معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 234

المقدمــــــة
الحمد لله رب العالمين الذي أبى إلا أن ينفرد بالإحاطة بكل شئ علماً ، ليكون هذا العلم رحمة بالخلائق ، ومنهم الناس لتوثيق وكتابة أعمالهم ، وفوز الذي يأتي بالحسنات بالأجر والثواب .
الحمد لله الذي جعل الخلائق تعجز عن إحصاء نعمه على العبد الواحد من الناس ، ليس من باب الصدفة بل لوجوه :
الأول : كثرة النعم على كل إنسان .
الثاني : تجدد واستحداث النعم على كل إنسان ، في كل لحظة من حياة الإنسان آلاف النعم .
الثالث : من النعم ما لا يعلمها إلا الله عز وجل ، ولا ينحصر هذا الأمر بالنعم الباطنة إنما يشمل حتى النعم الظاهرة ،وهو ما يتجلى للناس يوم القيامة ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
ولم يرد لفظ [غِطَاءَكَ] و[بَصَرُكَ] إلا في آية البحث ،وهل المقصود في الآية أعلاه خصوص المشركين لقوله تعالى [الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا] ( ).
المختار لا ، فكشف الأبصار ، وتجلي الحقائق ، وبيان اللامحدود من النعم الإلهية على العبد شاملة للناس جميعاً .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا ) ( ).
وهل يكون بصر الإنسان يوم القيامة حديداً وثاقباً ومطلقاً لخصوص النعم التي رزق الله وجميع أقواله وأعماله أم تشمل الإطلاق على النعم العامة وغيرها من أعمال بعض الناس ، الجواب هو الثاني ، وهو من أسرار تسمية يوم القيامة .
(عن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى الهلال قال الله أكبر الله أكبر الحمد لله الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله اللهم إني أسألك خير هذا الشهر وأعوذ بك من شر القدر ومن شر يوم الحشر) ( ).
الرابع : قانون عجز الناس عن عدّ وإحصاء النعم ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ويتجدد في كل يوم قانون أن التنزيل نعمة عظمى ، ولا يقدر عليها الملائكة والخلائق ، فلو أذن الله للملائكة أن ينزلوا قرآناً فهل يستطيعون الإتيان بمثل هذا القرآن وآياته وسوره الجواب لا .
وهل يستطيعون التوصل لإختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بين الناس لاهليته لنزول الكتاب ، الجواب لا ، ولا يستطيعون الإتيان بمعشاره ، فهو كلام الله الذي يتجدد إعجازه ، ولا تنتهي غرائبه .
والتفسير بالتقدير علم مستحدث في هذا الجزء بأن يؤخذ شطر الآية القرآنية ويضاف له المناسب من القرآن أو السنة أو أسباب النزول أو اللغة أو التأريخ ونحوه بعيداً عن الرأي والهوى والتعصب ، فمثلاً قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله الذي هدانا ، الحمد لله على توالي النعم ، الحمد لله الذي بعثة محمداً رحمة للعالمين ، الحمد كله لله وحده يا أيها الناس قولوا الحمد لله.
وقد صدر الجزء الثالث والثلاثون بعد المائتين من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهو بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الحمد لله حمداً كثيراً لا ينقطع [مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( )، حمداً ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم سلطانه وقدرته ، الحمد لله الذي خلق الناس من أجل أن يقال (الحمد لله) مع غناه سبحانه عن حمدهم وعبادتهم وثنائهم عليه ، ولكنه أراد الإحسان إليهم ومجازاتهم باللبث الدائم في النعيم .
الحمد لله الذي أنزل آيات القرآن لتكون كل آية كنزاً للعلوم ، وسراً من أسرار الوجود ، وفيضاً مباركاً.
الحمد لله على كثرة وتوالي النعم ، وعجزنا مجتمعين عن إحصائها وعدّها ، وكيف يكون الإحصاء وهي تتوالى أسرع من آنات الزمان لمجيئها على نحو دفعي وليس تدريجياً.
الحمد لله على وفرة الرزق في كل زمان ومكان ، فلما اختار الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أبى سبحانه إلا أن تكون أفراد الرزق أكثر من حاجة الإنسان وإلى يوم القيامة.
وفي سورة نوح ورد [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا]( ).
ولقد جاء هذا الجزء من التفسير وهو الرابع والثلاثون بعد المائتين خاصاً بتفسير قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
لبيان بديع صنع الله ، وعظيم قدرته ، ولإخبار العباد بأن الله عز وجل خلقهم ولم يحصر رزقهم في الأرض إنما جعله في السماء والأرض مجتمعين ومتفرقين ، كما أن التدبر في خلق السموات طوعاً أو قهراً وسيلة العبور على الصراط إذا صار هذا التفكر مقدمة للإيمان .
ومن إجتماعهما بخصوص الرزق نزول الغيث عن السماء ، ونبات الزرع واستدامة الشجر والحياة ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، وإن امسكت السماء غيثها فان الله عز وجل جعل الأنهار والبحار نعمة حاضرة عند الناس.
وفي هذه الأزمنة ومع تزايد أعداد أهل الأرض ، والسباق في المكاسب ، والسعة في الإنفاق والحاجات ، تلّوح الأنهار والبحار إلى الناس بانها احتياطي كريم لتحقيق الرغائب واستدامة الرزق الكريم ، وهي تدعو الناس لإجتناب الإقتتال على الماء أو على موارد الرزق.
لقد ذكرت آية البحث [اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] ليلتفت الناس لهذه النعمة التي تتجدد في كل دقيقة من آنات الزمان .
الحمد لله الجواد الوهاب للعطايا بغير حساب ، الرزاق ابتداء من غير سؤال ، ومن دون أسباب ، الحمد لله المنان الحنان ، الذي يتجاوز عن السيئات ، ولا تحجب المظالم عن أهلها الرزق الكريم منه تعالى .
فقوله تعالى أعلاه انحلالي ومنه وجوه :
الأول : إختلاف طول وقصر النهار.
الثاني : اختلاف منزل الشمس في كل آن من آنات النهار
الثالث : اختلاف درجة حرارة الجو وشدة ضوء الشمس بحسب سيرها.
الرابع : اختلاف القمر في مسيره بين اثني عشر برجاً في ثمانية وعشرين منزلاً ، قال تعالى [وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ]( ).
لقد جمعت آية البحث بين خلق الله للسموات والأرض ، وبين الإختلاف والتباين بين الليل والنهار وآنات كل واحد منهما ، وفيها من أفراد غير متناهية من المعجزات.
والآية أعلاه مكية لتكون سلاحاً بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل بين ظهراني المشركين ، ومن معاني آية البحث دلالتها على صبغة المسلمين التي تتصف بها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتحل الشمس كل برج في شهر ، وقام العرب بتسمية البروج وهن :
الأول : الحمل .
الثاني : الثور .
الثالث : الجوزاء .
الرابع : السرطان .
الخامس : الأسد .
السادس : السنبلة .
السابع : الميزان .
الثامن : العقرب .
التاسع : القوس .
العاشر : الجدي .
الحادي عشر : الدلو .
الثاني عشر : الحوت .
وهو المروي عن عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا.
الحمد لله خالق كل شئ ، وجعل الناس يبتلون بالإختبار والإمتحان لتكون الحياة الدنيا مزرعة الآخرة ،لتكون آيات الخلق التي تذكرها آية البحث متجددة كل ساعة كطريق إلى التوبة وتثبيت الإيمان في النفوس .
وخلق لهم الجنة مثوى للمؤمنين الذي يعلمون الصالحات والنار لمن أشرك بالله ومات على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
وصحيح أن الآية من الوعيد إلا أنها رحمة عامة للناس ، ومفتاح أمل واسع عريض للعاصي والجاني والمقصر العامد ، إذ أن الآية أعلاه من آيات التوحيد والفيصل يوم القيامة لذا جاءت آية البحث التي اختص بها هذا الجزء من التفسير بالتأكيد على كل من:
الأول : قانون خلق الله لكل سماء من السموات السبع.
الثاني : خلق الله عز وجل لما في كل سماء من الملائكة والحرس والكواكب.
الثالث : خلق الأرض وما فيها .
الرابع : حفظ السموات والأرض في كل دقيقة وساعة من ساعات الحياة الدنيا.
الخامس : حضور السموات والأرض في الآخرة لتكون شاهداً على الناس في أعمالهم ، ولا تعارض بين هذا الحضور وقوله تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ]( )، لأن كيفية الحضور لا يعلمها إلا الله عز وجل ، وهل تشهد آنات الليل والنهار يوم القيامة على الإنسان ، الجواب نعم.
لذا فمن مصاديق آية البحث بعث السكينة في نفس المؤمن وترغيبه بالعمل الصالح ، وجعل المسلمين يجتهدون في طاعة الله بالتسابق مع ساعات الليل والنهار، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )ومنها بعث الخوف في قلب الكافر من عالم الاخرة بتعاقب الليل والنهار، فاذا كان كل منهما يطلب الآخر ، كما قال تعالى[يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ) فان كلً من الليل والنهار يطلبان الإنسان في أيامه وعمله وحسابه ، ولم يرد لفظ [حَثِيثً] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
ومن معاني خلق الله للسموات والأرض إنقطاع الخلائق بالتسبيح والتعظيم والتقديس لله وحده ، قال تعالى [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وجاءت آية أخرى بصيغة المضارع [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
لبيان عدم انقطاع التسبيح والتهليل والتمجيد لله عز وجل وتنزيه مقام الربوبية في السموات والأرض أمس واليوم وغداً.
ووردت الآية أعلاه بلفظ (ما) ليشمل العاقل وغير العاقل ، وكثرة غير العاقل في السموات والأرض ، وفيه إشارة إلى فضل الله عز وجل على الناس بنعمة الخلق والعقل والخلافة في الأرض ، وتلقي التنزيل والتبصر بالمعجزات والآيات الكونية .
وفيه شاهد على حب الله عز وجل للناس ، ولزوم شكرهم له على هذه النعم بالقول والفعل ، ومنه أداء الفرائض العبادية .
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض ، وجود أمة تقيم الصلاة في كل زمان ، إبتداءً من آدم وحواء اللذين لم يهبطا إلى الأرض إلا بعد أن علما بوجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج.
الحمد لله الذي جعل أيام الصحة أضعافاً مضاعفة لأيام المرض ، الحمد لله الذي عافانا من الأمراض ، وجعل الشفاء عند المرض قريباً ، لذا جاء دعاء إبراهيم بصيغة الشرط [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
الحمد لله عدد ما أحصى في كتبه وأمره ومشيئته .
الحمد لله الذي اسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة ، وتفضل عليّ باصدار أجزاء التفسير بالتوالي والتعاقب مع استحداث علوم لتصبح اساساً لصروح تستخرج الذخائر من مضامين آيات القرآن ، وهي على وجوه منها :
الأول : العلوم في الآية القرآنية الواحدة ، وهي على شعب عديدة منها:
الأولى : باب في سياق الآيات .
الثانية : إعجاز الآية الذاتي .
الثالثة : إعجاز الآية الغيري .
الرابعة : الآية سلاح .
الخامسة : مفهوم الآية .
السادسة : إفاضات الآية .
السابعة : الآية لطف .
الثامنة : الآية بشارة .
التاسعة : الآية إنذار .
العاشرة : الصلة بين أول وآخر الآية .
الحادية عشرة : من غايات الآية .
الثانية عشرة : علم المناسبة .
الثالثة عشرة : بحث بلاغي .
الرابعة عشرة : بحوث متعددة حسب موضوع وأحكام الآية ، منها البحث الأصولي ، البحث الفقهي ، البحث المنطقي ، البحث العقائدي وغيرها .
وقد تقدم التفصيل في الجزء السابق( ).
الثاني : علوم التفسير المستقلة منها :
الأول : التفسير بالتقدير ، وهو علم لا محدود بأن تفسر الآية القرآنية بتقدير المضاف والبيان والمحذوف كما مبين في هذا الجزء( ).
الثاني : التفسير بالجمع ، أي بالجمع بين الآية محل البحث والآيات الأخرى المناسبة لها في الموضوع أو الحكم أو الدلالة أو الغايات الحميدة والمقاصد السامية.
الثالث : صدور جزء مستقل من الصلة بين آيتين كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة ، ويختص بالصلة بين الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران .
الرابع : صدور جزء مستقل بالصلة بين شطري آيتين متجاورتين ، كما في الجزء السادس والعشرين بعد المائة ، الذي يختص بالصلة بين شطر من الآية153 بشطر من الآية 151 من سورة آل عمران .
والجزء التاسع والعشرون بعد المائة الذي يختص بالصلة بين شطر من الآية 154 بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران ، وغيرها.
الحمد لله الذي أنعم على الناس بالنبوة والتنزيل وغادر الأنبياء الى الرفيق الأعلى ولكن التنزيل أينع وأثمر وأضاء الأرض بالحكمة ، ليملأ قلوب المؤمنين بالسكينة ، وهو من عمومات قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الخامس : تفسير القرآن وفق أنظمة التفسير المتوارثة بين العلماء من جهة اللغة والمأثور والبلاغة ونحوها.
لقد أخبرت آية البحث عن كون خلق السموات والأرض وهيئتها البديعة ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل تختص هذه الآيات بأصحاب العقول السليمة.
الثانية : هل نزول آيات القرآن خاص لأولي الألباب.
أما المسألة الأولى فعالم الخلق وبدائع صنع الله عز وجل آيات لكل الخلائق ، ومنهم الملائكة والجن والناس وذات السموات والأرض ، ويتصف أولوا الألباب بالتفكر والتدبر فيها.
وأما المسألة الثانية فان القرآن نزل خطاباً وهدىً للناس جميعاً ، وحجة عليهم ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، لبيان أن القرآن رحمة بالناس.
ومن معاني آية البحث جعل الناس جميعاً من أولي الألباب وإرتقاؤهم في سلم المعارف ليفوزوا بالأجر والثواب ، لقد جعل الله عز وجل الآيات الكونية تلامس البصر والسمع وتغزو القلوب ، وتشد العقول إليها ، وتملي عليها التفكر والتدبر ، ليكون هذا التفكر ضابطة للعقل ، وجذباً إلى أحكام الشريعة.
لقد أراد الله عز وجل سبحانه من الناس التقاء العقيدة والتوحيد باسم واحد ، وهو عنوان الإيمان وإخلاص العبادة ، لذا يستحب قراءة سورة الإخلاص في الصلاة اليومية ، [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ]( ).
وهو من مصاديق إخبار آية البحث عن خلق السموات والأرض ، وجعلها آيات لأرباب العقول ، ومن بديع صنعه تخلف الخلائق عن الشبه بصفاته وأسماء الله الحسنى ، وفي التنزيل[هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا]( ) وقال تعالى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ]( )ومنه قدرة الله على كل شئ ، وفي التنزيل [وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا]( ).
ومن معاني إنتفاء الشبه والمثل لله عز وجل أنه ليس من معبود سواه سبحانه ، وما أن تتخذ بعض الأمم آلهة غير الله من الأوثان والأصنام أو الطواغيت حتى يبعث الله عز وجل لهم رسولاً بالبشارة بالجنة على الإيمان ، والإنذار بالعذاب بالنار على الشرك .
وقد بعث الله عز وجل موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه بعد إدعاء فرعون الربوبية.
الحمد لله الذي جعل آيات الخلق لا تنقطع ويعجز الخلائق عن إحصائها , وتفضل سبحانه وجعل علوم القرآن من اللامتناهي , ويعجز العلماء عن سبر إغواره , وقد استحدثت في هذا السِفر أبواباَ من التفسير تكون نواة لعلوم متجددة إلى مئات السنين مع إجتهاد العلماء في إستخراجها والإجتهاد وتظافر الجهود فيها وهو من مصاديق خطابات القرآن [أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) و[ لأُوْلِي النُّهَى] ( ) [أُوْلِي الأَبْصَارِ]كما في قوله تعالى [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( ).
لبعث الناس على تسخير عقولهم في إطاعة الله عز وجل , والسعي في مرضاته , ونشر ألوية السلم والأخوة بين الناس , إذ تقر جميع الملل السماوية بخلق الناس من أب وأم واحدة .
الحمد لله الذي قرًب الناس مجتمعين ومتفرقين إلى الإيمان بخلق السموات والأرض لتكون على وجوه:
الأول : مرآة على بديع صنعه .
الثاني : شاهد حاضر كل ساعة على عظيم قدرة الله ، وسعة سلطانه .
الثالث : الدعوة الكونية للناس للإيمان .
الرابع : التذكير باليوم الآخر وعالم الحساب والجزاء يوم القيامة , قال تعالى [وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتِ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ).
الخامس : بيان سعة رحمة الله ، وبعث الناس للدعاء وسؤال الحاجات الخاصة والعامة بخصوص السماء أو الأرض أو الليل أو النهار .
ومن خصائص الآية القرآنية النهي عن التنافر وأسباب الخصومة ، ومنها آية البحث إذ تدعو في مفهومها إلى السلم المجتمعي والى تنمية الأخوة الإيمانية بين المسلمين ، وتنهى عن الإقتتال في ملك الله عز وجل ، فمن أسرار مخاطبة الآية لأولي الألباب إدراك أمور :
الأول : خلق الله عز وجل السموات والأرض لسعادة الإنسان.
الثاني : اختلاف الليل والنهار شاهد على تعاقب الأجيال على الأرض.
الثالث : لاينفع الإنسان إلا العمل الصالح.
الرابع : تدل خاتمة الآية على لزوم إقتباس المواعظ من الخلق وأسراره.
ومن الإعجاز في آية البحث حضورها في أدعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه ما ورد عن ابن عباس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تهجد في الليل يدعو : اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق ، وقولك حق ، ووعدك حق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت) ( ).

حرر في الرابع من شهر شعبان 1443
الموافق 7/3/2022

قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]الآية 190
الإعراب واللغة
الخلق : الصنع والإبداع والتكوين.
(وخَلَقَ الله الشيء يَخلُقه خَلْقاً: أحدثه بعد أن لم يكن، والخَلْقُ يكون المصدر، ويكون المفعول)( ).
ومن أسماء الله عز وجل الخالق والخلاّق .
وورد لفظ [الخالق] في القرآن مرة واحدة [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وورد سبع مرات من غير تعريف بالألف واللام.
وقد خلق الله عز وجل الإنسان والأكوان والأشياء من غير مثال سابق ، وأوجدها من العدم ، واخترعها بعد أن لم تكن ، قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
واختلاف الليل والنهار تعقب أحدهما للآخر كل يوم وليلة وازدياد أحدهما بانتقاص الآخر ، والتضاد البهيج بين إضاءة النهار ، وظلمة الليل.
وفيه آية كونية تدل على التوحيد ، وهي نعمة على الناس جميعاً ذكوراً وإناثا تبين تساويهم في تلقيها مع التباين بينهم في محل السكن والشأن والمال والجاه ، وتدعوهم إلى الشكر لله سبحانه.
السموات جمع سماء ، والسماء لغة كل ما علا : كالسقف.
ولكن هذا اللفظ إذا أطلق فيراد منه الأجرام العلوية المقابلة للأرض ، وإذ ذكرت آية البحث السماوات بصيغة الجمع الإجمالي ، فقد ورد عددها مفصلاً ، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ]( ).
وفيه بيان ورحمة من عند الله عز وجل وهو سبحانه يخبر عن الفصل بين طبقات السماء.
وقد يأتي يوم يستطيع علماء الفضاء إيجاد المائز في طبقات السماء ، والفرق بين السماء الدنيا والسماء الثانية وهكذا ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا]( ).
والليل معروف بظلامه الذي يتغشى الأرض ، والواحدة منه (ليلة) وورد هذا اللفظ ثماني مرات في القرآن ، منها ثلاثة في آيات متتالية من سورة القدر ، بقوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ]( ).
والنهار الضياء المتسع الذي تجليه خيوط الفجر وإشراقة الشمس ، والنهار مفرد لا يُجمع ، والظاهر أن الكلمات المفردة التي لا تجمع في اللغة العربية أقل من الجمع الذي ليس له مفرد.
ومن إعجاز آية البحث ذكرها السموات بصيغة الجمع ثم الأرض بصيغة المفرد.
وذكرت الليل بصيغة الجمع ثم ذكرت النهار وهو مفرد (ويقال لِليْلَةِ التي تَلي يَوْمَها: لَيْلَة السمَاء)( ).
إن : حرف مشبه بالفعل .
في خلق : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ(إن) .
السموات : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم .
والأرض : الواو حرف عطف .
الأرض : اسم معطوف على السموات .
لآيات : اللام لام التوكيد .
آيات : اسم إن منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم ،وتكررت هذه النيابة في قوله تعالى [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
لأولي : جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لآيات وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم .
الألباب : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره .

لام اسم الجلالة أصلية
والألف واللام في اسم الجلالة لازمة أصلية لا تنفك عنه لأنها من بنية الكلمة ، فهي ليست شمسية أو قمرية ، أو لام العهد أو الجنس ، وقيل هي للعهد الذهني ، وللتعظيم ، ولام اسم الجلالة ليست للتعريف لأنه سبحانه واحد .
وقريب منه اللام في التي والذي ونحوها من الأسماء الموصولة ، مع فارق فان الألف واللام فيها زائدة لازمة .
وقال سيبويه (واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادي اسماً فيه الألف واللام البتة؛ إلا أنهم قد قالوا: يا الله اغفِر لنا، وذلك من قبل أنه اسمٌ يلزمه الألف واللام لا يفارقانه، وكثر في كلامهم فصار كأن الألف واللام فيه بمنزلة الألف واللام التي من نفس الحروف، وليس بمنزلة الذي قال ذلك، من قبل أن الذي قال ذلك وإن كان لا يفارقه الألف واللام ليس اسماً بمنزلة زيد وعمرو غالباً.) ( ).
واسم الجلالة علم على الذات المقدسة ، وفي التنزيل [وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ] ( ) .
ومن معاني جزئية الألف واللام من اسم الجلالة وأنهما من أصل الكلمة لزومهما فيه سواء على القول بأنه مشتق كما قال جماعة مع اختلافهم في اشتقاقه على وجوه منها الوله لأن الناس بالهون يفزعون إليه أو من أله يتأله أي يعبد ، أو أنه غير مشتق وبه قال الخليل وجماعة ، ونقل سيبويه عن الخليل أنه مشتق .
واسم الجلالة قريب من الاسم الأعظم ، وتميل إليه النفوس طوعاً وقهراً وانطباقاً ، وهو عنوان لنزول الرحمة واستدامتها .
بحث نحوي إعجازي (قسيم ثالث للام)
تقسم اللام المقرونة بالهمزة إلى قسمين :
الأول : لام العهد .
الثاني : لام الجنس وهي على شعبتين :
الأولى : لام الإستغراق ، والمراد منها الأفراد كلها وتخلفها (كل) على وجه الحقيقة ، واستدل بهذه الآية [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) بأن المراد كل فرد من جنس الإنسان ضعيف .
الثانية : إرادة تعريف الماهية ، ويطلق عليها (لام الحقيقة أو لام الماهية ، ولا تخلفها (كل) لا حقيقة ولا مجازاً .
ولا تفيد معنى الإحاطة ومنه قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ) ومن النحاة من جعل هذه اللام في العهدية ، ومنهم من جعلها قسيماً ثالثاً للام العهد والجنس ، والمشهور والمختار أنها من لام الجنس .
ونذكر هنا علماً مستحدثاً وهو قد تجتمع هذه الأقسام الثلاثة في لفظ قرآني ، إمكان إجتماع لام العهد ولام الجنس بشعبتيه في لفظ قرآني واحد ، أو اجتماع لام العهد ولام الجنس للإستغراق في لفظ قرآني واحد.
وهو من الشواهد على قانون اللفظ القرآني أعم من القواعد النحوية ونحوها.
فتفيد اللام في قوله تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )وجوهاً :
الأول : لام العهد ، فالفرد من الناس ضعيف مثل زيد ، عمر .
الثاني : لام الجنس التي تخلفها (كل) فالجماعة والأمة والناس جميعاً ضعفاء وإن اجتمعوا وتآزروا ، وأخبر الله عز وجل عن ضعفهم في مسألة واحدة وهي [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
وهل تشمل الآية معاني حروف وكلمات القرآن وأسرار التفسير والتأويل في اللام المستقلة ، وفي الجمع بين الآيات ، الجواب نعم .
الثالث : إفادة لام الماهية في لفظ [الإِنسَانُ] إذ تتعين سنخية الإنسان بالضعف في خلقه من الطين وكيفية تكوينه في الرحم ونشأته.
ومع هذا رزق الله عز وجل الإنسان الخلافة في الأرض نعم قد يرد لفظ الإنسان ويراد منه العهد دون الجنس ، أو الجنس دون العهد بحسب الموضوع .
وكما يحمل معنى الإنسان على إرادة العهد والجنس بشعبتيه ، فكذا يمكن القول بحمل لفظ الخليفة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ]( ).

سياق الآيات
صلة آية البحث مع مع الآيتين السابقتين لها وهما على وجوه :
الوجه الأول( ) : صلة آية البحث بالآية السابقة وهو قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وفيها مسائل:
المسألة الأولى : نزلت كل من الآيتين بصيغة الجملة الخبرية لبيان القطع بأن كل الكائنات ملك لله عز وجل وحده لا يشاركه أحد في ملكه ، فلا يصح أن يكون المملوك الخاضع المنقاد مالكاً لنفسه وغيره .
قال تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) .
ليصاحب الضعف الإنسان منفرداً ومجتمعاً، والمشهور في تفسير الآية أعلاه إرادة ضعف الإنسان في أمر النساء وعدم الصبر عليهن( ).
بلحاظ الآية السابقة لها [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) وموضوع الآية أعم .
فالناس وان إجتمعوا لا يغادرون منازل الضعف والعجز عن تحقيق الأماني والرغائب لذا تجد الرجل الغني يتدبر ويفكر في مشاريع تعجز عنها أمواله ، والسلطان يتدارس مع بعض وزرائه توسعة ملكه وتراه يتراجع عما يعزم عليه مع كثرة جنوده وأسلحته.
والمختار أن المراد من اللام في الآية أعلاه (الإنسان) لام العهد ، ولام الجنس بشعبتيه ، فتقسيم اللام استقرائي ، واللفظ القرآني أعم في موضوعه ودلالته.
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )، حضور إستعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع عندما يتناجى المشركون بالغزو والهجوم ، فالآية أعلاه ليست من آيات القتال والحرب ، إنما هي للزجر عن القتال والمنع من سفك الدماء وهي من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة وقد تقدم البيان .
وفي حديث الإسراء الوارد عن أنس ، وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : خمسين صلاة.
قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم .
فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى.
فقلت : حط عني خمساً ، فقال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال : فلم أزل أرجع بين ربي وموسى.
حتى قال : يا محمد ، إنهن خمس صلوات لكل يوم وليلة ، بكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة.
ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة.
فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحيت منه)( ).
المسألة الثانية : ذكرت آية السياق أمرين من الإرادة التكوينية:
الأول : الملك المطلق لله عز وجل .
الثاني : قدرة الله على كل شئ من الموجود والمعدوم ، فليس من شريك لله عز وجل في أي ذرة أو جزء من السموات والأرض، وليس من مسألة تستعصي على الله عز وجل لتجمع آية السياق بين معاني التوحيد وتبين أصول معالم الدين.
إذ تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على دعوة الناس للهداية ، وسؤال الله عز وجل من سعة ملكه وعظيم قدرته ، وتنفي الآية موضوع الإستحالة في قدرة الله عز وجل ، فليس من شئ مستحيل على الله عز وجل ، لأن قدرته فوق القوانين قواعد والعلة والمعلول.
ومن قدرة الله عز وجل سعة رزق العباد ومجيئه بالأسباب والإحتساب ، ومن غيرهما مجتمعين ومتفرقين ، وقال تعالى [رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا] ( ) أي أنكم ترونها بغير أعمدة ظاهرة أو خفية.
وجاء العلم الحديث واكتشاف دقائق الذرات في آفاق واسعة من الكون ، وليس هناك أعمدة للسموات والأفلاك والنجوم ، وقد ذكر الله عز وجل ملكه للأرض للدلالة على بديع صنعها وكنوزها ، قال تعالى [وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ] ( ).
وهل في الجمع بين آية البحث والسياق دعوة للسلم والأمن في الأرض ، وترك الإقتتال ، الجواب نعم ، وفي الآية تحذير من الإحتراب على آفاق الفضاء في الأزمنة اللاحقة بعد التسابق الدولي في الصعود إليها ، والسعي في إكتشاف كنوزها وذخائرها .
وفي كل من الآيتين مناسبة كريمة للإستغاثة واللجوء إلى الله عز وجل وسؤال الحاجات منه تعالى ، فخزائن رحمة الله عز وجل لا تنفد .
المسألة الثالثة : ذكرت آية السياق أموراً :
الأول : السموات ملك لله عز وجل ليدل بالدلالة التضمنية على أن السموات منقادة لأمر الله ، ولا يجوز إتخاذها آلهة أو وسائط وزلفى في التقرب إلى الله عز وجل .
الثاني : مع عظمة وسعة السموات وعجز الناس والتقنيةالحديثة عن الإحاطة بها فهي خلق مملوك لله عز وجل ، ومن عظيم سلطان الله وبديع قدرته جمعه للسموات والأرض كلها بكلمة واحدة [لِلَّهِ مُلْكُ] ( ).
الثالث : آية السياق إنحلالية إذ يتضمن لفظ (ملك السموات) وجوهاً :
الأول : ولله ملك السماء الدنيا ، وقد ورد ذكرها في القرآن ثلاث مرات في ثلاث آيات وهي :
الأولى : [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ]( )، وهل تختص السماء الدنيا بالكواكب ، الجواب لا.
الثانية : [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ]( ).
وتبين الآية أعلاه قانون خلق سبع سماوات وأن مدة خلقهن وتقسيمهن في يومين ، فالله عز وجل هو الذي خلق السموات وشطرها وقسمها إلى سبع سماوات وهو المالك لها ، لا يشاركه في ملكه أحد ، ولا أحد غيره يوحي إلى السموات.
الثالثة : [وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ]( )، لبيان المنافع العظيمة للنجوم والكواكب فتكون على جهات:
الأولى : إنها مصابيح ومصادر للضياء والإهتداء.
الثانية : تنقّض الشهب على الشياطين لمنع الشياطين من أن يكون لها سلطان في الأرض أو السماء ، قال تعالى [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ* لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ]( )، وقال تعالى [فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا]( ).
وقال جرير بن عبد الله (حدثني يا رسول الله عن السماء الدنيا والأرض السفلى . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما السماء الدنيا ، فإن الله خلقها من دخان ، ثم رفعها وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً ، وزينها بمصابيح النجوم وجعلنا رجوماً للشياطين ، وحفظها من كل شيطان رجيم)( ).
الثالثة : زينة وبهاء للسماء .
الرابعة : إنها دعوة متجددة كل يوم وليلة للإيمان ومناسبة للذكر والإستغفار.
الثاني : ولله ملك السماء الثانية .
الثالث : ولله ملك السماء الثالثة .
الرابع : ولله ملك السماء الرابعة… إلى السماء السابعة .
الخامس : ولله ملك الأرض .
وهذا المعنى مستقرأ من خلق الله عز وجل للسموات والأرض [فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ]( )، وهو لا يتعارض مع الأصل هو ملك الله للسموات والأرض مجتمعة.
وتحتمل الآية بلحاظ التفسير بالتقدير جهات :
الأولى : ولله ملك السموات والأرض وغيرها من الملك .
الثانية : ولله ملك السموات والأرض وحدها .
الثالثة : ولله وحده ملك السموات والأرض لا يشرك معه في ملكه أحد.
والصحيح هي الأولى والثالثة ، فالله عز وجل يملك السموات والأرض ، وله من الملك ما يفوق السموات والأرض كثرة وسعة ، ولا يعلم بملكه إلا هو سبحانه ، وهل يستطيع أهل الجنة الإحاطة بملك الله ، الجواب لا ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً] ( )والجواب قيدت الآية السؤال والطلب بخصوص الجنة ونعيمها لمقام ، لإفادة الظرفية ومنه قوله تعالى [لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ] ( ) لبيان أن إنحصار ملك السموات والأرض بالله عز وجل هو نعمة ونفع عظيم للناس جميعاً .
المسألة الرابعة : لقد ذكرت كل من آية البحث والسياق قوله تعالى [السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]، وأخبرت آية السياق عن ملك الله عز وجل لهما ، بينما ذكرت آية البحث خلقهما ، وفيه مسائل :
الأولى : الشأن العظيم للسموات والأرض في عالم الخلق ، ودلالة خلقها على الإلوهية المطلقة لله سبحانه.
الثانية : دعوة الناس لإتخاذ خلق الله سبحانه للسموات والأرض سبيلاً للهداية .
الثالثة : القطع والجزم بأن ملكية السموات والأرض لله وحده في كل زمان ، فلا شريك له أمس واليوم وغداً .
الرابعة : بعث الناس للتدبر في منافع خلق السموات والأرض لهم وللدواب كلها .
الخامسة : من معاني ورود لفظ [السَّمَوَاتِ] بصيغة الجمع ، ولفظ [الأَرْضِ] بصيغة المفرد بيان الفارق الكبير بينهما في كبر وسعة حجم السموات والكواكب بالنسبة للأرض .
والسماوات أكبر من الأرض بملايين المرات وهي كحصاة في صحراء ، وهو ظاهر للناس في كل زمان ، وكل بقعة من الأرض ، إذ تحيط السموات بالأرض من كل جهة .
وبينما قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] ( ).
فان الله تعالى ذكر التوسعة المتصلة في السموات ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
المسألة الخامسة : لما أخبرت الآية السابقة عن ملكية الله عز وجل للسموات والأرض نزلت هذه الآية لتبين أنه تعالى هو الذي خلق السموات والأرض ، فلم يرثها أو يتغلب على غيره ، فلذا تفضل وأخبر سبحانه عن ابتداعه لهما بقوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..] ( ) وتقدير الآية : خلق السموات والأرض بابتداع من عنده سبحانه من غير تفكر أو تصور إنما بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وقد ذكرت الآية السابقة أموراً :
الأول : إبتداء الآية باسم الجلالة ، مما يدل على تضمنها لقوانين من الإرادة التكوينية .
الثاني : إنحصار ملك السموات بالله عز وجل .
الثالث : كل ما في السموات السبع هو ملك خالص لله عز وجل ، فلذا ترى الملائكة خاشعين منقطعين إلى التسبيح والذكر من غير أن يلحقهم الفتور .
الرابع : ملك الله عز وجل للأرض وما فيها من الأنهار ، والجبال ،وظاهرها ، وباطنها ، وفيه دعوة للناس لسؤال الله عز وجل الإنتفاع من كنوزها .
وهل تدل الآية على سلامة الأرض من الفناء ، الجواب نعم ما دام القرآن يتلى فالأرض موجودة لأن الله عز وجل يخبر عن ملكيته للوجود ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فمن بركات القرآن ووجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة له سبع عشرة مرة باليوم وفي حال خشوع وصلاة بقاء الأرض كملك مستديم لله عز وجل إلى قيام الساعة .
لقد أخبرت آية السياق عن عظيم قدرة الله عز وجل بايجاد المعدوم وفناء الموجود بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ثم بينت آية البحث مصاديق وشواهد من خلق الله عز وجل وأدلة على قدرته المطلقة ، وهو من الإعجاز في نظم الآيات بأن أخبرت آية عن قانون القدرة المطلقة الذي ينفرد به الله عز وجل ، وتحتاج إليه الخلائق في خلقها واستدامة وجودها ثم ذكرت الآية التي بعدها وهي آية البحث مصاديق عظمى من قدرة الله وهي :
الأول : خلق السموات .
الثاني : خلق الأرض .
الثالث : خلق الليل .
الرابع : خلق النهار .
الخامس : الجمع بين هذه المخلوقات.
السادس : استدامة وجود هذه المخلوقات مجتمعة ومتفرقة إذ تحتاج الإستدامة والبقاء كل دقيقة وهو الله عز وجل وحده هو القادر على هذه الإستدامة.
السابع : الضبط والإنضباط في كل عالم من هذه المخلوقات .
الثامن : النظام العام الجامع للسموات والأرض وتعاقب الليل والنهار بمشيئة من الله حاضرة في كل زمان ، قال تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( )، ولم يرد لفظ (تدرك) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
لقد أخبرت آية البحث عن مخلوقات عظيمة لله عز وجل ظاهرة للحواس يدركها الكبير والصغير ، والذكر والأنثى ، حتى الأعمى والأصم.
وهو خلق السموات والأرض والليل والنهار لخصوص اتعاظ أصحاب العقول الذين يحرصون على التدبر في الخلق واستقراء المسائل منه بما يفيد الهداية والإيمان الجواب لا ، لعموم رحمة الله عز وجل بالخلائق .
وفي وصف أولي الألباب الذين ذكرتهم آية البحث قال تعالى [فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
و(عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الله بن مسعود : إن الكتب كان تنزل من السماء ، من باب واحد ، وأن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف ، حلال وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وضرب أمثال ، وآمر وزاجر ، فأحل حلاله ، وحرم حرامه ، واعمل بمحكمه ، وقف عند متشابهه ، واعتبر أمثاله ، فإن كلا من عند الله وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ( ).
المسألة السادسة : من معاني الصلة بين أول آية البحث وآية السياق إنحصار خلق وملك السموات والأرض بالله عز وجل لبيان إحاطة كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث ، وفضل الله على الناس برزقهم العقل سلاحاً للتدبر ، ووسيلة للتبصر بحالهم وما حولهم ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) لذا أختتمت آية البحث بأن في خلق السموات والأرض وملكية الله عز وجل لهما آيات وبراهين لأرباب العقول .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات نسية العموم والخصوص من وجه بين آيتين متعاقبتين ، فمادة الإلتقاء [السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] وإنفراد الله سبحانه بخلقهما وملكيتهما.
ومادة الإفتراق إخبار آية السياق بأن الله عز وجل على كل شئ قدير.
أما آية البحث فبينت خلق الله عز وجل لليل والنهار واختلافهما لبيان أن الإعجاز في خلق الله لا يختص بالمادة والأجسام ،إنما يشمل العروض والهيئات ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]( ).
المسألة السابعة : لقد أخبرت آية البحث بأن خلق السموات والأرض آيات للذين يتخذون من عقولهم وسيلة للإستنتاج والإستقراء بالبرهان اللمي من العلة إلى المعلول ، والبرهان الإني من المعلول إلى العلة ، وإدراك أن خلق ووجود السموات والأرض شاهد على الربوبية المطلقة لله عز وجل .
بينما أخبرت الآية السابقة عن ملك الله للسموات والأرض فهل هو آيات لأولى الألباب ، الجواب نعم.
والملكية ظاهرة للحواس ، وهي أيضاً من المدركات العقلية ومادة للإمتحان والإبتلاء ليكون من وجوه تقدير آية البحث:
الأول : إن في خلق ووجود السموات والأرض لآيات.
الثاني : ان في استدامة السموات والأرض لآيات.
الثالث : إن في النعم التي في السموات والأرض لآيات.
الرابع : إن في التفكر بخلق السموات والأرض آيات لأولي الألباب لبيان أن ذات التفكر بالخلق من بديع صنع الله ، وهل هو من غايات خلق السموات والأرض ، المختار نعم.
وهل من غايات خلق الناس جعلهم يتفكرون في خلق السموات والأرض ، الجواب نعم .
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إني جاعل في الأرض خليفة ليتفكر في خلق السموات والأرض.
لبيان قانون وهو خلق السموات والأرض تقريب للعبد إلى منازل الهداية ولطف من الله سبحانه لأداء الناس الوظائف العبادية.
المسألة الثامنة : أختتمت آية السياق بقانون قدرة الله عز وجل على كل شئ من الموجود والمعدوم ، والإحياء والإماتة وهل منها إمكان خلق السموات والأرض مثل الموجودة الآن أو أكبر أو أصغر في السموات والأرض الجواب نعم ، قال تعالى [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]( ).
لبيان أن وجود السموات والأرض يستلزم الحفظ ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
ولم تكتف آية البحث بقانون خلق السموات والأرض إنما ذكرت خلق الليل وخلق النهار ، والإختلاف بينهما ودلالة هذا الإختلاف على الوجود ، وهل المراد في الآية الإختلاف مطلقاً على نحو العموم المجموعي أم تشير الآية إلى خلق الإختلاف بينهما في كل يوم وليلة ، الجواب هو الثاني.
وجاءت الآية قبل السابقة وهو قوله تعالى [لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) بصيغة الجملة الإنشائية ، والخطاب المتكرر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [لاَ تَحْسَبَنَّ].
لقد ذكرت آية البحث خلق الله عز وجل لكل من السموات والأرض ، وفيه دعوة للناس للهداية والإيمان ، فمن معاني خلق السموات والأرض قبل آدم استقبال الإنسان حياته في الدنيا بالشكر لله عز وجل على نعمة الخلق هذه ، والإنتفاع العظيم منها .
وجاءت آية السياق لذم الذين كفروا لصدودهم عن آيات خلق السموات والأرض واختيارهم اتباع الهوى ، ونقض العهد مع علمهم بأن الله له ملك السموات والأرض ، وهذا العلم من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
ومن دلالات آية البحث واخبارها عن خلق الله عز وجل للسموات والأرض لزوم طاعة الناس لله عز وجل واتباع الرسل ، ولا يحبون أن يحمدوا إلا بما هو خير وعمل صالح.
وتبين آية السياق خصلة عند الإنسان ، وهي حبه لتلقي الحمد والثناء ، وعدم ظهور هذا الحب والميل عند طائفة من الناس لا يعني ضعفه أو انعدامه عندهم .
فجاءت آية السياق حرباً على الرياء والنفاق ، ومنعاً للغواية والخداع والتزلف إلى الرؤساء بغير حق ، وأخبرت عن العذاب الأليم لمن يحبون أن يحمدوا ويشار لهم بالإيمان وهم بعيدون عنه ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ]( ).
المسألة التاسعة : لقد أخبرت الآية السابقة عن ملك الله عز وجل لما في السموات والأرض وهو سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، قبل أفراد الزمان واثناءها وبعدها ، ومنه خلق السموات والأرض لبيان دلالة خاتمة الآية [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، على أمور :
الأول : خلق السموات والأرض .
الثاني : خلق الإنسان .
الثالث : تعاقب أجيال الناس بالكيفية التي يريدها الله وحسب مشيئته لبيان موضوعية العبادة والتقوى في استدامة الحياة ، ونزول البركات ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا]( ).
الرابع : استدامة وجود السموات والأرض .
ففي كل لحظة تحتاج السماوات والأرض في وجودها لمشيئة وقدرة الله عز وجل ، ولا يستطيع غيره جعلها قائمة بحالها وهو من أسرار التوحيد في الأرض ، فمن الآيات أن كل آية كونية مظهر من مظاهر التوحيد ، ودعوة له.
قراءة في تفسير الآية السابقة
لقد صدر الجزء السادس والعشرون بعد المائتين من هذا السِفر في (304) صفحة خاصاً بتفسير آية واحدة وهو قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ثم تعقب هذا الجزء كل من :
 الجزء السابع والعشرون بعد المائتين : وهو بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
 الجزء الثامن والعشرون بعد المائتين : وهو خاص بإحصاء قوانين الأجزاء 187-225 .
 الجزء التاسع والعشرون بعد المائتين : وهو بقانون(لم يغز النبي ص أحدا).
 الجزء الثلاثون بعد المائتين : وهو بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
 الجزء الواحد والثلاثون : وهو بقانون (آيات الدفاع سلام دائم).
 الجزء الثاني والثلاثون بعد المائتين : وهو بقانون (آيات الدفاع سلام دائم) .
 الجزء الثالث والثلاثون بعد المائتين : وهو بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
وابتدأ الجزء بمقدمة تتألف من أربع عشرة صفحة ، تتضمن الحمد والشكر لله عز وجل على النعم التي تفضل بها ، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى وبيان ظلم كفار قريش لأنفسهم في معركة بدر.
فمن معاني آية البحث وملكية الله المطلقة للسموات والأرض ، وقدرته على كل شئ نصرته لرسوله الكريم نصرة ظاهرة بالأسباب والمعجزة والدلائل التي تشهد له في ميدان المعركة بأنه رسول من عند الله ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
لقد كانت الآية السابقة دعوة للناس من جهات :
الأولى : دعوة الناس للإيمان ، فملك الله عز وجل للأكوان والخلائق ملك قدرة وتصرف تام ومشيئة مطلقة ، وهو سبحانه الذي خلق الناس جميعاً.
وأمرهم بعبادته مع تفضله ببيان سنخية وكيفية العبادة بواسطة الأنبياء والكتب السماوية النازلة ، قال تعالى [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا]( ).
الثانية : البشارة للذين آمنوا بالله ، وتنزهوا عن الشرك ومفاهيم الضلالة والجحود بأن الله عز وجل ينعم عليهم من ملكه اللامتناهي ، وتأتي النعم بقدرته ، لذا ورد في التنزيل قوله تعالى [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
وقال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( )، وكما ذكرت آية البحث السموات ونسبت خلقها إلى الله عز وجل ، فقد ذكرها الله في باب الرزق وأنه يأتي من السماء مثلما يأتي من الأرض ، قال تعالى [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ]( ).
الثالثة : الإنذار من محاربة الأنبياء ، والسعي في الحيلولة بينهم وبين الناس فما دامت السموات والأرض ملكاً لله عز وجل فلابد من التخلية بين الأنبياء والناس جميعاً في الدعوة إلى الله في ملكه وسلطانه سبحانه .
ومن يجعل المعوقات دون الدعوة إلى الله ، يبتلى في الدنيا ومن يؤذي المؤمنين يلقى العذاب الأليم في الآخرة.
و(عن ابن أبي مليكة قال : جاء رجل من أهل الشام ، فسب علياً عليه السلام عند ابن عباس ، فحصبه ابن عباس وقال : يا عدوّ الله آذيت رسول الله { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة }( ) لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حياً لآذيته) ( ).
وبعد الإعراب واللغة في الجزء (226) والخاص بالآية (189) من سورة آل عمران جاء باب الفرق بين العطف والإستئناف إذ أن المختار في هذا التقسيم أمر مستحدث في اللغة ببيان قسيم ثالث لهما في القرآن ، إذ يكون الحرف الواو على أقسام:
الأول : حرف عطف .
الثاني : حرف استئناف .
الثالث : حرف عطف واستئناف .
وقد يأتي حرف الواو في القرآن للعطف وحده ، أو للإستئناف وحده ، وقد يأتي جامعاً لهما بحسب مضمون الآية القرآنية وتفسيرها ، خاصة مع تعدد معاني الحرف والكلمة والآية القرآنية لقانون وهو الحرف القرآني أعم من الصناعة النحوية التي لم توجه وتنمو تدريجياً إلا بعد نزول القرآن.
وحكى الزمخشري قال (أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة ، فقال له رجل : من المتوفي – بكسر الفاء ، فقال الله تعالى . وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي عليه السلام أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو)( ).
قال السيوطي (كان أول من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلي، وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وكان أعلم الناس بكلام العرب؛ وزعموا أنه كان يجيب في كل اللغة)( ).
وبعده جاء مبحث : العطف الموضوعي.
ثم باب (في سياق الآيات) وتضمن صلة آية البحث بآيتين :
الأولى : الآية السابقة لها وهو قوله [لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) في (86) صفحة ، وكلها تحقيق واستنباط للقوانين والمسائل من الجمع بين الآيتين ومنه قراءة [لاَ تَحْسَبَنَّ] والتخفيف في آية السياق وقانون الإستغناء( ) مع اثنتي عشرة مسألة بخصوص الصلة بين الآيتين ، مع تفرعات عديدة في أغلب هذه المسائل .
الثانية : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة لها ، وهو قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] ( ) .
وتبدأ من ص 101 إلى ص 170 من الجزء (226) في كنوز مستقرأة من الصلة بين الآيتين ، وهو غير العلوم المستنبطة من كل آية منهما على نحو الإستقلال.
واكتفيت بالصلة بين آية البحث وآيتين سابقتين ، ثم ذكرت الأبواب الثابتة في تفسير كل آية كما مبين في فهرست الجزء (226) من هذا السِفر مع بيان وتفصيل لقوانين متعددة منها :
الأول : قانون إحصاء الميثاق في القرآن .
الثاني : قانون تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعدد كل من البشارة والإنذار.
الثالث : قانون التلاوة عمل صالح .
الرابع : قانون الحاجة المستديمة للآية القرآنية .
الخامس: قانون الإيمان والتقوى مدد .
السادس : قانون التعاضد بين آيات القرآن .
السابع : علم الدراية وبشارات النبوة .
الثامن : قانون النعمة الفردية .
التاسع : الجمع بين الخلق والملك والقدرة .
العاشر : قانون الآية ثناء على الله .
مسائل في الجمع بين الآيتين
لقد تضمنت آية البحث والسياق مع قلة كلمات كل منهما قوانين ومسائل إعجازية حاضرة في حياة الناس والخلائق في كل دقيقة من أفراد الزمان من وجوه :
الأول : قانون الجوار بين آية الملك والخلق المطلق ، وتخلف المشركين عن إنكار مضامين أي منهما.
الثاني : قانون لزوم الشكر لله عز وجل على بديع صنعه في خلق السموات والأرض ، وفي حفظهما وتعاهدهما.
الثالث : بيان كل من الآيتين أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأحسن ، إذ قطعت آية السياق بان ملك الله للسموات والأرض لله وحده ثم أخبرت عن كونه سبحانه على كل شئ قدير.
وفيه بشارة الزيادة في الملك وانتفاع الناس منه ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، وذكرت آية البحث خلق الله عز وجل للسموات والأرض ، وخلقه لليل والنهار ، ودلالة هذا الخلق على فضل الله عز وجل بجعل حياة الناس بهيجة ووفق أنظمة كونية تنفذ إلى حياتهم اليومية.
الرابع : ذكر كل من خلق وملك السموات لله بعث للناس للدعاء ، وسؤال المسألة والحاجة من عند الله عز وجل ، فهو سبحانه يهب من ملكه من غير استئذان من غيره ، لبيان سريان قوانين انتفاء الشريك في المشيئة والهبات والرزق الكريم والعفو من عند الله عز وجل ، وهو من معاني الأسماء الحسنى ، ومنها المالك ، الملك ، الرزاق ، العفو ، العزيز ، وغيرها.
الخامس : قانون الرضا بقضاء الله ، فهو الحكيم الذي جعل الناس عبيداً في ملكه ، لا يقدرون على الخروج عن مشيئته ، وليس في الوجود إلا هو ملك له سبحانه ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
السادس : الترغيب بالتدبر في مخلوقات الله ، والذي يؤدي إلى التسليم ببديع صنعها ، والعجز عن إحصائها.
السابع : قانون الثناء على الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار.
الثامن : سعة خزائن السموات والأرض ، واستحالة حدوث النقص فيها ، وهو الذي يتجلى في كل زمان بأمرين :
الأول : قانون المكتشف من النعم في الأرض أكثر من الذي استخرج منها .
الثاني : قانون الكنوز التي لم تكتشف أكثر من التي اكتشفت وفي التنزيل [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ]( ) وهل هذا القانون مصاحب للحياة الدنيا ، أم أنه ينقطع قبيل الساعة ، المختار هو الأول .

تقديم آية الملك
ترى لماذا تقدمت آية الملك في سورة آل عمران على آية الخلق، إذ أخبرت الآية السابقة عن كون السموات والأرض ملكاً لله عز وجل بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ( )، ثم بينت آية البحث خلق السموات والأرض .
والجواب من وجوه :
الأول : لم ينحصر موضوع الآية السابقة بالملك إنما تتضمن الإطلاق في قدرة الله فهو سبحانه على كل شئ قدير .
الثاني : إرادة الصلة بين الآية السابقة وما سبقها من الآيات ، والتي تتضمن ذم الذين كفروا والوعيد بالعذاب الأليم لمن يغادر الدنيا على الكفر.
الثالث : ورد اسم الجلالة في الآية السابقة مرتين ، ولم يرد في آية البحث ، ليكون من معاني تعضيدها لآية البحث أن ملك الله عز وجل للسموات والأرض متفرع عن خلقه لها ، ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : إن في خلق الله السموات وتعددها .
الثاني : إن في خلق الله الأرض .
الثالث : إن في خلق الله الليل .
الرابع: إن في خلق الله النهار .
الخامس : إن في إختلاف الليل والنهار بقدرة الله .
السادس : لآيات من الله لأولي الإلباب .
قانون ملك الله نعمة
دلالة الجمع بين أول الآيتين على انحصار خلق وملك السموات والأرض بالله عز وجل وحده فهو سبحانه الخالق والمالك والبارئ والمصور والمبدع لها.
وتقدير الجمع بين الآيتين : إن في خلق وملك السموات والأرض لآيات لأولي الألباب ، ومن صيغة الجمع في المقام مسائل:
الأولى : خلق كل سماء آيات من عند الله عز وجل.
الثانية : خلق الأرض آيات من عند الله عز وجل.
الثالثة : ملك الله لكل سماء آيات من عند الله عز وجل فلا تقدر الخلائق وإن إجتمعت على كل جزء صغير من السموات.
الرابعة : الجمع بين الخلق والملك للسموات والأرض آيات من عند الله عز وجل .
الخامسة : يتصف ملك الله للسموات والأرض بأمور :
الأول : إنه ملك خلق وتكوين .
الثاني : ملك تصرف مطلق ، وفيه شهادة كونية يومية متجددة على إنعدام الشرك ، وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]( ).
الثالث : ملك الله للخلائق رحمة عامة بها ، وسيادة للنظام والضبط فيها ، قال تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( ).
الرابع : ينفرد الله عز وجل بكون ملكيته للخلائق ملك علم بها ، فمع أن ملك الناس للأشياء متزلزل ومنحسر ومنقطع فانهم لايستطيعون الإحاطة علماً بما يملكون ، وليس عندهم قدرة على الإحتفاظ بالأموال أو العقارات أو العروض التي لهم إذ تأتيهم النوائب وضروب الإبتلاء ، وقد يميلون لترك هذه الملكية بالبيع والهبة ، أو تعرض العين للتلف والتهالك أو الضياع والسرقة ، وحتى مع الإحتفاظ بها فانهم يغادرونها طوعاً وقهراً بالموت.
لذا نزلت آيات الفرائض والميراث وعلى نحو التفصيل ، وتعدد طبقات الورثة الأولى ، والثانية ، والثالثة ، ليدرك الإنسان أن لا سبيل إلى الحفاظ على ملكه .
وقد يرثه البعيد عنه مما يملي عليه الإنفاق في سبيل الله باخراج الزكاة والحقوق الشرعية ، وإعانة الفقراء ، والوصية بالبر بما لا يزيد على الثلث.
وهؤلاء الورثة لابد وأن يتركوا الميراث والملك لبيان أن المالك والمملوك هما ملك لله عز وجل في عائديتهما.
قانون التخويل المؤقت
لقد جعل الله عز وجل ملك الناس لبعض الموجودات متزلزلاً وغير ثابت وهو امتحان وتخويل ، قال تعالى [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ]( ).
ولم يرد لفظ (خولناكم) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
ولم تقل الآية (ملكناكم) إنما هو تخويل وتصرف إلى حين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وقد وردت مادة (خوّل) في موضع آخر من القرآن بقوله تعالى [فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ]( ).
لقد ورد لفظ (ملك السموات) تسع عشرة مرة في القرآن ، وتفيد كل واحدة منها أنها ملك لله عز وجل.
وقد ورد مرة واحدة في سورة البقرة ، وواحدة في آية السياق ، ولم يرد في سورة النساء .
وقد ورد في سورة المائدة أربع مرات ، منها خاتمة السورة [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وسورة المائدة من أواخر السور القرآنية التي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان حال التفقه التي صار عليها المسلمون وإنحسار مفاهيم الشرك في الجزيرة.
وهل فيه شاهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة ، الجواب نعم ، إذ تدعو آية الملكية المطلقة لله عز وجل الناس إلى الإيمان ، وتمنع من الإقتتال على حطام الدنيا.
واقترن ملك الأرض وملك السموات لله في كل هذه الآيات بعطف الأرض على السموات ، ووردت آية منها بالإحتجاج الصريح على الذين كفروا [أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ]( ).
ومن لطف الله عز وجل دعوته الناس للإيمان والسلم والتعايش المجتمعي بحصر الملكية المطلقة لله سبحانه ، وهو يبعث الأنبياء والرسل فهو المالك المتصرف في الأكوان ، وهو الذي يتعاهدها ويحفظها ، ويمنع العبث فيها سواء من الإنس أو الجن أو غيرهم.
لذا تتضمن خاتمة الآية السابقة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، الوعيد للذين كفروا ، وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( )، وفيه دعوة للناس للشكر لله عز وجل على نعمة خلق السموات ، ثم خلقهم وجعل معايشهم وأضعافاً فيها ، لتكون هذه الأضعاف مناسبة ووسيلة للتراحم بينهم ، وترك الإقتتال ، وإجتناب الإرهاب ، خاصة وأن الآية السابقة أخبرت عن الملك كله لله عز وجل ، وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة لقوله [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
قانون نبذ الحروب في ملك الله
لقد ذكرت آية السياق وهي الآية السابقة أموراً :
الأول : عائدية ملك السماوات كلها لله عز وجل .
وهل تشمل الملكية ما في السماوات وما بينها كما بين السماء الأولى والثانية، والثانية ، والثالثة ، الجواب نعم ، وهي من ضمن لفظ السموات لغة وحكماً .
الثاني : الله عز وجل مالك الأرض كلها للدلالة على أن ملك الناس لبقع وقطع صغيرة من الأرض هو ملك تصرف محدود بالفعل والزمان ، إذ يقهر الله عز وجل العباد بالموت ومغادرة الأرض لتبقى خالصة في ملكيتها لله عز وجل ، وفيه دعوة للحكومات لنبذ القتال والحروب بينها ، ولو تصفحت التأريخ لوجدت أكثر حروب أهل الأرض على الملك والإستيلاء على المدن والقرى .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) مخاطبة الملائكة لله عز وجل بأن الأرض ملك لله سبحانه مثلما هي السماء ، وإذ لم تقع حروب وإقتتال في السماء ، وليس للملائكة في جزء منها مطمع فاجعل أهل الأرض كالملائكة لا يطمعون في ملكية الأرض ، ولا يتخذون منها سبباً للإقتتال بينهم ، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لبيان استدامة ملكية الله عز وجل للأرض قبل هبوط آدم وحواء إليها وبعده .
ويدل قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ..] ( ) على قبح القتال على الأرض ،وهل هذا القبح ولحوق الأثم عام أم أنه يختص بالمعتدي والظالم .
الجواب هو الثاني ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) لا تعتدوا في ملك الله إن الله لا يحب المعتدين في ملكه .
ومن عدم حب الله للظالمين لأنفسهم وغيرهم بقاء ذات الملكية خالصة لله عز وجل ، ووقوف المعتدين للحساب ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إخبار الآية السابقة عن عائدية وملكية السموات السبع والأرض كلها لله عز وجل وحده لا يشاركه في ملكه أحد ليكون في هذا الإخبار دعوة للناس والحكام خاصة للإمتناع عن الإقتتال .
ومن خصائص تلاوة المسلمين لآيات القرآن كل يوم في مشارق الأرض ومغاربها مناداة القرآن للناس لنبذ الإقتتال والحروب والطمع في ملك الله ، لأن هذا الطمع سراب ووهم ، فاطماع الناس لا تغير من قوانين الإرادة التكوينية ، وأن ملك السموات والأرض لله عز وجل وحده ، وهو سبحانه جعلها محلاً لعبادته وذكره .
خصائص ملك الله
من بديع صنع الله جعل الخلائق عاجزة عن إحصاء صنعه ومخلوقاته سعة وعدداً ، وهذا العجز ليس من باب الصرفة أي صرف الخلائق عن هذا الإحصاء إنما لا تستطيع الخلائق وإن إجتمعت على بلوغ هذا الإحصاء ، وقد تجلى بآية من بديع صنعه ، وهي نزول القرآن ، قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ) .
وهل تتضمن هذه الآية الدعوة إلى التفسير بالجمع الذي ذكرته في الجزء السابق( ) الجواب نعم .
ومن خصائص ملك الله عز وجل وجوه :
الأول : قانون لا يحيط بملك الله علماً إلا هو سبحانه ، وقد ذكرت الآية السابقة ملك السموات والأرض، وتحتمل النسبة بينهما جهات :
الأولى : ملك السموات أكثر من ملك الأرض كماً وكيفاً وسعة.
الثانية : التساوي بين ملك السموات وملك الأرض في الكم والمقدار والسعة .
الثالثة : ملك الأرض أكثر من ملك السموات .
والصحيح هي الجهة الأولى ، وهو الذي يتجلى للناس في كل زمان من أيام أبينا آدم عليه السلام ،وأظهرته بوضوح العلوم الحديثة ، ودراسات الفلك المرئية .
الثاني : هناك من المجرات التي تتألف من النجوم والكواكب ما هي أكبر من الأرض آلاف المرات ، والسماء أكبر من الكواكب والنجوم ، بل السماء الدنيا وحدها أكبر منها كما ورد في قوله تعالى [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ]( ).
الثالث : من بديع ملك الله عز وجل أنه ليس جامداً لا في الأكوان ولا في الصغائر ، إذ أن السماء في إتساع متصل ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )وقال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]( ).
الرابع : السماء تحيط بالأرض بآفاق وفضاء لا يعلمه إلا الله عز وجل ، والمحيط أكبر من المحاط ، وكل منهما حاضر بجزئياته كل آن عند الله عز وجل .
ومن إعجاز الآية في المقام تقديم ذكر السموات على الأرض ، وورد لفظ [السَّمَوَاتِ] بصيغة الجمع بينما ذكرت الأرض بصيغة الإفراد .
التقدير في الآية السابقة
قد اختص الجزء السادس والعشرون بعد المائتين من هذا السِفر بتفسير قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ومن معاني الآية السابقة هذه وفق التفسير بالتقدير وجوه :
الأول : ولله ملك السموات والأرض فاعبدوه .
الثاني : ولله ملك السموات والأرض .
الثالث : ولله وحده ملك السموات والأرض.
الرابع : ولله ملك السموات والأرض فاسألوه من فضله.
الخامس : ولله ملك السموات والأرض [فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، في ملكه .
السادس : ولله ملك السموات والأرض فجعلكم [خُلَفَاءَ الأَرْضِ]( ).
السابع : يا أيها الناس اعلموا بقانون لله ملك السموات والأرض.
الثامن : لله ملك السموات والأرض قبل أن يخلق آدم وإلى يوم القيامة.
التاسع : لله ملك السموات الذي يطوى يوم القيامة [السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).
العاشر : لله ملك السموات والأرض وهو الذي خلقها.
الحادي عشر : ولله ملك السموات والأرض ، وما خلقها [وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً]( ).
الثاني عشر : ولله ملك السموات والأرض فينزل الغيث من السماء لتخرج الأرض بركاتها .
فمن خصائص إخبار القرآن عن إجتماع السموات والأرض في ملكية الله عز وجل لها تداخلها واشتراكها في توالي النعم على الناس لتكون هذه النعم على جهات :
الأولى : النعم التي تأتي من الأرض وتستخرج من باطنها كالذهب والنفط والغاز والفحم وغيرها.
الثانية : النعم التي تنزل من السماء ، والتي تكون في السماء فيسعى الإنسان للإنتفاع منها كما في غزو الإنسان للفضاء في هذا الزمان.
الثالث : النعم التي تشترك السماء والأرض في تحقيقها للإنسان ومنها الزراعة بنزول الغيث ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالث عشر : والله هو القادر والمقتدر .
الرابع عشر : الله هو المحيي والمميت.
الخامس عشر : الله قادر على الإيجاد من العدم ، وإعدام الموجود.
السادس عشر : والله على كل شئ قدير بشارة وإنذار ، بشارة للمؤمنين ، وإنذار للذين كفروا.
السابع عشر : والله على كل شئ قدير في الدنيا والآخرة.
الثامن عشر : ينفرد الله عز وجل وحده بأنه على كل شئ قدير.
التاسع عشر : والله على كل شئ قدير ، فكل شئ محتاج إليه.
الوجه الثاني ( ): صلة آية البحث بالآية التالية وهو قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : وردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وابتدأت بالإخبار عن خلق السموات والأرض ، ولم تذكر الآية أن الله هو الذي خلقها للتسالم بين الخلائق بأن الله هو الذي خلقها ووردت آيات عديدة بذات المعنى ، وفيه مسائل :
الأولى : الله عز وجل بديع خلق السموات والأرض .
الثانية : إقرار الناس جميعاً ومع أدنى تفكر لقانون لا يقدر على خلق السموات والأرض إلا الله عز وجل بالإستدلال بالبرهان الإني من المعلول إلى العلة الفاعلية في خلق السموات والأرض بمشيئة الله.
الثالثة : من بديع النص القرآني نسبة خلق السموات والأرض إلى الذات المقدسة إذ يخبر الله عز وجل أنه نفسه الذي خلقها كلها وبيّنه في آيات منها [إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
ويحتمل ذكر مدة الخلق هذه بستة أيام وجوهاً :
الأول : إنها مستقلة عن قوله تعالى [إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثاني : ذات الستة أيام من مصاديق الآية أعلاه ، والكاف والنون.
الثالث : إنها من الشواهد والدلائل على الآية أعلاه ، ولكن خلق السموات والأرض لم يكن دفعة واحدة إنما الدفعة لكل جزء من سماء أو سماء كاملة.
فمرة تأتي المشيئة من الله بخلق السماء الدنيا وأخرى بخلق الشمس والقمر ، وأخرى الأرض والجبال والبحار أو بعضها وهكذا.
والصحيح الأخير فلا تعارض بين الخلق بالكاف والنون ، وبين ذكر الأيام الستة.
المسألة الثانية : أختتمت آية البحث بذكر أولي الألباب ، وجاءت الآية التالية ببيان وصفهم ، والعلامات التي يتحلون بها من وجوه :
الأول : ذكر أولي الألباب لله عز وجل ، وهذا الذكر أقدس ما في الأرض ، ويأتي معه الرزق والنماء والأمن والسلم.
الثاني : الإقامة والمواظبة على ذكر الله في حال الرخاء والشدة ، والقيام والقعود.
الثالث : أداء الصلاة اليومية في حال الصحة والسقم ، والأمن والخوف.
و(عن عمران بن حصين قال : كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة ، فقال : صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب)( ).
الرابع : تفكر وتدبر أرباب العقول السليمة التي لم يغلب عليها الهوى والنفس الشهوية في خلق السموات وخلق الأرض.
وجاءت آية السياق بصيغة المضارع (ويتفكرون) لبيان تجدد وإتصال هذا التفكر ، ولو دار الأمر بين انقطاعه عند المؤمن أو استدامته طيلة أيام حياته .
فالصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق ، وهل يختص التفكر بالتأمل أم أنه موضوع تحقيق وتدبر ومناجاة فيما بينهم ، وجدال مع الذي كفروا الجواب هو الثاني ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الخامس : لقد أخبرت آية البحث عن خلق السموات والأرض ثم تعقبتها آية السياق لبيان انتفاع الناس من هذا الإخبار لقانون تعدد المنافع العامة والخاصة من الآية القرآنية .
فالتفكر بخلق السموات والأرض وعظمتها ، وعجز الخلائق عن درك كنهها ليس مستقلاً إنما هو طريق للثناء على الله والإقرار بربوبيته المطلقة.
ولما ابتدأ القرآن بقول [بسم الله الرحمن الرحيم] ( )، فمن رحمة الله بالناس بيانه لبديع صنعه لما فيه من تقريبهم لمنازل الإيمان .
لتتجلى منافع هذا التقريب بوجود أمة في كل زمن تتعاهد ذكر الله ، وأداء الفرائض العبادية مع تنزيه مقام الربوبية واستنتاج قانون وهو وجود علة وأسباب وغايات حميدة لخلق الله عز وجل للسموات والأرض ، ولأنهم أضعف وأعجز من سبر كنه هذه العلل والغايات وكثرتها يعلنون اللجوء إلى الله سبحانه ، وأنه لم يخلق الخلق إلا لحكمة ، وقال تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ]( ).
المسألة الثالثة : من مصاديق الجمع بين الآيتين بيان فضل الله سبحانه في جعل خلق السموات والأرض سبباً للهداية والإيمان.
وقانون خلق السموات والأرض مدد لأهل الأرض للإيمان مثلما هو مدد للأنبياء في دعوتهم إلى الله عز وجل فيأتي النبي بالمعجزة ، وتعضد بمعجزات كونية غير متناهية.
بل ذات الآيات والمعجزات تعمل على نحو مستقل لجذب الناس للهداية ومنهم الذين لم تصلهم دعوة الأنبياء والمستضعفون .
وهل ذات الآية من اللطف الإلهي العام بالناس تقريبهم إلى منازل الإيمان ، الجواب نعم .
المسألة الرابعة : من الإعجاز في نظم الآيات عدم إنحصار موضوع الآية التالية بخصوص خصال [أُولِي الأَلْبَابِ] الذين أختتمت آية البحث بذكرهم انما تكرر فيها ذكر [السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]، وفيه وجوه :
الأول : تأكيد عظمة خلق السموات والأرض.
الثاني : لزوم إتخاذ الناس خلق السموات والأرض طريقاً للهداية.
الثالث : الإقرار العام بأن خلق السموات والأرض لغايات حميدة تعجز العقول عن إدراكها ، فتلجأ إلى التسليم بها فيقول المؤمنون [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً]( ).
الرابع : بيان قانون إتخاذ المؤمنين الثناء على الله وسيلة للأمن من عذاب النار .
وهل هذا الدعاء من علل خلق السموات والأرض أم أنه مترشح عنها ، الجواب إنه منهما معاً من غير تعارض بينهما.
وهل تتفكر الملائكة أيضاً في خلق السموات والأرض ، الجواب نعم مع التسبيح والتهليل والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وكل فرد من الملائكة مؤمن منقطع إلى الذكر والتسبيح.
وجعلهم خلق السموات والأرض مبهورين ببديع صنع الله ، ولا يعرفون التقصير في الذكر والصلاة والتسبيح.
بينما الناس فيهم المؤمن ، والكافر ، لأن الدنيا دار امتحان وإختبار .
وجاء المدد للناس بأسباب غير متناهية للهداية والرشاد ، ومنها خلق السموات والأرض ، والنبوة والتنزيل .
المسألة الخامسة : من إعجاز القرآن ذكر صفات حميدة للمؤمنين وتفضل الله باصلاحهم لتعاهدها ، ويرّغب الناس فيها ، ومنها ما يختص بأمة محمد ، ومنها عامة تشمل المؤمنين من الأمم السابقة .
ومنها آية البحث والسياق ، فذكرت آية البحث أولي الألباب وتدل بقرينة ذكرها لخلق السموات والأرض على إرادة أرباب العقول السليمة في كل زمان من أيام أبينا آدم.
وذكرت آية السياق خصالاً حميدة لأولي الألباب تتقوم بذكرهم المتجدد لله عز وجل ، وتسبيحهم المستديم سواء اثناء الصلاة أو خارجها .
وهل تلاوة القرآن من مصاديق التفكر في خلق السموات والأرض ، الجواب القدر المتيقن من التفكر هو التدبر وإعمال العقل ، نعم تلاوة القرآن باعث على هذا التفكر واقترانه بالتصديق.
ويدل ذكر آية البحث [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] بصيغة الماضي ، وقوله تعالى [يَتَفَكَّرُونَ] في آية السياق على سبق خلق السموات والأرض لخلق الإنسان واستدامة وتجدد هذا التفكر ، وهل آدم وحواء ممن كانوا يتفكرون في خلق السموات والأرض ، الجواب نعم ، خاصة وأنهما أقاما برهة من الزمن في السماء.
وبقيت معالم الجنة حاضرة في الوجود الذهني لكل منهما بعد الهبوط ، وكانت تركة عظيمة منهما لابنائهما واحفادهما ، ونزلت الكتب السماوية ببيان خلقها ، ونسبته إلى الله ،وهو قهر لإبليس ، وهل بقيت الأجيال تتوارث أخبار آدم وحواء عن الجنة ومكانها ، المختار نعم.
وجاءت الكتب السماوية لتثبيت هذه الأخبار وجعلها سبباً للهداية ، ومنع الإفتراء والزيادة والنقيصة فيها.
ومن إعجاز القرآن أنه كما يدعو للتفكر في خلق السموات والأرض فانه يدعو للتفكر في خلق الإنسان نفسه وتصويره وهيئته ورزقه ، وصحته وسقمه ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) ( ).
المسألة السادسة : من خصائص القرآن أنه مدرسة الفقاهة والإرتقاء في العلوم ، وتمنع آياته الجهالة والغرر وتطرد الغفلة ، فبعد أن أختتمت آية البحث بذكر [أُولِي الأَلْبَابِ] أي الذين يتخذون العقل وسيلة ومنهاجاً في أمور الدين والدنيا ذكرت آية السياق صفاتهم بما يدل على الملازمة بين العقل والإيمان ، وأن العقل يقود الإنسان وجوارحه إلى التفكر في الخلائق والثناء على الله عز وجل على بديع خلقه بمناجاته ودعائه وطاعته ، ومن معاني ذكر اختلاف وتعاقب الليل والنهار في آية البحث دعوة المؤمنين للعبادة وذكر الله في ساعات الليل والنهار .
لقد ذكرت آية البحث أمرين :
الأول : خلق السموات والأرض .
الثاني : اختلاف الليل والنهار .
أما آية السياق فقد ذكرت تفكر أصحاب العقول في خلق السموات والأرض وحده ، فهل يتفكرون أيضاً في آيات اختلاف الليل والنهار ، الجواب نعم ، إنما ذكرت آية السياق الفرد الأهم ، وتقدير الآية : ويتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ، إذ يقع تفكرهم في ساعات الليل وساعات النهار ، ويدركون التباين بين هذه الأفراد الزمانية .
النسبة بين الخلق والتصوير
لقد ورد في الجزء الرابع والخمسين من هذا السِفر وفي تفسير قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( )، أن مشيئة الله حاضرة في تكوين كل جنين في مشارق ومغارب الأرض في ذات الدقيقة الواحدة .
وهو من دلالات ورود الآية أعلاه بصيغة المضارع [يُصَوِّرُكُمْ] لبيان التجدد والكثرة والتوالي في مشيئة الله عز وجل في الخلق .
ترى ما هي النسبة بين بديع الخلق في آية البحث وتصوير الله عز وجل للناس وهم أجنة في الأرحام ، الجواب إنها تحتمل وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن خلق السموات والأرض الأعم والأوسع .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بينهما .
الثالث : نسبة التباين والإختلاف .
والمختار هو الأول أعلاه ، فتصوير الناس في الأرحام من بديع خلق الله عز وجل للسموات والأرض وما فيهما ، قال تعالى[الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى] ( ) .
ولم يرد لفظ [اللَّمَمَ] ولفظ [أَجِنَّةٌ] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
كما ورد ما يدل على حضور المشيئة الإلهية في تكوين كل جنين بصيغة المضارع [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ..] ( ) لإرادة الحمل وهيئته ، والبطن والرحم والمشيمة .
وعن الإمام الحسين عليه السلام في دعائه يوم عرفة وهو التاسع من شهر ذي الحجة من كل سنة (ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا، وخلقتني من التراب، ثم أسكنتني الاصلاب، أمنا لريب المنون واختلاف الدهور، فلم أزل ظاعنا من صلب إلى رحم في تقادم الايام الماضية والقرون الخالية.
لم تخرجني لرأفتك بي ولطفك لي وإحسانك إلي في دولة أيام الكفرة الذين نقضوا عهدك، وكذبوا رسلك، لكنك أخرجتني رأفة منك وتحننا علي للذي سبق لي من الهدى الذي يسرتني وفيه أنشأتني.
ومن قبل ذلك رؤفت بي بجميل صنعك، وسوابغ نعمتك، فابتدعت خلقي من مني يمنى، ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث بين لحم وجلد ودم، لم تشهرني بخلقي، ولم تجعل إلي شيئا من أمري ثم أخرجتني إلى الدنيا تاما سويا.
وحفظتني في المهد طفلا صبيا، ورزقتني من الغذاء لبنا مريئا، وعطفت علي قلوب الحواضن، وكفلتني الامهات الرحائم، وكلاتني من طوارق الجان ، وسلمتني من الزيادة والنقصان، فتعاليت يا رحيم يا رحمن) ( ).
وتتضمن الآية في مفهومها النداء : يا أيها الناس ليس للعوالم من صانع إلا الله ، فليس من صانع آخر للأكوان أو شطر منها ، وقد احتج الأنبياء بالتوحيد في حضرة الجبارين فخاطب موسى عليه السلام فرعون ببراهين التوحيد ، وفي التنزيل [لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاَء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا]( ) وقال إبراهيم لنمرود [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ( ).
لقد أخبر الله عز وجل عن استحالة المتعدد في الآلهة ، ولم يعط الله عز وجل الإذن لبعض أشرف خلقه في خلق مخصوص ، وعدم الإذن هذا من مصاديق حكمة الله عز وجل ، وفي التنزيل [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ]( ).
وكان مشركو العرب يقرون بأن الله عز وجل خالق السموات والأرض ولكنهم يتخذون الأنداد والشركاء له سبحانه.
ومن الإعجاز في خلق الإنسان التبدل على نحو الموجبة أو السالبة الجزئية في صورته مع الحفاظ على ذات الصور التي جعلها الله له في الرحم ليكون هذا الحفظ من بديع صنع الله في خلق السموات والأرض.
قانون تصوير الخلائق
لقد ورد اسم [الْمُصَوِّرُ] مرة واحدة في القرآن بين عدة من الأسماء الحسنى في قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
فهل هو خاص بتصوير الناس على نحو الإجمال كما في قوله تعالى [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ] ( ) أو المعنى التفصيلي بتعيين الله عز وجل بمشيئته لهيئة وشكل وصورة الجنين ، وهو في رحم أمه كما في قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) .
أم أن اسم المصوّر شامل لكل الخلائق ومنها السماء والأرض وهيئتها وتزيينها ، وجعل كل فرد منها متميزاً عن غيره يدركه الناس بالحواس ، ويتخذون العقل وسيلة للتسليم بأنه من بديع صنع الله وخلقه ، وكذا بالنسبة لبدائع خلق الأرض ، وجعل البيت الحرام في أوسطها ، الجواب هو الثاني .
ولا يقدر على تصوير أي إنسان في رحم أمه ، ولا تصوير السموات ، والأرض ، والبحار ، والآبار ، والجبال وغيرها إلا الله عز وجل ،وتمت بحكمة الله عز وجل .
ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] إن في تصوير السموات والأرض.
وبما يكون مدداً للناس ، وعوناً لهم في العبادة والذكر ، وللتذكير بيوم الحساب وأن هيئة الجنة وسعة النعيم فيها ، وشدة العذاب في النار من مصاديق اسم الله [الْمُصَوِّرُ] وأن هذا التصوير بعزة وحكمة الله وإنفراده بالسلطان والقدرة المطلقة .
قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
و(عن ابن مسعود وناس من الصحابة [كهيعص]( )، هو الهجاء المقطع الكاف من الملك ، والهاء من الله ، والياء والعين من العزيز ، والصاد من المصوّر) ( ).
ومن معاني [الْمُصَوِّرُ] أن الله عز وجل أوجد صور وهيئة ولون الخلائق ببديع صنعه وقدرته ، وكل فرد منها دعوة للهدى والإقرار بالعبودية لله تعالى ، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ).
إعجاز الآية الذاتي
من إعجاز الآية القرآنية بيان القوانين الكونية والأحكام الشرعية بكلمات قليلة لتبقى غضة طرية في كل زمان وحجة ودعوة للسلم ونشر الأمن ، بالإقرار العام بالعبودية لله عز وجل.
وقد ذكرت في الجزء الرابع والخمسين من هذا السِفر وفي تفسير قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، (وهل تتناسب هيئة الإنسان والحيوان مع هيئة خلق السموات والأرض أم أن كلاً منها مستقل عن الآخر ، المختار هو الأول ).
وأضيف أن حسن هيئة الإنسان كما في قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، من عمومات خلق السموات والأرض ، ويتناسب أيضاً مع إختلاف الليل والنهار ، وهو من بديع صنع الله في التكامل في الخلق ، وإعانة الإنسان في قضاء حوائجه ، وتيسير أموره ، ودفع الحرج عنه ، وهو من مقدمات العبادة والتفرغ لها بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
والله وحده الذي يثيب ويعاقب ، قال تعالى [وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ]( ).
وتبين الآية أن الله له الحكمة التامة ، وهو ذو الفضل على الخلائق ، فلم يكن هناك خلق إلا وقد وجد ببديع قدرة الله وسلطانه .
وتبين الآية قانوناً وهو إذا أراد الله عز وجل شيئاً فانه يقع ويحدث للدلالة على اثبات التوحيد ، وبطلان الشرك ، ومنع الناس منه ، وهو من اللطف الإلهي ، ولتذكير الناس بقانون ما يعد الله عز وجل به واقع ، ومنه قيام الساعة وعالم الحساب.
وقد تكرر حرف اللام في كلمتين متعاقبتين من الآية [لآيَاتٍ لِأُولِي] والأولى المزحلقة وهي التي تدخل على الخبر للتوكيد أو تقوية المعنى ، ومنه [وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ]( ).
والثانية للسببية على المختار ، ولا يعني هذا أن خلق السموات والأرض بسبب كونها حجة وسبباً لهداية أصحاب العقول السليمة الخالية من الشك والريب إنما هو جزء وفضل من عند الله ، وتقريب للناس إلى الهدى والإيمان.
ومن إعجاز الآية جمعها ببضع كلمات بين خلق السموات والأرض والتباين في أوقات شكل النهار والليل وكيف أنها علامات للعقلاء على وجوب عبادة الله عز وجل ، واستحضار ذكره سراً وعلانية واستحضار الخشية منه ورجاء مرضاته في كل فعل وقول ، ويمكن تسمية الآية (إن في خلق).
ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين وفي ذات الموضوع ، لبيان موضوعية وشأن خلق السموات والأرض مع جمع اختلاف الليل والنهار معه ، إذ ورد في سورة البقرة [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]( ).

إعجاز الآية الغيري
من خصائص القرآن بيانه لبديع صنع الله ، ومخاطبة الناس بالمعجزات العقلية والحسية لترغيب الناس بالإيمان ، وإن تباينت مشاربهم واختلفت نسبة الذكاء عندهم.
فليس من إنسان إلا وتخبره السموات والأرض بأنها من خلق الله ، وتدعوه للإيمان ، وتدفعه عن مستنقع الكفر والضلالة ، ويمكن القول بأمور:
الأول : قانون خلق كل سماء دعوة للإيمان ، وواقية من الكفر.
الثاني : قانون خلق الأرض جذب للناس للإيمان ، وبيان لقانون وهو عيش الناس بنعمة خلق الأرض ، ومن الآيات خلقهم منها ، واليها يعودون بعد الموت ومنها يبعثون تارة أخرى.
وهل يدل قوله تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( )، على فشل تجارب إقامة الناس في الكواكب الأخرى لإخبار الآية على إعادة الناس عند الموت إلى الأرض بالدفن فيها دائماً إلى يوم القيامة ثم خروجهم عند البعث منها ، الجواب لا .
إنما إرادة الفرد الغالب ، بالإضافة إلى امكان نقل الإنسان وإن دفن في الكواكب الأخرى إلى الأرض بواسطة ملائكة نقالة.
و(عن عائشة أن بلالاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤذنه لصلاة الصبح فوجده يبكي فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟
قال: وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليّ هذه الليلة [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( )، ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر)( ).
وفيه دعوة نبوية للمسلمين والناس للإنتفاع الأمثل من الآية القرآنية ، وقراءتها في الصلاة والتدبر في معانيها بما يبعث على الصلاح.
وقد ورد كل من لفظ [نُخْرِجُكُمْ] و[تَارَةً] مرتين في القرآن.
وفي الآية بيان لقانون ذكر الموجود من الخلائق والكائنات في القرآن وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
وأن آية البحث هدى ورحمة للناس جميعاً ، بلحاظ تعدد معاني الواو في [وَبُشْرَى] في الآية أعلاه إذ تفيد العطف والإستئناف معاً فينتفع المسلمون من معاني الهدى والرحمة في القرآن مثلما ينتفع منها غيرهم من الناس وينفردون بتلقي البشارة بالجنة الواسعة على الإيمان وأداء الفرائض العبادية.
وآية البحث وإخبارها عن خلق السموات والأرض والتعاقب بين الليل والنهار هدى ورحمة للناس جميعاً ، وفيه بشرى للمسلمين.
من الإعجاز في آية البحث ذكرها لأولي الألباب كغاية لخلق السموات والأرض ، لتبين الآيات التالية إنتفاع المؤمنين من التدبر في خلق السموات والأرض ، وإتخاذه علة ومادة لتعاهدهم سنن التقوى ، والتقيد بالعبادات ، ومنه أداء الصلاة في أوقاتها المنصوصة كتاباً وسنة ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ).
الآية سلاح
من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أن الله عز وجل لم يترك الإنسان وحيداً في الحياة الدنيا ، ولم يترك له الخيار في الإعتقاد والمبدأ وعالم الفعل ، إنما جعل الله في الدنيا آيات كونية سماوية وأرضية تجذب الإنسان إلى مقامات الهداية ، وتمنع من الزيغ والغرور والطيش.
ومن هذه الآيات حمله طوعاً أو قهراً على التفكر في خلق السموات والأرض التي تصاحبه في كل ساعة من ساعات حياته.
وتتعدد وتتباين هذه الآيات في الليل وفي النهار ، فاذ تغيب الشمس تطل عليه النجوم وضياء القمر .
وتبين آية البحث قانوناً وهو كل كوكب وفرد في السماء آية وعلامة على الربوبية المطلقة لله عز وجل ، ودعوة للتوحيد ونبذ الشرك.
ويحتمل تعضيد هذه الآيات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وجوهاً :
الأول : تعضيد الآيات الكونية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته في مكة ، وفي المدينة .
الثاني : تعضيد آيات خلق السموات والأرض في القرآن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته.
الثالث : عدم تعضيد هذه الآيات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان التعضيد بالمعجزات .
والصحيح هو الأول والثاني ، فخلق السموات والأرض عون لكل إنسان للهداية والإيمان ، وآيات خلق السموات والأرض مدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
لبيان قانون وهو تعضيد الآيات الكونية للأنبياء وهذا التعضيد حسي وعقلي لذا أختتمت آية البحث بقانون من العلة والمعلول وهو خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار آيات لأصحاب العقول السليمة الذين يمتنعون عن حجب الهوى لوظائف العقل.
ومن خصائص القرآن حربه على الشرك فكل آية منه ضد للشرك والضلالة سواء في منطوقها أو مفهومها ، وتتجلى هذه الضدية في أول ووسط وآخر الآية ، وقد تستبين بوضوح في كلمة واحدة من القرآن.
ومن معاني آية البحث والآية السابقة لها في المقام وجوه :
الأول : ولله وحده ملك السموات وليس له ند أو شريك .
الثاني : ولله وحده ملك الأرض وما عليها وليس من الخلائق من يدعي الربوبية أو انه شريك لله عز وجل إلا ما حدث عند البشر وفي حالات نادرة جداً كما ورد عن فرعون إذ قال [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ).
فانتقم الله عز وجل بالغرق منه وجيوشه ، ولم يأت هذا الهلاك العام على ادعاء الربوبية وحده بل باسرافه في الظلم وإصراره على إللحاق برسول الله موسى وقومه بني إسرائيل لإعادتهم إلى القهر والذل مع إيمانهم وصبرهم.
الثالث : من معاني الربوبية المطلقة لله عز وجل جمعه بين خلق السموات والأرض وملكه لها.
لقد سبقت آية الملك في نظم هذه الآيات آية الخلق بينما الخلق سابق للملك ولعل من معانيه في المقام أن الله عز وجل مالك السموات والأرض قبل أن يخلقها ، وأنها لم تأت من العدم مباشرة بل سبق تحولها إلى سبع سموات حالة أخرى ، وهو من إعجاز القرآن فان قلت أن الملك لا يصح إلا على الموجود وليس المعدوم .
والجواب وجود السموات والأرض في علم الله عز وجل ومشيئته .
وهل يدل هذا على أن صفات الله عين ذاته وأن صفة العلم قديمة أو العكس ، الجواب لا.
ترى كيف تكون آية البحث سلاحاً ، الجواب من وجوه :
الأول : قانون الآية القرآنية سبيل هدى ، إذ تجعل آية البحث المسلم وغيره يتدبر في خلق السموات والأرض ويتخذ من هذا التدبر سبيل رشاد.
الثاني : تفقه المسلم وإرتقاؤه في المعارف الإلهية ، فاخبار القرآن عن خلق الله للسموات والأرض مدرسة وإصلاح.
الثالث : تحجيم الشرك ، وحمل المشركين طوعاً وقهراً على القول بأن الله وحده هو خالق السموات والأرض.
الرابع : تزويد المسلمين والمسلمات بمادة للإحتجاج والجدال بما ينفع بتثبيت الإيمان في قلوبهم والإحتراز من الشك والريب، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ]( ).
مفهوم الآية
آية البحث من آيات التوحيد ، وفيها دعوة سماوية للإيمان وزجر عن الشرك والضلالة ، لقد أخبرت آية البحث عن قانون وهو الإعجاز في خلق السموات والأرض ، لبيان أن الله سبحانه هو الذي خلق ، ولا يقدر على هذا الخلق إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ]( ).
وتكرر لفظ [رَبَّكُمْ اللَّهُ]و[اللَّهُ رَبُّكُمْ] في الآية أعلاه مع بيان وجوب عبادة الناس جميعاً له.
وتبين آيات أخرى خلق الله للسموات والأرض ، وبيان منافع هذا الخلق.
ويتجلى في آية البحث قانون الخلق مطلقاَ , من عند الله عز وجل , فهو سبحانه الذي أوجد السماوات والأرض من العدم ومن غير مثال يحتذى , ومن غنى الله عز وجل المطلق أنه غني عن المثال , منزه عن الحاجة إلى غيره , فلا تستطيع الخلائق إحصاء كيفية وهيئة الخلق والتي يمكن أن تكون عليها إن أراد الله عز وجل .
وهل يفيد قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) انحصار الأحسن بهيئة الإنسان , أم من قدرة الله عز وجل أن تكون أفراد الأحسن متعددة , سواء في طوله أو في أعضائه أو أركان بدنه أو لون بشرته أو أحشائه الداخلية أو تصويره في رحم .
الجواب هو الثاني , ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) في الآية السابقة قدرة الله عز وجل على تعدد مصاديق اسم التفضيل [أَحْسَنِ] وكذا في مواضيع أخرى مما يرد فيها لفظ أحسن , ومنها قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وتبين آية البحث قانوناً وهو أن كلاَ من خلق السموات وخلق الأرض والتداخل والتعاقب بين الليل والنهار على ذات اليوم وليلته آيات وعلامات وحجة على الناس .
وتدل الآية على ذم الذين لم يتخذوا العقل وسيلة للتدبر في الخلق , والتسليم والعبودية لله عز وجل , وفي التنزيل [قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
وتدل الآية في مفهومها على إنذار الذين كفروا وخسارتهم في النشأتين ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا]( ).
ولم ترد الكلمات الآتية في القرآن إلا مرة واحدة في الآيتين أعلاه [ذَاقَتْ][ خُسْرًا][ عَتَتْ][ فَحَاسَبْنَاهَا][ عَذَّبْنَاهَا].
وقد ورد اسم [أُوْلُوا] في القرآن (43) مرة بصيغة الرفع أو النصب أو الجر .
وتكرر في آية واحدة بقوله تعالى [قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ] ( ) إذ أثنوا على أنفسهم بالقوة عند القتال وملاقاة جيوش ، الملوك وأنهم أشداء وأصحاب بطش عند الحرب .
ولم يعلموا أن الكتاب الذي جاءهم من نبي وهو سليمان فاتخذت بلقيس منهاج العقل في الرد وكان عندها مجلس للشورى .
لذا ذكرت آية البحث أولي العقول الراجحة والبصيرة النافذة وأنهم الذين يتعظون من خلق السموات والأرض ، لبيان أن الرغائب والسلامة لا تتحقق بالقوة والبطش ، إنما بالعقل والهداية والتمييز والفصل بين الحق والباطل .
إفاضات الآية
من خصائص آية البحث أن ذكر السموات والأرض فيض وبركة ، ودعوة للتأمل والتفكر وإذا أعطى الله فانه سبحانه يعطي بالأتم والأوفى فتفضل وذكر خلق كل من السموات والأرض ، بصيغة التأكيد الذي يدل عليه الحرف المشبه بالفعل (إن) والذي يترتب عليه بيان خبره ، وأبى الله عز وجل إلا أن يعطف إختلاف الليل والنهار على خلق السموات والأرض.
لبيان فضل الله عز وجل في كثرة الآيات والبراهين التي تدل على عظيم خلقه وسلطانه ، وإذ تتضمن آية البحث المدح والثناء للذين آمنوا من الأجيال المتعاقبة فهل تفيد ذم الذين كفروا ، الجواب نعم.
ففيها تبكيت للذين كفروا وزجر عن الكفر ومفاهيم الضلالة ، فمن أسرار بدائع الكون أنها مانع من الشرك ، ولا يعلم منافع الشمس والقمر مثلاً وبديع ودقة سيرهن كسبل يومية للهداية إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا]( )، أي يتعقبه بسرعة ليس من فاصل بينهما وفي الآية دعوة للناس لتعاهد الفرائض العبادية.
لقد جعل الله عز وجل القرآن مرآة لخلق السموات والأرض وقوانينه ثابتة ، ولم تتغير ولا يطرأ عليه التحريف بتغير الزمان والمكان.
لقد أخبرت آية البحث عن جريان عالم الأكوان بقوانين دقيقة ، وأنظمة تدل على التكامل فان أحكام القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي إنارة للعقول ، وضابطة للقيم والعادات والأعراف بما ينفع الناس في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ).
وهل تدل آية البحث على تفسير القرآن بالواقع ، الجواب لا ، إذ أن القرآن هو الذي يفسر ويكشف الواقع والحوادث في الماضي والحاضر والمستقبل .
وتؤكد آية البحث الشواهد الكونية المصاحبة للناس لتدعوهم إلى التواضع والتذلل لله عز وجل وإجتناب الغرور والإفتتان بالدنيا وزينتها ، فهي في مسير ثابت يغادرها كل جيل من الناس من غير أن تتبدل أو تتغير.
وتخاطب آية البحث العقل الإنساني لضبط الأفعال الخاصة والعامة ، فمن أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع [لِأُولِي الأَلْبَابِ] وجوب التعاون في الصالحات ، والمناجاة في أداء الفرائض العبادية والمندوبات والتناهي عن القبائح والمنكر.
وهل من موضوعية في مضامين آية البحث وتوجهها خطاباً للإيمان ، وذات خلق السموات والأرض لإصلاح الناس للعمل بأحكام قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الجواب نعم ، ولا يعلم منافع وإفاضات خلق السموات وخلق الأرض ، وتعاقب الليل والنهار في تثبيت معالم الإيمان بين الناس إلا الله عز وجل وقد نزلت آيات خلق السموات والأرض في مكة والمدينة ، لتكون عوناً للنبي لتخلي الناس عن ثلاثمائة وستين صنماً منصوبة في الكعبة كمقدمة لإزاحتها إلى أن تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وإزاحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وهو يتلو القرآن من غير اعتراض أو احتجاج من أحد.
و(عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( )، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ( ).
الآية لطف
من إعجاز القرآن قانون كل آية منه تقريب إلى الإيمان ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل يختص هذا التقريب بمخاطبة العقول بدليل قوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ].
الثانية : هل ينحصر هذا التقريب بآيات وسور القرآن على نحو العموم المجموعي.
أما المسألة الأولى ، فالجواب لا ، لذا فان خلق السموات والأرض من الآيات الحسية التي يدركها الناس بمختلف مراتب ذكائهم ، كما أنها معجزة عقلية ، لبيان أن القرآن مرآة لآيات الخلق الكونية في اتصافه بكونه معجزة عقلية وحسية.
ويحتمل الأثر والتأثير الذاتي عند الإنسان وجوهاً :
الأول : تأثير وقيادة العقل للجوارح والأركان.
الثاني : تأثير الجوارح والأركان على العقل.
الثالث : تأثير الجوارح والحواس بعضها على بعض.
والمختار كل هذه الوجوه صحيحة ، فان قلت قد تدل الآية على الوجه الأول أعلاه لمخاطبتها لأولي الألباب ، والجواب الآية أعم بلحاظ توظيف العقول والحواس لإدراك بدائع الخلق الحسية.
لقد نصب الله عز وجل الدلائل الباهرة على التوحيد ، وقد ذكر الله الذين كفروا ، قال تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا]( ).
لتكون آية البحث حجة عليهم لإخبارها عن برهان يدعوهم إلى نبذ الشرك واستحالة وجود الند والشريك لله عز وجل .
أما المسألة الثانية فلا ينحصر تقريب الناس إلى الإيمان بالقرآن على نحو العموم المجموعي بل أن كل آية منه دعوة للهدى والإيمان ، ومنه آية البحث التي تتجلى فيها براهين متعددة وحجج باهرة في عالم الخلق والتكوين.
ومن لطف الله عز وجل دعوة آياته الكونية للإيمان مع غناه سبحانه عن الخلق ، ولكن هذه الآيات تؤدي وظيفتها بجذب الناس للإيمان ونصرة الأنبياء ، وإلحاق الضعف والوهن برؤساء الكفر والضلالة.
لقد ذكرت آية البحث خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وذكرت آيات أخرى أن الشمس والقمر من خلق الله لا يسيران إلا بمشيئة وقضاء وتصديق منه سبحانه ، قال تعالى [وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ]( ).
وتبعث الآية الرغبة في النفوس لسؤال الحاجات من عند الله فان الله الذي خلق السموات والأرض لا تستعصي عليه مسألة ، وفي التنزيل [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ).
الآية بشارة
تبين الآية بدائع صنع الله ، وأن كل فرد منها نعمة عظمى على الخلائق ، ومنهم الناس ، وفيه بشارة فضل الله عز وجل بتوالي النعم على الناس ، ولا تختص هذه النعم بالحياة الدنيا إنما تشمل عالم الآخرة ، وهل تدخل الجنة والنار في خلق السموات والأرض التي تذكرها آية البحث فيه تفصيل على وجهين :
الأول : على القول بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن .
الثاني : الجنة والنار لم تخلق بعد .
والمشهور والمختار هو الأول ، إذ أعدهما الله عز وجل جزاء للعباد على أعمالهم في الدنيا ، وحتى على الوجه الأول فان الجنة والنار تدخلان في خلق السموات والأرض وما بينهما ، لاتصاف هذا الخلق بالإستدامة والتجدد ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
لتكون آية البحث بشارة للذين آمنوا وباعثاً على عمل الصالحات ، قال تعالى [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) .
إذ وردت الآية أعلاه بصيغة الماضي [أُعِدَّتْ] كما ورد في قصة المعراج قوله تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى] ( ).
وجاءت السنة النبوية بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رؤيته الجنة ، إذ ورد عن أنس في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيتها ألوان لا أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها مسك) ( ).
والآية ذم للذين كفروا الذين أصروا على مواصلة القتال في محاربة النبوة والتنزيل .
لقد ذكرت آية البحث أصحاب العقول السليمة وأن الله عز وجل قرّبهم إلى الإيمان بآيات الخلق في السموات والأرض ، وفيه بشارة الثواب على تسخير العقل للإقرار بالوحدانية ، ودعوة الناس للهدى ونبذ الشرك والضلالة .
فمن خصائص أرباب العقول الإيمان وحب الخير للناس ، الذي يتجلى بالسعي لنجاتهم من براثن السيئات ، وسوء عاقبة الكفر والضلالة ، إذ تستصرخ كل آية كونية الناس لجذبهم إلى الهدى وإتباع الأنبياء في سنن التقوى .
الآية إنذار
تبين آية البحث قوانين النشأة لعالم الأكوان وأنها لم تكن موجودة لولا مشيئة الله عز وجل ، فهو الخالق والمدبر والعالم الذي أحاط بكل شئ علماً ، ومن معاني قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ…] ( ) وجوه :
الأول : الآية بشارة للذين آمنوا بالإقامة في الجنة ثواباً وجزاء على فعل الصالحات .
الثاني : الإنذار والوعيد للذين كفروا ، فقد خلق الله عز وجل الناس ليعبدوه ، وجعل الآيات تواجههم بالليل والنهار ، وكل آية تلح عليهم بتعاهد العبادة ، وعدم التفريط بمفاهيم التوحيد ، وتبعث الخوف من الله في النفوس طوعاً وقهراً وانطباقاً ، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
ومن إعجاز القرآن عدم الوقوف عند خلق الله للسموات والأرض وملكه لهما بل جاءت آيات عديدة تبين خشية السموات والأرض من الله ، قال تعالى [تَكَادُ السَّمَوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( )، لبيان قانون خشية السموات والأرض والملائكة من الله عز وجل اجلالاً وإقراراً بربوبيته المطلقة ، وشفقة من قبح فعل الكفار ، ومع هذا يلجأ الملائكة للإستغفار لأهل الأرض ، لجذبهم لمنازل التوبة.
الثالث : آية البحث تخويف وإنذار لمشركي قريش وحلفائهم الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله لإيقاف نزول القرآن ، قال تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الرابع : لأن الله له ملك السموات والأرض ، وجعل هذا الخلق العظيم عبرة وموعظة للناس ، فانه سبحانه يدفع شرور المشركين ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث دلالة مفهومها على الوعيد للذين كفروا ، لأنهم عطلوا عقولهم واتبعوا الهوى ، وامتنعوا عن إتخاذ آيات الخلق وسيلة للتوبة والإنابة .
والآية مدد وعون وسكينة للمؤمنين ، والخشية والخوف من الله عز وجل وحده ، وعدم الخشية من الذين كفروا من قريش وحلفائهم وأسلحتهم ، قال تعالى [أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت آية البحث بذكر السموات بصيغة الجمع وعطفت عليها بحرف العطف الواو (الأرض ) ، وفيه بيان لشأن الأرض بين الكواكب مع صغر حجمها بالنسبة للسموات حتى عدها علماء الفلك واحدة من ثمانية كواكب مجموع الكواكب الشمسية وهي حسب بعدها عن الشمس :
الأول : عطارد .
الثاني : الزهرة : والمسافة بينها وبين الشمس ضعف المسافة بين الأرض والشمس.
الثالث : الأرض .
الرابع : المريخ .
الخامس : المشتري .
السادس : زحل .
السابع : اورانوس .
الثامن : نبتون ، وهو أقربها للشمس.
والأرض هو الكوكب الوحيد الذي تدُب فيه الكائنات الحية ، ويعمره الإنسان لوجود الماء فيه ، وإلى الآن لم تجد المركبات الفضائية الماء في أي كوكب وصلت إليه وهو من الإعجاز في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وقوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
ومتوسط المسافة بين الأرض والشمس نحو (150) مليون كم.
وقطر الأرض هو 12765كم ، ومتوسط درجة الحرارة (15) درجة مئوية ، وليس من قمر تابع للأرض إلا هذا القمر الذي يطل هلاله علينا كل شهر ، قال تعالى [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ]( ).
وعدد أيام السنة على الأرض 365 يوماً و26% من اليوم.
ومتوسط سرعة الأرض حول الشمس نحو 30%كم في الثانية ، مما يدل على سرعة دورانها والإعجاز في بديع صنعها.
وبعد عطف الأرض على السماوات عطفت الآية اختلاف الليل والنهار عليها مما يدل على تعدد وكثرة الآيات الكونية القريبة والبعيدة من الناس في مواقعها ، ولكنها حاضرة ومدركة بالحواس ، وإدراك الإنسان للقريب والبعيد من الآيات ولو على نحو الإجمال من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
بأن يدرك الإنسان الإعجاز في الخلق الذي تتصف به قدرة الله عز وجل ويعرف إجمالاً الأكوان التي حوله وسير أنظمتها ، ليكون هذا الإدراك مادة للبصيرة والرشاد.
ثم بينت الآية أن بديع صنع الله عز وجل في السموات والأرض علامات ودلالات تلح على الناس بالإقرار بالعبودية لله عز وجل ثم تفضل الله سبحانه وذكر هذه العلامات الكونية والشواهد في آيات متعددة من القرآن لجذب الناس إلى منازل الإيمان ، والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ اختتمت الآية بقوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] لبيان أن كل آية مستقلة عن غيرها في البرهان على بديع صنع الله عز وجل ، وهو لا يتعارض مع اجتماعها في نظمها وقوانينها كشواهد يومية على بديع صنع الله.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان تفضل الله عز وجل على الملائكة عامة والناس خاصة بالخلق والإبداع .
الثانية : تجلي قانون وهو خلق السموات والأرض حجة على الناس .
الثالثة : لما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) تضمنت آية البحث آيات من عظيم قدرة الله عز وجل .
الرابعة : حضً الناس على أمور :
الأول : الإلتفات طوعاَ وقهراَ لخلق السموات والأرض .
الثاني : التدبر والتفكر في الخلق والعلة .
الثالث : التفكر في بدائع الخلق من الناس والحيوان , والأشجار , والزروع , والثمار , وأنظمة الكون .
الرابع : كثرة آيات الخلق , وعجز الناس عن إحصائها , لذا وردت بصيغة التنكير (آيات) من غير تقييد بآية أو آيات مخصوصة .
الخامس : شواهد الإتقان والإحكام في خلق الله عز وجل .
السادس : دلالة الآية على صدق إخبار القرآن عن علوم الغيب ومنها البعث من القبور وبعد الموت , والجنة والنار , قال تعالى [وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ]( ).
والآية أعلاه من سورة الحج وهي مكية إلا بعض آيات منها نزلت في المدينة منها قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ]( ).
السابع : لطائف صنع الله عز وجل وسعة علمه .
الخامسة : مخاطبة الآية للعقول والحواس بالإنتباه إلى آية الليل والنهار .
وكيف لا يستطيع أحدها الزيادة في طوله إلا بالقصر في الآخر , وأن هذا التباين يأتي على كل منهما بالتساوي من غير مائز .
السادسة : ترغيب المسلمين بتلاوة القرآن لما فيه من الثناء على الله عز وجل وبيان عظيم قدرته بالمدركات العقلية والحسيات .
و(عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة) ( ) .
السابعة : نسبة خلق العوالم والجواهر وأعراضها وآثارها إلى الله عز وجل ووجوب تصديق الناس بهذا القانون .
الثامنة : دعوة الناس إلى التعايش السلمي , واجتناب الإقتتال والحروب والفتن وسفك الدماء.
فمن خصائص الآية القرآنية أنها موعظة وحكمة مصاحبة للناس , وضياء ينير لهم دروب الهداية .
مثلما خلق الله عز وجل السموات والأرض من غير مثال سابق فإنه سبحانه جعل إختلاف الليل والنهار أمراَ مستحدثاَ من بديع صنعه , ومنه ثناء آية البحث على الذين آمنوا بانهم أرباب العقول السليمة , وفيه ترغيب للناس بالإيمان .
وجعل التفكر في السموات والأرض والإقرار بأنها من خلق الله عز وجل , شكراَ لله عز وجل على نعمة العقول والإنتفاع الأمثل منها.

التفسير
قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ]
تتضمن الآية الثناء على الله عز وجل في بديع خلقه ، وفيها دعوة للناس من جهات :
الأولى : التفكر بالخلق وعظمته لذا ورد في الآية التالية في باب المدح للمؤمنين [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الثانية : دعوة الناس للهدى والإيمان ، والتنزه عن الشرك.
الثالثة : لقد ورد قوله تعالى [خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] في آيات عديدة كما سيأتي في علم المناسبة في هذا الجزء المبارك ، ومنها آيات مكية كما في أول سورة الإنعام [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ]( )، وآيات مدنية.
ليكون في كل آية منها ترغيب بالإيمان ، ونهي عن الكفر ومفاهيم الضلالة وزجر لقريش عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار عن هزيمة وخزي الذين يحاربونه لأن الله عز وجل هو الذي بعثه رسولاً وأنزل عليه القرآن ، وهذا النزول بالحق والقطع واليقين ، لذا قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
عن عطاء بن ابي رباح قال ( دخلت مع ابن عمر إلى عائشة فقال ابن عمر : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله.
فبكت فأطالت ثم قالت : كل أمر رسول الله عجب، أتاني في ليلتي فدخل معي في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي عزّ وجلّ.
فقلت : والله يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك قد أذنت لك،
فقام عليه الصلاة والسلام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حجره ، ثم رفع يده فجعل يبكي حتى رأيت الدموع قد بلت الأرض ، فأتاه بلال بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
فقال : يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ثم قال : ومالي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى في هذه الليلة عليَّ [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، الآية ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)( ).
ومن بديع صنع الله في السموات والأرض أمور :
الأول : الآيات السماوية الكونية ، ومنها سعة السماء وكثرة الكواكب ، والشمس والقمر.
الثاني : الآيات الأرضية ، وكنوز الأرض الظاهرة والباطنة ، والدواب التي تعيش عليها ، قال تعالى [أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ]( ).
الثالث : الآيات السماوية الأرضية ، ومنها نزول الغيث من السماء وحال الرعد والبرق ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا]( )، وهذه الآية من سورة اسمها سورة الرعد ، لبيان موضوعية التسمية في التذكير بآيات الله عز وجل مع أن الاسم غير المسمى.
و(عن ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة ، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده . ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم)( ).
والمقصود ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نكحها النبي (سنة سبع في عمرة القضاء)( ).
أما أم عبد الله بن عباس فهي أم الفضل بنت الحارث ، ومن بين أولاد العباس العشرة.
ولدت أم الفضل بنت الحارث له سبعة وهم (الفضل وعبد الله وعبيد الله ومعبد وقثم وعبد الرحمن وأم حبيب شقيقتهم)( ).
وقد تسمى أم الفضل لبابة الكبرى.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثير التفكر بالآيات الكونية ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات بالتفكر والتدبر فيها.
وأيهما أكثر الآيات السماوية أم الأرضية ، الجواب هو الأول، لذا قدمت آية البحث السماوات وبصيغة الجمع ، وكذا في الآية السابقة بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وفيه تأديب للناس بأنكم والأرض كلها من خلق وملك الله عز وجل وأن السموات أعظم وأكبر جرماً ومساحة منها وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
والمختار أن آدم وحواء سكنا الجنة وعاشا مع الملائكة برهة من الزمن إلى أن أغواهما ابليس بالأكل من الشجرة التي نهاهم الله عنها ، فأمرهما الله عز وجل بالهبوط ، ومن لطف الله عز وجل نسبة المعصية في الأكل من الشجرة إلى ابليس كسبب ومصدر للفتنة ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
و(عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : لما قال الله لآدم [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ]( )، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فأتى الحية ، وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير ، وهي كأحسن الدواب .
فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم ، فادخلته في فمها فمرت الحية على الخزنة ، فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر ، فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه ، فخرج إليه فقال [يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى]( )، وحلف لهما بالله [إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ]( )، فأبى آدم أن يأكل منها ، فقعدت حواء فأكلت ثم قالت : يا آدم كل فإني قد أكلت فلم يضر بي . فلما أكل بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ( )، وورد مثله عن ابن عباس.
وقيل أنه من الأسرائيليات ، ولا دليل على هذا القول ، نعم ورد في سفر التكوين هذا المعنى :
(2: 21 فاوقع الرب الاله سباتا على ادم فنام فاخذ واحدة من اضلاعه و ملا مكانها لحما.
2: 22 و بنى الرب الاله الضلع التي اخذها من ادم امراة و احضرها الى ادم
2: 23 فقال ادم هذه الان عظم من عظامي و لحم من لحمي هذه تدعى امراة لانها من امرء اخذت
2: 24 لذلك يترك الرجل اباه و امه و يلتصق بامراته و يكونان جسدا واحدا
2: 25 و كانا كلاهما عريانين ادم و امراته و هما لا يخجلان
3: 1 و كانت الحية احيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الاله فقالت للمراة احقا قال الله لا تاكلا من كل شجر الجنة
3: 2 فقالت المراة للحية من ثمر شجر الجنة ناكل
3: 3 و اما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تاكلا منه و لا تمساه لئلا تموتا
3: 4 فقالت الحية للمراة لن تموتا
3: 5 بل الله عالم انه يوم تاكلان منه تنفتح اعينكما و تكونان كالله عارفين الخير و الشر)( ).

علم المناسبة
لقد إبتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية التي تفيد القطع بأن السموات والأرض مخلوقتان أي أنهما ليسا بآلهة ، وليس هناك صنف اسمه صنف الآلهة إنما هو إله واحد وهو الله عز وجل.
ويدل الخلق على وجود خالق فلابد من خالق للسموات والأرض ، فجاءت آيات أخرى بالإخبار بأن الله عز وجل هو الذي خلقها منها [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ] ( ) .
والآية أعلاه من سورة الجاثية وهي مكية ، لبيان مجئ آيات القرآن مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وسط مجتمع المشركين .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات ورود لفظ (السموات والأرض) في ثلاث آيات متتالية هي آية البحث والآية السابقة واللاحقة لها .
وورد في سورة النساء ذكر السموات والأرض ثلاث مرات في آيتين متجاورتين ولكن بلفظ[لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]، كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ).
وفي آية أخرى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( )، أي أن الله هو خالقها ومدبر شؤونها والله يسير أمورها بمشيئته التي لا ترد ولا تقهر.
كما ورد ذكر خلق السموات والأرض وعائدية ملكها لله عز وجل في السور المدنية ومنه آخر آية من سورة المائدة التي هي من آخر سور القرآن نزولاً [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
لتبدأ بعدها وفق نظم القرآن سورة الأنعام وهي مكية ، وتبدأ بالإخبار عن خلق الله عز وجل للسموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور .
قانون سعة البحار من آيات الخلق
ورد لفظ (البحر) والمراد منه العهد والفرد الواحد ومنه [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ]( )، والمراد بحر القرم أي البحر الأحمر.
وورد اسم الجنس ومنه قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( )، وهل يشمل الأنهار أيضاً ، الجواب نعم .
وبلحاظ الآية أعلاه يمكن أن يكون لفظ البحار والبحور جمع الجموع ، وكل نهر متصل ماؤه هو بحر ، ويسمى الفرس سريع الجري : بحراً .
وسمئ البحر بحراً لإنبساطه وإتساعه وعمقه .
والبحر : الماء الكثير سواء كان مالحاً أو عذباً وهو خلاف البر .
وحدث فزع بالمدينة (فاستعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا لابي طلحة يقال له مندوب فركبه فلما رجع، قال: ما رأينا من شئ وإن وجدناه لبحرا) ( ).
وكان الفرس بعد ذلك لا يجارى ( ).
وقد ورد لفظ [الْبِحَارُ] مرتين في القرآن يتعلق موضوعها بالبعث ويوم القيامة ، قال تعالى [وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ] ( ).
وقد يخشى بعض الناس نفاذ ماء البحار وأصابتها بالنقص والإضمحلال ، فجاءت الآيتان أعلاه لتؤكد بأن ماء البحار والمحيطات مصاحبة للحياة الدنيا إلى يوم القيامة ، ويدل عليه سعة مياة البحار ، ووفرتها وعمقها .
ويبلغ متوسط عمق المحيط الهادي مثلاً 4280 م وأعمق موضع فيه نحو 11034 م غرب المحيط الهادي ، وهو أكبر مسطح مائي على وجه الأرض ، ويغطي مساحة (155) مليون كم 2 .
ومع أن مكتشفه ماجلان أطلق عليه في رحلته سنة 1520 م اسم المحيط الهادي لوجود مساحات شاسعة منه هادئة فانه ممتلئ بالحركة والنشاط وكثرة الأحياء المائية التي هي ثروة ونعمة.
ولا تزال جوانب من المحيط الهادي وغيره لم تكتشف بعد ولا يعلم بالثروات والمعادن والكنوز في البحار وأعماقها وقعرها إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ) إذ تدخل البحار في نعمة الخلق من عند الله عز وجل .
ونسأل الله عز وجل أن لا تكون هذه الكنوز سبباً للإقتتال بين الدول.
وقد ورد (عن أبيّ بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب ، فإذا سمع به الناس ساروا إليه ، فيقول من عنده : لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله .
قال : فيقتتلون عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون).
وهل المراد في الحديث أعلاه خصوص نهر الفرات أم يشمل العديد من الأنهار والبحار ، المختار هو الثاني.
فالحديث النبوي تحذير وإنذار ومنع من الخلافات والإقتتال بسبب كنوز البحار ، والحياة الاقليمية والدولية.
ومن الشواهد عليه إكتشاف النفط والغاز في بعض البحار منها بحر الشمال ، وحصول الخلافات الدولية بخصوصه ، فنصبت منصات النفط العائمة ، ولا تخلو من الأضرار على البيئة .
و (عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أدلك عن كنز من كنوز الجنة قلت : بلى يا رسول الله .
قال : لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة .
قلت : فالصلاة يا رسول الله؟
قال : خير موضوع ، فمن شاء أقل ومن شاء أكثر .
قلت : فالصوم يا رسول الله؟
قال : قرض مجزىء .
قلت : فالصدقة يا رسول الله؟
قال : أضعاف مضاعفة وعند الله مزيد .
قلت : فأيها أفضل؟
قال : جهد من مقل وسر إلى فقير) ( ).
ففي الدعاء أمن ورزق وواقية وغنى عن الإقتتال ونتائجه ، ومنها سفك الدماء الذي أنذرت منه الملائكة أوان خلق آدم ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) لبيان أن الله عز وجل ضمن للناس أرزاقهم .
التفسير بالتقدير [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ]
تتعدد وجوه تقدير الآية ومنها :
الأول : إن في خلق الله للسموات والأرض .
الثاني : ان في خلق السموات والأرض بالحق.
إذ يفسر القرآن بعضه بعضاً ، قال تعالى [خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : ان في خلق السموات والأرض تبكيت للذين كفروا وقهر وخزي لهم ، وبيان لعجزهم وضعفهم ، قال تعالى [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الرابع : تقدير الآية (يا أيها الناس ان في خلق السموات والأرض) لترغيب الناس بالإرتقاء في سلم المعارف والإلتقاء تحت مظلة التوحيد.
فقد خلق الله عز وجل السماء وجعلها سقفاً يُظل الناس جميعاً ، وجعل التوحيد سماءً عقائدياً يحتاج الناس ظلاله والتفيئ به في الدنيا والآخرة.
الخامس : إن في خلق السموات والأرض طريق هداية للناس جميعاً , وسيأتي في الآية التالية قوله تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
السادس : إن في خلق السموات وفي خلق الأرض.
السابع : إن في خلق الله السموات والأرض من غير عناء أو تعب في خلقهن لآيات لأولي الألباب , قال تعالى [وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ]( ).
الثامن : إن في خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من الخلائق التي لا يحصيها إلا الله لآيات لأولي الألباب .
التاسع : يا أيها الناس اشكروا الله على خلق السموات والأرض.
العاشر : إن في خلق السموات والأرض حجة وسبب لدخول الناس في الإسلام.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بين قوم كافرين يعبدون الأصنام على نحو الشرك في الألوهية تارة , والتزلف لها واتخاذها وسائط لله عز وجل تارة أخرى.
فمن بركات جوار البيت الحرام امتناعهم عن الكفر المطلق وعلى نحو السالبة الكلية , فبينت الآية السابقة أن السموات والأرض ملك لله عز وجل وأنه سبحانه على كل شئ قدير.
وذكر فيها اسم الجلالة مرتين ، وتعقبتها هذه الآية ، ولم يرد فيها اسم الجلالة ولا أحد الأسماء الحسنى , ولكنه حاضر ومقدر في مضامين الآية من جهات :
الأول : إن في خلق الله عز وجل السموات , وفي التنزيل [وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
الثاني : إن في خلق الله عز وجل الأرض .
الثالث : إن في خلق الله عز وجل الليل والنهار .
الرابع : إن في خلق الله عز وجل الليل والنهار , فصحيح أن هذا الإختلاف ليس أمراَ مادياَ إلا أنه مخلوق.
الخامس : من معاني أولي الألباب أهل المعرفة بالله وربوبيته المطلقة.
السادس : العطف الموضوعي على الآية السابقة.
السابع : مجئ الآية التالية ببيان خصال حميدة لأولي الألباب.
قوله تعالى [وَالأَرْضِ]
لقد أخبر القرآن عن خلق الله عز وجل للأرض ، وبينت آيتان متجاورتان وهما [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( )، مسائل :
الأولى : الله عز وجل هو الذي خلق الأرض .
الثانية : خلق الأرض علة تامة لوجوب عبادة الناس لله عز وجل.
الثالثة : حرمة الكفر والجحود.
الرابعة : تعيين مدة خلق الأرض ، وهما يومان ، و(عن ابن عباس : أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والإثنين ، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة فقال تعالى [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه.
فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال حين يموت من مات.
وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء من منتفع به .
وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد؟ قال : ثم استوى على العرش)( ).
الخامسة : بيان خلق الله الأرض قبل السماء .
السادسة : بيان آية الجبال ، وهي الرواسي لعلوها وثباتها في الأرض وامتدادها في جوف الأرض مثل ما لها من الإرتفاع.
السابعة : تعدد مصاديق البركة في الأرض ونبات الزرع والشجر من غير بذر وغرس ، ونباتها مع جهة وسعي الإنسان أيضاً ، وهل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، من البركة التي في الأرض.
الجواب نعم ، وفي عيسى ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
الثامنة : تقدير الله عز وجل الأرزاق والأقوات ، ومقدمات الرزق ، ومنها الأمطار والأنهار وكنوز الأرض كالذهب والنفط ، والمكاسب كالصناعة والتجارة.
التاسعة : وهل المراد من أربعة أيام غير يومي الخلق ، الجواب لا ، إنما هو يومان للخلق ويومان للبركة والأقوات كما تقل سافرت من النجف الى المدينة عشرة أيام وإلى مكة أحد عشر يوماً فالمجموع كله أحد عشر يوماً ، ويومان لتسوية السموات سبع كما في قوله تعالى [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ]( ).
وذات خلق الأرض آيات كثيرة تمتنع عن إحصاء الناس لها ، وتقدير الآية : إن في خلق الأرض لآيات لأولي الألباب.
وتعدد الإعجاز والبراهين في خلق السموات والأرض من مصاديق قوله [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).

قانون رحمة الله في السموات والأرض
من معاني آية البحث أن الله خلق كل جزء من السموات والأرض برحمته ، ولا تغادرها الرحمة أبداً وجعل كل ساعة من ساعات الليل والنهار رحمة منه ، بالأكوان والإنسان وجعل الله عز وجل في السموات والأرض فضلاً عظيماً.
ترى أيهما أقرب إلى الإنسان رحمة الله أم فضله سبحانه ، الجواب كل منهما قريب من الإنسان من غير تعارض بينهما ، قال تعالى [رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ومنه نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين رحمة الله وفضل الله ، الجواب العموم والخصوص المطلق ، وأن رحمة الله هي الأعم والأقرب للعبد ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
لذا وردت البسملة في كل سورة لبيان الإطلاق في رحمة الله بذكر اسم الجلالة واسم الرحمن والرحيم ليكون من معاني تقديرها وجوه :
الأول : بسم الله .
الثاني : بسم الرحمن .
الثالث : بسم الله الرحمن.
الرابع : بسم الرحيم .
الخامس : بسم الله الرحيم.
السادس : بسم الرحمن الرحيم.
السابع : بسم الله الرحمن الرحيم ، وهو الأصل .
من رحمة الله على الخلائق خلقه السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار ، وصيرورة كل منهما مناسبة للدعاء والزهد بالدنيا وزخرفها، وقد تقدم في الجزء السابع والعشرون من هذا السِفر تفسير [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) ( ).
الثالث : من وجوه تقدير آية البحث : إن في خلق السموات والأرض واستدامة خلقها بمشيئة الله لآيات لأولي الإلباب .
وفي باب معجزات الأنبياء تذكر المعجزات الحسية كسفينة نوح ، وناقة صالح ، وعصا موسى ، وغيرها من المعجزات .
وفي عيسى عليه السلام ورد حكاية عنه في التنزيل [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]( ).
كما تذكر معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية ومنها قانون كل آية من القرآن معجزة عقلية متعددة ، ومثلما أن آيات القرآن (6236) آية وتتفرع عنها معجزات فان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية تزيد على هذا العدد عند التدبر فيها من جهات :
الأولى : السنة القولية .
الثانية : السنة الفعلية .
الثالثة : السنة الدفاعية .
الرابعة : السنة التدوينية .
الخامسة : السنة في الأسرة والعائلة , إذ أن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أسرته وعياله من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
(عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله انفعهم لعياله) ( ).
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَخَذَهَا رِزْقًا لِعِيَالِهِ) ( ) تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية إطعامه الجمع الكثير بطعام قليل ، وتكرار هذه المعجزة في الحضر والسفر ، وانشقاق القمر ، قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ]( ).
وشفاء عدد من أصحابه على يديه سواء في المدينة أو في ميدان المعركة.
و(عن عائذ بن عمرو قال : أصابتني رمية يوم حنين في جبهتي، فسال الدم على وجهي وصدري، فسلت النبي صلى الله عليه وسلم الدم بيده عن وجهي وصدري الى ثندؤتي، ثم دعا لي)( ).
وقد تقع المعجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة بعض أصحابه وأهل بيته لتكون مدداً وعوناً للناس في دخول الإسلام.
و(عن أبي أمامة الباهلي قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي فانتهيت إليهم وأنا طاوي وهم يأكلون الدم.
فقالوا هلم فقلت إنما جئتكم لأنهاكم عن هذا فاستهزأوا بي وكذبوني وردوني .
فانطلقت من عندهم وأنا جائع ظمآن قد نزل بي جهد شديد فنمت فاني آت في منامي فناولني إناء فيه لبن فأخذته فشربته فشبعت ورويت فعظم بطني.
فقال بعضهم لبعض أتاكم رجل من سراة قومكم فرددتموه إذهبوا إليه فأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي فأتوني بطعامهم وشرابهم.
فقلت لا حاجة لي فيه قالوا قد رأيناك بجهد.
قلت إن الله أطعمني وسقاني فأريتهم بطني فأسلموا من عند آخرهم)( ).
وهل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام من القتل ، ونجاته من محاولات الإغتيال المتعددة من المعجزات ، الجواب نعم فكل فرد معجزة ولكن مع التحقيق والبيان.
ومن الآيات صدور هذه المحاولات من أشد الناس كفراً ممن لم يتعظ بخلق الله عز وجل السموات والأرض وآيات التنزيل.
وتدل آية البحث في مفهومها البشارة بالنصر والأمن فالله عز وجل الذي خلق السموات والأرض من غير تعب أو عناء إنما خلقها بقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، هو سبحانه الذي يظهر الإسلام ، وينجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكيد والمكر.
بحث منطقي
كل ما يؤدي إلى وجود غيره ويؤثر فيه يسمى علة، وموجداً ومؤثراً، والعلة تنصرف الى الفاعل، والعلة على أقسام :
الأول : العلة الفاعلية: وهو مــبدأ الحـركة , وتسمى ما منه الوجود ويراد منه المنشأ والمصور، وما جاء بسببه الوجود ويسمى (ما منه الوجود).
الثاني : العلة المادية: وهي مادة وجود الشيء وأسباب قوامه المحسوسة وما يسمى (ما فيه الوجود) كالقماش بالنسبة للثوب، والقلم والقرطاس للكتاب، وبالنسبة للولد فان العلة المادية هي الوالدان.
واعتنى بالعلة الفلاسفة اليونانيون قبل ارسطو ، واختلف في تعيين علة الطبيعة على وجوه :
الأول : الماء .
الثاني : الهواء .
الثالث : النار .
الرابع : التراب.
الخامس : اجتماع هذه العناصر.
وجاء القرآن لبيان العلة الفاعلية وأن الله عز وجل هو خالق كل شئ ، ثم ذكر العلة المادية بقوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
وهناك أطراف :
الأول : العلة وهي القوة الفاعلة والموجدة أو المؤثرة في غيرها.
الثاني : المعلول وهو الأثر المترتب على العلة ، والمترشح عنها سواء كان مادياً أو معنوياً أو اعتبارياً.
الثالث : العلية وهي العلاقة والصلة بين العلة والمعلول ، والأثر المترتب عليه ، فمثلاً يغلي الماء إذا تعرض للنار والحرارة ، فالحرارة هي العلة ، والغليان معلول ، والرابطة بين الحرارة والغليان هي العلية.
وقد تبقى العلة وينعدم المعلول أو العكس بخصوص العلة المادية ، وقد يشاء الله بقاء كل من العلة والمعلول ، فالقرآن كتاب هداية وتعمل بأحكامه أمة إلى يوم القيامة.
الثالث : العلة الغائية: وهي الغاية ويقال لها (ما له الوجود) فهي الغاية والنتيجة والثمرة التي لأجلها وجد الشيء وصار في الخارج بهيئته واسمه وصفته، فالعلة الغائية للدار هي السكن، وللزراعة استدامة الحياة واكل الطيبات.
ويكون وجود الشئ لأجل العلة الغائية وهو قول للفلاسفة ، وأشكل عليه بعض العلماء ولكن الأمر خاص بالماديات والحسيات.
وحينما أخبرت آية البحث عن خلق الله للسموات والأرض بينت آيات أخرى غايات لهذا الخلق ، مع أن عقول البشر عاجزة عن الإحاطة عن غايات كل من :
الأول : السموات .
الثاني : جعل السموات سبع سماوات.
الثالث : خلق الأرض .
الرابع : نصب الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الخامس : آية الليل وآية النهار .
السادس : تعاقب الليل والنهار .
السابع : شدة ظلمة الليل , وضياء النهار.
الثامن : نزول آية البحث.
التاسع: جمع آية البحث لخلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار.
العاشر : خلق السموات والأرض معلول لمشيئة الله عز وجل وأمره ورحمته ، وهو علة مادية للامتناهي من الأحداث والوقائع والآيات والبراهين الدالة على التوحيد.
الرابع : العلة الصورية: وهي الصورة، وتكون المادة بهيئة خاصة يترتب عليها الأثر، والحال الذي يكون سبباً لقوام المحل في الوجود، ويطلق على الفاعل الذي يكون سبباً للوجود (ما به الوجود) وما سوى الله تعالى ليس فيضاً للوجود وعلة للخلق.
ولكن هذه الآية جاءت لتوكد ان العلة الصورية في الإنسان بمشيئة الله تعالى، وان العلل الأربعة مجتمعة ومتفرقة كلها من عنده تعالى، لتكون العلة التامة في خلق الإنسان وانه لابد وان يولد الإنسان وجنسه بهذه الهيئة لأن الله عز وجل أرادها واختارها.
ومع الإخبار عن الصورة وتأليفها فلابد من استحقاق اطلاق صفة الإنسان على الحمل في تكونه ولو على نحو التعليق , قال تعالى[يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ]( ).
وما في الآية أعلاه من كشف أسرار تكوين الإنسان نوع اكرام وتشريف له، فبعد ان اخبر الله سبحانه انه خلق آدم بالنفخ فيه من روحه، وهذه الروح متصلة في بنيه ذكوراً واناثاً ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
جاء قوله تعالى [يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ]( )، للإخبار عن تفضل الله عز وجل بتولي صورة الإنسان وفي الرحم ليهيئه للخروج الى عالم الدنيا بأبهى صورة وأجمل شكل وتأليف، ليكون عوناً على توجيهه للعبادة، ولا يقدر على هذا الأمر الا الله عز وجل.
ليكون ابتداء نظم القرآن ، وكل سورة منه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) بياناَ لقانون وهو أن خلق الإنسان ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فجاء بأحسن حال قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
وأن خلق السموات والأرض في آية البحث تم ببسم الله الرحمن الرحيم وكل فرد من أفراد الخلق هذا تم برحمة الله عز وجل للخلائق ، وللناس في الدنيا والآخره.
قانون الحاجة لعلم التفسير
الحمد لله الذي جعل أنوار علوم القرآن غير متناهية ، وخزائن أسراره ومسائله لا تنقطع وقواعد التفسير متصلة ومتحدة ومترسخة عن أصل وقواعد الشريعة وليس من تعارض فيها بين الإيجاز غير المخل ، والإطناب غير الممل.
ومن إعجاز القرآن ميل عامة الناس إلى الإسهاب في التفسير وتوضيح المعاني ، والإكثار من الشواهد.
ومع مرور نحو ألف وأربعمائة وخمسين سنة على نزول القرآن ومع اجتهاد العلماء في علم التفسير فلا زالت علومه في بداياتها من جهات متعددة منها :
الأول : معاني الحروف المقطعة ، وقد تقدمت شذرات من هذا العلم( )، وجاءت دراسات في أول آية من سورة آل عمران والتي الجزء الرابع والخمسين من هذا السِفر وهي ذات الحروف التي ابتدأت بها سورة البقرة.
الثاني : الفرق بين علم التفسير والتأويل ، ومع كثرة ورود مادة التأويل في القرآن فانه لم يرد لفظ (تفسير) في القرآن إلا مرة واحدة [وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا]( ).
وكأن القرآن يعطي رسالة للناس وهي أن الله عز وجل قد كفل تفسير القرآن بالقرآن وهو الذي اسميته (التفسير الذاتي) والتفسير هو الإيضاح والبيان ، والإبانة عن الشئ وكشف المغطى.
والتفسير في الإصطلاح هو العلم الذي يسير علوم الآية القرآنية وخزائن القرآن وفق الإمكان ، والقدرة البشرية ومعرفة معاني ألفاظ القرآن ، واستنباط دقائق وأحكام القرآن.
و(التَأْويل: تفسير ما يَؤُولُ إليه الشيء. وقد أَوَّلْتُهُ وتأَوَّلْتُه، تأوّلاً بمعنىً)( ).
وقال ابن فارس (وأما التفسير : فإنه التفصيل كذا قال ابن عباس في قوله جلّ ثناؤه : وأحْسَنَ تفسيراً ، أي : تفصيلاً.
وأما اشتقاقه فمن الفَسر. أخبرني القطّان عن المَعْدَانّي عن أبيه عن معروف عن الليث عن الخليل قال: الفسر البيان، واشتقاقه من فَسرِ الطبيب للماء إذا نظر إليه، ويقال لذلك: التَّفْسِرَة أيضاً.
وأما التَّأْويل : فآخِرُ الأمر وعاقبته.
يقال: إلى أي شيء مآل هذا الأمر؟
أي مَصيرُهُ وآخِره وعقباه.
وكذا قالوا في قوله جلّ ثناؤه : وما يَعلم تأويلَه إلاَّ الله .
أي : لا يعلم الآجال والمُدَدَ إلاَّ الله جلّ ثناؤه، لأن القوم قالوا في مدّة هذه الملة ما قالوه، فأُعلموا أن مآل الأمر وعقباه لا يعمله إلا الله جل ثناؤه.
واشتقاق الكلمة من المآل وهو العاقبة والمصير، قال عَبْدَةُ بن الطبيب :
ولِلأَحِبَّة أيام تَذَكَّرُها … ولِلنّوى قبل يوم البين تأويلُ
وقال الأعشى:
على أنًّها كانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّها … تَأّوُّلَ رِبِعِيِّ السِّقاب فأَصْحَبَا
يقول: إن حبّها كان صغيراً في قلبه فآلَ إلى العِظَم ولم يزل يَنْبُت حتى أصْحَبَ، فصار كالسَّقب الذي لم يزل يَشِبُّ حتى أصحب، يعني أنه إذا استصحبَتْه أمّه صَحِبَها)( ).
وقيل أن التفسير والتأويل بمعنى واحد ، والمشهور بخلافه.
والمختار أن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق فالتفسير أعم ، وقد يكون التفسير على الظاهر ، وبيان المعاني ، أما التأويل فهو صرف الآية إلى معاني غير الظاهر منها حسب الكتاب والسنة واللغة ومن غير اتباع الهوى.
وهل يجتمع التفسير والتأويل في كشف معاني الآية الواحدة ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
على اختلاف بين العلماء من أيام التابعين وإلى يومنا هذا في الواو و[الرَّاسِخُونَ].
وهل الناس محتاجون إلى علم التفسير والتوسعة فيه ، أم تجزي ذات آيات القرآن لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الجواب هو الأول ، فهذا التبيان دعوة سماوية لتأكيده وتجلي مفاهيمه ومعانيه ، والإنتفاع الأمثل منه ، ومن التفسير قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير آيات كثيرة من القرآن ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وهل فيه دعوة للعلماء لتفسير القرآن ، الجواب نعم ، ولكن من غير خروج عن المنهجية التي اتبعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التفسير ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ).
قانون منافع التفسير
ومن منافع علم التفسير أمور :
الأول : بعث للشوق في النفوس لتلاوة القرآن.
الثاني : العمل بمضامين آيات القرآن.
الثالث : إرتقاء المسلمين في المعارف والعلوم.
الرابع : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أصول الدين وفروعه.
وسيأتي التحقيق في المقام في هذا الجزء وهل المشركون مكلفون بالفروع أم لا بعد الإجماع على تكليفهم بالأصول مع أن هذا العنوان ولفظ أصول الدين ولفظ فروع الدين لم يرد في القرآن ولا السنة.
الخامس : عصمة القرآن من التحريف.
وأيهما أكثر نفعاً في المقام وسلامة القرآن من التحريف :
الأول : تلاوة المسلمين والمسلمات القرآن في الصلاة اليومية.
الثاني : تلاوة المسلمين والمسلمات القرآن خارج الصلاة ، ومنها ختم القرآن وحفظه عن ظهر قلب .
الثالث : استحضار آيات القرآن الإحتجاج والبيان والإستدلال ونحوه .
الرابع : الإشتغال بعلوم التفسير والتأويل والإطلاع عليهما.
والصحيح هو الأول ، لتكون هذه التلاوة باعثاً على التفسير وكذا العكس من غير أن يلزم الدور بينهما ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( ) ( ).
السادس : علم التفسير بحر متلاطم الأمواج يحبس العالم أنفاسه عند الكتابة فالقرآن كلام الله ، والذي يتعرض لعلم التفسير يترجم كلام الله فعليه بأخذ الحائطة مع أنه تفوح منه رائحة الطيب والعنبر ، ولكن لابد من الإحتراز من عواصف الرأي والهوى والتعصب أو مذهب مخصوص ، فالقرآن مائدة السماء ، ولابد من إجتناب أسباب الكدورة والنفرة والقذف والطعن ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
السابع : من أصول التفسير : الرجوع إلى القرآن والسنة النبوية عند تفسير الآية القرآنية ، وهل يمكن القول بقانون وهو ذات الآية القرآنية تفسير لنفسها ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثامن : تفسير القرآن أشرف علم واختصاص وصناعة.
التاسع : قانون علم التفسير كفائي وليس عينياً ، فهو من فرض الكفايات.
قانون النبوة والتفسير
لقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علم التفسير من جهات :
الأولى : بيان حلال القرآن وحرامه .
الثانية : إيضاح ما أُشكل على الناس من آياته.
الثالثة : تقييد مطلق القرآن .
الرابعة : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الإسئلة بخصوص تفسير القرآن ، واحياناً يقوم ببيان معاني آياته ابتداء.
الخامسة : إجابة واحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ، وهو من عمومات قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] ( ).
الحادي عشر : هل فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن كله فيه جهات :
الأولى : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير القرآن كله على نحو الإجمال .
الثانية : فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر آيات القرآن .
الثالثة : فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات كثيرة من القرآن ، والنسبة بين الوجهين أعلاه هو العموم والخصوص المطلق.
الرابعة : لم يفسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا القليل من آيات القرآن .
والمختار هو الثالثة أعلاه .
بالإضافة إلى مسائل :
الأولى : قانون السنة النبوية القولية والفعلية تفسير للقرآن ، لتكون منهاجاً وضياء ينير للعلماء سبل التفسير .
الثانية : أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفرائض وكيفية هذا الأداء ومواظبته عليه تفسير عملي لآيات الأحكام ، وتثبيت للسنن ، ومنع من التحريف والخلاف فيها .
الثالثة : قانون إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن تفسيراً للوقائع والأحداث .
الثانية عشر :العناية بعلم التأويل ، وبيان المراد من الآية القرآنية.
الثالث عشر : موضوعية أسباب النزول في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية ، وصيرورتها أصلاً في الموضوع أو الحكم ، وبرزخاً دون الزلل في التفسير.
الرابع عشر : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير عدد من الآيات بوحي من جبرئيل ، وقد يسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس عنده جواب فينزل جبرئيل بالجواب .
الخامس عشر : بتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمبهم من الألفاظ ، وما قد يقع الخلاف في تفسيره أيام النبوة أو التابعين أو فيما بعد ، وهو من الإعجاز في تفسير السنة النبوية للقرآن .
و(عن عدي بن حاتم قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصّلاة والصّيام قال : صل كذا، وصم كذا، فإذا غابت الشمس : فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وصم ثلاثين يوماً إلى أن ترى الهلال قبل ذلك .
قال : فأخذت خيطتين من شعر أبيض وأسود .
وكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي.
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بدت نواجذه وقال : يا ابن حاتم إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل ) ( ).
ويدل الحديث على قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم عدد من الصحابة أحكام العبادات على نحو شخصي إلى جانب إمامته للصلاة اليومية في الحضر والسفر .
ومن إعجاز القرآن هدايته المسلمين والمسلمات لاتباع نهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا] ( ) وقال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
فقد قام النبي بتعيين أوقات الصلاة ، ومقدماتها وعدد كل ركعة ، والجهر أو الإخفات فيها ،وحال الإحرام في الصلاة من حين تكبيرة الإحرام ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
لقد تم تأسيس علم التفسير على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتعاهد أهل البيت والصحابة تفسيره ويتركو هذا التفسير تركة لأبنائهم والتابعين سواء بالكتابة في صحف خاصة ، أو شفاهاً ، فكتابة التفسير من أيام الصحابة وأكثر الصحابة رواية وفتوى في علم التفسير هو الإمام علي عليه السلام ، ثم ابن عباس الذي أقر بأنه أخذ من الإمام علي عليه السلام ، سواء بخصوص الآيات والسور المكية وسني الهجرة الأولى التي لم يحضرها ابن عباس ، إذ أنه ولد في مكة سنة 3 ق الهجرة النبوية في مكة ، ووقع أبوه العباس في الأسر بيد المسلمين في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، كما أخذ ابن عباس من الصحابة الأخرين ومن أمهات المسلمين .
وابن عباس من رواد علم التفسير خاصة وأنه كان يجلس في المسجد النبوي ، ويجيب على الأسئلة وأمدّ الله في عمره إذ توفى سنة 68 للهجرة ، وقيل كان يقسم مجلسه أياماً ، يوم للفقه ويوم لتفسير القرآن ، ويوم للمغازي ، ويوم للشعر ، ويوم لأيام العرب ، وذكر أنه روى 1600 حديثاً .
وقد أشترك الصحابة وأهل البيت في بيان علم السنة والتفسير ، وأسسوا نواة تدوين هذه العلوم ، سواء بقيامهم بكتابتها في الصحف ، أو إملاءها على الذي يقوم بكتابتها .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بهذا التفسير (معالم الإيمان ) والقوانين والمسائل المستحدثة فيه ، مع توالي أجزائه .
قراءة في المبعث النبوي
[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفيل يوم الاثنين السابع عشر من شهر ربيع الأول وقيل عند طلوع الفجر من يوم الجمعة ، في عام 571 ميلادية.
وقد نزل قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ).
والخطاب موجه لكل المسلمين لبيان حضور الواقعة في كل زمان.
ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعب أبي طالب في مكة ، ويسمى شعب علي وانشئت على محل ولادته في هذا الزمان مكتبة مكة العامة ، ويبعد عن الكعبة نحو ثلاثمائة متر ، من جهة جبل الصفا وجبل أبي قبيس.
ومن علامات وبشارات نبوته وما فيها من الإنذار ليلة ولادته سقوط أربع عشرة شرفة من قصر كسرى في المدائن مع متانة بناء القصر ، وانطفاء النار التي كان المجوس يعبدونها ، ولم تنطفئ منذ ألف سنة إذ كان عليه خدام يتعاهدون النار.
وكان العرب أيام ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعبدون الأوثان ويتقربون بها إلى الله عز وجل ، وقد نصبوا ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة.
ومنهم من يعبد الملائكة أو الكواكب للخشية منها ومن قدرتها.
وجاءت نساء بني سعد الى مكة لالتماس الرضعاء في سنة شديدة الجدب ، ومنهن حليمة السعدية ومعها زوجها أبو كبشة ، وناقة مسنة لا تدر قطرة من لبن.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعرض على نساء بني سعد فيعرضن عنه لأنه يتيم ، وكن يتطلعن إلى النوال والعطاء من والد الرضيع ، خاصة وأن قريشاً أهل تجارة ومجاورو الحرم الذي يفد إليه رجال القبائل في الحج والعمرة.
وأخذت نساء بني سعد الصبيان وبقيت حليمة فلم ترجع بلا صبي فأخذت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتيم.
وكان قريش ترسل أولادها للرضاعة في ديار بني سعد وهي ديار معزولة بين الجبال لا تصلها الغزاة.
وبنو سعد بن بكر من هوازن ، وتقع قريتهم جنوب شرق مدينة الطائف.
ونزلت البركة على حليمة وبيتها ودرت الناقة الحليب من أول ساعة أخذت حليمة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معها.
وعندما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سن الأربعين بعثه الله عز وجل نبياً في غار حراء في جبل النور الذي يبعد عن المسجد الحرام 6 كم وهو مشرف على منى في الطريق إلى عرفات ويقع غار حراء في أعلى نقطة من الجبل.
وقيل أن جبل فاران في التوراة هو نفسه جبل حراء ، ولكن المراد من جبل فاران جبال مكة.
وفي التكوين أن الله عز وجل خاطب هاجر بعد أن فرغ الماء الذي في القرية (21:18 قومي احملي الغلام و شدي يدك به لاني ساجعله امة عظيمة
21:19 و فتح الله عينيها فابصرت بئر ماء فذهبت و ملات القربة ماء و سقت الغلام
21:20 و كان الله مع الغلام فكبر و سكن في البرية و كان ينمو رامي قوس
21:21 و سكن في برية فاران و اخذت له امه زوجة من ارض مصر)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذهب اليه يتعبد الله .
وكانت البعثة في السابع العشرين من شهر رجب من السنة الثالثة عشرة قبل الهجرة.
وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث في السابع عشر من شهر رمضان لقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وعن الإمام عليه عليه السلام قال : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخلو سنوياً مع نفسه في جبل حراء ، ولم يكن يراه غيره.
وقيل أول من اعتكف بجبل حراء عبد المطلب جد النبي .
قال ابن الأثير عن عبد المطلب (أول من تحنث بحراء، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر.
وتوفي وله مائة وعشرون سنة، وكان قد عمي. وقبل غير ذلك)( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال في حديث : نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد اقرأ ، قال : وما اقرأ ، قال [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، اي خلق نورك الاقدم قبل الاشياء( ).
وهناك فرق بين كل من :
الأول : جبل النور الذي فيه غار حراء .
الثاني : جبل ثور الذي التجأ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة إلى المدينة ، إذ مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غاره ويبعد عن المسجد الحرام 4 كم من الجهة الجنوبية ويسمى الغار فيه , إي أي غار ثور باسم الجبل نفسه إذ مكث فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث ليال .
وسمي جبل ثور لأن ثور بن عبد مناف سكنه ، ويقال لأنه يشبه ثوراً مستقبل الجنوب.
وقد نام الإمام علي عليه السلام في فراش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة خروجه من مكة بعد أن أرادت قريش اغتياله في تلك الليلة باختيارهم عشرة من شبانهم يهجمون عليه هجمة رجل واحد كي يعجز بنو هاشم عن أخذ ثأره فيرضون بالدية.
وعن ابن إسحاق (فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر أمر الله، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل، عليه السلام، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجى ببُرد له أخضر، ففعل.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القوم وهم على بابه، وخَرَج معه بحفنة من تراب، فجعل يذرها على رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ [يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ]( )، } إلى قوله فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ( ).
وقامت عنكبوت بسد فتحة الغار ، ووضعت حمامة بيضها عند مدخل الغار فلما رآها رجال قريش الذين تتبعوا الأثر إلى باب الغار ظنوا عدم وجود أحد فيه لأن بناء العنكبوت ووضع الحمامة بيضها يلزم شهوراَ وهو من معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم كانت الدعوة العلنية ومنها [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
وهل الآية أعلاه من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها شاملة للمسلمين والمسلمات ، المختار هو الثاني وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
و(عن ابن عباس قال : لمّا أنزل الله سبحانه [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين] ( )، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني عبد المطلب، يا بني فهر لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني.
قالوا : نعم .
قال : فإني نذيركم بين يدي عذاب شديد
فقال أبو لهب : تبّاً لك سائر اليوم،
ما دعوتنا إلاّ لهذا،
فأُنزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ( ).
وهذا الخبر لا يتعارض مع الخبر الأخر في موضوع ذات الآية بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وكان عددهم أربعين رجلاً وأولم لهم وتجلت معجزة حينئذ بكفاية الطعام القليل للعدد الكثير من الرجال ، لتتعقبها دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم للإسلام ، وهو من مصاديق التكرار في الإمتثال للأمر الإلهي في الدعوة إلى الله سبحانه.

بين التوراة والصحف والوحي
النسبة بين الكتاب المنزل والصحف عموم وخصوص مطلق , فالكتاب أعم وهو أحكام شرعية وقد ذكر الله عز وجل التوراة التي نزلت على موسى وأخبر الله تعالى عن نزول الصحف عليه قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( ) ومعنى صحف موسى على وجوه : الأول : المراد من الصحف ذات التوراة , وكان مكتوباً في الألواح , قال تعالى[وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ]( ). الثاني : صحف موسى غير التوراة التي أنزلها الله عز وجل عليه . الثالث : بين التوراة والصحف عموم وخصوص مطلق , وهو على شعبتين : الأولى : الصحف أعم من التوراة . الثانية : التوراة أعم من الصحف . الرابع : بين التوراة وصحف موسى عموم وخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما . الخامس : الصحف بيان وتفسير وتوضيح للتوراة وأحكامها , والمختار هو الخامس . ترى ما هي النسبة بين الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وبين صحف موسى , الجواب هو العموم والخصوص المطلق , فالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم وأكثر موضوعاَ وحكماَ وزماناَ لقوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
فمن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حضور الوحي معه في كل آن لهدايته والمسلمين إلى السبيل القويم والصراط المستقيم في القول والفعل إلى جانب توالي نزول آيات القرآن عليه , فلا يرجع النبي محمد إلى الألواح وإلى صحف مكتوبة إنما يختار ويفعل ما فيه الصواب والنفع والمصلحة بالوحي من عند الله عز وجل .
عمرة سعد بن معاذ قبل بدر
في بدايات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجه سعد بن معاذ إلى مكة لأداء العمرة وهو يستصحب دخولهم والناس إلى مكة من غير تضييق وحرج ، ونزل على أمية بن خلف .
كما رواه عبد الله بن مسعود عن سعد بن معاذ (أنه كان صديقا لامية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية) ( ).
وحينما وصل سعد إلى مكة قال لأمية : أنظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت) وفيه شاهد بأن البيت الحرام يشهد زحاماً تلك الأيام ، وهو من مصاديق قول الله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) نعم لم يكن المطاف واسعاً إذ كانت البيوت تحيط به وإن كان سكن بني هاشم في شعب أبي طالب ومنه مكتبة مكة العامة الأن التي تبعد عن الكعبة نحو 300م يدل على أن البيوت ليست قريبة من الكعبة كما كان مقام إبراهيم ملاصقاً للكعبة ثم صار يبعد 11م من الناحية الشرقية منها.
وهل من موضوعية لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إزدياد الطواف وكثرة وفد الحاج في سني بعثته قبل وبعد الهجرة ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : بعث رسالته الناس إلى سبل الإيمان.
الثانية : تأكيد وجوب عمارة البيت.
الثالثة : إثارة مسألة إبتلائية وهي حرمة نصب الأصنام في البيت الحرام ، وضرورة إزاحتها .
وهذه الإزاحة من مصاديق التطهير المذكور في الآية أعلاه ، ولقاعدة عدم إجتماع الضدين ، فالبيت الحرام محل التوحيد ، ولابد من تنزيهه للطائفين به والنساك القادمين من الأمصار ، و[الْعَاكِفِينَ] أي المقيمين من سكان الحرم.
الرابعة : كل فرد من الأفراد الأربعة : الطواف ، العكوف، الركوع ، السجود من مصاديق السلم الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاهد في سبيل تحقيقه وتثبيته في الأرض ، لذا نزل القرآن بوجوب الحج ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
الخامسة : طرو أمر سماوي على أهل مكة وما حولها ، وهو تغشي ضوابط الحلال والحرام لأفعال الناس بآيات القرآن والسنة النبوية.
فيأتي وفد الحاج أو المعتمرون لينقلوا الى أهليهم تحفة وهدية وهي الحسن الذاتي للعبادة والصلاح وقبح الشرك والضلالة وسفك الدمار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وهل بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأحكام ومناسك الحج في حجة الوداع وتفسير آيات الحج ونحوه أكثر تفصيلاً من بيان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لها ، أم أنه أقل منها أم أنه مساو لبيان إبراهيم وإسماعيل عليه السلام لتلك المناسك .
المختار هو الأول لعمومات الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ]( )، وقد ورد حديث طويل يدل عليه عن مجاهد ، وأوله (قال إبراهيم عليه السلام : رب أرنا مناسكنا . فاتاه جبريل فأتى به البيت فقال : ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه .
فانطلق به إلى الصفا قال : هذا من شعائر الله ، ثم انطلق به إلى المروة فقال : وهذا من شعائر الله ، ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال : كبر وأرمه . فكبر ورماه) ( ).
لقد خرج أمية بن خلف بسعد بن معاذ قريباً من وقت زوال الشمس عند كبد السماء حيث يحين وقت صلاة الظهر ، وهل كان أمية يفقه هذا المعنى الجواب نعم ، فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى الشمس وهو في البيت الحرام حتى إذا كانت في كبد السماء كبر وصلى ووقف خلفه الإمام علي وخديجة عليهما السلام ، كما أن هذا المعنى يحضر في عالم القول والفعل في البيت الحرام بالفطرة وبفضل من الله عز وجل .
ولعل سعد بن معاذ هو الذي أشار إلى هذا الوقت بالذات ، ولقيهما أبو جهل الذي يعرف أن سعد بن معاذ سيد الأوس ، ودخل الإسلام على يد مصعب بن عمير سفير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل يثرب ، فدخل معه الإسلام بنو عبد الأشهل (وكان سعد ممن شهد العقبة الثانية وهو من النقباء ليلة العقبة وكان بين العقبة الأولى والثانية سنة) ( ).
وحضر سعد بن معاذ معركة بدر ، وأحد ، والخندق التي أصيب فيها بسهم فعاش شهراً ثم انتفض جرحه فمات منه.
وهل يريد سعد في عمرته إختبار قريش ، ورد فعلهم على نصرة الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل عندهم نية بمهاجمة المدينة ، خاصة وأن هذه العمرة قبل واقعة بدر ، المختار نعم ، وهل يدرك أبو جهل هذا المعنى والمقصد على فرض حضوره في المقام ، الأرجح نعم ، لذا تلقى سعد بالتبكيت والتخويف والوعيد .
إذ خاطب أبو جهل أمية قائلاً : يا ابا صفوان من هذا الذي معك فقال : هذا سعد ، وذكر اسمه مجرداً شاهد على رفعة شأنه وأنه معروف عند أشراف قريش ، ولم يلتفت لهذه المعرفة عند إختيار دخول الإسلام ، وهو يعلم بطشهم .
فالتفت أبو جهل إلى سعد وقال له (ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أو يتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لو لا أنك مع أبى صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما.
فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لامنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة.) ( ).
عند تدخل أمية وأشار على سعد بأن يتكلم مع أبي جهل بطريقة مناسبة ، وقال (لا ترفع صوتك يا سعد على أبى الحكم، فإنه سيد أهل الوادي.
قال سعد: دعنا عنك يا أمية، فو الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” إنهم قاتلوك ” قال: بمكة ؟ قال: لا أدرى.) ( ).
عندئذ عزم أمية على عدم الخروج من مكة إذ تلقى كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كقانون ، ولم يشك في تنجزه في الواقع لإدراكه صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يتكلم إلا عن الله عز وجل .
لقد فزع أمية بن خلف بن صفوان من كلام سعد ، وعن عبد الله بن مسعود (فرجع إلى امرأته فقال أما تعلمين ما قال أخي اليثربي قالت وما قال قال زعم انه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي قالت فوالله ما يكذب محمد)( ).
لقد تلقوا خبر الواحد بالتصديق مع أنه إنذار ووعيد لبيان فوز الصحابة بمرتبة تصديق الناس باخبارهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد)( ).
ومن هذه الصداقة النصح بصيغة الإنذار ولزجر الناس عن الخروج إلى معركة بدر ، قال تعالى [وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا]( )، فلما جاء الصريخ وتناجت قريش بالخروج قالت امرأة أمية لزوجها (اما علمت ما قال :لك أخوك اليثربي قال فإني إذا لا خرج) ( ).
ولكن أبا جهل ألح عليه وعيره ورغّبه بأن يسير معهم يوماً أو يومين ، فكان فيها حتفهما إذ ماتا على الكفر والشرك والتعدي ومحاربة النبوة والتنزيل.
لقد جاءت آيات خلق السموات والأرض وتذكير القرآن بالآيات الكونية كالشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار ومنها آية البحث زجراً للمشركين بترك محاربة القرآن الذي تضمن الإخبار بقرب لقائهم الله عز وجل ، ومنها آية البحث التي دعت رجال قريش لتحكيم العقل باختتامها بقوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
لقد تضمنت آيات الخلق غنى الله عز وجل عن الناس ، قال تعالى [أََوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ]( ).
وحينما جاء ضمضم بن عمرو رسولاً من أبي سفيان يحث قريشاً على إنقاذ قافلته من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين لم يثبت عزمهم على الإستيلاء على القافلة فنادت قريش بالنفير للخروج إلى معركة بدر.
ويمكن القول بقانون كل آية من القرآن مكية أو مدنية تحذر المشركين من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها آية البحث [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
معجزات السلام في الحديبية
في هذا العنوان حذف ، وتقديره معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص السلام في صلح الحديبية ، فلا يخفى على أحد أن الصلح بين المتحاربين ذو منافع منها :
الأول : إنه سلام.
الثاني : فيه وضع للقتال.
الثالث : الصلح وقف لنزيف الدم.
الرابع : فيه تحريك للإقتصاد والتجارة.
الخامس : فيه منع لاتصال القتل والكدورات والعداوات.
لذا أمر الله عز وجل المسلمين بالمبادرة إلى الصلح وقبول الدعوة إليه ، قال تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، وليكون المعنى للفظ كافة وجوه :
الأول : ارادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة.
الثاني : أمراء السرايا من المسلمين .
الثالث : أجيال المسلمين .
الرابع : الناس كافة.
وقد سُمي صلح الحديبية غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما عن الشعبي إذ قال بخصوص قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، أن الآية (نزلتْ بالحديبيةِ وأصاب رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الغزوةِ ما لم يُصِبْ في غزوةٍ) ( )( ).
وليس هي غزوة موضوعاً وحكماً ، إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة لأداء العمرة بسلاح الراكب ، السيوف في الغمد بقصد أداء العمرة في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وعادوا إلى المدينة في شهر ذي الحجة من ذات السنة ، وهو أيضاً شهر حرام.
ومن مصاديق السلام في صلح الحديبية أمور :
الأول : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأداء العمرة بعد قيام المشركين بالهجوم والغزو في معركة الخندق.
الثاني : مسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعمرة إعلان للسلام وطلب له ، ودعوة لنبذ القتال .
الثالث : عدم حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السيوف والأسلحة والدورع والخوذ.
حتى على القول بأنهم جاءوا بها ، وجعلوها بعيدة عن الحرم مع حرس عليها إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في موضع الحديبية ، وليس معهم إلا سلاح المسافر –السيوف في القرب- وخيل المشركين تحيط بهم.
الرابع : إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استعداده للصلح وحقن الدماء ، ونشر الأمن ، وتنشيط الأسواق وعمارة البيت الحرام ، والسلامة في الطرقات العامة.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الحديبية وقبل عقد الصلح (لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)( ).
الخامس : تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية وهي من مصاديق السلام ، فحينما نزل المسلمون في موضع الحديبية لم يكن هناك ماء ، وان وجد فهو قليل يكفي للمسافرين وللقوافل في مرورها ويكون عدد أفرادها في الغالب ثلاثين أربعين رجلاً ، أما أن يأتي ألف وأربعمائة صحابي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقيمون نحو عشرين ليلة في الموضع وحاجتهم للماء أكثر من غيرهم فهو أمر نادر ، وفيه إبتلاء
إذ يلزمهم للوضوء وغسل الجنابة وعموم الطهارة ، وإن كان يكفي التيمم والطهارة الترابية عند تعذر الماء (فقيل له: يا رسول الله، ليس بالوادي ماء. فأخرج سهماً من كنانته، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء (2) ، حتى كفى جميع أهل الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب ابن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن واثلة بن سهم بن مازن بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: بل نزل به البراء بن عازب)( ).
علم تقدير (قل) في القرآن
هل يمكن القول بقانون وهو قصص وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن أكثر من غيرها من قصص الأنبياء والأمم السالفة ، الجواب نعم.
وقد ورد الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد (قل) (328) مرة في القرآن ، وكل فرد منها مسألة عقائدية ، وقد تستنبط من موضوعه عدة قوانين منها كالأوامر بأداء الفرائض العبادية والإحتجاج على الذين كفروا والميل إلى السلم والصلح وغيرها.
وأكثر ورود لفظ (قل) في القرآن كالآتي :
الأولى : سورة الأنعام (44) مرة.
الثانية : سورة يونس (24) مرة .
الثالثة : سورة آل عمران (23) مرة .
قال تعالى [قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ) ( ).
لبيان تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نيابة عن المسلمين والمسلمات وهذا القول شهادة وتزكية نبوية لهم .
مع تعدد المقول له ليشمل المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً، ومنه [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ لفظ (قل) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمقول له خاص ، ولكن المعنى عام يشمل الناس جميعاً ، وهو من أسرار بقاء آيات القرآن غضة طرية.
كما ورد لفظ (قل) أربع مرات أخرى ، واحدة بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمة [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
فلم يكن أحد والدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موجوداً أيام نزول القرآن.
وفيه تنبيه لقانون وهو إرادة الأمة وأجيال المسلمين من لفظ (قل) إلا ماخرج بالدليل وإرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ]( )، ولكن تمام الآية يدل على إرادة تفقه المسلمين في الدين وإعانتهم في الإحتجاج لتقسيم الآية لآيات القرآن إلى محكمات ومتشابهات وتمام الآية هو [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
وجاء لفظ (قل) في آيتين متجاورتين خطاباً إلى نوح كما في قوله تعالى [فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ]( ).
وحتى هذه الآية فانها تشمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ نجاه الله عز وجل وأهل بيته وأصحابه من القوم الظالمين من قريش الذين فرضوا الحصار على بني هاشم ثلاث سنين ، وثم أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
والرابعة إلى موسى عليه السلام بقوله تعالى [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى]( )لبيان جهاد الأنبياء بالإحتجاج والترغيب بسنن الإيمان ، وهل هو من الشواهد على عدم نسخ آيات السلم أم أن الآية أعلاه خاصة بأيام ونبوة موسى عليه السلام ، الجواب هو الأول.
ويمكن القول إذا اجتمع منهج التفسير مع اتجاه التفسير افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، للتداخل العملي بينهما.
والمختار إمكان تقدير الأول (قل يامحمد) على آلاف الآيات من القرآن ، وعلى نحو التعدد في الآية الواحدة ، ومنه آية البحث على وجوه :
الأول : قل أن في خلق السموات آيات.
الثاني : قل أن في خلق الأرض آيات .
الثالث : قل أن اختلاف الليل والنهار آيات.
الرابع : قل لأولي الألباب .
الخامس : قل [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
ويصح تقدير لفظ (قولوا) في هذه الآيات منه : يا أيها الذين آمنوا قولوا إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.
وهل من ثمرة لهذا التقدير ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : بيان موضوعية تلاوة الآية القرآنية .
الثانية : الدعوة إلى الله عز وجل ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : إعجاز القرآن بامكان الجمع بين آياته في اللفظ والمعنى.
الرابعة : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نشر ألوية الإيمان بتلاوة آيات القرآن.
الخامسة : بقاء الآية القرآنية غضة طرية.
السادسة : تنزيه المجتمعات من الأخلاق المذمومة.
مقدمات الحكمة (بحث أصولي)
مقدمات الحكمة ثلاثة :
الأولى : كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد .
الثانية : انعدام ما يوجب التعيين كالقرينة المتصلة أو المنفصلة.
الثالثة : انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ومنهم من جعلها مقدمتين.
والمراد من المتكلم المشرع الإسلامي .
والمراد من الكلام التكليف الشرعي أو الحكم الشرعي الذي يخاطب به المكلفون .
إذ يمر الحكم الشرعي بمرحلتين :
الأولى : مرحلة التشريع .
الثانية: مرحلة التبليغ وهي التي تسمى مقام البيان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ففي مرحلة التبليغ يلزم بيان الحكم وشؤونه فيدرك الفقيه التقييد عند نصب قرينة على التقييد لأن القرينة تقدم على ذي القرينة لأنها الأظهر ، فلا يأخذ الفقيه بالإطلاق ، فاذا نصب الشرع قرينة تدل عليه فلا يصح حمل كلام الشرع على الإطلاق .
لقانون انتفاء التعارض في القرآن ، وقانون انتفاء التعارض بين القرآن والسنة ، وقد تأتي القرينة والتقييد في الكتاب أو السنة لحمل اللفظ الدال على الماهية المطلقة على المقيد والجزء المراد من أجزاء الماهية كما في قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، فقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً) ( ).
أما بالنسبة للثالثة أعلاه فانه لابد من وجود قدر متيقن في مقام التخاطب يعتمد عليه المتكلم كقرينة تقييد مع قابلية المقام للإطلاق والتقييد ، فلا يستقرأ الإطلاق من اللفظ أن المولى قال لخادمه (اشتر اللحم ) وأن الخادم يعلم بان مراد مولاه من اللحم هو لحم الغنم .
وأن لفظ (اللحم ) مطلق لإرادة الجنس من الألف واللام بينما القدر المتيقن الذي في مقام التخاطب والإستعمال المتعدد هو لحم الغنم .
ويشكل على المثال وتكراره في مباحث علم الأصول أن الموضوع بيان للأحكام الشرعية ، ولا يعجز الفقيه عن الإتيان بمثل يناسب مقام التشريع ، ليكون المثال مدداً لطالب العلم في تحصيله .
مثلاً إذا قال الأب لابنه (صلِ) فهل المراد الفريضة العبادية والوجوب أو الإستحباب ، أو قول اللهم صل على محمد وآل محمد ثم ننظر إلى القرينة المقالية أو الحالية ، فاذا كانت الشمس قد زالت فالمقصود صلِ صلاة الظهر
(وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي عاصم والهيثم بن كليب الشاشي وابن مردويه عن طلحة بن عبيد الله قال : قلت يا رسول الله كيف الصلاة عليك.
قال قل اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد) ( ).
تقدير [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ]
ويحتمل المراد من الفتح في الآية وجوهاً :
الأول : ذات الصلح وكونه نصراً محضاً .
الثاني : صلح الحديبية طريق ومقدمة إلى فتح مكة و(عن جابر:
قال : ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلاّ يوم الحديبية) ( ) أي اطمأنوا على قرب تحقيق فتح مكة لوجود المقتضي وإزاحة المانع .
الثالث : استدامة وتجدد الفتح مدة النبوة .
الرابع : تجدد الفتح في مدة النبوة وما بعدها .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وفي الآية حذف وتقدير الآية على وجوه:
الأول : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً في الأرض .
الثاني : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً مباركاً لا يغلق أبداً .
الثالث : إنا فتحنا لك ولأمتك فتحاً مبيناً .
الرابع : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لتحقيق الغايات الحميدة.
الخامس : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً بقهر أهل الكفر والضلالة .
السادس : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً تفضيلاً لك .
السابع : إنا فتحنا لك فتحاً فاجتهدوا في طاعة الله .
الثامن : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً بالصلح وليس بالسيف ، لبيان أن الصلح فتح وطريق وبلغة في الخير والصلاح .
التاسع : إنا فتحنا لك فتحاً لنشر ألوية السلام في الأرض بالصلح والسلم .
العاشر : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
الحادي عشر : إنا فتحنا لك فتحاً ويتعقبه[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ).
الثاني عشر : إنا فتحنا لك فتحاً[وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) إذ يتوجه الخطاب القرآني إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويأتي التحذير والنهي إلى المسلمين والمسلمات .
الثالث عشر : إنا فتحنا لك فتحاً فاشكروا الله عز وجل.
الرابع عشر : إنا فتحنا لك فتحاً لا يقدر عليه غيرنا ، وفي التنزيل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الخامس عشر : إنا فتحنا لك فتحاً [وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( ).
السادس عشر : إنا فتحنا لك فتحاً بالصلح فاتخذه منهاجاً .
السابع عشر : انا فتحنا لك فتحاً مبيناً بآيات السلم ، وليس بالسيف ، وهو من الشواهد على أن آيات السلم نعمة عظمى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وعامة الناس .
الثامن عشر : إنا فتحنا لك فتحاً مبينا لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
التاسع عشر : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً وهو من مصاديق آية البحث والآيات التي تذكرها.
العشرون : إن فتحنا لك فتحاً مبيناً بآية حسية باهرة.
ويمكن بيان وجوه متعددة لتقدير الغاية والنتيجة من الفتح ، وتقسم الى وجوه :
الأول : الغايات والنتائج حال الصلح.
الثاني : الغايات والنتائج بعد أيام التنزيل .
الثالث : الغايات والنتائج إلى يوم القيامة ، وتنمية .
والنسبة بين الفتح والصلح هو العموم والخصوص المطلق ، فمن معاني تقييد الفتح بأنه مبين تعدد مصاديق الفتح .
وهل كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فتحاً ، الجواب نعم .
وهل لخلق السموات والأرص واختلاف الليل والنهار الذي تذكره آية البحث موضوعية وعون ومدد بالفتح الذي تفضل الله عز وجل به على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، لبيان أن منافع الآية القرآنية حاضرة في السنة وأمور الحياة الدنيا ، وأن منافعها من اللامتناهي.
ومن فضل الله عز وجل بقاء النعمة التي ينزلها الله في الأرض إلى يوم القيامة ، فهو أكرم من أن يرفعها ، لذا فان ما يتفرع عن آيات السلم باق ومتجدد وفي إتساع، قال تعالى [وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ( )وهذا البقاء من الشواهد على عصمة آيات السلم من النسخ.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وقوع معركة كبرى بعد صلح الحديبية إلا معركة حنين التي ابتدأ المشركون فيها الهجوم مع كثرة عدد المسلمين يومئذ ، إذ كان يسير مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجادة العامة اثنا عشر ألفاً عدا الذين في المدينة وحواليها ممن لم يأتوا لفتح مكة والذين تخلفوا في مكة ، قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ).
وكان عدد جيش هوازن وثقيف أكثر من عدد المسلمين في موضع القتال وأكثر الأخبار لم تذكر عدد أفراد جيشهم إنما أخبرت عن كونهم جمعاً كثيراً ، وعن الواقدي ما يدل على أن عددهم عشرون ألفاً ، ولعله جمع معه النساء والصبيان إذ حملهم مالك بن عوف معه.
ففي معركة بدر في السنة الثانية للهجرة كان المسلمون [أَذِلَّةٌ] ( ) ونصرهم الله ، وبعدها في ست سنوات كان المسلمون كثرة وذوي منعة ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم ، ولكن باغتتهم جيوش هوازن وثقيف ثم انهزمت بمعجزة , بعد أن انكشف عنه أكثر أصحابه ، لبيان قانون وهو تعضيد المعجزة لآيات السلم , وهو من الدلائل على عدم نسخها .
وهل آية البحث وقوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( )، بشارة نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حنين ، الجواب نعم ، لأن الله عز وجل أبى إلا أن ينصر الرسل ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم تعدد قرب الموت منه في كل معركة وخارج المعارك ، ولكن الله عز وجل ينجيه ليكون كل فرد من أفراد هذه النجاة معجزة له ، وترغيباً بالعمل بآيات السلم والصلح والموادعة .
ومثل هذه الوجوه من الحذف والتقدير بلحاظ مضامين السلام يمكن تقدير قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
حينما تم صلح الحديبية كان بعض المسلمين ينظر إلى موضوع خاص وهو أداء العمرة وأنهم رجعوا إلى المدينة من غير أداء العمرة مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم بأدائها ، وقد أدوها في العام التالي.
مع أن منافع صلح الحديبية لا تعد ولا تحصى ، ومنها :
الأول : نشر السلام في أرجاء الجزيرة.
الثاني : سيادة الأمن .
الثالث : كف المشركين أيديهم وإعادتهم السيوف إلى القرب ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ) .
الرابع : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من القتل .
الخامس : بعث السكينة والطمأنينة في النفوس .
السادس : لحوق الخزي والخيبة بالذين كفروا ليكون صلح الحديبية من مصاديق علم الغيب في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) إذ نزلت الآية أعلاه في السنة الثالثة للهجرة، وتم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، وسيأتي قانون مصاديق الرعب [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
السابع : البيان العام لأجيال المسلمين بأن آيات السلم محكمة ، وأن منافعها عامة.
الثامن : تأكيد قانون الإسلام دين الأمن والسلام والتعايش السلمي .
منافع تقسيم القرآن إلى سور وآيات
عدد آيات القرآن هو (6236) آية تجمعها (114) سورة .
وقال مجاهد سور القرآن (113) سورة بالجمع بين سورة الأنفال والتوبة لعدم وجود بسملة بينهما , وهو قول ضعيف وخلاف الإجماع ، ولم يرد ما يدل على أنهما سورة واحدة .
وجاءت الأخبار ببيان علة عدم ذكر البسملة في أول سورة براءة ، ولو شاء الله لجعل القرآن سورة واحدة تنقسم إلى آيات أو لجعله كله أو شطراً منه في سورة أو آية واحدة ، ولكن تفضل ببيان إعجاز للقرآن في ذاته ، وتقسيمه وتنظيمه وترتيبه ،وهو من الإعجاز الذاتي للقرآن ، إذ أن هذا التقسيم توقيفي من عند الله سبحانه.
وهل تقسيم القرآن إلى سور وآيات وبالرسم والكيفية التي هو عليها من مصاديق الهداية في قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، الجواب نعم.
وكان جبرئيل ينزل بالآية ويقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضعها في السورة الفلانية بين الآية كذا والآية كذا.
كما كان يعرض ويتدارس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في كل سنة مرة ، وعارضه في السنة التي انتقل فيها إلى الرفيق الأعلى مرتين
(ومن مسند احمد عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: مرحبا يا بنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، قلت:استخصك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحديثه ثم تبكين، ثم أسر إليها حديثا فضحكت.
فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عما قال.
فقالت: ما كنت لافشي سر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله) سألتها .
فقالت: أسر إلي فقال: إن جبرئيل (عليه السلام) كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة وإنه عارضني به العام مرتين ولا أراه إلا قد حضر أجلى، وإنكِ أول أهل بيتي لحوقا بي ونعم السلف أنا لك فبكيت لذلك، فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامة ونساء المؤمنين ؟ قالت: فضحكت لذلك) ( ).
كما ذكره ابن كثير في السيرة 4/448 وقال : ثبت في الصحيحين ، وذكره البيهقي وقريباً منه في الخصائص الكبرى 2/398 .
وأول سورة من القرآن نزلت من السماء سورة العلق وأولها [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) ثم المدثر ثم العلق .
وهو المروي عن ابن عباس وعائشة( ) والإمام الصادق عليه السلام وقول آخر أن أول سورة نزلت على النبي فاتحة الكتاب ، ونسبه الزمخشري إلى أكثر المفسرين( ) ، ولم تثبت هذه النسبة فاكثر المفسرين على نزول سورة العلق أولاً .
وعن (جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه : بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه ، فرجعت ، فقلت : زملوني . فأنزل الله { يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر }( ) فحمي الوحي وتتابع) ( ).
ولا يدل الحديث على أن سورة المزمل أول سورة نزلت ، والأرجح الجمع بين الأقوال بأن سورة الفاتحة أول سورة نزلت كاملة ، ومنهم من مال إلى نزول سورة العلق كاملة .
وأول سورة نزلت في المدينة سورة البقرة .
و(عن عطاء الخراساني قال : بلغنا أن هذا ما نزل من القرآن بمكة والمدينة الأول فالأول ، فكان أول ما نزل فيما بلغنا : اقرأ باسم ربك ، ثم ن والقلم ، المزمل ، المدثر ، تبّت ، إذا الشمس كورت ، سبّح اسم ربك ، الليل ، الفجر ، الضحى ، ألم نشرح ، العصر ، العاديات ، الكوثر ، ألهاكم ، أرأيت ، الكافرون ، الفيل ، الفلق ، الإخلاص ، النجم ، عبس ، القدر ، والشمس ، البروج ، التين ، لإيلاف ، القارعة ، القيامة ، الهُمزة ، المرسلات .
ق ، البلد ، الطارق ، القمر ، ص ، الأعراف ، قل أوحي( ) ، يس ، الفرقان ، الملائكة ، مريم ، طه ، الواقعة ، الشعراء ، النمل ، القصص ، بنو إسرائيل ، يونس ، هود ، يوسف ، الحجر ، الأنعام ، الصافات ، لقمان ، سبأ ، الزمر ، المؤمن ، حم السجدة .
عسق( ) ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف ، الذاريات ، الغاشية ، الكهف ، النحل ، نوح ، إبراهيم ، الأنبياء ، قد أفلح ( )، السجدة ، الطور ، الملك ، الحاقة ، سأل سائل ، النبأ ، النازعات ، الانفطار ، الانشقاق ، الروم ، العنكبوت ، المطففين .
فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة .
وكان فيما نزل بالمدينة البقرة ، ثم الأنفال ، آل عمران ، الأحزاب ، الممتحنة ، النساء ، الزلزلة ، الحديد ، سورة محمد ، الرعد ، الرحمن ، هل أتى( ) ، الطلاق ، لم يكن ، الحشر ، النصر ، النور ، الحج ، المنافقون ، المجادلة ، الحجرات ، التحريم ، الجمعة ، الصف ، الفتح ، المائدة ، براءة( )
فهذه سبع وعشرون سورة نزلت بالمدينة) ( ).
وقد تقدم في مقدمة الجزء الواحد والثلاثون بعد المائتين من هذا التفسير الإشارة إلى قانون الجامع بين السور المكية والمدنية .
ومن منافع تقسيم القرآن إلى سور وآيات وجوه :
الأول : الترتيب والتنسيق وحسن التنظيم .
الثاني : دعوة المسلمين والناس للتدبر في نظم القرآن وما فيه من الإعجاز.
الثالث : بعث الشوق في النفوس لقراءة المزيد .
الرابع : تيسير حفظ القرآن .
الخامس : موضوعية قراءة القرآن في الصلاة ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ] ( ) ، وشرط قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة.
السادس : المنع من تحريف القرآن .
السابع : استحضار أسباب نزول الآيات .
الثامن : الترغيب بحفظ القرآن وتسهيل هذا الحفظ وضبطه ، والإنتقال من سورة إلى سورة .
التاسع : تيسير تفسير القرآن ، وفق نظمه أو نزوله ، وكان الصحابة يتدارسون الآيات والسور عشر آيات ، عشر آيات .
و(عن أبي عبد الرحمن قال حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات ولا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العمل والعلم فإنا علمنا العمل والعلم)( ).
و(عن أبي أمامة ، أن رجلا قال : يا رسول الله ، اشتريت مقسم بني فلان ، فربحت فيه كذا وكذا ، فقال : ألا أنبئك بما هو أكثر منه ربحا .
قال : هل يوجد ، قال : رجل تعلم عشر آيات، فذهب الرجل فتعلم عشر آيات ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، لم يرو هذه الأحاديث عن سليمان التيمي إلا ابنه)( ).
والأحاديث النبوية التي ورد فيها لفظ (عشر آيات) عديدة ويمكن استقراء المسائل منها ، مما يتعلق بعلوم القرآن أو الحياة الدنيا ، أو عالم الآخرة.
العاشر : بيان الجامع بين آيات كل سورة ، فمثلاً اختصت سورة يوسف بذكر قصته باستثناء آيات قليلة.
الحادي عشر : بيان صبغة كل من السور المكية والسور المدنية ، فقد تجلى التخويف والوعيد في السور المكية بينما نزلت الأحكام والتشريع في السور المدنية ، فسورة البقرة أول سورة نزولاً في المدينة وفيها كثير من أحكام العبادات والمعاملات .
الثاني عشر: إتصاف السور المكية بالقصر ، وإتصاف السور المدنية بالطول، ليكون من إعجاز القرآن تيسير حفظ السور المكية بالنسبة للصحابة والذي يدخل الإسلام حديثاً ، ولوفد الحاج ، وسهولة دخول القرآن إلى بيوت مكة وما حولها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
الثالث عشر : معرفة أوان نزول الحكم الشرعي ، وما يترتب عليه من النسخ لتقدم المنسوخ في زمانه على الناسخ ، والتخصيص واستقراء الفقيه للحكم الشرعي .
وهل كان تقسيم القرآن إلى سور مكية ومدنية معروفاً أيام النبوة ، المختار نعم ، وأن الصحابة يعلمون التأريخ الإجمالي لنزول السورة ، ويذكرون الوقائع التي صاحبتها ، وجاء تدوين هذا التقسيم وفق هذه المعرفة ، كما أن كثيراً من آيات القرآن تبين بمضامينها أوان نزولها ، وتوثق أسباب النزول والسنة النبوية المصاحبة لها ، كما في المعارك الدفاعية للإسلام مثل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) أو قوله تعالى [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( ).
الرابع عشر : قانون عدم وقوع القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين إلا بعد الهجرة .
الخامس عشر : بيان خصائص ومراحل جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة .
السادس عشر : صدور المسلمين عن سور القرآن سواء كانت مكية أو مدنية .
السابع عشر : معرفة الآيات التي نزلت في الحضر ، وهي الأكثر ، والآيات التي نزلت في السفر ، والآيات التي نزلت في النهار وتسمى النهاري ، والتي نزلت في الليل وتسمى الليلي ، وما نزل في السماء وتسمى السماعية ، كما في حديث الإسراء وأسرار موضع وأوان نزول الآية بخصوص موضوعها أو حكمها ، وهو علم مستحدث هنا ويختلف عن أسباب النزول.
إذ ورد عن عبد الله بن مسعود قال (لما أسريَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها { إذ يغشى السدرة ما يغشى }( ) قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات) ( ).
وما نزل تحت الأرض كما في قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
وأختلف في تقسيم سور القرآن إلى مكي ومدني على ثلاثة وجوه :
الأول : لحاظ زمان النزول فيطلق لفظ المكي على ما نزل قبل الهجرة إلى المدينة، وإن كان بالطائف مثلاً أو في حديث الإسراء .
ويطلق المدني على ما نزل من القرآن بعد الهجرة وإن كان في مكة ، فلا موضوعية للمكان إذا خالف أصل التقسيم الزماني هذا ، وتأريخ هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوافق سنة 622 ميلادية .
الثاني : لحاظ مكان النزول فما نزل في مكة قبل أو بعد الهجرة فهو مكي ، وما نزل في المدينة بعد الهجرة إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسافر إلى المدينة بعد البعثة النبوية إلا مهاجراً في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية .
الثالث : إطلاق اسم المكي على ما كان خطاباً لأهل مكة مثل النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ ]وما كان بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]مدني ، ولكن آيات القرآن أعم من صيغة الخطاب فيها ، وهذا الوجه ضعيف .
والمشهور والمختار هو الأول أعلاه .
وهل ورد تقسيم سور القرآن إلى مكي ومدني عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إنه مستقرأ من السنة النبوية ، وتتبع أقواله وأخبار أهل البيت والصحابة الذين عاشوا فترة النبوة والوقائع فيها خصوصاً ، وهو نوع حاجة لمعرفة كل من :
الأول : أسباب نزول الآيات .
الثاني : الوقائع والأحداث .
الثالث : أوان نزول الآية القرآنية ، فالتقسيم إلى مكي ومدني تقسيم إجمالي ، ويمكن التحقيق بتقسيمات أكثر تفصيلاً لما يعلم أوان نزوله من آيات القرآن خاصة ما يتعلق بمعارك الإسلام الدفاعية .
الرابع : المطلق والمقيد .
الخامس : الناسخ والمنسوخ .
السادس : العموم والخصوص .
السابع : المجمل والمبين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وهل يمكن القول بقانون نزول أي آية من القرآن واقعة مباركة ونعمة ، الجواب نعم .
وعلم المكي والمدني ليس من الفرائض أو الواجبات ، ولكنه نوع طريق ومقدمة لضبط الوقائع والتواريخ وعلوم التفسير وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني معارضة جبرئيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن أي يستعرض معه ما أقرأه من الآيات والسور ومقابلتها ويتدارسها معه.
وتسمى آخر مرة عارض جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن العرضة الأخيرة ، بان تدارس معه القرآن كاملاً إلا بعض آيات ، مما نزل بعد حجة الوداع ، ومنه قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
ولابد أنه تم تدارس جبرئيل لها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصها ولو بعد العرضة الأخيرة.
وأطلق لفظ المعارضة والتدارس في القرآن على كل سنوات البعثة ، ويحتمل وجوهاً:
الأول : كان جبرئيل عليه السلام يتدارس كل آيات وسور القرآن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل سنة ، سواء تلك التي نزلت أو التي لم تنزل على القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم بالقرآن من بدايات البعثة ، ولكنه يتلوه حسب النجوم والوقائع ، قال تعالى [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا]( ).
الثاني : كان جبرئيل عليه السلام يعارض النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما نزل في ذات سنة المعارضة دون غيرها .
الثالث : معارضة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بجميع السور والآيات التي نزلت إلى حين المعارضة .
والصحيح هو الأخير .
وهل من معارضة جبرئيل للقرآن ترتيب السور والآيات ، الجواب نعم ، والمختار أن هذا الترتيب توقيفي .
تواريخ النبوة بالميلادي
تواريخ حياة وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفق الحساب القمري والميلادي كالآتي :
الأول : مولد الرسول ويكون في سنة 53 ق. الهجرة ويوافق شهر نيسان 571 م وهو عام الفيل ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ] ( ).
الثاني : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة ونزول الوحي عليه في سنة 13 ق .الهجرة ويوافق شهر آب سنة 610 ميلادية .
الثالث : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وتوافق شهر تموز 622 .
الرابع : كتيبة سفوان والتي تسمى بدر الأولى وتوافق أواخر سنة 623 ميلادية .
الخامس : معركة بدر والتي وقعت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وتوافق في الشهر الثالث مارس من السنة 624 م ، قال تعالى بخصوص معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) وقيل وافقت اليوم الثالث عشر من مارس من ذات السنة .
السادس : معركة أحد في يوم السبت النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ويوافق آخر شهر مارس لسنة 625 ميلادية.
السابع : غزو المشركين المدينة في الأحزاب في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة على المشهور والمختار ، ويوافق شهر مارس سنة627 ميلادية وقيل السنة الرابعة .
الثامن : وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة وتوافق سنة 632 ميلادية .
ليكون من معاني آية البحث في المقام فضل الله عز وجل في حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إختلاف الليل والنهار إلى حين قيامه بتبليغ الرسالة ، قال تعالى [الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ] ( ).
فمن معاني آية البحث بلحاظ الآيتين أعلاه وجوه :
الأول : تقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ملك الله عز وجلالذي خلقه رحمة ورأفة وحكمة منه تعالى .
الثاني : بيان حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله يقوم للصلاة والتهجد في [آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ]( ).
الثالث : فضل الله عز وجل في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بالتبليغ وكثرة أصحابه بعد الهجرة ، وفي التنزيل [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الرابع : من معاني خلق الله عز وجل للسموات والأرض رؤيته وعلمه بكل شئ فيها .
الخامس : إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب .
السادس : استدامة الوحي من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : من معاني [حِينَ تَقُومُ] أي من النوم ، وفي المجالس ،والدعوة إلى الله ، (عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بآخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ، فقال رجل يا رسول الله : إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى ، قال : كفارة لما يكون في المجلس .
وأخرج ابن أبي شيبة : عن زياد بن الحصين قال : دخلت على أبي العالية ، فلما أردت أن أخرج من عنده قال : ألا أزودك كلمات علمهن جبريل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قلت : بلى ، قال : فإنه لما كان بآخرة كان إذا قام من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، فقيل : يا رسول الله ما هؤلاء الكلمات التي تقولهن؟
قال : هن كلمات علمنيهن جبريل كفارات لما يكون في المجلس)( ).
الثامن : [حِينَ تَقُومُ] أي في إختلاف الليل والنهار ، ولبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من الله في كل مجلس ومنتدى ووقت .
التاسع : دعوة الآيتان أعلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشكر لله عز وجل على كثرة الصحابة مع تزكيتهم ، إذ لم تذكرهم الآية أعلاه من سورة الشعراء إلا بصفة الساجدين ، قال تعالى [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ [تَقَلُّبَكَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
رؤيا النبي (ص) والغيب
قد تأتي علوم الغيب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرؤيا التي هي شعبة من الوحي ، وهي أعلى مرتبة من الرؤيا الصالحة ، فمثلاً رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يدخل مكة ويطوف بالبيت الحرام ، فأخبر أصحابه ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ).
وساروا نحو مكة في طريق الحديبية وهم لا يشكون بأن هذه الرؤيا حق وأنها تنجز ويتحقق مصداقها وظنوا في ذات السنة ونفس الخروج خاصة بعد أن أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على مشارف الحرم لا يبعدون عن البيت الحرام إلا نحو (20) كم .
ولكنه تم الصلح وعادوا في ذات السنة ، وعندما وقع في نفوس بعضهم بأنه لم تتحقق الرؤيا ، أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانه لم يقيد إخبار تحقق العمرة بذات السنة .
وتم أجراء العقد وبادرت خزاعة بالدخول في عقد وعهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودخل بنو بكر في عقد وعهد كفار قريش ، فقال عمر (فأتيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : ألست رسول الله؟
قال : بلى.
قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل .
قال : بلى. قلت : فَلِمَ نعطي الدّنية في ديننا إذاً.
قال : إنّي رسول الله .
ولستُ أعصيه .
وهو ناصري.
قلت : ألستَ تحدّثنا أنّا سنأتي البيت،
فنطوف به .
قال : بلى.
قال : هل أخبرتك أنّا نأتيه العام.
قلت : لا،
قال : فإنّك آتيه ومطوِّف به ) ( ).
وأوضح القرآن الأمر ببيان نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان قانون وهو أن صلح الحديبية فتح ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، وهذا البيان من نصر ومدد القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني الفتح المبين في الآية تحقق عمرة القضاء ، ونشر ألوية السلم والأمان في ربوع الجزيرة ثم فتح مكة وهو سلام دائم .
وعن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة ، وأنزل الله في ذلك [وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ]( )، يعني الحكم وولده .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أريت بني أمية على منابر الأرض ، وسيتملكونكم ، فتجدونهم أرباب سوء واهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك : فأنزل الله { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }( ) .) ( ).
وعن ابن عباس (في قوله {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }( ) قال : هي رؤيا عين ، أريها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، وليست برؤيا منام {والشجرة الملعونة في القرآن } قال : هي شجرة الزقوم) ( ).
وهل من صلة بين آيات السلم والرؤيا التي يراها النبي سواء يراها بصفة النبوة أم لا ، المختار نعم ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ] ( ).
وأيهما أكثر الرؤيا التي يراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة وهي جزء من الوحي ، أم الرؤيا التي يراها كانسان ، ومنها الرؤيا الصادقة ، المختار هو الأول.
وقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة بعد سنة من صلح الحديبية بسلام وأمن ، ومن غير إراقة دم ، وهو من الشواهد على دلالة السنة النبوية والوقائع على سلامة آيات السلم من النسخ .
وتبين الآية أعلاه قانوناً وهو رؤية النبي في المنام شعبة من الوحي ، وتتصف بالصدق ، وتنجز مصداقها الواقعي .
التفسير بالتقدير
وهذا العلم واصطلاحه مستحدث في المقام ، ليس من حدً لمضامينه وفروعه ومسائله والقوانين التي تستنبط منه .
ولا يكون هذا التفسير المستحدث بديلاً لغيره من علوم التفسير إنما يكون بعرض واحد معها ، ومصاحباً لها ، ويستقرأ الكثير من مسائله من وجوه التفسير الأخرى ، وينتفع به للتوسعة في مناهج التفسير الأخرى.
فهو علم تستخرج بواسطته ذخائر من خزائن آيات القرآن ، وفيه شاهد علمي حاضر على كون كنوز القرآن من اللامتناهي ولفظ المحذوف هنا اصطلاح جامع فيشمل أمور :
الأول : تقدير اللفظ ولمعنى المناسب .
الثاني : الإستنباط .
الثالث : التحليل العقلي .
الرابع : قانون تقريب المدركات العقلية بالمحسوسات فيشمل تقدير الممكن شرعاً وعقلاً والمناسب .
الخامس : الجمع بين آيات القرآن .
السادس : قانون تثوير تفسير السنة للقرآن بذكر الحديث النبوي في تقدير الآية القرآنية ، وكذا بالنسبة للسنة الفعلية .
السابع : تقدير الغاية السامية من الآية لتفتح أبواباً من العلم ، وفيه إصلاح للنفوس والمجتمعات.
ومن خصائص علم التفسير أنه رحمة للناس ، وهذا العلم من مصاديق قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، ولم يرد لفظ (فليفرحوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
ومن غير اتباع للهوى ، أو ميل وتعصب لمذهب مخصوص في مائدة السماء الخالدة.
ويكون منهاجه على وجوه يستحضر عدد أو فرد واحد منها في تفسير الآية وتقديرها ومن هذه الوجوه :
الأول : تفسير كل كلمة وشطر من الآية على نحو مستقل ، وتقدير الممكن والمحذوف والمناسب معها ، سواء كان سابقاً لها أو متأخراً عنها ، كما سيأتي المثال في سورة الفاتحة .
الثاني : ذكر كل جملة أو شطر من الآية القرآنية مع تقدير المحذوف معها.
الثالث : ذكر الآية القرآنية كاملة مع تقدير المحذوف ، ويكون المحذوف المقدر في هذه الوجوه على أقسام :
الأول : تقدير المحذوف بلحاظ آيات القرآن ، وهو من عمومات القرآن يفسر بعضه بعضاً ، والذي اسميته بالتفسير الذاتي ، وهذا الوجه من أبهى مصاديق التفسير بالمحذوف ، وفيه حجة وبعث للشوق في النفوس لهذا العلم.
الثاني : تقدير المحذوف وفق السنة النبوية وأحاديث المعصوم والصحابي ، وهو التفسير بالمأثور ، ومن خصائص السنة النبوية أنها المصدر الثاني للتشريع .
الثالث : التفسير الفقهي والأصولي ، ولا ينحصر موضوعه بآيات الأحكام والتي تقدر بنحو (500) آية ، فقد ترد الأحكام الشرعية في آيات أخرى ، كما يدل عليها مفهوم أكثر آيات القرآن ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الرابع : تقدير المحذوف وفق أسباب النزول .
الخامس : المحذوف حسب التفسير الموضوعي للآية القرآنية .
السادس : تقدير المحذوف بلحاظ الوقائع والأحداث ما قبل واثناء النبوة وبعدها ، والنسبة بين الوقائع في أيام النبوة وأسباب النزول هو العموم والخصوص المطلق ، فالوقائع أعم وأكثر .
السابع : تقدير المحذوف بلحاظ الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب ، الندب، الإباحة ، الكراهة ، الحرمة .
الثامن : تقدير المحذوف بحسب الفرائض العبادية من الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والخمس ، وأقسامها وفروعها كالصلاة اليومية الخمس ، والصلاة المستحبة ، وأركان وأجزاء الصلاة .
التاسع : تقدير المحذوف والممكن .
العاشر : استحضار المحكم والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والمطلق والمقيد ، والعام والخاص ، والناسخ والمنسوخ بخصوص مضامين الآية والسنة النبوية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الحادي عشر : مناسبة القوانين التي وردت في هذا السِفر ، وقد تصل إلى عشرة آلاف قانون .
الثاني عشر : تقدير المحذوف بلحاظ الغايات الحميدة للآية القرآنية ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( )، وفيه استظهار لكنوز عديدة من الآية القرآنية ، إذ يتضمن القرآن الأحكام التكليفية ويبعث على التقيد بالأوامر والإمتثال لها ، وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه .
الثالث عشر : تقدير المحذوف وفق علوم الأجزاء الخاصة من هذا السِفر ومنها :
الأول : قانون لم يغز النبي محمد (ص) أحداً ، وهو علم مستحدث في هذا السٍفر ، ولكنه مستقرأ من الكتاب والسنة والسيرة النبوية ، فذات الحقائق والوقائع التي كان بعض العلماء يصفها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تمت قراءتها في هذا السِفر بما يدل على أنها غزوة للمشركين ، كما في معركة أحد مثلاً إذ زحفت جيوش المشركين مسافة (450) كم من مكة إلى المدينة ، وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل عدا النساء ، ليكون من معاني ملك الله للسموات والأرض كما في الآية السابقة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..] ( ) وكذا نسبة آية البحث لخلقهن لله عز وجل بأنه سبحانه يبعث الخوف والفزع في قلوب المشركين ، ويجعلهم ينسحبون بذل وخسران ، وقد صدرت بخصوصه الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
الرابع والعشرون : الجزء الواحد والعشرون بعد المائتين .
الخامس والعشرون : الجزء التاسع والعشرون بعد المائتين .
الثاني : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) لقد نزل الله القرآن رحمة بالناس واستدامة لخلافتهم في الأرض وهو مرآة الكمالات وتنمية للأخلاق الحميدة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وعن الإمام علي عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أدلك على خير أخلاق الأوّلين والآخرين؟ قال : قلت يا رسول الله نعم . قال : تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك)( )، وهناك تضاد بين الأخلاق الحميدة وما يدعو إليه القرآن وبين الإرهاب والعنف.
وتبعث آية البحث [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( )، الناس على نبذ الحروب والإقتتال الذي ليس فيه إلا الخسارة والضرر وإزهاق النفوس وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة بالقول [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، احتجوا بأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، والمختار أنه ليس احتجاجاً وكونه سؤال لرحمة الناس .
وإصلاحهم للسلم والأخوة فاجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل بعث الأنبياء ، ونزول الكتب السماوية ، وخاتمتها القرآن الذي أخبر بأن الله عز وجل هو الذي خلق السموات والأرض وجعلها وتعاقب الليل والنهار علامات وبراهين للناس لتسخير عقولهم للتنزه عن الفساد ، وعن القتل وسفك الدماء وفيه أحكام الحلال والحرام ، وكل فرد منها زاجر عن الفساد والإقتتال.
وأظهر مشركوا قريش ما أخبر منه الملائكة من الفساد والقتل والعدوان ، فتطلع الملائكة إلى فضل الله ، ومصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فكانت آيات الدفاع وسعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسلم والأمر من الله عز وجل للملائكة بالنزول لنصرته ، ليستأصل الفساد ، وتنقطع عبادة الأوثان والفتن التي تتفرع عنها.
وقد صدرت بخصوص القانون أعلاه أجزاء من هذا السِفر وهي:
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .
الثالث : قانون (آيات الدفاع سلام دائم) وقد صدرت بخصوص هذا القانون أجزاء من هذا السِفر وهي :
الأول : الجزء الثاني والأربعون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس بعد المائتين .
الثالث : الجزء السابع عشر بعد المائتين .
الرابع : الجزء الثامن عشر بعد المائتين .
الخامس : الجزء الواحد والثلاثون بعد المائتين
السادس : الجزء الثاني والثلاثون .
الرابع : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وفيه قراءة في آيات السلم ، والوقائع التي تبين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية في الصبر وتحمل الأذى من المشركين ، وفي الدعوة إلى الإيمان ومن رشحاته السلم المجتمعي وقد صدر بخصوصه أجزاء من هذا السِفر وهي :
أولاً : الجزء السادس بعد المائتين .
ثانياً : الجزء السابع بعد المائتين .
ثالثاً : الجزء الثامن بعد المائتين .
رابعاً : الجزء الرابع عشر بعد المائتين .
خامساً : الجزء الخامس عشر بعد المائتين.
سادساً : الجزء الثالث والثلاثين بعد المائتين .
الخامس : قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) لبيان حدة التضاد بين السلام الذي يتضمنه آيات القرآن ، وبين الإرهاب وإخافة الناس بغير حق وقد صدرت بخصوصه الأجزاء التالي من هذا السِفر :
*الجزء الثاني والعشرون بعد المائتين .

  • الجزء الثالث والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء الرابع والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائتين .
  • الجزء الثلاثون بعد المائتين.
    تفسير الفاتحة بالتقدير
    من كنوز القرآن سورة الفاتحة وهي سبع آيات ، وكل آية نعمة عظمى ومدرسة للأجيال في الثناء على الله عز وجل ، وفي الدعاء وهي من أوائل سورة القرآن نزولاً ، إذ نزلت بعد سورة العلق ، وسورة المدثر.
    وقد اختصت بمنزلة عظيمة وهي وجوب قراءتها في الصلاة.
    و(عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه؛ إذ دخل رجل يصلّي، وافتتح الصلاة، وتعوّذ، ثم قال [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
    فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة ، أما علمت أن [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] من الحمد فمن تركها فقد ترك آية ، ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته ، لا تكون الصلاة إلاّ بفاتحة الكتاب)( ).
    ومن فضل الله والتخفيف عن المسلمين إنحصار الوجوب بالقراءة اليومية في سورة من سبع آيات تتضمن الثناء على الله والدعاء.
    وصفات الجلال والكمال لله عز وجل ، والتسليم بربوبيته المطلقة وكانت الفاتحة مادة جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة إذ يتلوها في الصلاة في البيت الحرام، وعلى وفود الحاج في الأشعر الحرم من أشهر الحج ومحرم ، أي في شهر ذي القعدة وذي الحجة وهما من مصاديق الأشهر الحرم وأشهر الحج ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
    أما محرم فهو من الأشهر الحرم ، وكان العرب يمتنعون عن القتال والقتل في الأشهر الحرم .
    ومن فضل الله عز وجل تداخل أشهر الحج معها فينشط النبي بالدعوة وإخبار الناس بأنه رسول من عند الله ويتلو عليهم القرآن ، ومنه سورة الفاتحة التي كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين عظمتها ويحث على تلاوتها حتى بعد الهجرة .
    و(عن أبي سعيد بن المُعَلَّى قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه حتى صلَّيت وأتيته، فقال: ” ما منعك أن تأتيني.
    قال : قلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي.
    قال : ألم يقل الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]( ).
    ثم قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد.
    قال : فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن.
    قال : نعم ، الحمد لله رب العالمين هي : السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)( ).
    ولا تختص المنزلة الرفيعة لسورة الفاتحة بالمسلمين أو أهل الأرض مطلقاً ، إنما لها ذات الشأن عند ملائكة السماء لما للعلم بالمنافع العظيمة لها ، وأنها كلام الله الذي صاحب النبي محمد في من بدايات دعوته إلى حين وفاته ، ويمكن القول أن أكثر سورة قرأها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي سورة الفاتحة ، وكذا بالنسبة لعامة المسلمين.
    و(ينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً( )، من فوقه فرفع راسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة)( ).
    وعلم التفسير بالتقدير باب لاستظهار معاني مباركة ، ولآلئ من سورة الفاتحة ومضامينها القدسية.
    ونذكر أدناه التفسير بالتقدير للبسملة وآية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
    وتقدير المحذوف أو ذكر الممكن والمناسب ، ومنها البسملة وهي آية من القرآن بأجماع علماء الإسلام.
    فالمشهور والمختار أنها آية من سورة الفاتحة وحتى الذي لا يقول بها وهو مالك فانه يقول بأنها آية من سورة النمل.

    تقدير البسملة
    ومن وجوه تقدير المحذوف والمناسب في آية الحمد لله رب العالمين وجوه:
    الأول : الحمد كله لله ، واللام المقرونة بهمزة وصل تحول الاسم من نكرة إلى معرفة ولا تتصل إلا بالأسماء إلا ماندر ، وتقسم في علم النحو إلى قسمين :
    أولاً : لام العهد : كما في قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً] ( ).
    ثانياً : لام الجنس ، والتي تقسم إلى شعبتين أيضاً :
    الأولى : التي تأتي (كل) محلها مثل قوله تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ]( ).
    الثانية : لام الحقيقة والماهية.
    والمختار أن اللام في القرآن قد تأتي للوجوه الثلاثة أعلاه بحسب مضامينها القدسية ، ومنه لفظ (الحمد) فالفرد الواحد من الحمد هو لله عز وجل ، وكذا مجموع الحمد ، وكذا النعم التي يأتي الحمد من الصبر شكراً لله عز وجل .
    الثاني : قل يا محمد الحمد لله، وقد ورد لفظ (قل) في القرآن (332) مرة منها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (328) مرة.
    منها ست مرات بلفظ (قل الحمد لله) وواحدة إلى نوح عليه السلام ، وخمسة منها خطاب وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    ويمكن الجمع والتقدير بين قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ] في سورة الفاتحة ومضامين آيات [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ].
    الثالث : يا أيها الذين آمنوا قولوا الحمد لله .
    ترى لماذا ورد في القرآن خمس مرات خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ] ولم يرد فيه (قولوا الحمد لله) الجواب من جهات :
    الأولى : كل خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) هو خطاب إلى الأمة أيضاً ، إلا ما ورد الدليل على تخصيصه مثل قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) وحتى هذه الآية يمكن قراءتها بتقدير : قولوا يا أيها الناس إن محمداً رسول الله إليكم جميعاً .
    الثانية : يتلو كل مسلم ومسلمة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة.
    الثالثة : يمكن القول بقانون وهو كل آية من القرآن تدعو المسلمين لقول الحمد لله ، ومنها آية البحث من وجوه :
    الأول : نزول الآية من السماء.
    الثاني : تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختياره من بين الناس لتلقي آيات القرآن بتمامها.
    الثالث : إخبار آية البحث عن قانون خلق الله عز وجل للسموات.
    الرابع : مجئ آية البحث بصيغة الجمع (السموات).
    فيتبادر إلى الأذهان والحواس أن السماء واحدة ، وهي التي تعلو الأرض ، فنزلت آية البحث وأخبرت بأنها سموات.
    وجاءت آيات أخرى بالإخبار بأنها سبع سموات ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا]( )، وقوله تعالى [أَلَمْ تَرَوْا] لصيرورة الناس يدركون بأن السموات سبع.
    وفي الآية إشارة الى اكتشافات الفضاء والكواكب ، وعلوم مستحدثة تدل على تعدد السموات ان شاء الله.
    لتكون هذه الإكتشافات في حال حدوثها من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
    الخامس : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بيده ولم يوكل خلقهما لغيره.
    السادس : الحمد لله الذي خلق وتعاهد وحفظ السموات والأرض.
    السابع : الحمد لله الذي قهر الخلائق بخلق السموات والأرض.
    الثامن : الحمد لله الذي لم يكتف بخلق سماء واحدة ، إنما جعلها سبع سموات ، ولا يعلم السر بهذا العدد والكيفية والهيئة إلا الله عز وجل.
    التاسع : الحمد لله الذي جعل خزائن غير منقطعة في كل سماء.
    العاشر : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض.
    الحادي عشر : الحمد لله الذي جعل السموات والأرض سبباً للتدبر والهداية والرشاد.
    فلولا فضل الله عز وجل في خلقهن ، لما تفكر الناس بهن ويصير هذا التفكر سبباً للدعاء والمسألة وبيان الفاقة والحاجة لله عز وجل [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
    وقد ورد لفظ السموات بصيغة الجمع في مواضع متعددة في كل من التوراة والإنجيل ، ففي التوراة (هو ذا للرب الهك السماوات و سماء السماوات و الارض و كل ما فيها)( ).
    ويلاحظ اصطلاح (سماء السموات) في سفر المزامير (سبحيه يا سماء السماوات و يا ايتها المياه التي فوق السماوات)( ).
    وفي انجيل متى (18:1 في تلك الساعة تقدم التلاميذ الى يسوع قائلين فمن هو اعظم في ملكوت السماوات)( ).
    الثاني عشر : الحمد لله الذي نصر عبده .
    الثالث عشر : الحمد لله الذي أعز جنده.
    الرابع عشر : الله وحده رب العالمين .
    الخامس عشر : رب العالمين [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
    السادس عشر : الحمد لله ربن الإنس والجن.
    السابع عشر : الحمد لله الذي بعث النبي محمداً رحمة للعالمين.
    الثامن عشر : الحمد لله رب العالمين الذي خلق السموات والأرض.
    التاسع عشر : الحمد لله رب العالمين عن نفسي وجوارحي وأعضاء بدني.
    العشرون : الحمد لله [الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
    التفسير بالتقدير [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ]
    لقد سألت طلبة البحث الخارج من فضلاء الحوزة العلمية في محاضرة اليوم الموافق 5 شعبان 1443 الموافق 8/3/2022 لاختيار آية في بيان عملي للتفسير بالتقدير الذي أسسناه في الجزء الواحد والثلاثين من هذا السِفر ، فاختاروا قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
    ويكون التقدير على وجوه :
    الأول : يا أيها الناس إن الصفا والمروة.
    بلحاظ أن الحج واجب على الناس جميعاً بدليل قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
    إذ وردت الألف واللام في الآية أعلاه مرتين :
    الأولى : لفظ [النَّاسِ] والمراد الجنس وما يفيد الإستغراق لكل الناس .
    الثانية : لفظ [الْبَيْتِ] والمراد العهد أي بيت الله الحرام .
    ولم يرد لفظ (بيت الله ) في القرآن ، ولكنه ورد بصيغ متعددة منها [بَيْتِي] كما في قوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) وورد مرة واحدة بلفظ [بَيْتِكَ] في نداء ودعاء إبراهيم [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ] ( ) .
    إذ يدل إبتداء الآية بالدعاء [رَبَّنَا] على أن المقصود في السؤال هو الله عز وجل وأنه ليس من بيت لله إلا المسجد الحرام ، وعلى نحو التعيين الكعبة المشرفة لأن المسجد الحرام في توسعة متصلة ، ويصدق عليها عرفاً أنها من المسجد الحرام .
    الثاني : يا أيها الذين آمنوا أن الصفا وشعائر الله ، وقد ورد نداء الإيمان هذا تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وهل من بين معاني ودلالات هذه الكثرة إمكان تقديره على معاني آيات كثيرة.
    الجواب نعم ، إذ يجوز تقديره في أول الآية أو وسط أو آخر الآية بحسب الموضوع واللحاظ ، فمثلاً يمكن تقديره في آية البحث من جهات أخرى :
    الأولى : يا أيها الذين آمنوا من حج البيت فانه من شعائر الله .
    الثانية : يا أيها الذين آمنوا من اعتمر فانه من شعائر الله .
    الثالثة : يا أيها الذين آمنوا لا جناح على من يطوف بالصفا والمروة .
    الرابعة : يا أيها الذين آمنوا من تطوع خيراً .
    الثالث : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا الصفا والمروة والسعي بينهما فهما من شعائر الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ] ( ) ليكون من معاني ورود نداء الإيمان في الآية أعلاه تقديره في آية الصفا والمروة .
    ولم يرد لفظ [تُحِلُّوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه والتي تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة ، والسعي بين الصفا والمروة من أركان الحج والعمرة ، وبه قال الإمامية ، والمالكية ، والحنابلة ، والشافعية ، وعليه أدلة من الكتاب والسنة .
    وعن أصحاب أبي حنيفة أنه سنة وتطوع وان من تركه ليس عليه شئ لظاهر الآية ، وقيل من تركه من الحاج ورجع إلى بلاده جبره بدم.
    ومما استدل على كونه سنة قوله تعالى [وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، ولكن التطوع في الزيادة واستدل بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحج عرفة ولكن اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
    قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
    و(عن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصفا في حجته قال : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، ابدأوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه) ( ).
    وفي علوم الأصول إذا كان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان نص مجمل من القرآن فان الفعل يحمل على اللزوم إلا مع القرينة الصارفة إلى الإستحباب.
    الرابع : إن ذات الصفا والمروة من شعائر الله ، فهما شعائر مكانية لبيان تعدد هذه الشعائر ، ومنها الكعبة المكرمة ، والمطاف.
    وهل عرفة من شعائر الله المكانية أم الزمانية ، أم منهما معاً ، أو ليست منهما ، المختار هو أنها زمانية ومكانية ، لتعيين زمن مخصوص للوقوف في محل معين ، وهي خارج الحرم ، وقد ورد ذكرها في القرآن ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( )، ولم يرد لفظ عرفات أو عرفة إلا في الآية أعلاه.
    الخامس : يا أيها الذين آمنوا تفقهوا في الدين فان الصفا والمروة من شعائر الله .
    السادس : إن الصفا والمروة من شعائر الله .
    السابع : إن جبل الصفا وجبل المروة من شعائر الله .
    الثامن : لقد قدم الله عز وجل الصفا لذا ابتدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    التاسع : إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدوأ بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    العاشر : إن الصفا والمروة من شعائر الله رحمة بأهل الأرض .
    ولما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا بأن من الناس من يفسد في الأرض ويسفك الدم بغير حق ، فأجابهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
    ومن علم الله عز وجل جعل الصفا والمروة من شعائر الله ومجئ المسلمين للطواف بينهما طاعة له سبحانه ، وإعلاماً للبراءة من الذنوب والمعاصي ، وتنزهاً عن سفك الدماء ، وهل قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ) خاص بالملائكة أم يشمل الناس والخلائق كلها ، الجواب هو الثاني للأولوية.
    الحادي عشر : إن الصفا والمروة مجاوران للبيت الحرام ، وفيه تخفيف عن وفد الحاج .
    الثاني عشر : إن جبل الصفا وجبل المروة من شعائر الله فلا يجوز هدمهما أو التعدي عليهما .
    الثالث عشر : إن الصفا والمروة من شعائر الله يحافظ المسلمون عليهما ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه وأمته حافظوا على الشعائر .
    الرابع عشر : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، وقد طاف الأنبياء السابقون بينهما .
    الخامس عشر : اسم الصفا واسم المروة باق إلى يوم القيامة ، وتحتمل تسميتهما جهات :
    الأولى :هذه التسمية من عند الله عز وجل .
    الثانية : التسمية من جبرئيل والملائكة ، خاصة وأن آدم حينما حج تلقته الملائكة وقالوا (بر حجك يا آدم، أما أنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام) ( ).
    الثالثة : آدم عليه السلام هو الذي سمّى جبل الصفا والمروة لهبوط آدم على جبل الصفا إذ أشتق اسمه من صفوة الله وهو آدم ، وهبوط حواء على جبل المروة واشتق اسمه من المرأة .
    الرابعة : إبراهيم عليه السلام هو الذي سمّى جبل الصفا والمروة ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
    الخامسة : قبائل العرب التي تعاقبت من نسل قحطان وعدنان هم الذين سمّوا جبل الصفا والمروة .
    السادسة : قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقريش هم الذين سمّوا جبل الصفا والمروة .
    السابعة : أحد الأنبياء السابقين هو الذي سمّى جبل الصفا والمروة .
    الثامنة : نزول القرآن بتسمية الصفا والمروة ابتداءً .
    والصحيح هو الأول وأن الله عز وجل هو الذي سمّى الصفا والمروة وهذه التسمية من عمومات قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) فلابد أن الله عز وجل علم آدم المناسك والفرائض ، وهل علّمه أن الصفا والمروة من شعائر الله أم اختصر الأمر على الاسم فقط للقدر المتيقن من ذكر الآية للأسماء ، الجواب هو الأول
    السادس عشر : إن الصفا والمروة من مواطن العبادة ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
    السابع عشر : إن الصفا والمروة من شعائر الله فاسعوا بينهما بعد الطواف بالبيت الحرام ، وصلاة ركعتي الطواف .
    الثامن عشر : إن الصفا والمروة من شعائر الله فاكثروا من ذكر الله عز وجل والدعاء عندهما.
    التاسع عشر : إن الصفا والمروة من مواطن إستجابة الدعاء لأنهما من شعائر الله .
    العشرون : إن الصفا والمروة من شعائر الله علم مستقل ، فلا يعلم هذا القانون وبركاته إلا الله عز وجل ، وتفضل وجعله خالداً في القرآن لينهل منه المسلمون والمسلمات في الحج والعمرة .
    الواحد والعشرون : إن الصفا والمروة من شعائر الله فاشكروا الله عز وجل على تحصيل هذا العلم ، والإنتفاع الأمثل منه .
    الثاني والعشرون : إن الصفا والمروة من شعائر الله فاشكروا الله عز وجل على التوفيق للسعي بينهما في الحج والعمرة ، واسألوا الله من رحمته وفضله ، ويتجلى كل من هذا الشكر والسؤال بقوله تعالى رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
    الثالث والعشرون : من معاني يا أيها الناس أن الصفا والمروة من شعائر الله لزوم عناية الناس جميعاً بالصفا والمروة المسلم وغير المسلم ، والذي يحج والذي لايحج ، والمجاور وغيره.
    فلم تقل الآية من شعائر الإسلام ، إنما من شعائر الله ، والدلائل الباهرات التي تدل على الوحدانية ولزوم عبادة الله ، وأنها من مواطن إستجابة الدعاء .
    وهل يصح تقدير الآية : يا أيها الرسل إن الصفا والمروة من شعائر الله، الجواب نعم مع سبق زمان الرسل .
    وذكر الصفا والمروة بلحاظ آية البحث على وجوه :
    الأول : إن الصفا والمروة من خلق السموات والأرض.
    الثاني : ان في خلق السموات والأرض ومنها الصفا والمروة.
    الثالث : ان في خلق السموات والأرض ووجود قطع مباركة متجاورة ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ]( ).
    الرابع : إن الصفا والمروة من خلق السموات والأرض.
    الخامس : لقد طاف بين الصفا والمروة أهل السماء والأرض.

    لماذا [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ]
    ورد لفظ [لاَ جُنَاحَ] ست عشرة مرة في القرآن ، ولم يرد لفظ [لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ]( ) منها إلا مرة واحدة ، وهي أول مرة يرد فيها هذا اللفظ في نظم القرآن ، وفي أسباب نزوله ومعانيه وجوه :
    الأول : كان العرب ينصبون الأوثان عند الصفا والمروة فتحرج المسلمون الأوائل من الطواف بينهما خاصة وأن بعض هذه الأصنام لقبائلهم ، فنزلت الآية للفصل بين الشعيرة الواجبة وبين العرض المنكر الطارئ وهو نصب الأصنام .
    الثاني : كان على الصفا وثن يدعى أساف ،وعلى المروة وثن يدعى نائلة ، وكان العرب في الجاهلية يحرصون على جعلهما في السعي ، ويمسحون الوثنين وعن الشعبي ( فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله {إن الصفا والمروة . . . } الآية.
    فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأُنِّثَتْ المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثاً) ( )، وهذا التعليل للتذكير والتأنيث في المقام بعيد ، وخلاف الأصل.
    الثالث : كان قوم من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فنزلت الآية لبيان وجوبه ، ولوحدة أداء المناسك ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال [خذوا عني مناسككم] ( ).
    الرابع : من سنة إبراهيم وإسماعيل الطواف بين الصفا والمروة .
    الخامس : الآية بشارة فتح مكة وإزاحة الأصنام من البيت الحرام وما حوله ، وشاهد سماوي على إستدامة الحج إلى يوم القيامة لمجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية ، وصيغة المضارع [يَطَّوَّفَ بِهِمَا]و[تَطَوَّعَ].
    السادس : قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون : لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة ، قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة.
    وأن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة ، فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما؟ فأنزل الله { إن الصفا والمروة من شعائر الله . . . } الآية كلها) ( ) والحديث ضعيف سنداً .
    السابع : عن أنس قال (كانت الأنصار يكرهون السعي بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية {إن الصفا والمروة من شعائر الله } فالطواف بينهما تطوّع)( ).
    وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام (سألته عن السعي بين الصفا والمروة فريضة هو ، أو سنة ، قال : فريضة قال: قلت: أليس الله يقول ” فلا جناح عليه أن يطوف بهما.
    قال : كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه واله كان شرطهم عليه أن يرفعوا الاصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى اعيدت الاصنام.
    فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه وقيل له إن فلانا لم يطف وقد اعيدت الاصنام.
    قال : فأنزل الله عزوجل [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( )، أي والاصنام عليهما) ( ).
    الثامن : و(عن ابن عباس . أنه كان يقرأ { فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما } .
    وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عطاء قال : في مصحف ابن مسعود ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)( ).
    وتدل السنة النبوية القولية والفعلية على وجوب الطواف بين الصفا والمروة .
    وهو نعمة وشكر لله عز وجل على مضامين آية البحث من خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار فمن الآيات العبادية في المقام عدم انقطاع سعي المسلمين بين الصفا والمروة سواء في الليل أو النهار.
    قانون حضور المشيئة المتصل
    لم تذكر الآية الفاعل والذي خلق السموات والأرض ، للتسالم والقطع بأن الله عز وجل هو الذي خلقها، وللآيات الواردة بهذا الخصوص وفي التنزيل [وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
    ومن بديع صنع الله عز وجل بخصوص الإنسان أن كل إنسان حتى الكفار ينسبون الخلق إلى الله عز وجل.
    ومنهم من قال : خلق الله الأكوان ثم تركها تسير في نواميس ونظام ودقيق ، ولا أصل لهذا القول ، لحاجة الخلائق في استدامة حركتها إلى الله عز وجل.
    وترى قوانين العلة والمعلول ، وقاعدة الأسباب تقف عاجزة أمام إرادة الله عز وجل فيتباين أوان وكثرة وقلة المطر على البقعة المباركة ، ويأمر الله عز وجل النار بالإمتناع عن احراق إبراهيم خلافاً لقانون الإحراق ، قال تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
    والنصوص الواردة بخصوص هذه الآية تؤلف مجلداً مستقلاً ، سواء التي وردت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو عن الصحابة وأهل البيت أو التابعين.
    إلى جانب موضوعية تفسير القرآن بالقرآن ولم يرد لفظ (برداً) في القرآن إلا مرتين احداهما في آية البحث والأخرى في ذم أهل النار ، قال تعالى [لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا]( ).
    ولم يرد لفظ سلاماً في القرآن إلا مرتين إحداهما في هذه الآية ، والأخرى في حسن جزاء المؤمنين في الآخرة ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا]( ).
    واستدل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا]( ).
    وعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه (أهوى بإصبعيه إلى أُذنيه وقال : صمّتا إن لم أكن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الورود : الدخول ، لا يبقى بّر ولا فاجر إلاّ دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم)( ).
    لتكون نجاة ابراهيم من النار بشارة نجاة المؤمنين منها ، وفضل الله في إخراج شطر ممن يردها ، وهل نجاة إبراهيم من النار من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( )، الجواب نعم ، فقد خلق الله نار الدنيا ، ونار الآخرة وكل واحدة منها مستجيبة لأمره ومشيئته.
    وعن الإمام علي عليه السلام (في قوله [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا]( )، قال : لولا أنه قال {وسلاماً} لقتله بردها .
    وأخرج ابن أبي حاتم عن شمر بن عطية قال : لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار ، نادى الملك الذي يرسل المطر : رب ، خليلك رجا أن يؤذن له فيرسل المطر . فقال الله [يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، فلم يبق في الأرض يومئذ نار إلا بردت)( ).
    وهل في الآية حصن للمسلمين للدعاء للنجاة من عذاب الآخرة ، وجعلها برداً وسلاماً ، الجواب نعم ، ليكون من مصاديق [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، أي في أمور الدنيا ولعالم الحساب والجزاء الأخروي.
    قانون نزول الملائكة بطي المسافة
    عندما حضرت قريش بخيلها وخيلائها في معركة بدر بنحو ألف من الرجال مع الأسلحة والإبل ورأوا قلة عدد المسلمين والنقص الظاهر في أسلحتهم ، والضعف في أبدانهم ، قالوا انهم أَكَلَة رأس.
    وقدّروا سهولة الإجهاز عليهم بسرعة فأنزل الله عز وجل ألفاً من الملائكة لنصرة الرسول وأصحابه ونزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، وفيه وجوه :
    الأول : الصلة والإتحاد بين خلق السموات والأرض ، وأنه ليس ثمة مسافة بينها في مشيئة الله عز وجل.
    الثاني : بيان قانون وهو استجابة الله للدعاء قد تكون خلاف نظام الكون وفيها الصلاح والرحمة لبيان عدم انحصار أسباب الرحمة واللطف الإلهي بانظمة الكون ، إنما تأتي بفضل الله عز وجل الذي هو أعظم من هذه الأنظمة وعالم الأكوان ، وإذ يسيح الناس في الأرض وفي عالم السماء والفضائيات فانهم يعجزون عن درك فضل الله عز وجل .
    وهو من اللامتناهي ، لذا وصفه الله بأنه عظيم ، وقد رغّب الله عز وجل الناس بالإنتفاع من فضله ، ومنه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
    الثالث : يعطي الله بالأتم والأوفى.
    الرابع : دلالة الآية على الإستجابة والإمتثال التام من الملائكة لله عز وجل.
    فمن أسرار خلق الله عز وجل للسموات والأرض استجابة الملائكة لأوامر الله عز وجل استجابة فورية تامة ، قال تعالى [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، ليكون في الآية تأديب للمسلمين والناس جميعاً ، فمن معانيها تأدبوا بآداب الملائكة.
    قوله تعالى [وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ]
    من مصاديق ووجوه اختلاف الليل والنهار أمور :
    الأول : اللون وشدة الضياء في النهار والظلمة الحالكة في الليل.
    وقال الأخيطل المخزومي :
    فالوجهُ مثل الصّبحِ مُبْيضّ … والفرعُ مثل اللَّيل مُسْودُّ
    ضِدّان لما استُجْمعا حَسُنا … والضِدّ يُظهر فضلَه الضِدُّ( ).
    الثاني : التباين والإختلاف في الطول والقصر ، وهو على جهات :
    الأولى : الإختلاف في طول النهار على مدار أيام السنة ، فليس من يومين بذات الوقت والمدة.
    الثانية : الإختلاف في طول وقصر ليالي السنة .
    الثالثة : الإختلاف من طول وقصر اليوم وليلته ، ويتساويان في يوم من أيام السنة في الطول والمدة لكل منهما لبيان سعة الأنظمة الكونية وأن الليل والنهار مسخران بأمر الله عز وجل.
    والليل جمع ليلة مثل نحلة ونحل ، والليالي : جمع الجموع ، والنهار مفرد ، وجمعه نُهُر.
    الرابعة : اختلاف الليل عن النهار ، والتضاد بينهما وهو الظاهر العام للحواس.
    عن أبي الدرداء قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين :
    اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً . فأنزل الله في ذلك كله قرآناً في قول الملكين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، وأنزل في قولهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً [وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى]( )، إلى قوله لِلْعُسْرَى( ).
    جمعت آية البحث بين خلق السموات والأرض والتعاقب بين الليل والنهار لجذب إنتباه الناس بأن هذا التعاقب معجزة عظمى ، وأن بديع صنع الله لا ينحصر بجواهر الموجودات المادية بل يشمل الأعراض والظواهر وآثار خلق السموات والأرض ودقة أنظمتها.
    ولا يعلم ما في إختلاف وتعاقب الليل والنهار ، ووظيفة كل منهما إلا الله عز وجل ، ومنها :
    الأول : إعانة الناس على عبادة الله ، وإتخاذ التباين في الوقت وهيئة الزمان باعثاً للذكر والتسبيح.
    لذا تفضل الله عز وجل وجعل الصلوات اليومية خمسة ومقسمة وفق ظواهر كونية ، فتؤدى صلاة الصبح عند طلوع الفجر الذي يختلف في أوانه من بلدة إلى أخرى ومن يوم إلى آخر في ذات البلدة الواحدة.
    فمن بديع صنع الله وإقتران العبادة باختلاف الليل والنهار إقامة صلاة الصبح في أرجاء الأرض في كل ساعة من ساعات الحياة الدنيا لتغير الأوقات وأفراد الزمان في الأرض .
    وكذا بالنسبة لصلاة الظهر التي تؤدى عند زوال الشمس ، وصلاة المغرب التي تؤدى عند غروب الشمس الذي يختلف أوانه حتى بين البلدات المتقاربة ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) .
    ليكون من معاني [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) أي ليعبدوني في كل آن ودقيقة من أفراد الزمان بالصلاة والذكر والتسبيح لتعدد هيئة وكيفية الصلاة بين الملل السماوية ، ولأن وجوه العبادة أعم من الصلاة لذا ذكرت آية البحث [أُوْلِي الأَلْبَابِ] لبعث أصحاب العقول على الذكر والإستغفار والدعاء .
    (عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أقلوا الخروج إذا هدأت الرجل ، إن الله يبث من خلقه بالليل ما شاء .
    أما قوله تعالى {وتصريف الرياح }أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { وتصريف الرياح }( ) قال : إذا شاء جعلها رحمة للسحاب ونشراً بين يدي رحمته ، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح) ( ).
    الثاني : تذكير الناس كل ساعة ببديع صنع الله .
    الثالث : الإيمان ، والإقرار بالتوحيد ، والوقاية من الشرك ومفاهيم الضلالة .
    الرابع : دعوة الناس للتصديق بالنبوة والتنزيل .
    الخامس : إنذار الآيات الكونية للناس من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل ، ليكون بديع صنع الله وإختلاف الليل والنهار من أسباب العصمة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
    ومن بين آيات خلق السموات والأرض جاءت آية بتقديم اختلاف الليل والنهار بقوله تعالى [إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ] ( ).
    ولا يدل تقدير اختلاف الليل والنهار على أنه أعظم من خلق السموات والأرض لكثرة الآيات التي تقدم الخلق وللوجدان والبرهان الجلي ، ولكن الآية أعلاه ذكرت لفظ [آيَاتٍ] بصيغة التنكير بالإضافة إلى مسألة وهي لم تذكر الآية ذات خلق السموات والأرض ، إنما ذكرت بعد اختلاف الليل والنهار [وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] لإفادة الظرفية .
    ودلالة قرائن المقال والحال على إرادة الموجودات والخلائق في السماوات والأرض إلى جانب ذات السماوات والأرض ، فلم تقل الآية أعلاه من سورة يونس (وخلق السموات والأرض ) إنما قالت [وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ].
    وهل يدخل معها الإنسان ، المختار نعم .
    وذكرت الآية أعلاه أن هذه الآيات [لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ] .
    بينما ذكرت آية البحث أنها آيات [أُوْلِي الأَلْبَابِ] والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فأولوا الألباب أعم ، لتكون آية البحث دعوة إلى الإيمان والتقيد بأحكامه ، لذا ترى من الناس من يدخل الإيمان قلبه دفعة واحدة ، وهل لإختلاف الليل والنهار موضوعية فيه الجواب نعم .
    وتقدير الآية على وجوه :
    الأول : لآيات لأولي الألباب الذين اختاروا الإيمان .
    الثاني : لآيات لأولي الألباب لتعاهد سنن التقوى .
    الثالث : لآيات لأولي الألباب ويقرون بنزول القرآن من عند الله .
    الرابع : لآيات لأولي الألباب الذين يسخرون عقولهم للتدبر في آيات الخلق ، ويتنزهون عن الشرك ، ويمتنعون عن المعاصي .
    الخامس : لآيات لأولي الألباب الذين لا ينصرون كفار قريش في حربهم على النبوة والتنزيل .
    السادس : لآيات لأولي الألباب رحمة من عند الله .
    السابع : لآيات لأولي الألباب وحجة على الذين يصدون عن التنزيل وأحكامه .
    وهل يدخل الملائكة في وصف [أُوْلِي الأَلْبَابِ] في آية البحث خاصة وأنهم عقول محصنة ليس عندهم شهوة ، المختار نعم .
    وان كان القدر المتيقن من موضوع الآية هم الناس ، وتقدير الآية : لآيات لأولي الألباب من الناس والملائكة والجن.
    الثامن : أيها لناس كونوا من أولي الألباب ، وتستقرأ صيغة الجمع هذه من النداء العام بقوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
    وهل في الآية مدد للمسلمين بأن يكونوا من أولي الألباب ، الجواب نعم ، وهي باب للدعاء وسؤال الله عز وجل بجعلنا من أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ويتخذون منه وسيلة للهداية والرشاد ، ومادة للسكينة في السراء والضراء ، والرضا بقضاء الله عز وجل ، والمسارعة في الخيرات ، قال تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
    قانون تعاقب الليل والنهار
    من خصائص التعاقب بين آية البحث وآية السياق بيان تعدد البراهين الباهرة التي تؤكد وحدانية الله عز وجل وحضّ الناس على التدبر والتفكر فيها ، والإنتفاع الأمثل منها في النشأتين وفي التنزيل [قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
    لقد اختتمت الآية السابقة بالإخبار عن قانون قدرة الله عز وجل على كل شئ ، وتبين آية البحث أن من قدرة الله عز وجل خلق السموات والأرض ، ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه ، ثم بينت الآية أمراً آخر من قدرة الله وبديع صنعه ، وهو تعاقب الليل والنهار .
    وهل الليل والنهار من خلق الله أم من ملكه ، الجواب إنهما منهما معاً ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] ( ) ولم يرد لفظ [خَلَقَ اللَّيْلَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان أنها تفسير لآية البحث وأن الله عز وجل خلق الليل والنهار ثم خلق الإختلاف بينهما.
    ترى ما هي النسبة بين خلق السموات والأرض وبين خلق الليل والنهار ، فيه وجوه :
    الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق ، فخلق السموات والأرض هو الأعم .
    الثاني : نسبة التباين فخلق الليل والنهار إعجاز وبديع من صنع الله مستقل بذاته .
    الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق في كيفية الخلق بينهما .
    ولا تعارض بين هذه الوجوه للإختلاف في ماهية الخلق ، ويدخل الليل والنهار في عمومات قوله تعالى [رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا] ( )، إذ يدين كل من الليل والنهار بالعبودية لله عز وجل وكذا اختلافهما .
    وحصل الليل والنهار بعد خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا]( ) فاذا طلعت الشمس جاء النهار ، وإذا غابت حلّت ظلمة الليل .
    ولم يرد في القرآن لفظ (وما فيهما) بالنسبة للسموات والأرض لأن إخبار الآية عن خلقهما جامع لكل ما فيهما وهو من إعجاز القرآن ، وهل يدخل خلق الإنسان في قوله تعالى [وَمَا بَيْنَهُمَا] في الآية أعلاه.
    الجواب نعم ، ليكون الناس وأجيالهم المتعاقبة فرداً واحداً من خلائق كثيرة بين السماء والأرض ، وفيه دعوة للناس للخضوع لله عز وجل وتعاهد العبادة والذكر .
    لتمتلئ الأرض وفضاؤها بذكر الله ، وينقطع الملائكة في السموات إلى الذكر والتسبيح .
    فمن معاني الجمع بين الآيتين غلبة الأنبياء وظهور كلمة التوحيد ، ولحوق الخزي بالكافرين الذين يحاربون التنزيل .
    قانون الليل والنهار دعوة للإيمان
    من معاني آية البحث أمور:
    الأول : قانون تثبيت الإيمان في قلوب المسلمين .
    الثاني : الدعوة السماوية للمنافقين للكف عن إخفاء الكفر .
    الثالث : زجر المشركين عن الغزو والهجوم على المدينة ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
    الرابع : الترغيب بالإيمان وأنه سبب للرزق الكريم ، لأن ملك السموات والأرض بيد الله عز وجل وحده ، [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
    الخامس : بعث الخوف في قلوب أجيال المشركين ، ويقترن هذا الخوف بالدعوة العامة للإيمان ، وهو من لطف الله عز وجل بالناس ، فليس من إنسان ذكراً أو أنثى إلا ويقربه الله عز وجل كل يوم إلى منازل الإيمان.
    ومن وسائل التقريب آية الليل والنهار وكل آية منها آية متحركة ففي كل لحظة هناك اختلاف في سير وموضع الشمس ، وكذا بالنسبة لليل وحركة القمر والنجوم ، والشمس لا تختفي في يوم من الأيام أو ساعة من النهار ، ولا يفتر أو يخفت ضياؤها.
    أما القمر فانه يختفي في شطر من الليل في أكثر الأيام ،وهناك ليالي المحِاق إذ تنقسم الليالي بالنسبة للقمر ونوره إلى أقسام :
    الأول : ليلتا الهلال .
    الثاني : التربيع الأول .
    الثالث : الأحدب المتزايد .
    الرابع : البدر .
    الخامس : الأحدب المتناقص .
    السادس : التربيع الثاني .
    السابع : ليالي المحاق في آخر الشهر.
    ومنهم من جعل قبل ليالي المحاق هلال آخر الشهر ، ولكن القرآن قيد الهلال بالذي يطل إلى الأرض بأول الشهر القمري بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
    وتكون دعوة الليل والنهار للإيمان من وجوه :
    الأول : التعاقب والتوالي بين الليل والنهار بانتظام متجدد كل يوم .
    الثاني : الزيادة والنقصان في أوقات كل من الليل والنهار لبيان أن البركة والنقص يصيب المخلوقات لأنها من عالم الإمكان ، وأن الله عز وجل وحده هو المتنزه عن التغيير .
    الثالث : ذات الليل وحده آية ، وكذا ذات النهار ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ]( ).
    الرابع : التباين في الموجود في الليل والنهار ، ومنه ظلمة الليل للسكن والراحة ، وضياء النهار للعمل الذي ينفذ إلى كل شئ ، قال تعالى [وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] ( ).
    الخامس: انبساط الصلوات اليومية الخمس على اليوم وليلته واتخاذ الليل مناسبة لمناجاة الله عز وجل بلطف منه سبحانه .
    قانون اختلاف هيئة الزمان كل آن
    من معاني قوله تعالى [اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] جهات :
    الأولى : اختلاف الليل وحده بساعاته وظلمته ، وحركة القمر والكواكب ، وإختلاف مطالعها ومغيبها في كل يوم عن الآخر ، وفي كل بلد عن الآخر طيلة فصول السنة .
    الثانية : إختلاف ذات النهار ، في وقته ومدته وحركة الشمس ، يقال صامت الشمس إذا وقفت في كبد السماء ، وهي في الحقيقة لم تقف إذ أنها في مسير وحركة متصلة ، ولكن المراد بلوغها نقطة التحول والميل إلى جهة الغروب ، لبيان قانون وهو كل دقيقة وساعة من ساعات الليل والنهار حجة على الناس .
    الثالثة : تعاقب الليل والنهار على الأرض وبقعة يكون فيها نهار ، وأخرى ليل في ذات الساعة ، وبلدة يؤذن فيها لصلاة الصبح وأخرى للظهر ، وأخرى للمغرب أو العشاء ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )وجود أفراد وأمة يعبدون الله عز وجل في كل لحظة وآن من آفات الزمان المتعاقبة .
    ويحتمل قوله تعالى [اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] وجوهاً :
    الأول : الإختلاف المنفرد وتقديره ، إختلاف الليل عن النهار .
    الثاني : حلول ضياء النهار بدل ظلمة الليل وإزاحتها عن الأرض ثم العكس .
    الثالث : تعاقب الليل والنهار ليس من الدور بالدقة العقلية لأن كل ليلة تختلف عن سابقتها وكل نهار يختلف عن الذي سبقه .
    الرابع : الإختلاف في ذات الليلة الواحدة ، والنهار الواحد، وتقدير الآية اختلاف آنات كل ليلة واختلاف آنات كل نهار ، في دعوة للناس لمغادرة ما مضى من الوقت بالذكر واستثمار الحاضر بالذكر والعبادة ، واستقبال القادم من الآنات بالدعاء.
    الخامس : إختلاف الليل والنهار بلحاظ سير القمر والشمس والكواكب والريح والمطالع ، قال تعالى [وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ] ( ).
    السادس : الإختلاف بين الليل والنهار بأمور لا يعلمها إلا الله سبحانه.
    السابع : إختلاف أحوال الناس والخلائق بالليل والنهار ، قال تعالى [فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ] ( ).
    والنسبة بين الزمان والليل عموم وخصوص مطلق ، فالزمان أعم ، وكذا النسبة بين الزمان والنهار ، وذات الزمان مختلف في أجزائه وكيفيته مع إتحاد ماهيته لبيان أن التغير حاصل في الخلائق ، إذ يرميها الله عز وجل بالنقيصة والزيادة لبيان وجوه :
    الأول : قانون حاجة الخلائق إلى الله عز وجل .
    الثاني : بيان بديع صنع الله عز وجل .
    الثالث : قانون ملازمة قانون التغير والتبدل لعالم الإمكان .
    الرابع : حضور مضامين آية البحث وملكية الله للسموات والأرض في أحوال الخلائق وأفراد الزمان.
    قانون البديع الإستغراقي
    من عظيم قدرة الله عز وجل خلقه الأشياء العظام والآيات الباهرات من غير مثال يحتذى فهو سبحانه يأبى أن يحاكي خلقه في الخلق والإيجاد والنشأة ، قال تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )لبيان وجوه :
    الأول : ذات خلق السموات ابتداع من عند الله عز وجل.
    الثاني : خلق كل سماء بديع من عند الله .
    الثالث : خلق الأرض وسهولها وجبالها وكنوزها من بديع صنع الله.
    الرابع : من عظيم قدرة الله عز وجل أن الأرض تدور بالناس وهم لا يحسون ومع دقة الحواس عند الإنسان فانهم يعجزون عقلاً وحواساً عن إدراك هذه الحركة ، ومع إكتشاف العلم الحديث لدوران الأرض فلا زال كثير من الناس غير مقتنع.
    وتقدير الآية : بديع السماء الدنيا ، بديع السماء الثانية ، بديع السماء الثالثة ، بديع السماء الرابعة وهكذا، ويتجلى تعدد السموات بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) وقال تعالى [أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا *وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا] ( ) لبيان أن القمر يضئ لأهل الأرض بوجهه أما ظهره فيضئ لأهل السماء ، ليكون معاني جعل الله القمر نوراً كما في الآية أعلاه استدامة هذا النور على مدار الساعة مع التباين في جهته ووجهته ، وهو ملحق باختلاف الليل والنهار .
    ويدل عليه حديث الإسراء وصعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السماء واحدة بعد أخرى .
    ما ورد في السنة النبوية من أحاديث عن بعض خصائص السماوات ، فمثلاً ورد عن (عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال النافخان في السماء الثانية رأس أحداهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ، وينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا) ( ).
    وقد ورد ذكر السماء الدنيا في القرآن ثلاث مرات :
    الأولى : قوله تعالى [إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ]( ).
    الثانية : قوله تعالى [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ]( ).
    ومن الإعجاز في الآية بيان بديع صنع الله في كل سماء وما فيها من الملائكة والشأن والأوامر .
    الثالثة : قوله تعالى [وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ]( ).
    وإبِتداع السموات والأرض مسألة إنحلالية أعم من الحصر والتعيين في أفرادها الإستغراقية طولاً وعرضاً ، ومنها :
    الأول : الله بديع كل سماء .
    الثاني : الله بديع ما في كل سماء من الملائكة والخلائق .
    الثالث : الله عز وجل بديع إقامة السماء الأولى من غير عمد .
    الرابع : الله بديع إقامة السماء الثانية من غير عمد ، مع معالم فصلها عن السماء الدنيا ، كما تبين في حديث المعراج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الخامس : الله بديع السماء الثالثة من غير عمد .
    السادس : الله بديع السماء الرابعة من غير عمد .
    السابع : الله بديع السماء الخامسة والسادسة والسابعة من غير عمد .
    الثامن : الله بديع استدامة السماء الدنيا الثانية والثالثة ، السموات الأخرى.
    التاسع : الله بديع التباين العظيم بين كل سماء وأخرى .
    العاشر : الله بديع خصائص كل سماء .
    الحادي عشر : المختار ان النسبة بين كل سماء وأخرى هو العموم والخصوص المطلق ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما ، ولا يعلم بوجوه الإلتقاء ووجوه الإفتراق الكثيرة بين كل سماء وأخرى إلا الله عز وجل .
    وتحتمل هذه الوجوه مسائل :
    الأولى : التساوي ، فما بين السماء الدنيا والسماء الثالثة مثلاً تساو في وجوه الإلتقاء والإفتراق .
    الثانية : التساوي في وجوه الإلتقاء دون وجوه الإفتراق .
    الثالثة : التساوي في وجوه الإفتراق دون وجوه الإلتقاء .
    الرابعة : الإختلاف والتباين في وجوه الإلتقاء والإفتراق بين كل سماء وأخرى .
    الخامسة : الإختلاف والتباين بين بعض السماوات دون بعضها الآخر ، كما لو كان التباين بين السماء الدنيا والسماء السابعة ، والتساوي بين السماء الخامسة والسادسة .
    والمختار هو الرابعة أعلاه ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فليس من حصر لوجوه الإبتداع في كل سماء وفي التباين بين السموات والموجود فيها .
    الثاني عشر : الله بديع السموات في أوانها وموضعها وسعتها .
    الثالث عشر : الله بديع السموات في تسبيحها وخضوعها لله عز وجل .
    الرابع عشر : الله بديع السموات في نفعها وأثرها .
    الخامس عشر : الله بديع السموات وما فيها من الملائكة وضروب التشابه والإختلاف بينهم في القدرة والهيئة والشأن والشكل .
    السادس عشر : الله بديع السموات ، فليس من سموات قبلها ، لبيان أن الله عز وجل وحده القديم الباقي ، وفي التنزيل [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
    السابع عشر : الله بديع السموات بأن جعل سماء فوق الأخرى ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا]( ) ولو شاء الله عز وجل لجعل السموات بعرض واحد أو جعلها متداخلة ولكن الله عز وجل [أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ]( ).
    الثامن عشر : الله بديع السموات ، ولا يقدر على ابتداعها غيره سبحانه ، لبيان أن خلق السموات شاهد على الوحدانية ، وزاجر عن الشرك والضلالة .
    التاسع عشر : الله بديع السموات بأن جعلها فوق الأرض لتكون حجة على الناس ، وباعثاً على الخوف والخشية منه سبحانه ، وسبباً للدعاء لنزول الرزق من السماء ، قال تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ]( ).
    العشرون : الله بديع السموات وما بينهما ، ويسمى الهواء بين السماء والأرض (السّهى ) ( ).
    ولكل سماء اسم خاص بها وهي :
    الأولى : السماء الأولى وأسمها السماء الدنيا ، وبهذا ورد ذكرها في القرآن (عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : آدم في السماء الدنيا ، وعيسى ويحيى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة) ( ).
    (عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثهم ليلة أسري به قال : تصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا ، فإذا أنا بملك ، يقال له : إسماعيل ، وهو صاحب سماء الدنيا ، وبين يديه سبعون ألف ملك ، مع كل ملك جنده مائة ألف ، وتلا هذه الآية : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو) ( ).
    الثانية : اسم السماء الثانية قيدوم وهي على لون النحاس ، و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : النافخان في السماء الثانية)( ).
    وعيسى عليه السلام في السماء الثانية كما في حديث الإسراء( ).
    الثالثة : اسم السماء الثالثة : الصاقورة( ) ، والصاقورة الفأس الكبيرة .
    الرابعة : اسم السماء الرابعة الحاقُورة ( )، وقيل أرخلون وهي على لون الفضة.
    اسم السماء السابعة بِرقع بالكسر ، لا ينصرف( ) وعلّيين في السماء السابعة ، وتدل الأخبار وعلوم الهيئة على أن الكواكب التي نراها في السموات مختلفة ، وليست في السماء الدنيا وحدها ، فمثلاً في عطارد وهو كوكب لا يفارق الشمس ( قال الجَوْهريُّ : هو نَجْمٌ من الخُنَّسِ قيل : في السّمَاءِ السادِسَةِ قال الشيخ عليٌّ المَقْدِسِيّ في حواشيه : هذا غلطٌ والمشهور أَنّه في السماء الثانية) ( ).
    والزُهرة نجم مضئ في السماء الثالثة( ) وعن (عبد الله بن أحمد بن عامر الطائى قال: حدثني أبي قال: حدثنا على بن موسى الرضا قال: حدثنا موسى بن جعفر قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا محمد بن على قال: حدثنا على بن الحسين قال: حدثنا الحسين بن على عليهم السلام.
    قال : كان علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام فسأله عن مسائل.
    فكان فيما سأله أن قال له: يا أمير المؤمنين أخبرني عن ألوان السماوات ، وأسمائها.
    فقال له : إن اسم السماء الدنيا رفيع وهى من ماء ودخان، واسم السماء الثانية قيدوم وهي على لون النحاس. والسماء الثالثة اسمها الماروم، وهي على لون الشبه، والسماء الرابعة اسمها أرقلون، وهي على لون الفضة، والسماء الخامسة اسمها هيفون وهي على لون الذهب والسماء السادسة اسمها عروس، وهي ياقوتة خضراء، والسماء السابعة اسمها عجماء، وهي درة بيضاء( )
    وفي سند الحديث عبد بن أحمد بن عامر عاش في بغداد توفى سنة 324 (وله كتب منها كتاب القضايا والأحكام ) ( ).
    الواحد والعشرون : الله بديع السموات ، وكل سماء ما فيها من جند الله ، وقد نزل الملائكة من أكثر من سماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
    علم المناسبة
    ورد الجمع بين خلق السموات والأرض ، وإختلاف الليل والنهار في القرآن في آيتين إحداهما آية البحث ، والأخرى قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ) مع ذكر آيات من بديع صنع الله عز وجل في هذه الآية وهي :
    الأولى : جريان السفن والبواخر في البحار ، وصار الإنسان يصنع في هذا الزمان السفن الكبيرة التي تحمل آلاف الركاب ، وذات حمل الماء للسفن وحديدها وأثقالها معجزة .
    الثانية : بيان قانون وهو وجود البحار وجريان السفن فيها نفع عام للبشرية في التجارة والتنقل وطلب الرزق والأمن ، وهل في قوله تعالى [بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ] ( ) تحذير من إتخاذ البحار للحرب والقتال والبواخر التي تحمل رؤوساً نووية ، الجواب نعم.
    وفي الآية أعلاه دعوة للدول لعقد معاهدات تتضمن السلم والأمن في البحار .
    ومن الإعجاز في تعضيد السنة النبوية للقرآن عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاهدات موادعة مع بني ضمرة في كتيبة ودان ، وفيها أنهم لا يغزون النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولا يكثرون عليه جمعا ولا يعينون عليه عدوا)( ).
    كما كتب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاب موادعة مع يهود المدينة ، ثم مع وفد نصارى نجران ، وفيه نزلت آية المباهلة [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
    كما عقد صلح الحديبية مع كفار قريش الذين جهزوا الجيش تلو الجيش لقتاله في بدر ، وأحد ، والخندق ، وسمّى الله عز وجل هذا الصلح فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
    الثالثة : من منافع اختلاف الليل والنهار النفع للناس وصلاح الأرض لعيش الحيوانات المختلفة وتسخيرها للإنسان .
    الرابعة : من بديع خلق السموات والأرض نزول المطر والغيث من السماء ليسقي الأرض ، فمن إعجاز الآية إخبارها عن منافع مطر السماء ونسبة بعث الحياة في الأرض إلى الله عز وجل لتكون صالحة للزراعة ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
    الخامسة : فضل الله عز وجل في الهواء ، وتعلق حياة الناس بما فيه من الأوكسجين ، ومنافع هبوب الرياح بما يفيد الناس في البر والبحر (عن أبي بن كعب قال : كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب) ( ).
    من علوم الغيب في الآية أعلاه سعة وكثرة وثقل المواد والتجارات التي تنقل في البحر ، وقلة كلفته ، ومنه القمح والحبوب والغذاء والصناعات .
    ومن معاني الجمع بين الآيتين مقارنة أولي الألباب بين العيش بأمان وسكينة على الأرض وبين المشاق في البحار لمن لم يركب السفن أو تنكسر سفينته .
    ومنها حبس الله عز وجل مياه البحار عن الطغيان في الأرض ومنع الزراعة بل جعلها غير صالحة للسكن .
    وتدعو الآية للتدبر في بديع صنع الله بأن جعل البحار وأعماقها تحت مستوى سطح الأرض المحيطة بها ، ولو كانت أعلى منها لما استدامت حياة الإنسان والحيوان والطير إلا الحيوانات البحرية كالسمك ، ومنها ما هو مفترس يعيش تحت الماء ، لبيان أن الله عز وجل أصلح الأرض لتكون محل سكن الإنسان بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
    إذ تدل الآية أعلاه على أن الله عز وجل جعل الأرض صالحة لسكن الإنسان قبل أن يهبط آدم إليها وإلى يوم القيامة ، وفيها آمن للناس ليجتهدوا في طاعته .
    فمن معاني ذكر الله عز وجل الأرض وخلقها في آية البحث أنها مقدمة لسعادة الإنسان في الأرض ، وهذه السعادة فرع الخلافة في قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
    قانون استقبال الليل بالصلاة
    ترى ما هي النسبة بين [اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] المذكور في آية البحث وبين [الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ] الجواب نسبة العموم والخصوص من وجه ، إذ تبين الآية أعلاه التضاد ، كما بين الكفر والإيمان ، وبين الشر والخير ، والجهل والعلم ، مع الفارق.
    فالليل ليس من الظلمات ، إنما ظلمته معجزة ومن بديع صنع الله ، وهو وعاء زماني للذكر والإستغفار ، قال تعالى [كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ]( ).
    ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية استقبال المسلمين والمسلمات ظلمة كل ليلة بصلاة المغرب ثم صلاة العشاء مع الجهر في التلاوة في كل منهما.
    لقد أخبرت آية البحث بأن البدائع الكونية الباهرة والسموات والأرض آيات لأرباب العقول فهل هذا الغرض علة تامة لخلقها ، الجواب لا ،من جهات :
    الأولى : خلق السموات والأرض قبل خلق آدم بآلاف السنين.
    الثانية : تتجلى في خلق السموات والأرض مظاهر قدرة الله سبحانه.
    الثالثة : لقد أراد الله عز وجل أن ترى الملائكة والخلائق بديع صنع الله.
    الرابعة : من أسماء الله الحسنى (الحكيم) إذ يتصف كل فعل منه تعالى بالحكمة واللطف والإحسان ، ومنه خلق السموات والأرض الذي يظهر حكمته وعظيم قدرته.
    الخامسة : لقد خلق الله الملائكة قبل آدم بآلاف السنين وجعل السماء مسكنهم ، فلابد لهم من عمل ، ولم يمكن لهم من عمل إلا التسبيح والتهليل للعبرة والموعظة لبني آدم بأن الملائكة مع إنشغالهم بالتسبيح كانت أعمارهم أطول ، ولم تنقطع عنهم أرزاقهم ، كما سكن الجان الأرض قبل الخلق آدم بالفي سنة.
    و(عن ابن عباس قال : لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها قال الله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان ، ففسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فلما أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنوداً من الملائكة ، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فلما قال الله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، كما فعل أولئك الجان فقال الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]) ( ).
    ليكون من أسباب استدامة حياة الناس في الأرض وتوالي أصناف الرزق عليهم استقبالهم لظلمة الليل بالصلاة والذكر والجهر بآيات التنزيل ، وكذا في استقبالهم النهار ، قال تعالى [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
    وفيه شاهد يومي متجدد على نعمة الله عز وجل ببعثة الرسل ، وعلى عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فيؤدي المسلمون والمسلمات الصلاة جماعة وفرادى ويتلون آية البحث وآيات بديع الخلق الأخرى رجاء نزول رحمة الله عليهم وعلى الناس.
    ومن الإعجاز الغيري للقرآن تعاهد أجيال المسلمين للصلاة من جهات :
    الأولى : مقدمات الصلاة ومنها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
    الثانية : أداء الصلاة في أوقاتها .
    الثالثة : أركان الصلاة من القيام والركوع والسجود.
    الرابعة : تلاوة القرآن في الصلاة اليومية ، وفيه سلامة للقرآن من التحريف.
    الخامسة : حال الخشوع والخضوع لله في الصلاة.
    السادسة : حرص المسلمين على تعاهد السنة النبوية في الصلاة .
    وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي)( ).
    بحث كلامي (المشيئة)
    المشيئة من صفات الفعل وليس من صفات الذات، وتبين الآية ان ابتداء تكوين السموات والأرض في دقائقها وخصوصياتها من عند الله تعالى ومنها خلق الإنسان , وفي التنزيل [هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ] ( )، وتظهر الآية وجوهاً من عظمة صنع تعالى تتعلق :
    اولاً: بديع القدرة الإلهية.
    ثانياً: إحاطة الله تعالى علماً بالأشياء ، وفي التنزيل [وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا]( )، وعلم الله عز وجل من الصفات الذاتية ، وهو حضوري وليس حصولياً ، لأن العلم الحصولي يحتاج صورة وماهية الشئ الذي يراد علمه ، كما أنه يكون على نحو الموجبة الجزئية فلا تكون الإحاطة تامة باجراء وأفراد المعلوم ، والله عز وجل غني غير محتاج.
    ثالثاً: بحكمة الله تعالى وكمال صنعه الذي يتجلى بصورة السموات والأرض وتباين صورة السموات والأرض بين النهار والليل ، وهذا التباين من أسرار اجتماعها في آية البحث.
    واذ بينت الآيات عدم خفاء شيء على الله تعالى على نحو الإطلاق المكاني والزماني في الارض وفي السماء كما في قوله تعالى [لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
    جاءت هذه الآية لتبين ان سلطان الله تعالى على المخلوقات لا ينحصر بالعلم بأحوالها بل يشمل تأليفها وتكوينها وتعيين هيئتها , واستدامتها لأنه تعالى هو الخالق المبدع، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( )، والنسبة بين الصورة والخلق على وجهين :
    الأول : العموم والخصوص المطلق أي ان الصورة جزء من الخلق الوارد في الآية اعلاه.
    الثاني : بينهما عموم وخصوص من وجه ، وهناك مادة للإلتقاء ومادة للإفتراق بينهما.
    والأصح هو الأول فان الصورة جزء من الخلق، وجاءت الآية لبيان ان تولي الله تعالى لخلق الإنسان وكيفية التصوير راجعة الى مشيئته تعالى، وفيها احتمالان:
    الأول: حتمية قوانين الوراثة ووجوه الشبه بين الآباء والأبناء.
    الثاني: اطلاق الإرادة الإلهية وان الله سبحانه قادر على عدم خضوع تصوير الإنسان الى قوانين الوراثة.
    الجواب هو الثاني وان كانت تلك القوانين والقواعد لم تتم الا بمشيئة من الله تعالى.
    فالثوابت في الخلق والتكوين والنشأة لم تحصل الا بعظيم قدرة الله ومشيئته تعالى، فاذا دخلت أســباب طبية حــديثة في تحسـين تصــوير الإنســان في الرحم أو التحميل ونحوه فيما بعد فانها لا تخرج عن المشـيئة الإلهية ومما علم الله تعالى الإنسان، ولا تتم تلك الأسباب الا ان يشاء الله عز وجل حدوثها.
    وجاءت آية التصوير بصيغة المضارع [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( )، مع ان المخاطب في الآية هو الموجود والبالغ من الناس، فلم تقل الآية (صوركم) مما يعني حصر التصـوير في الأرحام بالله تعالى والى يوم القيامة، وفيه دعــوة لشــكر الله تعالى على نعمة التصوير، ولا يمكن لجهة و قوة اخرى ان تكون لها الإرادة في تصوير الإنسان في الرحم او اخراجه بصفات تحدد سلفاً، من الصورة والهيئة ونحوها ، وقال تعالى [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
    ووردت الآية بصفة الجنس الشامل لبني الإنسان وهل يمكن القول بان الآية تحذر من تكوين الإنسان خارج الرحم بواسطة الإستنساخ ونحوه، وتؤيدها الدراسات المخيفة في اضرار الإستنساخ البشري في باب الإجتماع والأخلاق والتربية الدينية وغيرها.
    الظاهر انه ليس في الآية ما يدل على هذا التحذير والنهي، وان كان بالإمكان استفادتهما من أدلة اخرى , والوجدان والتجربة.

    بحث بلاغي
    الإيجاز والإطناب
    يأتي التصديق والتعبير عن النوايا والمقاصد الملائم والسليم بوجوه:
    الأول : المساواة بين اللفظ والمعنى ، إذ تكون المعاني بقدر الألفاظ ، وكذا العكس من غير إطالة أو تكرير أو تطويل لا حاجة له .
    الثاني : المجئ بالفاظ ناقصة ولكنها سالمة مع الحذف في المعنى لأنها ذات صبغة الإختزال ، وهو إيجاز محمود في مقابل الإيجاز المذموم.
    ومن الإيجاز المحمود في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ) ( ).
    الثالث : مجئ الألفاظ زائدة على المعنى لراجح وفائدة ، فالإيجاز في الإصطلاح تحصيل المعاني المتكثرة بالفاظ قليلة من غير إخلال أو حذف يبتر المعنى .
    والإطناب هو إدراج المعنى بالفاظ منها ما هو زائد عنه ، مع فائدة لهذا الزائد كالبيان والوضوح وأستدل بما ورد حكاية عن زكريا في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا] ( ).
    فمن معاني إخباره عن غزو المشيب لرأسه الإنذار بقرب الأجل والحاجة إلى الولد ، ومن خصائص القرآن أن كل كلمة فيه لها دلالة في ذاتها وموضوعها وصلتها مع الكلمات في نفس الآية وفي الآيات الأخرى .
    والإطناب لنفي كون وهن وضعف العظم عن مرض وداء وما يسمى في هذا الزمان (هشاشة العظام) وحتى الشيب قد يأتي مبكراً عن علة ، فجمعت الآية بين الأمرين لتأكيد الكبر ، وزيادة في التوسل والمسألة ، ولبيان قانون وهو معاناة الإنسان وشعوره بتقدمه في العمر إذا إجتمع عنده الوهن والضعف مع الشيب ، ولم يذكر زكريا شعر اللحية ، وهو نبي لابد أنه أطلق لحيته ولو قبضة لأن شيب الرأس عام ، ويستغرقه الشيب بعد اللحية والشارب في الغالب .
    فما يميز القرآن إعجازه بترشح العلوم عن كل من الإيمان والإطناب فيه ، وتنزهه عن كل من :
    الأول : الإيجاز المخل .
    الثاني : الإطناب الزائد الذي لا لزوم له ، وهو في الإصطلاح على شعبتين :
    الأولى : التطويل ، وهو المجئ بزيادة في الكلام غير متعينة .
    الثانية : الحشو ، وهو المجئ بزيادة وألفاظ غير متعينة .
    وقد تكون كلمة حشواً في جملة ومعنى ، ولكنها ليست من الحشو في موضع ومعنى آخر .
    فمثلاً قولك : وردت الإبل البئر القريبة ، فهو ليس من الحشو إذا كانت هناك عدة آبار .
    والقرآن خال من الحشو فمثلاً قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ..] ( ) ولم تقل الآية ( ولقد نصركم الله بمعركة بدر )وفي الآية نكتة وهي إرادة بيان النسبة بين بدر ومعركة بدر ، وأنها العموم والخصوص المطلق .
    ومعنى بدر أعم في موضعه وموضوعه من المعركة ، وأنه يشمل الغلبة للنبوة والإيمان ونفاذه إلى القلوب , ولإرادة نصر عقيدة التوحيد , وصبغة السلام النبوية.
    ولقد جاءت آية البحث بالإيجاز البديع في الألفاظ والموضوع واستدل بها على غنى الله عز وجل عن الناس والخلائق جميعاً ، فمع عظمة المخلوقات والآيات التي تذكرها آية البحث ، فقد جاءت ببضع كلمات.
    قانون كل آية ثناء على الله
    من خصائص القرآن أنه كتاب الثناء على الله عز وجل ، وتلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية ثناء على الله ، وهذه التلاوة آية في تعاهد الثناء على الله عز وجل في النهار والليل ، في مشارق الأرض ومغاربها .
    وفيه ترغيب للناس باتخاذ الثناء على الله عز وجل منهاجاً يومياً في القول والعمل بتقريب أن الصلاة ثناء عملي بالأركان والجوارج على الله عز وجل ، وتجب في الصلاة قراءة سورة الفاتحة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب)( ).
    ومن الإعجاز في المقام أن آيات سورة الفاتحة كلها مجتمعة ومتفرقة ثناء على الله عز جل.
    إذ تبدأ السورة بآية البسملة والإهتداء لهذا الإبتداء وحمل المسلمين عليه لطف لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
    وتبين البسملة أن الله عز وجل هو الرحمن الرحيم ،لبيان قانون وهو أن إبتداء قراءة القرآن بالبسملة سبب لقضاء الحوائج الدنيوية ، وذات البسملة دعاء ومسألة رجاء رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
    والإبتداء بالبسملة شهادة على الإيمان ، وتضرع إلى الله عز وجل ، وهو مفتاح حلّ المعضلات وإزاحة العوائق .
    وهل تصل منافع تلاوة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) إلى النوايا والمقاصد بان يجعلها الله عز وجل ذات صبغة حسنة على صاحبها وغيره .
    الجواب نعم ، وفي التنزيل [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ] ( ) ليتجلى قانون وهو ترتب النفع الخاص والعام على الثناء على الله عز وجل .
    وهل يمكن القول بأن تلاوة المسلم لأي آية من القرآن هي ثناء عليه سبحانه ، الجواب نعم ، فلا يختص الثناء على الله عز وجل بتلاوة الآيات التي تدل على الثناء عليه سبحانه وحده ، إنما ذات التلاوة تسليم بنزول آيات القرآن من عند الله عز وجل ، وإقرار ببديع صنعه والعجز عن إدراك سعة رحمته .
    (عن طلحة بن عبيد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ترك {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقد ترك آية من كتاب الله) ( ).
    (عن عبد الله بن ميمون عن عبيد بن رفاعة أن معاوية بن أبي سفيان قدم المدينة فصلّى بالناس صلاة يجهر فيها،
    ولمّا قرأ أم القرآن ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقضى صلاته،
    ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية : أنسيت أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حين استفتحت القرآن؟
    فأعادها لهم معاوية فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .) ( ).
    وهل آية البحث [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ) ثناء على الله عز وجل الجواب نعم , وكل كلمة منه ثناء على الله ولطف منه سبحانه بالناس.
    قانون الثناء في آية الحمد
    بعد البسملة الآية الثانية من سورة الفاتحة وهو قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
    وهي آية ثناء جلي وواضح ، وإشراقة تملأ النفوس بحب الله عز وجل ، وفيها إقرار بالنعم التي تفضل بها وتسليم بعظيم قدرته وربوبيته للخلائق كلها ، فكل كائن ومخلوق محتاج إلى رحمته سبحانه.
    ومن فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جعل هذه الآية في بدايات سورة الفاتحة ، ويتلوها كل مسلم ومسلمة في كل ركعة من الصلاة اليومية ، وهي مدرسة في الفقاهة ، والثناء على الله عز وجل ، وإدراك وجوبه .
    وليس من حصر لوجوه التفسير بالتقدير في هذه الآية لأن النعم التي يُحمد الله عز وجل عليها متصلة وغير متناهية.
    والألف واللام في (الحمد) لاستغراق الجنس وهي أيضاً لام الحقيقة والماهية ، ولام العهد فكل أفراد الثناء والمحامد لله عز وجل وحده ، وكذا فان حقيقة وطبيعة الحمد خالصة لله عز وجل.
    وعن الإمام علي عليه السلام قال (كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة : اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول : اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك رب تدآبي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر ، اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الريح وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح)( ).
    و(العالمين) جمع عالم ، وهي الموجودات سوى الله عز وجل ، والله رب العوالم مجتمعة ومتفرقة ، ومنها :
    الأول : عالم الملائكة .
    الثاني : عالم الناس .
    الثالث : عالم الجن .
    الرابع : عالم الدواب .
    الخامس : عالم الطير .
    السادس : عالم السموات .
    السابع : عالم الأرض .
    التاسع : عالم ساعات الليل والنهار التي تشير إليها آية البحث ، والمشهور أن المراد من العالمين الملائكة والإنس والجن .
    ومن معاني الرب في المقام إختصاص الله عز وجل بأمور :
    الأول : الله تعالى خالق هذه العوالم ، وهي من عالم الإمكان ومفتقرة إلى رحمة الله .
    الثاني : الله سبحانه مدبر أمور وأنظمة العوالم والأكوان .
    الثالث : الله عز وجل مالك العوالم كلها .
    الرابع : الله عز وجل معبود كل الخلائق ، فليس من معبود بالحق سوى الله سبحانه .
    الخامس : تغشي رحمة الله عز وجل للعوالم كلها .
    وقد يأتي الإحسان والنعمة على يد البشر فتكون مظهراً لفضل الله ، وتسخيره القلوب والجوارح بمشيئته ، وجريان نعمه بأيدي خلقه ليثابوا وتشيع مفاهيم الرحمة والمودة بينهم ، وقال تعالى [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ]( ) أي سواء جاءت مباشرة أو بالواسطة ، فالله سبحانه القادر المريد الرحيم .
    (عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده )( ).
    وهل من ملازمة بين إختتام آية البحث بقوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ) وبين قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) الجواب نعم .
    قانون صدق وتصديق القرآن
    لقد نزل القرآن بالإخبار عن تصديقه لما بين يديه، قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( ).
    ولم تخبر الآية أعلاه عن تحريف طرأ على بعض الكتب السماوية السابقة وما قد يوضع من الأحاديث والتفسير وينسب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة، وفيه مسائل:
    الأولى: قانون القرآن يصدق ما هو حق، فيبقى ما ليس بحق وصدق ليتساقط ويهوى ويعرض عنه الناس.
    الثانية: قانون تصديق الحق فضح للباطل وتكذيب له، فالقرآن سلاح ضد التحريف والتغيير والتبديل.
    الثالثة: تمنــع الآيــة من الإضــافات وحصــول التغيـير في الكتب السماوية.
    ففي الآية إعجاز يتعلق باخبارها عن لزوم ضبط الكتب السماوية , وعدم حصول التغييرات من وجوه:
    الأول: يصدق القرآن التنزيل السابق على الأنبياء السابقين ومنهم موسى وعيسى عليهما السلام , وفي خطاب للمسلمين قال تعالى[وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
    الثاني: أشار القرآن الى التوراة والإنجيل ودل عليهما مما يعني ضبطه وتوثيقه للكتب النازلة من قبل المسلمين، وفيه حصانة لها,ومنع من التفريط او التعدي.
    الثالث: قانون تصديق القرآن للكتب المنزلة باعث للفزع والرعب في قلوب الذين يحاولون التعدي عليها بالتحريف والتغيير.
    وهل يشمل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية ميدان المعركة ومقدماتها ، وأسباب صرفها وخصوص معركة أحد التي وقعت في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، ومعركة الخندق التي وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة ، وقيل السنة الرابعة ، وتسمى غزوة الخندق ، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الغازي ، بينما يدل القرآن والسنة والأخبار على أنه وأصحابه في حال دفاع وأذى ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
    الجواب هو الأول ، فالآية أعلاه من سورة آل عمران تشمل بعث الخوف في قلوب الذين يسعون في التعدي على الكتب السماوية ، وإثارة الفتنة بين المؤمنين .
    شجرة طوبى
    قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ] ( ) .
    ولم يرد لفظ [طُوبَى] في القرآن إلا مرة واحدة في الآية أعلاه ، وتتعدد معاني[طُوبَى] منها :
    الأول : شجرة عظيمة في الجنة, وعن الإمام الباقر عليه السلام (سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله طوبى لهم وحسن مآب.
    فقال : شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة.
    ثم سُئل عنها مرة أُخرى.
    فقال : شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة.
    فقيل له : يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت : شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة.
    فقال : ذلك في داري ودار علي أيضاً واحدة في مكان واحد)( ).
    الثاني : عن (ابن عباس : هذا في الحلف ويقولها إذا حلف الرجل المسلم بالله على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه.
    وقال مجاهد : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
    {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ابتداء {طُوبَى لَهُمْ} خبره،
    وقيل :
    معناه لهم طوبى فطوبى خبر الابتداء الأول.
    واختلف العلماء في تفسير طوبى.
    الوالبي عن ابن عباس : طوبى لهم : فرح وقرة عين لهم، )( ).
    الثالث : العيش الطيب .
    الرابع : الحياة الكريمة .
    الخامس : العز , فالآية من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
    السادس : الغبطة والسعادة وقرة العين .
    السابع : شجرة طوبى وظلالها في الجنة ، و(طوبى) كلمة عربية وعن سعيد بن جبير (طوبى) اسم الجنة بالهندية .
    وقد اقترحت إحصاء الكلمات المنفردة التي لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة مع دلالات هذا الإنفراد ومعاني الإعجاز فيه ، وما يترشح عنه وتستنبط المسائل والقوانين منه .
    قوله تعالى [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]
    ورد لفظ (الآيات) بصيغة الجمع (آيات).
    وليس من حصر للآيات التي تذكرها آية البحث فآية خلق السموات ليس آية واحدة ، ولا هي بعدد السموات السبع إنما هي آيات لا يستطيع أهل الأرض إحصاءها ، خاصة وأنهم يعجزون عن الإحاطة بأكثرها.
    وهل الإرتقاء في علوم الفضاء والرحلات إلى الأفلاك تزيد من معرفة الناس بالفضاء بما يجعلهم يعجزون عن الإحاطة بالأقل من الآيات الكونية وليس الأكثر ، الجواب لا ، واستدامة هذا العجز من مصاديق خاتمة آية البحث [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ].
    و(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمُزِّيِّ ، قَالَ: قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَضِيَّةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَبَلَغَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا الْحِكْمَةَ أَهْلَ الْبَيْتِ”قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ( ).
    وتحتمل نسبة أولي الألباب لعامة الناس وجوهاً :
    الأول : إرادة الأقل من الناس ، بلحاظ أن المراد من أولي الألباب هم المؤمنون.
    الثاني : المراد الأقل من الناس ولكن بلحاظ كثرة الذين لايفقهون ولا يشكرون الله ، قال تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
    الثالث : التساوي بين أولي الألباب وغيرهم من الناس.
    الرابع : أولوا الألباب هم الأكثر.
    والمختار المراد في هذه الآية هو الأخير ، وهو من لطف الله عز وجل بأن يحمل الناس طوعاً وقهراً على التدبر في الآيات ، ولكن منهم من يقيم على اتباع الهوى والضلالة ، قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )، وقد جاءت الآية التالية في بيان صفات أولي الألباب.
    والألباب – جمع لب- وهو العقل ، إذ أنه خالص من الهوى ومانع من إتباع الشهوات ، ويتبادر إلى الذهن إرادة خصوص أصحاب العقول السليمة التي تميز بين الحق والباطل ، وتتبع الحق ، وتعصم صاحبها من الباطل.
    وورد اسم (أولي الألباب) وبصيغة الرفع والنصب في ست عشرة آية من القرآن كلها تدعو إلى استحضار الذكرى والتدبر والإتعاظ بآيات الله.
    ولم ترد آيات في تعيين أولي الألباب وأنهم المؤمنون أو المتقون على نحو الخصوص ، إلا في بعض هذه الآيات [أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا]( )، وقال تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
    لذا فالمختار أن المراد من قوله تعالى [لِأُولِي الأَلْبَابِ] الذين يوظفون عقولهم للتدبر بالآيات واختيار طريق التوبة والهداية ، لذا وردت أكثر آيات [أُولِي الأَلْبَابِ] في البعث على التذكر والتفكر ، وإتخاذه طريقاً للتوبة والإقامة ، وقال تعالى [وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( )، وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
    لتخاطب خاتمة آية البحث الناس جميعاً ببيان وجوب تسخير العقل للتدبر في نشاة وعظمة الخلق ، وملكيته لله عز وجل ، وتدعوهم إلى إيلاء العقل الأولوية في إختيار المناسب من القول والفعل.
    ثم جاءت الآية التالية لتبين خصائص أولي الألباب وهم الذين يذكرون الله عز وجل ويقيمون الصلاة من غير فتور أو كسل.
    لذا فان صفة (أولي الألباب) في آية البحث ثناء وترغيب ، ثناء على المؤمنين ، وترغيب للناس بالهداية والرشاد ، وبيان الخصال الحميدة لأنهم إتخذوا العقل وسيلة للهداية والفلاح ، وفيه ترغيب لعامة الناس لإتباع الذين آمنوا بانتهاج سبل الحق ، وهذا الإتباع يستلزم التفكر والتمييز بين الحق والباطل.
    لذا ورد النداء العام في القرآن [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة ، منه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ).
    ومن إعجاز الآية أعلاه إخبارها عن نزول القرآن للناس جميعاً فهو يخاطب العقول والحواس ، ويضئ أركان البدن .
    فمن خصائص القرآن مخاطبته للناس جميعاً ، وليس من إنسان إلا وقد رزقه الله عز وجل العقل.
    و(عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف . زاجر وآمر ، وحلال وحرام ، ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نُهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا( ).
    وهل يحصر قوله تعالى [أُولِي الأَلْبَابِ] سبل الهداية بأرباب العقول أم يشمل الذين يجعلون الحواس في طاعة الله ، ويمنعونها من الظلم والتعدي ويحبسون الفم والفرج عن الحرام ، الجواب هو الثاني ، وفي التنزيل [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
    ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن مجئ الآية التالية بوصف أولي الألباب بقوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، كما تقدم البيان في سياق الآيات( ).
    ومن خصائص آية البحث بيانها لبديع صنع الله عز وجل وعلى نحو التعدد الإجمالي ، من جهات :
    الأولى : خلق السموات.
    الثانية : خلق الأرض .
    الثالثة : خلق الليل .
    الرابعة : خلق النهار .
    الخامسة : تعاقب الليل والنهار في الأرض .
    وهل يدل قوله تعالى [وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] على حضور كل واحد منهما في ساعة ، إذ يكون الليل في المشرق والنهار في المغرب ، أو العكس ، الجواب نعم ، لبيان أن من معاني الإختلاف عدم غياب أحدهما ، فهو اختلاف بالذات من جهة النور والظلمة مثلاً .
    وكذا اختلافهما وتعاقبهما على كل بقعة من الأرض والساكنين فيها .
    وعجز أي منهما عن الإمتناع عن المغادرة في ساعة أو دقيقة ، ويحتمل هذا الإمتناع وجوهاً :
    الأول : إنه من نظام عام جعله الله في الخلائق فلا تستطيع الخروج عنه بل إنها لا تريد هذا الخروج ، وهو من عمومات قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( ).
    الثاني : انه بمشيئة حاضرة من عند الله عز وجل ، ففي كل لحظة يأمر الله عز وجل الليل والنهار ، بما يلزم.
    الثالث : ليس من عقل وتحكم عند الليل والنهار إنما هو قانون كوني ، خاصة وأن الليل والنهار ، انعكاس وأثر لغيب وشروق وحركة الشمس.
    والمختار هو الأول والثاني ، إذ نسبت آية البحث الإختلاف والتعاقب إلى ذات الليل والنهار مما يدل على شأنهما في هذا التعاقب ليكون كل فرد منهما في إطلالته ومدته وغيابه حجة على الناس ، وزاجراً عن الشرك والضلالة.
    وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ينادي مناد يوم القيامة أين أولوا الألباب ، قالوا : أي أولي الألباب تريد ، قال [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم : ادخلوها خالدين)( ).
    لبيان أن لفظ اولي الألباب عام ، وأن الآية التالية تبين الذين يتدبرون في خلق السموات والأرض ، ويتخذونه عن إدراك هذا الخلق العظيم بحواسهم نوع طريق للهداية ، وسبباً للتقيد بأداء الفرائض العبادية.
    ورد لفظ [آيَاتٍ] في آية البحث بصيغة الجمع لبيان كثرة الآيات ، وعجز الناس عن إحصاء كل من :
    الأول : عدد الآيات في السموات والأرض .
    الثاني : صور الآيات وأشكالها .
    الثالث : حجم أفراد الخلائق .
    الرابع : معرفة الخلائق .
    ومع إرتقاء الإنسان في العلم هل يصبح الذي يعلم به من المخلوقات في الأرض وحدها أكثر مما لا يعلمه ، المختار لا.
    فمن معاني قوله تعالى [خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) عجزه عن إحصاء بدائع الخلق في الأرض وحدها ، ومن باب الأولوية عجزه عن إحصاء الخلائق في السموات أو الإحاطة بعالم الآخرة ، ليكون هذا العجز من البشارة .
    و(عن سهل بن سعد قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصف الجنة حتى انتهى ، ثم قال فيهما ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم قرأ { تتجافى جنوبهم عن المضاجع . . . }( ))( ).
    ومن معاني اسم [الْمُصَوِّرُ] أشكال الملائكة وهيئاتهم وتصوير الجنة ومنازل المؤمنين فيها وسعة الرزق فيها.
    للبعث على العبادة والكسب الحلال والتنزه عن الظلم والحرام والمعاصي التي تقود إلى العذاب الأليم يوم القيامة .
    ويعجز الناس عن تصوير أحوال الآخرة ، قال تعالى [فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) ، ورد بعضها على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث عديدة ترغيباً بالإيمان والعمل الصالح .
    (وأخرج الدارقطني عن أنس قال : بينما نحن حول رسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء ، قلت يا جبريل : ما هذا؟
    قال : هذا يوم الجمعة يعرض عليك ربك ليكون لك عيداً ولأمتك من بعدك .
    قلت يا جبريل : فما هذه النكتة السوداء.
    قال : هذه الساعة وهي تقوم في يوم الجمعة ، وهو سيد أيام الدنيا ، ونحن ندعوه في الجنة يوم المزيد .
    قلت يا جبريل : ولم تدعونه يوم المزيد.
    قال : لأن الله عز وجل اتخذ في الجنة وادياً أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة ينزل ربنا على كرسي إلى ذلك الوادي وقد حف العرش بمنابر من ذهب مكللة بالجوهر.
    وقد حفت تلك المنابر بكراسي من نور ، ثم يأذن لأهل الغرفات فيقبلون يخوضون كثائب المسك إلى الركب ، عليهم أسورة الذهب والفضة ، وثياب السندس والحرير ، حتى ينتهوا إلى ذلك الوادي ، فإذا اطمأنوا فيه جلوساً بعث الله عز وجل عليهم ريحاً يقال لها المثيرة ، فثارت ينابيع المسك الأبيض في وجوههم وثيابهم ، وهم يومئذ جرد مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين يضرب جمامهم إلى سررهم على صورة آدم يوم خلقه الله عز وجل.
    فينادي رب العزة تبارك وتعالى رضوان ، وهو خازن الجنة ، فيقول : يا رضوان ارفع الحجب بيني وبين عبادي وزواري ، فإذا رفع الحجب بينه وبينهم فرأوا بهاءه ونوره هبوا له سجوداً فيناديهم عز وجل بصوت : ارفعوا رؤوسكم فإنما كانت العبادة في الدنيا ، وأنتم اليوم دار الجزاء ، سلوني ما شئتم فأنا ربكم الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي ، فهذا محل كرامتي فسلوني ما شئتم .
    فيقولون : ربنا وأيّ خير لم تفعله بنا ألست الذي أعنتنا على سكرات الموت ، وآنست منا الوحشة في ظلمات القبور ، وآمنت روعتنا عند النفخة في الصور.
    ألست أقلتنا عثراتنا ، وسترت علينا القبيح من فعلنا ، وثبت على جسر جهنم أقدامنا.
    ألست الذي ادنيتنا في جوارك ، وأسمعتنا من لذادة منطقك ، وتجليت لنا بنورك.
    فأي خير لم تفعله بنا.
    فيعود عز وجل فيناديهم بصوته ، فيقول : أنا ربكم الذي صدقتكم وعدي ، وأتممت عليكم نعمتي ، فسلوني ، فيقولون : نسألك رضاك . فيقول : رضاي عنكم أقلتكم عثراتكم وسترت عليكم القبيح من أموركم ، وأدنيت مني جواركم ، وأسمعتكم لذاذة منطقي ، وتجليت لكم بنوري ، فهذا محل كرامتي فسلوني .
    فيسألونه حتى تنتهي مسألتهم ، ثم يقول عز وجل : سلوني ، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم .
    ثم يقول عز وجل : سلوني فيقولون : رضينا ربنا وسلمنا ، فيزيدهم من مزيد فضلة وكرامته ، ويزيد زهرة الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر ، ويكون كذلك حتى مقدار متفرقهم من الجمعة . قال أنس : فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله وما مقدار تفرقهم؟
    قال : كقدر الجمعة إلى الجمعة… الحديث) ( ).
    ومنها أحاديث المعراج وطواف جبرئيل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة ، لما ورد في الحديث (ثمّ طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكاناً إلاّ رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والاستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا.
    قال : ورأيت نهراً يخرج من أصله ماء أشد بياضاً من اللبن واحلى من العسل على رضراض دُرّ وياقوت ومسك أذفر.
    فقال جبرئيل : هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزّ وجلّ وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيم عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عباد الله}( ) الآية. ثمّ انطلق بي يطوف في الجنة حتّى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها،
    فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئاً من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق اغصانها ووجدت فيها ريحاً طيبة لم أشم في الجنة ريحاً أطيب منها فقلّبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرايف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى) ( ).
    وورد ذكر آيات بصيغة التنكير لإفادة أنها جزء وشطر من آيات كثيرة تخاطب وتلح على أولي العقول السلمية في دعوتهم إلى الهدى والإيمان ، وتدعو الآية العلماء إلى التدبر في الآيات وإحصائها ، ومنها :
    الأولى : الآيات الكونية .
    الثانية : الآيات التي تخص الناس وخلقهم .
    الثالثة : آيات المعايش والوقائع اليومية .
    الرابعة : ما يصرفه الله عز وجل من البلاء بعد حضور مقدماته، وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
    ويمكن تقدير الآية على وجوه :
    الأول : لآيات لأولي الإلباب ، وذكرى وتذكير لهم بوجوب عبادة الله عز وجل .
    الثاني : لآيات لأولي الألباب ورحمة لهم في النشأتين لقانون نفع الآية القرآنية في الدنيا والآخرة ، فيتخذ المؤمنون من بديع صنع الله مادة للخشية منه ، والحرص على أداء الفرائض العبادية .
    الثالث : لآيات لأولي الألباب والناس جميعاً للموعظة والثناء على الله عز وجل ، ومن خصائص أولي الألباب سعيهم للنفع العام من الآيات والبراهين ، واتخاذ مضامين آية البحث للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
    الرابع : لأولي الألباب الذين يعمرون الأرض بالعبادة والنسك.
    الخامس : لأولي الألباب لحب الله عز وجل لهم ، قال تعالى [بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
    السادس : لأولي الألباب الذين يتدبرون بخلق السموات والأرض ، فيلجأون إلى الإنابة والتوبة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( ).
    السابع : لآيات لأولي الألباب ، وكذا غيرها من الآيات ، واثبات شي لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
    الثامن : لآيات في كل ساعة من ساعات الليل والنهار .
    التاسع : لآيات قاهرة تمنع الإنسان من الإعراض عنها .
    العاشر : لآيات للتصديق بالنبوة والتنزيل ، فمن الإعجاز في بديع صنع الله أن بعض الآيات يشد بعضها الآخر .
    الحادي عشر : لآيات وعلامات بينة جلية لتصديق خاتمة الآية السابقة ، قال تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
    الثاني عشر : لآيات في مشارق الأرض ومغاربها .
    الثالث عشر : لآيات دائمة إلى يوم القيامة .
    الرابع عشر : لآيات لأولي الألباب والملائكة وعموم الإنس والجن ، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
    فمن معاني إتصاف الملائكة بأنهم ذوو أجنحة طيرانهم وسياحتهم في السموات وهبوطهم إلى الأرض حيث يشاء الله كما في نزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، إذ ألحّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية وصباح المعركة ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
    كما نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد وبأعداد أكثر بقوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) لبيان مسألة وهي تضاعف عدد جيش المشركين في معركة أحد ثلاث أضعاف عددهم في معركة بدر ، فضاعف الله عز وجل عدد الملائكة مجتمعة ، ولو شاء لأكتفى بملك واحد يأتي على جيش المشركين ويجعل طريق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة ممهداً .
    ثم جاءت الآية التي بعدها بزيادة عدد الملائكة إلى خمسة آلاف لإنذار المشركين من هجومهم وغزوهم في معركة الخندق في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
    وفي الآية بشارة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غزوة الأحزاب مع كثرة جيوش المشركين يومئذ .
    وعن عبد الله بن مسعود قال (رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سَدّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم ، انفرد به أحمد.
    وعن وهب بن منبه، عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل أن يراه في صورته، فقال: ادع ربك. فدعا ربه، عز وجل، فطلع عليه سواد من قبل المشرق، فجعل يرتفع وينتشر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعِق، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه)( ).
    الخامس عشر : لآيات لأولي الألباب فيخسر الذين ينقادون إلى الهوى ويرتكبون المعاصي والآثام ، وفي التنزيل [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] ( ).
    السادس عشر : لآيات لأولي الألباب الذين يصبرون في أداء الفرائض وطاعة الله يحبسون النفس عن الجزع ، والجوارح عن الضرر والإضرار ، قال تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
    السابع عشر : لآيات لأولي الألباب الذين يتدبرون في خلق السموات والأرض ، ويتوكلون على الله ، ويثقون بفضله وإحسانه ، قال تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
    الثامن عشر : لآيات لأولي الألباب الذين إذا همّ أحدهم بمعصية مظر في بدائع السموات والأرض ، وإختلاف الليل والنهار ، فأدرك أن الله عز وجل يرى مكانه ، وأنه سبحانه شديد العقاب ، فيمتنع عن المعصية ، فيكتب له الله ثواب هذا الإمتناع لأنه أمر وجودي وتوظيف للعقل في الوقاية من السيئات.
    قانون الإطراد في (أُولِي الأَلْبَابِ)
    الألباب – جمع لب- وهو العقل ، لبيان أن أولي الألباب الذين اجتهدوا في تسخير عقولهم وجوارحهم في طاعة الله ، واتخذوها وسيلة لحبس الجوارح عن فعل السيئات ، فالعقل ميزان للفصل والتمييز بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر.
    والإتصاف بأولي الألباب أي العمل وفق ما يمليه العقل ، وإلا فان كل إنسان عنده عقل .
    ومن الناس من يسخره في اللهث وراء متاع الدنيا ، أو في المكر والشر ، وكان رؤساء قريش ذوي حلم وكرم ويتصفون بالعقل والحكمة في تدبير أمور التجارة والصلات مع القبائل ، وحلّ الخلافات التي تقع بينهم ، ولكنهم عطلوا نعمة العقل عندما جاء النبي محمد بالمعجزات العقلية والحسية.
    وحاربوه بالسيوف ، وجهزوا الجيوش الفتاكة ودبّروا المكائد لقتله ، مما يدل على أن المراد من مصطلح (أولوا الألباب) هو الإطراد والإستدامة في استعمال العقل الفردي والجماعي ، وفي علم الأصول الإطراد من علامات الحقيقة.
    فمثلاً يطلق لفظ (الأسد) حقيقة على الحيوان المفترس المعروف، بالعلقة الوضعية ، وصدق اللفظ عليه في كل هيئة ومناسبة من غير تفاوت.
    كما يطلق مجازاً على الإنسان الشجاع ، ولكن هذا الإنسان يفتقر للإطراد في الشجاعة ، فتراه يتراجع وينهزم أمام من هو أقوى وأشد بطشاً منه إلى جانب تقييده ببعض الخصوصية.
    وهو من المائز بين الحقيقة والمجاز إلى جانب صفة التبادر وعدم السلب.
    وكذا بالنسبة لأولي الألباب فانهم يستحضرون ويوظفون العقل في المسائل العقائدية ، وفي إختيار الإيمان والتقيد بخصاله وأحكامه ، ويحرصون على إجتناب السيئات ، وما يخالف العقل.
    ويأتي العلم الحديث لصناعة الإنسان الآلي وامكان برمجته لإختيار كل ما هو حسن وإجتناب كل ماهو قبيح وسيئ.
    ولقد خلق الله عز وجل الإنسان ويجتمع فيه العقل والشهوة للإمتحان والإختبار وبيان أهلية أولي الألباب للخلافة في الأرض لبيان كون [أُوْلُوا الأَلْبَابِ] يتعاهدون خصال الإيمان في كل الأحوال ، ويجتهدون بالدعاء لما في آيات البحث من سورة آل عمران ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
    ومن معاني آية البحث وجود أمة في كل زمان يتفكرون منفردين ومجتمعين في خلق السموات والأرض ويتخذون من هذا التفكير وسيلة لطاعة الله ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض بأن يقوم الخليفة بالشكر لله عز وجل على نعمة الخلق بالقول والعمل.
    ومن معاني الإطراد في المقام عدم غفلة أولي الألباب عن نعمة خلق السموات والأرض ، ليكون تفكرهم وشكرهم لله عز وجل على هذه النعمة دعوة للناس للهدى والإيمان ، ليتفرع من معنى الإطراد في المقام توارث أجيال المؤمنين التفكر في خلق السموات والأرض ، وإتخاذه وسيلة لطاعة الله ، في اختلاف الليل والنهار .
    فمن معاني جمع الآية بين خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وذكر أولي الألباب إجتهادهم في كل آن من آنات الليل والنهار في طاعة الله عز وجل ، ومنه أداء فريضة الصلاة خمس مرات في اليوم وقراءة القرآن في كل ركعة منها.
    علم المناسبة
    لقد ورد لفظ [أُولِي الأَلْبَابِ] ست عشرة مرة بصيغة الرفع والنصب وهي على أقسام :
    الأول : ورد هذا اللفظ في وسط الآية ، وكان موضوعه منحصر بذات موضوع الآية وما سبقها ، كما في آخر آية من سورة يوسف [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ) .
    الثاني : التي جاءت وسط الآية مع إتصال موضوعها بالآيات التالية ، كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ…] ( ) .
    الثالث : مجئ [أُولِي الأَلْبَابِ] في آخر الآية وكأن موضوعها مستقل عن الآية التالية ، كما في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( ).
    وقوله تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ]( ) أو قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ]( ).
    فقال المفسرون أن الذين قالوا [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ] هم أولوا الألباب ، وقد تقدم الكلام في الجزء الواحد والخمسين في باب سياق الآيات في تفسير الآية السابقة من سورة آل عمران .
    ولكن مضمون الآية أعم ويشمل قول المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة [ربنا ] فان قلت أن المسلمين هم أولوا الإلباب الذي يذّكرون بقانون نزول القرآن من عند الله فهذا صحيح إلا أن الآية التالية وما فيها من الدعاء لم تأت بعنوان الصفة لأولي الإلباب.
    إنما جاءت لإقرار المسلمين والمسلمات باليوم الآخر ، وأن الله عز وجل هو الذي يبعث الناس من القبور ويحشرهم للحساب في مواطن الآخرة ، وأن التصديق بالمعاد من أصول الدين .
    ولا يعلم كثرة ما انصرف عنه المسلمون والمؤمنون من الأمم السابقة من الحرام والنواهي بسبب استحضار المعاد عند الهّم بالفعل إلا الله عز وجل ، لأنهم أولوا عقول سليمة أدركوا أن أفعالهم تدخل معهم القبر فلا تدخل معهم الأموال والتجارات ولا الجاه.
    إنما تصاحبهم الأعمال في عالم البرزخ ، وتحضر يوم القيامة للحساب ، فسخروا عقولهم لتنقيح أعمالهم وسعوا لأن تكون ضياءً ينير قبورهم ، ويمشي معهم في عرصات يوم القيامة ليغبطهم أهل المحشر ، قال تعالى [يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
    التفسير بالتقدير [لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]
    ويكون معنى الآية على وجوه :
    الأول : لآيات لأولي الألباب كل يوم وليلة.
    الثاني : لآيات لأولي الألباب في المشرق والمغرب.
    الثالث : لآيات للعقلاء ليتدبروا في خلق السموات والأرض.
    الرابع : لآيات تدعو للتصديق بالتنزيل .
    الخامس : لآيات من البشارة والإنذار.
    السادس : لآيات تقذف في القلوب الخشية من الله عز وجل.
    السابع : لآيات وبراهين يومية متجددة .
    الثامن : لآيات لأولي الألباب من الرجال والنساء .
    التاسع : لآيات لأولي الألباب في كل زمان.
    فلم يخلق الله عز وجل آدم عليه السلام ولم ينفخ فيه الروح إلا بعد خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، وجعل أقوات ومعايش الناس في الأرض ، قال تعالى [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
    ومنهم من استدل بالآية أعلاه على أن خلق الأرض قبل خلق السماء ، وقال تعالى [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( ).
    العاشر : لآيات وعلامات تبين عظيم قدرة الله ، وأنه سبحانه على كل شئ قدير.
    الحادي عشر : لآيات كونية ظاهرة للناس جميعاً.
    الثاني عشر : لآيات لأولي الألباب والنهي ، والنهُي جمع نهُية ، وهو العقل لأنه زاجر عن الفساد وأسباب التهلكة.
    الثالث عشر : لآيات لأولي الألباب غير القاسية قلوبهم الذين يعرضون عن الوعظ والنصح والتذكير ، قال تعالى [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( ).
    الرابع عشر : لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله في حال الرخاء والشدة.
    الخامس عشر : لآيات لأولي الألباب يعجزون عن إحصائها فيسلمون بها.
    [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] لآية للمؤمنين ، إذ ورد قوله تعالى [خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
    وهل من معاني الجمع بين آية البحث والآية أعلاه ، أن أولي الألباب هم المؤمنون ، والمختار أن النسبة بين الآيتين هو العموم والخصوص المطلق ، وإن أولي الألباب أعم ، لقانون وظيفة العقل تقود الإنسان إلى الإيمان والتقوى.
    علم المناسبة
    (أولوا) جمع ليس له مفرد ومؤنثه (أولات ) والذي ورد في القرآن مرتين وفي سورة الطلاق خاصة ، قال تعالى [وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] ( ) وقوله تعالى [وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] ( ).
    ومعنى أولوا : أصحاب ، مما يلزم الإضافة إلى اسم ظاهر كقولك (اولوا الجاه ) و(اولوا العلم ) و(اولوا الشأن ) .
    وقد ورد لفظ (الألباب) ست عشرة مرة في القرآن وتبعث على الإقرار بالتوحيد والتدبر في الخلق , وقصص الأنبياء , والوقائع.
    وفي التنزيل [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
    وتدعو آيات (الأَلْبَابِ) إلى التصديق بالقرآن ، والإقرار بأنه كلام الله عز وجل لبلاغته , وأنه فوق كلام البشر.
    ولإعجازه وسلامته من المعارضة وملائمة أحكامه لكل زمان ومكان , قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
    ومن إعجاز هذه الآيات مجئ الخطاب والدعوة للناس بالإيمان بخاتمة الآية .
    التفسير بالتقدير [مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]
    لقد ورد لفظ [مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] أربع مرات كلها خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي :
    الأولى : قوله تعالى [وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
    الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
    الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
    الرابعة : قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
    كما ورد بلفظ [بَشِيرًا وَنَذِيرًا] أربع مرات ، ثلاثة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وواحدة بخصوص القرآن ، قال تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ]( ).
    ولا يختص هذا الوصف الكريم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما يشمل الأنبياء السابقين ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
    ولكن الله عز وجل أكرم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه على نحو الخصوص بـ[مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] لتنتفع أجيال الناس من القرآن وأحكامه في الدنيا والآخرة .
    ليكون من التفسير بالتقدير للآية أعلاه وجوه :
    الأول : مبشراً ونذيراً على نهج الأنبياء السابقين .
    الثاني : مبشراً ونذيراً للناس جميعاً.
    الثالث : مبشراً ونذيراً بآيات القرآن.
    الرابع : مبشراً ونذيراً للقريب والبعيد ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
    الخامس : مبشراً بالجنة ، ونذيراً من عذاب النار.
    السادس : مبشراً ونذيراً كيلا يكون للناس حجة في الدنيا والآخرة.
    السابع : مبشراً للذين آمنوا ، ونذيراً للمشركين .
    الثامن : مبشراً ونذيراً فيدخل الناس [فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، وهذا الدخول من جهات :
    الأولى : بشارات الإيمان في الدنيا .
    الثانية : بشارات الإيمان في الآخرة.
    ويدل على الجهتين أعلاه آيات منها [أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
    الثالثة : إنذار الذين كفروا والمشركين والعصاة الظالمين من الإبتلاء في الحياة الدنيا.
    الرابعة : إنذار ووعيد الذين كفروا بعذاب النار في الآخرة .
    التاسع : مبشراً ونذيراً بآيات السلم والصلح والموادعة ، وقد صدرت الأجزاء (202-203-204-210 -211-231) من هذا السِفر في قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
    العاشر : مبشراً بحب الله للمؤمنين المحسنين ، ومنذراً للجاحدين المارقين ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
    الحادي عشر : مبشراً [لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( )، الذين ذكرتهم آية البحث ، الذين يتدبرون في خلق السموات والأرض ويسلمون بأنه بمشيئة الله.
    ومنذراً للذين لا يسخرون عقولهم في التدبر في الخلائق وشهادتها مجتمعة ومتفرقة على كون الله عز وجل هو الخالق المبدع الذي تجب عبادته ، ولا يستحق العبادة غيره أبداً.
    من خصال أولي الألباب
    من إعجاز القرآن ذكره المتعدد[لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] بصيغة الجمع إذ وردت ست عشرة مرة في القرآن ، ومن غير تعيين أسماء ولا زمان أو مكان لهم ، لبيان وجود خصالهم الحميدة في كل زمان.
    والألباب جمع لب وهو العقل لإرادة توظيف هؤلاء عقولهم في اختياراتهم بعيداً عن الهوى ، لأن الفعل على وجوه :
    الأول : الذي يأتي عن عقل وحكمة ، كالتقيد بالفرائض العبادية ، ورجاء الآخرة .
    الثاني : الذي يترشح عن الغواية والهوى وغلبة النفس الشهوية ، قال تعالى [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا]( ).
    الثالث : الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، فتارة يأتي الفعل عن عقل وتدبر بالأسباب والعواقب ، وتارة يغلب الهوى والشهوة والطمع والحسد ونحوه .
    والأول أعلاه هم أولوا الألباب ، وتدل الآية أعلاه عل أنه الأصل في خلافة الإنسان في الأرض .
    ومن إعجاز القرآن بيانه لصفات أولي الألباب في ذات الآيات التي يرد ذكرهم فيها ، وفي الآيات التي تتعقبها كما في آية البحث والآيات التي بعدها والتي ذكرت خصال أصحاب العقول السليمة وصفاتهم الحميدة ، ومنها :
    الأولى : ذكر الله في كل حال من القيام والقعود والإضطجاع ،وعند إلقاء الرأس على الوسادة والإنتباه ساعات النوم ، قال تعالى [فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ] ( ).
    (عن عبادة بن الصامت عن كعب قال : إذا حشر الناس نادى مناد : هذا يوم الفصل أين الذين { تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ }( ) أين الذين { يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؟ }( ) .
    ثم يخرج عنق من النار فيقول : أمرت بثلاث : بمن جعل مع الله إلهاً آخر . وبكل جبار عنيد . وبكل معتد .
    لأنا أعرف بالرجل من الوالد بولده ، والمولود بوالده ، ويؤمر بفقراء المسلمين إلى الجنة فيحسبون فيقولون : تحسبونا ما كان لنا أموال ولا كنا أمراء) ( ).
    والمراد من ذكر أولي الألباب لله سبحانه وجوه :
    الأول : الذكر اللساني .
    الثاني : تلاوة القرآن .
    الثالث : أداء الصلاة على كل حال وهو الأظهر في معنى الآية (عن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال : من صلى قائماً فهو أفضل ، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد) ( ).
    الرابع : الإستغفار ، قال تعالى [كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ] ( ).
    الخامس: الذكر القلبي والله سبحانه [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ) .
    السادس : ذكر الله بالفعل العبادي والعمل الصالح بقصد القربة إلى الله عز وجل ، فلا يختص ذكر الله عز وجل باللفظ واللسان ، إنما يشمل عالم الأفعال وإنقياد الجوارح للألباب وغلبة العقول في السلوك فعلاً وإحساناً ، وأخذاً وعطاء ، وهو من أسرار تعدد صفات أولي الألباب في آيات القرآن ، وعدم إنحصارها بآية البحث والآيات التالية لها .
    الثانية : التفكر في بديع صنع الله عز وجل ، لقد جعل الله عز وجل جوهرة العقل عند الإنسان في أعلى بدنه لبيان أمور :
    الأول : فضل الله عز وجل في حسن خلقة الإنسان فموضع العقل في الرأس من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
    الثاني : سمو مرتبة العقل بالنسبة لأعضاء البدن الأخرى.
    الثالث : إشراف العقل على الأركان والجوارح.
    الرابع : بقاء حمل ورفعة العقل في كل أحوال الإنسان ، في القيام والقعود ، والصحة والمرض .
    الخامس : إدراك العقل الأحسن للأمور ، ومنها التدبر والتفكر في بديع خلق السموات والأرض.
    ولا ينحصر هذا التفكر باجمال الخلق إنما يشمل التفكر بكل آية من آيات الخلق كالجبل القريب ، ونهر الماء الجاري ، وطلوع الفجر ، واشراقة الشمس ثم لا تلبث أن تغيب مما ينفي عنها الربوبية لحال التغير والحاجة والنظام القهري الذي تسير فيه.
    والتفكر في أحوال القمر اليومية والشهرية والسنوية .
    وكيف أنه يطل كالخيط هلالاً عند غروب أول ليلة من الشهر القمري ثم يأخذ بالإتساع إلى أن يصير بدراً منتصف الشهر ثم يرميه الله عز وجل بالنقصان إلى أن يختفي في ليالي المحاق لزجر الناس عن الإفتتان به واتخاذه إلهاً .
    ونزل القرآن ليقطع هذا الإفتتان إلى يوم القيامة بجعل الهلال أواناً لبداية فريضة الصيام ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.. ] ( ) ثم بيّن الله عز وجل موضوعية انقضاء الشهر واطلالة هلال شهر شوال بقوله تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ]( ).
    ولم يرد لفظ [الصِّيَامَ]معرفاً بالألف واللام في القرآن إلا ثلاث مرات في آيتين من القرآن بينهما آية واحدة ، مع إتحاد الموضوع إذ ورد في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وورد مرتين في الآية (187) من ذات سورة البقرة.
    الثالثة : تدبر وتفكر أرباب العقول في خلق السموات على نحو الإستقلال ودلالات تعددها في الآية ، والتدبر في خزائنها ومنافعها وسكانها.
    والتفكر في خلق الأرض على نحو الإستقلال ثم الجمع بينهما في استقراء الدروس والمواعظ ، وأعمال الفكر في الكواكب وسيرها والأنظمة الجامعة أو الخاصة بها ، كحركة الشمس ومسير القمر ، والتباين في الليل والنهار ، واتخاذه وعاءة للعبادة ، وسبباً للرغبة بها والشوق إلى لقاء الله عز وجل .
    الرابعة : التسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يدعو إلا إلى الإيمان بالله عز وجل ،وفيه غاية المدح والثناء من الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا عبرة باستهزاء واستخفاف الذين كفروا بشخصه الكريم والتنزيل ، ولبيان أن إيذاءهم له من الظلم الذي ذكرته الآية بعد التالية [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] ( ).
    فقولهم [إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ] ( ) أن المراد هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل هذا النداء متحد أم متعدد ، الجواب هو الثاني فكل تلاوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية من القرآن هو نداء للإيمان ، وكذا كل صلاة يصليها.
    ولم يرد لفظ [مُنَادِيًا]في القرآن إلا في آية البحث ، وقد ورد مرة أخرى في قوله تعالى[وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ] ( ).
    فلا غرابة أن تراه يخرج في الكتائب ليقيم الصلاة هو وأصحابه في أفواه قرى المشركين من غير أن يتعرضوا لهم أو لانعامهم وزروعهم .
    لتكون هذه الإقامة دعوة عملية للإسلام ، ومقدمة للإيمان العام ، وزاجراً للناس عن إعانة مشركي قريش في غزوهم وهجومهم المتكرر على المدينة وسروحها ، وزروع أهلها .
    ومن مصاديق النداء النبوي في آية البحث خطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وأوامره ونواهيه التي هي من رشحات الوحي وأمره للصحابي بلال وغيره بالنداء في الأحكام (عن أنس قال : بينا أدير الكاس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي دجانة ، حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر ، فسمعنا منادياً ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت .
    قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا ، واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أم سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر}( ) إلى قوله { فهل أنتم منتهون}( )، فقال رجل : يا رسول الله فما منزلة من مات منا وهو يشربها؟
    فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا) ( ).
    ولم يرد لفظ (اجتنبوه) (يوقع) (منتهون) إلا في الآيتين أعلاه.
    الخامسة : من الرسوخ في العلم مناجاة الله عز وجل والثناء عليه سبحانه على تفضله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونداءات الإيمان ، وبيان موضوع الإيمان وهو الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل والعبودية له ، وإتيان ما أمر به وإجتناب ما نهى عنه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
    وهل يختص موضوع الآية بالمؤمنين أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها وإرادة خصوص المسلمين والمسلمات ، الجواب لا ، إنما تشمل المؤمنين في كل زمان .
    وتقدير خاتمة آية البحث : لآيات لأولي الألباب في كل زمان من أيام آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة .
    السادسة : توجه أولي الألباب بالدعاء والمسألة ، والتضرع إلى الله عز وجل بأن يغفر لهم ذنوبهم ، قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي]( ).
    ومن الإعجاز في المقام تعدد المسائل التي سأل بها أولوا الألباب الله عز وجل ، مما يدل على أهليتهم لمرتبة توظيف العقل للنفع الأتم في الدنيا والآخرة ، وفيه وجوه :
    الأول : علموا أن الدعاء أعظم سلاح .
    الثاني : أنه ينجيهم من العذاب.
    الثالث : من المقاصد الغيرية للدعاء هداية الناس إليه.
    الرابع : دعوة المشركين للإمتناع والكف عن الشرك ومفاهيم الضلالة.
    الخامس: ترغيب الناس بالدعاء في حال الرخاء والشدة.
    السادس : حاجة الناس جميعاً إلى الدعاء ، وبه تنزل البركة وتزداد النعم، وتطول الأعمار ، وتحسن العواقب.
    وقد اتخذ المؤمنون من التفكر في خلق السموات والأرض سبيلاً لسعادتهم وللأجر والثواب في الإستقامة وإرشاد الناس إليها .
    السابعة : من معاني [أُوْلِي الأَلْبَابِ] قول كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ، وهل الأدعية الواردة في هذه الآية من الصراط المستقيم الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم .
    ويتعاهدها المسلمون في صلاتهم وخارج الصلاة وتملي على القارئ والمستمع التفكر في خلق السموات والأرض .
    الثامنة : إقرار أولي الألباب بأن الوفاة ومغادرة الروح الجسد بيد الله عز وجل زماناً وكيفية وأثراً ، وأن ملك الموت مأمور من عند الله عز وجل ، فتوجهوا بالدعاء لله عز وجل [وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ).
    ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين ، إذ ورد بخصوص السحرة بعد أن توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب ، لإيمانهم برسالة موسى وإدراكهم بأنه جاء بالمعجزة القاهرة ، فقالوا كما في التنزيل [وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ] ( ) بعد أن كانوا يرجون نوال عطايا فرعون [وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ] ( ).
    ترى ما هي النسبة بين المسلمين ممن تذكرهم الآية أعلاه وبين الأبرار الذين ورد ذكرهم بقوله تعالى [وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ).
    المختار أن النسبة هي العموم والخصوص المطلق فالمسلمون أعم ، وهل يدخل السحرة الذين تابوا يومئذ بلفظ الأبرار والأخيار الذين تذكرهم الآية أعلاه ، الجواب نعم ، فهم أسوة في التوبة والتدبر في آيات الخلق.
    وهل تدخل معجزة موسى (العصا ) وابتلاعها عصي وحبال السحرة بسرعة بعد تحولها إلى أفعى حقيقة وليس تخيلاً أو خداعاً للبصر بقوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) أم أنها آية مستقلة .
    الجواب هو الأول .
    التاسعة : تمنع هذه الآيات من الإفتتان بالأولياء إذ أنهم يلجأون إلى الله عز وجل لأن يرزقهم يوم القيامة ما وعدهم في كتبه وعلى ألسنة الرسل والأنبياء ، فالجميع محتاجون إلى رحمة الله.
    ويتفضل الله عز وجل ويرزق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة المقام المحمود والشفاعة العامة لأهل الكبائر من أمته.
    عن (ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول : لَسْتُ بصاحب ذلك ، ثم موسى عليه السلام فيقول : كذلك ، ثم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيشفع .
    فيقضي الله بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة (فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم) ( ).
    لماذا الألباب بالجمع
    ورد لفظ الألباب في القرآن (16) مرة ، كلها في الثناء والمدح ولم يرد لفظ (اللب) بالمفرد في القرآن وهو من إعجاز القرآن من جهات :
    الأولى : وجود أمة من المؤمنين في كل زمان.
    الثانية : تعاون المؤمنين في أمور الدين والدنيا.
    الثالثة : خلق الله السموات والأرض لوجود أمة مؤمنة.
    الرابعة : الثناء على جنس الإنسان وأهليته للخلافة في الأرض بوجود أولي الألباب والعقول السليمة.
    الخامسة : قانون عجز الكفار عن السيادة في الأرض.
    ففي كل زمان هناك جمع يسخرون عقولهم في طاعة الله ، وعندما يبعث الله عز وجل النبي يتلقاه أولوا الألباب بالتصديق.
    وعندما بعث الله عز وجل موسى وآمنت به بنو اسرائيل ، آمن به رجل من آل فرعون ، قال تعالى [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ]( ).
    واسمه شمعون ، أو شمعان وقيل هرقيل بن حبورا ، وهو ابن عم فرعون.
    و(عن ابن عباس قال : كانت الذرية التي آمنت بموسى من أناس بني إسرائيل من قوم فرعون ، منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه)( ).
    و(روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: سباق الامم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفة عين: خربيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب ياسين، وعلي بن أبي طالب عليه السلام وهو أفضلهم)( ).
    لقد أبى الله عز وجل إلا وجود أمة تستعمل العقل والحكمة للتصديق بالرسول الذي يبعثه الله عز وجل لبيان قانون وهو أن الثناء من عند الله لا يختص بالأنبياء إنما يشمل الطوائف والأمم التي تؤمن بهم وتصدقهم وتتخذ من بديع صنع الله عز وجل في عالم الأكوان نوع طريق للإيمان.
    وهل تسمية المهاجرين ، والأنصار من مدح الله عز وجل للصحابة وبيان اتصافهم بأنهم من أولي الألباب ، الجواب نعم.
    ومن لطف الله عز وجل بالأجيال المتعاقبة من الناس كثرة الآيات والبراهين التي تدل على الوحدانية ، وتقربهم إلى الإيمان ، لبيان أن خلق السموات والأرض سور جامع لكل الآيات الكونية التي تتفرع عن هذا الخلق.
    السادسة : بعث السكينة في نفس المؤمن ، وطرد الوحشة عن قلبه ، فهناك إخوة له مؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها يتفكرون مثله في خلق السموات والأرض ويقرون بأنها من بديع صنع الله عز وجل ، لبيان قانون وهو التفكر في خلق السموات والأرض، والإقرار بأن الله عز وجل هو الخالق لها جميعاً ، من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
    قانون في كل زمان [أُوْلِي الأَلْبَابِ]
    من معاني [أُوْلِي الأَلْبَابِ]عدم وقوفهم عند التفكر في السماوات والأرض خلقة وهيئة ونظاماً بديعاً يبهر العقول ، إنما اتخذوها وسيلة للتصديق بالكتب السماوية ، والإقرار بالمعاد وعالم الحساب ، واللجوء إلى الله للإستجارة من النار وعذابها .
    فكما خلق الله عز وجل السموات والأرض بالحق فانه سبحانه جعل الدنيا مزرعة للآخرة ، وأخبر على نحو القطع واليقين بعالم الحساب والجزاء ، وآمن أولوا الألباب بعالم الحساب ، واتخاذ البرهان الإني من المعلول إلى العلة للإقرار بالوحدانية وحضور المشيئة الإلهية في الأمور كلها.
    ويتجلى قانون مناجاة أولي الألباب لله عز وجل إستجارة وإستغاثة بادراك الخزي الذي يلحق أهل النار ، فهم لم يذكروا العذاب الأليم للنار ، إنما ذكروا الملازمة بين خلق الأكوان والأرضين وعالم الحساب يوم القيامة والحاجة إلى النجاة من النار يومئذ ، والخزي بمرآى من الملائكة وأهل المحشر عامة ولم يرد لفظ [فَقِنَا] إلا في قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار] ( ).
    وكان الخزي على الفعل القبيح يلحق الإنسان في دويرة أهله أو في بلدته.
    وجاء زمن العولمة والفضائيات ليكون الثناء أو الذم لشخص من الأعلام أمراً شائعاً في الأمصار .
    أما في الآخرة فالأمر أعم إذ أن فوز الإنسان بالجنة أو دخوله النار يطلع عليه أهل المحشر من الأولين والآخرين ، لذا فزع أولوا الألباب إلى الله عز وجل لنجاتهم من العذاب في النار وخزيه.
    ومن معاني سؤالهم النجاة من الخزي أنه يومئذ أعم من دخول النار.
    وهل في الدعاء توسل لنجاة عامة الناس من النار ، الجواب نعم.
    فمن وظائف أولي الألباب سؤال المغفرة لهم ولآبائهم وأمهاتهم ، ورجاء صلاح الناس وهدايتهم سواء السبيل وهو من مصاديق ورشحات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ونبذ الإقتتال والحروب ، ثم استدركوا وقالوا [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] ( ) لبيان أن طائفة من الناس تمتنع عن الإتعاظ بالآيات الكونية ، ولا تريد الإقرار باليوم الآخر ، أو أنهم يقرون باليوم الآخر ، ولكن الهوى يغلب على سلوكهم ونزلت آية البحث لمنع هذه الغلبة والمخالفة لأصل الخلق.
    وعن ابن عباس (لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل : لقريش ثكلتكم أمهاتكم اسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم ألدّهم أي الشجعان أفتعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم،
    فقال أبو الاشدين كلدة بن خلف بن أسد الجمحي : أنا أكفيكم منهم عشرة( ) على ظهري وسبعة على بطني واكفوني أنتم اثنين.
    فأنزل الله سبحانه وتعالى {وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكة} لا رجالا إذ من فمن ذا يغلب الملائكة {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ}( ) عددهم {إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم أنا أكفيكموه. {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}( ) لأنّه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر ) ( ).
    ترى ما هي النسبة بين أولي الألباب والراسخين في العلم ،كما في قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
    المختار هو العموم والخصوص المطلق وأن أولي الألباب أعم ، إذ أنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض ويستحضرون فضل الله عز وجل ، وعظيم قدرته وسلطانه في بديع خلقه ، ويلجأون إلى الله عز وجل استجارة واستغاثة ، وشاء الله عز وجل أن تكون أمة من أولي الألباب وأصحاب العقول المستقيمة والنوايا الصالحة في كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
    أيهما أكثر في القرآن صفات المؤمنين أم الضد
    أختتمت آية البحث بذكر [أُولِي الأَلْبَابِ] وأختتمت آية السياق ببيان صفاتهم الحميدة ، وهو من الإعجاز في الصلة بين خواتيم الآيات ، وكيف أنها مدرسة في التفقه في الدين ، والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية.
    ولو اجرينا احصائية أيهما أكثر في القرآن صفات المؤمنين ، والثناء عليهم ، أم صفات الكافرين وذمهم.
    المختار أن صفات المؤمنين هي الأكثر في القرآن وهو من الإعجاز فيه لبيان صفات الحسن عند الناس ببركة النبوة والتنزيل.
    ومن الشواهد هذه الآيات من سورة آل عمران وخواتيم السورة ، فكلها مدح وثناء على الذين آمنوا باستثناء آيتين التي وردت في ذم الذين كفروا كما أنها جاءت ضمن خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
    لقد ذكرت هذه الآيات المؤمنين بالله ورسله وكتبه بأنهم أولوا الألباب ، وأن الله عز وجل أكرمهم بأن صيّر خلق السموات والأرض ، آية وبرهاناً يتعظون به.
    فيعكفون عِلى العبادة ، ويلجأون إلى فعل الصالحات ، ويجتهدون في الدعاء والمسألة كما تبينه الآيات التالية ، وهل لخلق السموات والأرض موضوعية في أدعية أولي الألباب التي تذكرها الآيات التالية ومنها [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ *رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
    الجواب نعم فهذا الخلق العظيم عون للإنسان في هدايته وصلاحه ، وهل فيه شكر من العباد لله عز وجل على نعمة الخلق والنشأة والتكوين ، واختلاف الليل والنهار ، الجواب نعم.
    وهو من أسباب دوام النعم وإعانة الناس للإنتفاع الأمثل من نعمة الخلق والتكوين.

    أيهما أكثر الكنوز الظاهرة أم الخفية
    لله عز وجل ملك الأرض بقاراتها وبحارها وجبالها وكنوزها وهي على شعبتين :
    الأولى : الكنوز الظاهرة.
    الثانية : الكنوز الباطنة .
    وأفراد كل شعبة منها أكثر من أن تحصى ، وأيهما أكثر كنوز الأرض الظاهرة كالزراعة والأشجار والأنهار ، أم الباطنة كالذهب والفضة والنفط والأبار والكبريت ونحوه.
    المختار هو الأول ، وليس المدار على السعر والثمن ، فنعمة الماء والزراعة من أعظم النعم ، وقال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، وتنضب الثروات التي تستخرج من باطن الأرض ، وقد تحتاج الدول الماء لضخه بديلاً عنها .
    أما الزراعة فهي كنز قريب من الناس ومكشوف وغير مغطى ، كما أنه سهل المنال ينتفع منه عامة الناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، وهذا الإنتفاع العام من مصاديق قوله تعالى [إني جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
    وتفضل الله عز وجل بتقدير الأقوات في الأرض وقرب الرزق من الناس الصغير والكبير ، فيأتي فصل الصيف مثلاً في كل سنة لتكثر الثمار والمحاصيل وترخص الأسعار ، ويطول النهار ويقصر الليل.
    وليس من بلد إلا وله حبوب أو فاكهة موسمية إلى جانب الأنعام والأسماك .
    وتستلزم الكنوز في باطن الأرض أدوات ووسائل وتكلفة لإستخراجها ، أما النعم الظاهرة فهي في متناول الناس.
    وهل تدل كثرة كنوز الأرض وكونها أضعافاً مضاعفة لما يحتاجه الناس ورغائبهم على حب الله عز وجل لهم .
    الجواب نعم ، وفيه دعوة للشكر لله عز وجل ، ولزوم تجلي هذا الشكر بالعبادة ، ونشر ألوية السلم ،والإمتناع عن الظلم والجور .
    وإن قلت قد نزل قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) وقوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ]( )وقوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ) .
    والجواب إنما جاء عدم الحب هذا على نحو عرضي للتحذير والإنذار وبسبب قبح فعل الكفار والظالمين ، إذ امتنعوا عما أمرهم الله ، وفعلوا ما نهاهم عنه ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
    عالم الخلق زاجر عن محاربة النبي (ص)
    الله عز وجل هو خالق السموات والأرض وهو مالكها ملكاً مستديماً ، وهذا الملك عن إستحقاق وقهر للخلائق ، وهل يترشح هذا الملك المطلق من الخلق فلان الله عز وجل هو الخالق ، فلا بد أن يكون الله هو المالك ، الجواب الآية أعم ، فملك الله عز وجل يترشح عن الخلق ، كما أنه موضوع مستقل ، فلا بد من مالك للسموات والأرض ، ولا يقدر على ملكهما وتعاهدهما إلا الله عز وجل فهو الملك والمالك في الدنيا والآخرة .
    ولا يقدر على خلق كل من السموات والأرض إلا الله عز وجل ، ولا يستحق ملكها إلا الله عز وجل وحده ، وفيه قهر للخلائق ، ودعوة للناس لنبذ الشرك .
    وفيه نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته قريشاً والناس للإمتناع عن إتخاذ الأوثان آلهة وواسطة تقربهم إلى الله تعالى ، لتكون مضامين آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
    لقد أخبرت الآيات المكية والمدنية عن إنحصار ملك السموات والأرض بالله عز وجل ، وأخبرت أنه هو الذي خلقهن ، وهو سبحانه الذي بعث الأنبياء والرسل في ملكه وسلطانه مما يلزم العباد التصديق برسالاتهم والأحكام التي جاءوا بها ، ولكن المشركين إتخذوا طريق الغي فسعوا في قتله وهو في مكة ، وكذا بعدما هاجروا إلى المدينة وزادوا بأن جهزوا الجيوش لقتاله وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
    ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وهي ملك طلق له سبحانه ، ومنها نزول الملائكة إلى الأرض لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس ثمة مسافة أو حاجز أو افراد زمان طولية بين استجابة الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين نزول الملائكة.
    وعن (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، ثنا بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ” إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ” ، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلائِكَةِ) ( ).
    ويذكر عبد الله بن عباس المصدر والسند لأنه كان يوم معركة بدر صغيراً في مكة ، ووقع أبوه العباس بن عبد المطلب أسيراً عند المسلمين في معركة بدر ، وكذا عقيل بن أبي طالب .
    لبيان علو مرتبة الصحابة من المهاجرين والأنصار بتصديقهم النبي في رسالته والقتال تحت لوائه مع أن عمه وابن عمه يقعان في الأسر ، فان قلت إنهما مكرهان .
    والجواب كان أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الناس عداوة له حتى نزل القرآن يذمه وامرأته ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ*فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] ( ) ومع هذا لم يكن مانعاً دون دخول الصحابة الإسلام .
    ومن فضل الله عز وجل وجود الإمام علي عليه السلام فارس الإسلام ، وحاملاً للواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عمه حمزة ، الذي استشهد في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة التي هي غزوة لقريش على مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    وعندما عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من المعركة مثقلاً بالجراح مرّ (بِدَارِ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ وَظَفَرَ فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ فَذَرَفْت عَيْنَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَبَكَى ، ثُمّ قَالَ لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ فَلَمّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزّمْنَ ثُمّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
    قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بُكَاءَهُنّ عَلَى حَمْزَةَ خَرَجَ عَلَيْهِنّ وَهُنّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْنَ يَرْحَمُكُنّ اللّهُ فَقَدْ آسَيْتُنّ بِأَنْفُسِكُنّ)( ).
    العقل في السنة النبوية
    لقد جعل الله عز وجل السنة النبوية بياناً للقرآن ، ومصدراً للتشريع من وجوه منها :
    الأول : تفصيل وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
    الثاني : منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس من الإختلاف في التأويل .
    الثالث : إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته وأدائه المناسك ، لذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال [خذوا عني مناسككم] ( ) .
    الرابع : السنة القولية ، وخطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الخامس : السنة التدوينية .
    والسنة ليست اختياراً وإجتهاداً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما هو الوحي والعناية الإلهية بالمدد الملكوتي له في قوله وفعله ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
    وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبّني (أحبّه الله)) ( ).
    وتأتي طاعة الله ورسوله بالعقل وتسخيره للإيمان .
    وقد وردت أحاديث عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مدح العقل وفي الحث على التعقل والتبصر، وقال بعضهم أحاديث العقل كلها كذب ، وهذا تجرأ ومجانبة للصواب .
    خاصة وأن السنة النبوية تفسير ومرآة للقرآن ، وقد تحدث القرآن عن العقل والتعقل في نحو خمسين آية ، وعن الفؤاد بصيغة المفرد والجمع في ست عشر آية منها قوله تعالى [وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ( ) فلابد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر العقل في حديثه والعقلاء في سنته الفعلية .
    كما وردت آيات في التدبر والتفقه في الدين .
    (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: “استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ( ).
    وأولوا الأحلام والنهي هم الأرجح عقلاً وبصيرة .
    وعن عبد الله بن عباس (قَالَ لِلأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ : إِنَّ فِيكَ لَخَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ) ( ).
    لقد جعل الله عز وجل العلم مصاحباً للعقل ، وصار الجهل والغفلة ضد للعقل ، لذا خاطب الله عز وجل العقلاء للإقرار بالآيات الكونية ، وأنها من صنع الله عز وجل وأن استدامتها بعظيم قدرته وسلطانه .
    قانون اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره
    من معاني علم المنطق أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها العقل ، وتحمي الذهن من الوهم وآفة الخطأ والضلالة.
    والمنطق لغة مشتق من النطق وهو الكلام ، وهو مصدر ميمي ، والكلمة هي اللفظ المفرد الذي يدل على معنى.
    وفي تعريف الإنسان أنه حيوان ناطق ، بلحاظ دلالة النطق على أنه مفكر ، والمختار أن الإنسان جنس غير جنس الحيوان وفق الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية ، وإلا فيجزي في المقام تعريفه بالناطق ، او المفكر.
    ومن خصائص أولي الألباب ، إتخاذهم خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وسيلة وسبباً للهدى والإيمان ، وصيرورة صورها منطبقة في العقل حاضرة في الوجود الذهني.
    والمراد من اثبات شئ لشئ أي اثبات محمول لموضوع مخصوص كما في قولك (القرآن فرقان) أو (الصيام جنة) فالموضوع هو القرآن ، والصيام.
    فكون القرآن فرقاناً لا يمنع من صفات أخرى للقرآن مثل أنه تنزيل ، وأنه كلام الله ، وأنه حق وصدق وتصديق بالكتب السماوية السابقة ، واثبات كون الصيام جُنة من النار لا يمنع من خصائص مباركة وحميدة أخرى للصيام وهي أكثر من أن تحصى ، قال تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
    لقد ورد عن (جابر إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال ربنا : الصيام جنة يستجن بها العبد من النار ، وهو لي وأنا أجزي به .
    وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الصيام جنة حصينة من النار)( ).
    وهو لا يعني حصر النجاة من النار بالصيام الذي لا يأتي إلا مدة شهر واحد فيما بين هلالين في كل سنة ، والذي يتخلف عن أدائه المريض مثلاً ، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
    فهناك الصلاة التي هي عمود الدين ، يؤديها كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم بحال من الخشوع الخضوع وعلى كل حال لذا ورد في الآية التالية في الثناء على أولي الألباب [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ]( ).
    ومن معاني قانون هذا البحث أن خلق السموات والأرض آيات لكل إنسان وللملائكة والجن ، وذات السموات والأرض تسبح بحمد الله ، قال تعالى [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا]( ).
    فخلق السموات والأرض آيات لكل إنسان ، ولكن أولي الألباب انتفعوا من هذا الآيات وجعلوها مادة لطاعة الله.
    ومن مصاديق آية البحث : لآيات لأولي الألباب وغيرهم من الإنس والجن ، فذكر أولو الألباب للثناء عليهم ، ولبيان خصالهم الحميدة في الآية التالية.
    وتبين الآية أن عبادة أولي الألباب لله عبادة الإختيار والرضا والشكر لله عز وجل وليكونوا أسوة لعامة الناس في سبل الهداية والرشاد.
    ويتخذوا أولو الألباب خلق السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار مادة للإحتجاج وعصمة من جدال وافتراء الذين كفروا ، قال تعالى [الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ]( ).
    والقرآن يفسر بعضه بعضا فقد وردت صفة [الْعَالَمِينَ] للتدبر في الخلق ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ]( ).
    لغة الخطاب (يصوركم)
    ورد قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، بصيغة الجمع يصوركم ولغة الخطاب في الآية تحتمل أموراً:
    الأول : المسلمون، لبيان عظيم فضل الله تعالى عليهم.
    الثاني : الكفار والمشركون لما ورد في الآية من مفهوم الإنذار والوعيد.
    الثالث : الناس جميعاً.
    الجواب هو الأخير، فالمراد من الخطاب في الآية الناس كافة لأن التصــوير في الأرحام أمر جــامع منبســط على كل الناس، وليس فيه تمييز بلحاظ الإيمان والكفر او الهيئة والجنس ، وهو لطف من عند الله لبيان قانون من بديع خلق الله ، وهو سبق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، حتى في خلق الإنسان ونشأته في الرحم وهو باب لدعاء الوالدين لابنائهما وذريتهما ، ودعوة لشكر الإنسان لله عز وجل على حسن صورته ، وترتب استدامة الصحة والعافية ، والوقاية من الأمراض عنها ، فمهما كانت خلقة الإنسان وتأليفها فان الله عز وجل يتولي تصويرها.
    وجاءت الآية أعلاه للإعتبار والإتعاظ والدعوة الى الشكر لله تعالى على نعمة التصوير في الأرحام.
    وقيدت الآية التصوير وتعيين الشكل بحال كون الإنسان في رحم أمه أي ان خلق الإنسان لا يتم الا بمشيئة الله تعالى في جميع مراحله ومراتبه، ولم يكن التصوير عند خروج الإنسان من الرحم وبعد الولادة، ولا في النطفة وتكونها في صلب الرجل، بل بالذات في مدة الحمل على نحو تدريجي ودفعي.
    وعن ابن عباس عن مرة عن ابن مسعود وناس من الصــحابة في قوله [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) قال (إذا وقعت النطفة في الارحام طارت في الجسد أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يوما، ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا بلغ ان يخلق بعث الله ملكا يصورها فيأتى الملك بتراب بين أصبعيه فيخلط فيه المضغة ثم يعجنه بها ثم يصوره كما يؤمر.
    ثم يقول ذكر أم أنثى، أشقى أم سعيد، ما رزقه وما عمره وما أثره وما مصائبه.
    فيقول الله ويكتب الملك فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب)( ).
    وتصوير وتعيين الله عز وجل لهيئة الإنسان وهو في الرحم من اللطف , والحجة الباهرة ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
    وهل تصوير الإنسان في الرحم من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( )، الجواب نعم ، ومنها عناية الله عز وجل بالجنين في بطن أمه في كل ساعة من ساعات الليل والنهار.
    بحث بلاغي
    من معاني النص انه الكلام المتماسك والمترابط المحبوك الجامع لشرائط وما يفيد الدلالة والمعنى والإخبار والقبول.
    لبيان مسألة وهي ليس كل كلمات متوالية هي نص فقد تجتمع من غير ترتيب .
    ومن خصائص القرآن الإرتقاء بالنص بما يفوق أوهام الناس ، في نظمه وانسجامه واتساق كلماته ، وتعدد معانيه ودلالاته.
    والإنسجام في اللغة هو السيلان ثم صار يفيد التوافق والتناسب ، وسلامة الكلام من التعقيد.
    وجاءت كلمات آية البحث بانسجام تام من جهة اللفظ والموضوع والدلالة ، إذ تخبر عن إنفراد الله عز وجل بالقدرة المطلقة وعن تجلي مصاديق لهذه القدرة بخلق عظيم وآيات من بديع صنع الله في إيجاد السموات والأرض من العدم وتزيينها بالليل والنهار وعدم البقاء على حال واحدة من الضياء أو الظلمة.
    وتدل آية البحث على إعجاز القرآن في بلاغته ، وعدم انحصار هذا الإعجاز بالبلاغة إذ تجتمع معها معجزات بديع الصنع والشواهد الحسية على عظيم صنع الله عز وجل وفيها ترغيب للإنسان بتلاوة الآية والتدبر في معانيها.
    بحث أصولي (هل غير المسلمين مكلفون بالفروع)
    [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ]( ).
    لم يرد في القرآن أو الأحاديث النبوية أو أقوال الصحابة والائمة ما يفيد تقسيم المعارف الدينية إلى أصول وفروع.
    ومنهم من أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع مثل الخوارج والمعتزلة لقولهم بأن الإيمان كل لا يتجزأ ، فاما ان يكون موجوداً يتحلى به العبد أو يذهب كله .
    وتقسيم الأحكام الشرعية إلى أصول وفروع تقسيم اصطلاحي واستقرائي ، ولا خصومة فيه إذا كان خالياً من المفسدة ، إنما هو للبيان وتنمية ملكة الفقاهة.
    وفي التقسيم الإستقرائي في المقام وجوه :
    الأول : جعل التقسيم بأن الأصول هي الأمور العظيمة التي على عامة المسلمين معرفتها ، ولا يصح تركها ، وجاء الذم والوعيد لمن تركها.
    الثاني : الأصول ما استقل بها العقل ، والفروع ما اشترك بها العقل والنقل.
    الثالث : الأصول هي أمور العقيدة ، والفروع أمور الفقه.
    وهل يدل التباين الرتبي بين الأصول والفروع على أن الجهل بالمعاد أعظم من الجهل بالصلاة لأنها فرع أم لا يدخل هذا المعنى في المقام الجواب هو الأول.
    ومن جهة الإيمان والتسليم بأصول وفروع الدين ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
    وعلم أصول الدين خاص ، ويسمى علم التوحيد ، علم العقائد.
    ولا يجوز التقليد في أصول الدين ، بخلاف فروع الدين ، فيجب على كل مكلف أن يفكر في أصول الدين ويسلم بها على نحو اليقين وليس الظن.
    وأصول الدين التي أجمع عليها المسلمون هي :
    الأول : التوحيد .
    الثاني : النبوة .
    الثالث : المعاد .
    الأصول الثلاثة هي :
    الأول : التوحيد وهو معرفة الله وأنه خالق كل شئ ومدبر الأكوان ، وأنه أزلي وأبدي ، ووجوده لذاته والتصديق بصفات الله الثبوتية كالقدرة والعلم والحياة ، وتنزيهه عما لا يليق بشأنه ، وأضيف لها الإعتقاد بان صفات الله ذاتية ولا توجد صفة زائدة على الذات .
    وأن الإنسان يقوم بالفعل عن قوة واختيار جعلهما الله عنده ، ليكون مسؤولاً عن أعماله ، لأن الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء , قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
    الثاني : النبوة والمراد التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين وأن القرآن كلام الله ، ولم يأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالوحي .
    وهل يلزم التصديق بعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه خاتم الأنبياء ، الجواب نعم .
    الثالث : المعاد ، وهو الإعتقاد بالبعث وأن الناس يخرجون من القبور ويحشرون يوم القيامة للحساب ، وهذا الحشر جسماني ، وهو الأصل عند إطلاق لفظ المعاد , قال تعالى [وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ] ( ).
    وقال الامامية بانها خمسة باضافة العدل والإمامة كما مبين مفصلاً في كتابنا الموسوم معراج الأصول.
    وذكر المعاد واليوم الآخر في مئات من آيات القرآن وورد في أحاديث كثيرة في السنة النبوية , ومن أسماء المعاد في القرآن :
    الأول : يوم القيامة .
    الثاني : البعث .
    الثالث : النشور .
    الرابع : الحشر .
    الخامس : لقاء الله عز وجل , قال تعالى [مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
    السادس : المعاد .
    السابع : اليوم الآخر .
    الثامن : الحساب .
    التاسع : الساعة .
    العاشر : احياء الموتى .
    الحادي عشر : الرجوع .
    وأختلف في المعاد على وجوه :
    الأول : إنه للنفس خاصة ، وهو مشهور الفلاسفة .
    الثاني : أنه للبدن خاصة ، لمن لا يقول بالنفس الناطقة .
    الثالث : المعاد للنفس والبدن ، وهو الصحيح وهو ظاهر آيات التنزيل والنصوص ، قال تعالى [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
    ولأن الإنسان مركب من الروح والبدن ، فيبعث في الآخرة بذات الهيئة والصورة أيضاً ، ويتعارف الناس ويشهد بعضهم لبعض أو بعضهم على بعض بالتعاون وإستحضار الصورة ، وتدل عليه آيات القرآن والأحاديث الشريفة ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ *وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] ( ).
    والإيمان هو التصديق بالقلب والجنان .
    قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ) وموضوع هذه الآية هو المعنى الأول أعلاه.
    وفروع الدين هي :
    الأول : الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
    الثاني : الصيام ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
    الثالث : الزكاة ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ..]( ) .
    الرابع : الخمس ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
    الخامس : الحج .
    السادس : الجهاد .
    السابع : الأمر بالمعروف ، وهناك آيات عديدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
    الثامن : النهي عن المنكر .
    وتضمن قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) قيام أمة وجماعة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط عن عموم المسلمين من جهات:
    الأولى : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكافلي .
    الثانية : إذا توقف عنه جماعة من المسلمين يأتي به آخرون .
    الثالثة : المراد في الآية التبعيض والشواهد من المعروف أو المنكر ففي كل حال هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ومن يأمر في مسألة قد يؤمر في أخرى .
    والإجماع على أمور منها :
    الأول : الكفار مخاطبون بأصول الشريعة من الإيمان بالله عز وجل ، والتصديق بالنبوات ونزول الكتب السماوية والملائكة ،قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
    وقد ذكرت في هذا الجزء من تفسيري للقرآن أن من معاني إتصاف الملائكة بالأجنحة سياحتهم في السموات وهبوطهم إلى الأرض ، بأمر الله , منها نزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بعد إجتهاد وإلحاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
    الثاني : الإجماع على أن الكافر مثل المسلم في الجنايات والإتلاف وأسباب الضمان والعقوبة ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
    وأختلف هل الكفار مخاطبون بفروع الشرائع من الصلاة والصيام والزكاة والحج.
    ترى هل شرط الإيمان في صحتها مانع من تكليفهم بها ، الجواب لا ، لأن الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار وفيه وجوه :
    الأول : تكليف الكفار بفروع الشريعة مطلقاً من الفرائض والأوامر والنواهي ، وهو مشهور علماء الإسلام ، والمختار .
    الثاني : الكفار غير مكلفين بفروع الشريعة مطلقاً ، وبه قال جمهور الحنفية ، ونسب إلى بعض المالكية والشافعية .
    الثالث : الكفار مخاطبون بالنواهي دون الأوامر .
    الرابع : الكفار مخاطبون بالأوامر فقط .
    الخامس : المرتد مخاطب بالفروع دون الكافرالأصلي .
    السادس : إنهم مخاطبون بالفروع عدا الجهاد لإمتناع قتال الكفار لأنفسهم .
    وأن ورد بخصوص الذين اتخذوا العجل ، قال تعالى [فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ).
    ومن الأدلة على تكليف الكفار بفروع الشريعة وجوه :
    الأول : الآيات القرآنية التي تدل على وجوب عبادة الناس لله عز وجل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
    الثاني : قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ) .
    وتتجلى مصاديق التقوى بأداء الفرائض العبادية في أوقاتها .
    الثالث : الإحتجاج بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) فوجوب الحج على عموم الناس بقيد الإستطاعة لأن الألف واللام للإستغراق بينما الألف واللام في [الْبَيْتِ] للعهد والمراد البيت الحرام .
    الرابع : قوله تعالى [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ] ( ) وفي نهج البلاغة عن الإمام علي عليه السلام (أنه قال في كلام يوصي أصحابه: تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقربوا بها،فانها (كانت على المومنين كتابا موقوتا) ( ) .
    ألا تسمعون إلى جواب أهل النارحين سئلوا “ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) ( ).
    ولم يرد لفظ [سَلَكَكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
    الخامس : قال تعالى [وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ] ( ) .
    وجمعت الآية أعلاه بين فرع من فروع الدين وهي الزكاة وأصل من أصول الدين وهو المعاد .
    ومن الإعجاز في الآية أعلاه ذكرها المشركين على نحو الخصوص ، وليس الكفار ، ولا أهل الكتاب ، لأن أهل الكتاب يتصدقون ، ويؤمنون بالآخرة وعالم الحساب .
    السادس : قوله تعالى [فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى] ( ) لقد ذم الله عز وجل الكفار على إنكار التنزيل ، وعلى عدم الصلاة ، والصلاة من فروع الشريعة .
    والمختار أن المراد بالكفار في هذا المبحث هم الكفار المشركون وليس اتباع الكتب السماوية .
    أما القائلون بعدم التكليف بالفروع فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن ، قال (فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ( ).
    أي أن النبي أمر معاذاً أن يدعوهم إلى الإيمان أولاً فاذا أجابوه أمرهم بالفروع .
    ورد هذا الإستدلال بأنه لا فائدة من الصلاة مع الكفر ، وجاء الحديث لتقديم الأهم والأولى والأصل الذي تبتنى عليه الفروع وهو التوحيد .
    وفي فائدة هذا البحث مسائل :
    الأولى : تنمية ملكة الإيمان ، وتثبيته في النفوس .
    الثانية : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة مراتب التكليف .
    الثالثة : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت سنن الإسلام في الأرض .
    الرابعة : حرص المسلم على التقيد بالأصول واتيان الفروع وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
    الخامسة : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
    فائدة الخلاف في موضوع هل الكفار مكلفون بالفروع وثمرته وجوه :
    الأول : التفقه في الدين.
    الثاني : الترغيب بأداء الواجبات العبادية.
    الثالث : تعاهد الإيمان.
    الرابع : ظهور الثمرة في الدنيا والآخرة .
    الخامس : ظهور الثمرة في الآخرة بالأمن للمؤمنين الذي يعملون الصالحات ، ومضاعفة العذاب للذين كفروا قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا]( )، والصحيح هو الأول .
    قال أبو حنيفة بعدم تكليف الكفار بالفروع , ومن الامامية ذهب إليه الكاشاني , وأصر عليه صاحب الحدائق سواء بحمل العام الخاص , والمطلق على المقيد , وهو غير تام في المقام ,
    ومن الخطابات الخاصة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ]( ) .
    [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( )
    [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( )
    [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( )
    [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )
    [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )
    [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( )
    وآيات تدل على العموم في صيغة الخطاب والموضوع منها [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
    و[يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ( )
    واستحالة التكليف إنما تكون في الإرادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكافل التام , دون الإرادة التشريعية وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف .
    وتكليف الكفار بالفروع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
    ولو فعل الكافر الإحسان والصدقة والخير مما لا يشترط قصد القربة فهل ينفعه , ويثاب عليه فيه خلاف من وجوه :
    الأول : يثاب عليه في الدنيا .
    الثاني : يثاب عليه في الآخرة .
    الثالث : إذا أسلم تكتب له حسناته السابقة .
    الرابع : لا يثاب عليه في الدنيا والآخرة , قال تعالى [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) وهذه المسألة فرع شروط التكليف .
    وأن التكليف متوجه إلى الفرد إن لم يحصل شرط العمل وهو الإسلام.
    قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( ) .
    إذ يدل نظم الآية أعلاه وسوء عاقبة الزنا على الخطاب العام للناس جميعاَ وكذا النصوص في المقام.
    ولم يرد لفظ [الزِّنَى] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
    و(عن الفضل بن الفضل الكندي، عن أحمد بن سعيد الدمشقي عن هشام بن عمار، عن مسلمة بن علي، عن الاعمش، عن شقيق، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : معشر المسلمين إياكم والزنا فان فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة : فأما في الدنيا: فانه يذهب بالبهاء، ويورث الفقر،وينقص العمر، وأما التي في الآخرة : فانه يوجب سخط الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار.
    ثم قال النبي صلى الله عليه وآله : سولت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) ( ) .
    واختلف هل تكليف الكفار بالفروع أو عدمه يخص الأحكام الفرعية الشرعية ، أم يشمل الأحكام الفرعية العقلية ، الأخير هو المشهور.
    إذ يشترك الناس جميعاً في تلقي الخطاب بحرمة المستقلات العقلية المنهي عنها مثل حرمة القتل ، وحرمة الزنا ، والظلم والتعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
    ومن أدلة المانعين من تكليف الكفار بالفروع من القرآن آيات :
    الأول : قوله تعالى [الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( )، وأن الآية تدل على انحصار حرمة الزنا بالمسلمين مما يدل على عدم توجه الخطاب بالفروع للكفار لأن حرمة الزنا تختص بالمؤمنين دون الكفار.
    وهذا القول مردود بتفسير الآية أعلاه إذ أنها ذكرت التلبس بالزنا مطلقاً ، وبآيات القرآن ذات الخطاب العام [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( )، وقوله تعالى [وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا]( )، ومنها [وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( ).
    وفي معتبرة عبد الله بن ميمون القداح عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال يعقوب لابنه : لا تزن ، إن الطائر لو زنا لتناثر ريشه.
    ولكن الآية لا تدل على اختصاص وقوع الزنا من المشرك بل قد يقع من المسلم ، لذا جمعت الآية بين أفراد :
    الأول : الزاني .
    الثاني : الزانية .
    الثالث : المشرك .
    الرابع : المشركة .
    وجاءت الآية بالعطف على كل من الزانية والمشركة ، وبين الزاني والمشرك مما يدل على التعدد وأنه من عطف الخاص على العام ، واثبات حرمة الزنا على المؤمنين لا يعني عدم ثبوته على غيرهم.
    وقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم حد الزنا على غير المسلم بعد ثبوته ، لذا جاء حكم الحد في المقام مطلقاً بقوله تعالى [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
    كما أن الأحكام الشرعية لا تقف عند فرد واحد من الأوامر أو النواهي ، وقد جاء القرآن بالنهي عن الشرقة مطلقاً ، وعن الظلم والتعدي ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn