المقدمــــــة
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الأمن والسلام ، وهذا الأمن فرع الخلافة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )وما يقع من قتال بين أطراف على نحو القضية الشخصية أو القبلية أو الوطنية ما هو إلا عرض طارئ ومتزلزل وزائل ، وهذا الزوال من مصاديق إصلاح الإنسان لمنصب الخلافة الرفيع الذي لم ينله جنس من الخلائق ، بما فيهم الملائكة مع عظيم شأنهم وخلقتهم وقربهم من عرش الرحمن وكثرتهم .
وقد وصفهم الله عز وجل بأنهم [الْمَلإِ الأَعْلَى] ( ) ولا يستطيع الناس الإحاطة علماً بهم أو إحصاء عددهم وهيئاتهم .
(عن أبي سعيد قال : لمّا نزلت هذه الآية {وَجِاىءَ يومئذ بِجَهَنَّمَ}( ) تغيّر لون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله .
فانطلق بعضهم إلى عليّ عليه السلام .
فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبَّل بين عاتقيه .
قال : يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك.
قال : جاء جبريل (عليه السلام) فأقرأني هذه الآية : {كلاّ إذا دُكّت الأرض دكاً دكّا وجاء ربّك والملك صفّاً صفّا وجيء يومئذ بجهنّم}( ) قلت : فكيف يجاء بها؟
قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع،
ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول : ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ،
فلا يبقى أحد إلاّ قال : نفسي نفسي وأنّ محمّداً يقول : أُمّتي أُمّتي،
فيقول الله سبحانه إلى الملائكة : ألا ترون الناس يقولون : ربِّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول : أُمّتي أُمّتي؟)( ).
(وعن ابن عباس : ثم جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام من حديد ممسك بكل زمام سبعون ألف ملك ، لها عينان زرقاوان)( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا شاهداً على ربوبيته المطلقة ، ومنها أنها دار السعة في الرزق والكسب ، ومناسبة للإنفاق في سبيل الله ، واكتناز الحسنات .
ومن عجز عن الإنفاق وليس عنده نصاب لإخراج الزكاة جعل الله عز وجل له سلاح اللسان الذي لا تحصى منافعه في طاعة الله تلاوة وذكراً واستغفاراً ، ودعوة إلى الله ، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، وسعياً للسلم والإصلاح بين الناس ، وهو من شواهد قانون السلم والصلح والوئام أمورحسنة بالذات ومحبوبة ، وتميل إليها النفوس ، ومن الدلائل على سلامة آيات السلم من النسخ .
وهل من ثواب في الإمتناع عن توظيف اللسان للقبيح من القول كالغيبة والنميمة ، الجواب نعم ، لأن هذا الإمتناع أمر وجودي وليس عدمياً.
لقد ابتدأتُ كتابة هذا التفسير من تفسير سورة الفاتحة قبل أكثر من ثلاثين سنة وبعد أن صدرت لي كتب متعددة في الفقه وعلم الكلام وفي التفسير أيضاً ، ثم توالت الأجزاء بفضل من الله عز وجل.
وكان الجزء يتضمن تفسير ثلاث أو أربع آيات ثم صار كل جزء يختص بتفسير آية واحدة أو يأتي تفسير الآية الواحدة بأكثر من الجزء كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، الذي صدرت بخصوصه الأجزاء (94-95-96-97) منها هذا التفسير.
واختصت الآية [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، باربعة أجزاء من هذا السِفر وهي (105-106-107-108-109).
وآخر آية بخصوص التفسير المتعاقب لآيات القرآن هو الجزء (226) إذ تضمن تفسير قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وهي الآية (189) من سورة آل عمران ، وأسأل الله التوفيق لإكمال تفسير هذه السورة وسورة النساء وما بعدها.
ومن لطف الله عز وجل أني أقوم بالتأليف والتصحيح والمراجعة بمفردي في جميع كتبي الفقهية والأصولية وعلوم التفسير بالإضافة إلى إلقاء البحث الخارج على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف منذ ثلاث وعشرين سنة وإلى صباح هذا اليوم مع جائحة كورونا وتعرضي للإصابة بها , وقبله تدريسي للسطوح .
لقد جاءت أكثر الأجزاء الأخيرة بقوانين مستحدثة مستنبطة من مضامين آيات القرآن وذات صلة بالمجتمعات والنظام الدولي لبيان ملائمة القرآن لكل زمان ، وحمله لواء السلم والتعايش ، وبعثه للسكينة في نفوس المسلمين وأهل الكتاب وعامة أهل الأرض ، وكأنه نزل لهذا الزمان ، فمن إعجاز القرآن بلحاظ أفراد الزمان الطولية أمور :
الأول : قانون ملائمة القرآن لكل زمان .
الثاني : قانون الحاجة لآيات القرآن في كل زمان ومكان .
الثالث : قانون إتصاف آيات القرآن بالطلاوة والقواعد والتجدد والشمول للموضوع والحكم .
الرابع : قانون مجئ القرآن بالأحكام والقواعد العامة ، في العبادة والمعاملات والأنظمة الإجتماعية للأسرة وأنظمة الحكم والتعايش السلمي ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ولقد توالى هجوم المشركين على مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتله ووقف نزول القرآن واستباحة المدينة وهم يعلمون أنها الثغر الوحيد للإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع كما بيناه بخصوص معركة بدر ومعركة أحد ومعركة الخندق في الأجزاء السابقة وقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا).
وكيف أن هذا الدفاع منحصر بحال الضرورة ، ومع هذا الأذى الشديد وسقوط الشهداء في سبيل الله فان آيات القرآن تنزل لتنظيم حياة الأسرة والمجتمع إلى يوم القيامة ، ومنه قوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، ومنه [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الخامس : قانون سلامة القرآن من التحريف ، وهو باعث للمسلمين والناس جميعاً بالنهل من القرآن والإستضاءة بنوره .
الحمد لله الذي خصّ القرآن بالعصمة الذاتية ، وفي التنزيل [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( )، فلا ينفذ إليه التحريف والتشويه ، وإزاغة الحق ، كما أن التحريف ونحوه مأمور بالإبتعاد عن القرآن ، وهل تشمل هذه العصمة علوم التفسير ، الجواب نعم.
إذ ينكشف التفسير المخالف للنص والحكم القرآني ويعرض عنه الناس ، ليكون من معاني الآية أعلاه لا يأتيه الباطل من بين يديه الى يوم القيامة في التفسير والتأويل .
ومن معاني [مِنْ خَلْفِهِ] في الآية أعلاه ، لا يأتيه الباطل من خلفه في البشارات السابقة في الكتب السابقة بخصوص القرآن ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بها.
الحمد لله الذي استأصل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلم الرعية في حال السلم ، وفي تسخيرهم للقتال اتباعاً للهوى والعصبية .
وهل تحريم القرآن لوأد البنات من السلم ، الجواب نعم ، وهل هو من السلم المجتمعي وحده أم من السلم الدولي أيضاً ، الجواب هو الثاني ، ومن إعجاز القرآن مجئ النهي عن الوأد بصيغة الجملة الخبرية ، وبخصوص عالم الآخرة بقوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
وليس للموؤدة من ذنب سواء بدفنها حية عند الولادة أو بعد بلوغ البنت من العمر ست سنوات ، ويدل توجه السؤال إليها في الآخرة على نطقها يومئذ وتقديمها الشكوى إلى الله .
لقد انتهجت قريش صيغ العنف الجماعي متعدد الوجوه أزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة عندما كانوا في مكة المكرمة .
وتجلى بأمور:
الأول : إيذاء شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : فرض الحصار على بني هاشم ليستمر ثلاث سنوات ،ويتصف هذا الحصار بانه إجتماعي واقتصادي .
الثالث : تعذيب الصحابة رجالاً ونساءً .
الرابع : استهزاء قريش بالتنزيل والوحي والنبوة ، قال تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( )وقال تعالى [وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ]( ).
الخامس : صد كفار قريش الناس عن دخول الإسلام .
ولقد قابل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأذى الشديد بالصبر ، والدعوة إلى السلم والصلح ، وهذه الدعوة ليست اجتهاداً إنما هي شعبة من الوحي .
لقد كانت هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة من الشواهد على منهج السلم والتعايش والرفق الذي تتصف به رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الدلائل على سلامة آيات السلم من النسخ .
وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشهر سيفاً لقتال المشركين ، لأن بعث الصحابة مهاجرين إلى الحبشة وآخرين إلى المدينة شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحتاج الرجال للإجهاز على المشركين ، إنما سلاحه المعجزة الحسية والعقلية وألوية السلم .
وهل قوله تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمً] ( )من آيات السلم .
الجواب نعم ، لأن السلم حسن ومحبوب ذاتاً , طرداً وعكساً ، فان صدرت بادرة سلم وتراجع من المشركين عن القتال فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يتلقونه بالقبول ومضامين الآية أعلاه سالمة من النسخ .
مما يدل على بقاء آيات السلم في حرز من النسخ .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ( ).
وسيأتي في الأجزاء التالية قانون : آيات السلم خطط أمنية .
لقد كان العرب يجتمعون في سوق عكاظ في الطريق لأداء مناسك الحج في أول ذي القعدة لأنه أول الأشهر الحرم الثلاثة المتصلة ويأمن فيها الناس ثم يعود القتال بينهم بعدها للعصبية القبلية.
فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالفرقان ، والسلم العام والأخوة الإيمانية ، والتعايش المجتمعي.
وهو من الشواهد على سلامة آيات السلم والصلح والموادعة من النسخ كما مبين في هذا الجزء وهو الثالث والثلاثون بعد المائتين من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) الذي صدر هذا اليوم بلطف وفيض من عند الله عز وجل بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة) .
وكله استقراء واستنباط وتأسيس للقوانين في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، والحمد لله.
ومن خصائص التنزيل بناء المجتمع وفق سنن وقوانين سماوية ذات صبغة الإصلاح , وتتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم مغادرته الدنيا قبل أن يتم نسيج مجتمع يتقوم بالتقوى وبتعاهد الفرائض العبادية , وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
وهل من موضوعية لآيات السلم في كمال الدين , الجواب نعم , لأنها من أفراد التنزيل , وسبل الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة , ولأن الله عز وجل يجعل مضامينها حاضرة في الواقع العملي , فيصرف الله عز وجل شرور الذين كفروا من غير قتال وإن قاتلوا وقاموا بغزو المدينة كما في معركة بدر , وأحد والخندق , فإنهم لم يلبثوا أن يميلوا إلى السلم على نحو الإضطرار كما تجلى في صلح الحديبية الذي هو سلم محض , وقد سمًاه الله عز وجل فتحاَ بقوله سبحانه [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) لبيان أن السلم والصلح والموادعة خير يفيض على الناس جميعاَ ببركة النبوة والتنزيل .
ومن خصائص (آيات السلم) منعها للإرهاب والرهاب وتسخير القوة للبطش , وهناك ملازمة بين آيات السلم والتواضع , كما أنها تنمي حال الخشوع لله عز وجل وتبين قانون بقاء آيات السلم والصلح محكمة غير منسوخة واقية من أفراد كثيرة من الخصومة والإقتتال في كل زمان , وهو من مصاديق قانون الآية القرآنية معجزة عقلية غضة طرية بذاتها وأحكامها إلى يوم القيامة .
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية إتباع لمنهاج السلم والصلح والموادعة , وصرف القتال والإنصراف عنه وهو من البر والتقوى وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعاً لما جئتكم به)( ) .
ومما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات السلم والصلح والإستغناء بالحجة والبرهان , قال تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) .
وتضمن هذا الجزء قراءة وبياناَ لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) فمن إعجاز القرآن أن المشركين يعدون العدة والهجوم تلو الهجوم على المدينة لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه , وأسر طائفة أخرى ليدخلوهم إلى مكة مقيدين بالحبال لعل الناس يمتنعون عن دخول الإسلام , خوفاً .
فتنزل مفردة الدخول من عند الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين بإرادة السعي الحثيث إلى السلم والرضا بالصلح , والإمتناع عن طلب القتال والغزو , وهو من أسمى مراتب الإحسان , قال تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] ( ) لبيان أن الدخول العام في السلم حسنة للذات والغير .
وهل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) يدخل الرعب في قلوب المشركين أم أنه يجعلهم يتمادون في الغي والعدوان , الجواب هو الأول فإن قلت قد ورد قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُون] ( ).
والجواب ليس من تعارض بين هذه الآية وآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) لأن إعداد القوة وتهيئة السلاح للحيطة , وزجر المشركين عن الهجوم , فالآية أعلاه من مصاديق قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) ومن إعجاز القرآن إنتفاء التعارض بين آيات القرآن في كل من :
الأول : مضامين الآيات .
الثاني : موضوع الآيات .
الثالث : أحكام الآيات .
الرابع : الغايات الحميدة .
الخامس : العموم والخصوص , والإطلاق والتقييد , والمحكم والمتشابه , والناسخ والمنسوخ .
وقيل أن قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) منسوخة والمختار أنها ليست منسوخة ولم يرد نص على نسخها , كما أن مضامينها تدل على عدم النسخ ونطرح علماَ جديداَ في الآيات التي قيل أنها منسوخة , وهو ماذا يكون تقدير الآية على فرض نسخها .فقد يكون المعنى مخالفا للمقاصد السامية والتي تصاحب كل آية من القرآن
ويتألف قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ]( ) من ثلاث مواضيع :
الأول : نداء الإيمان .
الثاني : الأمر العام بالدخول في السلم والسعي إليه .وتعاهده , أي عدم الإكتفاء بالدخول في السلم بل تشمل الآية المحافظة على حال السلم , وعدم الخروج منه لحمية أو عصبية أو غضب أو طمع , أما الدفاع فهو ضرورة , والضرورات تقدر بقدرها .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ( ).
حرر في 7 رجب الخير 1443
9/2/2022
قانون النبوة أمن وسلم
من خصائص الأنبياء السعي لتثبيت الأمن في الأرض ، وإشاعة فلسفة السلم وفق قوانين سماوية لا تقبل النسخ أو النقض إلى يوم القيامة.
والنسبة بين الأمن والسلم عموم وخصوص مطلق ، فالأمن أعم ، موضوعاً وزماناً وحكماً ، ويمكن القول بأن أكثر آيات القرآن تدعو إلى السلم سواء بالدلالة المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية.
لقد كان منهج رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلمي محض وسيبقى تحمله الأذى سبباً لدخول الناس في الإسلام أفواجاً فهو ملائم لفطرة الإنسان.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التبدل النوعي في حياة الناس بانتقالهم بالقرآن والسنة من حال الجاهلية والنهب والسلب والوأد والظلم والإقتتال القبلي .
إلى حال الأخوة والسلم والأمان وإزدهار الأسواق وكثرة الإنجاب في بضع سنين بين بدايات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السنة الثامنة من الهجرة إذ تم فتح مكة من غير قتال يذكر وبعد أن نقض الكفار بنود صلح الحديبية ، وغلب الإسلام على أهل مكة .
لقد اختار الله عز وجل الإنسان ليكون [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وهناك ملازمة بين الخلافة والسلم لا تنخرم بحدوث القتال بين الفينة والأخرى ، وفي بقاع محدودة من الأرض ليكون كل من السلم والدفاع دعوة للهدى والإنابة والتوبة.
وقد ذكر عدد من المفسرين أن نحو (124) آية للسلم والموادعة نسختها آية السيف ومنهم من قال ( 100 ) آية منسوخة في المقام.
والأصل عدم نسخ هذه الآيات وفي بيان هذا الأصل صدر هذا الجزء بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وبعد صدور مائتين وثلاثين جزء من تفسيري للقرآن.
وقد صدرت بخصوصه الأجزاء (206-207-208-214-215) من هذا السِفر.
ويبين القرآن أن الحياة الدنيا دار الإيمان والسلم والسلام والتعايش المجتمعي والأخاء بين الناس ، ويمكن القول بقانونوَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ.
ومن خصائص القرآن أنه الكتاب السماوي الذي يدعو إلى السلم ، ويبعث النفرة من الحرب والإقتتال ، وينذر بالعذاب الأليم على الكفر والضلالة ، وما يترشح عنهما من المعصية وإمتطاء الباطل منهاجاً مما يترشح عنه العداوة والبغضاء .
ومن الشواهد عليه بدايات وأيام البعثة النبوية ، فقد تلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد أنواع الأذى من الذين كفروا لأن الإسلام قوانين سماوية وقواعد شرعية تمنع من الظلم وإتباع الهوى ، وتجعل الناس متساوين في الحقوق والواجبات .
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشرائع الإسلام فما هي صلتها بالأمن والسلم ، الجواب إنها الملازمة المستديمة إلى يوم القيامة .
لبيان أن قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )رحمة عامة بالناس ، وأن من العبادة التي تذكرها الآية أعلاه ومصاديقها وفيوضاتها الأمن والأمان ونشر ألوية السلم في أرجاء الأرض للعبادة من وجوه :
الأول : السلم مقدمة للعبادة فاذا ساد السلم توجه الناس لأداء الفرائض والعبادات من غير خشية من الحروب والإستعداد لها ، لذا فان قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بالجمع بين أداء الفرائض والعبادات والتفقه في الدين والدفاع ضد المشركين من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : ذات السلم عبادة لما فيه من الإمتثال لأمر الله ومصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) والإمتناع عن الإضرار بالغير والإتلاف في الأرض ، وهل يشترط أن يكون السلم والسعي في مسالكه بقصد القربة ليكون عبادة لله أم أن كل سعي من الناس في السلم عبادة ، المختار هو الأول .
الثالث : ترشح السلم العام عن العبادة ، فهي زاجر عن الحرب والإقتتال والتعدي ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ) .
وهل المقصود بالصلاة في الآية أعلاه خصوص صلاة المسلم أم مطلق الصلاة في الملل السماوية ، المختار هو الثاني ، ولم يرد لفظ [تَنْهَى] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على إتحاد الخصال الحميدة عند الأنبياء ، إذ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الأنبياء إخوة لعلاّت شتّى ودينهم واحد، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم ؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه نبّي .
وإنّه عامل على أُمّتي وخليفتي عليهم .
إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصّرتين يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال، وليسلكنّ الروحاء حاجّاً أو معتمراً أو كلتيهما جميعاً)( ).
فليس من نبي إلا وهو يحمل رسالة إرساء دعائم ومفاهيم السلم في الأرض ، ويحول دون تجدد القتال والظلم ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سمع بقيام بعض القبائل بجمع الجيوش لمحاربته لم ينتظر حتى يزحفوا على المدينة ويمكر بهم ويكيد لهم ويجهزعليهم .
إنما يتوجه إليهم مع طائفة من أصحابه لا من أجل محاربتهم وقتالهم قبل أن يكثر عددهم وعدتهم ، بل ليفرق جمعهم .
(عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تهلك أمّة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي في أوسطها)( ).
الملازمة بين الإيمان والسلم
ترى ما المراد من نداء الإيمان في أول الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الجواب الذين نطقوا بالشهادتين، فتشمل الآية عموم المسلمين والمسلمات لبيان أن النسبة بين الذين آمنوا والمؤمنين هي العموم والخصوص المطلق ، فالمؤمنون أخص من الذين آمنوا .
وهل يدخل الأعراب والمنافقون في خطاب هذه الآية ، الجواب نعم ، للتخفيف عن الأعراب وعامة المسلمين ،ولإقامة الحجة على المنافقين ، إذ كانوا يخشون القتال ويمنعون من الدفاع والتصدي للمشركين الغزاة كما في قوله تعالى الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وتتضمن آية [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] أموراً :
الأول : قانون الإسلام دين سلام ، وصبر على المشركين والمنافقين.
الثاني : الأصل في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو السلم والأمن ، أما القتال فهو أمر عرضي نتيجة قيام المشركين بالغزو .
الثالث : البشارة بسيادة الأمن والسلام في ربوع الجزيرة والعالم بلحاظ جهات :
الأولى : تجدد خطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في كل زمان ، وهو نداء يتوجه للمسلمين والمسلمات كل يوم وهو من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات القرآن سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية ، والجهر بآيات القرآن في شطر من هذه الصلوات.
الثانية : حمل المسلمين وأهل الملل السماوية ألوية السلم وسعيهم للصلح وقبولهم به .
الثالثة : قانون الملازمة بين خلافة الإنسان في الأرض وبين السلم وسيادته في الأرض.
الرابع : دعوة المسلمين للتنزه عن غلبة النفس الغضبية ، وعن الثأر والإنتقام من الكفار أو تعبير من يدخل الإسلام ، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (والإسلام يجبّ ما قبله)( ).
الخامس : من إعجاز الآية ورود سور الموجبة الكلية ، ولفظ العموم [كَافَّةً] لإرادة الرجال والنساء من المسلمين ، وتعاهدهم لمناهج وسنن السلم في كل الأحوال.
السادس : البشارة بصلح الحديبية ، والصلح بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفد نصارى نجران ، ومجئ وفود هوازن وثقيف وغيرها من القبائل لدخول الإسلام حتى سُمي اليوم التاسع للهجرة (عام الوفود) لترجع هذه الوفود إلى ديارها وقبائلها بالسلم والتآخي والإيمان.
السابع : دعوة المسلمين للرضا باختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلح ، وان كانت في شروطه قسوة أو تنازل عن حق .
الثامن : قانون الصلح طريق دخول الناس الإسلام ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : قانون مصاحبة السكينة للدعوة النبوية .
العاشر : بيان قانون وهو كان الأنبياء ومؤمنو الأمم السابقة يتعاهدون السلم ، ويجتنبون الغزو والتعدي والظلم .
الحادي عشر : انتفاء التعارض بين الأمر الإلهي [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] وبين النهي [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ومن معاني ابتداء آية السلم بنداء الإيمان هو إخبار الذين يدخلون الإسلام بلزوم السعي في مسالك السلم ، وإن كان المشركون يقومون بتجهيز الجيوش لقتالهم ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما يسمع بتجمع جيوش للإغارة على المدينة وغزوها يخرج إليهم ، ويكتفي بتفريقهم ، كما في كتيبة ذي أمر إذ بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن جموعاً من بني ثَعلَبَة ومحارب تريد الإغارة على المدينة ، فخرج ومعه أربعمائة وخمسين من الصحابة بين راكب وراجل لتفريقهم .
أجزاء (آيات السلم محكمة غير منسوخة )
سيبقى علم التفسير من معجزات القرآن الغيرية لوجوه منها استخراج هذا العلم كنوزاً من القرآن ، وتقريبها إلى الأذهان وكشف الدلائل .
ومنها هذا الجزء وهو الثالث والثلاثون بعد المائتين من تفسيري للقرآن ويختص بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
إذ قال بعض التابعين أو تابعي التابعين عددا من الآيات نسختها آية السيف ، ولا أصل لهذا القول ولابد من البيان وتأكيد عدم نسخ آيات الصلح والموادعة بالحجة والبرهان المستقرأ من آيات القرآن والسنة النبوية والتحليل واستظهار ثمرات التحقيق والتأويل.
وقد صدرت أجزاء من هذا السِفر بهذا القانون وتتضمن نفي القول بنسخ عدد من آيات السلم وتأكيد كونها محكمة وهذه الأجزاء هي :
الأول : الجزء السادس بعد المائتين ، ويتضمن نفي النسخ عن كل من :
الآية الأولى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
الآية الثانية [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الآية الثالثة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الآية الرابعة [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الآية الخامسة [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
الآية السادسة [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ]( ).
الآية السابعة [وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
الآية الثامنة [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( ).
الآية التاسعة [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الثاني : الجزء السابع بعد المائتين
الآية العاشرة [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الآية الحادية عشرة [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الآية الثانية عشرة [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الآية الثالثة عشرة [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
الآية الرابعة عشرة [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالث : الجزء الثامن بعد المائتين
الآية الخامسة عشرة [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
الآية السادسة عشرة [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الرابع : الجزء الرابع عشر بعد المائتين .
الآية السابعة عشرة [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( ).
الخامس : الجزء الخامس عشر بعد المائتين , ويتضمن قوانين ودراسات وبيانا لسلامة آيات السلم من النسخ .
الآية الثامنة عشرة( ) : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
من الإعجاز في آية البحث ورود اسم (السلم) فيها على نحو التعيين وفيه مسائل :
الأولى : بيان موضوعية السلم في التنزيل .
الثانية : الترغيب بالسلم والندب إليه.
الثالثة : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسعي في مسالك السلم.
الرابعة : من معاني السلم الإسلام .
وتقدير الآية : (أدخلوا في الإسلام)( )، وروي عن ابن عباس في إرادة أهل الكتاب في النداء في الآية ، ولكن الخطاب موجه للمسلمين والمسلمات وقيل (نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنَّهم بعدما دخلوا في الإِسلام عظَّموا السَّبت ، وكرهوا لُحمان الإِبل فأُمروا بترك ذلك ، وإنَّه ليس من شرائع الإِسلام تحريم السَّبت وكراهة لحوم الإبل)( )،
(وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} أي في الإسلام قاله قتادة والضحاك والسدي وابن زيد، ويدلّ عليه قول الكندي :
دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا.
أي دعوتهم إلى الإسلام لما إرتدوا ، قال ذلك حين إرتدت كندة مع الأشعت بن قيس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وقال مجاهد : ادخلوا في أحكام أهل الإسلام وأعمالهم كافة أي أن المراد من (كافة) اهم شرائع الإسلام.
وقد تقدم في الجزء السادس والثلاثين من هذا السِفر عن ربيع : أنه قال : ادخلوا في الطاعة( ).
(والسِّلْم والسَّلَم، وقد قُرئ على ثلاثة أوجه؛ والسِّلْم: ضد الحرب، ومنه اشتقاق السلامة)( ).
(والحرب ضده السلم)( ).
وتعدد تفسير كلمة السلم لا يمنع من إرادة الأصل وهو من وجوه :
الأول : توجه النداء في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) إلى المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة.
الثاني : الإمر من الله للمسلمين بالسعي إلى السلم والأمن وأداء الفرائض العبادية .
الثالث : لزوم نبذ الحرب ومقدماتها.
الرابع : العصمة الخاصة والعامة من إتباع خطوات الشيطان ومنها في المقام الفتنة والحمية والتعدي.
الخامس : مصاحبة قانون عداوة الشيطان للناس إلى يوم القيامة.
وتحذير القرآن منه شاهد على كونه معجزة عقلية مستديمة في بيانها إلى يوم القيامة.
الخامسة : إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة والتابعين وأجيال المسلمين السلم لقانون عام يحكم كلاً من:
الأول : حسن الصلات بين المسلمين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وهل يشمل الأمر بدخول السلم أفراد القبيلة والطائفة والأسرة الواحدة فيما بينهم ، الجواب نعم.
الثاني : الصلة والمعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
الثالث : جعل العدل ميزان الحكم وإشاعة إنصاف ونصرة المظلوم مسلماً أو غير مسلم لأن تنزيه الأرض من الظلم نوع طريق إلى السلم وباعث على السكينة ، ومانع من الشقاق.
الرابع : اللجوء إلى الصلح في فك الخصومة ، ترى ما هي النسبة بين السلم والصلح ، الجواب إنه العموم والخصوص المطلق ، فالسلم أعم من الصلح ، ويأتي السلم ابتداءً من دون صلح أو يكون بالصلح .
والصلح من مصاديق قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] وهو من الشواهد على عدم نسخ الآية بلحاظ أن الصلح أمر حسن ومندوب إليه في كل زمان ومكان .
وجاءت به الأديان السماوية ، وهل يمكن الإستقراء من قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، أن السلم خير محض .
ويكون تقدير الآية : ادخلوا في السلم كافة فهو خير ، الجواب نعم ، وهو من الشواهد على عدم نسخ آيات السلم.
وهل من مصاديق سور الموجبة الكلية (كافة) عموم الناس أم يشمل مصاديق الصلح والوفاق والتراضي ، الجواب تدخل هذه الأفراد في مضامين الآية القدسية .
قانون نداء الإيمان سلام يومي متجدد
لقد كان العرب ينادون بالإنتساب إلى قبائلهم ، ويتفاخرون بهذا الإنتساب ، وتقع بسببه المعارك والحروب ، وتنشأ على أساسه الأحلاف والمواثيق ، فنزل القرآن بلغة أخرى بالخطاب بصيغة الإيمان وهو سور الموجبة الكلية الجامع لأهل الإيمان وإن تباينت قبائلهم ، وكانوا يتقاتلون فيما بينهم.
فصار التمايز بالإيمان والثناء عليه ، وهل يفرق الإيمان بين أفراد القبيلة الواحدة ، الجواب لا ، إنما المشركون يتخلفون عن وظائفهم التي خلقهم الله عز وجل لها من الإيمان والعبادة ، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار.
وآيات نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ورد فيها هذا النداء تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وكل واحدة منها زينة عقائدية تبعث على السلم والموادعة وتندب المسلمين إلى الصبر في طاعة الله والشكر له تعالى على نعمة الإيمان .
ولم تكن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسلم إبتداءاً لقانون ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء به الأنبياء السابقون ، وقد رفع إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ألوية السلم ، ولكن كفار قريش واجهوا الدعوة إلى الله بالتعدي والظلم من وجوه:
أولاً : تعذيب الذين آمنوا ووفاة بعضهم تحت التعذيب ، منهم سمية بنت خياط ام عمار بن ياسر ، قال مجاهد (أم عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قلبها.
وهذا مرسل.
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.
وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
لعنه الله وقبحه.) ( ).
ثانياً : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة حمله على ترك الدعوة إلى الله بينما هو مأمور بتبليغ رسالته ، قال تعالى [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا] ( ).
ومن تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرسالته بسط السلم في الجزيرة ، وربوع الأرض ، وتحقيق الأمن وضبط السلوك بالتقوى في البيت والسوق والمنتدى والمسجد وغيرها وفيه شاهد بأن آيات السلم محكمة غير منسوخة لأنها جزء من التبليغ وهل كان السلم مقصوداً في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
ثالثاً : حصار قريش لأهل البيت لثلاث سنوات حصاراً اقتصادياً واجتماعياً .
رابعاً : إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه وفق خطة ومكر اشترك فيه جماعة من كبار رجال قريش في حجة عليهم إلى يوم القيامة مع أنه ليس لهم دم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يرفع سيفاً ، ولم يرد الأذى بمثله .
ولم يحدث بتأريخ الإنسانية وقصص الأنبياء أن طلب المشركون قتل نبي لأنه يتلو كلام الله ، لبيان شدة ظلم قريش ، ومع هذا توالت آيات العفو والمغفرة والترغيب بالإيمان بفضل من الله إذ يتجلى قانون كل آية من آيات العفو والمغفرة سلم وترغيب بتلاوة آيات السلم والعمل بمضامينها.
وذات نداء الإيمان دعوة للسلم قبل أن تتولى مضامين آياته هذه الدعوة ، وتوجهها للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً .
لقد اختارت قريش عشرة شبان من فتيانها ليهجموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ، ويشتركوا في دمه فلم يستطع بنو هاشم مطالبة كل القبائل بدمه فيلجأون إلى قبول الدية .
فنزل جبرئيل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المكيدة وأمره بالهجرة إلى المدينة ، ولو شاء الله عز وجل لقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجمع بني هاشم ونفر من الصحابة والإجهاز على هؤلاء العشرة وقتل أو جرح بعضهم والقاء القبض على الباقين ، إنما ترك الخصومة والنزاع لأنه يحمل لواء السلم وقانون ما يتحقق بالسلم من سبل الهداية أكثر وأعظم مما يتحقق بالقتال .
لتكون الهجرة من مصاديق مكر الله عز وجل في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، وبيان قانون وهو أن منافع الفرد الواحد من مكر الله متجدد إلى يوم القيامة ، ومنه تقريب الناس في كل زمان للسلم ، وجعله محبوباً ويتناجى الناس في حسنه ونفعه للماضي والحاضر والذي لم يولد بعد.
عدد سكان مكة أيام البعثة
لقد كانت مكة آنذاك بلدة صغيرة وتقع في قلب الحجاز بمنطقة ووادي جاف محصور تحيط به الجبال والتلال الجرداء والصخور ،ومنها جبل أبي قبيس الذي يطل على البيت الحرام من الجهة الشرقية ، ولكنه لا يمنع من السكن فيما بعده وعلى سفحه ، ومن جبال مكة جبل قعيقعان ،والحجون ،وفاضخ ، وثور ، وحراء والتي تحيط بمكة من كل جهة وقد وردت تسميتها بالقرية كما في قوله تعالى [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ) أي مكة والطائف .
كما وردت تسميتها البلد[وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ] ( ) من ايام إبراهيم عليه السلام [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا..] ( ) .
وهل تسمية البلد خاصة بقادم الأيام أم تشمل أيام إبراهيم أيضاً ، الجواب هو الثاني ، ومن معاني الجمع بينهما أن مكة تتسع أحياناً ويكثر سكانها والوافدون إليها.
وترتفع مكة 250 م عن سطح البحر .
ويتوسط المسجد الحرام البلدة ، وتحيط بيوت قريش وغيرهم به.
وحينما تولى قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شؤون المسجد جعل دور أولاده عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى بني قصي الأقرب إلى البيت ثم دور عامة قريش تحيط بالبيت ، وجعل بينها ممرات إلى المسجد ، وتوافق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السنة 610 م .
ويمكن تقدير عدد سكان مكة يومئذ بنحو ستة آلاف نسمة من الذكور والإناث ، وكان عدد الخارجين إلى قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثانية للهجرة والموافق سنة 624 م نحو تسعمائة وخمسين رجلاً ، ولكن لا يقاس عليه عدد أهل مكة إلا نحو الإجمال لوجوه :
الأول : الذين خرجوا في الغالب هم الذين لهم أموال في قافلة أبي سفيان وخاصة قريش .
الثاني : قلة أيام النفير إذ كانت ثلاثة أيام فقط .
الثالث : وجود أمة مسلمة ، فلم يخرج معهم المسلم إلا اضطراراً وعلى نحو الإكراه ، كما في إكراه بعض رجال قريش ابناءهم بالخروج معهم .
الرابع : تخلف عدد من رجال بني هاشم .
الخامس : كثرة النساء وسقوط القتال عنهن ، وقد أخرجت قريش يومئذ بعض الجواري للخدمة والغناء .
ولم يحضر ميدان المعركة بعض الفئات منهم:
الأول : المسلمون باستثناء نفر أكرهوا على الخروج .
الثاني : الذين تخلفوا في مكة، ومنهم بعض وجهاء قريش مثل أبي لهب مع شدة عدائه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الذين اتعظوا من آيات الإنذار والوعيد التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتلونها عليهم
الرابع : الذين رجعوا من وسط الطريق عندما جاء رسول أبي سفيان وهم في الجحفة يخبرهم بأن القافلة قد سلمت فأرجعوا لإنتفاء الغرض من الخروج ، فهموا بالرجوع ، ولكن أبا جهل أصر على الإستمرار بالمسير فأشار الأخنس بن شريق على القوم بالرجوع فلم يسمعوا قوله ، فتوجه الأخنس إلى حلفائه بني زهرة ، وألحّ عليهم بالرجوع فاستجابوا له .
مما يدل على أن الذين خرجوا إلى بدر خصوص أصحاب الأموال في القافلة وذويهم ، وكانت تجارة قريش في الغالب من غزة.
(وكان متجرهم من الشام غزة، لا يعدونها إلى غيرها)( ).
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجهه بالخطاب والدعوة بجد متصل إلى كل من :
الأول : رؤساء وأشراف مكة ، وهو من أوسطهم مما يحجب عنهم التعنت والكبر في قبول الدعوة .
الثاني : عامة أهل مكة ، ومنهم العبيد والمستضعفون .
الثالث : الوافدون إلى مكة لأداء الحج أو العمرة أو الزيارة .
وهل تتضمن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة الحضّ على السلم والسعي إليه وقبوله ، أم أن موضوع آيات السلم خاص بالمدينة وما بعد الهجرة .
الجواب هو الأول ، فالسلم حاجة للناس وللمؤمنين وأهل الكتاب والكفار ، وهو من الشواهد على عدم نسخ آيات السلم ، قال تعالى [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ] ( ) وهذه الآية مكية وهي من آيات سورة الأنعام التي نزلت في مكة باستثناء عدد من آياتها .
ومن إعجاز القرآن صيرورة آيات الوعيد عضداً لآيات السلم ، وهذا التعضيد شاهد على بقاء آيات السلم وتجدد منافعها .
قانون البسملة سلام
من معاني ابتداء كل سورة من القرآن بالبسملة عدا سورة التوبة تنمية ملكة الرحمة في النفوس ، وماهية القرار وما يعزم عليه المسلمون مجتمعين ومتفرقين من الأعمال والمعاملات فيما بينهم ، ومع أهل الكتاب والناس جميعاً ، والمراد من البسملة قول [بسم الله الرحمن الرحيم]على جهات :
الأولى : بسم الله الذي له ملك السموات والأرض .
الثانية : بسم الله الذي أنزل القرآن معجزة عقلية خالدة .
الثالثة : بسم الله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً .
الرابعة : بسم الله ابتدأ .
الخامسة : إن الله يأمركم أن تذكروا اسمه عند تلاوة كلامه .
السادسة : بسم الله مفتاح القراءة .
السابعة : عليكم بالثواب العظيم في البسملة .
الثامنة : وجوب إستحضار ذكر الله عند تلاوة كلامه .
التاسعة : قانون اسم الله سور الربوبية الجامع للناس جميعاً .
العاشرة : الإبتداء باسم الله دعوة للسلم والتعايش المجتمعي والمودة.
الحادية عشرة : قانون مصاحبة النطق باسم الله لأيام الحياة الدنيا كلها ، ليس من ساعة إلا واسم الله يتلى في الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومن تعيين أوقات الصلاة وفق أوقات كونية تتعلق بجريان الشمس ، وزوالها عند الظهيرة وغروبها ، فلا تمر دقيقة على أهل الأرض إلا وفي بقعة منها صلاة ، وهو من الشواهد على استدامة السلام في الأرض .
الثانية عشرة : قانون مصاحبة اسم الله للمسلمين حصن وأمن ، ولا يعلم ما دفع الله عز وجل عنهم وعن الناس جميعاً بتلاوتهم وذكرهم المتصل لاسم الله إلا هو سبحانه .
الثالثة عشرة : باسم الله الذي ينهاكم عن سفك الدماء ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ).
الرابعة عشرة : الإبتداء باسم الله تنمية للأخلاق الحميدة ونشر للألفة ومفاهيم المحبة بين الناس .
الخامسة عشرة : اكتبوا بسم الله في بداية كتبكم ورسائلكم .
السادسة عشرة : قانون تأديب المسلمين بجعل ذكر الله في أول الكلام والخطبة ، وفيه زجر عن صيرورة الكلام تهديداً وتخويفاً وتعدياً وجرحاً وقذفاً.
السابعة عشرة : اسألوا العون والمدد من الله بقول بسم الله .
وهل يعني لفظ اسم في [بسم الله] جميع أسماء الله الحسنى بلحاظ أنه مفرد مضاف للفظ الجلالة كما في قوله تعالى [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( ) أم أن المراد هو ذات اسم الجلالة وحده .
المختار هو الثاني لأصالة الظاهر فلم تقل الآية باسماء الله الرحمن الرحيم .
ولا يمنع هذا المعنى من إلحاق اسماء الله الحسنى باسم الجلالة الذي هو أعظمها وهو أم الأسماء الحسنى ، لذا تعقب ذكرَ اسم الجلالة اسم الرحمن الرحيم بصيغة النعت ، ولا يمنع من إجتماع صيغة البدل مع النعت في المقام.
الثامنة عشرة : النطق بسم الله أمن للتالي والسامع وحجة على الناس في لزوم نشر ألوية السلم .
التاسعة عشرة : استقبال الليل والنهار باسم الله سبب لصرف البلاء ، وفي المرسل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال من قال باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم فقالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يصبح وان قالها حين يصبح لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يمسي)( ).
العشرون : اشكروا الله عند تلاوة القرآن بالإبتداء ببسم الله ، فهذه البسملة عنوان جامع للشكر والثناء على الله عز وجل .
الواحدة والعشرون : النطق باسم الله سور جامع لأهل الملل والناس جميعاً ، فحتى المشركين ينطقون باسم الله ، ولكنهم يجعلون معه شريكاً ليكون لهج المسلمين باسم الله في الصلاة وخارجها بعثاً للنفرة في النفوس من الشرك وسبيلاً للإيمان من غير قتال ، وفيه شاهد بأن آيات السلم محكمة لأن البسملة ودعوة الناس بها للإيمان سلم وأمن.
الثانية والعشرون : التسمية إقرار متجدد بالربوبية المطلقة لله عز وجل.
الثالثة والعشرون: ابتداء السورة بالبسملة بيان للشأن العظيم لتلاوة القرآن ، وأبواب العلم التي تترشح عنها ، والثواب العظيم في تلاوتها والتدبر في معانيها ودلالاتها .
وهل البسملة من آيات السلم أم من آيات الإحتجاج ، الجواب انها منهما مجتمعين ومتفرقين وهو من إعجاز اللفظ القرآني وسعة المعارف التي يتضمنها.
ونطق المسلمين بالبسملة من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) لأن البسملة سلم ودعوة له ، وهي واقية من اتباع مسالك الشيطان .
قانون الإجتهاد النبوي بصرف القتال
من خصائص خلافة الأنبياء في الأرض اجتهادهم في دفع القتال عنهم وعن الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ولم يتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إثارة النعرات والعصبية بين المشركين سبيلاً لإضعافهم ، أو إشغالهم عنه ليكون هذا الإجتهاد تركة عقائدية وأخلاقية عند المؤمنين إلى يوم القيامة .
ولم يقع القتال إلا باصرار من رؤساء الشرك ، وامتناعهم عن الإتعاظ.
وتجتمع خصال حميدة وعصمة عند النبي وأصحابه من جهات :
الأولى : عدم الفتور لطول مدة القتال ولما أصابهم من الجراحات ، وسقوط الشهداء من بينهم ، وهذا من رشحات قصد القربة في العمل العبادي ، إذ أثنى الله عز وجل عليهم بقوله [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
والوهن : الضعف ونقصان القوى بالخوف أو الملل وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً أو عند الفرد الواحد أو الجماعة أو الجيش أو الأمة .
وقد صرفه الله عز وجل عن الصحابة ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ) فدفع الله عنهم الجبن والخور في معركة أحد ، لينتفع منه عامة الصحابة في ذات المعركة وعند غزو الأحزاب للمدينة ، وفي صلح الحديبية .
وفي معركة حنين عندما باغتت جيوش هوازن وثقيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهجوم سريع وشرس انهزمت الطلائع الأولى من المسلمين ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبت في موضعه وصار يناديهم فعادوا سريعاً والتفوا حوله وقاتلوا دفاعاً عنه ، وعن التنزيل والإيمان ، فلحقت الهزيمة بالمشركين.
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء في سير معركة حنين وسرعة إنقلاب حال المسلمين من دفاع وإنهزام إلى نصر وغنائم مع أن جيش المشركين أكثرمنهم ويصل تعداده لنحو عشرين ألفاً فاخزاهم الله عز وجل ، وكانت هذه المعركة قطعاً لسلطان الشرك في الجزيرة وتثبيتاً للسلم ومضاعفة فورية للذين يتوجه لهم الأمر الإلهي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
ومن إعجاز القرآن قانون إجتماع الجملة الإنشائية والخبرية في سبل الهداية والإصلاح ، ومنه إجتماعهما في إصلاح الصحابة للدفاع مع أنه كره لهم .
فالجملة الخبرية هي إخبار الآية أعلاه [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( )عن قتال الصحابة الربانيين مع الأنبياء من غير ملل أو كلل ، أما الإنشائية في المقام فهو النهي عن الوهن في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) مع البشارة والإخبار بأن المسلمين هم الأعلى وذوو الكفة الراجحة في القتال مع المشركين.
لقد اثنى الله على صحابة الأنبياء السابقين الذين قاتلوا , بأنهم [رِبِّيُّونَ] فهل الذين قاتلوا المشركين تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [رِبِّيُّونَ] أيضاً ، وهل من آية تدل عليه ، الجواب نعم ، ومما يدل عليه تسميتهم بالمهاجرين والأنصار .
ولم يرد لفظ [رِبِّيُّونَ] في القرآن إلا في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) ( ) .
كما ورد بيان آخر لصفة الربانيين وأنها أعم من خوف القتال في سبيل الله لتشمل حال المسلم إلى يوم القيامة كما في قوله تعالى [وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ]( ).
لبيان أن التقوى سلاح لتثبيت معالم الإيمان في الأرض ، وإزاحة مفاهيم الكفر والضلالة .
ومجئ الأوامر المتعددة من الله بالتقوى شاهد بأن آيات السلم محكمة في رسمها ومنطوقها وأحكامها.
الثانية : تلقي الأذى والضرر في سبيل الله لقوله تعالى [لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
وهل تختص هذه الإصابة بحال الحرب والقتال بلحاظ أنها موضوع الآية الكريمة .
الجواب لا ، فيدخل فيه مثلاً الحصار الإقتصادي الذي فرضته قريش على بني هاشم من السنة السابعة إلى السنة العاشرة للبعثة النبوية ، واضطرار طائفة من الصحابة إلى الهجرة إلى البلاد البعيدة إلى الحبشة طلباً للنجاة بدينهم وأنفسهم ، إذ أدركوا قانوناً وهو الملازمة بين الإيمان والنفوس ، وأن قريشاً يجهزون عليهم بسبب إيمانهم الذي لا يتخلون عنه .
ومن إعجاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هجرة الحبشة بعث اليأس في قلوب المشركين من إرتداد المسلمين عن دينهم ، وهو من أسباب نشوب معركة بدر ، وهزيمة المشركين فيها .
ومما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله هجرتهم إلى المدينة ، وتركهم مكة وجوار البيت الحرام ، ودورهم وأموالهم وتحملهم أخطار الطريق ودار الهجرة في سبيل الله ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
ولم تكن هذه الأخطار وفق المتعارف إنما كان المشركون يطاردون الذي يهاجر ويسعون في إعادته مقيداً بالحبال إلى مكة ليكون عبرة لغيره.
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جعلت قريش جعلاً بمقدار ديته لمن يقتله في طريق الهجرة .
الثالثة : من إعجاز الآية التقييد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ثم ذكرها لعدم ضعف الربيين , فلم تقل الآية ( فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله ) بالجمع بين الخصال الثلاثة ، إنما ذكرت عدم الوهن والضعف في سبيل الله ، ثم استمروا على ملكة القوة والمنعة وعدم الضعف في حال الحرب والسلم ،والبناء ، وأداء الفرائض العبادية ، ليكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( ) لتعاهد دخولهم في السلم .
الثاني : [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] لدخول عامة الناس في السلم
الثالث : [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ليتبع الناس النبي محمداَ في الدخول في السلم .
الرابع : [فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) في الدخول في السلم لذا حينما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة عام الفتح خاطب قريشاَ , ولم يوقع بهم إنما (وقف على باب الكعبة ، ثم قال : ” لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ” ، ثم قال : ” يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم؟ “
قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم . قال : ” اذهبوا فأنتم الطلقاء) ( ) .
الخامس : [وَمَا ضَعُفُوا] ( ) في الدخول في السلم والإمتناع عن إتباع خطوات الشيطان .
السادس : [وَمَا اسْتَكَانُوا]( ) في الدخول في السلم .
السابع : [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) الذين يدخلون في السلم كافة .
ليكون من أسرار هذا الترتيب الإعجازي في الآية عموم موضوع عدم الضعف ، ويكون من وجوهه :
الأول : الإقبال على أداء الفرائض العبادية من غير تراخ .
الثاني : العصمة من التفريط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : القوة والعزم في ملاقاة المشركين .
الرابع : تعاهد الأخوة الإيمانية، وعدم ظهور الفرقة بين أصحاب الأنبياء.
الخامس : سلامة الصحابة من أذى المنافقين وصدهم عن سبيل الله ، وهل حال النفاق خاصة برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما بعد النصر في معركة بدر أم أنه يشمل الأنبياء السابقين خاصة الذين حاربهم المشركون ، الجواب هو الثاني .
وهل يصح قراءة الآية بتقديم عدم الضعف والإستكانة أيضاً وتقديرها : فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا في سبيل الله ، الجواب نعم ، ولكن دلالات نظم الآية أعم وأكثر .
والنسبة بين الضعف والوهن عموم وخصوص مطلق ، فالضعف أعم , ومنه وجوه :
الأول : حال في الخلق والتكوين ، قال تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) .
الثاني : كيفية نفسانية .
الثالث : إنه مظهر في القول والعمل خلاف القوة والعزم ، والمراد في الآية هو الثاني .
أما الوهن فهو التراخي وما يشبه القعود عن الغايات .
خصائص الحوار القرآني
وفيه وجوه :
الأول : تنمية ملكة الجدال والإحتجاج عند المسلمين .
الثاني : الإرتقاء في سلم المعارف الإلهية .
الثالث : عدم الإنعزال عن الناس وعامة المجتمعات .
الرابع : الحوار وسيلة خطاب وبيان وإقناع (عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم ) ( ).
الخامس: في الحوار حجة على طرفي الحوار ، أي على القائل بما فيه تعظيم شعائر الله وعلى السامع .
السادس : لقد ابتدأ الحوار بخصوص الناس من ساعة خلق آدم إذ جرى الحوار بين الله عز وجل والملائكة كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لبيان قانون وهو لابد أن يسود الحوار في الأرض وتبقى آيات السلم محكمة غير منسوخة.
السابع : للحوار منافع عقائدية وإجتماعية وأخلاقية ونفسية .
الثامن : قانون القرآن كتاب الحوار السماوي الذي [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ).
التاسع : قانون تثبيت آيات الحوار لآيات السلم .
وفي القرآن مدرسة حوار وإحتجاج الأنبياء على قومهم ، وهو من معجزات القرآن بما تبعثه الآية عند المسلمين من السكينة وزيادة الإيمان ، والحجة على الذين كفروا حتى بتلاوة آيات القرآن وحدها ، فمن خصائص آيات القرآن أن كل آية منه دعوة للحوار .
ومنها ما ورد في حوار نوح عليه السلام مع قومه ، وهل من صلة بين هذه الكثرة وطول عمر نوح عليه السلام وتعدد طبقات معاصريه ، الجواب نعم .
وقد ترد آية حوار تتضمن شخص النبي والثناء على أصحابه وذم الذين كفروا ، كما ورد حكاية عن نوح ، قال تعالى [وَيَاقَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ] .
فلا غرابة أن يشتد أذى المشركين له ويوصي الأب ابنه بعدم الإستماع أو الإصغاء له .
وعن (ابن عباس : كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول : احذر هذا فإنّه كذّاب وإن أبي حذّرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه.) ( ).
لبيان أن نوحاً لم يكتف باعلان نبوته والدعوة إلى الله ، ولكنه يذم المشركين ، ويبين قانون إجتماع الشرك والجهل ، وأن الشرك فرع الجهالة والغفلة ، وتؤدي إليه من غير أن يلزم الدور بينهما .
وكذا بالنسبة للنبي شعيب خطيب الأنبياء .
(عن الشرقي ابن القطامي وكان نسابة عالماً بالأنساب قال : هو ثيروب بالعبرانية ، وشعيب بالعربية ابن عيفا بن يوبب بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام) ( ) .
وعلى هذا يكون زمانه متصلاً مع زمان يوسف عليه السلام ، وبعث الله عز وجل شعيبا لأهل مدين ، وتقع مدين في شمال غرب الجزيرة العربية ولا تزال مساكنهم وآثارها بالقرب من مدينة البدع وتبعد عن منطقة تبوك نحو 170 كم ، وبيوتها منحوتة في الصخر تشبه مدينة الحجر لقوم صالح عليه السلام .
قانون مصاحبة الصلح للخلافة
لا يختلف اثنان بأن الصلح والندب إليه والتعاون فيه لم ولن ينسخ إلى يوم القيامة ، وهل الصلح من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن الإعجاز في المقام ورود لفظ الخليفة بصيغة المفرد ويحتمل المراد منه وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص شخص آدم عليه السلام ، فان قلت إذا كان المراد من الخليفة هو آدم وهو نبي رسول معصوم من الزلل فكيف احتجت الملائكة وقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الجواب لم يحتج الملائكة على شخص ووظيفة الخليفة والمنزلة التي فضله الله بها ، ولكن احتجاجهم على غير الخليفة ، لقولهم (اتجعل فيها) وهل يصح تقدير الآية : اتجعل فيها خليفة يفسد فيها ، المختار لا ، لتنزه مقام الخلافة عن المعاصي والفساد.
وإذا قيل يرد هذا المعنى على قصد المعنى الأعم للخليفة وهو الناس جميعاً ، فالجواب حتى على فرض المعنى الأعم فان الذي يرتكب المعصية يرتكبها وهو ظالم لنفسه مبتعد عن مقامات الخلافة .
الثاني : الملازمة بين النبوة وصفة الخلافة فمن شرّفه الله عز وجل لمرتبة النبوة نال درجة الخلافة وأمده الله عز وجل بالوحي والتنزيل ليكون الواسطة بين الله وبين الناس في الدعوة إلى عبادته ، لتكون الخلافة في الأرض على جهات :
الأولى : قانون الخليفة إمام للموحدين .
الثانية : قانون تنزه الخليفة عن الفساد وسفك الدماء .
الثالثة : قانون دعوة الخليفة إلى السلم والوئام بين الناس .
الرابعة : زجر الخليفة وأنصاره وأتباعه الناس عن الفساد في الأرض وسفك الدماء ، وهذا الزجر من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : المراد من لفظ الخليفة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، اسم الجنس الشامل للناس جميعاً ذكوراً وأناثاً ومصداق موضوع وسلطان الخلافة هو عمارة الأرض بالعبادة والذكر والتصرف فيما جعل الله عز وجل فيها من الأقوات والأرزاق وأسباب النعم ، وتسخير العقل للمعاملة بين الناس وإدراك قانون لزوم التحلي بالأخلاق الحميدة التي جاءت بها الكتب السماوية والمنزلة .
ومن الإعجاز في ورود الأسماء الحسنى في القرآن دعوة الناس للإرتقاء في منازل التقوى والخشية من الله ، والمبادرة إلى التراحم والعفو والمغفرة ، ليكون ورود الأسماء الحسنى وتكرارها في آيات وسور القرآن شاهداً على أن الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، محكمة غير منسوخة.
وهل يصح تقدير الآية (ادخلوا في الصلح كافة) بلحاظ قانون وهو الصلح من مصاديق السلم ، الجواب نعم ، فقد جعل الله عز وجل النفوس الإنسانية تميل إلى الصلح والوئام ، وتكره الحرب واستمرارها مع قيد في الصلح وهو عدم التعدي والظلم لخاتمة الآية أعلاه ، ولقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وهل من معاني آية الخلافة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، يسعى الخليفة في الصلح بينه وبينه غيره ، وفيما بين الناس ، الجواب نعم.
وهو الذي تجلى في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، الذي يفيد استحباب الصلح بين عموم الناس.
وهل كان الصلح ممكناً بين ولدي آدم قابيل وهابيل قبل أن يقدم الأول على قتل الثاني ، الجواب نعم ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( ).
وعن عائشة قالت (سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ ، وَيَسْتَرْفِقُهُ فِى شَىْءٍ وَهْوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لاَ أَفْعَلُ . فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : أَيْنَ الْمُتَأَلِّى عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَهُ أَىُّ ذَلِكَ أَحَبَّ)( ).
أي أن أحدهما يستوضع ويطلب من الآخر أن يحط عنه بعض الدين الذي عليه ولكن الآخر يحلف بالله أنه لايحط من دينه فذكّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يصر على ترك المعروف فاستجاب في الحال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحطّ وطرح من الدين ما سأله الغريم.
وهل رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشروط المشركين في صلح الحديبية من خلافته في الأرض ، الجواب نعم ، خاصة وأن هذا الرضا من الوحي .
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض المناجاة بالصلح والإصلاح ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
قوانين الإصلاح في القرآن
ليس من كتاب سماوي إلا ويتضمن الحضّ على الإصلاح ، والدعوة إليه لما فيه من إشاعة للأمن والإستقرار في المجتمعات ، والسلامة من الكدورات والأمراض النفسية ، والمنع من العداوات والنزاعات الشخصية والأسرية والاقليمية .
وقد نزل القرآن بآيات الإصلاح ، وهي مدرسة عقائدية وشرعية وأخلاقية ، وهي من الشواهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة لأن الإصلاح نوع طريق للسلم ، وهو بذاته سلم ومن آيات الإصلاح ، قال تعالى [وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
فمن الإعجاز في الآية أعلاه صيغة العموم وبعث المسلمين للإصلاح بين عامة الناس بمختلف مذاهبهم ، وهل تشمل الآية الإصلاح بين الدول .
الجواب نعم ، لإفادة الألف واللام في (الناس) الجنس وإرادة سور الموجبة الكلية في الإفراد والتركيب ، بسعي المسلمين للإصلاح بين أهل الأرض .
وهل تشير الآية إلى جواز الإنفاق في الإصلاح ، الجواب نعم.
ومن الإعجاز في تقدم البر والإحسان والتقوى قبل الإصلاح لزوم التنزه عن المكر في الإصلاح ، وعدم النظر بأن هذه الأطراف لو تم الصلح بينها قد تعادي المسلمين ، إنما الصلح والسعي في مقدماته ولحقيقه أمر حسن ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، ومن معاني الآية أن الصلح خير لأطرافه ولغيرهم من الناس.
وتدعو آيات القرآن إلى الإستحضار قصد القربة إلى الله عز وجل في السعي بالإصلاح بين الناس وتصح نيته بقصد القربة إلى الله حتى وإن كان مستحباً لرجاء الثواب الخاص بهذه النية ، ومنه صبغة الإيمان اثناء هذا السعي ، وعدم اتخاذ الإصلاح وسيلة لتثبيت الباطل واتباع خطوات الشيطان ، إذ قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
ولا تمنع الآية في مفهومها من السعي في الإصلاح بين الناس وإن صدر من غير المسلمين فهو حسن ذاتاً ، وفيه منافع للمسلمين وعامة الناس ، فبعد أن بينت الآية الخير والنفع في الإصلاح بين الناس ودعوة الناس للسعي في الألفة ونبذ الفرقة والإقتتال.
وأختتمت الآية بقانون تقييد الثواب على قصد القربة في الإصلاح ، لبيان جواز الإصلاح من عامة الناس وأهل الملل ، ولكن الثواب يترتب على إرادة مرضاة الله وإتخاذ العدل والإنصاف منهاجاً في الصلح والوئام ، لموضوعية هذه الإرادة في إختيار أفضل السبل للإصلاح ، والأقرب إلى سنن الهداية والرشاد.
وعن أم كلثوم بنت عقبة (أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا -أو يقول خيرًا)( ).
فالذي يريد الإصلاح ينقل للطرف الآخر الكلام الحسن وما فيه الخير فيقول له مثلاً أنه مدحك واثنى عليك ، وذكرت بالخصال الحميدة ويريد انهاء أسباب البغضاء والعداوة بينك وبينه ، فهذا القول ليس بكذب وإن لم يسمعه تفصيلاً ونصاً لأنه خير محض وهو خال من الضرر والإضرار.
وفيه شاهد على عدم نسخ آيات السلم ، لأن الصلح خير ومصداق للسلم ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحض عليه ويدعو إليه باختيار ما يزيل الكدورة والبغضاء بين الطرفين.
قانون بشارات السلام في سوق عكاظ
لما استقرت قريش في مكة ، وآلت إليها إدارة المسجد الحرام والعناية بوفد الحاج إتجه رجالها نحو التجارة استيراداً وتصديراً ، وعرضاً فلابد من أسواق للعرض وتبادل السلع ، وكان موسم الحج أحسن وأبهى مناسبة لهذه الأسواق خاصة وأن الحج يقع في أشهر حرم يأمن الناس فيها على أنفسهم وأموالهم ، ويتنفس الفرد والجماعة والقبيلة الصعداء بالسلم المجتمعي ، وتعليق الغزو والنهب والسلب وتكون مناسبة لنزع الضغائن، وهل كانوا يعلمون أنهم على موعد برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تقضي على الظلم والغزو والتعدي ، وليسود فيها الأمن ، وتزدهر أسواق مكة في كل أشهر السنة وليس في أيام من الأشهر الحرم وحدها.
المختار نعم ، لقد أنشات قريش سوق عكاظ سنة 500 ميلادية تقريباً أي قبل بعثة النبي محمد باكثر من مائة سنة لتكون توطئة لبعثته ، وطوافه في تلك السوق يدعو الناس إلى التوحيد .
واختارت القبائل ومنها قريش سوق عكاظ موضعاً بين مكة والطائف ، وسمي عكاظ لأن العرب يأتون من الأماكن المتفرقة ويعكظ بعضهم بعضاً فيه أي يدعك ويجادل ويزاحم بعضهم بعضاً في الأبدان وفي المفاخرة.
وسوق عكاظ أقرب للطائف من مكة ، والمسافة بين المدينتين نحو ثمانين كيلو متر ، لذا فالمختار أن سوق عكاظ لم يتم استحداثه واختيار موضعه من قريش على نحو الحصر ، خصوصاً وأن قبيلة هوازن وعدوان أول القبائل التي تقدم إلى السوق.
ولم تكن فيه جبال إنما كان موضعاً فيه ماء ونخل وأرضه مستوية ، وتعرض في سوق عكاظ جميع السلع مثل التمر والحبوب والإبل والخيل ، والعطور والأقمشة والسيوف وغيرها .
وتتصف سوق عكاظ بأنها أدبية ، تنشر فيها القصائد الشعرية ، وكانت تنصب خيمة للنابغة الذبياني ليحكم بين القصائد ، وأكثرها في التفاخر بالأنساب والأمجاد والشجاعة .
وتدل هذه الصبغة على العصبية القبلية ، والحاجة إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع الإقتتال وسفك الدماء بسبب القبلية فجمعهم الله عز وجل بقريتين تجمع بينهم الأخوة الإيمانية وهم :
الأول : المهاجرون.
الثاني : الأنصار .
قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
ومدة انعقاد هذه السوق عشرون يوماً ابتداءً من أول شهر ذي القعدة أي من أول يوم من أيام الأشهر الحرم الثلاثة المتصلة ، ذي القعدة ، وذي الحجة ، ومحرم ، إذ يبدأ وفد الحاج من المناطق والقرى والبلدات المختلفة بالتوجه إلى مكة والإقتراب منها ، وكانت أسواق مكة ثلاثة وهي :
الأول : سوق عكاظ .
الثاني : سوق مجنة .
الثالث : سوق ذي المجاز ، وهو أقرب إلى عرفة وأيام المناسك .
وحينما نزلت آيات الإجتهاد بذكر الله عز وجل في أيام الحج تحرج المسلمون من البيع والشراء .
و(عن ابن عباس : في أوّل الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج ، فخافوا البيع وهم حرم ، فانزل الله [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ] ( )، في مواسم الحج)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يذهب إلى سوق عكاظ ويأخذ معه عدداً من أصحابه ليقيموا الصلاة ويتلو آيات القرآن ، ويدعو الناس إلى الإسلام وتلك مظاهر إيمانية مستحدثة في سوق جعلت التفاخر بالإنسان والقاء الشعر يتأخران رتبة ، وينصرف الناس عنهما لأمر جديد طارئ يخاطب العقول ، وينفذ إلى شغاف القلوب ، واستمعت الجن إلى القرآن في سوق عكاظ ونزل القرآن بتوثيق هذا الإستماع.
و(عن ابن عباس قال : انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب .
فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : أحيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب .
فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء؟ فانصرف أولئك الذين ذهبوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر .
فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا [إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا] ( )، فأنزل الله على نبيه [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ]( )، وإنما أوحى إليه قول الجن)( ).
لقد حمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سوق عكاظ ألوية السلم وبشارات بسط الأمن في الجزيرة العربية ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ومن الشواهد على أن آيات السلم محكمة تنفذ إلى الأسواق العامة والمجتمعات ، وترسي أسس التعايش وتقديم الإحتجاج والصلح والموادعة ليكون التبدل النوعي الذي طرأ على سوق عكاظ وأسواق العرب عامة بعد البعثة النبوية من مصاديق قوله [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
إذ تنزهت الأسواق عن الغش والتدليس والربا ، وعرض ما حرّم الله عز وجل كالخمر التي كانت تعرض في سوق عكاظ قبل الإسلام ، ولم تعد أسواق مكة مقدمة للثأر بعد انقضاء الأشهر الحرم ولا سبباً للإنتقام والتعريض بالقبائل.
لقد كان الناس يجلبون إلى أسواق مكة البضائع ويستبدلونها بغيرها ، ومنهم من يبيع ، ومنهم من يشتري ، فاستمروا على هذا الحال بعد البعثة ، ولكنهم صاروا جميعاً يحملون معهم إلى أهليهم آيات القرآن ،وإعجازها ولغة البشارة والإنذار فيها ، ومن معانيها دعوتهم لدخول الإسلام ، والإمتناع عن نصرة قريش في حربها على النبوة والتنزيل .
لبيان قانون وهو أن حروب قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم تغير من قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة لأن هذه الحرب محكوم عليها بالفشل لأمور :
الأول : خذلان عامة الناس لرؤساء الكفر من قريش ومن والاهم بسلاح التنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الثاني : إخبار آيات السلم للناس جميعاً بالتضاد بين السلم وعدوان قريش ، وقبح سفك الدماء ، وعدم وصول النوبة إليه ،.
الثالث : دخول طائفة من الناس الإسلام لتتجلى مصاديق النبوة.
الرابع : صيرورة أسواق مكة وعاء ومناسبة للدعوة إلى الله ، سواء بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو حضور بعض الصحابة أو غيرهم من الناس .
إذ صاروا يتناقلون نبأ بعثته ، ويستعرضون آيات القرآن ، ويسمعون بما فيها من العذوبة والطلاوة وهو من أسباب جريانها حتى على ألسنة الكفار ،وحلولها بديلاً لقصائد الشعر التي كانت تلقى في أسواق عكاظ ، ومجنة ، وذي المجاز .
وإذ كانت القصائد تلقى من قبل الشعراء وهم نفر وعدد من مجموع رواد هذه الأسواق ، فان آيات القرآن يستطيع أي فرد تلاوتها حراً كان أو عبداً ، وهو من الإعجاز في إتصاف السور المكية بالقصر ، وتأكيد التوحيد والوعيد ، ليكون من معاني قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ( )في المقام على شعب :
الأولى : قل هو الله أحد في أسواق مكة .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا قولوا هو الله أحد .
الثالثة : قل لكل جماعة وقبيلة في أسواق مكة هو الله أحد ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينادي في أسواق مكة بكلمة التوحيد ، وقد ورد بعدة طرق (عن طارق بن عبد الله المحاربي ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي فمر وعليه حلة حمراء .
فسمعته يقول : يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه يرميه بالحجارة قد أدمى كعبه وهو يقول : يا أيها الناس ، لا تطيعوا هذا فإنه كذاب .
فقلت : من هذا ؟ فقيل : غلام من بني عبد المطلب فلما أظهر الله الإسلام خرجنا من الربذة ومعنا ظعينة) ( ).
الرابعة : قل هو الله أحد (وأقم الصلاة لذكري ) .
الخامسة : قل هو الله أحد ليستجيب الناس إلى دعوتك .
السادسة : قل هو الله أحد كما قالها الأنبياء السابقون .
وهل تدل كلمة التوحيد على سلامة آيات السلم من النسخ ، المختار نعم لأن الله عز وجل هو الذي أنزلها ، وهي تدعو إلى التوحيد والتدبر في الخلق .
الخامس : نزول الملائكة لتعضيد ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه .
وهل كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أسواق مكة من أسباب تردد وإبطاء قريش بالفتك بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى بقى يدعو إلى الرسالة في مكة ثلاث عشرة سنة ، الجواب نعم .
ومن الأمور التي تحصل في عكاظ هي:
الأول : الإستصراخ لفك الأسير.
الثاني : سؤال الإعانة لجمع الدية.
الثالث : رجاء دفع القود.
الرابع : الشفاعة وسؤال العفو.
الخامس : القاء القصائد الشعرية .
السادس : التفاخر بالأنساب .
السابع : خطبة النساء(قال ابن الكلبي: حدثنا بعض بني الحارث بن كعب قال: اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني ومعه ابنة له من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد وعامر.
فقالت أم كلابٍ امرأة أمية بن الأسكر: من هذان الرجلان. فقال: هذا يزيد بن عبد المدان بن الديان، وهذا عامر بن الطفيل.
فقالت: أعرف بني الديان ولا أعرف عامراً.
فقال: هل سمعت بملاعب الأسنة؟ فقالت: نعم. قال: فهذا ابن أخيه. وأقبل يزيد فقال: يا أمية، أنا ابن الديان صاحب الكثيب ، ورئيس مذحج، ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنظف دماً، ويدلك راحتيه فتخرجان ذهباً.
فقال أمية: بخٍ بخٍ.
فقال عامر: جدي الأخرم، وعمي ملاعب الأسنة، وأبي فارس قرزل.
فقال أمية: بخ بخ ! مرعىً ولا كالسعدان . فأرسلها مثلاً.
فقال يزيد: يا عامر. هل تعلم شاعراً من قومي رحل بمدحةٍ إلى رجلٍ من قومك؟
قال: اللهم لا.
قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي؟ قال: اللهم نعم.
قال: فهل لكم نجم يمانٍ أو برد يمانٍ أو سيف يمانٍ أو ركن يمانٍ؟ قال لا. قال: هل ملكناكم ولم تملكونا؟ قال نعم)( ).
أي تفاخر يزيد على عامر للدلالة على ترجيحه في الخطبة ، ولأنهم في شهر حرام لم يقع بينهم تفاخر وتعد وخصومة .
ويزيد بن عبد مدان التقى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قبل إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، وأسلم هو وقومه، وكذا أسلم عامر بن الطفيل بعد أن حارب المسلمين (كان يقول ما دعاني إلى الإسلام إلا أني طعنت رجلا منهم فسمعته يقول فزت والله .
فقلت في نفسي ما فاز أليس قد قتلته حتى سألت بعد ذلك عن قوله فقالوا الشهادة فقلت فاز لعمر الله)( ).
الثامن : التبرأ من الصعلوك، وخلع القبيلة له، وقد خلعت خزاعة قيس بن منقذ في سوق عكاظ، وأشهدت أنها لا تتحمل جريرة فعله، ولا تطالب بالجناية التي تقع عليه.
التاسع : الوعظ والإرشاد في سوق عكاظ، وكانت خطب قس بن ساعدة في سوق عكاظ تتضمن الترغيب والترهيب.
العاشر : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام في سوق عكاظ , وروى اليعقوبي: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام بسوق عكاظ وعليه جبة حمراء .
فقال: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا وتنجوا، وكان يتبعه رجل يكذبه وهو عمه أبو لهب بن عبد المطلب).
الحادي عشر : التجارة التي يبعث بها ملك الحيرة والتي يبعثها وملك الغساسنة.
الثاني عشر : مجيء التجار من مصر والشام والعراق واليمن إلى عكاظ مما يعني تداول أخبار الأمم والملوك، وفيه آية إعجازية بأن القرآن نزل بين أمم وأقوام من الآفاق يرجعون إلى بلداتهم بكنوز سماوية تتألف من سور قصار تدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك والظلم والعنف وهو من مصاديق سلامة آيات السلم عن النسخ ، حيث ينشغل الناس في أسواق مكة بالبيع والشراء والتفاخر يتلو عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ] ( ) .
وهل في الآيتين أعلاه من سورة التكاثر دعوة لتعاهد آيات السلم وعدم نسخها ، الجواب نعم .
فان قلت تدل أسواق مكة على وجود حالة من السلم والأمن في الجزيرة مدة الأشهر الحرم الأربعة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, الجواب نعم , وهو من فضل الله عز وجل ومقدمات قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ على الوجه الأتم وسلامته من أذى الكفار قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
لتكون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استدامة لأحكام الأشهر الحرم واتصال الأمن في عامة أيام السنة والاثني عشر شهراَ التي تذكرها الآية أعلاه وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء , والشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ .
وعندما أشرقت شمس الإسلام على الجزيرة جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على السوق محمداً بن سفيان بن مجاشع، وكان أبوه يقضي بينهم في الجاهلية .
وهجر الناس سوق عكاظ عند خروج الحرورية بمكة سنة129 خشية من حال النهب والقتل التي أشاعوها في الموسم.
وعن ابن عباس: أن الناس في أوّل الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج ، فخافوا البيع وهم حرم ، فانزل الله(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج) فحدث عبيد بن عمير أنه كان يقرأها في المصحف)( ).
أي إضافة (في مواسم الحج ) , والمدار على المرسوم في المصاحف .
ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سوق عكاظ للتجارة والمضاربة بمال خديجة مثلاً ، إنما خرج بـ [تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ) بالدعوة إلى الله ، وتلاوة آيات القرآن ، وحض الناس على التصديق برسالته ، والإمتناع عن نصرة قريش إذا شنوا الحرب عليه بعد الهجرة لأن خروجه إلى السوق كان بالوحي ، وهو من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السلم والوئام .
هذه الدعوة التي صاحبته إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى ، وفيه حضّ للمسلمين لتعاهد آيات السلم ، وإخبار بأنها سالمة من النسخ بلحاظ أن السنة القولية والفعلية في المقام حجة .
قانون تعضيد النبي (ص) للقرآن
لقد تفضل الله عز وجل واختار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة الخاتمة والتبليغ ، وأنزل عليه القرآن وهو كلام الله الذي يتضمن الأحكام الشرعية ، ويبين كلاً من صفات الحياة الدنيا والآخرة ، والملازمة والترابط بينهما.
لقد أراد الله عز وجل للقرآن وأوامره ونواهيه أن تبقى بين الناس إلى يوم القيامة ، فتفضل الله وجعل جنوداً لتثبيت واستدامة هذا البقاء ، وليس من حصر لأفراد هؤلاء الجنود ، كما أنهم لا ينحصرون بجنس البشر، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ]( )، ومنها لواء النبوة ، من أيام أبينا آدم وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن القول بقانون وهو أن كل نبي من الأنبياء، يدعو للعمل بمضامين التنزيل القدسية , ويبشر ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحمل لواء الهدى والسلم إلى الناس ،ولكن لاقوه الكفار بالسيوف والنبال والرماح والحجارة لإرادة قتله وإيقاف نزول آيات القرآن ، ولم يعلموا أن نزول القرآن على نحو التدريج والنجوم من أسباب عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، إذ أبى الله عز وجل إلا أن يتم نزوله عليه خاصة ولا ينزل على غيره من بعده ، وفي التنزيل [قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ولو تنزلنا وقلنا هل يمكن أن ينزل القرآن على غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو قُتل ولم يتم نزول آياته وسوره ، الجواب لا , لأنه خاتم النبيين , ولدبّ التحريف إلى القرآن ، وحدثت الفتن ، وربما لم يحصل التقيد التام بالعمل بأحكامه ، فتفضل الله عز وجل على الناس وعلى التنزيل بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل إلا أن تم نزول آيات القرآن وأخبر الله سبحانه [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
وفيه شاهد على حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه والمسلمين إلى السلم ، وصرف ما هو ضده من الحروب والإقتتال بلحاظ أن تمام نزول آيات القرآن رحمة عامة وكل آية كنز للعلوم ، فان قيل إن آية السيف وهي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، من سورة التوبة وهي آخر سور القرآن نزولاً فهل يدل على التأخر الزماني في النزول على كونها ناسخة ، الجواب لا ، لإنحصار موضوعها مكاناً وزماناً واشخاصاً ، أما آيات السلم فهي حاكمة ونافذة قبل وبعد نزول آية السيف وإلى يوم القيامة .
لقد توجه موسى عليه السلام الى الله عز وجل بالدعاء وسؤال نصرته باخيه هارون كما ورد في التنزيل [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي]( ) .
وألح موسى بالدعاء مع التضرع وإظهار الضعف والفاقة وأسباب الحاجة إلى التعضيد ، كما ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ]( ).
وورد قوله تعالى [وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
ولم يسأل موسى عليه السلام النبوة لهارون ، ولكن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم ليكون من مصاديق قوله تعالى [قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى]( )، قد أستجيب لك وزيادة عظيمة ، وفيه نكتة وهي دعوة المسلمين للدعاء ورجاء الإستجابة من الله مع فضل عظيم أكبر من موضوع السؤال وليكون من معاني قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، أي أدعوني استجب لكم في ذات موضوع الدعاء وفي غيره مما تعلمون ومما لا تعلمون .
ولم يبعث الله مع النبي محمد نبياً آخر إنما بعثه الله على فترة من الرسل، نحو ستمائة سنة بين رسالة عيسى عليه السلام ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها نبي.
وفيه إعجاز من عالم التكوين وأن قدرة الله عز وجل حاضرة بين الناس ، فالذي يدعي النبوة في تلك الفترة يتم تكذيبه ، ويفتضح بطلان أمره خاصة وأن الله عز وجل جعل المعجزة مصاحبة للنبوة.
ويمكن انشاء قانون وهو (قانون الإستجابة بأكبر من السؤال).
وفيه شاهد على أن الله عز وجل يتفضل بضبط أمور الحياة الدنيا ، وشؤون وأحوال الناس , بما فيه صلاحهم ونفعهم ، ولو دار الأمر بين الحرب والسلم في المقام فان السلم سبيل الصلاح والنفع إلا عند الضرورة وإصرار الكفار على القتال وفعل المعاصي .
فكانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية تعضيداً للقرآن في أحكامه وسننه والغايات الحميدة من تنزيله وهذا التعضيد من رشحات الوحي ، أي أن الله عز وجل يوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقيام بتعضيد القرآن , ومنه البيان والحكمة والحلم والرفق بالناس ، وهل تفسيره للقرآن( ) من هذا التعضيد .
الجواب نعم ، وهو تأسيس لمناهج وعلوم التفسير ، وبرزخ دون تجاوز الحد فيها , قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وهل من التعدي في الآية أعلاه القول بنسخ آيات السلم والعفو والصفح من غير دليل الجواب لا ،وربما يغلق هذا القول أبواباً للصلح والسلم ، ويضرم نار الحرب ، والمناجاة فيها ولكن لا يترتب عليه أثر كبير في الواقع ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، لبيان اللطف الإلهي في النبوة وانتفاع الناس جميعاً منه.
والجنح إلى السلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ويكون من طرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أضعاف جنح وميل الكفار له.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، قال : هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات تنزل من السماء كل غداة أو عشية ما يصيب الإِنسان في ذلك اليوم أو الليلة الذي يقتل ، والذي يغرق والذي يقع من فوق بيت ، والذي يتردى من فوق جبل ، والذي يقع في بئر ، والذي يحرق بالنار ، فيحفظون عليه ذلك كله .
فإذا كان العشي صعدوا به إلى السماء فيجدونه كما في السماء مكتوباً في الذكر الحكيم( ).
وليس من تزاحم أو تعارض بين كل من قانون تعضيد القرآن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقانون تعضيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
وهو من مصاديق تعدد النعم على الناس وعمومات قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، وهل يدل قوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( )، على سعيهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول القرآن وإقامة الصلاة .
الجواب نعم , وهو من إعجاز القرآن بذكر الموضوع الأعم ، وكيف أن قريشاً أرادوا السعي إلى غاياتهم الخبيثة بطرق متعددة منها الحرب والقتال والغيلة والإغتيال ، فجاء الإسلام بالسلام والعفو والصفح.
لأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل وهو الذي يهدي الناس إلى سبل الإيمان ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وفي قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ]( ).
قال قتادة والسدّي : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والمشقّة (والحر والبرد) وضيق العيش،
وأنواع الأذى كما قال : {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}( ) وقيل : أنها نزلت في حرب اُحد ونظيرها في آل عمران.
وقال : إنّ عبد الله بن أُبي وأصحابه قالو لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلى متى تقتلون أنفسكم ولا تملكون أموالكم ، ولو كان محمد نبيّاً لما سلّط عليه الأسر والقتل ، فقالوا : لا جرم أنّ من قُتل منّا دخل الجنّة ، فقالوا : إلى متى تمنون أنفسكم الباطل (وقد استمعتم) إلى هذه الآية( ).
ويمكن أن نؤسس قانوناً وهو لو دار الأمر بين إنتفاع أجيال المسلمين من مضامين الآية القرآنية وبين القول بأنها منسوخة يقدم الأول .
ومن الآيات ما ذكر أنها ناسخة ومنسوخة كما في قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( )، ونسخت قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]( ).
التي تبيح قتل المشركين في الحل والحرم , ثم نسخت آية السيف قوله تعالى[وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
ولكن الآية أعلاه محكمة فلا يجوز الإبتداء بالقتال في الحرم .
وتدخل أداة التعريف (أل) على الاسم فتعطي معاني ودلائل خاصة ، ويسمى في إصطلاح النحو المعرف بـ(أل) أو المحلى بـ (أل) وينقسم إلى قسمين :
الأول : اللام العهدية أو لام العهد ، وهي على شعب منها :
الشعبة الأولى : لام العهد الذكري والتي يتقدم للمعرف بها ذكر في الكلام ، والضابطة فيها جواز إتيان الضمير بدلاً عنها ، وقد يكون المعهود في الذكر مذكوراً باللفظ وصراحة ، أو أنه مذكور كناية ، ومن ذكره باللفظ قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً]( ) وقد ورد لفظ [رَسُولاً] في الآية مرتين :
الأولى : المراد به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,
الثانية : المراد به موسى عليه السلام بقرينة ذكر فرعون وأن موضوعه ورد للتشبيه ، وفيه نكتة : وهي بيان علو منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنبياء ، فقد ذكرت الآية النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول وشاهد على الناس ، بينما ذكرت موسى بأنه رسول إلى فرعون ، وإن كان اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
فقد أرسل الله عز وجل موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، ولابد من وجود شبه في المقام منها أن طغاة قريش كانوا كفرعون ، ويدل عليه تجهيزهم الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن وجوه الشبه أن كلاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموسى عليه السلام يدعوان إلى السلم ونبذ العنف ومحاربة الشرك ودفع أربابه عن الإستيلاء على الرياسة ، لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنشر لواء الإيمان والسلام ، قال تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
الشعبة الثانية : العهد الذهني ويسمى أيضاً العهد العلمي ، وهو معهود وحاضر بالوجود الذهني فينصرف الذهن له بأصالة التبادر ، كما لو قلت (الجائحة) فيتبادر إلى الذهن في هذه الأيام مرض كورونا ، بينما كان لها معنى آخر في أزمنة سابقة ، وتكون لها معان أخرى في أزمنة لاحقة إلا ان يتفضل الله عز وجل ، ويعصم الأرض وأهلها من الجائحة والوباء العام .
الثاني : لام الجنس , التي تشمل عامة أفراد الجنس مثل (الناس ) والألف واللام المتعددة في سجود الخلائق لله ، قال تعالى [وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ]( ).
لقد وردت لام الجنس في قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ) للحسن الذاتي للسلم ، ولأنه خير ويترشح عنه النفع ، ومنه استقرار المجتمعات ، ونشاط التجارات ، والتدبر العام في الآيات الكونية ، وأداء الفرائض العبادية .
قانون التوحيد سلام
لقد أبى عز وجل إلى أن تكون حكمته هي العليا وأن تكون هناك أمم في كل يوم من أيام الدنيا تعبده ، وتقر بالوحدانية له سبحانه ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ] ( ).
لذا فان آيات السلم من مقدمات العبادة ، ولا يضر العمل بها النبوة والتنزيل والعبادة في الأرض ، وفيها الأجر والثواب ، وهو من الشواهد على عدم نسخها ، ويبين قوله تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] ( ) بالدلالة الإلتزامية سلامة آيات السلم والصلح من النسخ لأن أصل وظيفة الأنبياء التبليغ والدعوة إلى الله عز وجل .
ولكن مشركي قريش وحلفاءهم أصروا على محاربته وقتاله وإرادة قتله وأصحابه .
وما أن يميلوا إلى الصلح أو يوقفوا التعدي والهجوم حتى يكف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، فهو في شغل عنهم بحمله لواء التوحيد في حال السلم والإقامة والحضر بأقامة الصلاة وتلاوة آيات القرآن ، والدعوة إلى الأخلاق الحميدة .
لقد نزل القرآن بأمور :
الأول : توحيد الربوبية لله عز وجل الخلائق كلها ، والإخبار عن إنفراد الله عز وجل بها ، وهو مما تقبله العقول والأرواح والنفوس والأركان ، وصيغة الإطلاق هذه من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) ليكون التوحيد منبثاً في كل جزء من الإنسان ، وهو من أسرار عجز الناس عن معرفة كنه الروح الإنسانية.
وهل يصح تقدير الآية أعلاه : ونفخ في روح آدم من روحه ، الجواب نعم والآية أعم ، لذا وردت الظرفية بما يفيد عموم الإنسان بقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ] ولم تكن عند النفخ روح في آدم بدلالة ذات الآية أعلاه ، ومعنى سواه خلقه سويا بهيئته كانسان وكمّل له أعضاءه وأصلحه لأن يكون [فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ).
والروح في المقام من جنس الريح ، وجاء تعليم الله للملائكة بعد نفخ الروح ، ثم كان سجود الملائكة له بعد أن علمهم آدم تلك الأسماء ومناسبتها للمسميات ، ولابد من أصل ارتكز إليه الملائكة في تصديق إخبار آدم عن الأسماء فهو ليس من باب تذكيرهم بما نسوه ، فهذه الأسماء علم مستحدث بالنسبة لهم .
وهل هذا الأصل هو وجود آدم عليه السلام في الجنة ، ومن خصائص أهل الجنة الصدق وعدم الكذب ، الجواب لا ، لأن إبليس كان مع الملائكة في الجنة ، وأمتنع عن السجود لآدم ، قال [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا] ( ).
والمختار أن الله عز وجل شهد لآدم بصدق هذه الأسماء التي علمها للملائكة .
ومن مصاديق توحيد الربوبية لزوم إتخاذ الناس السلم أصلاً في العبادات والمعاملات والأحكام ، وهو من الشواهد على عصمة آيات السلم من النسخ .
الثاني : توحيد الإلوهية ، فالله سبحانه هو الإله في الأرض وفي السماء ، وفي الدنيا وفي الآخرة .
والإله فعّال بمعنى المألوه أي المعبود ، والتأله : النسل .
وقيل أصل الإله مأخوذ من آله : إذا تحير .
(وتقول: أَلِهَ يَأْلَهُ أَلَهاً، أي تَحَيَّرَ؛ وأصله وَلِهَ يَؤْلَهُ وَلَهاً.
وقد ألِهْتُ على فلانٍ، أي اشتدَّ جزعي عليه، مثل ولِهْتُ.) ( ).
ولكنه بعيد ، لأن لفظ الإله يتعلق بالذات المقدسة ،وليس في خصوص عبادة الناس ، قال تعالى [مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ..] ( ).
والنسبة بين التوحيد لله والسلام هو العموم والخصوص المطلق ، ومن أسماء الله الحسنى (السلام) وفيه شاهد على سلامة آيات السلم من النسخ والتبديل .
وقد ورد هذا الاسم مرة واحدة في القرآن ، ولكنه ورد كثيراً في السنة النبوية ، منه ما ورد (عن ثوبان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً ثم قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإِكرام) ( ) .
و(عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض ، فافشوا السلام بينكم) ( ).
ومن خصائص اسم السلام حضوره في حال السلم والحرب فهودعوة للناس لتثبيت واستدامة السلم ، أما في حال الحرب فانه يدعو المسلمين وأهل الكتاب والكفار إلى الحوار والسلم ووقف القتال ، وهل له أثر وموضوعية في تحقيق السلام ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ).
الثالث : دلالة الصفات والأسماء الحسنى على الربوبية المطلقة لله عز وجل , قال تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) .
لقد سخط كفار قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسل لأنه جاء بالتوحيد وحرمة عبادة الأصنام ، وكيف أنها تقود إلى النار واغتاظوا لأن معنى الإستصحاب القهقري في المقام الذم لآبائهم لأنهم ماتوا على عبادتها.
وهذا الإخبار النبوي من الوحي ، وهو سلم محض ، وفيه دعوة إلى السلم، ولكن المشركين استكبروا، ولم يقفوا عند حد الإستكبار والعناد ، إنما جهزوا الجيوش وانفقوا الأموال في محاربة إمام السلم ورائد السلام ، خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فان قلت من أين لهم الأموال الكثيرة التي تلزم لقتال النبوة والتنزيل ، الجواب مما رزقهم الله عز وجل بجوارهم للبيت الحرام ، وإنتسابهم لإبراهيم عليه السلام إذ أن قريشاً من ذريته ، فلم يتعاهدوا هذه النسبة ، وأخبر الله عز وجل عن هذه الحقيقة بمفهوم خطابه للمسلمين من العرب والعجم ، قال تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ..]( ).
فصار الملاك والنسبة على الإيمان ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) إخوة في نسبتهم إلى إبراهيم بشخصه ونبوته والحنيفية التي جاء بها وتوحيده الإلهية لله عز وجل ، وأدائه المناسك من غير إنكار ونفي لنسب قريش وأهم من ذرية إبراهيم .
وورد عن ابن عباس أنه قال (وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها.
فقال : يا معشر قريش واللَّه لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام.
فقالت له قريش : يا محمَّد إنَّا نعبدها حبَّاً لله، ليقرّبونا إلى الله زلفى.
فقال الله تعالى : قل يا محمّد إنْ كنتم تحبّون الله وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فاتبعوني يحببكم اللَّه، وأنا رسوله إليكم وحجتَّه عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام) ( ).
لقد حجب المشركون عن أنفسهم الإنتفاع من ثروة هذا الإنتساب ، بل وسخّروه في المعاصي ومحاربة النبوة والتنزيل ، ومنهم أبولهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
اسم الجلالة سلام
من إعجاز آية البحث ابتداؤها باسم الجلالة (الله) وهو أعظم الأسماء , وبه تنزل الرحمة ويصرف البلاء وتدفع الكربات .
هو الاسم الذي تنجذب إليه قلوب الناس طوعاَ وإنطباقاَ وقهراَ , ومن إعجاز القرآن ورود اسم الجلالة (2699) في خمس وثمانين سورة .
وقد يقول قائل لماذا لم تكن (2700) مرة .
والجواب لبيان الإعجاز الأهم في المقام وهو أن هذا العدد مع كبره فهو عدد أولي لا يقبل القسمة إلا على نفسه , ولا يقبل اسم (الله) التثنية أو الجمع .
والألف واللام في الله عز وجل حروف أصلية أي أنها من حروف ذات اسم الجلالة , فلا يمكن حذف أي حرف منها لتقيد المعنى معه وصيغ اسم الله في القرآن من جهة الإعراب وحركته على سبعة وجوه وهي :
الأول : الله : ورد في القرآن (2395) مرة في حال رفع ونصب وجر .
ويبدأ القرآن بقوله تعالى [بسم الله الرحمن الرحيم] ( ) وبدأت سورة باسم (الرحمن) قال تعالى [الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنسَانَ] ( ) وتضمنت سورة المجادلة صفة خاصة وهي ورود اسم (الجلالة) في كل آية منها , وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية .
واختتمت سورة واحدة باسم الجلالة وهو سورة الإنفطار بقوله تعالى[يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ] ( ).
وكذا بالنسبة لعدد أسماء الله الحسنى فهو (99) أسماً (عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة) ( ).
وأيهما ورد أكثر في القرآن اسم الجلالة أم أسماء الله الحسنى مجتمعة .
إذ ورد اسم الرب نحو (978) مرة في القرآن ، وهو أكثر الأسماء الحسنى عددا في القرآن بعد اسم الجلالة ، ولكن الفارق بينهما كثير ، فورد اسم الجلالة نحو ثلاثة أضعاف اسم الرب ، ومنه قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ] ( ) .
والأظهر أن اسم الجلالة هو الأكثر ، وهو من إعجاز القرآن ، وفيه دلالة على موضوعية اسم الجلالة ومنافعه في النشأتين .
الثاني : (لله) جار ومجرور (143) مرة .
الثالث : (بالله) وردت في القرآن (139) مرة .
الرابع : (تالله) وردت في القرآن (9) مرات.
الخامس : (فالله) وردت ست مرات .
السادس : (فلله) وردت (6) مرات.
السابع : (أبالله) وردت في القرآن مرة واحدة ، قال تعالى [قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ]( ).
وآيات القرآن بلحاظ ذكر اسم الله على قسمين :
الأول : آيات ذكر فيها اسم الله عز وجل وهي على شعب متعددة منها ما ذكر فيها اسم الله مرة واحدة ، مرتين ، ثلاثة ، أربعة ، وخمسة كما في قوله تعالى [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
وكذا قوله تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ] ( ) .
وآية واحدة ورد فيها اسم الجلالة ست مرات وهي آية الدين التي هي أطول آية من القرآن ، ومع طول الآية وكثرة عدد كلماتها وهو (129 كلمة ).
وعدد حروفها (551) حرفاً فان ثلاث مرات لاسم الجلالة ورد في خاتمة الآية بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) وهذه الآية من سورة البقرة وهي آية مدنية ومن آيات الأحكام لبيان حضور فضل الله عز وجل في المعاملات للسلم والأمن والوقاية من الظلم والتعدي .
وهل آية الدين ونحوها من الشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ ، الجواب نعم لأن حال السلم وعاء ومناسبة للسلم المجتمعي والتجارات، ونفاذ أحكام القضاء والعدل .
وآية واحدة ورد فيها اسم الله سبع مرات وهي آخر آية من سورة المزمل وهو قوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) وسورة المزمل مكية لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الكفار بنزول الآيات التي يكثر فيها اسم الله عز وجل ، وفضح الرؤساء الذين يتمسكون بالتزلف إليها .
وأول آية ذكر فيها اسم الله هي البسملة ، وهناك آيات ابتدأت باسم الجلالة وعددها (34) آية ، وأول آية ابتدأت باسم الله في القرآن هي [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( ) أخرها وفق نظم القرآن [اللَّهُ الصَّمَدُ] ( ).
وهي آخر ذكر لاسم الجلالة في القرآن وفق نظم المصحف وما بين الدفتين .
قانون من الإيمان تعاهد السلم
وهل يحب الله سبحانه الذين يختارون السلم منهاجاً إيمانياً ، الجواب نعم.
فمن شروط الحب الإلهي إختيار السلم من مقامات الإيمان ،لبيان قانون (السلم حاجة للناس ) مما يترشح عنه سلامة آيات السلم والموادعة من النسخ لتقوم استدامة الحياة الدنيا وأداء الفرائض العبادية بالسلم والصلح ونبذ الحرب وصيغ العنف والكراهية .
ترى ما المراد من لفظ (ادخلوا) في الآية مع أن المتبادر من الدخول هو الدخول إلى مكان وموضع ، الجواب من وجوه :
الأول : بيان قانون وهو السلم وعاء عام يسع أهل الأرض .
الثاني : قانون السلم محبوب وحسن ذاتاً ، وقد هدى الله المسلمين اليه.
الثالث : ادخلوا في السلم أي اسعوا في سبله واقبلوا بالصلح والموادعة مع أي فئة من الناس ، فان المعجزة سبيل ووسيلة للهدى .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا السلم فيما بينكم ولا تتقاتلوا ، ففي السلم قوة وعزكم ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ) .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع (ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم)( ).
الخامس : من الفقاهة في الدين السعي في مسالك السلم ، ودفع أسباب القتال والحرب.
السادس : تقدير الآية على جهات :
الأولى : يا أيها المسلمون والمسلمات لا يتخلف أحدكم عن السلم.
الثانية : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة وإن كان فيه تنازل عن بعض الحقوق ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل هو الكفيل بعودة هذه الحقوق مع الزيادة فيها ، فحينما أمر الله عز وجل المسلمين جميعاً بالسلم فانه تعالى ضمن لهم ما يتحقق بالقتال والحرب أيضاً من غير أن يرفعوا السيوف وتسيل الدماء ، وهذا الوعد من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، فان الله عز وجل يبلغ الأنبياء والمؤمنين غاياتهم الحميدة بالسلم.
الثالثة : من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، يمحو الله عز وجل الإقتتال وسفك الدماء ويثبت السلم ، ومن هذا الإثبات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة فان الناس تبع لكم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فمن الرحمة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تغشي مفاهيم السلم عامة الناس ، ونبذ القتال بين أهل الملل المختلفة.
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة فهو فتح ويأتي بالفتح.
السادسة : ادخلوا في السلم كافة فهو مناسبة للتدبر في آيات القرآن ، والتفقه في الدين .
السابعة : ادخلوا في السلم كافة والله عز وجل هو السلام الذي [يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ] ( ) فلابد من التحلي بالسلم.
الثامنة : ادخلوا في السلم كافة ليتخلى الأتباع عن رؤساء الشرك وهو الذي تجلى في فتح مكة ، وهو من معجزات صلح الحديبية وتسميته من عند الله بالفتح المبين .
فحينما رآى أهل مكة والقبائل حرص النبي على السلم ، وقبوله الصلح في الحديبية مع إصرارهم على رده وأصحابه للعودة إلى المدينة من غير أداء مناسك العمرة استهجن الناس عناد واستكبار الكفار وعزفوا عنهم ، وهذه العودة إلى المدينة بعد صلح الحديبية من غير أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأداء مناسك العمرة من تعاهد السلم بالإيمان ، وهل كتب الله لهم أداء العمرة مع صدّ الكفار لهم ، المختار نعم ، ففي السلم بركة وأجر وثواب ، وصرف للضرر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) .
بحث فلسفي الإستنباط والإستقراء
الإستنباط لغة : الإستخراج ، يقال (نَبَطَ الماءُ يَنْبِطُ ويَنْبُطُ نُبوطاً: نَبَعَ. وأنْبَطَ الحَفَّارُ: بلَغَ الماءَ)( ).
والإستنباط التوصل الى الأمر بدراية من غير سماع ، وقد يستلزم الإستنباط الفطنة ، وقوة القريحة ، والغوص في المسائل .
والإستنباط في الفلسفة هو استدلال يتصف بأمور :
الأول : الإستنباط من مصاديق البرهان وليس التجربة .
الثاني : اتخاذ العام هو الأصل والمنطلق .
الثالث : جعل الخاص غاية ومنتهى .
الرابع : الإنتقال من العام إلى الخاص للتوصل إلى نتيجة يقينية مثل :
الكبرى : التنزيل من الله .
الصغرى : القرآن تنزيل .
النتيجة : القرآن من الله .
الخامس : مساواة النهاية للمقدمة أو تكون أصغر منها ومن مصاديقها العامة.
السادس : الإستنباط تفكر وتدبر في الحقائق .
وقد يجتمع الإستنباط والإستقراء فيكون الإستنباط مما استقرأ من آيات القرآن وقصصه وأمثاله أو من العلوم أو من كلام العرب.
أما الإستقراء لغة فهو التتبع والجمع ، مأخوذ من الفعل الثلاثي (قرأ) الذي يفيد معنى الجمع والضم .
وهو في الإصطلاح الفلسفي انتقال الفكر بتدبر من الوقائع والأحداث إلى القواعد والقوانين ، فهو إنطلاق من المقدمات إلى الكليات والنهايات من جهات :
الأول : تعيين الموضوع أو الحكم .
الثاني : استحضار الإحتمالات الممكنة .
الثالث : طرح الإحتمالات المرجوحة والبعيدة وفق تنقيح المناط.
الرابع : جمع الأدلة والبيانات ، وفي تفسير الآية القرآنية استحضار الآيات في ذات الموضوع والأحاديث والسنة الفعلية الكاشفة .
الخامس : تصنيف وترتيب الحجج والبراهين.
السادس : استقراء نتيجة بما يفيد التعيين والوضوح.
ويرد لفظ الإستنباط والإستقراء في تفسيرنا تارة بمعناه اللغوي أو الفلسفي لسعة علوم القرآن وكونها أعم من القواعد النحوية والفلسفية .
ويجعل منهاج المنطق القديم الإستدلال بالإستقراء بقوس صعود وخط معاكس للإستدلال بالإستنباط الذي يسير من الكليات إلى الجزئيات .
والآية القرآنية قانون كلي تتفرع عنه مسائل وجزئيات مباركة إلى يوم القيامة ، ومنها آيات السلم فهي محكمة إذ يطل على المسلمين والمسلمات كل يوم [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) بصيغة الأمر الذي يحمل في الأصل على الوجوب .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه وسلامة آيات السلم من النسخ إمكان الإستنباط والإستقراء من هذه الآية ، فالسلم الخاص طريق إلى التعايش المجتمعي ، وإلى بيان قواعد الشريعة ، والسلم العام سكينة للنفوس ،وعمارة للمدن والقرى ، ومناسبة للتدبر والتفكر في عالم المخلوقات .
قانون تقدم المواطنة على الجزية
وحب الوطن والإلتفات العملي إلى قانون التراحم بلحاظ أخوة المواطنة وما تمليه من مفاهيم المودة والتعاون وإجتناب الإضرار بالغير من الفطرة وسبل الصلاح والسلام ، وهل تشمل قاعدة (لاضرر ولا ضرار) هذه الأخوة أم أنها خاصة بالمسلمين ، الجواب هو الأول .
ولان درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، وقيل إن كانت المصلحة هي الراجحة فتقدم على المفسدة المرجوحة.
وورد عن أبي أمامة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة)( ).
وظهر في هذا الزمان اصطلاح المواطنة ، وهو اشتراك مجموع الأفراد بالحقوق والواجبات على أساس الإنتماء للأرض والوطن وإن اختلفت العقيدة والمذهب والقومية ، فلم يعد الإنتساب إلى الدين أو القومية هو الرابط الوحيد بين الناس ، ولم يرق حق المواطنة إلى المساواة إلا بعد مخاض وعقود ، ولا يزال التمييز في بعض الدول ظاهراً .
ومن خصائص السنة النبوية تجلي معاني المواطنة والحقوق في المدينة ، وعقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العهود والموادعة مع اليهود الذين يسكنون المدينة ، وأجرى وأصحابه المعاملات التجارية الشخصية معهم من بيع وشراء واقتراض لإعطاء رسالة للصحابة بالتعايش المجتمعي ، وتنشيط الأسواق ، وعدم حجب الرزق عن غير المسلم ، ولم يكن في المدينة جزية على غير المسلمين ، وليس من إكراه للكتابي على ترك دينه ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ).
وما الجزية إلا نوع ضريبة قليلة للدولة وهي مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية والمرابطة في الثغور ، ودخول المعارك والقتال ، وإذ انشغل المسلمون بالدفاع فان أهل الكتاب تزدهر تجارتهم وتنشط اسواقهم وتتضاعف أرباحهم لخلو السوق لهم ، لذا تأتي الجزية كإنصاف ومنع للفتنة والإقتتال ، إذ كان أهل الكتاب يغبطون على حالهم بعدم السوق إلى ملاقاة المشركين ، ولأهل الكتاب في المقام نفع في تيسير شؤون المجتمع ، وسد الثغرات في سوق العمل والأيدي العاملة ، والتنمية مدة الدفاع ، وضريبة الجزية هذه سبب لاستمرار أهل الكتاب في تجارتهم .
وهناك قيود عديدة وتخفيف كبير عن أهل الكتاب في الجزية منه:
الأول : ليس على الرهبان والأساقفة أو من لبس الصوف أو اقام في صومعة أو موضع معتزل أو جبل جزية أو خراج ، وفيه شاهد على حرية الفكر ، ونشر مبادئ وأحكام أهل الكتاب في دولة الإسلام .
الثاني : ليس من جزية على السائح والمسافر وغير المقيم في البلد.
الثالث : مقدار الجزية ديناران على المكلف البالغ العائل ، وقيل أربعة دراهم في كل سنة أو ثوب حبرة .
الرابع : الجزية إعانة للمسلمين في دفاعهم عن أهل الكتاب فلو دخل مشركو قريش وحلفاؤهم المدينة في معركة أحد أو الخندق أو غيرهما فانهم لا يفرقون بين المسلم والمنافق والكتابي ، ولتعرضت أموال اليهود للنهب والسلب وعوائلهم للسبي .
الخامس : إذا زادت تجارة الكتابي لا تزيد عليه الجزية ، وفيه منع من تقييد التجارات ، وشاهد على إنتفاء الحسد في التشريع .
السادس : ليس من جزية وخراج على الذي ليس عنده ميراث في الأرض وزراعات أو تجارات .
السابع : عدم تكليف الكتابي جزية أو خراجاً بما يشق عليه ، ولقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ولعمومات قاعدة لا ضرر ولا ضرار .
الثامن : عدم تكليف أهل الذمة بملاقاة المشركين عند الحروب ، إنما يدافع عنهم المسلمون .
التاسع : لا يكره الذمي على تجهيز أحد المسلمين إلى الدفاع بالسلاح أو الخيل إلا أن يتبرع تبرعاً فيعرف به ، ويثنى عليه ، ويكافئ به .
العاشر : من معاني الجزية عدم إكراه الكتابي على الإسلام ، ومما يدل عليه وقوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) .
الحادي عشر : صرف المسلمين الأذى عن الكتابي ، والذب عنه والغرم على جريرته ، والسعي في الصلح بينه وبين غيره ، ولا يُخلى بينه وبين خصمه ، فمن معاني الذمة العهد بأن له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم .
الثاني عشر : عدم إعانة الكتابي المشركين أو مظاهرتهم على المسلمين ، أو صيرورته عيناً لهم ، أو رفادتهم في الحرب .
الثالث عشر : ضيافة المسلمين ثلاثة أيام .
الرابع عشر : لا يجوز ضرب الكتابي بسبب التخلف عن الجزية ، قال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
(عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
[ من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ]) ( ).
وعن إسماعيل بن مهاجر عن رجل من ثقيف قال : (استعملني علي بن أبي طالب عليه السلام على بانقيا وسواد من سواد الكوفة، فقال لي والناس حضور: انظر خراجك فجد فيه، ولا تترك منه درهما.
وإذا أردت أن تتوجه إلى عملك فمر بي، فأتيته فقال لي: إن الذي سمعت مني خدعة، إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو) ( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة ، إذ كانت وصايا وكتب الإمام علي عليه السلام إلى عماله واضحة وجلية ، ثم أن النهي عن ضرب أحد على الخراج أمر ظاهر ، ومن معاني قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ] ( )ما سهل وزاد وفضل من المال ، وما أمر الله عز وجل به لا يخفيه الإمام علي عليه السلام عن الناس.
والمراد من العفو الزائد عن حاجتهم ، ليدل الأمر بالدلالة التضمنية على عدم أخذ الجزية من الذي ليس عنده ما زاد عن مؤونته السنوية .
وضريبة الجزية على اليهود والنصارى والمجوس، وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاذاً عندما بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل حالم ديناراً في السنة وذهب إليه الشافعية ، وأختلفت المذاهب في تقدير الجزية أو عدمه ، وإلى الأخير ذهب المالكية ، وجعلها الحنيفية على ثلاث فئات بحسب حال الغنى أو الفقر ، وقال الشيخ الطوسي ت 460 هجرية : الجزية لا تتم إلا بالتراضي .
الخامس عشر : تسقط الجزية عن الذي يشارك في الدفاع ومنه عهد سراقة بن عمرو عامل عمر بن الخطاب لـ (شهر براز ) مرزبان مدينة باب الأبواب الذي طلب أن يعفى من الجزية ولا يذل بها فقبل سراقة قوله فيما يخصه وجميع من معه وآمنه وقال له (ولا بدّ من الجزاء ممّن يقيم ولا ينهض. فقبل ذلك، وصار سنّة فيمن كان يحارب العدوّ من المشركين، وفيمن لم يكن عنده الجزاء، إلاّ أن يستنفروا فتوضع عنهم جزاء تلك السنة. وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب بذلك، فأجازه وحسّنه) ( ).
كما جاء في ميثاق نصارى نجران (وَلَا يُحْشَرُونَ وَلَا يُعْشَرُونَ وَلَا يَطَأُ أَرْضَهُمْ جَيْشٌ وَمَنْ سَأَلَ مِنْهُمْ حَقّا فَبَيْنَهُمْ النّصْفُ غَيْرَ ظَالِمِينَ وَلَا مَظْلُومِينَ) ( ) أي لا يخرجون في الدفاع والتعبئة العامة ، فليس على أهل الكتاب قتال .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يُظهر التسامح مع أهل الكتاب ويستجيب لشروطهم ، ويصغي لمسائلهم ، ويكتب معهم العهود ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ).
أما المشركون فلم يتسامح مع شروطهم في الكفر والضلالة , فحينما جاء وفد ثقيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألوه أن يمتعهم بالصنم اللات سنة ، وأن يكون واديهم حراماً مثل حرمة مكة وشجرها وطيرها ، فأبى عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحوا في المسائل وسألوه أن يعفيهم من السجود ، فنزل قوله تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ..] ( ).
ولم تعد مسألة الجزية إبتلائية في هذا الزمان فقد سادت مفاهيم المواطنة والدستور وحكم القانون الوضعي والتساوي في الواجبات والحقوق بين عامة أفراد الشعب سواء في البلاد الإسلامية أو غيرها.
فكما انقطعت مسألة العبيد ، ولم تعد الكفارة عتق العبد ، كما في قوله تعالى [فَكُّ رَقَبَةٍ] ( ) فكذا فان حكم الجزية لم يكن له وجود في هذا الزمان لأنها كانت (ضريبة الدفاع ) وبدل الإعفاء عن الخدمة.
لأن كل مواطن ينهض في الدفاع وتشمله أحكام الخدمة العسكرية الإلزامية أو غيرها .
والجزية ليست ابتداعاً في الإسلام ، فقد جاءت بها الأمم السابقة ، فمثلاً فرضها أهل أثينا على سكان سواحل أسيا الصغرى في القرن الخامس قبل الميلاد تقريباً لقاء الذب عنهم وحمايتهم من هجمات الفينيقيين ، فاستجابوا لدفع الجزية مقابل الأمان .
وفرضها الرومان على الشعوب التي اخضعوها ، وكانت تؤخذ من الأشراف والخدم والعبيد بمقادير مختلفة .
كما ان ملوك الفرس يأخذون الجزية من أهل مملكتهم ما عدا طوائف الرؤساء والجند .
ولم يأخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجزية من يهود المدينة لبيان عمله بقواعد المواطنة قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة .
وهل أنظمة وقواعد المواطنة من آيات السلم ، الجواب نعم لبيان جريان أحكامها في المجتمعات والأجيال المتعاقبة ، وهو من الشواهد على سلامتها من النسخ .
من ميثاق المدينة
ميثاق المدينة الذي كتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول قانون للمواطنة في الجزيرة وقد عقده بين المهاجرين والأنصار مع موادعة اليهود منه ويعرف باسم (الصحيفة ) أو (صحيفة المدينة ) لتنظيم الصلات والمعاملات بين أهل المدينة من المسلمين وغيرهم .
ومنه بخصوص يهود المدينة مسائل :
الأولى : إن يهود بني عرف أمة من المؤمنين أي حلفاء بني عوف ( )، نعم قد تهود بعض ابناء قبيلة عوف العربية إذ كانت المرأة من الأوس والخزرج إذا كانت مقلة في الإنجاب ، تجعل على نفسها إن عاش لها ولد تهوّده ، وأنه تهوّد بعض ابناء العرب وعاشوا بين اليهود .
الثانية : لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم .
الثالثة : وأن ليهود بني أوس وبني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.
الرابعة : على اليهود نفقتهم والنصيحة والبر .
الخامسة : وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، أي لسش من جزية على يهود المدينة ، إنما إذا وقعت حرب مع المشركين يساهم اليهود بالمال [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ).
السادسة : يثرب المدينة (حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرَ مُضَارّ وَلَا آثِمٌ , وَإِنّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا) ( ).
وهذا الميثاق ترجمة نبوية لآيات السلم والعمل به وشبهه من الشواهد على إستدامة أحكامها ، وعدم نسخها .
الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية
من الإعجاز الذاتي للقرآن ونظم القرآن وتقسيمه إلى سور وآيات والفصل بين كل سورة وأخرى بالبسملة عدا سورة براءة فلم تبدأ بالبمسلة ، والفصل بين كل آية وأخرى مع وجود حرف العطف بين الآيتين أو ما يدل عليه .
وهل يتضمن القرآن وحدة الموضوع بين سوره وآياته أو وحدة الموضوع في خصوص سورة الواحدة أم لا ، الجواب لا تعارض بين الأمرين .
فلا يعني هذا الإصطلاح تضمن السورة القرآنية موضوعاً واحداً خاصة وأن القرآن نزل منجماً وبحسب الوقائع والأحداث ، ولكن المراد هو إصلاح الناس للعبادة وبسط الأمن في الأرض سواء في منطوق الآيات أو مفهومها ، لذا تسمى الوحدة الموضوعية هنا بالوحدة البنائية أو الوحدة المعنوية.
فمن إعجاز القرآن أن السورة الواحدة ذات مواضيع متداخلة يبعث العمل بما فيها من الأوامر على إجتناب النواهي ، وكذا العكس .
مما يلزم الإجتهاد في التدبر في الآيات والمندوحة اللغوية في ألفاظها والحقيقة والمجاز فيها ، ومفاهيم الآية في مقابل المنطوق .
ولابد من غرض متحد جامع للسورة القرآنية ، مما يلزم النظر والتدبر عن آيات السورة واستقراء المسائل الجامعه لها وقد افردت بابا خاصاً في تفسير كل آية من القرآن بعنوان : من غايات الآية ، وإمكان استقراء الغايات المشتركة بينها ، ثم أن الأصل هو وجود وحدة موضوعية لآيات القرآن كلها ، من جهات :
الأولى : كل آية من القرآن تنزيل من عند الله عز وجل .
الثانية : قانون سلامة آيات القرآن من التحريف والزيادة والنقصان ، ويدخل هذا القانون في الوحدة الموضوعية لآيات وسور القرآن لأنه من الإرادة التكوينية ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
الثالثة : الوحدة البنائية والمعنوية للسورة القرآنية مع تعدد مواضيعها والغايات السامية منها إذ تتداخل وتتلاحم هذه الأغراض والمقاصد للإصلاح الشخصي والعام , ولنشر ألوية الوئام والسلم في عموم الأرض .
الرابعة : قانون الإعجاز البياني للقرآن وإنفراد آيات القرآن بالسمو في الفصاحة والبلاغة , وترتب البيان التوليدي عليه , بما يجعل تجدد المعاني المستنبطة والآية القرآنية تصل إلى يوم القيامة , قال تعالى[مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
والنسبة بين الباطل والتحريف عموم وخصوص مطلق ، فالتحريف جزء من الباطل.
ومن سور القرآن ما يكون من موضوعها متحداً بجلاء في ظاهره كما في عدد من سور المفصل والمكية منها مثل سورة الإخلاص ، والماعون الفيل ، كما اختصت سورة يوسف قصة النبي يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إلا أنها تتضمن مواضيع أخرى منها الخطاب إلى النبي محمد [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ* وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (حرصت) في القرآن إلا في الآية أعلاه وهناك تجانس بين كل من :
الأول : موضوع السورة .
الثاني : الغرض من السورة .
فمن إعجاز القرآن تعدد مواضيع السورة مع تجلي التجانس والنظم البديع بينها أما الغرض من السورة فان آيات تشترك بالغرض والمقاصد السامية للسورة القرآنية بل تجتمع فيه سور القرآن كلها والصلة بين موضوع القرآن وموضوع السورة الواحدة هو العموم والخصوص المطلق.
فمن إعجاز القرآن تعدد مواضيع السورة مع إتحادها في الغرض والنظم والمقاصد السامية وليس من تزاحم او تشاكس بين موضوع آيات السورة الواحدة ، وتلتقي آيات السورة الواحدة بوجوب طاعة الله وعبادته والخشية منه وبناء صرح الإيمان ، وتنمية الأخلاق الفاضلة وهو من مفاهيم الوحدة الموضوعية لآيات السورة الواحدة أو سور القرآن مجتمعة ، وهناك تناسق موضوعي بين آيات السورة الواحدة.
لقد أخبر الله عز وجل عز وجل عن الوحدة الموضوعية في القرآن بقوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ]( )، إذ تتشابه المعاني والمقاصد في الآيات ، وتتحد في الحسن والإعجاز ، وليس بينها تضاد أو تناقض لفظاً ومعنى ودلالة سواء في الموضوع أو الأوامر والنواهي فقد تعدد البحث والتحقيق في وحدة موضوع آيات السورة أو عدمه ، ولابد من بيان وحدة أحكام القرآن وخلوها من التعارض.
كما تتشابه آيات القرآن في ملائمتها للأزمنة المتعاقبة والأمصارالمختلفة.
نعم قد ترد في السورة الواحدة مواضيع متعددة ، إذ أن استقلال كل سورة باسم خاص وابتداؤها بالتسمية لا يعني أن موضوعها واحد.
ويتجلى الإعجاز في تعدد الموضوع مع الإتحاد والشبه في الترابط والتداخل بين موضوعات السورة .
وقد تجد مضامين الآية الواحدة في أكثر من موضوع ، مع اتصافها بتداخل مواضيعها ، ووحدة الغرض والمقاصد السامية.
ومن المناسب في المقام الإستدلال بمنطوق ومفهوم الآية القرآنية على نفي نسخ آيات السلم ، ولا يعني هذا أن كل آية قرآنية وعددها (6236) أية تتضمن هذا النفي ، ولكن آيات كثيرة تتضمنه ، وليس من آية تدل في ظاهرها ومنطوقها على نسخ الآيات المتعددة في السلم والصلح .
فرائد سلم في هجرة الحبشة
من القوانين والمسائل التي نستنبطها لأول مرة من هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة:
الأول : قانون إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن إستعمال السيف.
الثاني : دعوة متقدمة زماناً لملوك النصارى والبطارقة إلى عدم نصرة قريش عند غزوها للمدينة ، فتمت أول هجرة للحبشة في السنة الخامسة للبعثة النبوية الشريفة لتكون واقية .
الثالث : لغة الحوار بين النجاشي وجعفر الطيار .
الرابع : قانون إختيار الهجرة شاهد على دخول الإسلام من غيره إكراه.
الخامس : قانون الإعراض عن الظالمين والصبر على أذاهم وسيلة لجذب الناس للإيمان.
السادس : إختيار اللجوء لسلامة الدين والأبدان.
السابع : قانون الإسلام دين السلام .
الثامن : بلوغ الإسلام الحبشة من غير إهراق قطرة دم.
التاسع : تعاهد الإسلام لقاعدة السلطنة، وعدم نهب أو سلب أموال الناس.
العاشر : التضاد بين الإسلام وبين العنف والتطرف والإرهاب .
الحادي عشر : إتحاد الدعوة والرسالة بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( ).
الثاني عشر : سلامة آيات السلم والصلح من النسخ .
الثالث عشر : إبلاغ النجاشي وقومه بأن تحمل الصحابة مخاطر الهجرة في البر والبحر والغربة شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع عشر : خيبة وخزي وفد قريش إلى النجاشي برئاسة عمرو بن العاص.
الخامس عشر : قانون هجرة الحبشة من معجزات القرآن الغيرية.
السادس عشر : ثبات المهاجرين على دينهم بحضرة الملك والسلطان مع سلامة الإلقاء والإقناع.
السابع عشر : دفع النفرة والشك من قلب النجاشي وبطارقته من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لبيان قانون وهو موضوع الآية القرآنية في بعث المودة للمسلمين في قلوب النصارى وغيرهم ، كما في قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
وفد نصارى نجران
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحكمة والموعظة والبرهان ، وفيه دعوة للناس للتدبر في معجزاته والشواهد على نبوته وإتباعه في نشر مفاهيم الأمن وألوية السلم المجتمعي .
ومن الشواهد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً إلى نصارى نجران يدعوهم إلى الإسلام ، ومعاملته بلطف وود عند وفد رؤسائهم الذي قدم إلى المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة.
إذ تدل كتب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الأمراء والملوك وعامة الرؤساء على قانون وهو سلمية رسالته ، وهو من الدلائل على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة وهو عنوان هذا الجزء من التفسير وكأنه من البرهان الإني بالإستدلال من المعلول إلى العلة.
ومن الآيات أن نصارى نجران حينما وصلهم كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة من عند الله سبحانه لم يغضبوا ، ولم يذهبوا إلى ملك الروم أو الحبشة لتحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعثوا وفداً من أربعة عشر رجلاً من علمائهم وساداتهم للإطلاع عن قرب عن معالم النبوة وتجلياتها والتنزيل في الواقع ، لوجوه :
الأول : الأخبار المتوارثة عند النصارى برسالة خاتم النبيين خاصة وأن هذه الأخبار تفيد بعثته في الجزيرة العربية ، ونجران من أرض الجزيرة واليمن .
الثاني : بشارة عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم والصفة ، وهذه البشارة ليست مبتكرة إنما هي إرث سماوي من أيام موسى وعيسى بدليل ما ورد في القرآن [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ) .
وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : إخبار عيسى عليه السلام عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل .
الثانية : بيان عيسى عليه السلام بأن محمداً من عند الله وليس نبياً فقط .
الثالثة : تقديم عيسى لتصديقه وتأكيده لما في التوراة على البشارة شاهد بأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مذكورة في التوراة .
الرابعة : العطف في الآية بالواو [وَمُبَشِّرًا]من عطف الخاص على العام .
و (عن وهب بن منبه قال : إن الله أوحى في الزبور: يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقاً نبياً لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً .
وقد غفرت له أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء ، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل ، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء .
وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم .
وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم ، يا داود إني فضَّلت محمداً وأمته على الأمم ، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم ، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان .
وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته ، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة ، ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك .
وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم ، فإن دعوني استجبت لهم .
فإما أن يروه عاجلاً وإما أن أصرف عنهم سوءاً وإما أن أؤخره لهم في الآخرة .
يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي ، ومن لقيني وقد كذب محمداً وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صباً ، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار) ( ) ووهب من التابعين ولم يرفع الحديث .
الخامسة : تعيين عيسى عليه السلام لاسم النبي (أحمد) أمارة على أنه من العرب وليس من اليهود .
السادسة : إرادة منع إدعاء النبوة في الفترة بين بعثة عيسى عليه السلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : منع الفرقة والإختلاف عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامنة : دعوة عيسى عليه السلام لليهود والنصارى بعدم محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته ، لذا بادر يهود المدينة إلى عقد معاهدات موادعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دار هجرته .
التاسعة : دعوة نصارى نجران إلى تلقي أنباء السيرة النبوية بالتدبر والتمحيص ، واستقراء علامات وتجليات النبوة فيها ،ومنها الهجرة والنصر المبين على كفار قريش خلافاً للأسباب المادية ، وقلة عدد المهاجرين والأنصار أزاء عدد وعدة جيوش المشركين .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ..] ( ) ولقد نصركم الله ببدر ليتجلى للناس صدق البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانطباقها على شخصه الكريم ، ليكون السلم هو الحاكم والسائد في الصلات العامة بين المسلمين وأهل الكتاب ، وليكون من معاني قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) لزوم دخول أهل الكتاب وعامة الناس .
العاشرة : إنبهار نصارى نجران من فصاحة وبلاغة القرآن ، وإدراكهم وعموم أهل نجران لتعدد وجوه الإعجاز فيها ، وأنها فوق كلام البشر سواء في بلاغتها أو مضامينها القدسية وموافقتها للكتب السماوية السابقة في البشارة والإنذار وغيرهما .
الثالث : انتشار أخبار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية في الأمصار وبلوغها إلى نجران.
وهل كان وفد أهل نجران من غير النصارى يفدون إلى مكة في موسم الحج ، وأداء مناسك العمرة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتصل بهم ، الجواب نعم ، وهو من أسباب تلقي نصارى نجران كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول ، إذ كانت آيات القرآن تُتلى في نجران بجمع من عامة أهلها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) وكانت قريش تعلم بلوغ آيات القرآن للنصارى في نجران وفي الشام واستحضارهم لبشارة عيسى عليه السلام .
ثم جاءت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي دخول الناس في الإسلام ، فاستشاط رجال قريش غضباً ، وازدادوا حنقاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأوس والخزرج ، فارسلوا كُرز بن جابر الفِهري للإغارة على سرح أهل المدينة قبل معركة بدر بستة أشهر ، وهو بداية العدوان ، ويستقرأ منه عزم قريش على القتال .
لقد كانت قريش تسأل بعض أهل الكتاب عن صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاءت كيفية تصرف نصارى نجران أزاء نبوته حجة على المشركين ، ودعوة للإسلام ، إذ أن هؤلاء النصارى لم يعلنوا الحرب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ما جاء بالقرآن من حكم التصالح والجزية بعد الجدال والإحتجاج ، ورصد رؤسائهم وعلمائهم سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قرب .
وقد بلغهم إنتصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على رؤساء وأمراء قريش ، ثم عقده صلح الحديبية .
لقد كان نصارى نجران يعلمون بأن قريشاً مشركون يعبدون الأوثان ، لذا أدركوا أن نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم مع قلة أصحابه معجزة له ، وشاهد على صدق نبوته ، وهو من أسرار مجيئهم إلى المدينة للجدال والتدبر في علامات النبوة.
وهل كانت بشارة عيسى عليه السلام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاضرة عندهم ، الجواب نعم .
وفي قول أن عدد أعضاء الوفد هو ستون راكباً ، إنما الأربعة عشر من أشرافهم ، وفيهم ثلاثة من رؤسائهم :
الأول : العاقب .
الثاني : السيد .
الثالث : (أبو حارثة أحد بنى بكر بن وائل أسقفهم وصاحب مدراسهم وكانوا قد شرفوه فيهم ومولوه وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات وبنوا له الكنائس لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم) ( ).
ووصل الوفد إلى المدينة المنورة في النصف الأخير من شهر ذي الحجة من السنة التاسعة للهجرة ، أي بعد كتيبة تبوك التي وقعت في شهر رجب من ذات السنة .
ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام ، وجرت مناظرة وجدال بينه وبينهم من غير حقد أو بغض ، وهل لسورة الروم واستبشار المسلمين بالوعد بنصرهم كما في قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) موضوعية وأثر في قدومهم وحسن سمتهم ، الجواب نعم .
لقد كان الوفد منظماً في دخوله ، وهم في زيهم ولباسهم البهيج ، إذ إرتدوا ثياب الحرير وتحلوا بالذهب .
ودخلوا المسجد النبوي ، وحان وقت صلاة العصر ، فصلوا إلى جهة المشرق ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : دعوهم .
وذكر الواحدي في أسباب النزول حواراً واحتجاجاً طويلاً بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد نصارى نجران ، ونقله عنه عدد من العلماء وهو ضعيف السند ، ولا يعني هذا الضعف ترك وطرح الحديث لورود عدد من مسائله في أخبار وطرق السنة النبوية الأخرى.
لقد ورد في وثيقة المدينة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واليهود (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم) فهل يشمل هذا البند النصارى أيضاً ، الجواب نعم ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وفيه ترغيب للنصارى ومن حين قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بمجيئهم إليها وعقد الصلح معه .
وقد حضر وفد نصارى نجران في السنة التاسعة للهجرة النبوية إلى المسجد النبوي ، وهو من الشواهد على صبغة السلم التي تتصف بها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستدامة العمل بآيات السلم .
قانون المباهلة سلم
لقد لجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الحوار إلى المباهلة والدعاء وسؤال الله بنزول اللعنة والبلاء بالطرف الكاذب .
وهل هذا اللجوء من مصاديق قانون هذا الجزء (آيات السلم محكمة غير منسوخة) الجواب نعم.
فلم يغضب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبوي وبين أصحابه الذين تضاعف عددهم أضعافاً لأن هذا الحوار جرى في السنة التاسعة للهجرة وبعد دخول كثير من القبائل في الإسلام ، إنما دعا إلى المباهلة وفيه مسائل :
الأولى : المباهلة من فلسفة النبوة ، وسبل الدعوة إلى الله عز وجل .
الثانية : لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المباهلة سلم وإقرار بالربوبية وأن المشيئة بيد الله عز وجل ، والمباهلة مصدر باهل يباهل مباهلة .
وهي في الإصطلاح إجتماع طرفين بينهما اختلاف وتباين والدعاء لإحقاق الحق وفضح الباطل وسؤال نزول اللعنة بالكاذب ، وفيها منع للعناد وجحود الحق مع استبانته ، ووضوح الحجة.
الثالثة : المباهلة برزخ ومانع من الإقتتال وسفك الدماء.
و(عن سعد بن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم }( ) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال اللهم هؤلاء أهلي) ( ).
ولم يكن بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنصارى إرهاب ورهاب وقتال ، إنما كانت الرسائل ثم الحوار والإحتجاج ورضا أهل نجران.
وبعث معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا عبيدة وتبعد نجران عن المدينة المنورة (910) كم .
ليتجلى قانون بيان القرآن والوقائع التي تذكر فيه سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته ، ونبذه للإرهاب واستغنائه عن القتال والهجوم والغزو ، لأن معجزاته ظاهرة ، وهل هي فرع الآيات الكونية الباهرة التي تدعو الناس كل يوم لعبادة الله عز وجل والخشية منه في الغيب أم أنها مستقلة بذاتها .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل هذه المعجزات عقلية وحسية لتبقى إلى يوم القيامة وتكون عضداً في تذكير الناس بالتوحيد والنبوة ، وهو الذي يتجلى باعلان الأذان خمس مرات في اليوم ، وفيه : الله أكبر الله أكبر اشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ، وسيبقى الأذان شعاراً ولواء للسلم ، وتذكيراً بآياته، وترغيباً بالعمل بها .
قانون الأبواب المتعددة في منهاج تفسيري للقرآن
يشمل تفسير الآية القرآنية في معالم الإيمان أبواباً متتالية وهي :
الأول : الإعراب واللغة ، إذ يتم إعراب كلمات الآية والمعنى اللغوي لبعض كلماتها ، وقد يرد مع الإعراب بحث نحوي ، وتختص الان دراسة ماجستير في البحوث النحوية في هذا التفسير .
وقد يرد في هذا الباب بحث بعنوان : بحث لغوي أو بحث نحوي.
الثاني : باب سياق الآيات
يختص هذا الباب بالصلة بين آية البحث وبضع آيات مجاورة لها ، واستقراء المسائل والقوانين من هذه الصلة ، وهو علم مستحدث فيه علوم مستنبطة من كنوز القرآن ، وقد صدرت أجزاء من هذا التفسير ، كل جزء خاص بالصلة بين آيتين من القرآن
ومن إعجاز القرآن استقراء القوانين والقواعد من الصلة بين الآيتين بما هو أكثر من استقرائها من تفسير كل آية قرآنية على حدة ، مما يدل على أن علم سياق الآيات كنوز لم تفتح ذخائرها بعد وليس لها منتهى معلوم .
و(عن ابن عباس قال : لمّا فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني مكة رنّ إبليس رنّةً فاجتمعت إليه ذريّته فقال : آيسوا أن ترتد أُمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ، ولكن أفشوا فيها يعني مكة الشعر والنوح)( ).
يستلزم علم سياق الآيات اشتراك الإختصاصات العلمية المختلفة في التفسير ، والعمل الدؤوب المتصل للإنتفاع الأمثل من علم التفسير ، وبيان شواهد كثيرة على إعجازه ، وهو فرع علم أعم وهو ( الصلة بين آيات القرآن ) .
وهو يتوجه بالرجاء لعلماء كل جيل مجتمعين ومتفرقين للغوص في بحاره واستخراج الدرر منه ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) .
والنسبة بين هذا العلم والتفسير الموضوعي هو العموم والخصوص المطلق ، فالتفسير الموضوعي جزء من علم سياق ونظم الآيات ، ولا يخل به مجئ آيات متحدة الموضوع في سور متعددة .
وحصرت في هذا التفسير موضوع سياق الآيات بين الآية محل البحث ، وبضع آيات مجاورة لها مع أن موضوعه أعم .
وهو من مصاديق التفسير الذاتي للقرآن ، وأن آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً ، وقد اعتنى به علماء التفسير في طبقاتهم المختلفة ، وعلى نحو متباين كثرة وقلة ، أما الذي تضمنه تفسيري للقرآن والذي أصبو إليه في الأجيال اللاحقة فهو أعم وأعظم .
وقد صدرت لي بعض الأجزاء بالصلة بين شطر من آيتين متجاورتين كما في الجزء 125 والجزء 151 .
ولا ينحصر علم سياق الآيات في المقام بالصلة بين الآيات المتجاورة بل يشمل الصلات بين كل آية قرآنية ومجموع آيات القرآن.
ومن خصائص علم سياق الآيات واستقراء العلوم من الجمع بينها وتفسيرها أمور :
الأول : قانون بيان المجمل .
الثاني : قانون ترجيح الظاهر والمحتمل .
الثالث : قانون الإنتقال من الظن إلى اليقين .
الرابع : قانون منع الخصومة بالإختلاف بين العلماء في التفسير .
الخامس : قانون كشف الحقائق ، وقطع الشك .
السادس : قانون سلامة القرآن وتأويله من التحريف والتبديل .
السابع : تنقيح علم التفسير مما لا أصل له ويتعارض مع آيات القرآن .
الثامن : تجلي القوانين والعلوم ومناسبتها لروح العصر .
التاسع : تأكيد القوانين التي وردت في تفسيري للقرآن ومنها :
أولاً : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) والذي صدر بخصوصه (25) جزء .
ثانياً : قانون ( آيات الدفاع سلام دائم) وصدرت بخصوصه الأجزاء (142-205-217-218) من هذا التفسير .
ثالثا ً: قانون( آيات السلم محكمة غير منسوخة ) وهو الذي اختص به هذا الجزء كما صدرت عدة أجزاء من هذا التفسير بخصوصه وهي الأجزاء (206-207-208-214-215).
رابعاً : قانون التضاد بين القرآن والإرهاب وقد صدرت بخصوصه الأجزاء (184-185-188-195-198-199-203-210-211-219).
خامساً : قانون النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب وقد صدرت بخصوصه الأجزاء (222-223-224-227-230).
العاشر: تعيين أسباب النزول ، وبيان التداخل بينها في أخبار التابعين أو تابعي التابعين .
الحادي عشر : قانون إنتفاء التعارض بين آيات القرآن والسنة النبوية .
الثاني عشر : معرفة معاني المفردات المتقاربة وموقعها من الآية باللفظ ، وكذا المشترك اللفظي ، فتجد للفظ (أمر ) عدة معان ، ومنه لفظ الصلاة في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) .
ومنه لفظ (الأمة) والفرق بين الإشتراك والترادف .
قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ).
الثالث عشر : الحقيقة والمجاز في القرآن ونحوه من عوارض الألفاظ ، ومن المجاز العقلي قوله تعالى [عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ] ( ) فاسند الرضا إلى المعيشة مع أنها ترضي غيرها ، فجاء القرآن بلفظ [رَاضِيَةٍ] بصيغة اسم الفاعل ، ولكن المراد اسم المفعول أي (مرضية ) .
وصيغ المجاز مما يتفاخر بها العرب لما فيها من توظيف للفكر في إختيار اللفظ وفق قواعد التشابه مع المعنى الحقيقي الذي وضع له اللفظ بالأصل ، والقرينة التي تنقل ذهن السامع إلى المعنى المجازي المنقول إليه اللفظ من غير تردد .
الرابع عشر : قانون معرفة المطلق والمقيد ، والعام والخاص والإستثناء .
الخامس عشر : قانون استقراء قواعد العلة والمعلول ، والسبب والمُسبب.
السادس عشر : قانون الجمع الموضوعي بين الآيات مثل آيات الصلاة ، آيات الصبر ، آيات الزكاة ، آيات عالم البرزخ ، آيات الدعاء وهي على شعب :
الأولى : آيات طلب الرزق ، كما في دعاء عيسى عليه السلام ، قال تعالى [وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ]( ).
الثانية : آيات سؤال العفو والمغفرة ،مثل قوله تعالى [وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا]( ).
الثالثة : آيات سؤال الهداية ، كما في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
ومن الإعجاز في باب أقسام الدعاء تلاوة كل مكلف من المسلمين والمسلمات هذه الآية سبع عشرة مرة في اليوم والليلة في الصلاة ، لبيان الأولوية لسؤال الهداية ، وأنه الأصل في السؤال والدعاء .
وهل آيات السلم من سبل الهداية ، الجواب نعم ، ومنه الأمر من عند الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
الرابعة : آيات السؤال والحاجة لأمور الدنيا والآخرة ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
السابع عشر : قانون بيان ظلم وتعدي مشركي قريش ومن مصاديق سلامة آيات السلم مقابلة المشركين لها ولأحكامها بالسيوف رجاء تعطيلها ونسخها في الواقع العملي ، وإثارة الهياج العام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقاموا بالغزو المتكرر على المدينة ، وكانت آيات السلم حجة وزاجراً لهم ،وهو من أسباب دخول فريق من الناس الإسلام ،وهذا الدخول من منافع بقاء آيات السلم غير منسوخة .
الثامن عشر : قانون إعانة الفقيه والأصولي والكلامي وغيرهم في استنباط العلوم من سياق ونظم الآيات وآيات العطف والإستئناف فيها .
التاسع عشر : قانون جمع صفات الأنبياء مجتمعين ومتفرقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
العشرون : قانون خصائص كل سورة وما تنفرد به ، ثم ما يجمعها مع سور القرآن الأخرى ، مع كل سورة على حدة ، أو مجموع سور القرآن .
الواحد والعشرون : قانون جهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت كلمة التوحيد إلى يوم القيامة لبيان أن نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أسواق مكة قبل الهجرة ثم على المنبر في المدينة وفي ميادين الدفاع (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) من رشحات القرآن ، ومرآة لآيات التوحيد ، وفي التنزيل [أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني والعشرون : علم الإحصاء في القرآن ، وذكر أعداد الألفاظ والكلمات والمركبات ودلالتها .
الثالث والعشرون : أعداد النداء العام [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ] الذي ورد عشرين مرة في القرآن ، والنداء الخاص في القرآن وموضوعيته ، مثل نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ومنه [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ] ( ) .
الرابع والعشرون : قانون الجامع المشترك بين السور المكية ، وكذا بين السور المدنية .
الخامس والعشرون : آيات العفو ، ومن أسماء الله [ العفو ] .
السادس والعشرون : آيات المغفرة وموضوعها ، ومن الإعجاز فيها أن كل آية منها دعوة للسلم المجتمعي والخصال الحميدة ، والخلال الكريمة ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (تخلقوا بأخلاق الله) ( ).
السابع والعشرون : آيات علم الآخرة ،ومواطنه .
الثامن والعشرون : آيات أهل الكتاب واللطف معهم .
التاسع والعشرون : آيات علوم الغيب ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ) .
الثلاثون : آيات عالم الأكوان .
الواحد والثلاثون : آيات الملائكة .
الثاني والثلاثون : آيات الخلافة في الأرض .
الثالث والثلاثون : آيات الشمس والقمر وسيرهما ، وقد ورد لفظ القمر في القرآن سبعاً وعشرين مرة سبق كل واحدة منها حرف العطف الواو باستثناء ست منها ، وأكثرها معطوف على الشمس ، كما وردت سورة باسم سورة القمر ، ولم يرد فيها هذا اللفظ إلا مرة واحدة في الآية الأولى منها ، قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] ( ) .
ويمكن إفراد علم خاص بعنوان أسماء السور التي لم يذكر اسمها في السورة إلا مرة واحدة مع التفصيل من جهات :
الأولى : اسم السورة التي لم يرد في سورة أخرى ، فورد مرة واحدة في ذات السورة ، ولم يرد في أي آية من آيات وسور القرآن الأخرى مثل لفظ [الرُّومُ] في سورة الروم ، وقال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ] ( ) .
الثانية : اسم السورة التي ورد فيها مرة واحدة ،ولكنه ورد في آيات أخرى من سور القرآن .
الثالثة : اسم السورة التي ورد اسمها مرتين في آية واحدة منها ، ولم يرد في آية أخرى من القرآن مثل سورة العنكبوت ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ).
الرابعة : تسمية السورة باسم الحرف أو الحروف المقطعة في أولها ، كما في سورة (ن) (ص) .
الخامسة : اسم السورة الذي لم يرد فيها ولا في آيات القرآن كلها مثل تسمية سورة الإخلاص ، قال تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ] ( ).
الرابع والثلاثون : آيات الأمر الذي يجمع على أوامر في القرآن ، ولحاظ سياق الآيات والسنة النبوية في إفادة الوجوب أو الإستحباب منه .
الخامس والثلاثون : قانون تقييد السنة النبوية للإطلاق , وتخصيص العام في القرآن .
السادس والثلاثون : الفرق بين المحكم والمتشابه ، وبيان وكشف المتشابه بالمحكم .
السابع والثلاثون : قانون كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعارك الإسلام في القرآن مثل معركة بدر ، وأحد ، الخندق ، حنين.
الثامن والثلاثون : آيات الأحكام ، سواء على القول الأخص بأنها الآيات التي تتضمن حكماً شرعياً ، وهو المشهور ، أو المعنى الأعم وهو الآيات التي يمكن استنباط حكم الشرعي منها .
التاسع والثلاثون : فلسفة التأريخ في القرآن والغايات الحميدة منها .
الأربعون : الصلة بين السور الطوال والسور القصار .
الواحد والأربعون : الوحي وعلوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا]( ).
الثاني والأربعون : قانون النواهي في القرآن ، كالخمر والقمار والربا .
الثالث والأربعون : عصمة الأنبياء في القرآن .
الرابع والأربعون : أصل حديث الثقلين في القرآن ، ومنه قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] ( ).
الخامس والأربعون : قانون الحقوق والواجبات في القرآن .
السادس والأربعون: قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السابع والأربعون : العلوم والمعارف في القرآن .
الثامن والأربعون : الأسماء ومعانيها في القرآن ، ودلالاتها في المسميات ، قال تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا]( ).
التاسع والأربعون : قانون الأخلاق الحميدة في القرآن ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
الخمسون : العادات والأخلاق المذمومة في القرآن وضررها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( ).
الواحد والخمسون : آيات الدعاء وقانون الإستجابة في القرآن والنسبة بينها وبين آيات السلم هو العموم والخصوص المطلق ، فآيات السلم أعم ، وهو من الشواهد على سلامتها من النسخ ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
الثاني والخمسون : آيات العهد والميثاق في القرآن .
الثالث والخمسون : خصائص الآية القرآنية ، وإتصاف عدد منها بصفات خاصة تبين الإعجاز في التنزيل .
وعن عبد الله بن مسعود قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أعظم آية في القرآن { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }( ) وأعدل آية في القرآن { إن الله يأمر بالعدل والإِحسان }( ) إلى آخرها .
وأخوف آية في القرآن { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره }( ) وأرجى آية في القرآن { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }( ) .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة ، أو آية الكرسي ضحك ، وقال : إنهما من كنز الرحمن تحت العرش ، وإذا قرأ { من يعمل سوءاً يجز به }( ) استرجع واستكان) ( ).
وغيرها من مواضيع القرآن فما لم أذكره هنا من القوانين والمواضيع أكثر مما ذكرته ، وهو من إعجاز القرآن ومصاديق اللامتناهي في العلوم المستقرأة من الصلة بين آياته .
لقد اختصرت علم سياق الآيات في التفسير بالصلة بين الآيات المتجاورة ، أما علم الصلة بين الآيات الذي نقترحه فهو صلة كل آية من القرآن مع آيات القرآن واحدة بعد أخرى ، وهو الذي سميته (التفسير الجامع ) كما يأتي بيانه.
ويمكن استقراء علم أحكام آيات السلم وعصمتها من النسخ من علم الصلة هذا , وعلم الصلة بين آيات القرآن شامل لها جميعاً ، فهو أعم من سياق الآيات ومن التفسير بالمأثور والتفسير الموضوعي ، وآيات الأحكام ونحوها ، لتتجلى حقائق وبراهين بخصوص سلامة آيات السلم من النسخ .
الثالث : باب إعجاز الآية الذاتي
من خصائص القرآن إتصاف كل آية منه بإعجاز خاص في المضمون والبلاغة والمفردات ، والبيان المبهر والفصاحة الجلية التي أذهلت أساطين اللغة أيام التنزيل ، وهو الذي اختص به هذا الباب من تفسيرنا للقرآن .
وقد ورد عن ابن عباس بخصوص تسليم قريش باعجاز القرآن ما يفيد بأن الوليد بن المغيرة الذي هو من كبار رجالات قريش وهو أبو خالد بن الوليد (جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن) ( ).
فأخذ الوليد بالتدبر في آيات القرآن ، وأدرك أنها فوق كلام البشر ، مع تعضيد المعجزات الحسية التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرأ النبي عليه الآية [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ) .
فأصاب الوليد الذهول وقال يا ابن أخي أعد .
(فأعاد عليه. فقال : إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر،
ثمّ لم يسلم، فأنزل الله فيه : {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى} ) ( ).
وليس في القرآن تنافر بين حروفه وكلماته أو إخلال بالنظم أو تعارض في المعنى بين لفظين وأن تباينا من جهات :
الأولى : إجتماع المعنى الحقيقي والمعنى المجازي للفظ متحد كلفظ (العين ) ، قال تعالى [فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ] ( ).
الثانية : المعنى الحقيقي لكلمة مثل كلمة (الصلاة) وضعت للدعاء وانتقلت إلى الهيئة والكيفية العبادية اليومية المعروفة .
ويفيد لفظ الصلاة ثلاثة معان في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) ، إذ أن صلاة الله غير صلاة الملائكة ، وصلاتهم غير صلاة الناس ، وقيل المعنى الحقيقي الذي وضع له لفظ الصلاة هو الدعاء .
وهل يمكن إختلاف صلاة الملائكة أنفسهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم المختار نعم ، فمنهم من يدعو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من يستغفر له ، ومنهم من يسأل الله عز وجل نصره وإعانته ، ومنهم من ينزل بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من ينزل لنصرته ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثالثة : إجتماع المعنى المجازي المتعدد للفظ الواحد ، إذ يكون البحث والتحقيق في السنة النبوية بعلم الرواية ويتعلق بمتن الحديث وضبط كلمات وحروف الحديث وعلم الدراية الذي يخص سند الحديث وأحوال رجاله ولحاظ سلسلة رجال السنة وعلم الرواية والدراية في التفسير .
والمراد من الرواية في التفسير هو مشافهة قارئ لقارئ آخر بما يرفع سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
أما الدراية في التفسير فهي معرفة قواعد اللغة ، وإختلاف القراءات ، ورسم المصحف وضبط الحركات لموضوعيتها في المعنى وعلم الدراية مقدم وحاكم على علم الرواية ، أما بالنسبة للقرآن فانه قطعي الصدور ، وثابت النزول من عند الله ،وهو أيضاً قطعي الدلالة ، ويجمع معها صفة ظني الدلالة بلحاظ تعدد معاني الكلمة والآية القرآنية .
وهو من أسرار إحاطة كلماته المحدودة باللا محدود من الوقائع والأحداث ، لذا فان إعجاز الآية القرآنية توليدي متجدد وبلاغة القرآن من أبهى وجوه إعجازه ، فلابد إذن من تخصيص باب خاص لإعجاز الآية الذاتي ، والنسبة بينه وبين بلاغة ذات الآية القرآنية هو العموم والخصوص المطلق ، فاعجاز الآية أعم .
وهل تدل بلاغة آيات السلم مجتمعة ومتفرقة على عدم نسخها ، المختار نعم إلا أن يدل دليل على النسخ .
ومن خصائص الدليل في المقام إنحصار موضوعه بآية من آيات السلم ، وليس كل آياته على فرض وجود مثل هذا الدليل .
ومن إعجاز الآية القرآنية نظمها البديع ، وتكامل نسقها ، وجمال ألفاظها وخروجها عن المألوف في كلام العرب ، وإرتقاؤها على الشعر والنثر وتعدد معاني اللفظ المتحد منها .
وقد جعلت في آخر هذا الباب إختيار اسم للآية القرآنية التي أقوم بتفسيرها ، والأولى أن يكون أول ذات الآية إلا مع التكرار ، ونحوه ، قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ).
الرابع : إعجاز الآية الغيري
ويتعلق هذا الباب بمنافع الآية القرآنية ، وما تبعثه من صيغ الهداية ، وما تقود إليه من الرشاد ، فمن إعجاز الآية القرآنية وجود أمة تمتثل لأحكامها في كل زمان ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
والمراد من لفظ الغيري أي إعجاز الآية في غير ألفاظها ودقة نظمها وكلماتها ، إنما يتعلق في دلالتها وغاياتها ونفعها المتجدد .
وإصطلاح الإعجاز الغيري للآية علم مستحدث في هذا التفسير ، ويبين هذا الباب قانوناً وهو إتصال وتجدد إعجاز الآية في كل زمان ومكان في أثرها الحسن وما يترتب عليها من الصلاح والخير منها تلاوة الآية القرآنية والتدبر في معانيها ، وإستحضارها في الوجود الذهني .
لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوة القرآن واجبة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم في الصلاة.
والنسبة بين الإعجاز الذاتي للآية وبين الإعجاز الغيري لها هو العموم والخصوص المطلق ، فالغيري أعم ، وعلوم الغيب في الآية على جهات :
الأولى : ما غاب عن الأذهان وانقطع من أخبار الماضي ، وقصص الأمم السالفة ، وفي سورة يوسف قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ) .
الثانية : علوم الغيب مدة التنزيل ، ومنه مكائد ومكر الكافرين والمنافقين ، ومنه مثلاً قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
ومنه البشارة والوعد بالنصر ، وفيه تخفيف ودعوة للصبر على أذى المشركين ، وحضّ على التقيد بآيات السلم والصفح والعمل بمضامينها بعيداً عن الإنفعال والغضب ، قال تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
لقد كانت أخبار القرآن مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وحجة لهم ، وبرهاناً في الدعوة إلى الله عز وجل ، وزاجراً للذين كفروا ، ومنه الإخبار عن خسارة الروم القتال مع الفرس ، ثم نصرهم مع تحديد القرآن للمدة بين الهزيمة والنصر على نحو الإجمال ، قال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثالثة : علوم الغيب فيما يخص عالم البرزخ ومدة القبر ، قال تعالى [وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ) وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ( ) .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب أهل القبور عند زيارته لهم (وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون) ( ).
ومن معاني البرزخ في الآية أعلاه أنه فصل وحاجز زماني ومكاني بين أوان الموت والبعث في الآخرة .
و(قال الإمام الصادق عليه السلام : البرزخ: القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة) ( ).
الرابعة : علوم الغيب بخصوص عالم الآخرة ، وهو من إعجاز القرآن وفيها حاجة للناس في الدنيا ، وحجة عليهم في الآخرة ، وليس من إنسان إلا ويعتريه الندم حين يرى القرآن بحلته البهية في الآخرة ، إذ يندم المؤمن لأنه لم يجتهد أكثر في الصالحات ، ويندم الكافر لإستكباره وجحوده .
وهل تنفع آيات السلم والعمل بها العبد عند بعثه في الآخرة ، الجواب نعم .
وهل دخل رهط من الناس الإسلام بسبب علوم الغيب في القرآن ، الجواب نعم ، وكذا بالنسبة لعلم الغيب في السنة وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن أمور وثبوت صدق وصحة الخبر بما يفيد أنه علم لدني ، ومنه نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من محاولات اغتياله.
كما في إتفاق عمير بن وهب مع صفوان بن أمية في مكة بعد معركة بدر لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قدم عمير بن وهب إلى المدينة ودخل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متوشحاً بسيفه .
وأراد الصحابة نزع سيفه فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بارساله ، وقرّبه إليه مع بقاء سيفه على عاتقه وهومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يعلم بسوء نيته وقصده إغتياله ومع هذا يبقى سلاحه بيده ، وليس هو خلاف الإحتراز ولكن لتتجلى المعجزة .
ثم سأله عن سبب مجيئه فأخبر بأن ابنه أسير عند المسلمين في معركة بدر وأنه يرجو أن يحسنوا إليه فطلب منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدقه القول فأصر على هذا الأمر وحده كعلة لمجيئه عندئد قال له النبي بمحضر من المهاجرين والأنصار :
(بلى قعدت انت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما اصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين علي وعيال لي لخرجت حتى اقتل محمدا .
فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على ان تقتلني له .
والله حائل بينك وبين ذلك .
قال عمير اشهد انك رسول الله قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتى به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحى وهذا امر لم يحضره الا انا وصفوان فوالله انى لاعلم
ما اتاك به الا الله والحمد لله الذى هداني للاسلام وساقني هذا المساق ثم تشهد شهادة الحق) ( ).
الخامس : باب الآية سلاح
تجد في منهاج هذا السِفر باباً مستقلاً في تفسير كل آية من القرآن تم تفسيرها سواء من سورة الفاتحة أو سورة البقرة أو سورة آل عمران باب الآية سلاح ، لبيان أن السلاح لا يختص بالسيف والسلاح المادي ، ولا يعني الخصومة والصراع مع الغير ، بل المراد قانون سلاح الإيمان والإصلاح في الآية القرآنية ، وبيان قانون وهو الغنى بالآية القرآنية عن السيف ومنها آيات السلم فهي سلاح بناء المجتمع بخصال الرحمة والرأفة والطمأنينة .
وكل آية من القرآن ميثاق وعهد بين الله عز وجل وبين العباد ، ولا يمنع عزوف شطر من الناس عنه وعن التقيد بأحكامه من عمل المسلمين والمسلمات به .
وكل صفة من صفات الخلق الحميد في القرآن هي سلاح لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات ، وتبعث كل آية قرآنية إلى السلم والصلح والمودة والمحبة ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) سواء في إطار الأسرة الواحدة أم في المجتمع ، وبين الدول وإن اختلفت مشاربها .
ومن معاني السلاح في هذا التفسير سبل التربية والتأديب في الآية القرآنية ، وتأهيل الفرد إلى الحياة العامة وفق قواعد القرآن والسنة في السيرة والسلوك ، ومن معاني السلاح في الآية القرآنية إفادتها الوعظ والنصح والإرشاد سواء في منطوقها أو مفهومها .
لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة الفقاهة في علوم الدين والدنيا .
وجاءت آيات الأحكام بما يفيد التكامل ، والمنع من الخلاف والفرقة والشقاق ، وهذا المنع من أعظم وأحسن الأسلحة ، وهو خال من الضرر بالذات أو الغير ، فقد تقع معركة وتستخدم فيها أنواع الأسلحة ، وتسقط الضحايا والجرحى ، وتعطل المكاسب ثم تلجأ الأطراف إلى الصلح أو تقع الغلبة لأحدها بعد تكبده الخسارة أيضاً .
أما الآية القرآنية فهي سلاح للدعوة إلى الحوار ، وفيها شاهد على أن إرادة السلم تستلزم السلاح الوقائي فنزل هذا السلاح من السماء ، وهو من لطف الله عز وجل ، وإفاضات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن القول بقانون وهو كل آية قرآنية سلاح في العبادات والمعاملات وفي أمور الدين والدنيا .
السادس : مفهوم الآية
من خصائص علم التفسير إستنباط الحكم الشرعي من مضامين آيات القرآن والسنة النبوية , إذ أن كل آية قرآنية دليل شرعي , وهو من مبادئ علوم الأصول في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية , والقرآن هو المصدر الأول للشريعة السمحاء , ويمر هذا الإستدلال بمراحل تبدأ من الوضع أي وضع الألفاظ لمعاني مخصوصة على نحو التعيين وليس التعين .
ويسمى هذا الوضع بالحقيقة وتقابلها الحقيقة الشرعية والمجاز .
وقد يوضع اللفظ للعام أو الخاص أو المشترك .
والنسبة بين الدلالة باللفظ كسبب , ودلالة اللفظ الذي هو مسًبب عنها مما يدل عليه المنطوق وهي على وجوه منها :
الأول : الأمر .
الثاني : النهي .
الثالث : العام .
الرابع : الخاص .
الخامس : المطلق .
السادس : المقيد .
السابع :المبين .
الثامن : المجمل .
إلى جانب الدلالة غير الصريحة وهي على أقسام :
الأول : دلالة الإشارة .
الثاني : دلالة الإيماء .
الثالث : دلالة الإقتضاء .
وتضمن هذا التفسير قراءة إجمالية في مفهوم الآية عند تفسيرها سواء مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة مع غضً النظر عن حجيًة وصحة الإستدلال به أو عدمها , والإختلاف فيه.
ومفهوم المخالفة هو ذكر المتكلم لوصف أو شرط ونحوه في المحكم فيه , مما يدل على إنتفاء الحكم عما سواه فمثلاَ قوله تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ) أن قصر الصلاة يكون عند حال الخوف , ولا يكون عند الأمن ولو في السفر .
والمختار أن تؤخذ كل مسألة على نحو مستقل : وهل مفهوم المخالفة حجة فيها ولابد من الرجوع إلى السنة النبوية في المقام لأنه ليس من المنطوق الصريح .
(عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى ، أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين .
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ، ركعتين .
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : سافرت إلى مكة فكنت أصلي ركعتين ، فلقيني قراء من أهل هذه الناحية فقالوا : كيف تصلي.
قلت ركعتين، قالوا أَسُنَّةٌ أو قرآن .
قلت : كل سُنَّةٍ وقرآن صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين . قالوا إنه كان في حرب! قلت : قال الله { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون } ( )وقال { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } فقرأ حتى بلغ { فإذا اطمأننتم }( )) ( ).
وعن (سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . قلت : وما صلاة المخافة؟ قال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء وهؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة .
وأخرج مالك وعبد بن حميد والبخاري ومسلم عن عائشة قالت : فرضت الصلاة ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عائشة قالت : فرضت الصلاة على النبي بمكة ركعتين ركعتين ، فلما خرج إلى المدينة فرضت أربعاً ، وأقرت صلاة السفر ركعتين) ( ).
ومن خصائص باب مفهوم الآية استخراج درر ومسائل من آية البحث ، نعم هذه المسائل أعم من أن تكون أدلة شرعية ، إنما هي بيان لذخائر القرآن وشواهد على ضروب كامنة من الإعجاز في ثنايا كلماته ، تدعو العلماء في كل زمان إلى استحظارها والإنتفاع الأمثل منها لأمور الدين والدنيا ، قال تعالى [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
وموضوع هذا الجزء المبارك من التفسير هو قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) ومن خصائص هذا الباب استقراء السلم والصلح والعفو في مفهوم الآية الظاهر والخفي .
السابع : باب إفاضات الآية
من خصائص الآية القرآنية جعلها الوقائع والأوامر والنواهي حاضرة في الوجود الذهني بما يفيد البعث على فعل الصالحات والأخلاق الحسنة ، والتنزه عن القبائح ومنها التعدي والظلم ،قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية لما في الإعادة من الثواب والإفادة الخاصة والعامة ، إذ ينفع المسلم نفسه وغيره في تدبره لمضامين وأحكام الآية القرآنية .
لقد أفردت باباً في تفسير كل آية بعنوان إفاضات الآية لما يترشح عنها من الرقائق والعرفان وأسباب السمو والرفعة والملكات المترشحة عن الآية القرآنية، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( ).
وتبعث الآية القرآنية المؤمنين نحو مراتب الكمال في القول والفعل والأخلاق الحميدة ، وتتجلى منافع وفيوضات الآية القرآنية على المسلمين في أيام التنزيل وما بعدها .
ويتلو كل مسلم ومسلمة قول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم والليلة .
ومن استجابة الله عز وجل لهذا الدعاء جعل الآية القرآنية حية طرية تفيض بالبركة ، وتنير سبل الرشاد وتملأ القلوب سكينة ورضا.
وهل من إفاضات الآية القرآنية الدعوة إلى السلم ، الجواب نعم لأنه من مصاديق الحكمة، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
والنسبة بين الإعجاز الغيري للآية وبين هذا الباب هو العموم والخصوص المطلق ، إذ أنه فرع هذا الإعجاز ، وأن تعلق موضوعه بالنظم البديع للآية القرآنية وجمال ألفاظها ورقة صياغتها .
الثامن : باب الآية لطف
وفيه بيان للطف الإلهي الذي تتضمنه الآية في كلماتها ومعانيها , وما يترشح عنها من فضل الله عز وجل سواء اللطف بمعنى تقريب العباد إلى العمل بمضامين الآية بإزاحة الموانع التي تحول دون العمل بها , ويمكن القول أن كل كلمة في القرآن هي لطف من الله عز وجل , ونعمة متجددة إلى يوم القيامة , ويحتمل اللطف الإلهي في آيات القرآن وجوهاَ :
الأول : إتحاد وتشابه اللطف الإلهي في آيات القرآن .
الثاني : في كل آية من القرآن لطف مستقل .
الثالث : إتحاد وتشابه اللطف الإلهي في شطر من آيات القرآن , واستقلاله في الشطر الآخر من الآيات .
الرابع : تعدد وجوه اللطف الإلهي في الآية القرآنية الواحدة .
والمختار هو الأخير .
ويقال (والسَّلم بالنصب هو المسالمة والصلح . ويقال : السَّلم والسَّلم في اللغة : هو الصلح) ( ) ولم يثبت هذا القول الذي يفيد وضع كلمة السلم للصلح , لذا نسبه إلى القيل , وهذه النسبة تضعيف له , خاصة أنه ذكره بعد أن ذكر المعنى اللغوي للسلم وهو المسالمة والصلح .
وعن (قَتَادَةُ: ” ” فِي السِّلْمِ ” , يَعْنِي: الْمُوَادَعة) ( ) و عن ابن عباس وعدد من التابعين ({ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الإسلام)( ).
ولهذا إبتدأت الآية بالخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ولو دار الأمر بين إرادة المسلمين الذين نطقوا بالشهادتين وبين إرادة جماعة من أهل الكتاب وأنهم كرهوا أكل لحوم وألبان الإبل حينما دخلوا الإسلام , فالأصل هو الإطلاق , إنما الآية نعمة عظمى على المسلمين بهدايتهم إلى منهاج الصلح والسلم والموادعة , نعم لا مانع من تعدد معاني الآية وإرادة العام والخاص في آن واحد .
وبالإسناد (عن ابن عباس:” ادخلوا في السلم كافة”، قال : السلم : الإسلام.) ( ) قال ابن جرير الطبري (224-310)( ) هجرية في بيان معاني الآية .
(فقيل لهم:” ادخلوا في السلم”، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح فقال:( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ) ( ) وإنما أباحَ له صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة، فقال له جل ثناؤه:( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( ) فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله:” ادخلوا في السلم” إلى ذلك.)( ).
ولكن منطوق ومفهوم آيات القرآن يتضمن الحسن الذاتي للصلح مطلقاَ فيجوز الإبتداء به.
وتبين السنة النبوية استحباب الدعوة إلى الصلح مطلقاَ سواء مع أهل الكتاب أم مع المشركين , أما أهل الكتاب فتدل عليه موادعة وعقود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة , ثم مع وفد نصارى نجران .
وأما مع المشركين فيدل عليه صلح الحديبية , وظاهره أن الله عز وجل هو الذي أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى الحديبية ليتم صلح الحديبية لأنه خرج بالوحي فطلب الصلح إبتداء ليس فقط من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إنما هو من عند الله عز وجل , ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) أن الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة عامة , وبما ينفع الناس جميعاَ , ومن معاني خطوات الشيطان التي تنهى آية البحث عن إتباعها أمور :
الأول : العداوة ومقدماتها .
الثاني : الإصرار على الشروط التي تحول دون الصلح .
الثالث : الحصر بين إنتزاع الحقوق كاملة أو القتال .
ولا تعارض بين قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] ( ) وبين [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
السابع : الصلة بين أول وآخر الآية
وهذا العنوان مستحدث إصطلاحاَ ومنهاجاَ وموضوعاَ في التأريخ , خاصة بلحاظ انتظامه وجعله مبحثاَ مستقلاَ في تفسير كل آية من القرآن بما يستقرأ معه قوانين وعلوم مستحدثة من هذا الباب وبما ينفع في أبواب التفسير الأخرى وأمور الدين والدنيا وموضوع هذا لباب في تفسير الآية هو :
الأول : الصلة بين أول ووسط الآية .
الثاني : الصلة فيما بين مضامين ذات وسط الآية خاصة بالنسبة للآيات التي تتضمن عدة جمل .
الثالث : الصلة بين أول وآخر الآية .
الرابع : الصلة بين وسط وآخر الآية .
وهذا الباب وعلومه غير (باب في سياق الآيات) وأخص منه.
ومن خصائص هذا الباب تعدد العلوم المستقرأة منه وبما يؤكد صدق نزول الآية القرآنية من عند الله عز وجل ولا بد من تعاهد هذا الباب في علوم القرآن لما فيه من الذخائر المدخرة للأجيال اللاحقة , والمسائل والحجج المستنبطة والقوانين التي يستقرئها العلماء في المستقبل وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ] ( ) .
وهل يتناسب عدد المسائل والقوانين المستنبطة من الآية القرآنية في المقام طردياَ حسب كثرة كلمات الآية القرآنية , الجواب لا , لعجزي عن الغوص في خزائن الآية القرآنية , قال تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ] ( ).
الثامن : باب من غايات الآية
أبدأ هذا الباب في تفسير كل آية بالقول : في الآية مسائل :
ثم اذكر شذرات من المقاصد السامية للآية القرآنية ودلالاتها , وسبل الهداية فيها .
فمن خصائص الآية القرآنية أنها إمام وضياء , وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بتلاوة كل واحد منهم رجلاَ أو امرأة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة ومن معاني الصراط القرآني والعمل بها .
ومن خصائص الآية القرآنية عجز الناس عن درك الغايات الحميدة منها , لذا ذكرت التبعيض في عنوان هذا الجزء (من غايات) ويبقى هذا الباب والتحقيق فيه مفتوحاَ للعلماء اليوم وغداَ .
التاسع : باب التفسير
ثم أدخل في تفسير الآية بشطرها أجزاء وكلمات , كل كلمة , أو جملة لها تفسير مستقل , ويشمل وجوهاً منها :
الأول :التفسير اللغوي .
الثاني : علم الكلام والعقيدة .
الثالث : الفقه , ومنه الفرائض العبادية .
الرابع : التفسير الموضوعي .
الخامس : أحكام الآية ومعانيها .
السادس : التأريخ .
السابع : الغيب .
الثامن : التفسير بالمأثور أي بالرواية.
التاسع : أسباب لنزول مع التحليل والإستنباط .
العاشر : تأسيس القوانين من ذات مضامين الآية القرآنية .
الحادي عشر : التفسير الذاتي للقرآن , وهو تفسير القرآن بالقرآن .
الثاني عشر : لحاظ المحكم والمتشابه , والمجمل والمبين , والمطلق والمقيد , والعام والخاص , والناسخ والمنسوخ .
الثالث عشر : شواهد آيات القرآن على القوانين العامة المستحدثة التي صدرت في كل واحد منها أجزاء متعددة وهي :
أولاَ : صدرت (25) جزء من هذا التفسير بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
ثانياَ : (10) أجزاء بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
ثالثاَ : (5) أجزاء بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
رابعاَ : (5) أجزاء بقانون (آيات الدفاع سلام دائم).
خامساَ : (6)أجزاء بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الثالث عشر : إجتناب ما يتنافى مع ظاهر القرآن .
الرابع عشر : مراجعة أمهات كتب التفسير .
البحث البلاغي
من إعجاز القرآن بلاغته وهو بما تسالم عليه المسلمون والعلماء خاصة لما فيه من تمام الإظهار للمعنى .
وبيان المراد مع تزيين الألفاظ ومجئ الأوامر بعذوبة وحلاوة تبعث في النفوس الشوق لإتيانها .
من إعجاز القرآن بلاغته وهو بما تسالم عليه المسلمون والعلماء خاصة لما فيه من تمام الإظهار للمعنى , وبيان المراد مع تزيين الألفاظ ومجئ الأوامر بعذوبة وحلاوة تدعو على الإمتثال لها , ومجئ الإنذار ببلاغة بتحث على النفرة مما نهى الله عز وجل .
وقد أفردت باباَ للإعجاز البلاغي في أكثر الآيات التي تضمن هذا الجزء تفسيرها من سورة الفاتحة وسورة البقرة وأكثر آيات آل عمران مع العناية بفصاحة الآية , وسلامة كلماتها من تنافر الحروف , فتجد حرف الميم يتكرر ست عشرة مرة في الآية [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) .
وليس من عسر من تلاوتها وقراءة كلماتها وقد نجمع بين البحث البلاغي والعقائدي ونحوه .
وتتعدد البحوث والتحقيق الخاص في هذا السِفر ليشمل أبواباً متفرقة في عدد من أجزاء هذا التفسير وهي :
الأول : بحث فقهي .
الثاني : بحث أصولي .
الثالث : بحث عقائدي .
الرابع : بحث كلامي .
الخامس : بحث عرفاني .
السادس : بحث أخلاقي .
السابع : بحث منطقي .
باب علم المناسبة
ويتعلق موضوعه بتتبع كلمة أو أكثر من كلمات الآية ووجودها في آيات القرآن الأخرى , والدلالة والمسائل المستقرأة من الجمع بينها , وتتجلى فيه علوم مستحدثة من القرآن وشواهد من إعجازه .
ويتعلق موضوعه بتتبع كلمة أو أكثر من كلمات الآية ووجودها في آيات القرآن الأخرى , والدلالة والمسائل المستقرأة من الجمع بينها , وتتجلى فيه علوم مستحدثة من القرآن وشواهد من إعجازه .
وأقوم بإختيار كلمة أو كلمتين من الآية الكريمة في هذا الباب تأسيساَ لهذا العلم , وبياناَ للمسائل والقواعد المستقرأة منه وعلى فرض تم تأليف عشرات الآلاف من التفسير الجامع بالجمع الذي اقترحته في هذا الجزء فهل يغني عن باب علم المناسبة , الجواب لا , لخصوصيته والكنوز المستخرجة بواسطته .
قانون دعوة الموسم
هذا إصطلاح مستحدث هنا إذ يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في موسم الحج في كل من :
الأول : البيت الحرام عند مجئ وفد الحاج .
الثاني : أسواق مكة ، إذ يطوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها وهو ينادي (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
وعن (جَامِعِ بْنِ شَدّادٍ قَالَ حَدّثَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ إنّي لَقَائِمٌ بِسُوقِ الْمَجَازِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّه تُفْلِحُوا وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ لَا تُصَدّقُوهُ فَإِنّهُ كَذّابٌ.
فَقُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ .
قُلْتُ مَنْ هَذَا الّذِي يَفْعَلُ بِهِ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى)( ).
ويبين الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذهب إلى أسواق مكة بقصد التبليغ وإعلان الرسالة ، وهو من دعوة الناس جميعاً إلى كلمة التوحيد، ودعوة المشركين لها من باب الأولوية القطعية ، إذ أنهم عبدة الأوثان .
ويقع سوق ذي المجاز وهو آخر أسواق مكة في الطريق إلى أداء مناسك الحج ، إذ يكون المجاز والطريق منه إلى عرفات ومباشرة أعمال ومناسك الحج لذا يشهده أكثر وفد الحاج ، فمن لم يحضر سوق مجنة وسوق عكاظ يحضر هذه السوق وتبعد عن عرفات 15 كم.
وتشهد هذه السوق فكاك بعض الأسرى ، ويقوم بعض ذوي الشأن باجارة الخائف أو عتق عبيد .
وتباع في هذه السوق السيوف والرماح والملابس والسمن والمواشي والعطور ، وكانت العملة المتداولة الدنانير الذهبية والدراهم الفضية التي ضربتها دولة الروم ، وكذا التي ضربتها دولة فارس ، كما يتم البيع سلعة في مقابل سلعة أو مع بدل إضافي , إذ يأتي الناس معهم بالأموال والأنعام والبضائع من غير خشية من السرقة والسلب والقتل لوقوع الحج في الأشهر الحرم .
وتقع في هذه السوق بعض أفعال اللهو ، كما يقوم بعضهم بالقاء الأشعار ، ومدح قومه ، وذكر آبائه بالفخر ، وكانت العرب تستهجن العمرة في أشهر الحج .
إذ (تقول قريش وغيرها من العرب لا تحضروا سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئاً من المحارم أو يعدوا بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم) ( ).
فبعد أن كانت الأسواق محلاً للأشعار والتفاخر والقدح والذم إلى جانب البيع والشراء ، اصبحت محلاً لتبليغ الرسالة ، وصار الناس يشترون العلم ويصغون إلى التنزيل .
الثالث : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث إلى وفود القبائل وأهل المدن الذين يحضرون موسم الحج ، والذهاب لهم إلى منازلهم .
وبينما كان العرب يعتنون بالأشعار ، وتتزين مجالسهم بها ، صارت قصص الأنبياء موضوع مجالسهم ، ولا تأتي إلا بواسطة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وبلاغته التي تفوق بلاغة الشعراء بمراتب سامية .
لتكون هذه الأسواق السنوية من أسباب الزجر العام عن الإضرار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ،وهو من مقدمات بعثته والمعجزات التي سبقتها ، والمعنى الأعم للمعجزة وكونها نعمة ، وفضل من عند الله على النبي وأتباعه والناس جميعاً .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انتقال صبغة السلم في دعوته إلى الأسواق وتهذيبها من أسباب القدح وإثارة الفتنة بين القبائل .
فصحيح أن أسواق مكة كانت تعقد في الأشهر الحرم وامتناع عن القتال إلا أنها قد تولد الضغائن والأحقاد ، وقد تتضمن التهديد والوعيد ، لذا كان بعضهم يتلثم خشية معرفته في السوق ثم الثأر منه بعد الأشهر الحرم ، ومنهم من يهتك حرمة الأشهر الحرم ويسفك الدم فيها وهو نادر ومذموم.
وكان بعض الشعراء يسأل السلم في قصيدته ، ويبين أن الحروب بين القبائل وتكرار الثأر تؤدي إلى الفناء وإلى صيرورة النساء عوانس ، وسرعان ما يتبدد مثل هذا النداء أمام صخرة العصبية والمناجاة بالبطش والإنتقام.
لبيانالحاجة إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها رحمة عامة بالناس إذ جاءت بالقضاء على الثأر بالأحكام الشرعية ، وحرمة الدم والقتال بين القبائل ، والتفصيل بين القتل الخطأ وفيه الدية ، والقتل العمد وفيه القصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
ومن رحمة الله آيات السلم التي وقّفت القتال حمية وعصبية ، وهو من الشواهد على سلامتها من النسخ .
ومن إعجاز القرآن القضاء على الإقتتال بين القبائل برفق لم يحدث في التأريخ أبداً ، إذ تنزل آية قرآنية ، فيبادر المسلمون للتقيد بمضامينها والعمل بأحكامها .
لقد اتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موسم الحج مناسبة للدعوة إلى الله عز وجل ومناسبة لزجر الناس عن نصرة كفار قريش في محاربتهم له بعد الهجرة.
فقد كان عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة في بداية الهجرة قليلاً ، ولو اجتمعت القبائل مع قريش على غزو المدينة وبحماس وعصبية لوقع ما لا يعلم ضرره على الناس في أجيالهم المتعاقبة إلا الله عز وجل ، إلا أنه تفضل بالوعد بصرفهم عن مثل هذا الإجتماع بقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
لقد انزجر كثير من الناس عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار والموعظة وهي من مصاديق الرفق في الدعوة ، ومن الشواهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة لما فيها من بعث النفرة في النفوس من الإقتتال مطلقاً ومن محاربة النبوة والتنزيل.
لقد طردت آيات البشارة والإنذار العصبية القبلية ، ومنعت من استيلائها على النفوس ، ثم جاء أداء المسلمين الصلاة خمس مرات في اليوم لإستدامة وتجدد العصمة من الحمية ومن الفتنة ، والأخلاق المذمومة فلا تنحصر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمحاربة الشرك والضلالة.
إنما تتضمن نشر الأخلاق الفاضلة ، وجعل [كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا]( )، وجعل المجتمعات تتقوم بالتعاون والحوار ويسودها السلم المجتمعي.
قانون مناجاة قريش بالباطل
من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) دعوة الناس لمناجاة الله عز وجل بصيغ الذكر والطاعة والحب وبث الشكوى.
وجعل الله عز وجل البيت الحرام تذكرة وباعثاً على المناجاة ، وبعث الله عز وجل النبي محمداً بآيات المناجاة ، وسميت آية من القرآن بآية المناجاة ، وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً] ( ) .
(إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة} فإنّها فرضت ثم نسخت)( ).
لقد مكث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في مكة بين ظهراني قريش وقد حرموا أنفسهم من عذوبة مناجاته في تلك المدة وقدرها 23 سنة × 355 = 8165 يوماً ولم ينصتوا إلى آيات القرآن وما فيها من الحلاوة والبلاغة والموعظة ، إنما اجتهدوا في إيذائه حتى إذا أرادوا قتله نزل جبرئيل يحمل الأمر بالهجرة عندئذ اشتدت مناجاتهم بمحاربته ، وعزموا على تجهيز الجيوش للإجهاز على الإسلام في سنيه الأولى .
لقد تناجى كبار رجالات قريش للحرب وبادروا إلى بذل الأموال لمعركة بدر وأعان الثري منهم الفقير.
وقام نفر منهم بحض الناس على الخروج للقتال وهم :
الأول : سهيل بن عمرو والذي أسر يوم بدر ثم أسلم .
الثاني : زمعة بن الأسود (أبو حكيمة ) والذي قتل في معركة بدر هو وابنه الحارث الذي كان قد أسلم وأخوه عقيل ، ولكن أباه زمعة حبسه ثم أخرجه معه إلى بدر.
وزمعة من الذين نزل فيهم قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
الثالث : طعيمة بن عدي , قتل يوم بدر ، قتله حمزة بن عبد المطلب ، وكان طعيمة قد قتل يومئذ الصحابي صفوان بن بيضاء .
الرابع : حنظلة بن أبي سفيان وهو ممن قتل من المشركين ، و(منهم شيبة وعتبة ابنا ربيعة بن عبد شمس والوليد بن عتبة والعاص بن سعيد بن العاص وأبو جهل بن هشام وأبو البختري والحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وطعيمة بن عدي وزمعة بن الأسود بن المطلب ونوفل بن خويلد وهو بن العدوية والنضر بن الحارث قتله صبرا بالأثيل وعقبة بن أبي معيط قتله صبرا بالصفراء والعاص بن هشام بن المغيرة وأمية بن خلف وعلي بن أمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ومعبد بن وهب)( ).
قانون صبغة السلم والرفق في الرسالة المحمدية
من خصائص الحياة الدنيا أنها دار الرأفة والرحمة من عند الله عز وجل بالناس جميعاً ، فتأتي للفرد والجماعة رحمة مخصوصة ، بما لا يأتي لغيرهم بمثلها ، إلى جانب النعم العامة التي تتغشاهم ، ومنه بعث الله عز وجل الأنبياء إلى قوم أو أمة مخصوصة إلى جانب بعث الرسل إلى الناس جميعاً ، وهو الذي يتجلى بالخطاب العام في القرآن الموجه إلى الناس جميعاً كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
ومن الرأفة العامة بالناس صبغة الرحمة واللطف في الدعوة إلى الإسلام والهدى من جهات :
الأولى : البلاغ العام للناس من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ويتضمن الأمر من الله [قُلْ] في الآية أعلاه الوجوب والفورية والتجدد ، ولا يدخل في دلالة الأمر على المرة أو التكرار في مباحث علم الأصول فلابد من التكرار والتوالي بدليل ذات الآية وصيغة الخطاب [يَاأَيُّهَا النَّاسُ]
وهل في الآية إخبار عن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب وخروجه في الكتائب وبعثه السرايا ، ولزوم امتناعهم عن قتاله.
الجواب نعم ، خاصة وأن سورة الأعراف نزلت في مكة ، وهي من أطول السور المكية ، ومن السبع الطوال ، وعدد آياتها مائتان وست آيات.
الثانية : لقد تضمنت سورة الأعراف أخبار وقصص الأنبياء من أيام آدم عليه السلام ونوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى وعيسى عليهم السلام .
وذكر ذات قصص القرآن حجة بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ولطف لبيان هذه القصص جهاد الأنبياء بالصبر والدعوة إلى الله بالموعظة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وهل من اتصاف هذه القصص بالحسن دعوتها للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصبغة القرآنية والسلم التي تتصف بها ، الجواب نعم.
الثالثة : لم تكن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام بالإجتهاد والنظر ، إنما كانت بالوحي ، ويشمل هذا الوحي الإذن بمفاتحة الأشخاص ، وكيفية الخطاب والحجة والبرهان .
ليكون قانون الوحي رحمة عامة , وهو الملاك في الدعوة .
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)( ).
الرابعة : قانون دلالة السنة النبوية الفعلية على مناهج الرحمة التي يتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم والدفاع ومصاحبة السكينة له في كل أحواله مما يدل على تنزهه عن طغيان الغضب على جوارحه ، قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
الخامسة : نزول القرآن بآيات الرحمة والمغفرة ، ترى أيهما أكثر آيات الرحمة أم آيات الغضب والسخط الإلهية وآيات الثواب الحسن أم آيات العقاب.
الجواب أن آيات الرحمة وآيات الثواب الحسن هي أضعاف آيات الغضب والسخط الإلهي وآيات العقاب.
ومع تضمن السور المكية الإنذار والوعيد فان البشارات في القرآن أكثر من الإنذار.
وهل هو من الشواهد على عدم نسخ آيات السلم في القرآن أم لا ، المختار هو الأول بلحاظ وحدة الموضوع في تنقيح المناط ، إذ تجتمع في وحدة الدلالة والغرض كل من :
الأولى : آيات الرحمة .
الثانية : آيات المغفرة.
الثالثة : آيات الصلح والإصلاح.
الرابعة : آيات السلم .
الخامسة : آيات العفو والصفح ، قال تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
قانون لم يشهر النبي (ص) السيف ولم يهزم في المعارك
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يقاتل إلا دفاعاً ، ومع هذا لم يهزم في المعارك مع قلة أصحابه وعدتهم وأسلحتهم بالقياس إلى كثرة عدد المشركين ومؤنهم وحدّة أسلحتهم.
ومما يدل على أن المشركين هم الغزاة استعدادهم التام للقتال في العدد والعدة والظهر والأموال وكانوا يعلمون قلة عدد الصحابة وأسلحتهم وفقرهم الذي يترتب عليه قلة العدة والخيل ، فيأتي المشركون بأضعاف عددهم .
وهل كان الإسلام يدعو إلى السلم عن ضعف ، الجواب لا ، إنما هو منهاج الأنبياء ، ورحمة الله عز وجل بالناس جميعاً بنزول القرآن ليكون الإطلاق في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، شاهداً على كون آيات السلم محكمة غير منسوخة.
لقد انتشر الإسلام بسرعة إعجازية فائقة ، وقد يظن بعضهم أن هذا الإنتشار بالسيف لأنه الآلة الوحيدة التي تحمل الناس على الإنقياد ، ولكن آيات القرآن والسنة والوقائع التأريخية تبين خلو دعوة النبي للإسلام من السيف أو إتخاذه آلة لحمل الناس على الإسلام ، وقد قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ) .
وكانت هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة شاهداً قطعياً على عدم استعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيف في دعوته ، بل لم يتخذه سلاحاً للدفاع عن نفسه.
فعندما أرادت قريش قتله نزل جبرئيل بأمره بالهجرة من ليلته ،وكان نفع الهجرة والإعراض عن الظالمين أفضل وسيلة لجذب الناس إلى التوحيد وسنن العبادة ، وهذه الهجرة ترجمة عملية لآيات السلم وهو من البرهان الإني للإستدلال على سلامتها من النسخ بأن تأتي السنة النبوية تثبيتاً لمضامين هذه الآيات وأحكامها.
وكذا بالنسبة لهجرة طائفة من الصحابة الأوائل إلى الحبشة وليأتي إمتناع النجاشي من تسليم الصحابة إلى وفد قريش برئاسة عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة لقريش برهاناً على دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الله [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
إحصاء عهود النبي (ص)
لقد أعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العهود , وأمضى المواثيق , وتعاهدها وحافظ عليها , قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
لقد نزل القرآن بالحفاظ على العهود والمواثيق قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
وجاء القرآن بكتابة وتوثيق الديون وفي أطول آية من القرآن كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ …]الآية ( ).
فمن باب الأولوية توثيق العهود النبوية الشخصية والعامة , ومنها ما تم في مكة أو في طريق الهجرة أو في المدينة بعد الهجرة , وأكثرها في المدينة , ومنها ميثاق المدينة .
ولابد من إحصاء العهود والمواثيق الخاصة والعامة التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنافع هذه العهود مع كل من :
الأول : وثيقة المدينة لتنظيم الصلات الإجتماعية بين الصحابة واليهود ، ومنها (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)( ).
الثاني : النصارى ، كما في نصارى نجران ، إذ تضمن عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم اعطاءهم حقوقاً كثيرة ، وعصمة لأنفسهم ودينهم وأموالهم ومنها.
(وَلِنَجْرَانَ وَحَسْبُهَا جِوَارُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَتَبَعِهِمْ وَأَنْ لَا يُغَيّرُوا مِمّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَا يُغَيّرُ حَقّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا مِلّتِهِمْ وَلَا يُغَيّرُ أُسْقُفٌ مِنْ أُسْقُفِيّتِهِ وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيّتِهِ وَلَا وَافِهٍ( ) عَنْ وَفَهِيّتِهِ وَكُلّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رِيبَةٌ وَلَا دَمُ جَاهِلِيّةٍ وَلَا يُحْشَرُونَ وَلَا يُعْشَرُونَ وَلَا يَطَأُ أَرْضَهُمْ جَيْشٌ وَمَنْ سَأَلَ مِنْهُمْ حَقّا فَبَيْنَهُمْ النّصْفُ غَيْرَ ظَالِمِينَ وَلَا مَظْلُومِينَ) ( ).
الثالث : المشركون الذين حول المدينة مثل بني ضمرة وبني مدلج وحلفائهم .
الرابع : العهود التي عقدها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مشركي قريش وأظهرها صلح الحديبية في شهر ذي العقدة من السنة السادسة للهجرة ، والذي جعله الله عز وجل فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل هناك من صلة بين عهود وموادعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود والقبائل وبين صلح الحديبية.
الثانية : هل صلح الحديبية شاهد على عدم نسخ آيات السلم .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، إذ أن هذه العهود والموادعة مقدمة لصلح الحديبية وباعث للسكينة في نفوس الناس من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخول أهل المدينة الإسلام جماعات وبيوتاً ، وهو من مصاديق اللطف والرفق العام في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، إذ رضي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشروط المشركين القاسية في هذا الصلح مع أنهم في حال وهن وضعف.
ومن الشواهد على بقاء أحكام آيات السلم أن أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نقص متصل بأن ينتقل الأفراد والجماعات منهم إلى باحة الإيمان ، ليخرجوا في سرايا الدفاع تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيصاب المشركون عند رؤيتهم بالخيبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
قانون الإيمان قبل العشيرة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون غلبة الإنتساب إلى الإسلام على الإنتساب إلى القبيلة والعشيرة ، وهل هذا التغليب من الشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ وتبديل أحكامها ، الجواب نعم لعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فان قلت تختص هذه الآية بالمؤمنين بينما تفيد آيات السلم العموم ، وإرادة الوئام والوفاق بين الناس والجواب من وجوه :
الأول : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة العامة للإيمان.
الثاني : الأصل في انتساب الناس هو الإيمان ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ]( ).
وقد عضّد وثبّت القرآن هذا القانون بآيات البسملة في أول كل سورة ، وندب التسمية المتكررة للمهاجرين والأنصار فيه .
وبقانون الصلة الأخوية والتكافل والتكاتف بينهم ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ) .
كما قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، وكان التوارث وفق هذه المؤاخاة إلى أن نزل قوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ) .
الثالث : عدم تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد القبائل مع أنهم مشركون وعدم إكراههم على دخول الإسلام ، وهو من الشواهد على قانون استدامة أحكام آيات السلم ، وعلى قانون عدم إنتشار الإسلام بالسيف .
وهل من تعارض بين المعجزة واستعمال السيف ، الجواب لا ، ولكن النوبة لا تصل إليه .
وهل السيف تعضيد للمعجزة ، الجواب لم يثبت هذا المعنى ، نعم استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السيف للدفاع عن أنفسهم ، وعن التنزيل والعرض والمال ، وعن الإصلاح إلى يوم القيامة .
فلم يتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السيف وسيلة للإصلاح أبداً ، إنما رفعه المشركون بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإقامتهم على الفساد والظلم والتعدي ، وللصدّ عن الإصلاح الذي جاءت به النبوة والتنزيل .
لقد كان سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعجزة وأسباب الهداية والرشاد ، وبيان آيات التوحيد ورشحات التنزيل وثمرات الوحي .
ويبين قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ) أن الإسلام انتشر بالحجة والبرهان ، وأن الله عز وجل هو الذي تكفل بنشر وإظهار الإسلام وتثبيت مبادئه في الأرض .
وهل يمكن تقدير خاتمة الآية أعلاه : ولو كره المشركون وأشهروا السيوف وحاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم.
ولقد وقف نفر من الصحابة في معركة بدر إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم يرون آباءهم أو إخوانهم في جيش مشركي قريش كما هاجر عدد من الصحابة إلى الحبشة مع كراهية آبائهم لهجرتهم ، وحنقهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب هذه الهجرة ، ولم يعلموا أن فيها خير الدنيا والآخرة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه في الإنتساب إلى الإيمان إصلاح للعشيرة , وسيادة لمفاهيم التقوى والسلم المجتمعي .
قانون كتائب النبي (ص) عهود وموادعة
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه وأصحابه ساروا إلى معركة بدر في طريق قد ساروا فيه قبل مدة قليلة إلى بدر الأولى سفوان ولم يقع قتال فيها فهم يعلمون أحوال المنطقة والقبائل التي في الطريق والتضاريس وعدد ومواضع آبار الماء ووفرتها والكلأ ونحوه.
فاستكشاف المنطقة قبل المعركة أفضل من عدمه.
ومن الآيات في المقام عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقد موادعة مع بني مدلج في كتيبة العشيرة ، والتي تسمى غزوة مع أنه لم يقع فيها قتال ، وأن موضوعها صلح وموادعة وخير محض ، وهذا العقد لم يكن مطلوباً في أصل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بل وقع عرضاً .
وفيه رسالة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : رسالة الى الناس جميعاً بأنه لا يريد القتال حتى مع الذين كفروا.
الثاني : قانون دين الإسلام سلام .
الثالث : قانون دعوة القبائل إلى نبذ القتال فيما بينهم وإن كانوا كفاراً.
الرابع : قانون تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذات نهج السلم والصبر عندما كان في مكة.
الخامس : هل عقد الصلح والموادعة هذا من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( )، الجواب نعم ، وهو مقدمة لها.
وهل لخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتكرر من المدينة موضوعية بهذه العقود بحيث أنه لو لم يخرج من المدينة في الكتائب ويبعث السرايا لم تتم هذه العقود ، ومنها موادعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع بني ضمرة ، الجواب نعم ، لأن القبائل رأت أموراً :
الأول : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق وحال الحل والسفر .
الثاني : الزهد والعبادة ومصاديق التوحيد التي عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصلاة في أوقاتها عند مداخل القرى .
الرابع : قيام بلال وغيره من الصحابة بالأذان في أوقات الصلاة على نحو الدقة والتعيين ، ليقف الصحابة صفوفاً خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو القرآن بذات الألفاظ والصيغة التي نزل بها جبرئيل .
الخامس : دلالة هذه الكتائب وطرق سيرها على أن المسلمين أمة ذات منعة .
السادس : تسليم القبائل بالحاجة إلى الموادعة والمعاهدة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وفيه إضعاف لنفوذ قريش في الجزيرة وتهديد لتجارتها لزوال هيبتها عند القبائل , واحتمال قيام أفرادها بالتعرض لهذه القوافل بما لا تقدر قريش على دفعه وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
وهل يسلم بعض أفراد القبائل حينما يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعون قراءته القرآن ودعوته لهم للإسلام ، الجواب نعم .
بحث أصولي قاعدة السلطنة أمن وسلام
من القواعد العقلائية النظامية قاعدة السلطنة وهي مقررة في الشرائع والملل السماوية وتسالم عليها العقلاء .
ويمكن الإستدلال عليها بادراك العقل للحسن والقبح في ذات الأفعال من غير ان تصل النوبة للإستعانة بالحكم الشرعي إذ يُذم الذي يتعدى على أموال الآخرين ، ويبخس الناس أشياءهم ، وهذا الذم العام من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وكأن العقل حارس ومتعاهد لقاعدة السلطنة وهي سلطة وحق تصرف الإنسان في ماله فلا يجوز إجباره على بيع أو هبة ، أو منعه مما هو مباح شرعاً ، لأن هذا المنع ظلم ، ويمكن الإستدلال بقوله تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] ( ) و [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) وقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ] ( ).
نعم قاعدة لا ضرر ولا ضرار حاكمة على قاعدة السلطنة ، بمعنى انها توسعها او تضيقها من غير ان تكون نفياً لها ولأثرها ، وقيل مع التعارض تقدم السلطنة على قاعدة لا ضرر.
ولكن ليس من قاعدة كلية في المقام لتباين الأحوال وتعدد الموضوع وان هذه الآية تثبيت لأسس هذه القاعدة وحصن لها وموضوع لمصاديقها بل ومادة لتأسيسها.
ومعنى قاعدة السلطنة تسلط المالك على ماله ، وحرية تصرفه فيه بالحلال والإنتفاع به ، وإنعدام المانع دونه.
ومنهم من يسمي هذه القاعدة (قاعدة الناس) أي الناس مسلطون على أموالهم ، وهو اختصار غير مناسب ، ومن أدلة هذه القاعدة قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، وقوله تعالى [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ]( )، إذ ورد لفظ العموم (الناس) الشامل للمسلم والكتابي والكافر.
ومنه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا]( )، وقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، كما تدل على قاعدة السلطنة الآيات التي تدعو إلى الحلال وإجتناب الحرام قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
و(عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا ، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلاَفَهَا ، أَتْلَفَهُ اللَّه)( ).
وورد قول عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : الناس مسلطون على أموالهم ) مئات المرات في كتب الفقه الإمامية مع نسبته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ولكن من غير اسناد صحيح أو ضعيف أو مرسل ، فقد ذكره صاحب البحار مجرداً من غير سند(وقال صلى الله عليه واله: إن الناس مسلطون على أموالهم) ( ) وكذا في غوالي اللآلي( ) .
وقال بعضهم أنها مرسلة لكنها مجبورة بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً .
والقدر المتيقن من الإرسال هو ما سقط من إسناده طبقة واحدة وأحد الرواة ، نعم يمكن القول بالمعنى الأعم للمرسل ، وهو الحديث الذي حذف منه جميع رواته ، ومنه مثلاً ما يرويه مالك في الموطأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع وجود عدة وسائط بينه وبين الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والحديث المرسل ضعيف بالإرسال والجهل بالواسطة المحذوفة ، واستثني منه بعض المراسيل .
وتدل على هذا الحديث آيات القرآن ، والسنة النبوية القولية والفعلية ، وهو نظام عام في الأرض ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
وعن فضالة بن عبيد (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في حجة الوداع : ألا أخبركم بالمؤمن ، من أمنه الناس على أموالهم ، وأنفسهم ، والمسلم من سلم الناس من لسانه ، ويده ، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) ( ).
وحتى المرسل العام لا يكون مطلقاً في كثرة الوسائط المحذوفة إنما مع قلة تلك الوسائط فمثلاً توفى مالك سنة 179 هجرية .
وكذا بالنسبة لمراسيل الصدوق عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
والصدوق هو محمد بن علي بن الحسين بن بابويه (306-381) هجرية.
كان فقيهاً ، متكلماً ، مؤرخاً ، عالماً بالرجال ، ناقلاً للأخبار .
جاء بغداد سنة (352) هجرية ، وزار الكوفة سنة 353 ثم توجه إلى مكة لأداء مناسك الحج ، ثم رحل إلى ما وراء النهر ، وقيل كان في مواضع قليلة يختصر الخبر الطويل ، ويُسقط منه ما يرى اسقاطه ، كما في كشف القناع للمحقق الكاظمي ، وقد لا تثبت كثرة هذا الإختصار والإسقاط إنما طريقه إلى جهة الصدور مختلف وله نحو ثلاثمائة مصنف ، ومات في بلاد الري في ضواحي طهران.
وقد ذكر في آخر كتابه النسبة إلى أرباب الكتب الذين روى عنهم لتكون الروايات مسندة وليس مرسلة في الجملة .
أما اذا ذكر الخبر عالم من المتأخرين أو متأخري المتأخرين من غير أن يسنده أو يذكر مصدره فهو ليس من المرسل ، أي أن اصطلاح المرسل في الحديث ليس مطلقاً من جهة الزمان وطبقات الرجال.
والمجلسي هو محمد باقر (1037-1110) هجرية ، أما والده محمد تقي المجلسي فقد توفى سنة (1070) هجرية.
وله مؤلفات عديدة أشهرها (بحار الأنوار- الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار) ويتألف من 110 جزءً فهو كتاب جامع للأخبار والنصوص مع تحقيق قليل إذ نقل عن (375) كتاباً وكان عنده كتبة يساعدونه في النقل ، وهو من أسباب تسميته المجلسي ، وإن أخذ اللقب من أبيه .
وتم جمعه لروايات الكتاب من سنة 1070- إلى سنة 1103) أي تم في ثلاث وثلاثين سنة وبوبه تبويباً جميلاً .
وكان يبدأ الباب بذكر عدد من آيات القرآن المناسبة لموضوعه ، ومن أسرار تسميته كتابه البحار ورود الأخبار المعتبرة والضعيفة والمرسلة فيه ، كما يذكر أخباراً لا سند لها ، فمن مصاديق البحار أنها تجمع أنواع السمك والأحياء ، وما يحل أكله وما لا يحل أكله ، وقد ذكر المجلسي الحديث المتقدم من غير اسناد.
ومن المرسل ما يكون بحذف واحد أو اثنين أو ثلاثة فقط من الإسناد ، فاذا كان الفقيه أو المفسر الذي ينسب حديثاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مؤيداً وجود أصل في عهد النبوة والتابعين فلا بأس به .
فالمختار أن قاعدة السلطنة مستقرأة من القرآن والسنة القولية والفعلية والتقريرية.
وقد تسالم الفقهاء على قاعدة السلطنة وما يفيد معناها ومنها حرمة الشراء من غير المالك ، وأخذ الغرامة من الغاصب لقاعدة الضمان ، ولما فات من السلطنة ، وهذه القاعدة من معاني قوله تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( )، وفيها ضبط لمعايش الناس ، واستقرار للمجتمعات .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعاني الرحمة العامة فيها ورود لفظ (الناس) في الحديث أعلاه وشبهه والذي يدل على حرمة التعدي على أموال أي إنسان وإن كان كافراً أو مشركاً لإرادة حفظ الحقوق العامة ، وإزدهار التجارة ، وعمارة الأسواق ، ومنع الأسباب التي تحجب الإنسان عن المضاربة والتجارة خشية الإستحواذ على أمواله ومنعه من الربح .
ومن خصائص آيات السلم استقرار المجتمعات ،وسيادة العدل والعمل بقاعدة السلطانة .
ومن معاني قاعدة السلطنة أنها فرع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إذ تدخل السكينة إلى النفوس عامة للعمل بأحكام الشريعة الإسلامية ، ويستطيع الكتابي والكافر أخذ أمواله ،وانتزاع حقوقه .
وجاءت القوانين الوضعية لتأكيد هذه القاعدة، وحماية المواطن في نفسه وماله بغض النظر عن ملته ومذهبه لبيان اقتباسها من القرآن والسنة ،وعدم التعارض معهما .
وهل يتناقض العنف والإرهاب مع قاعدة السلطنة وشبهها ، الجواب نعم ، وقاعدة السلطنة أمن وباعث لطمأنينة الناس على أموالهم وأنفسهم ، ولم يستطع أهل القبائل والبدو نوم الليل بأمان الا بعد أن بعث الله عز وجل النبي محمداً وتم فتح مكة وهو من المعجزات الحسية للنبي محمد والشواهد بأن آيات السلم محكمة غير منسوخة.
قانون الحوار مع النجاشي رسالة سلام
لقد كان حوار جعفر بن أبي طالب وأصحابه مع النجاشي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومفخرة للنجاشي في ملكه وسلطانه إلى يوم القيامة فلا غرابة أن يصلي عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم وفاته .
ومن هذا الحوار الإحتجاج على المشركين في حضرة النجاشي :
(فقال جعفر للنجاشي : سل هذين الرجلين. أعبيد نحن أم أحرار.
فإن كنّا عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم.
فقال النجاشي : أعبيد هم يا عمرو أم أحرار.
قال : لا،
بل أحرار كرام.
لبيان مسألة وهي أن دخولهم الإسلام باختيارهم ومن غير إكراه ولافادة حقيقة وهي أنهم ذوو شأن في بلادهم ، إنما اختاروا اللجوء إلى النجاشي بدينهم ، ورجاء سلامة أبدانهم ، وفيه دعوة للنجاشي لتعاهد وظائفه الأخلاقية والعدل الذي اشتهر به.
فقال النجاشي : نجّوا من العبودية .
ثم قال جعفر : سلهما هل أهرقنا دماً بغير حق .
فاقتصّ منّا.
فقال عمرو : لا ، ولا قطرة.
وفيه رسالة حاضرة إلى النجاشي وبطارقته وشعبه أن الإسلام دين السلام وأن وجود الصحابة المهاجرين بين ظهرانيهم لن يضرهم ، وفيه دليل على قانون انتشار الإسلام بالمعجزة وليس بالسيف بلحاظ تحمل هؤلاء المسلمين مخاطر الهجرة في البر والبحر والغربة في دينهم وعقيدة التوحيد بالتسليم بالمعجزة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولببيان قانون وهو بلوغ الإسلام الحبشة من غير اهراق قطرة دم.
فقال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال النّاس بغير حق فعلينا إيفاؤها.
فقال النّجاشي : قل يا عمرو. وإن كان قنطاراً.
فعليّ قضاؤه قال : لا ، ولا قيراط.
لبيان الفارق الكبير بينهما ، فالقنطار هو المال الكثير ، واختلف فيه كثيراً ويقدر في المشهور بنحو (144) كغم ، قال تعالى [وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا]( )، والقيراط المال القليل ويقدر بوزن أربع حبات قمح وقيل في الذهب ثلاث جهات قمح ليكون بين القنطار والقيراط تضاد في الكثرة والقلة .
و(عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {القنطار} ألف أوقية ومائتا أوقية)( ).
قال النّجاشي : فما تطلبون منهم.
قال عمرو : كنّا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا،
وتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره. ولزمناه نحن فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا.
فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذّي اتبعتموه؟
قال جعفر : أمّا الدين الذي كنّا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنّا نكفر باللّه ونعبد الحجارة.
وأما الذي تحولنا إليه فدين الإسلام جاءنا به من اللّه رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له.
لقد أراد جعفر الطيار دفع النفرة والشك من قلب النجاشي وبطارقته من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدليل ، وقال الله تعالى في خطاب إلى النبي محمد [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( ).
فقال النجاشي : يا جعفر تكلّمت بأمر عظيم فعلى رسلك. فأمر النجاشي فضرب بالناقوس. فاجتمع إليه كل قسّيس وراهب. فلمّا اجتمعوا عنده قال النّجاشي : أُنشدكم اللّه الذي أنزل الإنجيل على عيسى. هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّاً مرسلاً.
فقالوا : اللهم نعم) ( ).
لقد اطمأن النجاشي الى قانون وهو عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من السلب والنهب والإستيلاء على أموال الناس وإن كانوا مشركين ، وهذه العلامات من الشواهد التي جعلته يدرك صدق نبوته.
لبيان قانون وهو مهاجرو الحبشة رسل للبعثة النبوية ، ودعاة للسلم.
وفي هجرتهم نوع عهد لأهل الكتاب بالأمن والطمأنينة من بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل فيه دعوة لهم لعدم الهجوم على المدينة وإن قام المشركون بتحريضهم ، الجواب نعم ، وهل قصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه الغاية عندما رآى شدة اذى قريش لأصحابه وأنه لا يستطيع الذب عنهم ولا يريد سلّ السيوف والقتال ، الجواب نعم .
فقال (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه)( ) وفيه شاهد على صفة السلم التي تتصف بها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أرسلهم النبي لسلامة دينهم ، وأبدانهم ، ولمنع ملوك وعلماء النصارى عن التصديق بافتراء المشركين وعن إعانتهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته الى المدينة.
لقد خرج أول فوج من المهاجرين إلى الحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سراً وخفية من قريش.
وعددهم عشرون رجلاً وأربع نسوة.
ثم تتابع المسلمون بالهجرة إلى الحبشة ومنهم جعفر بن أبي طالب ، ونزل فيهم قوله تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه وعد من الله عز وجل لسلامتهم في دار الهجرة في الجنة وعودتهم بعز إلى المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وقد يفهم منها بعضهم عودتهم إلى مكة وقد دخلها الإسلام .
لذا حينما سمعوا بدخول أهل مكة الإسلام عادوا إلى مكة ثم تبين لهم عدم صحة هذا الخبر ومن مصاديق قوله تعالى [لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً]( )، هو عودتهم إلى المدينة وقد ظهر الإيمان وسادت أحكام الشريعة فيها.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما فرح المشركون بنصر كسرى فقد دخلهم الحزن بنصرة النجاشي للصحابة الوافدين عليه ، وهل خيبة قريش وإنقلاب وفدهم دون إعادة الصحابة المهاجرين إلى الحبشة من مصاديق الخيبة بقوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ أم أن القدر المتيقن من الآية هو معركة أحد أو معارك الإسلام الأولى على نحو التعيين .
المختار هو الأول لقانون مصاحبة الخيبة للمشركين في سعيهم وحربهم ضد النبوة والتنزيل .
وهل تشمل الخيبة قوافل قريش وتجارتها مع الشام واليمن ، أم أن الأمور الإقتصادية خارجة بالتخصيص عن مصاديق الخيبة التي تذكرها الآية ، الجواب هو الأول .
قانون اسم السلام سلام
من أسماء الله (السلام) قال تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ) .
وقد ورد لفظ (السلام) سبع مرات في القرآن جاءت واحدة فقط اسماً لله عز وجل في الآية أعلاه ومنه الإسلام ، والتحية والمدح والثناء ، والخير والأمن من الأذى.
ويتفضل الله عز وجل بأمور :
الأول : يبدل الله حال الحرب إلى السلم.
الثاني : يملأ الله القلوب بالود وينزع عنها الغيظ ، وقال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ]( ).
الثالث : يطرد اسم الله عز وجل الكدورة من المجتمعات ، قال أنس بن مالك (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا : يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا.
قال : إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامة وإن شاء أزاغة، والإصبع في اللغة الأثر الحسن)( ).
الرابع : من إفاضات اسم السلام أداء المؤمنين الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس للإنقطاع إلى الله عز وجل والخشية منه في العلانية والسر ، وبالإنفاق والصدقات إشاعة للسلم ، وزجر عن التعدي والظلم .
فمن يخرج الزكاة من ماله يحرص على التنزه عن الظلم ، ومن تأتيه الزكاة والخمس يمتنع عن السرقة والعدوان على الناس وممتلكاتهم.
ولفظ (السلام) من المشترك اللفظي ، وهو الذي وضع لأكثر من معنى وضعاً أولياً ، من جهتين :
الأولى : المشترك اللفظي في اللغة مثل لفظ (العين) إذ يطلق على العين الباصرة ، وعلى العين والرقيب للسلطان ، وعلى الرابية ، وعلى النقد من الذهب والفضة ، ويطلق على منبع الماء ، قال تعالى [فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ]( ) .
والمختار أن لفظ (العين) لم يوضع لكل هذه المعاني المتعددة.
الثانية : المشترك اللفظي في القرآن ، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، وهو مثال كريم مستحدث في المقام .
إذ يراد من صلاة الله الرحمة والمغفرة ، ومن صلاة الملائكة الدعاء والإستغفار ، أما صلاة المسلمين والمسلمات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية أعلاه فقد ورد البيان عن (طلحة بن عبيد الله قال : قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك.
قال : قل اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد)( ).
فورد استعمال اللفظ الواحد في معانيه المتعددة في وقت وآية واحدة من غير تعارض بينها في المفهوم وانطباق المعنى المتعدد ، والوقوع دليل الجواز.
وهناك فرق بين باب المشترك اللفظي ، وباب الحقيقة والمجاز ، إذ ينتقل استعمال اللفظ الذي وضع لمعنى مخصوص على نحو الحقيقة الى معنى وموضوع آخر لنوع علاقة وقرينة بينهما.
أما المشترك اللفظي فيراد منه عدة معاني من حين الوضع أو بإفادته لمعاني متعددة لكثرة الإستعمال السابقة لأوان التدوين ونزول القرآن ، أي الأصل هو وضع اللفظ في اللغة أزاء معنى واحد مخصوص ثم انتقل بالإستعمال لأكثر من معنى نزل القرآن به ، باللفظ الموضوع لمعنى مخصوص ولما انتقل إليه في لغة العرب.
وهل علّم الله عز وجل آدم الأسماء بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، على نحو الحقيقة والمجاز أم علمه الأسماء دفعة المختار هو الثاني .
ويكون التقسيم إلى حقيقة ومجاز بالفطرة والطبع ، وجاء بيان التقسيم فيما بعد ، فلم يكن هذا التقسيم معروفاً أو أنه يدّرس على نحو الخصوص قبل نزول القرآن ، ومجئ زمان التابعين وتابعي التابعين ، والتحقيق في علوم التفسير واللغة والنحو والبلاغة.
ويحتمل الأصل في لغة العرب وجوهاً :
الأول : وضع اللفظ لمعنى واحد لا غير .
الثاني : الإشتراك بوضع اللفظ الواحد لأكثر من معنى.
الثالث : وضع اللفظ تارة لمعنى واحد ، وتارة لأكثر من معنى.
الرابع : التداخل بين الوضع والإستعمال الذي يؤتى فيه باللفظ لأكثر من معنى مع القرينة.
والمشهور والمختار هو الأول ، ليكون لفظ السلام بالأصل اسم من الأسماء الحسنى.
واسم السلام لله عز وجل مصاحب لحياة الناس من أيام آدم عليه السلام إلى يوم يبعثون.
وفيه شاهد على سلامة آيات السلم من النسخ لأن الله عز وجل هو الذي يريد السلام , ويقرب الناس بلطفه إلى السلم والصلح والموادعة .
وهل يمكن القول أن (السلم ) اسم على نحو الحقيقة وهو مشتق من اسم الله عز وجل , المختار نعم .
لذا فإن موضوع السلم باق في الأرض ، وأحكام آيات السلم متجددة في كل زمان وفي السعي إلى السلم أجر وثواب ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
النسبة بين الخير والسلم
الخير هو الأمر الحسن وما فيه الصلاح ، وهو محبوب بالذات والأثر ، فمعناه أعم من أن يكون اسم تفضيل بمعنى أحسن وأفضل ، والخير نقيضه الشر.
و(عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه)( ).
ويبين الحديث التضاد بين الخير والشر ، وكذا بين أفراد من البشر ، ومن مصاديق فتح الخير الدعوة والسعي إلى السلم ، وفيه غلق للحرب وسفك الدماء ، لذا فان آيات السلم محكمة غير منسوخة ، ويكون من تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الخير كافة ولا تغلقوا مفاتيحه.
والنسبة بين الخير والسلم هو العموم والخصوص المطلق ، فالخير عنوان جامع للصلاح ومقدماته ورشحاته ، والسلم وعاء للخير ، ومناسبة له.
ويأتي لفظ الخير على معان منها :
الأول : الصلاة والإحسان والأمر الحسن وهو ضد الشر ، ويأتي بعنوان الحال ، قال تعالى [إِنْ تَرَكَ خَيْرًا]( ).
الثاني : اسم تفضيل بمعنى أحسن ، قال تعالى [وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الثالث : المال ، قال تعالى [إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ]( ).
منهم من قسم (الخبر) إلى قسمين :
الأول : الخير المطلق وهو الذي يرغب به الناس ، وفيه النفع العام .
الثاني : الخير المقيد وهو الذي يكون خيراً لفرد أوجماعة ، وشراً على غيرهم ، واستدل بالآية أعلاه [إِنْ تَرَكَ خَيْرًا] ( ) وبقوله تعالى [أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ] ( ).
ولكن الخير عنوان جامع للحسن العقلي والشرعي ، وليس فيه ضرر على الغير إلا فيما إذا استعمل خلاف الضوابط الشرعية .
ولا تعارض بين المعنى الذي وضع له لفظ الخير وبين قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
وحال السلم خير محض ، ويترشح عنه النفع الخاص والعام ، وقد تقدم قانون السلم حاجة( ) .
ومن الإعجاز في خلافة الإنسان في الأرض أمور :
الأول : غلبة وكثرة أيام السلم على أيام الحرب والقتال .
الثاني : إذا وقع قتال فانه محصور مكاناً وزماناً .
الثالث : لا يحتاج السلم إلى مقدمات فهو الأصل في الحياة الدنيا ، بينما تستلزم الحرب والقتال مقدمات وشر سابق وأنفاق كثير .
الرابع : قد تتهيأ مقدمات القتال ولكنه لا يقع ، وهو من رحمة الله بالناس ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ..] ( ) يمحو الله ما يشاء من القتال والحروب ، ويثبت السلم والسلام .
وهل آيات السلم واستدامة حكمها تثبيت لحال الأمن والسلم بين الناس ، الجواب نعم ، وهو من المظاهر التي تدل على سلامتها من النسخ .
الخامس : لقد وردت آيات بالإخبار عن الملك المطلق لله عز وجل للأرض والسماء ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وقد صدر الجزء السادس والعشرون بعد المائتين من تفسيري للقرآن خاصاً بهذه الآية الكريمة.
ومن ملك الله للأرض أنه لا يرضى بوقوع القتال والحروب فيها ، لذا فان آيات السلم محكمة غير منسوخة.
ليكون من معاني تقدير الآية أعلاه بخصوص آيات السلم وثبوت أحكامها وجوه :
الأول : ولله ملك السموات والأرض ليسوده السلام .
الثاني : ولله ملك السموات والأرض فيمنع عنها الحروب المدمرة والإبادة لأنه سبحانه على كل شئ قدير.
الثالث : ولله ملك السموات والأرض فلابد أن يسودها السلام فهو السلام ومنه السلام.
الرابع : لله ملك السموات والأرض وهو الذي أنزل آيات السلم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض ، وهو على صرف ودفع الحروب عن الناس قدير.
وهل يدفع الله الحروب والشرور عن خصوص المؤمنين أم عن عامة الناس ، الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق الرحمة والرأفة التي تترشح عن ملكه المطلق للسموات والأرض والناس والخلائق كلها.
السادس : لله ملك السموات والأرض وهو على جعل الخير هو السائد في الأرض قدير.
ويدفع القول بأن آيات السلم غير منسوخة افراداً عديدة من الإقتتال .
تقدير الجمع بين (ادخلوا في السلم)( ) وآيات السلام
من إعجاز القرآن استقراء قوانين متعددة من الجمع بين الآيتين من القرآن من جهات :
الأولى : الجمع بين الآيات المتجاورة ، وإن اختلف الموضوع ، وقد تقدم تقدير الصلة بين آية البحث والآية التي بعدها في الجزء السادس والثلاثين من هذا السِفر ومنه (تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إعلموا إن الله عزيز حكيم.
الثالث : ادخلوا في السلم كافة فإن زللتم من بعد.
الرابع : ادخلوا في السلم كافة فأعلموا إن الله عزيز حكيم.
الخامس : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات لا تتبعوا خطوات الشيطان.
السادس : يا أيها الذين آمنوا إن الشيطان لكم عدو مبين.
السابع : لا تتبعوا خطوات الشيطان فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات، بلحاظ أن النسبة بين إتباع خطوات الشيطان والزلل هي العموم والخصوص المطلق فالزلل أدنى وأقل مرتبة في الإثم والخطيئة).
الثانية : الجمع بين كل آيتين في موضوع متحد .
الثالثة : لحاظ المشترك اللفظي والحقيقة والمجاز ، والمشترك النوعي في الجمع بين الآيات ودلالاته.
الرابعة : موضوعية العطف في الجمع بين الآيات.
الخامسة : الجمع بين الآيتين ذات اللفظ المتحد في الجملة .
وسيأتي قانون (السلام جامع بين آيات نداء الإيمان) ومنه في آية البحث:
الأول : نداء الإيمان ، والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة .
الثاني : مادة (دخل) وادخلوا في القرآن.
وهل قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، مقدمة للدخول في الجنة بقوله تعالى [ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، وأن من العمل الذي تذكره الآية أعلاه الدخول والسعي في مسالك السلم ، الجواب نعم ، وأمر الله عز وجل بالدخول في السلم من دعوته سبحانه المؤمنين والناس للسعي للبث الدائم في الجنة لقوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثالث : مادة (السلم) والجمع بين آياتها .
وكما ابتدأت آية البحث بنداء الإيمان ، فقد ابتدأت آيات أخرى من آيات السلام بذات النداء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (كان الرجل يتكلم بالإسلام ، ويؤمن بالله والرسول ، ويكون في قومه.
فإذا جاءت سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها حيه يعني قومه وأمام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم ، حتى يلقاهم فيلقي إليهم السلام ، فيقولون : لست مؤمناً وقد ألقى السلم فيقتلونه ، فقال الله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا]( ).
يعني تقتلونه إرادة أن يحل لكم ماله الذي وجدتم معه ، وذلك عرض الحياة الدنيا فإن عندي مغانم كثيرة ، والتمسوا من فضل الله . وهو رجل اسمه مرداس رأى قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عليها رجل من بني ليث اسمه قليب حتى إذا وصلت الخيل سلّم عليهم فقتلوه.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهله بديته ، ورد إليهم ماله ، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك)( ).
وفي الآية ورد عن السدي قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة ، فلقوا رجلاً منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنم له وجمل أحمر ، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة .
فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل إليهم فقال : السلام عليكم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خير ويسأل عنه أصحابه ، فلما رجعوا لم يسألهم عنه .
فجعل القوم يحدثون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقولون : يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم ، فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال : كيف أنت ولا إله إلا الله.
فقال : يا رسول الله إنما قالها متعوذاً تعوذ بها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه .
فأنزل الله خبر هذا ، وأخبر إنما قتله من أجل جمله وغنمه ، فذلك حين يقول {تبتغون عرض الحياة الدنيا }( ) فلما بلغ { فمن الله عليكم }( ).
يقول : فتاب الله عليكم ، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تذكر الغزو والهجوم إنما الضرب في سبيل الله وهو عام ويشمل الدعوة إلى الله ، والتجارة والكسب ، والإستطلاع ، وحراسة الثغور ، وإخافة العدو ، وزجره عن التعدي والغزو.
لقد جعل الله عز وجل قانوناً يصاحب المسلمين في الجادة العامة وفي الكتائب والسرايا والسفر وهو إن السلام أمان ، من يلقيه عليهم فهو آمن ، إذ تضمنت الآية الخطاب والأمر إلى المسلمين والمسلمات بينما ذكر الذي يلقي السلام بصيغة التنكير.
ولا يختص النداء في الآية بالرجال لقيد [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ]( )، ولا عموم السفر والسرايا إنما يشمل النساء ، ويشمل الإقامة في المدن والقرى ، لذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجز ولم يأذن بقتل المنافقين كما يشمل الخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
وتشمل الآية المسلمات بأن ينهين عن الإضرار بمن يلقي السلام عليهن أو على الرجال من المسلمين ، وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنهما وسيلة مباركة لتثبيت العمل بآيات السلم.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة (السلم) من غير ألف بعد السلام في قوله تعالى [أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ].
والسلم هنا بمعنى الرضا والتسليم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو طلب السلم والصلح كما في قوله تعالى [فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ]( ).
والصحيح هو ما مرسوم في المصاحف بقوله تعالى [أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ]( ).
والنسبة بين السلام والسلم عموم وخصوص مطلق ، فالسلام أعم ، ومنه التحية والمودة والتراحم ، والوثاقة والطمأنينة بالغير.
آيات السلام وتقسيماتها
لقد وردت آيات متعددة في ذكر السلام بمعنى التحية وهي :
الأول : آيات السلام العامة وهي :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
الثانية : : قوله تعالى [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا]( ).
الثاني : آيات السلام بخصوص المسلمين وهي :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : آيات السلام بالنسبة للأنبياء وهي :
الأولى : في عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَالسَّلاَمُ عَلَيّ َيَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]( ).
الخامسة : قوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
الرابع : آيات السلام في الآخرة وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا]( ).
الثامنة : قوله تعالى [سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا * إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا]( ).
قانون آيات السلم في القرآن
لقد وردت في القرآن آيات الأحكام والعبادات والأوامر والنواهي وآيات الصبر والقصص والأمثال ، والوعد والوعيد ، وأنباء الجنة والنار في معجزة للنبي محمد بأن فتح الله عز وجل لأجيال المسلمين علوم الغيب.
كما وردت في القرآن آيات القتال وآيات السلم ، والأولى أكثر من الثانية ولكنها تؤدي إليها ، وهو من إعجاز القرآن إذ أن قتال المسلمين دفاعي محض ، وعندالضرورة ، كما في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن آيات السلم منطوقاً ومفهوماً أعم وأكثر من الآيات التي تتضمن مادة(سلم) ومشتقاتها ، لذا يمكن القول بقانون وهو أكثر آيات القرآن تدعو إلى السلم ، ومنها آيات الأحكام.
لقد جعل الله عز وجل القرآن كتاب السلم والأمن والسلام سواء بلحاظ أيام النزول أو في الأحقاب المتعاقبة ، إذ أنه مرآة لعالم الآخرة والتي هي دار السلام والأمن.
ومن آيات السلم إجتناب مقدمات الفتنة كما في قوله تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( )،
فالآية وان وردت بصيغة الجملة الشرطية إلا أنها تأمر المسلمين بالإعراض عن الجدال والباطل وأسباب السخرية والإستهزاء التي يثيرها المشركون .
وهل الأمر بأداء الفرائض العبادية وتعاهدها كما في أداء كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم دعوة إلى السلم أمر أنها أجنبية عن مسألة السلم .
الجواب هو الأول ، لذا نزلت صلاة الخوف عند القتال لبيان أن أداء الصلاة تامة بشروطها وأجزائها لبيان أن السلم أفضل منه في حال الحرب التي هي ضرورة ودفاع.
وجاءت آيات التحية والسلام في القرآن واقية من القتل وسفك الدماء ، فما أن يلقي الإنسان السلام على السرية من المسلمين المدججة بالسلاح حتى يتوقفوا ويمسكوا أيديهم عنه , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
وقد أولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية عناية خاصة مع التقيد بالعمل بها لبعث الصحابة وعامة أجيال المسلمين للعمل بأحكامها.
وهذه الآية من مصاديق احتجاج الله عز وجل له الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فمن علمه تعالى انزاله آية واحدة بواسطة الملك جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتصرف ضروباً من سفك الدماء ، وتجذب الناس إلى الإيمان ، وتمنع من الثأر والعصبية.
وتحول دون حالات من القتل وسفك الدم سواء عن عمد أو خطأ ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقل (إذا غزوتم في سبيل الله) إنما قالت [إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ومن الضرب هنا السفر لحج بيت الله ، وأداء العمرة ، والدفاع ، والتجارة ، وعامة السفر ، المطلوب أو المباح وما فيه المصلحة الخاصة أو العامة ، قال تعالى [وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
ولم ترد مادة غزا في القرآن إلا مرة واحدة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( )، وغزىَ جمع غاز على وزن فُعَّل ، وهو جمع قليل.
وتبين الآية وتفسيرها من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمكان التدارك ، وعدم العودة للقتل إن وقع وهو من معاني آيات السلم في القرآن وتعضيد السنة النبوية لها.
ونزل القرآن بقانون وهو السلام عند دخول أي بيت بالقول : السلام عليكم.
أما إذا كانت خالية أو خاوية فتقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وهذا السلام فاتحة للصلات , وهبة من عند الله بين الداخل للبيت ومن في داخله.
لإفاضة البركة وتعقبها بالخير والأجر والثواب ، ومنه السلام عند دخول المسجد ودور العبادة .
وفي السلام طرد للحسد والغل والكدورة وأسباب الكراهية ، والسلام سلم وتعايش في المجتمعات.
عدد الجمل التي لا محل لها من الأعراب
وهي التي لا يصح أن تحل محل اسم مفرد ولا تؤول به ولا تأخذ إعرابه ، ولا يقال أنها في محل رفع أو نصب أو جر :
الأولى : الجملة الإبتدائية مثل [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وقال ابن هشام بأن الجملة الإبتدائية والإستئنافية جملة واحدة.
الثانية : الجملة الإستئنافية (المنقطعة عن سابقتها إعراباً).
الثالثة : الجملة الواقعة صلة لاسم موصول مثل قوله تعالى [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] فهي صلة الاسم الموصول (الذي) وكذا الجملة المعطوفة على جملة الصلة كما في قوله تعالى [وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ] في قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ]( ).
الرابعة : الجملة الإعتراضية ، ومنه قوله تعالى [وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ]( )، فجملة (سبحانه) اعتراضية.
الخامسة : الجملة التفسيرية ، ومنه [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
السادسة : الجملة الواقعة جواباً للقسم ، كما في جملة (لاغوينهم) في قوله تعالى [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
السابعة : جملة جواب الشرط الجازم غير المقترنة بالفاء أو إذا الهجائية.
الثامنة : الجملة المعطوفة على جملة لا محل لها من الإعراب .
ولابد في إحصاء علوم القرآن من التدبر في ثمرات كل إحصاء سواء من جهة الإعجاز أو الدلالة أو المقاصد أو المنافع المتعددة والأحكام وبيان المجمل ، وتقييد المطلق
قانون آيات النداء العام سلام
من خصائص القرآن إكرام الإنسان مطلقاً ، ثم تقييد الإكرام بالتقوى والخشية من الله عز وجل ،وهو من سعة فضل الله عز وجل ولبيان قانون وهو(القرآن مرآة الخلافة ) لعمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
وليس من تعارض بين إكرام الله لجنس الإنسان من بين الخلائق بمصاديق كثيرة من اللطف والإحسان والإكرام ، وبين قوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
خاصة وأن الآية أعلاه جاءت بصيغة اسم التفضيل أكرمكم ، ولم تقل (ان الكريم منكم عند الله أتقاكم ) وفي الآية دعوة للناس للإجتهاد في التقوى والإرتقاء في مقاماتها وأنها لا تختص بالعبادة أو المعاملات أو الأحكام إنما هي سور جامع لأمور الحياة الدنيا ، والأخلاق والمقاصد في طلب الآخرة.
وكان النداء في السور المكية عاماً بصيغة [يَاأَيُّهَا النَّاسُ].
وورد هذا النداء في القرآن عشرين مرة أكثرها في السور المكية،وفي باب الإحتجاج والدعوة إلى الإيمان منها قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] ( ).
ليكون هذا النداء العام مقدمة ونوع طريق لنداء الإيمان وما يتضمنه من التكاليف ، والمراد من آيات النداء العام هي :
آيات الخطاب الإلهي الموجه إلى الناس جميعاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] ، لبيان فضل الله عز وجل على أهل مكة وغيرهم بمخاطبتهم بصفة الإنسانية، وإقامة الحجة عليهم بتمييزهم بين الحق والباطل .
وهناك آيات نزلت في المدينة منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
وهل تدعو الآية أعلاه إلى السلم ، الجواب نعم ، ومن أسرار النداء العام في أولها أنها تدعو المسلم والكتابي والكافر إلى السلم بلحاظ أن النسبة بين عبادة الله والسلم هو العموم والخصوص المطلق من وجوه :
الأول : ذات عبادة الله سلم .
الثاني : العبادة واقية من القتال وسفك الدماء .
وحينما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفعل المعاصي ويرتكب الموبقات ويسفك الدم ، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى:
أولاَ : بعث وجذب الناس لعبادة الله تعالى ، ومن أهم مظاهر الجذب هذه النبوة والتنزيل وليس السيف والقتال.
ثانياً : تقريب الناس من سنن التقوى .
ثالثاً : جعل الدعوة إلى الإيمان عامة تدخل كل بيت بواسطة الأنبياء والكتب السماوية المنزلة ، لذا جاء النداء في الآية أعلاه عاماً.
الثالث : العبادة سور الموجبة الكلية الجامع للناس كافة،وإن اختلفت المذاهب ، وهو من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فلابد من أمة في كل زمان يتعاهدون عبادة الله عز وجل وتقدير الآية : إني جاعل في الأرض خليفة أمة في كل جيل تعبد الله عز وجل وتنشر ألوية السلم .
ويكون من معاني [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ] يا أيها الناس تعاهدوا السلم لأنه مقدمة ووعاء لعبادة الله عز وجل .
الرابع : عن الإمام علي عليه السلام قال (إنما سميت الأرض أرضاً ، لأنها تأرض ما في بطنها أي تأكل ما فيها) ( ) .
ومن إعجاز الآية أعلاه عدم وقوفها عند الأمر لعبادة الله مع تقّوم الحياة الدنيا به ، وهو الميزان في الآخرة ، إنما تضمنت الجملة الخبرية والجملة الإنشائية بالإخبار عن خلق الله عز وجل لأجيال الناس ، وما عملية وطئ الزوج لزوجته ، وتكون الجنين والإنجاب إلا وسيلة وآلة تتم بفضل ولطف وعناية من عند الله عز وجل.
وهل تشمل الآية نشأة الجنين في الأنابيب والطرق التي تستحدث مستقبلاً في التكاثر البشري ، الجواب نعم ، إذ تتضمن الآية الإخبار لأهل كل زمان بأن الله هو الذي خلقهم وأنه سبحانه يأمرهم بعبادته .
ومن وجوه ومقدمات العبادة الإمتناع عن التعدي والغزو والظلم والجور ، وإجتناب أسباب الهياج العام والفتن ، لذا قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) فالذي ينقطع إلى عبادة الله يتنزه عن الفتنة .
ترى ما هي النسبة بين الدخول في السلم وبين الفتنة ، الجواب هو التضاد ، فهذا الدخول المبارك يمنع من الفتنة ومقدماتها ، لذا وردت الآية بصيغة العموم (كافة ) لبيان رفع المسلمين لواء السلم فينا بينهم ، وبينهم وبين غيرهم من أهل الملل والأديان .
والصلة بين العبادة والسلم على وجوه :
الأول : عبادة الناس الله سلم وأمن ونشر لألوية السلام وباعث للطمأنينة.
الثاني : عبادة الناس لله مقدمة للسلم.
الثالث : العبادة سور جامع للناس ، ونوع إتحاد بينهم ، وتعايش مجتمعي.
الرابع : السلم وعاء وباعث على عبادة الله عز وجل ، واستحضار الفرائض والسنن ، والتفقه في الدين.
وقد أختلف في علم الكلام هل الكفار مكلفون بالفروع أم أنهم غير مكلفين بالفروع ، والمشهور والمختار هو الأول ، ولابد أن تكون أظهر الدراسات بخصوصه من القرآن والسنة ، ومن الشواهد على تكليف الكفار بالفروع قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ] ( ).
فجاءت الآية أعلاه بالأمر للناس جميعاً المسلم والكتابي والكافر بتقوى الله ، والخشية منه سبحانه ، ويمكن السعة في التحقيق بأن تذكر آيات النداء العام ثم تبين دلالتها على السلم ، وإفادتها تثبيت السلم في الأرض ، وهذا النداء القرآني العام وما يترشح عنه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون السلم من التقوى
التقوى لغة الوقاية والحفظ عن أسباب الأذى والضرر ، قال تعالى [وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( )، وتتعدد معاني التقوى في الإصطلاح ، منها إخلاص العبادة والإجتهاد في طاعة الله ، والحرص على إجتناب المعاصي وترك الذنوب كبائرها وصغارها.
ومن التقوى الإكثار من ذكر الله ، ومنها السعي في مسالك السلم ، وتعاهده والقرآن كتاب التقوى الجامع لمصاديقها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وجاء الأمر بالتقوى إلى المؤمنين على نحو الخصوص في سبع آيات من القرآن هي :
الأولى : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وترك الربا من السلم والأمن المجتمعي ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حضور أحكام الشريعة في المعاملات والمكاسب بما يؤدي إلى استدامة السلم ، والسكينة العامة وإجتناب أسباب الغبن.
الثانية : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن مصاديق تقوى الله والإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية أعلاه الإنقطاع إلى طاعة الله ، والتسليم بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بنهج السلم الذي اتبعه ، وهو ترجمة لآيات القرآن.
وتجمع الآية أعلاه بين نداء الإيمان والأمر بتقوى الله والتفقه في الدين واتباع نهج الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية ، واتصافه بالصبر ، والثواب ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
ومن إعجاز الآية الوعد الكريم من عند الله بالبشارة بمضاعفة الرحمة للمسلمين ونزول الخير والبركة بالتقيد بسنن التقوى والخشية من الله عز وجل ومعنى كفلين آي نصيبين وأجرين وهل سيادة السلم في المجتمعات من رحمة الله ، ومن النور الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم.
الثالثة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الرابعة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
لقد ورد الأمر من الله [اتَّقُوا اللَّهَ] في آيات عديدة ، ولا يختص الأمر بالمؤمنين كما أن موضوع التقوى متعدد بحسب مضمون آية التقوى آية التقوى ونظم القرآن ، وصلتها بالآيات المجاورة وأسباب النزول ، ومن الجامع المشترك بين هذه الآيات إكرام المسلمين ، والشهادة من الله عز وجل لهم بالإيمان وبيان أن تقوى الله مرتبة أعلى من الإيمان .
وتدل الآية أعلاه على الإجتهاد في حضور تقوى الله في العبادات بأدائها كاملة بشرائطها وأجزائها ، وفي أوقاتها ، وفي المعاملات والبيع والشراء ، وفي نشر السلم وبسط العدل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
وهل تعاهد آيات السلم من مصاديق قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] الجواب نعم ، لأن الله عز وجل هو الذي قال [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
واختلف في نسخ قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( )، أو عدمه فمن معاني (حق تقاته) قدر الإستطاعة ، وبذل الوسع في اتيان ما أمر الله عز وجل به ، والإمتناع عما نهى الله عنه.
وعن عبد الله بن مسعود (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { اتقوا الله حق تقاته}( ) أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى)( ).
وظاهر حديث عبد الله بن مسعود أن الآية غير منسوخة.
وورد عن ابن عباس خبران أحدهما عن عكرمة يفيد أنها منسوخة والآخر أنها لم تنسخ إذ ورد (من طريق علي عن ابن عباس في قوله [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] قال : لم تنسخ ولكن [حَقَّ تُقَاتِهِ] أن يجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم)( ).
والمراد من علي في سند الحديث أعلاه هو علي بن أبي طلحة الهاشمي مولى ابن عباس ، وهو ضعيف .
قال أحمد : له اشياء منكرة .
وقال ابن حجر (علي ابن أبي طلحة سالم مولى بني العباس سكن حمص أرسل عن ابن عباس ولم يره من السادسة ، صدوق قد يخطىء مات سنة ثلاث وأربعين) ( ).
الخامسة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السادسة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( ).
السابعة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ).
وتجمع هذه الآية بين نداء الإيمان والأمر بالخشية من الله ، والأمر بالقول الصالح والمعروف ، وكل فرد منها دعوة للسلم ، كما أن السلم والندب إليه من مصاديق كل فرد منها .
قانون القرآن رسول البشارة
لقد تفضل الله عز وجل بانزال القرآن ، وعصمه عن الزيادة والنقصان ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )وفي هذه الآية إخبار وإعجاز وتحد ووعد لحفظ سلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة .
ويمكن القول بقانون(القرآن كتاب البشارة العامة ) ، وتتضمن كل آية من آياته البشارة سواء في منطوقها أو مفهومها ، وفيه مسائل:
الأولى : إكرام وتشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : بيان صدق نبوته .
الثالثة : ترغيب سماوي باتباعه في نهجه ذي صبغة السلم.
الرابعة : تجليات الرحمة والرأفة في آيات وأحكام القرآن ، وفي التنزيل [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
لقد فتح القرآن البشارة للمسلمين والناس جميعاً , ولا تأتي البشارة بمادة بشر ومشتقاتها فقط إنما تشمل وجوهاً :
الأول : الترغيب بعمل الصالحات وفعل الحسنات.
الثاني : بعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث : أداء الفرائض العبادية وما يترشح عنها من العصمة عن المعاصي والذنوب.
الرابع : بيان الأجر والثواب للذي يعمل بالبشارة ويتجنب النواهي ويتجلى بالأخلاق الحميدة حباَ لله وشوقاَ للقائه ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) لبيان عدم موت أو فناء أهل الجنان ، التي فيها [أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ] ( ) وقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ، كلها بخصوص أهل الجنة .
وعن (زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ، قال : نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة .
قال : فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، وليس في الجنة أذى.
قال : حاجة أحدهم رشح يفيض من جلودهم، كريح المسك، فيضمر بطنه.
وعن ابن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنك لتنظر إلى الطير في الجنة، فيخر بين يديك مشويا) ( )، وجاءت البشارة في القرآن على وجوه منها :
الأول : بشارة مصاحبة الفلاح للإيمان ، والرضا بحكم الله ، الذي يدل على السلامة من الظلم والغبن والتعدي فيه ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] ( ).
الثاني : بشارة الفوز برضا ومحبة الله ، وهو أثمن ما في الدنيا ، وهل تصاحب هذه المحبة العبد في عالم القبر ويوم القيامة ، الجواب نعم .
الثالث : بشارة الإخبار عن عالم الآخرة ، وما فيه من الجزاء الجميل على عمل الصالحات ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً] ( )ولم يرد لفظ [ظِلًّا] و[ظَلِيلاً] في القرآن إلا في هذه الآية أي ظلاً جميلاً أنيقاً ، فلا تصل إليهم الشمس وحرارتها .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه جمعها بين الإيمان وعمل الصالحات لإرادة قصد القربة في فعل الخيرات ، ولا ينحصر الوعد الكريم فيها بدخول الجنة إنما يشمل اللبث الدائم فيها.
ترى هل من الصلة بين آيات البشارة في القرآن وبين ثبوت مضامين آيات السلم وعدم نسخها ، الجواب نعم ، إذ جاءت البشارات على العمل الصالح ، والتقوى ، والتحلي بالصبر ونشر ألوية السلم والسكينة في المجتمعات .
ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، حب الله عز وجل للناس ، ومن حبه لهم انعامه المتصل عليهم ، ومنه بعث الأنبياء والمرسلين ، ومجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات السلم والصلح والموادعة ، قال تعالى [وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا]( ).
ومن خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامة الأفراد والمجتمعات من القلق والخوف وهذه السلامة من الشواهد على بقاء آيات السلم في منأى عن النسخ .
لحاجة المجتمعات إلى الأمن والطمأنينة والتعايش السلمي.
غارة كُرز الفهري مقدمة لمعركة بدر
في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة ، وقبل معركة بدر بستة أشهر أغارت خيل قريش على أطراف المدينة برئاسة كرز بن جابر الفهري ، الذي استاق أنعام أهل المدينة التي كانت ترعى في الجماء وحوالي المدينة .
وتسمى في كتب السيرة والتأريخ غزوة بدر الأولى للإشارة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الغازي ولا أصل لهذا القول .
إنما كانت خيل قريش هي المعتدية ، هذا قبل معركة بدر وحصول قتال بين المسلمين والمشركين ، وهل هو من مصاديق [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) وأنه مقدمة لهزيمة كفار قريش في معركة بدر لعدوانهم من منازل الكفر على النبوة والتنزيل ، الجواب نعم .
وكما هي آيات الإنذار باقية وغير منسوخة ، كذا آيات السلم والصلح ، ومن معاني الجمع بينهما تغشي رحمة الله للناس جميعاً ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد توجه المشركون إلى معركة بدر وهم يطمعون بالنصر والغلبة لكثرة عددهم وأسلحتهم وقالوا [نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ] ( ) وغفلوا عن الإنذار والوعيد بقوله تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ] ( ) .
إذ نزلت الآية أعلاه بخصوص معركة بدر إلا أن كلها متجدد في معارك الإسلام اللاحقة ، كما تجدد الإنذار على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (للكافرين يوم بدر : إنَّ اللّه غالبكم وحاشركم الى جهنَّم) ( ).
إلى جانب ما تتضمنه الآية أعلاه من الوعيد والتذكير بالعذاب الأخروي الذي ينتظر الكافرين الذين يحاربون النبوة والتنزيل .
وفيه دلالة على إرادة الكفار اشعال الحروب ، وإثارة الفتنة داخل المدينة إذ لم يطق رؤساء الشرك التحول النوعي في حياة أهلها نحو أمور :
الأول : سبل الصلاح .
الثاني : مظاهر الإيمان والتقوى .
الثالث : بناء المساجد في مركز المدينة وضواحيها تصلى فيها الصلوات اليومية الخمس .
وهل خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في خاتمة آخر آية من سورة الحج [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ) وعد بهزيمة المشركين شكراً من الله تعالى على الإيمان والنسك والإخلاص في العبادة ، الجواب نعم .
ويمكن استقراء حقيقة وهي أن قريشاً كانت تخطط للهجوم على المدينة ، وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة بدر ، وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر قليلة ودخول أهلها الإسلام ، وتوافد المهاجرين لها من مكة وغيرها ، وأن معركة بدر لم تكن بسبب قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على قافلة أبي سفيان .
لقد أستاق كُرز وأصحابه أنعام أهل المدينة وتوجهوا بها إلى مكة ، ومع أنه لم تمض على عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتيبة العُشيرة إلا أقل من عشرة أيام وأنه يبذل الوسع في أمور :
الأول : التبليغ .
الثاني : تلاوة ما ينزل ومن نزل من آيات القرآن .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين .
الرابع : تثبيت الإيمان في قلوبهم .
الخامس : دعوة عامة الناس للإسلام ووقوفه مستنداً إلى الجذع للخطبة وتبليغ الحلال والحرام ،وأحكام الشريعة .
وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر إغارة كُرز بن جابر الفِهري ورجال من قريش على سَرح وأنعام ومواشي أهل المدينة ، والأولى أن تسمى هذه الغزوة لقريش غزوة كُرز بن جابر الفِهري على المدينة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج خلفه مضطراً ، ولم يكن غازياً أبداً ، إنما كان رسول سلام وسلم .
وهذه الصفة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليها الإجماع ، وهل هو من الشواهد على عدم نسخ آيات السلم والموادعة والسماحة ، وأن آية السيف لم تنسخها .
الجواب نعم خصوصاً وأن آية السيف خاصة بالأشهر الأربعة من حين نزولها في شهر شوال من السنة التاسعة للهجرة ، وبخصوص مشركي مكة ومن حولها , فلا تشمل أهل الكتاب أبدا, فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً في الشهر التالي وهو ذو القعدة ليقرأها في موسم الحج .
ومن إعجاز القرآن عدم ورود لفظ ( السيف ) فيه , وهل فيه دعوة لتغيير اسم آية [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) من آية السيف إلى تسمية أخرى ولتكن تسميتها آية [فَإِذَا انسَلَخَ..] ( ) , وأكثر آيات القرآن تسمى بأول كلماتها ، خصوصاً وأن تسمية آية السيف لم ترد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس في القرآن لفظ (سيف ) سواء بصيغة الرفع أو النصب أو الجر ، إنما نزل القرآن بالفاظ الرحمة والعفو والبر والإحسان .
وتسمى غزوة بدر الأولى وغزوة سفان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعدها المفسرون والمؤرخون إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما خرج لدفع التعدي الحال والقادم على المدينة وأهلها وللسعي في إعادة أنعام أهل المدينة التي أخذها كُرز وأصحابه .
ترى هل أغار كُرز الفِهري على المدينة باجتهاد وفعل فردي منه ، أم بأمر من رؤساء قريش ، الجواب هو الثاني واختاروا شهراً ليس من الأشهر الحرم ، وهو شهر ربيع الأول ، فقطعوا هذه المسافة الطويلة بين مكة والمدينة.
و(كرز بن جابر بن حسل بن الأجب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر القرشي الفهري.
كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم) ( ).
لقد كان سرح المدينة يرعى في الجماء بناحية العقيق من الجرف (وبينه وبين المدينة نحو من ثلاثة أميال) ( )واستاقوا السرح معهم ،ولما جاء الخبر إلى المدينة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم وكان كُرز وأصحابه قد ابتعدوا باتجاه مكة .
مسائل في غزو كُرز لأطراف المدينة
وتدل غزوة كُرز هذه على أطراف المدينة أن قريشاً تقوض السلم المجتمعي ، ولا تريد الإستقرار والأمن للناس ، وتهدد الناس في معايشهم وأرزاقهم ، ولا ينحصر هذا التهديد بالمسلمين منهم إنما يشمل عامة الناس لإرادة كفار قريش نشر الفوضى في المجتمعات ، وهدم النظم والأعراف العامة .
وهل إرسالهم كُرز الفِهري للإغارة على سرح المدينة من مصاديق عدم أهليتهم للولاية على البيت الحرام ، كما في قوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو خصوص العناية بالبيت الحرام ، وشؤون وفد الحاج وعماره .
الجواب هو الأول ، فليس لأولياء البيت الحرام الإغارة على سروح المدينة وإفزاع وإيذاء أهلها والتحريض على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، وعلى التنزيل وقدسيته .
إن تسمية غزوة بدر الأولى وسفوان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإشارة إلى تعدد الغزوات منه لا أصل لها ، وأنه كان هو المغزي والذي يراد إلحاق الضرر الإجتماعي والإقتصادي والسياسي به ، وهل إبتداء قريش بغزو سروح المدينة إعلان للحرب ، ومقدمة لغزو المدينة .
وتقويض للسلم ، الجواب نعم ، وأن صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم رده بالمثل من مصاديق عنوان هذا الجزء (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) بالإستدلال من السنة النبوية على هذا القانون وسلامة آيات السلم وأحكامه من التبديل والتغيير .
لقد غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة ، وكانت تركته السلم والموادعة والصبر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وهذه التركة من مصاديق بقاء آيات السلم غضة طرية إلى يوم القيامة .
ولتكون قصة كُرز الفهري هذه من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية وفيه مسائل :
الأولى : قيام كُرز وأصحابه بالإغارة على سروح المدينة في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة ، وسوق الأنعام معهم ، وفيه شاهد على حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهجرة ، وأنها سبيل للنجاة من كفار قريش وبطشهم .
الثانية : مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلفه ، وطلبه ، وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتان من الصحابة .
وحمل لواءه الإمام علي عليه السلام ، وخلف على المدينة زيد بن حارثة ( ) .
وبلغوا وادي سفوان بناحية بدر أي أنهم قطعوا نحو مائة وخمسين كيلو متراً في طلب المشركين الذين كانوا فرساناً مما يدل على تعجلهم السير مع قلة الخيل والإبل عند المسلمين فلم يلحق بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : زجر الأعراب ورجال القبائل المتحالفة مع قريش من غزو المدينة وأطرافها وسروحها التي ترعى في المراعي القريبة .
الرابعة : إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الكتيبة للإستطلاع والتعبئة والتمرين .
الخامسة : رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من منطقة بدر بعد قطع مسافة (150) كم ، وعدم الإستمرار في ملاحقة كُرز وأصحابه ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد السلم والأمن للمسلمين والناس جميعاً .
السادسة : شجاعة وهمّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وعدم سكوتهم على الظلم والتعدي العام .
لقد كان خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلف كُرز بالوحي ، فهل هو من مصاديق ورشحات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) الجواب نعم .
السابعة : دخول كُرز الفِهري الإسلام قبل صلح الحديبية ، وحسن إسلامه .
الثامنة : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كُرز بن جابر الفِهري على رأس سرية من الفرسان ، عددهم عشرون فارس في شهر شوال من السنة السادسة للهجرة ، لطلب العربيين الذين قتلوا غلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسمه يسار واستاقوا الإبل التي معه ، وعددهم ثمانية بعد أن أكرمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قدومه المدينة ، فوجدهم كُرز وأصحابه وأسروهم .
التاسعة : استشهاد كُرز الفِهري في طريق مكة بعد أن أخطأ الطريق هو وخالد الأشقر الخزاعي .
وكان قتل كُرز الفِهري من قبل المشركين .
بحث أصولي في صلح الحديبية
المتبادر من معنى الفتح هو النصر وقهرالعدو ودخول داره والإستيلاء على ماله ، والتبادرمن علامات الحقيقة ، كما بيناه في علم الأصول .
ولكن القرآن جاء بمعنى آخر للفتح وهو الصلح ووقف القتال ، وهو من مصاديق نزوله من عند الله .
ويحتمل إطلاق القرآن اسم الفتح على صلح الحديبية وجوهاَ :
الأول : إنه من الحقيقة , ووضع هذا الاسم للصلح .
الثاني : هو من المجاز الذي انتقل إليه الاسم من معنى آخر بينه وبين المعنى الذي وضع له نوع علاقة مع قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي للنفع الذي هو دخول البلد عنوة وقهراَ .
الثالث : إنه من الحقيقة الشرعية , هو استعمال الشرع للفظ في مسمى آخر غير الذي وضع له في اللغة , وأحياناً مع هجران المسمى اللغوي الذي وضع له اللفظ بتقادم الأيام وكثرة إستعمال اللفظ في المعنى الشرعي كما في لفظ (الصيام) وانصرافه إلى العبادة المعروفة من الإمساك من الأكل والشرب والجماع , وكما في (الصلاة) و(الحج) و(النكاح) و (الربا) من غير أن يمحى المعنى الذي وضع له اللفظ في أصل اللغة ، قال تعالى [أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
ومنهم من قيد الحقيقة الشرعية بهجران المسمى الذي وضع له اللفظ في أصل اللغة مطلقاَ ، والواقع بخلافه .
الرابع : هو إستعمال اسم الفتح في صلح الحديبية من النقل الأصيل الموضوع له إلى المعنى المستحدث .
الخامس : إنه من المشترك اللفظي بمعنى وضع اسم الفتح لدخول البلد عنوة للصلح بين طرفين .
وعلى فرض هذا المعنى فمثلا يكون الصلح فتحاَ لطرف واحد أم لطرفين , ولا بد من قرينة وبيان .
السادس : المراد من الفتح في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) فتح مكة والذي سيتم بواسطة صلح الحديبية , فالصلح وسيلة وواسطة .
ولكن السنة النبوية خلاف هذا المعنى إذ أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان ذات صلح الحديبية فتح بذاته لحديث (مجمع ابن جارية الأنصاري قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم إذا الناس يوجفون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟
قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف .
فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته على كراع الغميم فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً }( ) .
فقال رجل : يا رسول الله : أو فتح هو؟ قال : والذي نفس محمد بيده إنه لفتح) ( ) .
والمختار هو الثالث أعلاه , وأن إطلاق القرآن اسم الفتح على صلح الحديبية وتأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا المعنى من الحقيقة الشرعية من غير أن يمحى المعنى اللغوي والمسمى الذي وضع له اسم الفتح .
، ولا غرابة أن تجد بعض الصحابة يتساءل عن تسميته فتحاً ، وهذا الكلام وإن صدر من فرد واحد إلا إنه قد يكون حاضراً في التصور الذهني عند عدد من الصحابة من بين ألف وأربعمائة مجموع المهاجرين والأنصارالذين حضروا الحديبية خصوصاً المهاجرين الذين كانت أنفسهم تتوق لدخول مكة والطواف بالبيت ، ورؤية الأهل والأحبة .
(وأخرج البيهقي عن عروة قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية راجعاً ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما هذا بفتح ، لقد صددنا عن البيت وصدَّ هدينا ، وعكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول رجال من أصحابه : إنّ هذا ليس بفتح .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح .
لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح .
أنسيتم يوم أحد( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) ( )، وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا( )؟
قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا . فأنزل الله سورة الفتح) ( ).
ولكن قول وإحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس عن تفكر منه في قولهم (ما فكرنا فيما فكرت فيه) وهذه العبارة بعيدة عن لغة الصحابة في خطابهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنهم يعلمون أنه الوحي والحجة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
والرواية من المرسلات وروايها عروة بن الزبير ، وهو تابعي ولد سنة 23 للهجرة وتوفى سنة (94) .
ولم يخرج مع أبيه الزبير وطلحة بن عبيد الله إلى معركة الجمل وقيل لصغر سنه .
كما اعتزل القتال والفتن بين أخيه عبد الله بن الزبير وبين الأمويين .
ولم يتول ولاية أو قضاء لأخيه ، وكان قريباً من الإمام علي بن الحسين عليه السلام ، ويدل صلح الحديبية على وجوب إجتناب المسلمين القتال فيما بينهم ، وعلى استحضار آيات السلم في الصلات والمعاملة مع أهل الكتاب والناس جميعاً والإنتفاع الأمثل المتجدد من صلح الحديبية المتجددة .
كشف الحديبية لإستكبار قريش
وتبين بنود الحديبية مصداقاً لقوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه بلحاظ القانون الذي اختص به هذا الجزء وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) مسائل :
الأولى : قانون مجئ العذاب في الدنيا للذين كفروا عندما يتمادون في الظلم والتعدي .
وهل من ملازمة بين التعدي الذي ورد في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) وبين نزول العذاب .
الجواب لا ، لأن التعدي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ، لذا لم تخبر الآية عن مثل هذه الملازمة إنما أخبرت عن كره وعدم حب الله للمعتدين ، سواء قل أو كثر التعدي ، أما نزول العذاب بمشركي قريش في الآية ( وما كانوا اولياءه .. ) فبسبب اختيارهم إجتماع الكفر والإقامة عليه والظلم من منازل الشرك .
الثانية : لم تذكر الآية نوع وصنف العذاب الذي ينزل بالذين كفروا ، فلا يحيط به كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا الله تعالى لأن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وهل يتعارض هذا المعنى مع توبة الله عز وجل عليهم في المقام قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ( ) الجواب لا ، إنما يفيد الجمع بينهما نجاة الذين يتوبون بالهداية والإيمان من العذاب .
إذ نزلت الآية أعلاه في معركة أحد بعد أن قتل المشركون سبعين من المهاجرين والأنصار عدا الذين جرحوا ، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وبين معركة أحد وفتح مكة خمس سنوات دخل فيها الإسلام أكثر الذين كانوا على الشرك من أهل مكة وما حولها .
الثالثة : لقد كانت الحديبية صلحاً ، والأصل هو الثناء على طرفي الصلح ، ولكن قانوناً يحكم الحياة الدنيا ، وهو منع وصول المدح والثناء إلى الذين كفروا لتخلفهم عنه بتركهم الواجب ، وعلة الخلق ، وهو التوحيد ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) ولإصرارهم على فرض شروط على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم ينصبون الأصنام في البيت الحرام ، ويقومون بتيسير حج المشركين ، ولكنهم يمنعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار الذين لا غاية عندهم في دخول مكة إلا أداء المناسك ، وقول (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ) وهذا النداء شاهد على استدامة السلم وعدم نسخ آياته .
الرابعة : كما كشف صلح الحديبية استكبار قريش فانه أظهر وهنهم وضعفهم ورضاهم بالصلح ، وعجزهم عن القيام بغزو المدينة أو التعدي على المؤمنين ، وعدم الممانعة بدخول القبائل في الإسلام لمدة عشر سنوات ،وإظهار صلح الحديبية وهن قريش وحلفائهم من مصاديق تسميته من عند الله [فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
الخامسة : [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ]( ) أي ماذا عند كفار قريش من أسباب دفع العذاب عنهم ، فلا إيمان ولا عمل صالح ولا تعاهد منهم لأمانة ولاية المسجد الحرام ، فلا شئ يمنع من نزول العذاب بساحتهم ، فقد خلوا بينهم وبينه باختيارهم وإصرارهم على الظلم والجور.
السادسة : منع رجال قريش الناس عن عمارة المسجد الحرام .
وهل يختص الأمر بمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من العمرة في صلح الحديبية ، الجواب لا .
لذا وردت الآية بصفة الصدّ وليس المنع ، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فالصدّ أعم ، ومنه :
الأول : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة عندما يدخل إلى البيت الحرام للطواف أو الصلاة أو الجلوس والتسبيح .
الثاني : حصار قريش الأقتصادي والإجتماعي لأهل البيت وآثاره النفسية واستمرار هذا الحصار في شعب أبي طالب لثلاث سنوات .
الثالث : إيذاء الصحابة الأوائل ، وصيرورتهم في خشية من بطش قريش في الليل والنهار ، وإمتناعهم عن زيارة البيت في أوقات وجود رجالات قريش فيه خشية تعديهم عليهم ، وسخريتهم واستهزائهم بهم والوقوع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
الرابع : منع الناس من الإتصال بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة .
الخامس : معاداة الأوس والخزرج بعد الهجرة والتضييق عليهم عند قومهم إلى مكة لأنهم آووا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ومع هذا التعدي الذي كان يتوالى من قبل كفار قريش فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقد معهم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، ثم عفا عنهم عند فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وهو من مصاديق استدامة العمل بآيات السلم ، وعدم نسخها .
مصاديق السلم في صلح الحديبية
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على أنه لا يريد القتال ولا يسعى للغزو وأن آيات السلم محكمة (صلح الحديبية) .
وقد يقال أن الصلح أمر يقع في كل زمان بين الطرفين أو الأطراف المتخاصمة أو المتحاربة ، وقد يتم بلا حرب أو قتال .
والجواب نعم ، ولكن صلح الحديبية تتجلى فيه معالم النبوة ، وسلطان الوحي والتنزيل في عالم السلوك والفعل من جهة المسلمين ، ومن طرف المشركين .
فمن أسرار الوحي عدم إنحصار موضوعه وحكمه بالسنة النبوية القولية والفعلية ولا بسيرة ومنهاج المسلمين , إذ تظهر مصاديقه وأثره حتى في أحوال المشركين وعملهم ، وخذلانهم وظهور الإرباك والخوف والفرقة في صفوفهم .
وقد صاحب الوحي معارك الإسلام ومقدماتها ، وهو من سبل نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه وشواهد نصر الله الذي تذكره عدم خسارة وهزيمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أي معركة من معارك الإسلام مع أن المشركين هم الذين كانوا يختارون أوانها ومكان وقوعها وكيفيتها ، ويأتون بأعداد من الرجال وأسلحة أضعاف المسلمين وما عندهم من العدة .
إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يخفون أمرهم فالدعوة إلى الإسلام علنية ، والنفير إلى الدفاع إختياري في الجملة مع قلة ما في اليد من المال والظهر والسلاح ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
ومن الإعجاز في اللفظ القرآني المتحد جمعه بين الماضي والحاضر والمستقبل ، ففي قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا] ( ) إخبار وقطع بنصر الله عز وجل للرسل السابقين ، وهل تشمل هذه الآية الأنبياء ويكون تقديرها أنا لننصر انبياءنا .
الجواب نعم ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولأن لفظ الرسل قد يأتي في القرآن ويراد منه جميع الأنبياء والرسل ، ويدل على إفادة الآية عموم الأنبياء قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] ( )فلم تقل الآية : وكأين من رسول .
ليكون في الآية أعلاه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل فانهم يدافعون مع نبي رسول ينزل عليه الوحي ويصاحبه الملك جبرئيل ورسالته عامة، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
وهل صلح الحديبية نصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أم أن القدر المتيقن من النصر هو بميدان القتال ، الجواب هو الأول ، ومن إعجاز القرآن بيانه لهذا القانون بنزول قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ]( ) بخصوص صلح الحديبية.
وتتعلق معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية بوجوه منها :
الأول : مقدمات هذا الصلح البعيدة والقريبة عند الإعداد للخروج من المدينة إلى مكة وماهية هذا الخروج وهو أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه العمرة ، أما القريبة فهي اقتراب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية ومفاوضات الصلح .
الثاني : بنود صلح الحديبية .
الثالث : نتائج صلح الحديبية .
وفي هذا التقسيم دعوة للعلماء لإستقراء المعجزات على نحو التفصيل والشواهد من القرآن والسنة ، وكل فرد منها شاهد على صبغة السلام التي تتصف بها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى ما هي الصلة بين آيات السلم وصلح الحديبية ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فموضوع آيات السلم هو الأعم وصلح الحديبية من رشحاتها ، وهو من الشواهد على حضور واستدامة أحكامها وعدم نسخها .
لقد احتج بعض الصحابة على وقوع صلح الحديبية والحرمان من العمرة في تلك السنة وبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يغضب إنما أجاب بالإحتجاج والبرهان بأنه فتح ، لأن الذين احتجوا من أهل بيعة الرضوان ،وشاركوا في التوجه إلى مكة مع إحتمال إجهاز المشركين عليهم خاصة وأن المسلمين في الحديبية واجهوا السهام والحجارة من المشركين ، أي أن الحديبية لم تختص بالصلح بل سبقها تطاول وتعد متعدد من المشركين من جهات :
الأولى : إحاطة خيل المشركين بجمع المسلمين في الحديبية ، ولا أقول لعسكرهم لأنهم ليسوا في حال استعداد للقتال من حين خروجهم من المدينة.
الثانية : توالي وفود قريش بالتهديد والوعيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : قيام المشركين برمي السهام والحجارة على المسلمين .
الرابعة : سقوط شهيد من المسلمين ، وهو ابن زنيم ولم يكن يقاتل أو يرمي المشركين بالسهام أو الحجارة إنما ( اطلّع الثنية من الحديبية فرماه المشركون فقتلوه ) ( ) .
الخامسة : مجئ الصحابة بعدد من المشركين أسرى إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ اجتمع منهم سبعون ، ولما مثلوا بين يدي الرسول عفا عنم وأطلقهم .
(عن سلمة بن الأكوع قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحن أربع عشرة مائة ، ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض ، أتيت شجرة فاضطجعت في ظلها فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمعضتهم.
وتحوّلت إلى شجرة أخرى ، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي : يا للمهاجرين قتل ابن زنيم .
فاخترطت سيفي فاشتددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم وجعلته في يدي .
ثم قلتُ : والذي أكرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبعين من المشركين .
فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : دعوهم يكون لهم بدء الفجور ومنتهاه ، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنزل الله { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم })( ).
وهذه شواهد ومصاديق لقوله تعالى [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ) وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرد على الأذى الشديد بصيغ السلام والرأفة ، وأنه لم يكن رجل حرب أو قتال .
وهل كان تعدي المشركين المتعدد أوان الحديبية وصلحها وقتلهم أحد الصحابة وهو ابن زنيم من خطوات الشيطان التي ورد نهي المسلمين عنها في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) الجواب نعم , لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يقابلوهم بالمثل , إنما قابلوهم بالسماحة والتجاوز لبيان قانون وهو مجئ المصداق الواحد لمضامين الأمر والنهي الوارد في آية واحدة من القرآن , فيدخل المسلمون في السلم , ويتنزهون عن إتباع خطوات الشيطان , ويجتهدون في صرف الناس عن هذا الإتباع بالحكمة والصبر ومدد من الله عز وجل في العمل بقوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] ( )
ولم يطالب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بدية ابن زنيم لأنه يريد السلم ، ويعمل بأحكام آيات السلم .
وهل عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأحكامها حجة في إنعدام نسخها ، الجواب نعم ، إلا مع الدليل على نسخها من القرآن أو السنة وهو معدوم .
قانون تساؤل الملائكة سلام
لقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بأنه يفسد في الأرض [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )ولابد أن الملائكة لم تقصد القضية الشخصية سواء بخصوص الفساد أو القتل ، لذا وردت الآية بصيغة الجمع (الدماء) لبيان تجدد سفك الدماء والحروب بين الناس.
ويمكن القول باستقراء مستحدث هنا من الآية وهو أن الملائكة أرادوا استدامة خلافة الإنسان في الأرض ، وعدم صيرورة الفساد وسفك الدماء سبباً لإنقطاع هذه الخلافة .
وهل مما أراده الملائكة استدامة أحكام آيات السلم والصلح والوئام ، الجواب نعم ، لأن فيها حقناً للدماء ، وغنى عن الحروب ، وتوفيراً للمال الذي ينفق فيها .
ولو جمعت مقادير الأموال التي تنفق على الحروب والإستعداد لها ، والإحتراز من وقوعها في كل زمان وأنفقت في إعانة الفقراء والإعمار لسادت مفاهيم في الصلاح ، وهو من الأمارات على أن آيات السلم محكمة ، والعمل بها مستديم ونافع للناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد أراد الملائكة دوام هذه الخلافة باعمار الناس للأرض بالذكر والدعاء ، إذ أن الفساد سبب لسخط الله عز وجل على المفسدين.
وهذا الأمر تعلمه الملائكة بما علمهم الله عز وجل وبواسطة أحوال الخلائق السابقة ، قال تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا]( ).
ولان سفك الدماء فناء للبشر ، وتعطيل للأرحام ، فتفضل الله عز وجل وأجاب الملائكة بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فخروا لله سجداً لأنهم لم يعلموا باسباب اللطف الإلهي التي تجعل خلافة الإنسان للأرض مستديمة .
ولأن قوله تعالى أعلاه وعد كريم للملائكة وأجيال الناس ، ومنه نزول آيات السلم وبقاء العمل بها ، وتفضل الله سبحانه باللطف بتقريب الناس في كل زمان إلى السلم والصلح وهل عدم انتقام آدم من قابيل وترك عقوبته من مصاديق السلم والعفو في الأرض ، الجواب نعم.
فكما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس بدعاً من الرسل ، فكذا آيات السلم فانها ليست بدعاً في التنزيل وأحكام النبوة [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( )، لذا فمضامين آيات السلم ثابتة الى يوم القيامة ، وهو من الدلائل على أن القرآن معجزة عقلية تبقى أحكامه إلى يوم القيامة ، وبما يجعل الناس في كل زمان يدركون الحاجة إليها.
لقد أحرزت الملائكة رحمة الله عز وجل بالناس ودفع الفساد وحروب الإبادة الجماعية العامة عن الناس ، وهذا الدفع هو الذي أرادته الملائكة من التساؤل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فهم لم يحتجوا على إتخاذ الله عز وجل (خليفة في الأرض) ونسكهم وانقطاعهم للعبادة مانع من مثل هذا الإحتجاج إنما سألوا الله عز وجل لطفه ورحمته بالناس وإنذار الناس من الفساد والقتل ، خاصة وأن الملائكة يكتبون ما يفعل كل إنسان ، ذكرا وأنثى , قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ) .
ومن مصاديق هذه الرحمة وقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ابتداء كل سورة من القرآن بـ[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] عدا سورة التوبة وما فيها من التوكيد والوعد الكريم بتوالي رحمة الله بالناس جميعاً.
وهل من تساؤل الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا] ( ) ورد الله عز وجل عليهم دعاؤهم واستغفارهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، الجواب نعم.
فمن علم الله عز وجل جعله الملائكة يتطلعون إلى النبوة الخاتمة ويستبشرون بأوانها ويدعون الله تنجزها حتى إذا ما بعث الله عز وجل النبي محمداً صاروا يدعون له بالنصر والسلام لمنع سفك الدماء والحروب ، وحتى إذا وقعت فهي محدودة المكان والزمان ويتعقبها الصلح والموادعة والسلام.
قانون نهي المشركين عن معركة أحد سلام ونجاة
من خصائص القتال تعدد أطرافه ، قال تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ] ( ) ولكل معركة أحوالها الخاصة ، ومنها ما تكون المقدمات من طرف واحد ، كما في معركة بدر وأحد والخندق ، إذ قصد مشركو قريش الهجوم واختاروا الوقت والمكان المناسب .
وعندما أرادت قريش تسخير أرباح القافلة في الإعداد لمعركة أحد ، وإعادة العير إلى أهلها ، امتنع أبو سفيان عن اعطاء بني زهرة عيرهم .
عندئذ تكلم الأخنس (ما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش؟ قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا عن قريش.
قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا في غير شيء، فرجعنا. فأخذت زهرة عيرها)( ).
ونزل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( )، في ذم قريش وتسخيرها الأموال لمحاربة النبوة والتنزيل.
لإنذار قريش من الإعداد والخروج إلى معركة أحد .
وهل الآية أعلاه من آيات السلم ، الجواب نعم ، إذ تبين لزوم إمتناع المشركين عن الهجوم والإغارة على المدينة وغزو أطرافها .
ومن خصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يبدأ الهجوم على قريش وأهل مكة ، فلا تقع معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة لولا غزو كفار قريش المدينة ، لبيان أن الآية أعلاه شاهد على عدم نسخ آيات السلم .
وقد خرج نحو معركة أحد ثلاثة آلاف من المشركين ، ولكن الكثير منهم من الأحابيش ورجال القبائل ولا يتوقف احصاء وتقدير سكان مكة يومئذ على الذين يخرجون لمحاربة النبوة والتنزيل فمن أهلها مسلمون .
ومنهم الذين اعتزلوا القتال وهو من الإعجاز في بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة بعد البعثة ورشحات دعوته إلى الله في مكة ، وهناك النساء والعبيد والمسنون ، والمقيمون في مكة من غير أهلها .
وهل كان المسلمون والمسلمات الذين في مكة يحرضون الناس على القعود ، وعدم الخروج لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الجواب نعم ، ومادة التحريض حاضرة بآيات القرآن ، وما فيها من التخويف والوعيد ، وآيات الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعلاء كلمة الحق ، ونبذ عبادة الأوثان ، وجهالة الذين يذبون ويدافعون عنها ، قال تعالى [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجدد ومضاعفة مادة وأسباب منع الناس عن الخروج لقتاله.
ومنها :
الأول : توالي نزول آيات القرآن .
الثاني : المعجزات الحسية .
الثالث: نتائج معركة بدر وهزيمة المشركين .
الرابع : آيات السلم ، لبيان قانون وهو كثرة منافع آيات السلم دليل على عدم نسخها .
الخامس : لحوق الخزي بالمشركين يومئذ إذ انشغلوا بأمور :
الأول : كثرة قتلاهم يوم بدر فقد سقط منهم سبعون رجلاً.
الثاني : كثرة عدد الجرحى والأسرى من قريش ، فقد أسر المسلمون في معركة بدر سبعين من المشركين ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل كثرة قتلى وأسرى قريش يوم بدر من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثانية : ما هي النسبة بين نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، لأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم في معاني ومصاديق النصر المتقوم بالإيمان ،ومنه زجر المشركين عن العودة للقتال ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
وهل تزجر آيات السلم المشركين عن القتال ، الجواب نعم ، لما تبعثه من الميل إلى السلم والصلح والترغيب به ، وبيان قبح ضده ، وهو محاربة النبوة ،وفيه شاهد بأن آيات السلم برزخ دون القتال وتجدده ، وهو من الشواهد على عدم نسخها .
وأما المسألة الثانية فالنسبة هي العموم والخصوص المطلق فالمدد من عند الله يوم بدر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة كما في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) دعوة لوقف القتال والعودة إلى الحوار ولغة الإحتجاج ، وتحكيم المعجزة والتنزيل وورد[تَسْتَغِيثُونَ] بصيغة الجمع والقطع .
لقد صار السلم والحوار حاجة للمشركين ، وقد رغبّهم القرآن به ومنع المسلمين من القتال بعد النصر ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
الثالث : خسارة قريش للمعركة ، وهزيمتهم فيها.
الرابع : طواف رجال قريش على دور القتلى منهم ، والمواساة بالنياحة عليهم ، وقد منعت قريش البكاء والنياحة على القتلى لما فيها من استيلاء الحزن والقنوط على النفوس ، وهي مناسبة للسخط على رؤساء قريش لأنهم أصروا على منازلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إنتفاء أسبابها .
الخامس : سعي قريش رجالاً ونساءً في كيفية إعادة الأسرى ، وجمع الأموال لفدائهم بعد أن تأكدوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يجهزوا عليهم ، ولم يدخلوهم في سجن.
وهل كانت قريش تريد التعجيل بعودة الأسرى خشية دخولهم الإسلام واستعداداً لمعركة الثأر في أحد ، الجواب نعم ، وهو من المعجزات الغيرية للقرآن وملاحقة آيات السلم لهم ، والتي تزجرهم عن معركة الثأر .
وفي عام الفتح في السنة الثامنة للهجرة خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ألفان من أهل مكة إذ خرج من مكة بعد فتحها في (اثني عشر ألف مسلم ، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح)( ).
والمختار أن كثيراً من هؤلاء الألفين هم ممن أسلم قبل الفتح ، وطائفة منهم قبل صلح الحديبية .
قانون سجود الملائكة لآدم دعوة للسلم
قد تقدم أن من علم الله عز وجل في المقام نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل أخبر الله عز وجل الملائكة عن هذا النزول عند احتجاجهم أوان خلق آدم كما في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، المختار نعم.
لبيان مسائل مستنبطة من قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بتفضل الله سبحانه باخبار الملائكة عن ملايين الشواهد التي تدل على رحمته بالناس ، وصرف طغيان الفساد والفناء بالحروب والإقتتال بين الناس.
ثم أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام فسجدوا طاعة لله عز وجل ، من وجوه :
الأول : الإقرار باستدامة خلافة الإنسان في الأرض.
الثاني : التسليم بحكمة الله عز وجل بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الثالث : إكرام وحب الملائكة لآدم.
الرابع : دعوة الملائكة الناس للشكر لله عز وجل على نعمة سجودهم لآدم.
الخامس : توالي بعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية تدعو الناس إلى الهدى والإيمان.
السادس : نزول الملائكة بآيات السلم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعمل وأصحابه بها حال نزولها .
كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل هذا النزول مصداقاً لها وتطلعاً إلى نزولها بلحاظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول ولا يفعل إلا بالوحي ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
السابع : ترغيب الناس على اختلاف لغاتهم ومذاهبهم بالسلم والتعاضد والتعاون لنشر الأمن في الأرض ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) .
ويعتنى في علم الأصول بوضع الألفاظ أزاء معانيها وهل هي بالهام من الله عز وجل أم بقيام فرد واحد بانشاء لغة كما قيل في يعرب بن قحطان ونحوه .
ولكن معاني ومضامين سجود الملائكة لآدم تستلزم بيانها واستقراء الدروس والمواعظ من هذا السجود ، ومنه إشاعة روح الرأفة والرحمة بين الناس .
لقد أراد الملائكة مصاحبة السلام لآدم عند هبوطه إلى الأرض ، وعدم مفارقة السلم والأمن أهل الأرض إلى يوم القيامة ، لذا قال تعالى [أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا]( ).
وقال تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
لبيان حقيقة وهي أن تساؤل الملائكة بصيغة الإنكار عن أفعال الناس في الأرض رحمة عامة متجددة إلى يوم القيامة وبيان لقانون وهو دعاء وسؤال الملائكة بسيادة مفاهيم السلم والسلام في الأرض ولابد من موافقة ما جاء به الأنبياء لما سأله الملائكة ، ومنه السنة النبوية في نشر ألوية السلم في الأرض.
وهل صلح الحديبية معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سعيه للسلم العام بين الناس والقبائل والدول ، الجواب نعم ، ولا يعلم ما صرف الله عز وجل عن أجيال المسلمين وغيرهم من أهل الأرض من شرور القتال بصلح الحديبية إلا الله عز وجل .
ليبقى صلح الحديبية نعمة متجددة وحاضرة في كل زمان أمس واليوم وغداً ، فمن يرى من أطراف نزاع ما أنه على حق ويريد إختيار استدامة الخصومة والقتال يحضر عنده وعند الذين من حوله التأسي بجلوس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الكفار الذين توالى اعتداؤهم عليه ، ورضاه بشروطهم ورجوعه وألف وأربعمائة من أصجابه من أطراف الحرم من غير أداء للعمرة وهذا التأسي من باب الأولوية القطعية ، لمقام النبوة وصدور الرضا بالصلح من منازل الوحي ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) .
ومن بركات آيات السلم عجز الناس عن إحصاء ما صُرف من القتال والحروب بين المسلمين وغيرهم ، وبين المسلمين أنفسهم ، وهناك مسألة وهي عندما تحضر مقدمات القتال فأيهما أكثر :
الأول : صرف القتال .
الثاني : وقوع القتال .
المختار هو الأول ، وهو من منافع سجود الملائكة لآدم ، ودعائهم للناس ، وإستدامة العمل بآيات السلم ، ولا أصل للقول بأن آية السيف نسخت (100) أو (124) آية من آيات السلم والصلح والموادعة ، فكل آية منها رحمة للناس إلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على تلاوة المسلمين والمسلمات لها خمس مرات في اليوم والليلة ، وهل هذه التلاوة حجة بعدم نسخ آيات السلم ، الجواب نعم خاصة مع عدم ثبوت النسخ .
قانون السلم في كتائب النبي
السلم هو حال الإستقرار والأمن والتجانس والوئام بين الناس قبائل ومجتمعات ودولاً ، وفيه سلامة من الحروب والإقتتال .
وهل الأصل في المجتمعات السلم أم الحرب ، الجواب هو الأول لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وهناك تضاد بين عبادة الناس لله وبين الحروب والقتال بلحاظ أن العبادة سور الموجبة الكلية الجامع للناس ولا يجتمع المتضادان ، لذا تفضل الله عز وجل على المسلمين بالصلاة خمس مرات في اليوم والليلة في صفوف متراصة .
وهل تدخل حال الكراهية في السلم أم في الحرب ، الجواب هو الأول بلحاظ أن السلم ضد الحرب ، وليس في الكراهية قتال ولمعان سيوف ، كما أن الكراهية كيفية نفسانية متزلزلة ، ولا تمنع من الجدال والإحتجاج وعقد الصلح ، وأيهما أشد كراهية كراهة النبي محمد لكفار قريش أم كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الجواب من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يكره جماعة أو قوماً أوطائفة ، قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
لقد وثّق القرآن السنة النبوية القولية والفعلية بالأوامر والنواهي من عند الله ، منها أمر الله للنبي بالصبر والتحمل ، ولا يختص هذا الأمر بأيامه في مكة بل يشمل أيامه في المدينة وما بعد الهجرة ، نعم ورد قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ]في أربع سور كلها مكية وهي :
الأولى : قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً]( ).
كما ورد لفظ (اصبر ) خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن (19) مرة كلها في السور المكية ، وهو من إعجاز القرآن ليعني هذا استمرار واستدامة الأمر من الله عز وجل إليه وإلى أصحابه بالتحلي بالصبر ، منها قوله تعالى في آخر آية من سورة آل عمران [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
كما وردت آيات مدنية كثيرة تدعو إلى الصبر وتبين نفعه وثوابه منها خاتمة قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) .
ترى ما هي أسرار الجمع بين الصبر العام والمرابطة الجواب هو العموم والخصوص المطلق .
وتدل هذه الخاتمة على أن الصبر أكثر نفعاً من القتال ، لبيان التباين في كم وكيف الصبر في المدينة عنه في مكة من جهات :
الأولى : قانون الصبر حسن ذاتاً وأثراً .
الثانية : قانون الملازمة بين الإسلام والصبر , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) ( ).
الثالثة : الثناء على المؤمنين لإقتدائهم بالأنبياء في صبرهم.
الرابعة : قانون الصبر حكمة .
الخامسة : قانون النسبة بين الصبر والسلم عموم وخصوص مطلق ، فالسلم فرع الصبر ، وهو بذاته صبر ، ويؤدي إلى الصبر ، وهو من دلائل كون آيات السلم محكمة غير منسوخة .
السادسة : قانون الصبر منهاج الأنبياء .
السابعة : قانون الصبر سلاح الأنبياء ، وهو لا يتعارض مع كون الدعاء سلاحهم .
الثامنة : قانون الصبر صارف للكيد والمكر ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ).
التاسعة : قانون الصبر من مقومات خلافة الإنسان في الأرض .
ومن معاني رد الله عز وجل على الملائكة في تساؤلهم من هذه الخلافة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) تفضله تعالى بتحلية النبوة والإيمان بالصبر ، وعن الإمام علي عليه السلام (الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له)( ).
صفات المفسر
ما أن نزلت سور من القرآن حتى صار علم التفسير مصاحباً لها ، فمن الآيات ما تستلزم التفسير لعامة الناس ، وكان الإمام في التفسير والتأويل هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذات تلاوته للقرآن تفسير وبيان ، قال تعالى [بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ) وانقطع نزول القرآن برحيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
ولكن علم التفسير باق ببيان أهل البيت عليهم السلام والصحابة ويتجدد في كل زمان بأن يتصدى نفر من العلماء للتفسير والتحقيق والغوص في كنوز آيات القرآن على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية ، والقيام بدراسات خاصة بالتأويل وأسرار الآيات ، ومنها آيات السلم التي تبعث أنوار التهدئة في المجتمعات ، وتصدّ الناس عن قبول المناجاة بالحرب والإقتتال خاصة وأنها لا تأتي منعزلة عن آيات الدعوة بالحكمة والموعظة ،وفضح قبح الشرك والضلالة والأخلاق المذمومة .
وسيأتي قانون : الصلة بين آيات السلم وقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ولابد من خصال حميدة في الذي يقوم بالتفسير منها :
الأول : ملكة الإستنباط والإستقراء من الآيات .
الثاني : سلامة الإعتقاد والإيمان ،وصدق النية في العمل.
الثالث : العصمة من إتباع الهوى ، واستقلال الرأي ، ويدل كل من النقل والعقل على سلامة آيات السلم من النسخ .
الرابع : تفسير القرآن بالقرآن .
الخامس : الصدور عن المأثور في السنة القولية والفعلية التي هي مرآة القرآن ، ولا يتعارض هذا الصدور مع إعتماد العقل في الـتأويل إنما هو فرع له .
ومما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام حديثان :
الأول : حدّث (سهيل أخو حزم، حدثنا أبو عمران الجَوْني، عن جُنْدب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ) ( ) رواه ابن جرير باسناده ، ورمى بعض الرجاليين سهيلاً بالضعف .
الثاني : ما ورد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار) ( ).
ولا تعارض بين الحديثين لأن التفسير بالرأي من الكلي المشكك الذي يقع على مراتب متفاوتة باتباع الهوى أو الإمتناع عن الرجوع إلى ضوابط التفسير ، أو نسبة ودرجة فقدان الأهلية للتصدي لهذا العلم العظيم .
ليكون من الإعجاز في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن التأسيس السليم لعلم التفسير.
السادس : استحضار آيات القرآن في الجملة عند تفسير الآية منه, ومنها آيات السلم .
السابع : الإحاطة الإجمالية بأسباب النزول وإن كان المدار على عموم المعنى وليس أسباب النزول وحدها .
الثامن : الفقاهة في أحكام العبادات والمعاملات في الجملة ، فلا يشترط في المفسر أن يكون فقيهاً مجتهداً ، ولكن لابد أن يكون ملماً بعلم الفقه والأصول والكلام ، والأهلية لإستنباط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية أو لا أقل التمييز بين الفتاوى والآراء والفصل بين الغث والسمين .
التاسع : إجتناب التفسير وفق الإنتماء المذهبي والتعصب .
العاشر : الرجوع إلى اللغة العربية ومعاجم اللغة .
الحادي عشر : المعرفة الإجمالية بعلم الرجال وسند ومضمون الحديث وهو على شعبتين :
الأولى : علم الحديث النبوي رواية ، وهو الذي يتعلق بنصّ ومتن الحديث النبوي ، وما أضيف إلى الإمام والصحابي ، وضبطه والحرص على نقله بألفاظه ، ويشمل السنة القولية والفعلية وأحوال وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
فلو ورد حديث فيه صفات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخالف هذه الآية لا يؤخذ به ، للعلة القادحة به.
ولتشمل السنة النبوية قول وفعل وتقرير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وخُلقته وأخلاقه والتي هي فرع الوحي.
والرجوع إلى كتب الحديث ، فقد وفر المتقدمون من العلماء هذا العلم على الدارسين والعلماء في الأجيال اللاحقة .
الثانية : علم الحديث دراية : وهو علم جامع بين شعبتين :
الأولى : حقيقة وشروط الرواية وأنواعها .
الثانية : رجال سند الحديث ووثاقتهم ، واتصال الحديث أو ارساله أو انقطاعه ، والتمييز بين الحديث الصحيح والضعيف ، والسليم والسقيم ، واذا اطلق علم الحديث دراية فيراد به رجال السند وسلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث والطريق الذي يفيد ثبوت المتن أو ضعفه ، وهو من خصائص أمة محمد ومنه تتبع الأحاديث ، وهل فيها ما يدل على ثبوت نسخ آيات السلم , والمختار عدمه .
الثاني عشر : معرفة العلوم الخاصة بالقرآن ، ورسم المصحف ، ومنها علوم القراءات .
الثالث عشر :معرفة قواعد اللغة العربية والإعراب والصرف ولو في الجملة ليتمكن معها من معرفة الفروق في معنى ودلالة اللفظ .
الرابع عشر : إجتناب الحكايات والقصص التي لا أصل لها في المأثور .
وقد جاء تفسيرنا والحمد لله جامعاً لمناهج متعددة ومستحدثة في التفسير في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، وفي التنزيل [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] ( ).
دخول النبي محمد (ص) مكة لا عنوة ولا صلحاً
لقد انتشرت أخبار هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب المدينة ، ولم تكن مجردة ، بل حدث معها تغيير نوعي في المدينة من جهات تعددة ، إذ انتشرت المساجد فيها ، وصار الناس يدخلون الإسلام جماعات وساد الصلاح ، وأمن الناس بعضهم بعضاً ، وانقطعت وإلى الأبد الحروب بين الأوس والخزرج ، وتوافد المهاجرون إليها فبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة بالمؤاخاة بينهم وبين الأنصار ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وهل انحصر أثر هذا التغيير النوعي بأهل المدينة ، الجواب لا ، إنما عمّ أرض الجزيرة خاصة مكة ، وهو من مصاديق تسميتها [أُمَّ الْقُرَى]( ).
فارتبك رؤساء الكفر ، وصاروا في حيرة من أمرهم واحسوا بابتعاد الناس عنهم، ورجحان تعرض قوافلهم للنهب من الأعراب الذين كانوا يدفعون لهم الأتاوة لقاء مرور القوافل بديارهم من غير التعرض لها .
فحينما يأتي أبو سفيان بقافلة من ألف بعير محملة بالبضائع ليس معه إلا ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش ، فلا يستطيعون كف أيدي الأعراب إن أرادوا الإغارة عليهم بالليل وحتى في النهار , ولكن منزلة البيت الحرام وجواره ووفود القبائل إليه جعل هيبة لقريش عند الناس ، وكان الأولى بهم الشكر لله بالتصديق بالنبوة ، وهذه المنزلة والهيبة ولزوم الشكر وكيفيته تجلت بسورة قريش إذ قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
ومن معاني ابتداء السورة بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]منزلة وهيبة قريش عند القبائل ، وهل في السورة أعلاه إنذار لقريش ، الجواب نعم .
فلم تكتف قريش بالإمتناع عن عبادة الله إنما حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعُباد من المسلمين والمسلمات، فلابد أن يأتيهم الأذى من فوق رؤسهم ومن بينهم ومن تحت أرجلهم ، فتزلزلت هيبتهم عند القبائل ، وصار الناس يتساءلون لِمَ لم تدخل قريش الإسلام مع توالي المعجزات ، وكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عشيرتهم ، وعرفوه بالصدق والأمانة من نعومة أظفاره وهم الذين سمّوه (الصادق الأمين ) .
فأدرك رؤساء قريش أن رجالاً من القبائل هاجروا إلى المدينة ودخلوا الإسلام وأن طرق القوافل لم تكن آمنة ، وأن الأعراب وعامة العرب سيتجرأون عليها خصوصاً مع كثرة الأموال والبضائع التي تحملها الإبل وشدة جوع وفقر القبائل ، فبادرت قريش إلى السعي والمكر في كسر شوكة الإسلام بالهجوم ودخول القتال بذريعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يريدون الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، وهذا المكر ليس جديداً ، ولا هو الأخير .
فالتأريخ مليئ بمثله إذ يتناجى بعض الرؤساء للحرب والقتال بحجة إعتداء الطرف الآخر ،ثم تنكشف الحقائق بعد فوات الأوان ,
وأبى الله عز وجل إلا أن يخزي قريشاً في هجومهم في معركة بدر ثم أحد ثم الخندق ، ومصاحبة الخزي والخيبة لكفار قريش في كل معركة منها معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للناس للعمل بمضامين آيات السلم ، وأنها محكمة غير منسوخة أي أن أحكامها لا تختص بالمسلمين ، فهذا الحكم عام ، ودعوة للناس جميعاً بالتحلي بالصبر والعقلانية ، والإمتناع عن القتال .
حتى جاء صلح الحديبية وبادر كثير من الناس لدخول الإسلام ثم نقضت قريش شروط الصلح ، وأعانوا وظاهروا حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وسقط عدد منهم قتلى .
فجاءت وفود خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمرأى ومسمع من الصحابة بما فعلت قريش ورجعوا إلى مكة بعد أن وعدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمواساة والنصرة.
وعن عمرو بن سلمة (قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يغري( ) في صدري .
وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإن إن ظهر عليهم فهو نبى صادق.
فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.
قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى لما كنت أتلقى من الركبان.
فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت على بردة إذا سجدت تقلصت عنى، فقلت امرأة من الحى: ألا تغطون عنا است قارئكم ؟ فاشتروا فقطعوا لى قميصا، فما فرحت بشى فرحى بذلك القميص) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إخباره للصحابة بأن ابا سفيان سيأتي ، وبيّن غايته من المجئ إذ قال (كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة.)( ).
وحينما عاد وفد خزاعة لم يعلنوا قدومهم المدينة ولقاءهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأنهم كانوا في سفر ، ولكن ابا سفيان توجه إلى المدينة والتقى بديل بن ورقاء الخزاعي رئيس وفدهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عسفان وقال له : من أين أتيت يا بديل ، فأجابه ، سرت في خزاعة في هذا الساحل ، وبعض هذا الوادي .
فقال ابو سفيان : أوما جئت محمداً ، قال لا .
ولما غادر بديل موضع اللقاء بين مكة والمدينة أتى أبو سفيان (مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا) ( ).
وقدم أبو سفيان المدينة ودخل إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل رئي المشركين داره ، إذ كانت ابنته أم حبيبة زوج الرسول ، فلما أراد الجلوس على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوته عنه ، وهو من الخزي الذي لحق الكفار بمحاربتهم النبوة والتنزيل والمهاجرين والأنصار الذين شرّفهم الله بتسميتهم والثناء عليهم في القرآن .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتجهز للتوجه إلى مكة (وَقَالَ اللّهُمّ خُذْ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا فَتَجَهّزَ النّاسُ) ( ).
لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يعود إلى بلدته الى أم القرى ، وليس دخوله لها عنوة ولا صلحاً .
ولم يرد في القرآن ما يدل على وصف دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة بالفتح المبين والمراد من قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) إرادة صلح الحديبية ، وهو الوارد بالسنة النبوية ، والمشهور ، والمختار .
وفي قوله تعالى [لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) قيل المراد من الفتح القريب هو فتح مكة ، ونسب هذا القول إلى بعض التابعين كالضحاك وزيد( ) وعن ابن عباس فتح خيبر .
وفي قوله تعالى [وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ) ذكر أنه فتح خيبر ، فان قلت جاءت سورة كاملة باسم سورة الفتح وقد يتبادر إلى الذهن أنه فتح مكة ، ولكن الفتح أعم موضوعاً وزماناً ، فكما نزلت آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التوالي والنجوم مدة ثلاث وعشرين سنة ، فان الفتح تم على نحو التوالي والتدريج ، ولكن بمدة أقل ، إذ تم دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة وكُسرت الأصنام في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد بعدي ولم يحلّ لي إلاّ ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا نختلي خلالها( )، ولا نفر صيدها ولا يحلّ لقطتها إلاّ المنشد.
فقال العبّاس : يا رسول الله إلاّ الأذخر فإنّه لقيوتنا وقتورنا وبيوتنا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلاّ الأذخر.) ( ).
لقد كان دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معجزة.
وهل هو شاهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة ، الجواب نعم .
إذ لم يقع قتال معتد به في فتح مكة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين ، ومن شواهد السلم وآياته نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن قتال المشركين ، كما أنه قال (من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)( ) .
وقتل خالد بن الوليد وأصحابه يومئذ ثلاثة وعشرين رجلاً من المشركين جمعهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية لقتال المسلمين .
وهو من أسباب الإختلاف هل فتحت مكة عنوة أم صلحاً ، والمختار أنها لم تفتح لا عنوة ولا صلحاً إنما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلدته وإلى أم القرى ، هو والمهاجرون إلى جانب غلبة الإسلام على أهلها ودخول أكثرهم الإسلام .
والمراد من الفتح عنوة دخول الجيش المدينة أو القرية بالقوة بعد مقارعة المدافعين ، ورفعهم لواء الإستسلام والرضا بالشروط ، وتقع معه إراقة للدماء ومصادرة أموال واسقاط لحقوق عديدة.
فليس من عهد ولا عقد يوم فتح مكة.
أما الفتح صلحاً فيحصل بالتفاوض والتفاهم بين الجيش القادم ، وبين أهل البلد سواء كانوا محاصرين أو من دون حصار ، وفي الغالب تحفظ الحقوق الخاصة والعامة، وتحقن الدماء وتأمن الأموال وتسلم دور العبادة .
إنما كان دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة عودة الإيمان إلى الحرم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
ويدل فتح مكة على سلامة آيات السلم من النسخ فلم يضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتال الشديد لدخولها إنما حدث القتال من جهة واحدة حيث دخل خالد بن الوليد مكة وسرعان ما انهزم المشركون ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون من أهل مكة وهم أولياء البيت الحرام ، وقد أذن الله عز وجل لهم بالرجوع إلى مكة ، قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] ( ).
وفتحت مصر كلها صلحاً إلا الإسكندرية .
(وجاء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلها فقيل له: ألا تنزل منزلك؟ فقال: وهل ترك عقيل لنا منزلا .
ودخل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مكة عنوة فأسلم الناس طائعين وكارهين، وطاف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالبيت على راحلته وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما.
فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)( ).
فيقع الصنم لوجهه، وكان أعظمها هبل، وهو وجاه الكعبة .
ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين، ثم جلس ناحية من المسجد وأرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة أن يأتي بمفتاح الكعبة فجاء به عثمان فقبضه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وفتح الباب ودخل الكعبة)( ).
التفسير بالجمع
من الفيوضات ومصاديق البركة في هذا السِفر تعدد القوانين والمسائل المستنبطة لأول مرة في علوم القرآن بما يفتح آفاق التحقيق والبحث وأرباب الإختصاص ، وما يؤسسه العلماء من بعدي أكثر أضعافاً.
وشمل هذا التفسير تخصيص أبواب في تفسير كل آية من القرآن في هذا السِفر في آية علمية مستحدثة ، ومن هذه الأبواب :
الأول : الإعراب واللغة .
الثاني : في سياق الآيات.
الثالث :إعجاز الآية الذاتي .
الرابع :إعجاز الآية الغيري .
الخامس :الآية سلاح .
السادس :مفهوم الآية .
السابع : إفاضات الآية .
الثامن :الآية لطف.
التاسع : الحاجة إلى آية البحث .
العاشر : الآية رحمة .
الحادي عشر : الآية بشارة .
الثاني عشر : الآية إنذار .
الثالث عشر : الصلة بين أول وآخر الآية .
الرابع عشر : من غايات الآية .
الخامس عشر : التفسير ، وتجزئة وشطر الآية وكل قسم لها تفسير خاص وقد يكون هذا القسم جملة أو شبه جملة أو كلمة واحدة وهو من فضل الله.
السادس عشر : علم المناسبة بلحاظ تكرار الكلمة الواحدة في الآيات المتعددة واستقراء المسائل منها.
السابع عشر : البحث البلاغي في تفسير الآية القرآنية.
الثامن عشر : البحث الفقهي أو الأصولي أو الإعجازي أو التأريخي حسب مضامين الآية.
التاسع عشر : تأسيس واقتباس قوانين متعددة من ذات الآية الكريمة وسنجمعها إن شاء الله في أجزاء مستقلة لينتفع منها العلماء في الأجيال اللاحقة.
وتكون هذه الوجوه بلحاظ هذا القانون وهو التفسير الجامع بالجمع كالآتي :
الأول : الإعجاز الذاتي للجمع بين آية كذا وآية كذا فمثلاً ذكر وجوه الإعجاز في الجمع بين آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، مع أنهما ليستا متجاورتين و[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، لبيان الإعجاز في نظم الآيات وتعلق الآية الأولى بالحياة الدنيا ، والثانية بعالم الآخرة.
وجعلت في آخر التفسير الذاتي في تفسيري اسماً لكل آية من آيات القرآن وكذا يمكن إختيار اسم لكل جمع بين آيتين من القرآن يدل على الآيتين ولو الجمع من أول الآيتين ، وفيه تيسير لطلاب العلم وفهرسة وتبويب.
الثاني : الإعجاز الغيري للجمع بين كل آيتين من القرآن ، كما في الجمع بين الآيتين أعلاه لبيان الربوبية المطلقة لله عز وجل في الحياة الدنيا والآخرة.
لبيان أن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء وأن قيام العبد بالحمد لله والثناء عليه في الدنيا ينفعه في الآخرة.
الثالث : الجمع بين كل آيتين سلاح ، ومثلاً بخصوص الجمع بين الآيتين أعلاه أن المسلم يستحضر الربوبية المطلقة لله عز وجل سواء عندما يحمده ويثني عليه أو بأحواله الأخرى في الليل والنهار ، ليكون قول (الحمد لله) بقصد القربة والتسليم بالعبودية والخضوع لله عز وجل ، وهو نوع عبادة لله عز وجل وواقية من المعاصي ، واستعداد ليوم الجزاء ، وهكذا بالنسبة للأبواب أعلاه الأخرى.
ليحضر قول الحمد لله ومناسبته في ميزان الأعمال في الآخرة ، وهناك مسائل :
الأولى : قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، أكثر ثواباً من القول (الحمد لله)، لإضافة الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل في كل زمان ومكان.
الثانية : الأجر والثواب بقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، في الصلاة أكثر منه خارج الصلاة لما في الصلاة من صبغة العبادة وقصد القربة والخشوع لله عز وجل ، والإنقطاع عن الدنيا.
الثالثة : قول (الحمد لله) بقصد القرآنية أكثر منه من دونه.
ولأن هذا الجزء خاص بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) فان الجمع بين الآيتين سلم وسعي للأمن في الأرض.
وتنمية للسكينة في النفوس ، وتسليم بأن العبودية لله عز وجل سور الموجبة الكلية الذي يشمل الناس جميعاً ، وفيه تنزه عن الظلم والتعدي رجاء السلامة يوم الحساب والجزاء.
ومن خصائص تلاوة المسلمين سورة الفاتحة في صلاة الجماعة والمنفرد ، وحضهم على لزوم التقيد بالسلم العام بين الدول والقبائل وأفراد المجتمع ، مما يدل على أن تلاوتهم سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم والليلة شاهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة خاصة مع عدم وجود دليل يدل على نسخها سواء من القرآن أو السنة النبوية.
وكذا يمكن الإستدلال بالجمع بين كل آيتين من القرآن على القوانين التي اختصت بها أجزاء من هذا السِفر وغيرها من القوانين العامة التي نؤسس مستقبلاً في علوم القرآن .
فيجمع بين كل آيتين من القرآن على نحو مستقل ثم ينظر إلى مناسبة هذا الجمع بلحاظ كل من هذه القوانين وفق أدلة الإستنباط والإستقراء وبعد مراجعة إجمالية لتفسير الآية محل البحث ، والمعنى اللغوي لكلماتها ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، إذ يأتي هذا التبيان بوجوه كثيرة منها :
الأول : الجمع بين كل آيتين .
الثاني : المعاني المستقرأة من الجمع بين كل آيتين .
الثالث : دلالة هذا الجمع واقتباس المسائل وتأسيس القوانين منه ، وتكون في هذا الجمع موضوعية للغة والتفسير بالمأثور والتفسير الموضوعي والمعقول وأدلة الأحكام ، ونفي كثير من الأقوال بالنسخ , واستقراء المسائل في العلوم المختلفة , وكل من :
الأول : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
الثاني : قانون (آيات الدفاع سلام دائم) .
الثالث : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الرابع : قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الخامس : قانون ( آيات السلم محكمة غير منسوخة )
ويكون هذا الإستدلال من جهات :
الأولى : الجمع بين منطوق الآيتين .
الثانية : الجمع بين مفهومي الآيتين .
الثالثة : الجمع بين منطوق احدى الآيتين ومفهوم الآية الخرة .
الرابعة : الحجة والبرهان في كل من الآيتين.
ويكون هذا التفسير الجامع هكذا :
الأول : التفسير بالجمع بين البسملة في سورة الفاتحة وكل آية من آيات القرآن إلى آخر القرآن من سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة إلى سورة الناس ، وقوله تعالى [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] ( ) ، وعدده (6235) تفسيراً.
الثاني : التفسير بالجمع بين آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وكل آية من آيات سور القرآن ، ويكون مجموعها (6234) تفسير جامع.
الثالث : التفسير بالجمع بين آية [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، وكل آية من آيات القرآن .
الرابع : التفسير بالجمع بين آية [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، ويكون المجموع (6231) تفسير .
الخامس : التفسير الجامع بين آية [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، وكل آية من آيات القرآن إلى آية [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ]( )، ويكون المجموع (6232) تفسيراً.
وهكذا ينقص العدد عددا واحداً مع توالي التفسير , والجمع بين كل آيتين .
السادس : ينتهي الجمع برقم (1) وهو الجمع بين آخر آيتين من القرآن لأن كل آية منها قد تقدم جمعها مع آيات القرآن الأخرى ، وهاتان الايتان هما [الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ]( )، الآية الخامسة والسادسة من سورة الناس.
وهذا مشروع علمي مستحدث من جهة الموضوع والعنوان والمصطلح هو (التفسير الجامع بالجمع) واختصاراً (التفسير بالجمع) فهو مستحدث من جهة العنوان والمعنون ، والإفاضات والتجليات غير المتناهية للعلوم التي يتضمنها وتترشح عنه ، وما يستلزمه من جهود للعلماء لمئات السنين سواء الجهود الفردية أو عمل المؤسسات.
ولابد من مقدمة وهي لقد صدر والحمد لله مائتان وثلاثون جزء من التفسير ولا زلت في سورة آل عمران ، وليس المدار على الكثرة والكم ، ولكن هذا التفسير علوم متجددة وتأسيس لعلوم .
وفي هذا التفسير تخصيص أبواب مستحدثة في تفسير كل آية منها.
وحتى الآيات المتشابهة في المنطوق فيمكن استحداث تفسير للجمع بينها بلحاظ نظم الآيات وأسباب النزول.
فمثلاً الجمع بين آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وآية [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، فتكون ذات الأبواب في تفسيري للقرآن في التفسير الجامع بالجمع فتكون :
الأول : الإعجاز الذاتي للجمع بين كل آيتين.
الثاني : الإعجاز الغيري للجمع بين كل آيتين .
الثالث : الجمع بين كل آيتين سلاح .
الرابع : مفهوم الجمع بين كل آيتين .
ويكون مجموع أفراد الجمع نحو عشرين مليون جمع بين آيتين .
فهذا المشروع يهم الناس جميعاً ، وهو مبهر للعلماء والناس وشاهد متجدد على إعجاز القرآن وأنه معجزة عقلية لا تتناهى علومه .
ولكن خوض غماره والغوص بخزائن القرآن واستخراج الدر ، والعلوم من الجمع بين كل آيتين أمر ممكن وفق الميسور ، وهو توليدي في الأجيال.
ويمكن الإستدلال بالجمع بين كل آيتين على القوانين التي صدرت أجزاء متعددة خاصة بها في هذا التفسير ويلاحظ في هذا التفسير اللغة والتفسير بالمأثور ، والإعجاز البلاغي والبياني والسنة النبوية ، والحجة والبرهان المستحدثة في الجمع بين الآيتين أو المؤكد للحجة والبرهان في تفسير الآية القرآنية مستقلة وفق أدلة الإستنباط والإستقراء وإخراج شذرات من كنوز القرآن.
ادعو عشاق القرآن إلى نشر وترجمة هذه البحث إلى اللغات المختلفة أو مضمونها ، مفصلاً أو مختصراً [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الخامس : إفاضات الجمع بين كل آيتين من آيات اللطف الإلهي الذي يتجلى بالجمع بين كل آيتين واختيار اسم الجامع بين الآيتين باختصار العنوان أول الآية مع الإبتعاد عن التفسير بالرأي والتعصب للمذهب ، واتباع الهوى .
وعن زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام قال (ليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، ان الآية ينزل أولها في شئ وأوسطها في شئ، وآخرها في شئ ) ( ).
مما يدل على تفرع العلوم من الجمع المتعدد بين كل آيتين من جهات :
الأولى : الجمع بين أول الآيتين .
الثانية : الجمع بين أول آية ووسط الآية الأخرى .
الثالثة : الجمع بين وسط الآيتين .
الرابعة : الجمع بين أول آية وآخر الأخرى .
الخامسة : الجمع بين وسط آية وآخر الأخرى .
السادسة : الجمع بين آخر الآيتين .
وعدا الجهة الأولى والثالثة أعلاه فإن كل جهة من الجهات الأربعة الأخرى تكون على قسمين .
نعم , هناك الحروف المقطعة , وقصار الآيات ولكنها لا تقف أزاء تعدد الوسط في كثير من آيات القرآن ذات الموضوع المتعدد والجمل الكثيرة والحمد لله .
نصارى نجران في المسجد النبوي
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملازمة بين دخوله المدينة وبناء المساجد فيها ، فحالما وصل إلى أطراف المدينة أنشأ مسجد قباء الذي يبعد عن المسجد النبوي الشريف خمسة كيلو مترات ، ويقع في الجنوب الغربي من المدينة .
ويدل التوثيق السماوي لبناء مسجد قباء على أن إختيار بنائه من الوحي ، قال تعالى [لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ] ( ) وعن الباقر والصادق عليهما السلام (عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لاهل قبا: ماذا تفعلون في طهركم فان الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء ؟
قالوا: نغسل أثر الغايط فقال: أنزل الله فيكم ” إن الله يحب المطهرين “)( ).
وعن (ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء راكباً وماشياً .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة عن سهل بن حنيف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من خرج حتى يأتي هذا المسجد – مسجد قباء – فيصلي فيه كان كعدل عمرة) ( ) وذكرأنه كان يزور مسجد قباء كل سبت ويصلي فيه ، ولا يزال أهل المدينة على هذا المنهاج
(عن الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
سألت عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال: مسجد قبا) ( ).
وعندما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وسط مدينة يثرب قام والصحابة ببناء المسجد النبوي حيث بركت ناقته على نحو متكرر في ذات الموضع ، وقد تقدم التفصيل في الأجزاء السابقة .
وصارت المدينة تعرف به وبقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته إذ تتكرر هذه المعجزة كل عام في موسم الحج بتدفق الملايين بشوق لزيارته ، وفيها دعوة للإيمان ونبذ العنف والتطرف لأنها ذات صبغة عبادية صرفة .
إن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه سبيل هداية للسلم وإشاعة الأمن ، وإجتناب للإقتتال والحروب وسفك الدماء ، وهل زيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه من قبل وفد الحاج والمعتمرين وغيرهم من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة .، الجواب نعم ، ففيه الصلاة والموعظة .
ومسجد قباء من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يمكث في قباء عند قدومه من مكة مهاجراً إلا أربعة أيام فبنى فيها هذا المسجد وانتقل في اليوم الخامس إلى وسط المدينة.
ترى ما هي الصلة بين [لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى] ( ) وبين الهجرة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فمن التقوى التي تذكرها الآية أعلاه أمور :
الأول : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
الثاني : إيواء الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين.
الثالث : إشراقة شمس الإيمان في الأرض بابتداء بناء المساجد لذكر الله ونشر ألوية السلام والعبادة والنسك .
وقيل المراد من مسجد أسس على التقوى هو المسجد النبوي ويسمى المسجد النبوي في روايات بعض الصحابة (مسجد المدينة ) .
(عن جابر قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا دجانة أما علمت أن من أحبنا وابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا ، ثم تلا { في مقعد صدق عند مليك مقتدر }( ))( ).
الرابع : بناء مسجد قباء مقدمة لبناء المسجد النبوي .
الخامس : صيرورة مسجد قباء منارة استقبال المهاجرين إلى المدينة ، فيغادر المسلم مكة مكرهاً مضطراً للحفاظ على سلامة دينه ، وفي قلبه حسرة على مفارقة المسجد الحرام ، وحينما يدخل المدينة يرى المواساة بمسجد قباء ، وهو لا يرقى إلى مرتبة المسجد الحرام الذي هو أشرف وأعظم المساجد في الأرض إلى يوم القيامة ،ولكن المهاجر يرى مسجداً يصلي فيه من غير خوف أو وجل من المشركين ويدخله في أمن وسلام ، قال تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا] ( ).
ولأن المساجد لله عز وجل فقد دخل وفد نصارى نجران إلى المسجد بهيئتهم الجميلة ، وثيابهم المحبرة .
(يقول بعض مَن رآهم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلَّم : ما رأينا وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلَّوا في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلَّم وصلَّوا الى المشرق.) ( ).
وفي رواية (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دَعُوهم فصلّوا إلى المشرق) ( ).
لقد كان المشركون يدخلون المسجد النبوي، ويلتفون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل صلح الحديبية وبعده ، ويأتون كأفراد أو جماعات ، فمن باب الأولوية القطعية دخول أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى المسجد النبوي وسؤال وجدال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الفارق أن نصارى نجران صلوا في المسجد النبوي دفعه ، وهل قصدوا إختبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأن من علامات نبوته الإذن لهم بالصلاة حتى في مسجده ، لأن عيسى جاء بالصلاة ، المختار نعم ، وقد ورد لفظ [بِالصَّلاَةِ] بصيغة الجار والمجرور ثلاث مرات :
الأولى : في خطاب وأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] ( ).
الثانية : إخبار عيسى عليه السلام عما أمره الله تعالى به ، وفي التنزيل [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ).
الثالثة : الإخبار عن النبي إسماعيل بن إبراهيم بقوله تعالى [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا] ( ).
ولم يقع قتال بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنصارى ، ورضوا بعد المباهلة بدفع الجزية ، وبدل سنوي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفيه شاهد على منافع آيات السلم واستدامة حكمها وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يتخذوا السيف وسيلة لإكراه الناس على الإيمان ، إنما اضطروا للدفاع بوجه مشركي قريش ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ).
قانون تعليم اللغة سلام
ما أن أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه سبحانه [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، حتى توالت النعم على آدم بشخصه وبالأرزاق الكريمة في الأرض له ولذريته والتي تتجلى بأبهى حلة في هذا الزمان وإكتشاف المعادن وخزائن الأرض ، قال تعالى [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
وتدل خاتمة الآية أعلاه وذكر السؤال بصيغة الجمع على أن الأقوات والأرزاق والمنافع والكنوز في الأرض أكثر وأعظم من حاجة الناس ومعايشهم وما يصلحهم وإن صاروا في حال ترف.
مما يستلزم الشكر لله عز وجل لذا أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات وجعل كل واحد منهم يلهج بذكر الله والثناء عليه وقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة لتستديم النعم عليهم وعلى أهل الأرض جميعاً ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل قول المسلمين [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) ، الجواب نعم .
الثانية : هل قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] سلم وشاهد على عدم نسخ آيات السلم ، الجواب نعم ، لما في الثناء والحمد لله عز وجل من الإنقطاع اليه تعالى ، ورجاء الثواب ، والتسليم بأن الناس جميعاً عبيد لله.
ومن نعم الله عز وجل بعد إخباره عن جعله آدم (خليفة في الأرض) تعليمه الأسماء ، وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى ، فقال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، أي ليس شطراً من الأسماء ، وهل يمكن تقدير الآية : وعلم آدم الأسماء التي يحتاجها وحدها ، المختار لا.
إنما علمه الله عز وجل ما يحتاج إليه في أمور دينه ودنياه ، وما يحتاج إليه ذريته ، ووضع القواعد اللسانية في التخاطب إلى يوم القيامة ، ولتكون دعوة للأخاء والسلم ، والوفاق ، ونبذاً للعنف والتطرف.
ومن لطف الله في المقام وجوه :
الأول : إصلاح آدم للخلافة في الأرض ، ليكون من معاني (علّمه البيان)( )، جهات :
الأولى : علمه الله سبحانه البيان للخلافة في الأرض .
الثانية : تعليم آدم البيان للحفاظ على السلم ، وجعله تركة لذريته .
الثالثة : علمه البيان بالبشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ضرورة لغة التخاطب بين آدم وحواء ، وبين الناس جميعاً ، لبيان قانون في المقام وهو تفضل الله عز وجل بتلقين وهداية الناس للضروريات.
الثالث : وضع الأسماء أزاء معانيها .
الغرض من الوضع
وهو على وجوه :
الأول : الوضع مقدمة لعبادة الناس لله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثاني : تفضيل الإنسان بالقدرة على وضع الألفاظ أزاء معانيها للتعبير عما في الضمير.
الثالث : وضع الألفاظ لمعاني مخصوصة لطف من عند الله .
وهل علم ولقن الله عز وجل آدم الأسماء بلغة واحدة أو بلغات البشر .
المختار هو الأول ، فقد علّمه الله بلغة واحدة.
وهل الهم إلهاماً أو خلق عنده القوة الناطقة ، المختار هو إن الله عز وجل كلمه من غير واسطة ملك أو إيحاء وهو أعلى مرتبة من الوحي.
وقد ألفت المجلدات للتحقيق في باب الوضع .
والبيان إظهار ما في الضمير من المقاصد والغايات بالنطق , وبه يتميز الإنسان عن الحيوانات.
ويشمل البيان في المقام الإشارة والإيحاء والجدل ، وهو من خصائص الإنسان .
ترى ما هي النسبة بين [عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( )، وبين [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، من جهتين :
الأولى : لفظ الإنسان أعم من آدم.
الثانية : البيان أعم من لغة آدم ومن النطق مطلقاً.
ويشمل الإيحاء والإشارة ونحوها ومنه بخصوص زكريا [فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( )، ومن معاني : علمه البيان أي علم الله آدم الأسماء وبين له ولذريته سبل الهدى والرشاد واتباعه ، وسبل الضلالة والإمتناع عنها.
ومن البيان ذكر الحلال والحرام ليكون حجة على الإنسان , وعن الباقر عليه السلام : فخرج على قومه من المحراب أي من مصلاه (فأوحى إليهم) أي أشار إليهم وأومأ بيده( ).
وهل علم الله عز وجل آدم أن السلم خير محض وأن الحرب وسفك الدماء شر ، الجواب نعم ، وهو من الشواهد على عدم نسخ آيات السلم والصلح.
وهل عدم النسخ هذا من البيان الذي تذكره الآية (وعلمه البيان) بلحاظ أن عدم النسخ أمر وجودي ، ودليل على التقيد العام بأداب السلم ، واتخاذه بلغة وعدم العزوف عنه ، لأنه وسيلة مباركة لمصاديق الخير والإرتقاء في مراتب الفلاح.
والسلم وتعاهده والعمل بمضامين آياته من فعل الخير في قوله تعالى [ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
و(عن أبي أيوب قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل لكم إلى ما يمحو الله تعالى به الذنوب ويعظم به الأجر؟ فقلنا : نعم يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . قال : وهو قول الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( )، فذلكم هو الرباط في المساجد)( ).
في بيان رسالي وتفسير لمعنى الرباط في قوله تعالى [وَرَابِطُوا] وأنه الإجتهاد في العبادة والتحلي بالتقوى وهو من مصاديق بقاء السلم والصلح سالمة من النسخ إلى يوم القيامة.
قانون الضرورة في [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( )
من القواعد الفقهية (الضرورة تقدر بقدرها) لبيان التباين بين الحاجة الى استعمال المحرم أو المكروه دون إباحة استعماله ، فاذا زالت الضرورة بقي المحرم والمكروه على حاله .
وهذه القاعدة قيد لقاعدة ( الضرورات تبيح المحرمات ) فليس من إطلاق في إباحة المحرم عند الحاجة إليه ، ويدل على هذا القيد قوله تعالى [فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ويمكن الجمع بين القاعدتين بقاعدة واحدة وهي ( الضرورات تبيح المحظور بقدرها ).
وهو من السعة والمندوحة والرأفة من عند الله عز وجل بالمؤمنين ، ورفع الحرج عنهم وتحملهم المشقة الزائدة ، وشماتة الكفار بهم ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
كما جاءت السنة النبوية بشواهد قولية وفعلية لهذه القاعدة .
و(عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يسروا ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا) ( ).
لقد ذكرت الآية كره المسلمين للقتال بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( )ولم يرد لفظ [كُرْهٌ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان خصوصية في القتال من جهات :
الأولى : شدة البأس ولمعان السيوف .
الثانية : سقوط القتلى والجرحى .
الثالثة : عدم وصول النوبة إلى القتال في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إنما لقانون كفاية معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية لجذب الناس للإيمان ، ولكن رؤساء المشركين أدركوا هذا القانون بمصاديق يومية بدخول أفراد من الناس في الإسلام كل يوم حتى من داخل بيوت المشركين فعجلوا بتحشيد الجيوش لقتاله مع المكر والخبث .
ومنه إدّعاء بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد التعرض لقافلة أبي سفيان ، وصيرورة هذا الأمر سبباً لمعركة بدر ، وإلا فكان الأولى بجيوش قريش الرجوع إلى مكة حالما جاءهم رسول أبي سفيان يخبرهم بأن القافلة سلمت من التعرض وهي تقترب من مكة.
على فرض أنه قال لهم يومئذ ارجعوا ، وحتى إذا لم يقل لهم هذا ولم يرسل لهم رسولاً فان رجالات قريش يعرفون محطات سير القافلة ومتى تصل إلى مكة ، ثم هناك الركبان في الطريق يخبرون عما يقع وما يرون في الجادة العامة ، حتى المسافر بمفرده راجلاً او راكباً متوجهاً إلى مكة وعائداً منها ، أو متنقلاً بين القرى والمدن الأخرى ، وهو من مصاديق تسمية مكة أم القرى ، قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) .
فيشمل من حولها المستقر والمتحرك ، والمقيم والمسافر ، والقادم إلى مكة والخارج منها ، كل فرد منهم يستمع للقرآن ، ويعلم ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه زجر لهم عن محاربته .
بالإضافة إلى حجة في المقام وهي : إلتقاء جيش قريش مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر شاهد على عدم قيامهم بالإستيلاء على القافلة وأن القافلة تقترب من مكة بأمان.
وهو من الإعجاز في قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، ويكون من معاني الفرقان في المقام إقامة الحجة على الذين كفروا باصرارهم على القتال صبيحة يوم بدر مع تسليمهم بسلامة أموالهم والقافلة ، وأنهم هم الغزاة المعتدون ، ومن معاني الفرقان في المقام التفريق بين الحق السلم الذي يدعو إليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والحرب والعدوان الذي يقوم به المشركون.
وذكرت الآية تعلق الكره بذات القتال مما يدل على أن كتابته وفرضه من عند الله على المسلمين شاهد على إضطرارهم إليه ، وأنه دفاع محض ، وهل هو أيضاً كره للأنبياء السابقين واتباعهم سواء ممن قاتلوا الكفار أو لم يقاتلوهم.
الجواب نعم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه بخصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأنصاره على مسائل :
الأولى : التأسي بالأنبياء السابقين في الدفاع ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الثانية : تقدير آية البحث : كتبتُ عليكم وعلى شطر من الأنبياء والمؤمنين في الأمم السابقة القتال وهو كره لهم ولكم .
الثالثة : وجوب كون قتال المسلمين في سبيل الله ، وليس لمنافع خاصة وكأنه من أحكام الضرورة فلا يتعدى أو يخرج عن قصد قصد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] إلى غيره وهذا القصد من بناء صرح السلم .
الرابعة : لزوم تقوى الصحابة والذين يقاتلون مع النبي لقوله تعالى [قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ..] ( ) وهذا من إعجاز القرآن ليقوم كل مؤمن بمسؤولياته سواء إذا كان في كتيبة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو في سرية ليس فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : يدل قوله تعالى [رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] على البشارة بازدياد عدد الصحابة ، وكثرة الذين يستجيبون للنفير في الدفاع عن بيضة الإسلام ، إذ تطرد الآية أعلاه الإستيحاش عن المهاجرين والأنصار.
السادسة : بيان قانون وهو أن النبي الذي يحاربه المشركون يكون معه صحابة كثيرون .
ومن الأدلة أن القتال أيام النبوة ضرورة ، عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلح الحديبية ثم دخوله مكة من غير قتال معتد به ، ليكون دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نوع طريق وتنجز لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
قانون السلم عز
لقد أخبر القرآن بأن العزة والكبرياء والجبروت والغلبة له وحده سبحانه ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا] ( ) ثم أخبر بأن الله عز وجل يهب العزة في الدنيا لأهل الإيمان والتقوى ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( ) .
فمن عزة الرسول والمؤمنين نصر الله عز وجل لهم بعزته وكفايته ، ونزول ملائكته مدداً وعوناً لنصرتهم ، وتعضيدهم، لقد نزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق فهل ينزلون لإعانة وتعضيد المسلمين في الدخول في السلم كافة ، الجواب نعم ، ليكون من فضل الله على المؤمنيننزول الأمر الإلهي ثم ينزل الملائكة لإعانة المسلمين على الإمتثال له ، قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
مما يدل على عدم نسخ آيات السلم والصلح والموادعة ، فلابد أن يظهر الله عز وجل بعزته رسوله على الذين كفروا .
وهل آيات السلم من العز ، الجواب نعم، فعزة الرسول والمؤمنين ليست بالقهر والغلبة، إنما بسيادة مبادئ الإسلام ، وهداية الناس إلى الصراط المستقيم، ومنها سلامة الأنبياء وأصحابهم حتى وهم في حال أذى من الإستكانة أو الخضوع أو التذلل للمشركين ورؤسائهم لبيان موضوعية الحرب النفسية في قهر الأعداء باظهار التحمل والصبر والرضا بالأذى في جنب الله ، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
ليكون من إعجاز القرآن نسبة العموم والخصوص المطلق بين الصبر وبين أفراد منعة المؤمنين الثلاثة الواردة في الآية أعلاه وهي :
الأول : فما وهنوا .
الثاني : ما ضعفوا .
الثالث : ما استكانوا .
فالصبر شامل لهذه الأفراد وغيرها ومنه الصبر في طاعة الله ، والصبر عن إرتكاب المعاصي والسيئات .
وهل عدم الوهن والضعف والإستكانة ضرورة في الغلبة على المشركين المعتدين .
الجواب نعم سواء عدم الوهن في سوح المعارك أو في العبادات واتيان ما أمر الله عز وجل به ، ومن مصاديق تأخر عدم الإستكانة عما أصابهم في سبيل الله تقدم التفقه في الدين وأداء الفرائض العبادية ، وهو من أبهى مصاديق العز والصبر .
وتدل كراهة المسلمين للقتال على استحباب ضده وهو السلم (والضد يظهر حسنه الضد ) وتقدير الآية : كتب عليكم القتال وإن كان السلم محبب عندكم ) لإصرار المشركين على محاربة النبوة والتنزيل .
وتدل الآية على حب المسلمين للسلم في كل الأحوال ، حتى عندما يهجم المشركون ويسعون في القتال ، ومن مصاديق هذا الحب عدم إبتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال حتى مع وجود الثغرة وفرصة مباغتة العدو .
فان قلت قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله (الحرب خدعة ) ( ).
والجواب هذا صحيح ، ولكن القدر المتيقن من الحديث هو الخدعة اثناء القتال بما يصرف شرور الأعداء ، ويمنع من الوهن أو الإستكانة عند المؤمنين بدليل مناسبة ورود هذا الحديث .
فلما أحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في معركة الخندق ومنهم قريش وغطفان والأحابيش ، وبنو مرة ، وبنو أشجع جاء رجل من وجهاء قبيلة غطفان إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسمه نعيم بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال (يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت،
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : إنّما أنت فينا رجل واحد، فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة.) ( ).
وهل يعني قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ..] ( ) الملازمة بين الإسلام والقتال ، وأن الذين يدخلون الإسلام لابد أن يقاتلوا ممن تجتمع عندهم شرائط وأهلية القتال ، الجواب لا ، إنما تقدير الآية : فرض عليكم الدفاع لإصرار المشركين على العدوان والغزو .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كل معركة من معارك الإسلام شاهد على هذا القانون بأن المشركين هم المعتدون فيها ، وقد تقدم بيانه .
وقد تقدم في الجزء السابع بعد المائتين بيان عدم نسخ قوله تعالى لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وفيه (ويدل زمان العولمة والتداخل بين الأمم ، وأهل الملل فيه ، والأنظمة والمنظمات والقوانين الدولية على تحقق مصداق { لا إكراه في الدين ) }( ) وأن الآية غير منسوخة، وهو من إعجاز القرآن وملائمته لكل الأزمنة .) ( ).
ولا يعني هذا جعل الوقائع اللاحقة في الأزمنة المتعاقبة أدلة مخالفة للنص ، إنما هي تأكيد للنص والأصل ، وشاهد متجدد على الإعجاز في القرآن والسنة ، إذ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نسخ هذه الآيات .
والنسبة بين الكره في آية البحث والإكراه في الآية أعلاه هو العموم والخصوص المطلق ، فقد يترتب الكره على الإكراه أو من دونه ، إذ أن الإكراه نوع مفاعلة ووجود مكرِه بكسر الراء ، ومكرَه بفتح الراء ، أما الكره فهو حالة نفسانية تترتب عن أمر عام أو خاص .
وهل يقود كره القتال إلى السلم والسعي في مسالكه ، الجواب نعم ، وهو من مفهوم قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، فما دام القتال أمراً مكروهاً عند المسلمين ، ولا يميلون إليه فهم لا يقصدون إشعال المعارك والفتن ، ولا استمرار القتال ، وطول الحصار ، ومن المصاديق التحذير والإنذار في قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ) ، ومنه الأمر من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بالدخول في السلم والسعي في الصلح والوئام .
وتمنع هذه الآية من مقدمات القتال ، وتبين قبح مقدماته التي تتصف بالخبث والعصبية وحمية الجاهلية التي تتصف بها ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )أن الدخول في السلم وتعاهده عز ورفعة وخير محض .
قانون تعاهد الصيام سلم متجدد
تختص الشريعة الإسلامية بوجوب صيام شهر رمضان على المكلفين من الرجال والنساء بالإمساك عن الأكل والشرب والجماع طيلة نهار أيام رمضان البالغة تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً ، في المدة المحصورة بين هلال شهر رمضان وهلال شهر شوال من كل سنة ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
ومن الإعجاز الغيري للقرآن نزول آية بفرض الصيام ليتطلع الملايين من المسلمين في كل سنة بشوق ورغبة لحلول شهر رمضان وأداء الصيام فيه
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].
ترى لماذا اختتمت الآية بالحرف الناسخ المشبه بالفعل الذي يفيد الترجي للأمر الحسن والمحبوب أو الإشفاق من مكروه ، فـ ( لعل) كلمة طمع وإشفاق.
ولم تختتم الآية من غير ذكر لعل بلحاظ أن الصيام هو تقوى ، والجواب من جهات :
الأولى : يبين أول الآية الفرض والوجوب من عند الله ، وهو غير أداء الصيام .
وتقدير الآية : لعلكم تتقون بأداء الصيام إذ أن أداءه تقوى .
الثانية : لفظ (كتب عليكم) بيان بأن الذي فرض الصيام وهو الله عز وجل وقد ورد لفظ (كُتب ) في القرآن في آيات وهي :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وورد لفظ (كُتب) في الآية مرتين.
الرابعة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( )، وورد لفظ (كتُب) مرتين.
السادسة : قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
السابعة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً]( ).
الثامنة : قوله تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ]( ).
وهل معنى الفرض في قوله تعالى (كُتب) في آيات القرآن من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً .
الجواب هو الثاني ، وقد يكون في مرتبة الإستحباب كما في كتابة الوصية ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( )، إلا إذا تعلق بذمة الإنسان حق الله من الفرائض العبادية كالصلاة والصوم والحج أو الزكاة أو الخمس أو الكفارة أو حق أو دين أو وديعة للناس .
فتكون الوصية وسيلة وعهداً ونوع طريق للخروج من الواجب .
وقد ذكرت في رسالتي العملية (الحجة) أحكام الوصية ، وجواز أن يوصي الإنسان بالثلث من ماله سواء قد حضره الموت أو أنه في اتم العافية لإحتمال طرو وزيارة ملك الموت له في أي ساعة لقبض روحه.
فمع أن الآية أعلاه قيدت كتابة الوصية عند حضور علامات الموت ، فقد جاءت السنة النبوية بالحكومة في توسعة أوان وحال كتابة الوصية ، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه ، أن يبيت ليلتين ، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه )( ).
وانشغال المسلمين بأداء الفرائض مظهر للسلم والأمن , لأنه إنقطاع إلى الله عز وجل , ومن خصائص فريضة الصيام الجوع والعطش للصائم لتنمية ملكة الصبر عنده , وإنشغاله بنفسه وحسن صلته وتقربه إلى الله عز وجل , لذا لا بد من تعهد قصد القربة في الصيام , وكذا بالنسبة للإستعداد للآخرة .
وهل يصح تقدير الآية (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم بالصيام) الجواب نعم , وشهر رمضان ليس من الأشهر الحرم لبيان أن موانع القتال أعم من الأشهر الحرم , وأنها تشمل شهر الصيام وأوقات أداء العبادات , لذا يستحب أداء الصلاة اليومية جماعة .
ومن آيات (كتب عليكم) قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( )، والمراد الإضطرار للقتال بسبب تعدي المشركين وقيامهم بالغزو وقد تقدم بيانه في الأجزاء السابقة .
الإضمار في [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )
وفي خاتمة آية الصيام [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] إضمار وتقديره على وجوه منها :
الأول : لعلكم تتقون بأداء الصيام .
الثاني : لعلكم تتقون الله أيام شهر رمضان بالإجتهاد في النوافل وإمساك اللسان والجوارح .
الثالث : لعلكم تتقون فيما بعد أيام شهر رمضان .
الرابع :لعلكم تتقون القتال .
الخامس : لعلكم تتقون بتعاهد السلم والسعي إلى الصلح .
السادس : لعلكم تتقون بتلقي فرض الصيام بالإمتثال .
السابع : لعلكم تتقون بالحفاظ على حال السلم الأهلي والتعايش المجتمعي .
الثامن : لعلكم تتقون بأداء الفرائض العبادية الأخرى كالصلاة والزكاة.
التاسع : لعلكم تتقون باستدامة الأخوة الإيمانية لأن فريضة الصيام في شهر معين عنوان للوحدة ، ومانع من الإقتتال .
العاشر : لعلكم تتقون بدعوة الناس إلى الإيمان بالحكمة والموعظة ، ومنهاج اللطف .
الحادي عشر : لعلكم تتقون بالشكر لله عز وجل على نعمة الهداية إلى الصوم ، قال تعالى [وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الثاني عشر : لعلكم تتقون بالتراحم بينكم ، فمن خصائص الصيام شعور الصائم بحاجة الفقراء والمساكين ليس في المأكل وحده إنما في الملبس والمسكن ، لذا ترى شهر رمضان مناسبة لإخراج الزكاة والخمس ، وكثرة الصدقة فيه .
وهل هو من الشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ.
لقد ورد لفظ [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ست مرات في خواتيم آيات من القرآن منها خطاب عام إلى الناس جميعاً ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) وثلاث آيات خطاب للمسلمين( ) ، واثنتين خطاب لبني إسرائيل( ) ، لبيان ملازمة التقوى للوجود الإنساني في الأرض .
وان قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) يتضمن وجوب تحلي الناس بالتقوى والخشية من الله تعالى .
وهل من صلة بين آيات [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] الجواب نعم، فكل آية منها تبعث على العمل بمضامين الآية الأخرى لذا تجدها تشمل مع قلتها كلاً من :
الأول : العقائد .
الثاني : العبادات .
الثالث : المعاملات .
الرابع : الأحكام .
وتشييع الآية القرآنية السلم والإستقرار والعدل والتعايش في الأرض ، والتنعم العام بالطيبات والرزق الكريم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ومن الإعجاز في نظم أشهر السنة مجئ شهر رمضان وصيامه بين الأشهر الحرم ، إذ يسبقه شهر رجب وهو من الأشهر الحرم شهر وبينهما شهر واحد وهو شهر شعبان .
ثم بينه وبين شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم شهر واحد وهو شهر شوال.
قانون استئصال آيات السلم للحروب الدولية
لقد كان الإقتتال بين الفرس والروم متكرراً وبضراوة ، وهناك نزاعات داخلية على الملك والسلطان عند كل منهما.
وتمر الأيام ويتولى الصحابي الجليل سلمان الفارسي الإمارة في المدائن بعد أن كان رقاً قبل حضوره عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإسلامه على يديه ، وإجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عتقه وولاية سلمان المدائن من الشواهد على النفع المجتمعي والاقتصادي لقوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) ومن مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
و(دخل قوم على سلمان وهو أمير على المدائن وهو يعمل هذا الخوص فقيل له: لم تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي.
وذكر أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار عند بعض مواليه) ( ).
وممن يروي عنه حفيده عبد الرحمن عن ابنه عبد الله بن سلمان , وتوفى سلمان سنة خمس وثلاثين للهجرة( ) وقبره ظاهر في المدائن ، وهو من المعمرين وقيل (بلغ من العمر ثلاثمائة سنة) ( )وهو بعيد ومبالغ فيه .
وكان انتصار الفرس أيام الملك أبرويز بن هرمز وهو صاحب رأي نافذ وبأس ونجدة ، ومعنى أبرويز أي المظفر ، والذي سبق له أن هرب إلى أذربيجان عندما خشي على نفسه من أبيه هرمز الرابع (579-590)م مدة حكمه كملك للدولة الساسانية الذي أوشى له القائد بهرام جوبين .
بأن ابنك يريد الملك لنفسه ، أي يريد أن يقتلك ويأخذ الملك ، ولكن بهرام كان يريد الملك لنفسه بمكر ودهاء ، والذي كان قد نجح بحربه ضد خاقانات أتراك .
لقد أظهر هرمز التسامح الديني وامتنع عن إضطهاد السكان المسيحيين مما آثار عليه سخط الكهنة الزرادشتيين فقسى عليهم ، وذكر أن إحدى زوجتيه مسيحية.
وخاض معارك عدة مع الأتراك ، ثم مع الروم ، وامتنع بغرور عن الصلح معهم وتعرض لسمل عينيه بإبرة ساخنة فاصيب بالعمى ، وأُتهم صهراه خالا أبرويز الذي اجتمع له عظماء ورؤساء أذربيجان عندما قدم إليها ، وبايعوه ، فتوجه برجاله مسرعاً إلى المدائن .
والتي كانت تسمى (طيسفون) وهي مدينة عراقية بناها الإغريق قبل الميلاد.
ثم صارت عاصمة الدولة الساسانية ، ولا تزال آثارها إلى الآن ، كما أنها مدينة عامرة في هذا الزمان تابعة إدارياً إلى مدينة بغداد.
ودخل أبرويز المدائن قبل أن يدخلها بهرام ، فلبس التاج وجلس على سرير الملك وسلموا عليه بتحية الملوك ثم دخل على أبيه هرمز الذي فقد بصره فاعتذر من أبيه وأخبره بأنه لم يأمر بسمل عينيه.
إنما هرب خشية منه على نفسه ، وصدقه أبوه وقبل يده ، وطلب منه أمرين :
الأول : إرسال شخص له كل يوم كي يؤنسه ، أي من الأدباء والظرفاء وأهل المعرفة بالتأريخ والشعر ونحوه.
الثاني : الإنتقام ممن خلعه من الملك ، وسمل عينيه .
فاعتذر أبرويز بأن بهرام يزحف بجيوشه على المدائن ، وأنه لا يقدر على الإنتقام لأبيه إلا بعد الظفر ببهرام ، ثم ما لبث أن التقى الجيشان جيش أبرويز وجيش بهرام .
ورآى ابرويز أن موازين القوى تميل إلى خصمه وأن أصحابه غير متحمسين للقتال ، فلجأ إلى أبيه يستشيره فأشار عليه بأن يذهب إلى موريق ملك الروم ويطلب النجدة منه وكانت هذه المشورة سبباً لقتل كسرى هرمز صاحب المشورة نفسه على أشهر الأقوال.
إذ أشار خالا ابرويز بندويه وبسطام ومعهم كردي أخو بهرام على أبرويز باحتمال قيام بهرام برد هرمز إلى الملك وبجعله يكتب كتاباً مختوماً إلى ملك الروم بردهم إليه وأنهم مارقون.
فاستأذنوا أبرويز بقتل أبيه هرمز فسكت ، فمال بندويه وبسطام وبعض رجالهما إلى القصر ، وقتلوا هرمز خنقاً ثم التحقوا بأبرويه وساروا لجدين ، وأدركتهم طلائع بهرام ، ولكنهم نجوا بمشقة وبعد أن لبس بندويه لباس الملك وصعد على سطح الدير .
وطلب من هذه الطلائع إمهاله إلى يوم غد ليأتيه سلّم ينزل به من السطح ، وفي اليوم الثاني انكشفت حيلته وقادوه إلى بهرام وأمر بحبسه ، وقد هرب من السجن فيما بعد عندما أراد بهرام قتله.
بينما عجل أبرويز السير إلى قيصر ويسمى ابرويز في التأريخ البيزنطي أيضاً كسرى الثاني مع إقرارهم بأنه ابن هرمز الرابع ، ودخل بهرام المدائن ولبس التاج وجلس على كرسي الملك وكرهه الناس ، ولكنهم أطاعوه خوفاً من بطشه .
ووصل أبرويز إلى إنطاكية ، وأرسل أصحابه إلى الملك فوعده النصرة ، وزوجه ابنته واسمها مريم، وبعث معه سبعين ألف رجل ووافاه خاله بندويه والأساورة والرؤساء بأربعين ألف فارس من أصبهان وفارس وخراسان ليلتقوا في المدائن لقتال بهرام.
هذا وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وليس معه إلا أفراد قليلون من أهل البيت والصحابة.
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيجتمع عشرات الآلاف للقتال على الدنيا ، والرسول بمفرده يدعو الناس إلى الإيمان ، ولنبذ هذا الإجتماع والإقتتال وأضراره وهو من الشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ .
ولو توجه معشار هذه الجيوش إلى مكة أو المدينة أيام البعثة النبوية لأستولوا عليها ولكن الله عز وجل حماها وعصمها وهو من مقدمات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وغناه عن الغزو والقتال .
وخرج بهرام بجيوشه وقاتلهم وجرت معارك طاحنة وكانت جيوش الروم مسلحة سلاحاً جيداً ومعهم فارس يُعد بألف فارس والذي قُتل في المعركة.
لقد كان بهرام يقوم بتظليل الناس بأنه بحلول الألفية الزرادشتية تحدث فتن وحروب مدمرة مع الهون والرومان ، وأنه هو المنقذ والمخلص المذكور في ديانتهم .
ثم انهزم بهرام جوبين ، ولجأ إلى الترك فأكرموه .
ولكن أبرويز بعث بالهدايا الجزيلة إلى زوجة ملك الترك والجواهر والذهب ، وطلب منها قتل بهرام فقتلته ، وحينما علم ملك الترك اشتد عليه قتله وقام بتطليق زوجته .
وهل خشي منها على نفسه ، أم لأنها قتلت المستجير عنده والذي قد يحتاجه في قتاله مع ملك الفرس ، المختار هما معاً.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في جذب الشخص الواحد إلى الإسلام مع أنه رسول من عند الله يوحى اليه ، وتنزل عليه آيات القرآن ، لتمر السنين سريعاً ويدخل أهل فارس وبلاد الشام الإسلام وهذا الدخول هو الوحيد للقضاء على الإقتتال بينهم ، وصيرورتهم إخوة متحابين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وهو شاهد على أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة سلام وأمن ، وتوجه لهم الخطاب الإلهي [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
وبعد أن ملك أبرويز أربع عشرة سنة ثار الروم على موريق الذي نصره وزوجه ابنته وملكوا عليهم بطريقاً اسمه فوقاس فقتل ذرية موريق إلا ابناً له هرب إلى كسرى ابرويز فأرسل ثلاثة جيوش إلى كل من :
الأول : جيش إلى الشام بقيادة بوران ففتحها وانتهى إلى بيت المقدس وأخذ خشبة الصليب التي صلّب عليها المسيح عليه السلام وأرسلها إلى كسرى أبرويز ، وزوجته نصرانية فهي بنت الملك موريق ، ثم صار أخوها ملكاً أيضاً ، فلم يصبح أبرويز ملكاً إلا بمعونة ومدد أبيها ، ولم يصبح أخوها ملكاً إلا بمدد من أبرويز مع سيل أنهار من الدماء وكثرة الجرحى ، وتعطيل الأعمال .
بينما تم انتشار الإسلام بالتنزيل والحجة والبرهان .
ولم يكن مجموع القتلى في معارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه طيلة فترة النبوة إلا نحو 515 من المسلمين واليهود والكفار ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشاهد على صبغة السلم لرسالته وهذه الصبغة سور الموجبة الكلية الذي يدل على عدم نسخ آيات السلم .
ولتنتهي برسالته تلك الحروب التي لا تذر وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم أنه لو ألفت مئات المجلدات في تفسير هذه الآية لم تستوف حقها.
وفيه بيان لقانون وهو أن النبوة عون للناس للعمل بمضامين قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثاني : جيش توجه إلى مصر بقيادة شاهين (وافتتحها وأرسل مفاتيح الإسكندرية إلى أبرويز) ( ).
الثالث : جيش إلى بلاد الروم بقيادة شهريراز الذي دخل بلاد الروم ووصل إلى أطراف القسطنطينية ونزل على خليجها .
وقال المفسرون (كانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك والأبطال فدعاها كسرى فقال : إنّي أُريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيكِ فأشيري عليَّ أيّهم أستعمل.
فقالت : هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر، وهذا فرخان أنفذ من سنان، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا، فاستعمل أيّهم شئت. قال : فإنّي استعملتُ الحليم، فاستعمل شهريراز.
فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فَغَلَبت فارسُ الرومَ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم،
وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أنْ يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم)( ).
فثار الروم على ملكهم وقتلوه وملكوا عليهم هرقل وفي أيامه دخل المسلمون الشام لتنتهي الحروب الطاحنة بين فارس والروم بعد تجدد القتال الشرس بين جيوش كسرى وجيوش هرقل .
وبدل الغزو المتبادل بينهم بعشرات الآلاف من الجنود صارت آية [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ) تغزو قلوبهم ومجتمعاتهم جميعاً كل يوم ، وتكون حاضرة تعمل على تعاهد السلم المجتمعي ومنع الفتن ، ولما كانت الآية أعلاه تدل في مفهومها على حرمة الإقتتال وسفك الدماء فانها تنهى عن الفتن من باب الأولوية لقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ).
وقوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ]( )، أي في واقعة في أذراعات وتسمى في هذا الزمان درعا وهي جنوب سوريا.
وأرسل كسرى أحد قواده واسمه راهزار ومعه اثنا عشر ألف فارس وأمره أن يقيم بنينوى من أرض الموصل.
ولكن هرقل زحف بسبعين ألف فارس مدججين بالسلاح وعبروا دجلة من موضع بعيد عن الموصل اجتناباً للقاء راهزار ولأنه يريد التوجه إلى المدائن ولا يريد اجهاد جيشه في معارك متعددة فكأنه عطّل جيش راهزار مما اضطر كسرى إلى الطلب من راهزار التوجه للقاء هرقل ، ولم يشفع له عند كسرى اعتذاره بأنه يعجز عن قتال هذا الجيش الذي هو أضعاف عدد جيشه عدداً وعدة فاقتتلوا وانهزم نصف جيش راهزار.
وبعث أبرويز إلى قوادهم الذين انهزموا يتوعدهم العقوبة الشديدة مما جعلهم يصيرون ضده واستمر هرقل بالمسير فانسحب أبرويز إلى المدائن وتحصن فيها ، وقارب هرقل المدائن ، وهو مصداق قوله تعالى [وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
ثم عاد إلى بلاده وقيل أن كسرى استعمل حيلة إذ بعث كتاباً إلى شهريراز يبين له أن زحف هرقل عن استدراج له ويأمره بالمجئ له من الخلف ، وكسرى يقاتله من الأمام وأرسل الكتاب بيد راهب جعله في عكازته .
فلما رأى هذا الراهب جيش هرقل قال : لا أخون أهل ملتي فسلمه الكتاب ، وأن شهريراز كتب كتاباً مماثلاً فيه مكر وحيلة ، فخاف هرقل جنوده ورجع قبل أن تطأ قدماه أرض المدائن .
وهذا بعيد فهذه الجيوش العظيمة لا تنطلي عليها مثل هذه الحيلة الساذجة.
قانون الحوار في القرآن دعوة للسلم
الحوار _بفتح وكسر الحاء- مراجعة بالمنطق وتبادل الرأي
(وتَحاوَرُوا: تَراجَعُوا الكلامَ بينهمْ)( ).
وقد ورد في القرآن الجدال ، والإحتجاج ، وسؤال البرهان ، وكلها من صيغ الحوار والمناظرة .
ومن معاني الحوار الرجوع الى الشئ أو الرجوع عنه بلحاظ أن المتحاورين يرجع بعضهم إلى بعض ، وينقلون من حال إلى آخر لبلوغ الصواب والنفع والحقيقة ، قال تعالى [إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ]( )، أي لن يرجع في النشر والبعث يوم القيامة.
ولا تجد في عدد من معاجم اللغة كلمة الحوار وفق المصطلح في هذا الزمان.
مع ورود مضمونه في ثلاث آيات من القرآن وهو :
الأولى : [وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا]( ).
الثانية : [قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً]( ).
الثالثة : [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( ) ليحمل اسم السورة (المجادلة ) معنى الحوار والتذكير وأنه برزخ دون ضياع الحق ، وفيه شاهد بأن سلامة آيات السلم من النسخ لا تضيع معها الحقوق العامة والخاصة ، والتحاور : التجاوب .
والنسبة بين الحوار والجدال هو العموم والخصوص المطلق ، فالحوار أعم ولا يتضمن الحدة وأسباب الخصومة والندية بين الطرفين ، وقد يجتمع الحوار والجدال في موضع واحد ، بان يتحاور أفراد كل طرف من طرفي الجدال فيما بينهم.
وتبين الآيات الثلاثة أعلاه سعة موضوع الحوار وأنه قد يقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الرجال والنساء ، أو بين المسلمين وأهل الكتاب أو بين المسلمين والكفار ، أو الحوار بين أهل الملة الواحدة .
ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلسفة الحوار في الحياة ، وموضوعات الحوار بهداية وإرشاد من عند الله عز وجل بما يثبت سنن الهدى في الأرض ، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنها الموعظة ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
وأيهما أكثر في القرآن آيات الحوار أم آيات الدفاع والقتال ، الجواب هو الأول ، والفارق بينهما كبير وواسع كالفارق بين حال وأيام السلم وأيام الحرب والقتال في عهد النبوة ، فأيام السلم أضعاف أيام القتال ، وهل يصح تقدير الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) فاستجبتم ودخلتم ، المختار نعم .
وهو من مصاديق إكرام المسلمين في أول الآية بنداء الإيمان ، ولكن هذا الدخول في السلم أمر متجدد في كل زمان وبالنسبة لكل جيل فتلزم الإستجابة له ، وفيه العز في الدنيا والآخرة .
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرعة انقضاء المعركة فمثلاً ابتدأت وانتهت معركة بدر بشطر من اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ليتغير معها وجه التأريخ إلى يوم القيامة ، وأشار إليها القرآن بآيات منها آية ورد فيها اسم بدر على نحو التعيين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وفيه دعة للسلم ونبذ الحرب .
وبيان قانون وهو استعداد وتجهز المشركين للقتال لن يجلب لهم إلا الخزي الفوري والخيبة والقهر العاجل ، فمثلاً جهزت قريش ثلاثة آلاف رجل لمعركة أحد ولا يعلم ما أنفقوا من الأموال الطائلة وبذلوا من الجهد وعطلوا من تجاراتهم والمكاسب العامة في الإعداد لها إلا الله عز وجل خاصة وأنها ثأر لمعركة بدر .
ومع هذا لم تستمر المعركة سوى بضع ساعات من اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وحتى في ذات يوم المعركة لم ينقطع النبي وأصحابه عن صلاة الجماعة والتفقه في الدين ، ولم يفتقد الوحي في ساحة المعركة .
فالآيات تترى في نزولها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو حتى آيات الدفاع والقتال تدعو إلى السلم .
وكانت لغة الحوار حاضرة فيما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبين المشركين ، ولكنها أخذت مع المشركين صبغة الإحتجاج والتحدي والبشارة والإنذار .
وهل نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) من الحوار ، وهل له موضوعية في دبيب الخوف والقنوط إلى قلوب المشركين ، الجواب نعم ، وهو من أفراد وأسباب الرعب في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وهل تفضل الله سبحانه بالقاء الرعب في قلوب المشركين تثبيت لمضامين وأحكام آيات السلم ، وحصانتها من النسخ ، الجواب نعم ، لما في هذا الرعب من إبتلاء المشركين بالضعف والوهن والعجز عن مواصلة الهجوم والغزو .
قانون الإستجابة العامة لرسالة النبي محمد (ص) لاتصافها بالسلام
من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثرة الذين دخلوا الإسلام في حياته من عامة الناس على اختلاف مشاربهم وانتسابهم ، كانوا يتقاتلون بالأمس ، ويقفون اليوم في صفوف متراصة خمس مرات في الصلاة اليومية ، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ]( )، وهو من الشواهد على المصاديق العملية لآيات السلم.
لقد واظب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على تبليغ الرسالة وتلاوة آيات القرآن في مكة لمدة ثلاث عشرة سنة ، ولم تختص بأهل مكة ، إنما تشمل وفد الحاج والمعتمرين وهناك مسألتان:
الأولى : أيهما أكثر : الذين بلغتهم الدعوة قبل الهجرة من أهل مكة ، أم الوافدين إليها .
الثانية : أيهما أكثر : دخولاً الإسلام قبل الهجرة من أهل مكة ، أم الوافدين إليها .
أما المسألة الأولى فالمختار أن الذين قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغهم ولو بالواسطة من أهل المدن والقرى أكثر , ومنهم أهل المدينة (يثرب ) والطائف إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطوف في أسواق مكة في موسم الحج يدعو الناس إلى التوحيد ، بنداء (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) وهو نداء سلم وأمن وسلام ، ومن مقومات حج البيت الحرام الإقرار بالتوحيد .
ويدل هذا الإقرار وتوالي دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلمية للإسلام على أن آيات السلم محكمة وهي من القواعد والسنن التي تحكم أعمال الناس في الدنيا.
ويأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبائل في منازلها في منى يتلو عليهم آيات القرآن ، ويبين لهم الشواهد على صدق نبوته.
وأما المسألة الثانية فالمختار أن الذين دخلوا الإسلام من أهل مكة أكثر من الذين دخلوا الإسلام من غيرها قبل الهجرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
فان قلت قد دخل كثير من أهل المدينة الإسلام عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم مصعب بن عمير سفيراً ، والجواب هذا صحيح.
ولكن كثرة المسلمين من أهل مكة من وجوه :
الأول : الذين هاجروا إلى الحبشة وعددهم ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة .
الثاني : الصحابة الذين هاجروا إلى المدينة قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : المسلمون والمسلمات الذين بقوا في مكة ولم يغادروها وأكثرهم من المستضعفين .
الرابع : الصحابة الذين التحقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة .
وهذه الكثرة من مصاديق تسمية مكة أم القرى كما في قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
وتدل المقارنة والتحقيق في الذين هم أكثر في الإستجابة للدعوة النبوية على إنتشار الإسلام في ربوع الجزيرة ، وبلوغ آيات القرآن للناس ، وكل آية سفير سلم للنبوة ، وليكون من معاني تقدير قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) ادخلوا في السلم الذي تدعو إليه آيات القرآن سواء آيات الأحكام أو آيات المعاملات وغيرها .
وكانت سنة ومنهاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو السلم والصبر على الأذى .
عن الحسن البصري (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رغب عن سنتي فليس مني ، ثم تلا هذه الآية { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . . . }( ) إلى آخر الآية) ( ).
لقد كانت كل آية من آيات السلم دعوة سماوية للإستجابة ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحتجاجاً على الكفار الذين يشعلون الفتن ويجهزون الجيوش لمحاربته .
وكذا آيات البشارة والإنذار ،والوعد والوعيد التي هي ضابطة للفكر الإنساني ، ومانع من الطغيان ، وطارد للغفلة ، لذا كانت السور المكية تثويراً للفكر وإصلاحاً للمجتمع .
وقد يقال أن القدر المتيقن من الإحتجاج هو الجدال بين طرفين ، وقد يصدر من جهة واحدة ، ومن إعجاز القرآن آيات الإحتجاج التي فيه ، وتضمنها جدال واحتجاج الكفار أيضاً .
فحينما أنكر الكفار المعاد والنشور ووقوف الناس بين يدي الله للحساب وقالوا [لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ) أي أن هذا الوعيد قديم ومتكرر ، ولم تقع القيامة بعد ، أجاب الله عز وجل [قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ]( ).
فمن إعجاز القرآن في باب الإحتجاج أن الله عز وجل يأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرد على الكفار ويخبره في الحال بالذي سيقولون ، وكيف أن هذا القول حجة عليهم .
ولم يكن دخول الإسلام أفواجاً بساحة معركة أو بوضع السيف على أهل المدن إنما كانا بالإختيار بعد تجلي المعجزات ، وهل سورة النصر [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( )، من الشواهد القرآنية والوقائع التأريخية على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة ، الجواب نعم.
لبيان أن آيات القرآن والأحداث المتتالية تأكيد للأصل وهو عدم نسخ آيات السلم خاصة أنه لم يرد حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنسخها مما يدل على التسالم بين الصحابة وأهل البيت على أنها محكمة.
قانون احتجاجات القرآن تفريق وخذلان لجيوش المشركين
موضوع هذا العنوان معجزة غيرية للقرآن ، وشاهد على موضوعية أسلحة السلم في القتال ، ومنها سلاح الإحتجاج الذي يدل على إحكام آيات السلم وإتخاذها داعية إلى الله ، تنفذ إلى القلوب ، وتحض القلوب على التدبر ، وتبعث على النفرة من رؤساء الكفر وأوامرهم في محاربة النبوة والتنزيل ، وهذه النفرة من مقدمات وأسباب صلح الحديبية ببعثها الوهن والضعف في صفوف المشركين.
لقد خرج ألف من المشركين متوجهين إلى معركة بدر حينما جاءهم رسول أبي سفيان فهل من أثر للإجتجاج القرآني والنبوي عليهم في المقام ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : إمتناع طائفة من قريش ومن عامة أهل مكة من الخروج كما في أمية بن خلف الذي أبى أن يخرج مع النفير إلى معركة بدر (فأتاه عقبة بن أبي معيط. وأبو جهل، ومع عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود.
فأدخلها عقبة تحته وقال: تبخر، فإنما أنت امرأة.
وقال أبو جهل : اكتحل ، فإنما أنت امرأة ، قال أمية : ابتاعوا لي أفضل بعيرٍ في الوادي. فابتاعوا له جملاً بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن يساف.
قالوا: وما كان أحد ممن خرج إلى العير أكره للخروج من الحارث ابن عامر.
وقال: ليت قريشاً تعزم على القعود، وأن مالي في العير تلف، ومال بني عبد مناف أيضاً.
فيقال : إنك سيد من ساداتها، أفلا تزعها( ) عن الخروج.
قال : إني أرى قريشاً قد أزمعت على الخروج، ولا أرى أحداً به طرق تخلف إلا من علة، وأنا أكره خلافها.
وما أحب أن تعلم قريش ما أقول الآن، مع أن ابن الحنظلية( ) رجل مشئوم على قومه، ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب. ولقد قسم مالاً من ماله بين ولده ، ووقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة)( ).
وقد قتل أمية بن خلف وابنه علي في معركة بدر.
وقام بعض وجهاء قريش بارسال بديل عنه ، أي أن البديل نفسه لا يريد أن يخرج إلى المعركة بالأصالة عن نفسه إنما هو بديل عن غيره كما في أبي لهب الذي بعث مكانه العاصي بن هشام ، وكان لأبي لهب دين عليه فقال (اكفني من هذا الغزو وأترك له ما عليك ففعل)( ).
وفي حديث أبي لهب هذا وتسمية خروجهم بأنه غزو شاهد على أن المشركين هم الغزاة ، وأن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تغادر منازل السلم والدعوة بالبرهان ، وفي أمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) .
وهذه الآية من سورة يوسف إذ وردت عدة آيات في خاتمة الآية ( من الآية 102 إلى الآية 109 ) خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على عدم إنحصار موضوعها بقصة يوسف عليه السلام ، وهو من إعجاز القرآن بمجئ الخطاب المتعدد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السورة القرآنية وإن كانت خاصة بقصة نبي من الأنبياء ، ومنها قوله تعالى [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد كانت السور المكية حاضرة في الوجود الذهني عند أهل مكة ، وفي منتدياتهم عند الخروج إلى معركة بدر لتبين لهم قبح هذا الخروج ويكون من الإنذارات الكثيرة فيها الإنذار بأن هذا الخروج ضرر محض.
وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بقائه ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالته ويتلو آيات القرآن على الناس في مكة قبل الهجرة ، ومن إعجاز القرآن قصر السور المكية.
الثاني : لم يرغب أكثر الذين خرجوا إلى بدر بالقتال .
وهل لآيات القرآن وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها على أهل مكة موضوعية في عدم الرغبة هذا ، الجواب نعم لبيان قانون وهو إنتفاع الكفار أيضاً من آيات السلم ، لذا فهي آيات محكمة غير منسوخة.
الثالث : عودة طائفة من الجيش قبل الوصول إلى موضع بدر ، وبدء القتال من جهات :
الأولى : الذين رجعوا وسط الطريق بعد خلاف وخصومة واشعار متبادلة بينهم وبين رؤساء الجيش ، كما في عدد من بني هاشم ، ومنهم طالب بن أبي طالب أخو الإمام علي عليه السلام الذي رجع من وسط الطريق ، ولم يصل إلى مكة ، ولم يعرف مصيره .
الثانية : الذين عادوا إلى مكة عندما جاء رسول من أبي سفيان يخبرهم بسلامة القافلة وإنتفاء الحاجة لمسيرهم .
الثالثة : الذين إنسحبوا ليلة معركة بدر عندما علموا بأن أبا جهل وبعض الرؤساء عازمون على القتال ،مع عدم وجود سبب عقلائي له .
وهل لآيات السلم والإحتجاج موضوعية في عودة هؤلاء من الغزو ، الجواب نعم ، ومن خصائص آيات السلم أنها ترغيب بالإيمان ، وزجر عن محاربة النبوة والتنزيل ،وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الرابعة : المشركون الذين قذف الله عز وجل الرعب في قلوبهم ، وشلّت أيديهم وجوارحهم عن القتال يوم بدر وأحد ، والخندق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وكان لإحتجاج القرآن على المشركين بالسور المكية أثر عظيم في هذا الرجوع المتعدد إلى جانب خذلان الذي يقاتلون وميلهم إلى الفرار والهزيمة ، وهو الذي حصل يوم بدر.
لذا فمن أسباب زحف قريش في معركة أحد بثلاثة أضعاف عددهم في بدر ، وتعدد الإنتماء القبلي لأفراد وسرايا الجيش الخشية من ميل أفراد الجيش إلى الإنسحاب والفرار لإدراكهم الباطل الذي عليه المشركون ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالحق والصدق.
وهذا الذي حصل في معركة أحد حتى إنهزمت جيوش المشركين ، وسقط اللواء بعد مقتل حملته من بني عبد الدار لولا أن جاءت خيالة المشركين من خلف المسلمين بعد أن فارق أغلب الرماة المسلمين الجبل خلافاً لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
ومن الإعجاز في نظم القرآن بيان الآية السابقة بأن الله عز وجل يبعث الرعب والخوف في قلوب المشركين ، وفيه إضعاف لقواهم .
وتبين الآية التالية للآية أعلاه إنسحاب وتراجع المسلمين في ذات المعركة مع ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في الميدان ، إذ قال تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
وتأتي صيغة القول في الإحتجاج بالحجة وأحياناً تطلب من الكفار البرهان كما في قوله تعالى [أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ] ( ) لكشف الحقائق للناس جميعاً ويتجلى عجز الكفار عن الإتيان بالبرهان والدليل على الشرك ، وهو من أسباب بعث الناس إلى سبل الهداية والرشاد .
قانون صرف القتال بالإحتجاج
لقد تقدم ذكر هذا العنوان في الجزء الثلاثون بعد المائتين( ) .
والنسبة بين الجدال والإحتجاج هو العموم والخصوص المطلق ، وكذا النسبة بين الإستدلال والإحتجاج .
والمراد من الإحتجاج هو الإحتجاج اللفظي بالإتيان بالحجة والبرهان ،وليس ما يطلق في هذا الزمان على الرفض الفعلي العام لأمر سياسي ، والحوادث والصدام الذي يصاحبه ، وحتى هذا المعنى فان الجدال كثيراً ما يصرف بالإحتجاج ، وتقديم الدليل أو العذر أو الوعد .
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومن معاني وكيفية التبيان الإحتجاج ، ويمكن القول بقانون : أكثر آيات القرآن تتضمن الإحتجاج سواء بدلالتها المطابقية أو التضمنية أو الإلتزامية .
ومن خصائص الإحتجاج القرآني ملائمته لحكم العقل والفطرة ووضوحه وعصمته من النقض ، وهو من أهم طرق جذب الناس إلى مسالك الإيمان والتوبة والإنابة .
وورد الفعل الأمر (قل) ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة في القرآن كلها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربعة منها( ).
وتجد في القرآن خمس آيات متتالية تبدأ كل واحدة منها بكلمة (قل) كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] ( ) والآيات الأربعة التي بعدها .
لبيان موضوعية الإحتجاج في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه أكثر من آيات الدفاع والقتال ، وفيه شاهد على سلامة آيات السلم من النسخ.
ومن آيات (قل) ما تكون احتجاجاً عاماً على الناس أو على مذهب ضلالة أو على أهل الكتاب أو الكفار ،وقد يكون على طائفة من المسلمين ، قال تعالى [قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ..] ( ) وقال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..] ( ).
ولا يختص الإحتجاج القرآني بالفئة أو الطائفة التي يتوجه إليها ، إنما هو عام في حكمه ودلالته ونفعه .
ومن وجوه الإحتجاج في القرآن النهي عن الشرك والضلالة وعن القنوط من رحمة الله تعالى [قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] ( ) ولم يرد لفظ [يَقْنَطُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
والنسبة بين آيات السلم والإحتجاج هو العموم والخصوص المطلق فالسلم أعم ، والإحتجاج مظهر وحصن له ، لذا ترد آيات كثيرة في الإحتجاج لإتخاذ العقل وسيلة للإيمان ، ولدرء الفتن والإقتتال .
ومن خصائص آية (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) تضمنها النهي بقوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ومن خطوات الشيطان السعي في الفرقة وتنامي الخصومة والمناجاة بالبطش والثأر والإقتتال .
وفي آية أخرى بيان وذم لفعل الشيطان كما في قوله تعالى[فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
وعن (أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيّما رجل شدّ عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في ظلّ سخط الله سبحانه حتى ينزع ، وأيّما رجل حال في شفاعة دون حدّ من حدود الله تعالى أن يقام فقد كايد اللّه حقّاً وحرص على سخطه وأن عليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة .
وأيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يريد أن يشينه بها في الدنيا كان حقّاً على الله أن يذيبه في النار) ( ).
ومن منهاج النبوة سبق السلم للإحتجاج ومصاحبته , وتأخره عنه والسلم قول وفعل مستديم يأمن معه الناس في أنفسهم وأموالهم ومعايشهم , فأراده الله عز وجل للخلفاء في الأرض , ونزلت به الكتب السماوية , وحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواءه .
أوان غلبة الروم
لقد تضمن القرآن الوعد ، وعلماً من علوم الغيب بقوله تعالى [وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ] ( ) ، وقد اختلف في أوان ظهور الروم على فارس على أقوال :
الأول : يوم بدر عندما انتصر المسلمون على المشركين ، وبه قال أبو سعيد الخدري( ).
الثاني : يوم الحديبية ، ونسبه الثعلبي إلى أكثر المفسرين.
الثالث : عدم حصر نصر الروم على فارس في يوم مخصوص ولكنه في السنين الأولى من الهجرة النبوية ، وهو ظاهر قول عبد الله بن عباس في قوله تعالى [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ]( )، إذ قال (كان ذلك في أهل فارس والروم ، وكانت فارس قد غلبتهم ، ثم غلبت الروم بعد ذلك .
والتقى رسول الله صلى الله عليه آله وسلم مع مشركي العرب ، والتقى الروم مع فارس ، فنصر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين على مشركي العرب ، ونصر أهل الكتاب على العجم .
قال عطية : وسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال : التقينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي العرب ، والتقت الروم وفارس ، فنصرنا على مشركي العرب ، ونصر أهل الكتاب على المجوس ، ففرحنا بنصر الله إيانا على المشركين ، وفرحنا بنصر أهل الكتاب على المجوس ، فذلك قوله { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله })( ).
ويدل قوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( )، على حدوث الإقتتال والمعارك الكبرى بين الدول العظمى حتى في عصر النبوة ، إلى جانب الإقتتال بين القبائل في الجزيرة ، فكانت عسكرة المجتمعات أمراً متعارفاً وإن حصلت هدنة فهي مؤقتة أما آيات السلم فقد جاءت بالسلام والهدنة الدائمة وهو من الشواهد على عدم نسخها .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الآية أعلاه نزولها وإخبارها عن أمور :
الأول : التوثيق السماوي لحال الإقتتال بين الأمم العظمى .
الثاني : الإخبار عن نتيجة القتال والمعارك مع بعد مواضع القتال ، وعدم وجود وسائط نقل آنذاك .
الثالث : وبعد أن نزلت الآية بأيام عديدة جاء الخبر موافقاً لما نزل وأخبر عنه القرآن ، وفيه دعوة للناس للإيمان .
الرابع : تنمية صلات المودة بين المسلمين وأهل الكتاب .
الخامس : بعث اليأس في قلوب رجالات قريش من استمالة الروم ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا اليأس مقدمة للسلم والأمن في الجزيرة لأن المشركين هم الذين كانوا يبدأون الغزو والهجوم على المدينة ، ويسعون في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن بعثته رحمة ونجاة لهم من العذاب في النشأتين ، ومن معاني [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) التقيد بأحكام الإسلام فهي سلم دائم .