماعته القليلة ، كالذي انفصل عن فصيلته وقومه وهو صغير ، ولكنه أمر نادر ، ويصعب تصوره لأنه ما أن انفصل حتى تعلم لغة قومه ، وإن وفد على آخرين ذكوراً وإناثاً فلابد أنهم يتكلمون بلغة قومهم إلا أن يقال أنهم هجروا لغتهم الأم ، وصاروا يتحدثون تدريجياً بالفاظ ابتدعوها لإفادة معاني مخصوصة.
أطراف الوضع
الأول : الواضع .
الثاني : تعيين اللفظ.
الثالث : المعنى والموضوع الذي وضع له اللفظ.
الرابع : الإرتباط الخاص بين اللفظ والمعنى .
الخامس : سبب هذا الإرتباط .
أما بالتخصيص ثم حصول ملازمة في الوجود الذهني بين اللفظ والمعنى ، أو بكثرة الإستعمال.
يتجلى البحث في حقيقة الوضع والملائمة بين اللفظ والمعنى من جهات :
الأول : إذا تصور اللفظ في الوجود الذهني تصور المعنى .
الثاني : إذا نطق باللفظ أو سمعه السامع يتبادر إلى الذهن المعنى المخصوص ، لذا فان التبادر من علامات الحقيقة .
الثالث : إذا تصور المعنى استحضر اللفظ .
الرابع : إذا رؤي المعنى تصور واستحضر اللفظ في الوجود الذهني.
وهل هذه الملازمة الذهنية من أصل الوضع ، أم من رشحاته وآثاره ، الجواب هو الثاني أما الوضع فهو العلقة الوضعية ، وحال الإرتباط العرفي بين اللفظ والمعنى .
وورد كما في قوله تعالى [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
وورد لفظ [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا] ومعناه الولادة .
ولم يرد اللفظ أعلاه في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهما متحدان في الرسم وبينهما بخصوص المعنى عموم وخصوص من وجه فلما وضعتها : أي ولدتها وهي نذيرة.
وهو غير الوضع بمعناه الإصطلاحي واسم أم مريم حنة ، وكانوا لا يحررون الإنثى لخدمة المساجد ، لضعفها وما يعتريها من الحيض والأذى ، وهل كانوا يخشون الإختلاط في الكنيسة وحدوث الإفتتان خلاف تقديس المحل ، المختار نعم.
ومحرراً : أي مخلص للعبادة.
وبينما قالت أم مريم ما في بطني محرراً .
[فَلَمَّا وَضَعَتْهَا] لبيان رضاها بأمر الله ، وولادة الأنثى ومشهور المفسرين أنها قالته تحسراً وحزناً لأنها كانت ترجو أن تضع ولداً.
والمختار خلاف هذا المعنى لما ورد حكاية على لسانها [وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى] لأن الأصل هو أن المشبه به هو الأهم والأفضل ، فلم تقل (وليس الأنثى كالذكر).
لبيان تسليمها بأن الأنثى التي وضعت أكبر وأحسن من الولد الذي سألت ، لبيان مقدمات ولادة عيسى عليه السلام من غير أب وفوز مريم بحديث الملائكة .
ولا ينحصر موضوع الوضع باللغة العربية ، ويمكن أن يبحث في كل اللغات ، وهل الرأي المختار في المقام يشمل كل اللغات أم أنه خاص بالعربية ، الجواب هو الأول.
ووردت أربع كلمات في هذه الآية لم ترد في غيرها [وَضَعَتْهَا] [وَضَعْتُهَا][وَضَعَتْ][ سَمَّيْتُهَا].
الوضع بأل المصدرية ويحتمل وجوهاً :
الأول : الهوهوية التصورية : أي اندماج صورة المعنى في صورة اللفظ ، وتنزيل اللفظ منزلة المعنى ، والتنزيل في الإعتبار وليس في الواقع.
الثاني : الإقتران بين اللفظ والمعنى في بيان العلقة الوضعية ، وهو مسلك الملازمة.
أي العلقة الوضعية من الأمور الأعتبارية الصرفة.
والبحث في الوضع من المبادئ التصورية اللغوية .
اختلف في علم الأصول في الوضع العام والموضوع له الخاص ، والأكثر على عدم تحققه ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( )، وفيه إشارة إلى تعدد الواضع من البشر ، وانه لا ينحصر بشخص واحد لذا ما قيل بأن العربية وضعها يعرب بن قحطان أمر بعيد.
ولماذا لا يقال اختصاص المعنى باللفظ خاصة الجواب لوجود المشترك المعنوي بأن تشترك باللفظ معاني متعددة ووضع اللفظ الواحد لمعنى ومفهوم عام مشترك بين أفراد مثل إنسان .
والأصل أن يوضع اللفظ لمعنى معين ويختص به ، فتكون دلالة اللفظ على ذات المعنى جلية للأذهان.
والمشترك اللفظي هو دلالة اللفظ على حقيقتين بينهما تغاير مثل لفظ (العين) الذي يراد منه العين الباصرة ، والبئر ، والجاسوس ، النقد ، واختلف الأصوليون فيه ، ومنهم من قال باستعمال المشترك اللفظي ، ومنهم من قال أنه ممكن غير واقع .
فمثلاً وقع الإختلاف في لفظ (قرء) هل يراد منه الحيض أم الطهر بين الحيضتين ، قال تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ..] ( ) والمختار هو الطهر .
وقد يأتي اللفظ القرآني الواحد فيجمع بين قطعي الدلالة ، وظني الدلالة ، وهو من أسرار إحاطة كلمات القرآن المتناهية بالوقائع والأحداث غير المتناهية.
ولكن المشهور قال بامكانه ووقوعه
وعلم الفقه فعل المكلف والتكاليف لقانون جعل التعريف مدرسة وتعليماً وإرشاداً.
والمختار أن التلقين من الله عز وجل انقطع بآدم ولم يلق ويُعلّم الله عز وجل إنساناً مباشرة بعده اللغة ، بدليل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( )، أي أن النبي أو الرسول لم يأت بلغة جديدة.
وهل يمكن أن يكون الملائكة الذين علمهم آدم الأسماء كلها قاموا بتعليم أفراد أو طائفة من البشر ، الجواب لا.
وهل علم الله آدم لغة واحدة أو أكثر ، المختار هو الأول ، وبها كان يتخاطب مع الملائكة وحواء ، ومع أولاده وذريته عند هبوطه إلى الأرض ، وذكر أنه لم يغادر الأرض إلا بعد أن بلغت ذريته أربعين ألفاً.
وذات اللغة كان يتخاطب بها هابيل وقابيل [قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ]( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بلغة التخاطب لتكون سوراً وآلة للسلم والود واللطف والتعاون في قضاء الحوائج ، وتلاوة التنزيل ونبذ الحرب والقتال .
لم يرض الله عز وجل أن يعبده الناس بالإشارة والرموز ، إنما أحب أن يسمع دعاءهم وصلاتهم وتضرعهم وإظهار المسكنة بالقول والفعل ، فلا يصح إتخاذ اللسان للمناجاة في محاربة النبوة والتنزيل .
كيفية الوضع
والقول بأن الله عز وجل هو الواضع على جهات منها :
الأولى : إن الله عز وجل لقن الإنسان اللغات، ويمكن ان يستقرأ هذا القول من قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) وأن اللغات تفرعت من آدم ولم يثبت هذا العموم.
الثانية : إن الله تعالى وضع الألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعاً تشريعياً، او كجزء من الإرادة التكوينية وهو بعيد.
الثالثة : ان وضع الإلفاظ واظهار البشر لمقاصدهم، ولزوم قيام الحجة عليهم بالنطق والبيان عما في نفوسهم وهو فرع حكمته تعالى في الخلق فلابد ان يكون بتوفيق منه سبحانه، وهذا صحيح بلحاظ أنه جزء من فضل الله تعالى وخلقه للإنسان على أحسن تقويم الا انه يجعل كيفية الوضع قضية مهملة ولم تتضح كيفيتها.
الرابعة : ان الألفاظ بوحي من الله تعالى إلى أنبيائه ، ويستدل عليه بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الخامسة : تأليف اللغة ومفرداتها بالهام من الله سبحانه الى البشر.
السادسة : بايداع اللغة في طباع الناس وجعل الوصول الى لغة للتفاهم جزء من فطرتهم.
السابعة : أهلية الإنسان في خلقته وأنسه بغيره لتعليم لغة للتفاهم ، لذا قيل الإنسان حيوان ناطق وأشكلنا على هذه التسمية , للتباين بين الإنسان والحيوان.
والقول بان الله عز وجل هو الواضع ممكن من جهة قدرته تعالى على جميع الأشياء وتســاويها في الممكنات مطلقاً، ولكن القــول بان وضع مفردات اللغات تم بالوحي الى الأنبياء لا دلالة عليه بل ان النقل بخلاف قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ] ( ) الذي يدل على وجود اللغة واللسان عند الأمم وبعث الرسل بلغتهم ، وفيه تخفيف عن الرسل فلا ينشغلوا بتعليم الناس اللغة على حساب البشارة والإنذار وبيان الأحكام الشرعية.
وان القول بالإلهام وهو ايضاً لا دليل عليه سواء كان للفرد او للجماعة وعلى نحو الخصوص بالنسبة للغة.
والإلهام هو العلم الضروري او القاء معنى في الروح بطريق الفيض وما يقع في القلب من علم ليكون مقدمة وآلة للعمل، نعم يصدق هذا بالنسبة لآدم ولغته.
أما القول بوجود الراجح وهو من الكلي المشكك فما هي علة الرجحان وجهته وهل يتعلق بالمصالح أم بالأغراض والغايات أم هو فرع تأسيس اللغة، نعم الرجحان موجود اصلاً بايجاد لفظ معين لمعنى مخصوص.
أركان الدلالة
الدلالة مصدر يقال دله على الطريق يدله دلاله ودله أي ارشده أي ارشده وسدده إليه ، والطريق معنى حسي ، أما معاني اللفاظ فهي عقيلة :
الأول : الدال .
الثاني : الدليل .
الثالث : المدلول عليه وهو المفهوم الذي يشير إليه الدال .
الدلالة
الدلالة الوضعية الدلالة العقلية الدلالة الطبيعية
الدلالة اللفظية الدلالة غير اللفظية لفظية مثل آخ غير لفظية مثل حمرة
مثل الشعور بالألم الوجه عند الخجل
ومثل قوله تعالى [إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ]
لفظية مثل دلالةالوحي على النبوة غير لفظية مثل دلالة الآيات الكونية
على إنحصار الربوبية بالله عز وجل ومنها قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]
وقد تسمى الدلالة الطبعية بالدلالة الطبعية لأنها تعني إحداث طبيعة الطبائع.
بين الوضع والدلالة
والقول بان دلالة الإلفاظ على معانيها بالذات فالقطع بخلافه لأنه لو كانت الدلالة ذاتية لأتحدت مع تباين الأجيال والأمصار والأعصار فلابد من توسط الوضع.
ويمكن النظر الى الوضع بمنظار السعة والشمول وان الله عز وجل علّم آدم الأسماء كلها وانزله الى الأرض فاللغة الأم هي لغة سماوية علمها الله عز وجل ابا البشر بالوحي وفي السماء، وفي هذه اللغة مسائل :
الأولى : انقرضت وانمحت وحل بديلاً عنها الوضع من البشر.
الثانية : بقيت اللغة الأم موجودة بين لغات الأمم.
الثالثة : انبثقت وتفرعت عنها اللغات الأخرى.
الرابعة : ان الله عز وجل علم آدم عليه السلام اللغات كلها ثم اخذت كل أمة واحدة منها.
الخامسة : التفصيل في لغات أهل الأرض، فلغة واحدة منها بالوحي والتعليم، والبواقي بابتكار من البشر وحسب الحاجة ، (عن زيد بن ثابت ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتحسن السريانية ؟
قلت : لا قال : فتعلمها فإنه تأتينا كتب ، قال : فتعلمتها في سبعة عشر يوما قال الأعمش : كانت تأتيه كتب لا يشتهي أن يطلع عليها إلا من يثق به) ( ) .
السادسة : ان التعليم كان لأعلام شخصية مع القواعد لإشتقاق الأسماء والأجناس الأخرى فتم وضعها على نحو تدريجي وكل امة بصورة مستقلة وبحسب الحاجة وكثرتها وحسب الفطرة التي فطرهم الله عليها لذا ترى المخترعات يشتق لها اسم مناسب للمعنى ولا يأتي لفظها ابتكاراً، وهو من أسرار السعة في اللغة بتضمنها الحقيقة والمجاز ،وباستثناء الأولى والرابعة أعلاه فان المسائل الأخرى من مصاديق وماهية لغة التخاطب بين الناس أمس واليوم وغداً .
وهل يمكن القول أن الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فلابد أنه يوجد لغة أو لغات متعددة كما تفضل الله عز وجل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) الجواب نعم ، ويختلف معنى الخلافة على وجوه :
الأول : الإنسان خليفة لله .
الثاني : الناس خلفاء بعضهم بعضاً كأمم وأجيال متعاقبة .
الثالث : خلافة الإنسان للجن في عمارة الأرض .
الرابع : خلافة الإنسان لجنس يسمى النسناس كان يعمر الأرض ، وهو حيوان يشبه الإنسان (جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة) ( ) وقال الجزري (النسناس قيل: هم يأجوج ومأجوج) ( ).
الخامس : إجتماع أكثر من معنى من المعاني أعلاه للخليفة من غير تعارض بينها ، والله واسع عليم .
وهل من معاني خلافة الإنسان في الأرض تكلم آدم بعد هبوطه إلى الأرض بذات اللغة التي علمه الله عز وجل ، الجواب نعم.
إن الله عز وجل خلق الإنسان والدواب والأكوان ، ولا يقدر الإنسان على خلق جزء ضئيل منها ، وهو سبحانه [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ومن المعلوم ان الله تعالى اذا انزل نعمة فانه اكرم من ان يرفعها فلابد ان تكون باقية في الأرض، فتعليم الأسماء بدء منه سبحانه تعالى، واول ما خلق آدم وبعث فيه الحياة كان متكلماً وليس صامتاً ، وإنما يعر ف الأنبياء بالكلام .
فالكلام أمر وجودي ملازم لخلق الإنسان، وفي الرواية انه اول ما بعثت الروح في آدم عطس فقال: الحمد لله.
قانون إحصاء الجمل القرآنية
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصائص السور المكية ، وأنها نزلت متفرقة وعلى التوالي والتعاقب شأن جميع سور القرآن ولكن الناس أدركوا هذا القانون في سياق وكيفية نزول الآيات والسور المكية , وأخبر القرآن عن إرادة الكفار نزول القرآن جملة واحدة [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] ( ).
ترى لماذا قال الكفار هذا القول ، الجواب من جهات :
الأولى : كشف علوم الغيب التي في القرآن .
الثانية : محاولة إبطال الأثر العظيم لنزول السورة والشطر منها على نحو مستقل .
الثالثة : محاولة منع نزول القرآن وفق الوقائع والأحداث وما يسمى أسباب النزول .
الرابعة : حسد الكفار وامتلاء قلوبهم بالغيظ لحفظ المسلمين وغيرهم آيات القرآن التي نزلت فرادى فهذا النزول وسيلة سماوية مباركة لحفظ الناس لآيات القرآن .
وتتصف السور المكية بأنها تتضمن أصول الدين والأخلاق الحميدة , والتذكير المتعدد بعالم الآخرة , وبصيغ الوعد والوعيد , والترغيب والترهيب وجعل هذا العالم جزءَ من التصور الذهني للأفراد وموضوعها حاضراَ في المنتديات والبيوت .
فلا غرابة أن ترى المرأة تبادر إلى دخول الإسلام قبل زوجها , أو قبل أخيها , ومن أسباب التدبر في الخلوة بالآيات المكية , وموافقتها لإدراك العقل وهي شواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) مصاحبة الوعد والوعيد للناس في الحياة الدنيا من أيام آدم عليه السلام الذي هبط إلى الأرض وهو يأمل العودة إلى الجنة والمكوث الدائم فيها بتعاهد الإيمان والعمل الصالح بلطف ووعد من عند الله عز وجل , وفي التنزيل [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وتوالي نزول آيات القرآن قبل وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتصف السور المدنية بالطول وتضمنها الفرائض والأحكام والحدود , والعبادات , والمواريث وتنظيم أحكام الأسرة بإعجاز جلي يدرك الناس معه سماوية الأحكام , وترشح السعادة الدنيوية والآخروية عنها .
وتبين السور المكية القبح الذاتي والعرضي لعبادة الأوثان وتذم الذين يتزلفون إليها .
الرابعة : بلاغة السور المكية بما يفوق كلام الشعراء وقواعد الفصاحة والبلاغة , ويستقرأ جانب منها بالأثر والتأثير في المتلقي وضروب التشابه في الألفاظ والمباني مع التعدد والتباين في المعاني وسميً في هذا اليوم بـ(التوازي) .
وسبب التسمية أن الجملتين في القرآن كالخطين المتوازيين إذ يتشابه بناء الجملة ولكن الدلالة مختلفة .
ونظيف له أن للآية معاني ودلالات متعددة من غير تعارض بينها , وتتضمن الحقيقة والمجاز واصناف من العلوم والنسبة بين الآية القرآنية والجملة القرآنية عموم وخصوص مطلق .
الخامسة : تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله.
السادسة : تعدد صيغ الإنذار في السور المكية وحضورها اليومي بين الناس وترجمة النبي محمد مضامينها إلى الواقع العملي ، فحينما نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني وأكد لهم نبوته ، وأنذرهم ، ولم ينحصر الإنذار الذي هو تفسير لهذه الآية بهذا الإجتماع بل استمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينذرهم كل يوم .
وهل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من مصاديق هذا الإنذار أم أن القدر المتيقن منه هو البلاغ والتخويف وتلاوة آيات الإنذار والوعيد .
المختار هو الثاني ، نعم كانت هذه الإنذارات مقدمة للهجرة ، وذات الهجرة وما ترشح عنها من إتساع ونشر الإسلام دعوة للإسلام وزاجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمكن القول أن كل آية من القرآن دعوة للإيمان ، ومانع وزاجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل تتضمن آيات القرآن الإخبار عن خيبة وخسارة الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
ولكن هل هذا الإخبار متقدم زماناً على معركة بدر أم لا حد لها ، الجواب هو الأول ، ومن مصاديق الرحمة العامة التي جاءت بها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسعيه لحقن الدماء.
وتدل السور المكية على كل من :
الأول : قانون التضاد بين القرآن والإرهاب ، لما فيها من بعث النفرة في النفوس من الإرهاب والظلم والتعدي.
الثاني : تصارع الآيات والسور المكية الإرهاب ، وتطرده من المجتمعات ، وجاءت السنة النبوية تعضيداً لها للغلبة على الإرهاب والتعدي .
ومن مصاديق السنة في المقام هجرة النبي محمد فهي من أبهى معاني السلام ، والعزوف عن القتال ، وقد صدرت خمسة أجزاء من هذا التفسير بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الثالث : دلالة الآيات والسور المكية على قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) والذي جاءت خمسة وعشرون جزءً من هذا التفسير في بيانه ، ولا يتعارض معها قانون تعضيد السور المكية للبعثة النبوية
ومن إعجاز القرآن كثرة الجمل القرآنية بالنسبة إلى عدد آيات القرآن التي مجموعها هو (6236) آية أما الجمل وهي على شعب :
الأولى : الجمل الفعلية التي تبدأ بأحد أنواع الفعل الثلاثة , الماضي والحاضر والمضارع .
والتي تكون بفعل معلوم يتبعه فاعل مثل [قَالَ إِبْرَاهِيمُ]( )، أو تكون الجملة الفعلية مبنية للمجهول وهي التي يحذف فاعلها ، وينوب عنه المفعول به مع تأخره عن الفعل مثل [إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا]( )، وقوله تعالى [يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ]( )، والفعل المبني للمجهول هو (يُعرف ) وجاء نائب الفاعل فيها مرفوعاً بالواو لأنه جمع مذكر سالم .
وقد ترد في الآية الواحدة جملة فعلية بفعل معلوم وأخرى بفعل مجهول ، مع التعدد في كل منهما مثل [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثانية : الجملة الاسمية ، إذ تتألف الجملة الاسمية من المبتدأ والخبر مثل [وَاللَّهُ عَلِيمٌ].
وكذا بالنسبة لمجئ الجار والمجرور ونحوه متعلقاً بمحذوف خبر المبتدأ ، كما في قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ]( )، وتقديره الحمد واجب أو دائم أو متجدد لله .
الثالثة : الجملة التي لا محل لها من الإعراب مثل الجملة الإستئنافية والإعتراضية ، وصلة الموصول ، والجملة الواقعة جواباً للقسم.
ويجوز جعل هذا الإحصاء في دراسات ورسائل أكاديمية متعددة يختص بعضها بأقسام الجملة الفعلية أو الأسمية ، واستقراء العلوم منها.
ثم يتم الجمع بينها لبيان أن هذه الجمل أضعاف عدد آيات القرآن بنحو ست مرات ، ولابد من دلالات لهذا العدد وتقسيمات الجمل وفق قواعد النحو والبلاغة والصرف والإستعارة فيها كما تخصص دراسة للاسم الموصول في القرآن ، وعدد ونسبة الذي يختص بالله عز وجل منه قوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( ).
وقد تأتي آية تجمع المتعدد من الاسم الموصول مثل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، ودراسة تحصي الضمائر في القرآن والأحاديث الخاصة به والتي تشير إليه ، والجار والمجرور، ولابد من التدبر والتفكير في ثمرات هذا الإحصاء.
كلية لعلم الإحصاء القرآني
ولو انشئت جامعة خاصة بعلوم القرآن لكانت كلية أو معهد خاص بعلم الإحصاء القرآني ، إذ أنه علم توليدي تتفرع منه دراسات متعددة ، وتستنبط منه القوانين والمواعظ ومنه مثلاً :
الأول : آيات التوحيد منها قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ]( ).
الثاني : آيات الإيمان .
الثالث : آيات العمل الصالح .
الرابع : إحصاء آيات الصلاة منها [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
الخامس : إحصاء آيات الزكاة.
السادس : إحصاء آيات الصيام .
السابع : إحصاء آيات الحج .
الثامن : إحصاء آيات الخمس .
التاسع : إحصاء آيات الأحكام التكليفية مطلقاً .
العاشر : إحصاء آيات الدفاع .
الحادي عشر : إحصاء الآيات التي قيل أنها منسوخة ، والقائل بالنسخ ، وسند الحديث ورجاله ، والرد على هذا القول بآيات القرآن والسنة النبوية على فرض وجود هذا الرد .
الثاني عشر : آيات قصص الأنبياء .
الثالث عشر : آيات البرهان والشاهد والدليل .
الرابع عشر : آيات الإحتجاج قال تعالى [قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ]( ).
الخامس عشر : آيات التقوى والخشية من الله .
السادس عشر : آيات الصبر .
السابع عشر : آيات الأخلاق الحميدة .
الثامن عشر : آيات البيع والشراء .
التاسع عشر : آيات المعاملات .
العشرون : آيات الأسرة .
الحادي والعشرون : آيات الحكم والفصل بين الناس .
الثاني والعشرون : آيات الميراث والفرائض .
الثالث والعشرون : آيات الأرحام خاصة مع موضوعيتها يوم القيامة، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ) .
الرابع والعشرون : آيات الأجر والثواب .
الخامس والعشرون : آيات القرض واستحبابه .
السادس والعشرون : آيات الثواب على الصالحات.
السابع والعشرون : آيات البشارة .
الثامن والعشرون : آيات الإنذار .
التاسع والعشرون : آيات التلاوة .
الثلاثون : آيات الكتب السماوية السابقة .
الحادي والثلاثون : الآيات التي تخص أهل الكتاب .
الثاني والثلاثون : آيات التضاد بين القرآن والإرهاب .
الثالث والثلاثون : آيات قانون لم يغز النبي (ص) أحدا .
الرابع والثلاثون : آيات الوعد .
الخامس والثلاثون : آيات الوعيد.
السادس والثلاثون : آيات السلم والسلام .
السابع والثلاثون : الآيات والسور المكية والمدنية .
الثامن والثلاثون : آيات الحروف المقطعة .
التاسع والثلاثون : الآيات الناسخة والآيات المنسوخة .
الأربعون : آيات النكاح والطلاق .
الواحد والأربعون : آيات اليتامى والعناية بهم .
الثاني والأربعون : آيات السلطنة على المال والتدبير فيه ، قال تعالى [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا]( ).
الثالث والأربعون : آيات العين والحسد ودفعه ، قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا]( ).
الرابع والأربعون : آيات التضاد بين الإيمان والكفر .
الخامس والأربعون : آيات النهي عن الكفر ، وبيان قبحه .
السادس والأربعون : آيات الصراط .
السابع والأربعون : آيات الجنة والطريق إليها .
الثامن والأربعون : آيات التخويف من النار ، وبيان شدة عذابها.
التاسع والأربعون : آيات طاعة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ]( ).
الخمسون : صيغ الشرط ومواضيعه في القرآن ، قال تعالى [إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا]( ).
الواحد والخمسون : السور التي تبدأ بالشرط وهي (المنافقون ، الواقعة ، التكوير ، الإنفطار ، الإنشقاق ، الزلزلة ، النصر).
الثاني والخمسون : آيات في سبيل الله ، وسيلة وقيداً وغاية .
الثالث والخمسون : آيات الحرمان ، ومنع الكفار الخير من أنفسهم.
الرابع والخسمون : آيات المواقيت والإعجاز في ضبطها بتعيين الأشهر الحرم وأشهر الحج ، قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
الخامس والخمسون : الآيات التي تبين الحسن الذاتي للعمل الصالح .
السادس والخمسون : الآيات التي تنهى عن المعاصي وتبين قبحها وضررها .
السابع والخمسون: إقتباس القواعد الفقهية من القرآن مثل قاعدة أصالة الحلية ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ…]( )وأصالة الإباحة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثامن والخمسون : آيات الإستعانة وتقسيمها ، إذ يتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )وسبع عشرة مرة كل يوم وليلته في الصلاة وعلى نحو الوجوب العيني ، ويهديه الخضوع والخشوع لله عز وجل ، وقال تعالى [وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ]( ).
التاسع والخمسون : آيات الإستعاذة ومنها قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
الستون : آيات النصيب في القرآن .
الواحد والستون : آيات منافع الصبر الدنيوية والآخروية ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
الثاني والستون : آيات الأسماء الحسنى ، قال تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
الثالث والستون : آيات الرفق والتراحم بين الناس .
الرابع والستون : آيات اللطف الإلهي ، قال تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ]( ) .
الخامس والستون : الآيات التي تجمع بين الرحمة والمغفرة من عند الله عز وجل .
السادس والستون : آيات الملائكة ، عددهم ، أسماؤهم ، أعمالهم في الدنيا والآخرة ، الألفاظ والمعاني التي ذكروا بها في القرآن ، مثل قوله تعالى [لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ]( ).
السابع والستون : الآيات التي تتضمن اسماء الأنبياء ، والتصديق بنبوتهم منها قوله تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ) .
الثامن والستون : آيات معجزات الآنبياء .
التاسع والستون : آيات الجن في القرآن ، وقد وردت سورة في القرآن باسم سورة الجن ، قال تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]( ).
السبعون : آيات السكينة والطمأنينة .
الواحد والسبعون : آيات النوم في القرآن .
الثاني والسبعون : آيات الكتب السماوية المنزلة .
الثالث والسبعون : آيات الفضل الإلهي .
الرابع والسبعون : آيات الحياة والموت في القرآن ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ) .
الخامس والسبعون : آيات عالم البرزخ وما بعد الموت .
السادس والسبعون : آيات علم الرؤيا في القرآن .
السابع والسبعون : إحصاء مواضيع خواتيم السور والمكرر منها.
الثامن والسبعون : آيات الصدقة ، والنسبة بينها وبين الزكاة العموم والخصوص المطلق ، فكل زكاة هي صدقة وليس العكس ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
التاسع والسبعون : آيات الخوف الدنيوية والآخروية وعلته وموضوعه وأثره .
الثمانون : الآيات التي يذكر فيها الكتاب مطقاً ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] ( ) ليكون بين لفظي الكتاب الأول والثاني أعلاه عموم وخصوصمطلق ، فالأول أخص من الثاني .
الواحد والثمانون : آيات القرآن وذكره وسلامته من التحريف .
الثاني والثمانون : الحقيقة والمجاز قي القرآن .
الثالث والثمانون : الإستعاذة في القرآن .
الرابع والثمانون : الحذف في القرآن ، ومنه حذف المفعول به مثل [وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى]( )وقد يتكرر حذف المفعول به في آية واحدة أو آيتين مثل قوله تعالى [وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ]( ).إذ حذف المفعول به فيهما أربع مرات ، والتقدير : ووجد أمة من الناس يسقون مواشيهم وامرأتين تذودان مع مواشيهما وقالتا لا نسقي مواشينا فسقى لهما مواشيهما ).وحذف المضاف مثل قوله تعالى [قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ]( ) أي من تراب حافر فرس الرسول ، وقال ابن جني ، وفي القرآن منه زهاء ألف موضع .
الخامس والثمانون : إحصاء الآيات التي قيل أنها منسوخة ، ولم يثبت نسخها ، فقد ذكر أن آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية ، ولا أصل له .
السادس والثمانون : إحصاء آيات المثل القرآني ، وقد ورد لفظ (كمثل) أربع عشرة مرة في القرآن وجاء لفظ (مثل) في آية واحدة مرتين في قوله تعالى [وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( ).
السابع والثمانون : تقسيم الخبر في القرآن إلى الخبر المتواتر وخبر العدل الواحد [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى]( )، والخبر الضعيف ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
الثامن والثمانون : الأدلة القطعية والأدلة الظنية .
التاسع والثمانون : إحصاء عدد آيات ، وكلمات ، وحروف القرآن .
التسعون : الحكم الواقعي والحكم الظاهري في القرآن.
الواحد والتسعون : المشترك اللفظي والمشترك المعنوي في القرآن.
الثاني والتسعون : الكفارة وأقسامها ، قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثالث والتسعون : الثواب والعقاب في القرآن.
الرابع والتسعون : الجملة الخبرية والجملة الإنشائية في القرآن .
الخامس والتسعون : الحكمة والموعظة في القرآن .
السادس والتسعون : الأخلاق المذمومة ، مثل الغيبة والنميمة .
السابع والتسعون : الأيام والشهور في القرآن .
الثامن التسعون : آيات الرزق سعة وتقديراً والإنفاق ، قال تعالى [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا]( ).
التاسع والتسعون : آيات بلاء وعذاب الكفار في الدنيا .
المائة : آيات بدن وأعضاء الإنسان ، وصيرورتها باعثاً على الهداية والإيمان ، قال تعالى [إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
الواحد بعد المائة : آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن خصائص علم الإحصاء في المقام ذكر الآية القرآنية الواحدة في عدة حقول فيقتطع منها الشطر الذي يتعلق بموضوع الإحصاء مع الإشارة إلى رقم الآية واسم السورة كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، إذ تدخل هذه الآية في آيات الإيمان وآيات العمل الصالح وآيات الصلاة وآيات الزكاة ، وآيات الأجر والثواب ، وآيات الأمن وآيات عالم الأخرة .
أجزاء في الصلة بين الآيات
الحمد لله الذي جعل خزائن القرآن من اللامتناهي ومنها العلوم المستقرأة من الصلة بين كل آيتين من القرآن ، وهيغير التفسير المتعارف والمتوارث لآيات وسور القرآن ، لذا تجد في هذا التفسير أجزاءً خاصة بالصلة بين كل آيتين أو ثلاثة وقد تجد فيه جزءً مستقلاً من 300 صفحة خاصاً بالصلة بين شطر من آية وشطر من آية مجاورة لها ، وتدل موضوعية الجوار هنا بامكان ويسر اصدار أجزاء متعدد في الصلة بين كل آيتين في موضوع خاص أو مقارن ، ومن هذه الأجزاء :
- الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
- الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
- الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
- الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
- الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
ومن إعجاز القرآن استنباط المسائل ، وإنشاء القوانين المستحدثة من الصلة بين آيات القرآن ، وهو غير العلوم المستقرأة من تفسيرها بالذات ، وحيث الدليل والحجة والبرهان ، وسلطان العلم ، وما يؤدي إلى القطع ، ويحول الظن والأمارة إلى العلم واليقين ويستلزم هذا العلم اشتراك علماء اختصاصات متعددة في تفسير الآية القرآنية بحسب مضامينها القدسية قال تعالى [وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( )، من جهات منها :
الأولى : اللغة .
الثانية : النحو والصرف .
الثالثة : البلاغة والبيان ، وما يسمى بالدراسات اللسانية.
الرابعة : علم التلاوة .
الخامسة : علم الفقه .
السادسة : علم التفسير .
السابعة : علم أصول الفقه .
الثامنة : علم الكلام .
التاسعة : علم التأريخ .
العاشرة : علم طب الأبدان [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
الحادية عشرة : علم السياسة .
الثانية عشرة : علم الإجتماع .
الثالثة عشرة : علم النفس ، قال تعالى [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
الرابعة عشرة : علم الجغرافية .
الخامسة عشرة : علم الإقتصاد .
السادسة عشرة : علم الجيولوجيا ودراسة الأرض .
السابعة عشرة : القانون .
الثامنة عشرة : علم الهندسة والعمران .
التاسعة عشرة : الإعلام .
العشرون : علم الذرة ، قال تعالى [وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
الواحد والعشرون : علم الهيئة والفضاء والكواكب .
الثاني والعشرون : علم الزراعة .
الثالث والعشرون : علم الرياضيات والحساب والإحصاء .
الرابع والعشرون : علم الكيمياء .
الخامس والعشرون : علم الفيزياء .
السادس والعشرون : علم الأحياء والنبات .
السابع والعشرون : الفنون والمهارات .
الثامن والعشرون : علم التخطيط والسكان والبيئة .
التاسع والعشرون : علم الإتصالات القديمة والحديثة .
الثلاثون : علم الأخلاق .
الواحد والثلاثون : علم المنطق .
الثاني والثلاثون : علم البحار والأنهار والأمطار والمياه .
الثالث والثلاثون : علم الحيوان .
وقد لا يستلزم تفسير كثير من آيات القرآن إجتماع هذه العلوم والإختصاصات أنها تكون حاضرة لبيان موضوعيتها من عدمه في تفسير الآية ، ومن الآيات ما يستلزم تفسيرها إشتراك خمسة أوعشرة علوم أو أكثر .
ومن منافع هذا الحضور والجمع في تفسير آيات القرآن أمور :
الأول : الدلالة المتعددة على التوحيد والإرشاد إلى نبذ مفاهيم الشرك .
الثاني : بيان بديع صنع الله ، ليكون من علم التفسير مرآة لقوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
الثالث : استخراج كنوز القرآن ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ]( ).
الرابع : تأكيد إعجاز القرآن ، وأنه كلام الله عز وجل ووحي من عند الله تعالى .
الخامس : بيان قانون وهو تخلف العلومعن الإحاطة بخزائن القرآن .
وعن الإمام علي عليه السلام (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى.
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لاحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لاوائكم، فان فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله.
واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فانه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستعشوا فيه أهواءكم) ( ).
الثانية عشرة : من خصائص الجمع بين آيتين في علم التفسير تجلي قانون سلامة القرآن من التحريف وهو من معاني التفسير الذاتي للقرآن ودفاع القرآن عن نفسه ، وهل هذا الدفاع من عمومات قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم.
الثالثة عشرة : بيان المجمل ، وتأكيد الظاهر ، وترجيح المحتمل.
وكتبت هذا القانون الذي لم يطرأ على البال ، إذ تتبنى المنهجية العامة بيان وجوه الإلتقاء أو الإختلاف بين المسلمين وأهل الكتاب ، ووجوه التضاد بين المسلمين والكفار .
أما أن يكون البحث والتحقيق بخصوص طرفين خارج الإسلام واستقراء الشواهد منه على صدق نبوة محمد كما في قوله تعالى [الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ]( )، إذ تفيد او العطف المغايرة وكذا قوله تعالى [وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا]( )، فهذا أمر غير معهود ، ليكون فيه فتح لأبواب من العلم والتحقيق والإستقراء ،ومناسبة ومادة لإستنباط القوانين والمسائل الخاصة في المقام .
ومنها الفصل والتباين من منظار إسلامي بين أهل الكتاب والكفار ، وهذا الفصل ليس مداراة ظاهرية وتقية وتآلف .
بل هو مرآة وأمر مستنبط من الدليل من وجوه :
الأول : القرآن الكريم ، وهو المصدر الأول للتشريع ، ومنه قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ) .
الثاني : السنة النبوية القولية والفعلية، ومنها صلة وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة ، ونصارى نجران ، ومن التباين في معاملة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أهل الكتاب والكفار . وعقده العهود والمواثيق مع يهود المدينة عند دخوله لها ، بينما كان هناك نوع تضاد بين الإسلام والكفر ، ولم يعقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقداً مع مشركي مكة نعم عقد معهم صلحاً ، وهو صلح الحديبية .
وإذ أجرى يهود المدينة العقد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حالما دخل المدينة إذ كانت المنعة فيها للأنصار من الأوس والخزرج ، فان قريشاً لم تعقد صلحاً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة الخندق ، ولم يتعاهد المشركون بنود الصلح بل تقضوه فكان مقدمة لفتح مكة .
وكانت قريش هم الغزاة في كل واحدة منها ، وهذا من وجوه التباين بين أهل الكتاب والكفار ، ولابد أن يترشح عنه جدال بينهم بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل ترتب أثر على إخبار واحتجاج أهل الكتاب على الذين كفروا بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، بمبادرة جماعات بدخول الإسلام وامتناع طائفة من الناس عن نصرة المشركين في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيه دعوة لعلماء المسلمين إلى استقراء القوانين واستنباط المسائل من بشارة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون من معاني قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( )وجوه :
الأول : ومبشراً برسول يأتي منبعدي فآمنوا به .
الثاني : يأتي من بعدي هو عربي اسمه أحمد .
الثالث : يأتي من بعدي بالشريعة الناسخة .
الرابع : يأتي من بعدي فلا تقاتلوه .
الخامس : يأتي من بعدي فلا تنصروا عدوه .
السادس : يأتي من بعدي فتوارثوا هذه الوصية .
السابع : رسول يأتي من بعدي بالمعجزة ، لإخبار الآية عن صفة الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولقانون الملازمة بين الرسول والمعجزة .
الثامن : ومبشراً برسول يأتي بعدي فالرسالة لا تنقطع برسالتي .
التاسع : ومبشراً برسول يأتي من بعدي فاشكروا الله على نعمة البشارة هذه ،وأشكروه تعالى حين البعثة بالتصديق والنصرة ، فمن منافع هذه البشارة تهيئ واستعداد أهل الكتاب للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبارهم الكفار عنها وعن أوانها ثم جدال الكفار والمشركين عند البعثة والهجرة .
لقد كانت عند أهل الكتاب بشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي متعددة من جهات :
الأولى : البشارات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة ، ومنها
(3: 3 الله جاء من تيمان و القدوس من جبل فاران سلاه جلاله غطى السماوات و الارض امتلات من تسبيحه
3: 4 و كان لمعان كالنور له من يده شعاع و هناك استتار قدرته
3: 5 قدامه ذهب الوبا و عند رجليه خرجت الحمى
3: 6 وقف و قاس الارض نظر فرجف الامم و دكت الجبال الدهرية و خسفت اكام القدم مسالك الازل له) ( ).
أي جاء لأمر الله من تيمان أي من مكة والحجاز وناحية اليمن لأن أنبياء بني إسرائيل يأتون من جهة الشام ، وذكر الحمى اشارة إلى المدينة المنورة (فرجف الامم) اشارة إلى قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) ( ) وقيل أن اليهود والنصارى يقرأون هذه البشارة ويقولون أن صاحبها لم يظهر بعد .
الثانية : البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإنجيل ومنها (7: 26 بل ماذا خرجتم لتنظروا انبيا نعم اقول لكم و افضل من نبي
7: 27 هذا هو الذي كتب عنه ها انا ارسل امام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك ) ( ).
الثالثة : البشارات التي يتوارثها علماء عامة أهل الكتاب عن نبي آخر زمان ، وهل كان أهل الكتاب يجادلون الكفار كمشركي قريش بهذه البشارات قبل البعثة وبعدها ، الجواب نعم .
صحيح أن طائفة من أهل الكتاب انكروا مطابقة صفات نبي آخر الزمان على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الإجماع على بعثة هذا النبي ، فلا غرابة أن ينزل القرآن بتسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين بقوله تعالى [وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ) لقطع الطريق على أهل الشك والريب والتحريف وعلى المشركين الذين يلتمسون العذر في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمكن تقسيم الناس أيام النبوة تقسيماً استقرائياً إلى وجوه :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المؤمنون من المهاجرون والأنصار رجالاً ونساءً .
الثالث : عامة المسلمين الذين نطقوا الشهادتين ، ويؤدون الصلاة والفرائض .
والنسبة بين الوجهين أعلاه هي العموم والخصوص المطلق ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس .
الثالث : المنافقون والمنافقات الذين يظهرون الإسلام ، ويقفون مع الصحابة في صفوف الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنهم يخفون الكفر ، وإذا بلغهم أن المشركين ينوون الهجوم على المدينة فانهم يقومون بتثبيط عزائم الصحابة ، وبث الأراجيف وإشاعات التخويف من جيوش الكفار.
ومن إعجاز القرآن ذكر المنافقات في القرآن بالذات ، إذ ذكر هذا اللفظ خمس مرات في القرآن وهي :
الأولى : [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
الثانية : [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ).
الثالثة : [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الرابعة : [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
الخامسة : [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ]( ).
ويمكن استقراء القوانين والمواعظ من هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة إلى جانب شمول المنافقات بالآيات التي ورد فيها ذكر المنافقين فقط لغلبة المذكر إلا ما دلّ الدليل على التخصيص ، ومنه [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، التي نزلت بخصوص واقعة بني المصطلق .
و(أُصيب رجل من المسلمين من بني كليب بن عوف بن عامر يقال له : هشام بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنّه من العدو فقتله خطأً)( ).
مما يدل على قلة القتل إذ بادر الكفار إلى الهروب وتركوا أموالهم وعوائلهم.
وكان في الموضع ماء لبني المصطلق يسمى (المريسيع) فورده عدد من الصحابة ، فجاء أجير عند عمر بن الخطاب يسمى جهجاه بن سعيد الغفاري يقود فرسه ليورده الماء فازدحم مع سنان الجهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا عندئذ نادى الجهني : يا معشر الأنصار ، يندبهم لنصرته.
فقابله جهجاه بالنداء ( يا معشر المهاجرين) ( )، لتحريضهم لنصرته فقام رجل فقير من المهاجرين اسمه جعال بنصرة جهجاه.
وكادت تكون فتنة عظيمة بين الصحابة يستفيد منها الكفار في ذات الموضع وغيرهم لولا فضل الله .
إذ (غَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ أَوَقَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا ، وَاَللّهِ مَا أَعُدّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ) ( ).
ومن الآيات الخاصة بالمنافقين الذكور دون الإناث قوله تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]( )، فان هذه الآية خاصة بالرجال .
ومنه [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وقد ترد آيات في ذم المنافقين والمنافقات من غير ذكر لفظ ومادة النفاق مثل قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
وهم يشيعون في المدينة الكذب ، ويقومون بتخويف المؤمنين والمؤمنات بأن المشركين قادمون ، وأنهم يريدون استئصال الإسلام وإذا خرجت سرية من المدينة أشاعوا بأنهم هزموا أو قتلوا .
ومنها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ) ( )، فاذا مات أحد الصحابة أو قتل ، قال المنافقون والمنافقات لو بقي عندنا في المدينة لما قُتل.
ومنه [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
فتصدر هذه الإعاقة من المنافقين والمنافقات مجتمعين ومتفرقين ، ولا تختص بالرجال منهم.
ويتضمن القرآن تعريف وتعيين المنافقين ، قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن تضنه تعريف وتعيين المنافقين من جهة القول والفعل ، كما في الآيات السابقة ، ومن جهة العقيدة كما في قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
الرابع : اليهود : وكانوا ثلاث قبائل وهي :
الأولى : بنو قينقاع .
الثانية : بنو النضير .
الثالثة : بنو قريظة ، حلفاء الأوس ، وقد عقد معهم النبي محمد عقد الموادعة بعد هجرته إلى المدينة.
ولكنهم نقضوا العهد، منه في معركة الأحزاب عندما جاء أبو سفيان ومعه عشرة آلاف من المشركين وهم عازمون على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء الأوس ومنهم سعد بن معاذ إلى بني قريظة للرجوع عن نصرتهم وتعضيدهم للمشركين ، وبعد أن انصرفت الأحزاب بعد معركة الخندق منهزمين خائبين توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني قريظة.
بداية تصديق الأنصار
لقد تناجى وفد الأوس والخزرج بخصوص بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بيعة العقبة الأولى ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانوا يفدون مع العرب إلى مكة لأداء مناسك الحج ، ولا يأتيه اليهود الذين في يثرب ، وتم تصديق الأنصار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مراتب :
الأولى : كان وفد الأوس والخزرج يسمعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو الناس إلى التوحيد ويتلو عليهم آيات من القرآن هي فوق كلام البشر ، ويتصل بهم وبغيرهم من وفود العرب ويخبرهم عن رسالته ، ويرون أذى قريش له ، فاستحضروا أخبار اليهود عن نبي آخر زمان وصفاته ، وتأملوا في أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : مناجاة الأوس والخزرج بخصوص بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعْلَمُونَ وَاَللّهِ يَا قَوْمِ أَنّ هَذَا الّذِي تَوَعّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ فَلَا يَسْبِقُنّكُمْ إلَيْهِ) ( ).
الثالثة : كان أفراد وجماعات من الأوس والخزرج يفدون إلى مكة لأداء العمرة والتسوق وطلب الحلف والشفاعة ونحوها ، فقدم سويد بن الصامت ، وهو من الأوس إلى مكة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم يتصل بالأفراد ويجلسهم إلى جواره في البيت الحرام يدعوهم لنبوته وقريش تمنع الناس عنه.
ولكنهم لم يعلموا أن أمر نبوته يبلغ ما صار إليه من إتباع آلاف الأفراد له ، واستعدادهم للدفاع عنه ، والوقوف خلفه في الصلوات اليومية الخمس ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
فلما سمع سويد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستجب لدعوته ولكنه لم يبعد .
الرابع : مجئ وفد من فتية من بني عبد الأشهل من الأوس منهم أنس بن رافع أبو الحسير يطلبون الحلف لخصومة بينهم وبين الخزرج فاتصل بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال بأنه يدعوهم لما هو أفضل من الحلف الذي يرجون.
وكان صادقاً فرزقهم الله الأخوة المستديمة والعز ، والفخر في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودلائل صدقه توجهه إلى أعضاء الوفود مجتمعين ومتفرقين ، وعدم اختصاص دعوته على الرؤساء.
ومن عامة الوفود وفد بني عبد الأشهل هذا فقال أحدهم (إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ شَابّا حَدَثًا : يَا قَوْمِ هَذَا وَاَللّهِ خَيْرٌ مِمّا جِئْنَا لَهُ فَضَرَبَهُ أَبُو الحيسر وَانْتَهَرَهُ فَسَكَتَ ثُمّ لَمْ يَتِمّ لَهُمْ الْحِلْفَ فَانْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ) ( ).
الخامس : وفود وجماعات لم تذكرها كتب التأريخ ، ومنها جماعات من القبائل المختلفة أثناء موسم الحج خاصة في السنوات الأخيرة من إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة .
السادس : لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بستة نفر من الخزرج في العقبة في موسم الحج في السنة الحادية عشرة للبعثة النبوية ، وهؤلاء الستة هم :
الأول : أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ .
الثاني : َعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ .
الثالث : َرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ .
الرابع : َقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ .
الخامس : َعُقْبَةُ بْنُ عَامِر ٍ .
السادس : َجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابٍ .
فدعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام فأسلموا فكان إسلام هؤلاء قبل بيعة العقبة ، ليكون دخول هؤلاء الستة فاتحة خير ، كما أسلم فيها أبو ذر ، والطفيل بن عمرو الدوسي وضماد الأزدي .
وفيه مؤاساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لشدة الأذى الذي لاقاه من قريش خصوصاً في السنة العاشرة للهجرة وهي سنة الحرن ، إذ توفى فيها عمه أبو طالب ، وخديجة.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : (ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب) ( ) .
والقى أحد سفهاء قريش التراب على رأس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة فدخل على فاطمة عليها السلام ، فبكت وقامت بغسل الأذى عنه.
فقال لها (أي بنية، لا تبكين، فإن الله مانع أباك. ويقول ما بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.
وعن أبي هريرة قال: لما مات أبو طالب ضُرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما أسرع ما وجدت فقدك يا عم)( ).
قانون المعجزات في كل معركة دفاعية
تتجدد العلوم في هذا الزمان إلى التخصص ، فيتفرع العلم الواحد إلى عدة علوم ، ويكون كل واحد منها موضوعاً يبحث عن عوارضه الذاتية ، وله مختصون يبدعون فيه أو يتبعون خطى من سبقهم ونؤسس هنا لعلم جديد.
وهو جعل علم مستقل لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة وكتيبة خرج بها وفق قوانين هذا السِفر ومنها :
الأول : (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) والذي صدرت بخصوصه خمسة وعشرون جزء من التفسير وهي (164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196—204-212-216-221-229).
الثاني : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) والذي صدرت بخصوصه ستة أجزاء وهي (184-185-188-195-198-199-203-210-211-219).
الثالث : آيات السلم محكمة غير منسوخة ، وقد صدر في مضامينه ودلالاته خمسة أجزاء (205-206-207-214-215-233).
الرابع : قانون آيات الدفاع سلام دائم ، وقد صدرت في فرائده ستة أجزاء أخرها (142-205-217-218-231) وهذا الجزء الثاني والثلاثون بعد المائتين.
والحمد لله إلى جانب آلاف القوانين التي تتضمنتها أجزاء هذا التفسير .
ومن أبواب هذا العلم في يوم تأسيسه هذا وجوه :
الأول : المعجزات في أسباب كل معركة من معارك الإسلام .
الثاني : المعجزات في دفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمعركة ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
الثالث : المعجزات في مقدمات كل معركة .
الرابع : تعيين المعارك التي شملها هذا العلم .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل يشمل السرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقع فيها قتال .
الثانية : هل يشمل السرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقع فيها قتال .
الجواب نعم ومن المعارك والوقائع التي حضرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد.
الثالثة : كتيبة حمراء الأسد .
الرابعة : معركة الخندق .
الخامسة : صلح الحديبية .
السادسة : فتح مكة .
السابعة : معركة حنين .
الثامنة : كتبية تبوك .
الخامس : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق إلى ميدان المعركة .
السادس : تخصيص باب في كل معركة لمعجزة قانون قلة عدد المسلمين وأسلحتهم فيها أزاء كثرة عدد وعدة جيش المشركين ، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجدد هذا القانون حتى مع كثرة عدد المسلمين ، وظهور الإيمان ودخول أهل مكة الإسلام ، ففي معركة حنين التي وقعت في السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة كان عدد المسلمين في الميدان اثني عشر ألفا منهم ألفان أسلموا يوم فتح مكة ومنهم المؤلفة قلوبهم الذين يرجى تأليف قلوبهم ، وصرف أذاهم وكف شرهم.
بينما كان عدد المشركين نحو عشرين ألفاً ، وقد استعدوا للمعركة بالسلاح والخيل والتمرين ، وخطة الهجوم المباغت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
السابع : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند بدايات القتال.
الثامن : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أثناء القتال .
التاسع : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند إنتهاء القتال .
العاشر : معجزات النبي في طريق العودة من المعركة .
الحادي عشر : الذين دخلوا الإسلام في هذه المعركة .
الثاني عشر : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التباين بين عدد وعدة جيش المسلمين وجيش المشركين .
الثالث عشر : معجزة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في ميدان المعركة مع أنه من أهم غايات المشركين
الرابع عشر : معجزات عصمة جيش الصحابة من الأسر .
الخامس عشر : معجزة نزول الملائكة في ميدان المعركة ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
السادس عشر : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ تفسير آيات القتال والدفاع .
الثامن عشر : معجزة عدم حاجة النبي للقتال والغزو .
التاسع عشر : مصاديق الدفاع في معارك النبوة .
السادس عشر : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه التي لم يقاتل فيها ، والتي تسمى في كتب التفسير والسيرة غزوات وهي :
الأولى : كتيبة الأبواء في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة .
الثانية: كتيبة غطفان (الفرع) في السنة الثانية للهجرة .
الثالثة : كتيبة بواط في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة .
الرابعة : كتيبة بدر الأولى ربيع الأول من السنة الثانية .
والأولى إيجاد اسم أخر لها ليبقى اسم بدر خاصاً بمعركة بدر .
الخامسة :كتيبة ذي العشيرة جمادى الأولى في السنة الثانية للهجرة .
السادسة : كتيبة بني سُليم في شوال من السنة الثانية للهجرة .
السابعة : كتيبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني قينقاع ، ولم يقتل منها إلا واحد.
الثامنة : كتيبة السويق في الخامس من ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة.
التاسعة : كتيبة بحران في جمادى الأولى من السنة الثالثة .
العاشرة : كتيبة حمراء الأسد في السادس عشر من شهر شؤال من السنة الثالثة للهجرة .
الحادي عشر : كتيبة بني النضير في ربيع الأول من السنة الرابعة.
الثانية عشر : كتيبة ذات الرقاع في جمادى الأولى من السنة الرابعة ، وتسمى غزوة ذات الرقاع ، وفي هذه التسمية جهات :
الأولى : لأن الصحابة كانوا يربطون على أرجلهم الخرق من شدة الحر ، كما في حديث أبي موسى ( ).
الثانية : رقّع الصحابة راياتهم في هذه الكتيبة .
الثالثة : لقد نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نخلة ، وهناك شجرة اسمها ذات الرقاع .
الرابعة : نسبة تسمية ذات الرقاع إلى جبل هناك فيه بقع حمر وسود وبيض .
وفيه شاهد على أن ما يسمى غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد فيها بلدة أو قرية أو قبيلة ،وإن قصد فانه يبغي تفريق المجتمعين للشر والفتنة وغزو المدينة ، ولو تركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقومون بغزوها لكان فيه إغراء لعامة المشركين في التجهيز لغزوها .
والإغارة عليها ومهاجمة أهلها بغتة ، وإشاعة القتل فيها ، وقصد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغية قتله ، ولتعرض أهلها للأسر والنهب والسلب ، ونساؤها للسبي ، وكان فيها المهاجرون والأنصار ، والمنافقون واليهود وغيرهم ، لتكون كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهؤلاء وسلامة لهم ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
الخامس : موضوعية وأثر كل آي من آيات المعركة في وقائعها .
السادس : منافع الآيات التي نزلت في المعارك السابقة بالمعركة اللاحقة ، كما في إنتفاع الصحابة في معركة أحد من آيات معركة بدر.
وكما في إتعاظ الصحابة من فرار عدد منهم في معركة أحد ، في معركة حنين ، فلم يفروا يومئذ ، ومن تفاجئ بقوات هوازن وثقيف وهجومهم المباغت سرعان ما عاد وقاتل دفاعاً حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
حتى لا تكون فتنة( )
قد يكون الدفاع سبباً للظهور والنصر وهو الغالب وقد يتداخل القتال والقتل والقتال دفاعاً عن النفس مع القتال لإجتثاث الكفر.
والفتنة الواردة في الآية الكريمة على وجوه :
الأولى : الشرك والكفر.
الثانية : افتتان المسلمين وارتداد بعضهم الى منازل الشرك ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
الثالثة : فعل الجريمة.
الرابعة : شيوع الفاحشة وبث أسباب اللهو واللعب لإشغال الناس عن أمور دينهم وعن التوجه نحو الرسالة الإسلامية والتدبر في آيات القرآن.
الخامسة : مطلق الضرر والأذى.
السادسة : اخراج المسلمين من ديارهم.
السابعة : الصدّ والمنع من المسجد الحرام ، قال تعالى [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..] ( ) .
لبيان وجوب تحلي المسلمين بالصبر والتسامح ، وعدم مقابلة المشركين بالمثل عندما منعوهم من دخول المسجد الحرام في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة عند صلح الحديبية .
وتتضمن الآية الأمر للمسلمين بأن لا يمنعوا الناس عن المسجد الحرام ، والـ [شَنَآنُ]: البغض والكراهية .
الثامنة : وقوع اضرار وفتنة بسبب اخراج المسلمين من ارضهم وبلادهم.
التاسعة : العدوان في القول والفعل (عن عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أيها الناس اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة) ( ).
العاشرة : الحاجة والموضوعية للدفاع وصدّ المشركين أي أن عدم مواجهة الكفر بالدفاع يترتب عليه حصول الفتنة فاذا تُرك الكفر وشأنه فانه يتمطى ويتفشى ويدب كالداء في الجسم.
وكأن الآية تخبر عن الملازمة المركبة :
الأول: الملازمة بين القتال دفاعاً وعدم حصول الفتنة.
الثاني : الملازمة بين عدم القتال وحصول الفتنة من جهة اخرى.
الثالث : الملازمة بين دفاع المؤمنين وقصد في سبيل الله .
الرابع : الملازمة بين الصبر والتعاون في عمل الصالحات .
وكل الوجوه تدل عليها الآية بالدلالة المطابقة أو التضمنية أو الإلتزامية .
فظاهر الآيات وتسارع الوقائع أن القتال دفاعاً أصبح حاجة عقائدية تتعلق بتثبيت اركان الإسلام وان الفتنة ترجـع على كيانه وأحكامه اذ أن الكفـار يحاولون العبث بالشريعة وبالمسلمين وايجاد حالة من الإرباك في صفوفهم وبث روح الشك والريبة والتردد في نفوسهم وعند الآخرين الذين ينوون دخول الإسلام , فالفتنة لا تحارب لذاتها فقط بل لما يتفرع عنها أيضاً.
وقد يكون القتال سببا لدرء الفتنة وعدم حصولها وان كانت الفتنة من الكليات المشككة أي ذات المراتب المتفاوتة شدة وضعفاً، واتساعاً وضيقاً.
وتظهر الآية الكريمة الإهتمام العظيم بالحال الإجتماعية والإخلاقية للمجتمعات وسـعي القرآن الدؤوب لإصلاحها وتنقيتها من الأدران التي تضر بسير بمسيرة الإيمان واختبار واختيار دروبه.
والفتنة اسم ومفهوم كلي لجنس ، لذا فليس المراد فرداً واحداً من افـراد الفتنة فالآية انذار وتحذير للمسلمين، فمفهوم ومفهوم المخالفة يعني أن لم تقاتلوهم فانه ستكون فتنة متصلة وستكون الخسارة أكبر سواء في الأنفس أو الأموال مع ما يترشح لمعن الفتنة من سريان وجوه الضـلالة والشك والتعدي .
وبقاء شطر من الناس على الكفر وسط المسلمين ومجتمعاتهم مصدر أذى يستلزم تشريعاً ازاءهم يرتكز الى قواعد السلم المجتمعي عدم الضرر ونحوها ، وقال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ).
قانون التضاد بين القرآن والفتنة
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يبن سوراً على المدينة أيام النبوة وبعدها مع بنائه على المدن آنذاك مما هي أقل شأناً منها مما يدل على عدم الخشية على رسول الله من غارات ليلية وكيد من الأعداء عند سكون الليل، قال تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ) مع وجود الحيطة والحذر من قبل الصحابة .
ودخول الناس الإسلام جماعات وأفواجاً مانع من حصول الفتنة لأنها تصبح سالبة بإنتفاء الموضوع، فليس من رؤوس وأقطاب وأموال للفتنة .
ولم يأت الأمر الإلهي للمسلمين بالدفاع مجرداً ومستقلاً بذاته بل يتضمن الوعد الكريم من الله بالمدد والنصر والغلبة، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الذين يأمرهم الله بالقتال منتصرون.
الصغرى : المؤمنون يأمرهم الله بالقتال.
النتيجة : المؤمنون منتصرون.
لقد بينت الآية ماهية الحد الذي ينتهي عنده قتال المسلمين للكفار وهي تحقيق السلم المجتمعي وذكر الله ، وهو من وجوه :
الأول : منع حصول الفتنة.
الثاني : صيرورة الدين لله.
الثالث : عدم التعدي.
ثم تضمنت الآية الجملة الشرطية [فَإِنْ انتَهَوْا] ( ) وتأخير انتهاء الكفار عن القتال في المقام آية إعجازية في فلسفة الدفاع في الإسلام ليكون الملاك في إستمرار الدفاع الأمور أعلاه لإبتداء الغاية الذي يدل عليه حرف الجر(حتى) فيكون انتهاء الكفار عن القتال والغزو معلولاً لأمور:
الأول : قتال المسلمين للكفار لدفعهم عن المدينة وزروعها .
الثاني : دفع الفتنة.
الثالث : صيرورة الدين لله سبحانه .
الرابع : انتهاء الكفار عن القتال بفضل الله ولطفه بالمسلمين والناس، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ولم تكتف الآية بواحد من الأمرين اللذين جعلتهما غاية لقتال المسلمين وهما:
الأول : دفع الفتنة.
الثاني : صيرورة الدين لله عز وجل.
وفيه آية إعجازية تتجلى في التكامل في غايات الدفاع ، وإتخاذه بلغة نحو إصلاح الأرض، وإزاحة الكفر، فلا يكفي دفع الفتنة وإزاحة الكفر ومفاهيم الشرك والضلالة، بل لابد من جذب الناس لمنازل الإيمان بالنصح والحجة ، وعملهم بما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
وقد اختلف الأصوليون في تكليف الكفار بالفروع والمشهور شهرة عظيمة أنهم مكلفون بها، وهو المختار، ويمكن جعل هذه الآية من الأدلة لما في الجمع بين الأمرين أعلاه .
ومن معاني قوله تعالى [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]( )، إستئصال الكفر والضلالة رحمة بالناس ، ومقدمة للعبور على الصراط يوم القيامة .
وجعل الناس يبادرون إلى طاعة الله التي تتجلى بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض والواجبات ، فمعاني هذه الآية لا تقف عند تكليف الكفار بالفروع بل تبعث المسلمين على حمل كفار مكة على فروع الدين وإتيان الواجبات وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ومن وجوه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتال الكفار إلى أن يكون الدين لله، وقد قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نحو تسع من الكتائب دفاعاً واضطراراً ليكون قتاله على وجوه :
الأول : معجزته سلامته آية في العالمين .
الثاني : فيه أسوة للمجاهدين .
الثالث : الموعظة للمسلمين.
الرابع : إنه سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وتمنع الآية من الإجتهاد في مقابل النص، فإذا خرج المدافعون للقتال ليس لأحد منعهم وصدهم وبث الوهن وأسباب الضعف بينهم إذا لم تتحقق الغايات من القتال التي ذكرتها هذه الآية، وكذا لا يحق لأحد إجبار المسلمين على الخروج للقتال إذا كان رأس الفتنة مقطوعاً ، وكان الدين لله عز وجل أو كان الصلح والتدارك ممكناً ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
وفيه آية في إعجاز القرآن وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ]( )، بتعيين حد القتال وهو الدفاع وإشاعة الأمن والسلم المجتمعي وغاياته التي يقف عندها ولا يتعداها إلى غيرها.
فلم تكتف الآية بقوله تعالى [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ( )وفيه نكتة عقائدية وهي تحذير المنافقين، وما يثيرونه من مقدمات الفتن، فهم ينطقون بالشهادتين ويظهرون الإسلام، ولكنهم يخفون الكفر والشك، ويثيرون أسباب الريب، ويأججون نار الفتنة ويسعون لمنع إنطفائها، قال تعالى[وَاحْذَرْهُمْ أن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ]( ).
وجاء تقديم قطع دابر الفتنة على صيرورة الدين لله، وفيه وجوه:
الأول : أولوية قطع الفتنة.
الثاني : دفع الفتنة مقدمة ليكون الدين لله.
الثالث : لا موضوعية لهذا التقديم، إنما جاء للبيان والقدر المتيقن من حرف العطف (الواو) في(ويكون الدين لله) إفادة الجمع وليس الترتيب.
والصحيح الأول والثاني فلابد من قطع الفتنة ، وإزالة الشرك من مكة وحواليها ، وهو من مصاديق تسميتها (أم القرى) قال تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
والفارق بينهما وبين الوجه الثالث أعلاه صغروي ، ويكاد لا يبين لأن إزالة الشرك تعني سيادة الإسلام، نعم القضاء على الشرك مقدمة لتثبيت أحكام الشريعة وتفقه الناس في الدين، وتعاهد المسلمين للفرائض والواجبات ، وفي قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] ( ).
(عن ابن عباس قال : وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام،
وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها. فقال : يا معشر قريش واللَّه لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل،
ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش : يا محمَّد إنَّا نعبدها حبَّاً لله،
ليقرّبونا إلى الله زلفى،
فقال الله تعالى : قل يا محمّد إنْ كنتم تحبّون الله وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فاتبعوني يحببكم اللَّه،
وأنا رسوله إليكم وحجتَّه عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام.) ( ).
لقد ذم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبادة الأوثان ، كما قام بذكر فضل الله عليه، وبيان لزوم انتفاعهم من رسالته ، والمبالغة في إكرامه ، ليكون هذا البيان زاجراً لهم عن إيذائه ومحاربته .
وهل انتفع عدد من رجال قريش من هذه الموعظة ودخلوا الإسلام أم أن كل الذين سمعوها أصروا على الإقامة على الكفر .
الجواب هو الأول ، وهو من الشواهد على وجود السامع والمستجيب للآية القرآنية والموعظة النبوية .
وقد تقدم قوله تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، لبيان ضرورة القضاء على دابر الفتنة، وسلامة المسلمين في أنفسهم وأبدانهم ، ووقايتهم من الفرقة والخلاف والإقتتال بينهم، قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
وبعد الأمر بالقتال وبيان موضوع إنقطاعه بتحقق غاياته الجلية والبينة جاءت الجملة الشرطية(فإن انتهوا ) وهذا الانتهاء من غايات قتال المسلمين دفاعاً بدليل ما تقدم في الآيتين السابقتين ، ومنه [فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وأختتمت الآية بقوله تعالى[فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ]( )، والذي جاء جواباً للشرط وفيه تأديب وإرشاد للمسلمين وتنزيه لهم عن الظلم والتعدي وفيه إشارة بأن قتال الكفار للمسلمين من الظلم للذات والغير، قال تعالى[وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
وتدعو خاتمة الآية المسلمين لإتخاذ الحيطة والحذر، وأن باب الدفاع مفتوح ما دام هناك مشركون يصرون على الإقامة في منازل الكفر والجحود والتعدي ، والظاهر أن أكثر آيات القتال نزلت في السنين الأولى للهجرة النبوية ، ومن بعد معركة بدر وتوالي هجوم المشركين على المدينة ، وإصرارهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي كانت سلامته ضرورة للأجيال المتعاقبة للناس.
وهذا الإصرار من قبل كفار مكة وما حولها فتنة وطريق إلى فتنة متصلة في أفراد الزمان الطولية لذا حضّ الله عز وجل الصحابة على الدفاع ، وفيه حرب على الفتنة .
ولا ينحصر منع القرآن للفتنة بآيات القتال ، إنما نزل بالسلم والدعوة إلى الرحمن والرأفة بين الناس ، وكان الوحي مصاحباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتتجلى في سنته مصاديق العفو والرفق والرحمة ، قال تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
قانون قُصر الظلم
ترى هل الظلم وقبحه مما علّمه الله عز وجل آدم عليه السلام بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، أم انحصر التعليم باسم الظلم والظالم ، المختار هو الأول ، ولايقدح به قوله تعالى [ثُمَّ عَرَضَهُمْ].
لإرادة ضمير المذكر الغائب للعاقل وغير العاقل ، ويكون إخبار الله عز وجل عن خلافة الإنسان في الأرض نوع وعد منه سبحانه بالحرب على الظلم والتعدي ، ومن صيغ هذه الحرب بعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية ، وليس من نبي إلا وجاء بالدعوة إلى الخلق بالعدل والإنصاف ونبذ الظلم ، ووجوب هجرانه ، ليرث المسلمون هذه الخصائص ويقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم ، ومع أهل الملل الأخرى.
وتمادى كفار قريش بالظلم والتعدي بايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وفرض الحصار عليهم ، وفي ذات الوقت يقوم الكفار بتعذيب الصحابة الأوائل والتضييق عليهم .
وهل هجرة رهط من الصحابة الأوائل إلى الحبشة من الشواهد على هذا الظلم أم أنه لسلامة الدين، الجواب إنه منهما معاً فليس من تعارض بينهما ، إذ وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخطاب للصحابة بصيغة الإيمان مع بيان موضوعية العدل في الحبشة دار الهجرة والإقامة فقال لهم (أن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق) ( ).
وهي هذا القول بشارة لبسط العدل في المدينة والجزيرة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
والظلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ومن بديع صنع الله في خلق الإنسان إقرار آدم وحواء بالمعصية والظلم للنفس ، كما ورد في التنزيل [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) للتباين بين الإنسان وإبليس ، فآدم وحواء بادرا إلى التوبة من المعصية ، أما إبليس الذي ظلم نفسه وغيره فلم يظهر الندم ولم يسأل التوبة ، لتدرك الملائكة مصداقاً لأهلية الإنسان للخلافة في الأرض ، فهذا إبليس الذي كان يصلي ركعتين بستة آلاف سنة يجحد ويأبى الإستغفار وسؤال التوبة من الله إنما قال [قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
فاستجاب الله عز وجل لآدم وحواء .
وكان السؤال والإستجابة من مصاديق هذه الأهلية ، ومن الشواهد الحاضرة لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )في رد الله عز وجل على الملائكة حينما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
لقد أدرك الملائكة أن الظلم يمحى بالتوبة والإستغفار ، وأن الله عز وجل جعل الإنسان خليفة ليعمل الصالحات ، ويذنب فيتوب فيغفر له الله .
ويكون الدين لله كذلك جزاء الكافرين بلحاظ أن سيادة الإسلام في الأرض خزي وتبكيت للكافرين، وهو حجة عليهم ، ومن الجزاء العاجل والإنذار من قبح وسوء عاقبة الإقامة على الكفر.
آيات لم يثبت نزولها بخصوص الأخنس بن شريق
وحينما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف توجه إلى جبل حراء ولم يدخل مكة من رأس ، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره ويدفع عنه حينما يدخل مكة ، ويظهر عرف عند قريش بأن الذي يخرج من مكة يسقط ذمامه ، مما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى بطشهم ، خاصة مع وفاة أبي طالب الذي كان يذب عنه.
ولكن الأخنس بن شريق أجابه (أنا حليف والحليف لا يجير)( ).
والأخنس ثقفي حليف بني زهرة واسمه أُبي وسمّي الأخنس لرجوعه بحلفائه بني زهرة من الجحفة في طريق قريش إلى معركة بدر ، حيث وصل كتاب أبي سفيان يخبرهم بصيرورة القافلة بسلام وهي تقترب من مكة ، فتعالت الأصوات بالرجوع لإحراز العير والبضائع وأشار الأخنس بن شريق على قريش بالرجوع فأبوا عليه.
وهل كان الأخنس يدرك صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المختار نعم ، فخاطب بني زهرة وهو حليفهم والح عليهم بالرجوع فاستجابوا له.
وقال الثعلبي (انهم ثلاثمائة رجل) ( ).
والمختار أنهم أقل من هذا العدد ، إذ كان مجموع الجيش نحو ألف صبيحة بدر.
كان الأخنس يستمع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرى المعجزات ، ومن الناس من تأخذه حمية الجاهلية والتباين النفساني بين الكفار فينكر نبوته ولكنه في قرارة نفسه يسلم بها ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وعندما تطل الفتنة والحرب على الناس يلجأ إلى الإعتزال ، ويمتنع عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإقراره بأن انكار النبوة يجب ألا يصل إلى حال الحرب والقتال بالسيف.
كما ورد في حديث مرسل طويل للزهري كيف أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة وهم في مكة يستمعون الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي ويقرأ القرآن ، ولا يعلم أي واحد منهم بالآخر إلى أن التقوا عند طلوع الفجر في طريق مغادرتهم سور بيت رسول الله ، وحينما تساءلوا بينهم أقروا بأنهم سمعوا منه ما لا يعلمون من الأمور والمسائل الإعجازية .
وقد ذكر أن بعض الآيات نزلت في ذم الأخنس بن شريق وأكثر هذه الأخبار في أسباب النزول وردت عن التابعين وليس عن الصحابة ، ومنها :
الأولى : عن السدي في قوله [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ]( ) (نزلت في الأخنس بن شريق)( ).
وصحيح أن المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول ، ولكن هذا السبب لم يثبت خاصة وأنه ورد عن الصحابي عبد الله بن عباس (لما أصيبت السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في أهلهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم . ! فأنزل الله { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا }( ) أي لما يظهر من الإِسلام بلسانه { ويشهد الله على ما في قلبه } أنه مخالف لما يقوله بلسانه { وهو ألد الخصام } أي ذو جدال إذا كلمك راجعك .
{ وإذا تولى }( ) خرج من عندك { سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد }( ) أي لا يحب عمله ولا يرضى به { ومن الناس من يشري نفسه . . . }( ) الآية . الذين شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه حتى هلكوا في ذلك ، يعني بهذه السرية) ( ).
الثانية : عن عامر الشعبي [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ]( )، قال : هو رجل من ثقيف يقال له الأخنس بن شريق وكذا ورد عن السدي.
الثالثة : ورد عن السدي [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]( )، في الأخنس بن شريق.
بينما ورد عن ابن عباس معنى أعم في تفسير الآية من غير أن يذكر الأخنس بن شريق في أسباب النزول .
و(من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله {ويل لكل همزة لمزة} قال : هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الأخوان)( ).
الرابعة : قوله تعالى [إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ]( ).
قال الثعلبي (نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام ، حلو المنظر ، يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره. مجاهد : يثنون صدورهم شكّاً وامتراءً)( ).
الخامسة : أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل (يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له : والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة ، فماذا يكون لسائر قريش ، فنزلت ، وقوله {ولكن الظالمين}( )، من إقامة الظاهر مقام المضمر ، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم)( ).
والمختار عدم ثبوت هذا التعدد في أسباب نزول الآيات بخصوص شخص واحد هو الأخنس بن شريق مع أنه لم يكن من قريش ولا من ساداتهم لذا لم يسمعوا قوله يوم بدر في اجتناب القتال ، ولكن حلفاءه بني زهرة استجابوا له ورجعوا إلى مكة .
وقد ورد تعارض في بعض أسباب النزول أعلاه بين قول ابن عباس وهو من الصحابة وبين السدي وهو من التابعين أو على فرض التساوي بين سندي الخبرين في الوثاقة أو الضعف ، فالأرجح هو خبر ابن عباس.
قانون انتفاء التعارض الموضوعي في القرآن
تأكيد إعجاز القرآن في باب انتفاء التزاحم أو التعارض بين آياته سواء في الموضوع المتحد أو ما يتعلق به مطلقاً ، فمثلاً وردت عدة آيات بخصوص القتال ، ويفيد نظمها والجمع بينها اتصاف قتال المسلمين بأمور :
الأول : إنه دفاعي محض ، فمن مفاهيم [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، دافعوا ضد الذين يغزونكم.
فان قلت قد تعني الآية هجوم وغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للبلدات والقرى وإذا عارضهم وقاتلهم أهلها فيلزم قتالهم حينئذ ، والجواب تدل كثرة القيود في ذات الآية أعلاه وغيرها على منافاة هذا المعنى للآية القرآنية.
ومن هذه القيود قوله تعالى [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] وآيات أخرى ، ومن الآيات التي تدل في مفهومها على قيود القتال قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثاني : درء هجوم وشرور المشركين ، نعم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في بعض الكتائب عندما يعلم بقوم يجمعون الجموع للإغارة على المدينة فيكتفي بتفريقهم وهو مما يدل عليه قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( )، وصحيح أن موضوع نزول هذه الآية كتيبة حمراء الأسد إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف جيوش المشركين مع كثرة جراحاتهم .
ولكن الآية عامة ، وفي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد زجر متجدد للمشركين عن إعادة الكرة للهجوم على المدينة .
وفي كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى بني المصطلق وتسمى (غزوة المريسيع في شهر شعبان سنة ست) ( ).
وقد تقدم البيان بأن موضوعها هو قيام رئيسهم الحارث بن أبي ضرار بجمع وتحشيد قومه وغيرهم من أفناء العرب.
وعندما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمداً خبرهم لم يتعجل بالمسير إليهم ، ولم يندب أصحابه للإغارة والبطش بهم ، إنما دسّ إليهم أحد أصحابه ليطلع على خبرهم وهو بريدة بن الحصب الأسلمي ، فلم يرسل إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من المهاجرين أو الأنصار فيكشفون أمره ، إنما بعث لهم بريدة الذي اسلم قبل بدر ، ولم يشهدها ولا معركة أحد ، لأنه عاد إلى بلاد قومه ، إنما شهد الحديبية وهو من أصحاب الشجرة أي ممن بايع تحت الشجرة يومئذ .
(نزل البصرة ، ومات في مرو وبقي ولده فيها)( ).
ووقعت كتيبة بني المصطلق قبل صلح الحديبية ، فحينما وصل بريدة إلى الحارث بن أبي ضرار وأصحابه من بني المصطلق وغيرهم ، وأدعى أنه يريد نصرتهم لم يشكوا في أمره.
فتأكد من صحة الأخبار عن جمعهم الحشود للإغارة على المدينة ، ترى لماذا لم يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه من غير أن يبعث بريدة للتأكد من حشودهم ، وهو الذي يأتيه الوحي من السماء ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
والجواب ليطمئن الصحابة بضرورة الأمر بالتوجه إلى بني المصطلق ثم أن إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبريدة من الوحي ومصاديق الآية أعلاه .
وورد عن أم سلمة زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار) ( ) .
الثالث : إرادة قصد القربة في الدفاع ، وقد قيدته الآية بأنه في سبيل الله .
والنسبة بين هذا القيد وبين قصد القربة عموم وخصوص مطلق ، فجعل الدفاع والقتال في سبيل الله رحمة عامة ، ولا يقع إلا عند الضرورة ، وينقطع حال تحقق أدنى غاياته بصرف شرور المشركين .
ومن إعجاز القرآن أن في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) مسائل .
الأولى : موضوعية عطف الآية على خاتمة الآية السابقة بوجوب التقوى والخشية من الله عز وجل بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الثانية : من الفلاح الذي تذكره الآية أعلاه صرف القتال , وإجتناب المؤمنين له لأن المعجزة دليل صدق ، وحجة وسلاح لجذب الناس إلى سبيل الهداية والإيمان .
الثالثة : بعث الصحابة على تحمل الأذى والضرر الذي ينتج عن القتال لضرورته ولأن نتيجة الدفاع الصلاح وسيادة الأمن السلم المجتمعي , قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ).
الرابعة : تفقه المسلمين في الدين بمعرفة حدود في سبيل الله ، والإجتهاد في طلب مرضاته في أداء الفرائض والتحلي بالتقوى .
الخامسة : سؤال النبي وأصحابه المدد والعون من عند الله عز وجل في حال الحرب والسلم .
وفي حديث للإمام علي عليه السلام عن عشية معركة بدر وبداياتها قال (ثم إنه أصابنا من الليل طشٌ من المطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر.
وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ربه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض.
فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله ! فجاء الناس من تحت الشجر والحجف .
فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحرض على القتال، ثم قال: إن جمع قريش عند هذه الضلعة من الجبل.
فلما أن دنا القوم منا وصاففناهم، إذ رجلٌ من القوم على جمل أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، ناد لي حمزة – وكان أقربهم إلى المشركين – :
من صاحب الجمل الأحمر ؟ وماذا يقول لهم ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن يكن في القوم من يأمر بالخير، فعسى ان يكون صاحب الجمل الأحمر .
فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: إني أرى قوماً مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير؛ يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، ولقد علمتم أني لست بأجبنكم)( ).
إذ نعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينهى عن القتال في صفوف المشركين بأنه يأمر بالخير .
وهل المراد من الخير في الحديث أعلاه خصوص إجتناب المشركين محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أن الخير أعم ، ومنه السلم والإمتناع عن القتال مطلقاً ، الجواب هو الثاني ، فقد سقط في معركة بدر أربعة عشر شهيداً ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار وقد تقدم ذكر اسمائهم ، فمن الخير سلامتهم .
فان قلت قد نزلت آية ببدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، وهي من أعظم الوقائع في تثبيت شريعة الإسلام والشهداء في الجنان .
والجواب هذا صحيح والله واسع كريم ليس من حصر لبدائل وأفراد الخير عنده ، وهو من مصاديق [ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
السادسة : بيان قانون وهو ما دام الدفاع في سبيل الله فإن الله عز وجل هو الناصر .
السابعة : قانون الدفاع في سبيل الله إنتصار وإستجابة وعبودية لله عز وجل , وفي التنزيل [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
قانون تنجز الدفاع بصرف الطبيعة
ويتجلى قانون إنتفاء التعارض الموضوعي في القرآن هذا في كل موضوع تذكره آيات القرآن , ومنه موضوع القتال إذ تدل هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة على أن قتال المسلمين دفاع محض ويقدر بمقدار الحاجة والضرورة إليه من جهات :
الأولى : الإبتداء , فإذا كان القتال يصرف بالتخويف وخروج السرايا والكتائب فيكتفى به , ولا ينتظر إلى حين توجه الجموع نحو المدينة والإيقاع بأهلها وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : كثرة موادعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليهود المدينة , والقبائل المحيطة بها , وإختياره الصلح مع كفار قريش ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا..] ( ) .
الثالثة : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الموعظة والدعوة إلى الله عز وجل السلاح الأول في مواجهة الكفر ومفاهيم الشرك .
الرابعة : عدم إبتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال عند إلتقاء الصفين وكان يأمر أصحابه بعدم القتال بالرمي أو المبارزة , حتى وإن جاءتهم السهام رسلاَ من الكفار , إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرد عليها بالنداء العام (قولوا لا إله الى الله تفلحوا).
لينقطع أثر تلك السهام في ساعته.
أما هذا النداء فينفذ إلى قلوب المشركين , ليتنقل معهم إلى أهليهم وقراهم , إلى جانب ما نقل إلى تلك القرى من آيات القرآن عندما كان وفد الحاج يلتقي النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل هجرته فيسمعون منه آيات البشارة والإنذار , والوعد والوعيد .
وهل نداء (قولوا لا إله إلى الله تفلحوا) من مصاديق الرعب الذي يلقيه الله عز وجل في قلوب الذين كفروا لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( )، الجواب نعم.
فاستحقوا نفاد الخوف والرعب إلى قلوبهم بإجتماع الكفر والشرك عندهم ، ولا يتعارض هذا المعنى مع أصل البشارة التي يتضمنها هذا النداء.
الخامسة : يدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للنفير ، ويخرجون في كتائب ورايات نحو جهة الكفار الذين يجمعون الجيوش لقتالهم ولغزو المدينة فيتفرقون ويهربون فلا يطاردهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحرق بيوتهم أو نخيلهم ، إنما يقيم في الموضع يومين أو ثلاثة وأصحابه يقيمون الصلاة ويجهرون بالذكر ثم يعودون إلى المدينة .
وهناك مسائل :
الأولى : تفرق الكفار نتيجة لإمتلاء قلوبهم بالرعب الذي يجري بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسبقه مسيرة شهر ، وهذا الرعب من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وهو برزخ دون الإقتتال ، وشهر السيوف بوجه رسول الله ، وهو مقدمة للتوبة ، ودخولهم الإسلام.
الثانية : من منافع إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضع الفتنة عمارته بالصلوات اليومية الخمس ، وفيه جذب لأهله رجالاً ونساءً إلى الإيمان ، وتنزيه المحل بالذكر والدعاء وهو ضد حسن للفتنة ، وليشهد الموضوع لقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ).
الثالثة : طمأنينة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ، وسلامتها من غزو المشركين ، وشغب المنافقين أثناء غيابه.
الرابعة : رضا الصحابة بالخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب ورضا أهليهم بهذا الخروج المتكرر وتحملهم الأذى ووعثاء السفر ، وأخطار الطريق ورجحان القتال.
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إقامته الحجة على الناس في حلّه وترحاله ، وبيان مصداق عام لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( ) .
ومن معاني الإعجاز في إنحصار قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغ الدفاع الإقتصار على ما تيسر والممكن من الرجال والعدة والسلاح من غير تكليف وعسكرة للمدينة وضواحيها ، وحتى حينما يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوم المشركين لغزو المدينة كما في معركة أحد ، ومعركة الخندق فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يفارقوا المسجد وأداء الصلاة اليومية إلى أن جيش المشركين ، فحينما بلغت جيوش المشركين جبل أحد على بعد (5) كم من المدينة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقائهم ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) فيواجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين بصرف الطبيعة والميسور من العدة والعدد لينزل الملائكة لنصرته وطرد جيوش الذين كفروا .
هل آية (ببدر) من آيات الدفاع
لا ينحصر موضوع الدفاع والقتال في القرآن بخصوص الآيات التي تتضمن مادة قتل ونحوها ، إنما تشمل الآيات التي تدل على أمور :
الأول : أسباب القتال .
الثاني : مقدمات القتال .
الثالث : وقوع القتال .
الرابع : صرف القتال .
الخامس : المدد من الله سبحانه ونزول الملائكة ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
وهل يختص هذا النزول بنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند وقوع القتال أم يشمل صرف القتال والفصل بين الفريقين ، الجواب هو الثاني ، وهو أيضاً من نصرة الملائكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لبقاء المعجزة العقلية والحسية تدعو الناس إلى الهدى والإيمان .
وسيأتي قانون آيات المدد استئصال للإرهاب ، ومنه ما يكون خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها كثرة الأعوان والأصحاب وانقيادهم لأمر الله ورسوله ، قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، ومنه ما يكون جامعاً له وللمؤمنين كما في قوله تعالى [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
السادس : نتيجة القتال .
السابع : الشواهد التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع .
ولم يكن القتال في الأرض أو حتى في الجزيرة جديداً ، فقد كانت حياة الناس في الجزيرة يشيع فيها النهب والسلب ، والإقتتال ثأراً ، أو الثأر بسبب القتال من غير أن يلزم الدور بينهما ، ولكن الجديد من جهات :
الأولى : وقوع القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين .
الثانية : قلة عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة مع الإزدياد المتصل إلى أن يصبح عددهم هو الأكثر ، فقد كان عددهم في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ثلاثمائة وثلاثة عشر أقل من ثلث عدد المشركين الذين في الميدان ، بينما صار عددهم عند دخول مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة عشرة آلاف رجل.
ويتوسطهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير خشية من غدر وخيانة بعضهم ، مع أن نسبة الخيانة محتملة بلحاظ هذه الكثرة السريعة في الدخول إلى الإسلام ، لتكون سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معها معجزة أخرى له ، وشاهداً على صدق نبوته .
الثالثة : إصرار طرف واحد على القتال في كل مرة وهم المشركون ، مع إتحاد السبب وحرص الطرف الآخر على إجتناب القتال ،قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ..]( ).
ففي كل مرة يريد المشركون أموراً :
أولاً : طمس الإيمان .
ثانياً : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : إيقاف نزول آيات القرآن .
رابعاً : استدامة عبادة الأوثان.
الرابعة : لقد كان أفراد القبائل يتمسكون بانتمائهم القبلي ، ويتفاخرون به ، ويستبسلون باسمه ويرجون الفخر والذكر به ، أما معارك الإسلام مع المشركين فهي أمر مختلف يتجلى فيه الإعجاز من وجوه عديدة منها تخلي الأفراد عن رؤساء القبائل المشركين ودخولهم الإسلام ، وقد يدخل رئيس القبيلة قبل قومه الإسلام ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
قانون معجزات النبي محمد (ص) حين وفاته
تأتي المعجزة خلاف قاعدة السبب والمسبب , والعلة والمعلول التي تحكم الظواهر الكونية , والحياة العامة للناس , وتتصف المعجزة بأنها أمرخارق للعادة الذي يتعذر على الناس إتيانه بقدراتهم , وإن اجتمعوا , فيضرب موسى عليه السلام الحجر فينفجر ويسيل منه الماء , ونسب عيسى عليه السلام معجزاته إلى الله عز وجل .
كما ورد حكاية عنه في التنزيل [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ] ( ).
ويمكن تسمية هذه الآية آية (بِإِذْنِ اللَّهِ) إذ ورد هذا اللفظ فيها مرتين , ولم يختصر هذا القانون على عيسى عليه السلام إنما هو عام عند الأنبياء قال تعالى [وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وهل المقصود من الرسول في الآية أعلاه خصوص الرسل أم يشمل الأنبياء , الجواب هو الثاني لقانون الملازمة بين النبوة والمعجزة وقهر المعجزة للعادة لبيان أن الإرتقاء العلمي في هذا الزمان ليس من المعجزة إذ أنه لم يكن متعارفاَ وعلناَ في أيام النبوة ، بينما هو متعارف في هذا الزمان بالبحوث والمؤسسات العلمية ، وصرف المليارات في تطوير الصناعات .
فحديث الإسراء والمعراج , وانتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت القدس في أوانه معجزة فضلاَ عن العروج به السماء , وقد سمًى الله عز وجل بيت المقدس بأنه المسجد الأقصى لبعده عن مكة وقريش إذ قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا] ( ).
وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة)( ).
وعن عائشة قالت : توفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين( ).
وفي قلة مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورهنه درعه الذي هو آلة دفاع شاهد على أنه (لم يغز أحداً (ص)) ولم يهم بالغزو أو يسعى إليه.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين وفاته منها :
الأولى : مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا وليس عنده مال كثير أو قليل ولم يكن عن فقر أو فاقة ، فقد كان يوزع في اليوم المائتين والثلاثمائة ألف درهم ويبيت هو وعياله من غير أن توقد نار في العشاء .
وفي يوم حنين مثلاً حين أصرت ثقيف وهوازن على الهجوم ومباغتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالقتال في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة وأحضروا معهم أنعامهم وكانت كثيرة .
ومع أن عدد المسلمين في ميدان معركة هو اثنا عشر ألفاً ، فقد أصاب كل واحد منهم أربع من الإبل أو أربعون من الشياه ، وإن كان فارساً أخذ اثنتي عشرة من الإبل أو عشرين ومائة شاة.
الثانية : فارق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا عن (أكثر من مائة ألف صحابي ، كلهم عن رآه وسمع عنه)( ).
عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة ، إلا عقوق الوالدين ، فإنه يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات ، ومن رايا رايا الله به ، ومن سمع سمع الله به( ).
الثالثة : دخول الناس جماعات وقبائل في الإسلام على نحو دفعي ، وصيرورة المدينة محل وفود الناس ، ومن الإعجاز في نبوته عدم إنقطاع هذه الوفود إلى يوم القيامة ، إذ يتوجه وفد الحاج والمعتمرينإلى المدينة لزيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : نزول آيات القرآن كاملاً وتمام أحكام الشريعة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) وهل تتضمن الآية أعلاه أخبارهاعن تمام النعمة بدحر وقهر المرتدين ، وغلبة الإسلامعلى حروب الردة ، المختار نعم .
تعريف علم الأصول
يعرف علم الاصول بانه العلم بالقواعد الكلية المهمة لاستنباط الاحكام الشرعية الكلية، واستقراء للقواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الاحكام أي انه صناعة نظرية لوضع القواعد الكلية واستخراجها من ادلتها، كالملازمات العقلية مثل التحسين والتقبيح العقليين ، او تعبداً كحجية الأمارة.
واشكل على مثل هذا التعريف بان بعض مواضيع علم الأصول لا تقع في طريق الإستنباط وانما هي وظيفة الجاهل، لكي لا يبقى متحيراً كالأصول العملية وحجية الظن ، اذ ان الجاهل بالحكم يعلم انه مكلف ولكنه لا يعلم على وجه التعيين ما هي وظيفته فيلجأ الى حكم العقل والقياس ونحوه للأمن من العقاب بعد العلم الإجمالي بالتكليف، فلذا وسع التعريف ليشمل ما يصل اليه الفقيه بعد الفحص واليأس عن الدليل ليشمل مسائل الأصول العملية وهي :
الأول : الإستصحاب .
الثاني : البراءة .
الثالث : الإشتغال .
الرابع : التخيير.
والأصول العملية اصطلاح وموضوع اختص به الأصوليون من الإمامية ويسمى الوظيفة العملية يلجأ اليها المجتهد عند غياب الدليل.
فتكون أصالةالبراءة العقلية مثلاً من الدليل العقلي واللجوء إلى أصالة البراءة الشرعية مع التداخل بين أصالة البراءة والإشتغال.
ولكن الأصول العملية لا ترقى إلى مرتبة الكتاب والسنة والإجماع إنما هي فرع منها ، وإذا تعارضت معها فلابد من طرحها.
وكعادة العلماء في كل علم يقفون كثيراً عند تعريف العلم ويناقشون فيه بلحاظ مسائله وغاياته، ومنهم من يجتهد في اثبات عدم شمول التعريف لمصاديق العلم فكذا في أبوابه ومنهم من جاء بألف بيت من الشعر في بيان الفارق بين العوارض الذاتية والعوارض القريبة.
وقيل بان موضوع الأصول هو ذوات الأدلة الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع ثم القصص أو القياس فيكون البحث عن حجيتها ودليلها بحثاً عن العارض.
ولكن موضوع علم الأصول أعم ، وهو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المشتتة لا خصوص الأدلة بالذات او بما هي أدلة ، ولعل هذا القول اجمال لمصاديق موضوعاته , وهل يمكن الجمع بين القولين كالجمع بين المجمل والمبين، الجواب: لا، لأن الإجمال جاء بعد البيان، ولأنه بصدد الإشكال على التعريف وإضافة أفراد له.
ومن اكثر المسائل التي اثيرت عليها الإشكالات في علم الأصول تعريفه بانه خصوص الأدلة الأربعة لأن كثيراً من مباحثه اللفظية لا ترجع الى الأدلة مثل :
الأولى : مسألة حجية خبر الواحد .
الثانية : مسألة التعادل والتراجيح .
الثالثة : الإستصحاب .
الرابعة: الأمر والنهي .
الخامسة : مقدمة الواجب .
السادسة : اجتماع الأمر والنهي.
اذ انها تكون من المبادئ التصورية او التصديقية او من مبادئ الأحكام التي اضيفت لعلم الأصول.
ويمكن ان يدرج خبر الواحد في عوارض السنة سواء كانت قولاً او فعلاً او تقرير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد أطال الأصوليون البحث في تعريف علم الأصول وأوردوا الإشكالات الكثيرة على كل تعريف له، إلا أن التعريف يتقوم بأمرين :
الأول: الصورة الذهنية للمعرَف وهو من العلم التصوري لأنه عبارة عن تصور اللفظ تصوراً اجمالياً.
الثاني: تمييزه عن غيره بالحد التام، وهذا لا يعني الإحاطة الدقيقة باوصاف جميع مصاديقه واجزائه فانها أمر متعذر، بل يكفي ذكر الخواص المميزة التي تكشف عن حصر الأفراد بالملازمة البينة بالمعنى اللأخص.
خصوصاً وان التعريف يحصل عادة لأهل الإختصاص والمعرفة ، وتعريف علم الأصول بانه خصوص الأدلة الأربعة وان احتاج الى بيان واضافة الا انه لا يعد من التعريف الخاص الخفي، وهو من التعريف بالأهم وليس المثال او من الطريقة الإستقرائية التي تبتنى على الإكثار من الأمثلة لوصول المتعلم الى المفهوم الكلي او القاعدة، وهو لا يبتعد عن شرط تساوي التعريف مع المعرف.
والتعريف اذا كان بالفصل يسمى حداً وان كان بالعرض الخاص يسمى رسماً , وكل منهما ان كان مع الجنس القريب فتام والا فناقص.
وكأن القائل بالدقة وعموم التعريف يريد التعريف بالذاتيات المتكثرة للعلم وموضوعاته كالذي لا يكتفي بتعريف الإنسان بانه حيوان ناطق، بل يريد ان يقال في تعريفه انه جوهر جسم نام متحرك حساس ناطق، وشاع بين الأصوليين ان دلالة الإلتزام مهجورة في الحدود.
ويمكن ان نعرف علم الأصول بانه العلم بالدليل متحداً أو متعدداً وما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، وبالذكر الخاص وايجاد عنوان آخر ملحق بها لكل ما يصلح لإستنباط الحكم .
والحق ان خبر الواحد من عوارض السنة والمقدمات القريبة لمعرفتها وان قلنا بان السنة ليست الا نفس قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم وفعله وتقريره وان البحث بها اعم من الذات والدليلية، مع عدم التزامنا بان علم الأصول منحصر بالأدلة الأربعة فهو اعم منها ولو على نحوالإستطراد والإضافات التي تستلزم التوسعة في التعريف ليشمل كل ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، او ما يؤدي الى الحكم الواقعي او الحكم الظاهري فمسائل علم الأصول تقع كبرى لقياس الإستنباط.
وبينما ذهب الفارابي وابن خلدون الى احصاء العلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدلالة على سعة العلم وانشطار أبوابه بقوله (العلم اكثر من ان يحصى)( ).
ولا حاجة الى الإستطراد بالمصاديق والبحث عن عدم شمول التعريف لها بالدقة العقلية، فمسألة حجية الظن يمكن ان تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي لأنه نوع من الأمارة، وقد يثبت بها الحكم تعبداً.
والموضوع المحل المتقوم بذاته والذي يكون مقوماً لما يحل فيه والمحل على قسمين:
الأول :الذي يتقوم بالحال ويسمى المادة، كما لو قلنا ان الجسد محل يتقوم بالروح، والنهر وعاء أرضي يتقوم بالماء، فحينما يحل به الماء يصبح نهراً، وبدون الماء يكون شقاً في الأرض.
الثاني : الذي يقوم الحال وهو الموضوع، كما في الجملة اذ تقوم الكلمة واعرابها من خلال محلها من الفاعلية او المفعولية ونحوهما وهناك نوع حاجة وملازمة بينهما فكل منهما يحتاج الآخر.
أما العرض فهو ما يطرأ على الجواهر ولا يتقوم بذاته بل يكون صفة لغيره وهو معنى قائم بغيره، كالألوان والروائح والحياة والإرادة والعلوم.
والموضوع في علم المعقول مثلاً هو الوجود، وينقسم الى :
الأول : واجب الوجود .
الثاني : والممكن .
والممكن ينقسم الى الجوهر والمقولات العرضية التسعة ، اذ ان الممكن اذا استغنى في وجوده عن الموضوع فهو جوهر، والا فهو عرض لأن العرض قائم بالموضوع كما تقدم.
وموضوع علم الفقه هو فعل المكلف ، وفق الأحكام التكليفية الخمسة وما فيها من الأوامر والنواهي، وهي لواحق ذاتية لما فيها من الإقتضاء والتخيير ، والترك ، والوجوب والحرمة .
وموضوع علم النحو الكلمة والجملة أي المفردات والمركبات من جهة الإعراب والبناء والحيثيات المناسبة لموضوعات المسائل فبلحاظ الفاعلية تكون الكلمة مؤهلة للرفع، وبلحاظ المفعولية للنصب.
والجر بالنسبة للمضاف اليه ونحوه من عوارض الكلمة التي هي موضوع علم النحو.
والصحة والفساد من الأمور الإعتبارية وقد فرق بين العوارض والعروض اصطلاحاً، ويبحث موضوع كل علم هو الذي عن عوارض ذات موضوعه الذاتية ، وذكر ان العوارض تشمل المحمولات ايضاً سواء كانت عرضاً او لا.
ويمكن القول ان موضوعات العلوم قد تقع على الجزئيات والحيثيات أي ان الموضوعات المتعارفة تنحل بلحاظ العلم الى عدة موضوعات وان كانت عرفاً واحدة، فالكلية بلحاظ تقسيم العلوم لم تكن موضوعاً واحداً، فموضوع النحو بناء وإعراب الكلمة وليس ذاتها، وعلم المعاني حلاوة وجمال اللفظ وفصاحته وليس ذات الكلمة.
فالكلمة مثلاً تنحل إلى عدة جزئيات وحيثيات كل فرد منها يتعلق به علم خاص من غير ان يكون بين هذه العلوم تداخل وان قيل به فانه لا يمنع من استحقاق صفة العلم للإستقلال وهو من السعة في اللغة العربية ، وأهليتها لأن تكون لغة القرآن المعجزة العقلية الخالدة الذي تستنبط منه الأحكام في المسائل المستديمة والمستحدثة إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومن هذه المسائل أحوال المجتمعات والسياسة ونبذ العنف والتطرف ، وحرمة الإرهاب وبث الخوف العام بين الناس ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وإذا كان يتعلق بحالة الإعراب والبناء للكلمة، فان علم المعاني يتعلق بها من جهة الفصاحة والبلاغة، وما ذهب اليه المشهور من التمايز بين العلوم بلحاظ الموضوعات، وليس الأغراض هو الأنسب.
ولا يمنع من التقاء الأمرين معاً أي التمايز بسبب التباين في الموضوع تارة، واخرى بالغرض واخرى بهما معاً ان وصلت النوبة لهذا الإشتراك .
والغرض في علم الفقه وهو أحكام ومبادئ ليأتي العبد بالفرائض والطاعات وفق المأمور به .
وكذا في تدوين مسائل النحو في تقسيم الكلام الى اسم وفعل وحرف، ورفع الفاعل ونصب المفعول به ونحوه فهي وسائل لحفظ اللسان من الخطأ واللبس وعدم افهام المعنى وهذا هو الغرض من علوم العربية.
فلذا قد تتداخل عدة علوم في بعض المسائل لأجل كل منها دوّن علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين مما يفيد التغاير وعدم التداخل بين العلوم وان أصل الموضوع واحد .
ثم ان التغاير في الغرض لا يعني بالضرورة التمايز به لأن العلم أعم، وقد تجتمع من اجل البيان والتفصيل ولحاظ الحيثية.
موضوع علم الأصول
لابد لكل علم من موضوع ولا عبرة بالقليل النادر الذي قال ليس لعلم الأصول موضوع، والعلم يكون له كالاسم للمسمى، والعنوان للمعنون فليس موضوعات العلم من مقوماته فقط بل هي سور جامع لها .
وموضوع العلم متعدد بتعدد مسائله وانشطاراتها وفروعها، ففعل المكلف موضوع لعلم الفقه، والكلمة العربية والجملة موضوع لعلم النحو.
والمراد من عوارض العلم جمع عرض وهو العرض المنطقي أي الخارج عن ذات الشئ والمتحد معه في الخارج ويقابله الذاتي وليس هو العرض الفلسفي الذي يقابله الجوهر ونسبة الموضوع إلى موضوع مسائله نسبة الكلي إلى مصاديقه والعوارض مثل الماشي والضاحك باتحاده مع الإنسان في الخارج .
ان مبحث موضوع العلم يجب ان لا يقود الى حصره لا سيما بلحاظ الفروع المتعددة المتباينة التي يشترك فيها اكثر من موضوع.
وقيل ان موضوع علم الأصول هو الأدلة من الكتاب والسنة الإجماع بوصف الحجية ومنهم من قال بذاته، واشكل عليه بان موضوعه أعم منها فيشمل حجية الأمارات الظنية ومسائل الأصول العملية ومبحث الضد وحجية الظهور ونحوها , ولكن الكتاب والسنة يدلان عليها.
فعلم الأصول يبحث في كيفية تعيين وظيفة المكلف الشرعية فهو مقدمة لعلم الفقه كما انه آلة الإجتهاد وبدايات طريق ومنتهى مستلزمات الإستنباط وعلومه لذا فان المسائل الأصولية محصورة في مباحثها بالعلماء بينما يدرك القواعد الفقهية العالم وغيره.
الفرق بين علم الفقه وأصول الفقه
إجماع علماء الإسلام بان الشريعة الإسلامية جامعة للأحكام ، وأن أقوال وأفعال الإنسان سواء كانت في العبادات أو المعاملات والصلات لها حكم في الشريعة .
وترد هذه الأحكام في القرآن والسنة ، وهل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، خاص بآيات القرآن أم يشمل السنة النبوية أيضاً.
الجواب هو الثاني ، فالسنة هي المصدر الثاني للتشريع ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وهي بيان للقرآن وعلومه، وسبيل هداية في مستحدثات المسائل.
وقد يقال من الوقائع ما لم يذكر في القرآن والسنة ، وما هو مستحدث مع تقادم الزمان وتداخل الشعوب ، وكثرة الصناعات ، وتفرع المعاملات.
والجواب قد جاء القرآن والسنة بالقواعد الكلية وأمارات يقدر المجتهد الوصول إليها ، واستنباط الحكم الشرعي منها.
وعلم الفقه هو الذي يتناول بالبحث والتحقيق الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية وهي القرآن والسنة والإجماع ، والعقل ، أو القياس بدل العقل ، مع ورود أصول أخرى مختلف فيها ، ولا يعني هذا الإختلاف طرحها مثل :
الأول : الإستحسان .
الثاني : المصالح المرسلة .
الثالث : قول الصحابي .
الرابع : سد الذرائع .
الخامس : شرع ما قبلنا .
السادس : الإستصحاب.
وقال بجعل المصالح المرسلة أدلة شرعية مالك ، والشافعي ت254 في القديم وقال الشوكاني ت250 هجرية بأن الجمهور لم يعتد بها.
وقد تسمى المصالح المرسلة ، المصالح المسكوت عنها ، وهي جمع المصلحة وتتعلق بالمسائل التي لم يرد فيها دليل شرعي خاص من الكتاب والسنة والإجماع بحيث يشهد لها بالإعتبار أو الإبطال .
ولكن هذا لا يعني عدم وجود دليل عام يستقرأ منه الحكم الخاص بها من عموم مقاصد الشريعة وان لم تكن لها أمثلة تقاس عليها إذ جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وتختص المصالح المرسلة بالمعاملات لأن العبادات توقيفية وفيها نصوص ثابتة.
واختلف في اعتماد المصالح المرسلة وهل هي من جلب المصلحة ودفع المفسدة أم أنها من أبواب الأخذ بالرأي والمدار على المصاديق الفعلية وضروب الإبتلاء في مستحدثات المسائل.
وقد صدرت كتب عديدة بالأدلة الشرعية للأحكام ، كما صدرت كتب خاصة بكل أصل .
والأصل بالأدلة الشرعية الأربعة هو القرآن ، فذكر الأدلة الأربعة ليس بعرض واحد ، إنما هو ترتيبي ، وهناك مسافة بين كل واحد منها والآخر .
وقالوا أن القرآن قطعي الصدور ظني الدلالة .
أي أنه نازل من الله حقاً وصدقاً ، ولكن دلالته ظنية .
والمختار أن القرآن قطعي الصدور ، قطعي الدلالة أيضاً ، بل تتعدد وجوه الدلالة القطعية في ذات اللفظ الواحد قال[أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، ويمكن أن نقول بقانون وهو القرآن أصل الأدلة .
فحينما نتحدث بلغة الأصل ونقول أصول الفقه فان القرآن هو أصل وأساس أصول الفقه ، لا يتقوم علم الأصول إلا بالقرآن إماماً ، ومناراً.
الدليل القطعي مقدم على الدليل الظني ومن إعجاز القرآن إجتماع الدليلين في اللفظ الواحد منه .
ومن فضل الله عز وجل أنه جعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ، فهل منه هداية طلبة العلم في علم الأصول للأخذ بالأدلة والبراهين ، الحق ، الجواب نعم.
فتنتفع الأمة منهم ، فتكون لهم حصة زائدة في هذه التلاوة وإن كانت هي للتعبد والوجوب العيني ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
ومن مصاديق[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ]( )، أسماء الجبال والبحار والأودية والأشجار.
وعن الإمام الصادق عليه السلام (أعطي سليمان بن داود عليه السلام مع علمه معرفة المنطق بكل لسان ومعرفة اللغات ومنطق الطير والبهائم والسباع، فكان إذا شاهد الحروب تكلم بالفارسية وإذا قعد لعماله وجنوده وأهل مملكته تكلم بالرومية، فإذا خلا مع نسائه تكلم بالسريانية والنبطية، وإذا قام في محرابه لمناجاة ربه تكلم بالعربية، وإذا جلس للوفود والخصماء تكلم بالعبرانية)( ).
وذكر أن آدم تعلم اللغات كلها ولكن عند الناس مئات اللغات ما خلا اللهجات فالمختار أنه تعلم لغة واحدة وذكر أن لغة آدم ، هي السريانية وقول أنها العربية.
وقيل أن العربية والسريانية واحدة ، ولكن الإختلاف بمحل السكن وقيل السريانية هي اليونانية ، وأنها العبرية كما في سفر التكوين ، وعند بعض النصارى هي اللغة الآرامية.
وعن زيد بن ثابت قال (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحسن السريانية ، قلت : لا قال : فتعلمها فإنه تأتينا كتب ، قال : فتعلمتها في سبعة عشر يوما قال الأعمش : كانت تأتيه كتب لا يشتهي أن يطلع عليها إلا من يثق به)( ).
وقد دخل بعضهم على الإمام الباقر فسمعه يقرأ بالسريانية بصوت شجي كما عن البحار.
وهناك وجوه :
الأول : علم أصول الفقه : وأصل كل شئ ما يستند ويرتكز عليه ، والأصل في الإصطلاح ما له فرع ، فلابد للفرع من أصل ومن معاني الأصل في الإصطلاح هو الدليل ، يقال أصل هذه المسألة الكتاب أي دليلها فأصول الفقه : أدلته أي أدلة علم الفقه.
الثاني : أصول الفقه هي : أدلة الفقه ، وكيف أنها تدل على الأحكام الشرعية ، واستنباط الأحكام منها ، بخلاف الأدلة الخاصة لآحاد المسائل .
الثالث : أما الأحكام الشرعية فهي ليست من موضوع أصول الفقه إنما هي ثمرة الأدلة ، والثمرة فرع وتابع للشئ.
الرابع : غاية علم الأصول على جهات :
الأولى : تحصيل ملكة الإستنباط .
الثانية : الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية للفوز بالفلاح وفي الدنيا واللبث الدائم في النعيم الأخروي.
الثالثة : تطبيق قواعد علم الأصول على الأدلة التفصيلية.
الخامس : مسائل علم الأصول هي ، أحوال الأدلة التي يبحثها علم الأصول وهي الكتاب والسنة والإجماع وقال الإمامية الأصل الرابع هو العقل ، وقال الجمهور هو القياس وليس من تعارض بينهما.
السادس : مادة صدور علم الأصول التي يستمد منها وهي :
الأول : الكتاب أي القرآن ، قال تعالى []( ).
الثاني : السنة ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى (النجم/3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : علم اللغة العربية .
الرابع : علم الكلام .
السابع : ثمرة علم الأصول ، وفيها وجوه :
الأول : معرفة الفقيه لطرق استنباط الأحكام ، فلا يبلغ العالم درجة الفقاهة من غير أن يعلم أصول الفقه أي أدلته .
الثاني : التفقه في علم الأدلة الشرعية ، وفهمها فهماً صحيحاً.
الثالث : تفسير وبيان النصوص الشرعية .
الرابع : استنباط الأحكام الفقهية على الوجه الأتم ، والإمتناع عن الخطأ والزلل فيها.
الخامس : علم أصول الفقه طريق ووسيلة علمية لتفسير آيات القرآن.
وهل يعني هذا أن الأعلمية بأصول الفقه ، الجواب لا ، إذ أن معرفة علم الكلام ، وعلم النحو والمعاني ، والحقيقة والمجاز ، والمجمل والمبين ، مادة وأداة لتفسير القرآن أيضاً ، ولم يقل أحد بأن مدار الأعلمية عليها.
نعم علم أصول الفقه حاجة في التفسير وفي علم الفقه وشأنه في الأحكام الفقهية مقدم على علم النحو والبلاغة والكلام ، ولكل علم موضوعيته على نحو الإجمال في إحراز مرتبة الإجتهاد.
السادس : تنمية ملكة البيان والإحتجاج وهذا العلم من مصاديق الأحسن في قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
السابع : إرادة الأجر والثواب في تعلم أصول الفقه.
موضوع الأدلة السمعية
(الكتاب والسنة ، الإجماع ، الأخبار ، خبر الواحد ، التسامح في أدلة السنن).
ومن موضوع الأدلالة العقلية ( الحسن والقبح العقليين ، أصالة البراءة ، الإستصحاب).
نظرية التعهد
بعد الإتفاق على الوضع، ووجود علاقة بين اللفظ والمعنى، وعملية اختيار اللفظ المناسب للمعنى بلحاظ قرينة او أمارة او علامة لصفة معتبرة في اللفظ يتبادر معها المعنى الى الذهن، اختلف في كيفية حصول هذه الصفة وتفسير العلاقة بين اللفظ والمعنى ، وتصور المعنى عند إطلاق اللفظ على قولين :
الأول : المشهور قال بانها عملية اعتبارية ثم اختلفوا في المعتبر.
الثاني : الذي خالف المشهور قال بنظرية التعهد.
وتقوم نظرية التعهد على التباني النفساني عند المتكلم بان اللفظ المخصوص يحدث عند السامع المعنى الذي يريده فلذا سميت بالتعهد أي لحصول تعهد والتزام وتباني بين المتكلم والسامع للعلقة والصلة بين اللفظ والمعنى.
وتكون الدلالة الوضعية بحسب هذه النظرية دلالة تصديقية دائماً لأنها تبتنى على التعهد والإلتزام وهما امران اختياريان، والإختيار لا يتقوم الا بالقصد والإرادة من المتكلم لتفهيم المعنى وما يتبادر من اللفظ عند السامع فهو من تداعي المعاني.
والتعهد لا ينحصر بشخص واحد بحسب هذه النظرية بل هو يشمل كل متكلم على نحو العموم الإستغراقي لما فيه من الإختيار والتعهد المتصل من المتكلمين وعدم انحصاره بالواضع الأول على فرض أنه من البشر مفرداً أو متعدداً ، بل ان كل متكلم يتلقى الوضع بتعهد والتزام ممن قبله وصولاً الى الواضع الأول ومن بعده ليصبح كل متكلم ملتزماً به فكأنهم بعرض واحد، الواضع الأول ومن بعده ليصــبح كل متكلم واضعاً لأنه يلتزم بالإتيان باللفظ المخصوص لإرادة تفهيم المعنى.
واشكل على نظرية التعهد بالدور وان الإلتزام بابراز اللفظ عند ارادة تفهيم المعنى يتوقف على العلم بالوضع أي بوضع هذا اللفظ للمعنى، فالإلتزام باتيان شخص لفظ معين لإرادة معنى لابد ان يتوقف على العلم بوضع هذا اللفظ لذات المعنى فيكون التعهد والإلتزام متوقفاً على الوضع، والوضع نفسه تعهد والتزام فيكون كل منهما متوقفاً على الآخر.
واجيب بان التعهد التزام كل متكلم لطبيعي اللفظ وطبيعي المعنى على نحو القضية الحقيقية، أي التي يؤخذ موضوعها من حيث هو لا بلحاظ الوجود الخارجي بل بلحاظ ما صدق عليه الموضوع بالفعل والتي يحكم فيها على الأفراد محققة كانت او مقدرة، والقضية الخارجية التي يؤخذ موضوعها بلحاظ الخارج أي افراد موضوعها الموجودة والمحققة في الخارج.
ليحصل الإلتزام بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى، فالمتكلم في مقام الإستعمال وتطبيق التزامه كلما اراد فرداً من طبيعي اللفظ لغرض تفهيم المعنى فانه لا يظهر الا بهذا اللفظ.
ثم ان الإلتزام والتعهد أمر مركب من مرحلتين :
الأولى : مرحلة الوضع .
الثانية : مرحلة الإستعمال .
واشكال الدور لا يبرز الا في مرحلة الإستعمال والتطبيق ، واستعمال فرد من طبيعي اللفظ في المعنى، فالتعهد التزام كل متكلم وليس الواضع وحده بابراز لفظ مخصـوص عند أرادة تفهيم المعنى.
ولو تنزلنا وقلنا بالتعهد فكيف وصل الى باقي افراد البشر او الأمة ممن يتكلم ذات اللغة، ثم ما هو لسانهم وصيغ الخطاب بينهم قبل وصولها خصوصاً وانه يستحيل وصول الإلفاظ على نحو دفعي الى الجميع، وتعذر اشتراكهم في مجلس واحد لوضع الألفاظ وان كانت فكرة هذا المجلس لا تحل الإشكال.
والتعهد على القول به لا يستلزم بالضرورة ان يصدر من شخص واحد بل هو تدريجي لما فيه حفظ معايش الناس وانظمتهم وقاعدة السلطنة ، وأداء الفرائض العبادية ومنع الخصومة ، ولا يستلزم مجلساً لوضع الإلفاظ انما يأتي بالتنقيح والتداخل والمزاولة.
نعم يمكن الإشكال على نسبة وضع الإلفاظ ازاء معانيها وتأسيس لغة الى شخص بعينه مثلما قيل بنسبة احداث العلقة بين اللفظ والمعنى الى شخص واحد ، وقيل ان الله واضع الألفاظ لكن بالواسطة بوحي او بالهام او بايداع في طبائع الناس.
والنظرية مبنية على التعهد والإلتزام والتباني في التقسيم على الإتيان بلفظ مخصوص عند تصديقهم معنى معين، فنشأت عنه علقة وضعية بين اللفظ والمعنى، فالدلالة تصديقية دائماً.
وهي لا تستوفي موضوع الوضع بل انها تتعلق بما بعد الوضع، ومرتبة متأخرة عنه زماناً ولاحقة به، فبعد اختيار الألفاظ ووضعها أزاء المعاني يحصل التعهد.
فنظرية التعهد فرع القول بانها جعلية ولا تصلح ان تكون قسيماً للأقوال المتقدمة وتكون احياناً نوع طريقية لتثبيت الوضع.
نظرية الإعتبار
جاءت هذه النظرية لتفسير الإرتباط الواقعي بين اللفظ والمعنى، وتبتنى هذه النظرية على سببية اللفظ لإستحضار المعنى في الذهن حال سماعه، وهو أمر لم يحصل اعتباطاً ولابد من ارتباط ومنشأ لهذه العلاقة والصلة وان الواضع جعل اللفظ للدلالة على المعنى ليحصل نوع صلة بين اللفظ والمعنى اساسه اعتبار الواضع، وهذه النظرية اعتمدها المشهور.
ولكنهم اختلفوا في كيفية الإعتبار وحصوله على أقوال ثلاثة:
الأول: جعل الواضع الوضع علامة على المعنى فيكون كاشفاً ودالاً على المعنى، كالعلامة المنصوبة في الطريق للدلالة على موضع او معلم ، مع الفارق ان الوضع اللغوي اعتباري، ووضع العلامة في الطريق على نحو حقيقي خارجي.
الثاني: تبتنى على اعتبار الواضع اللفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى، فكأن الملقى للمخاطب هو المعنى على نحو التنزيل والإعتبار، واللفظ ترجمة على اللسان لذات المعنى أي ان اللفظ يفنى بالمعنى كالاسم والمسمى، والعنوان والمعنون .
فصحيح ان ماهية المعنى مباينة لماهية اللفظ الا ان المعنى ، له وجود اعتباري في ذات اللفظ ودلالته، ويمكن ان تناقش بان هذا الوجود الإعتباري مترشح عن الوضع، إلا أن يدل دليل على موضوعيته في أصل الوضع ، وهي لا تختلف عن نظرية التعهد ولكنها أقل منها قيداً.
الثالث: جعل الواضع اللفظ أداة لتفهيم المعنى ويكون اللفظ وسيلة، والمعنى ذو الوسيلة، فالمتكلم يتوسل ويستعين باللفظ لتفهيم السامع المعنى، فكما يجعل زر الكهرباء وسيلة لإنارة المصباح، والمفتاح لفتح الباب فكذا يتوسل باللفظ لإخطار المعنى مع الفارق بان العلاقة في الوضع اعتبارية وفي زر المصباح حقيقية تكوينية.
والأقوى في الإعتبار اجتماع الأول والثالث معاً دون الثاني، ونظرية التعهد فرع الإعتبار وتتداخل معها، فلابد في الإعتبار من قصد واختيار ولا تعارض بينهما.
والإعتبار هو الإتعاظ ورد الشئ إلى نظيره والنظر في الأمور بتفكر ، وفي الإصطلاح الفقهي هو تتبع طرق حديث انفرد بروايته واحد.