معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 235

المقدمــــــة
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، الذي أحصى كل شئ عدداً سواء الموجود أو المعدوم ، مما كان وما سيكون إلى يوم الدين ، كما أحصى أفراد وأحوال عالم الآخرة التي هي من اللامتناهي .
ومع القول بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن وهو المشهور ، فحتى على القول بأنهما غير مخلوقتين فان الله عز وجل أحصى كل شي فيهما قبل أن يخلق آدم ، مما يجعل الخلاف بأوان خلقهما صغروياً لتقديم الأهم ، وهو الإقرار بعظيم قدرة الله ، ولغة البشارة بالجنة والإنذار من النار .
وهل خلقهما من مصاديق كل من الآيتين المتجاورتين [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ).
الجواب نعم ، ويكون التقدير على وجوه :
الأول : ولله ملك السموات والأرض والجنة والنار .
الثاني : والله على كل شئ قدير ، ومنها خلق الجنة والنار .
الثالث : إن في خلق السموات والأرض ، والجنة والنار دعوة للإيمان والإنابة ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع : إن في إختلاف الليل والنهار ، والجنة والنار لآيات لأولي الألباب .
الخامس: إن في خلق الجنة والنار لآيات لأولي الألباب للتضاد بينهما ، وبين سبب الدخول لأي منهما .
ومن إعجاز القرآن خلوه من لفظ جامع لهما ، فليس فيه لفظ (الجنة والنار ) وهو من لطف الله عز وجل إذ لم يعطف الضد من العذاب على الرحمة والسعادة الأبدية .
وهل قول الحمد لله برزخ دون النار ، الجواب نعم ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية الواجبة ، وفيه دعوة للمسلمين للحمد لله على هذه التلاوة من وجوه :
الأول : الهداية إلى قول الحمد لله .
الثاني : تفقه المسلمين في الدين بتكرار قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]ومعرفة وجوب الحمد لله ، وأنه سبحانه رب وإله كل الخلائق ، وليس من مخلوق إلا وهو محتاج إلى رحمته وفضله .
الثالث : الإمتثال لأمر الله باقامة الصلاة وتلاوة القرآن والإنصات له ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( )وقال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الرابع : وحدة المسلمين والتآخي بينهم لأن كل واحد منهم يقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] في ذات الهيئة العبادية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ( )
ومن معاني الآية : صلوا كما علمكم الله ، واذكروه وسبحوه .
وعن (مالك بن الحويرث قال اتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن شببة متقاربون فاقمنا عنده عشرين ليلة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما رقيقا فلما ظن انا قد اشتهينا اهلينا ( واشتقنا سألنا عما تركنا بعدنا فاخبرناه فقال ارجعوا إلى اهاليكم فاقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر اشياء احفظها واشياء لا احفظها وصلوا كما رأيتموني اصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم احدكم وليؤمكم اكبركم) ( ).
وهل يمكن إحتساب قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) من آيات السلم والمقدمة للأمن والتعايش المجتمعي ، الجواب نعم .
فقد ثبت في هذا الزمان أن من يسعى للسلام عليه الإستعداد والتهيئ للدفاع ، ولتوازن القوى ، ولردع الطرف الآخر .
وقد كان المشركون يشنون الغزوات على المدينة ، ويسعون بمخططات إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبذلون الأموال في العدوان ، وقد ذمهم الله عز وجل بالقول [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار النعم المتصلة والمتجددة ، وينال كل انسان منها أفراداً ممتنعة عن الإحصاء إلا من عند الله وحده ، وكيف يحصون ما لا يحيطون به علماً من جهة الحد والرسم والكثرة ، فالله سبحانه وحده القادر على إحصاء كل النعم على العبد ، ومجموع النعم على الناس وكل صنف من هذه النعم.
فان قلت وهل تعجز الملائكة على عدّ هذه النعم مع أن الله خلقهم بهيئات وأشكال عظيمة شتى ، الجواب نعم.
وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حين احتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض بأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فمن علم الله عز وجل أن الناس محل لنعم غير منقطعة ولا متناهية من عند الله بحيث يشكر الملائكة الله عز وجل على هذه النعم ، وعلى عجزهم والناس عن احصائها.
ونسأل الله التوفيق إلى الإجتهاد بالتأنق بعبارات الحمد لله ، وإدراك قانون زيادة النعم بالشكر بوعد من عند الله عز وجل ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الحمد لله الذي جعل كل مخلوق محتاجاً إلى رحمته وإتصال نعمه ، وهو الذي يمنح الخلائق أضعاف ما يحتاجون ، ويظهر في هذا الزمان بارزاق وممتلكات الناس الوفيرة.
لتكون حجة عليهم وبرزخاً دون الفساد وسفك الدماء الذي تذكره الآية أعلاه بخصوص احتجاج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض ، ولبيان قانون وهو أن الفساد وسفك الدماء الذي حالت دونه النعم أكثر من أن يحصى ، وهو أكثر عدداً وكماً وموضوعاً من الفساد والقتل الحاصل في الواقع بين الناس.
وهل تبين الآية أعلاه أن الله عز وجل خلق آدم ونشر ذريته في الأرض وبمرتبة الخلافة ابتداءً من فضله ومن غير سؤال من أحد من الخلائق.
أم أنه جاء بدعاء وسؤال من بعض الملائكة أو من الجن أو النسناس أو غيرهم ، المختار هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
لبيان أن فعل الله عز وجل خير محض ، ونعمة على الخلائق وأن الملائكة لم يحتجوا على خلق آدم وجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إنما سألوا الله رحمته بالناس ، ولا يعثون فيها فساداً فيدخلون النار.
الحمد لله الذي جعل الملائكة تشفق على الناس ، وترأف بهم ، وتدعو لهم قبل أن يخلقوا ليلجأ الملائكة إلى الإستغفار لهم ، وينزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق لإستئصال الشرك الذي هو أم الفساد ، وسبب لعدم الإحتراز من القتل بغير حق.
ومن علم الله عز وجل في المقام تفضله بنزول القرآن ، ووظيفة كل آية منه نشر الصلاح ، ومنع الفساد في ذاتها ورسمها وموضوعها ودلالتها.
الحمد لله الذي جعل الآية القرآنية نعمة ينهل منها الناس جميعاً في كل زمان من غير أن تنقص خزائنها ، وهو من شكر الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بتلاوتهم آيات وسور القرآن في الصلاة اليومية لبيان ترشح النعم عن التلاوة اليومية للقرآن إلى جانب المنافع الأخروية لها ، وهي أكثر من أن تحصى .
ولابد من إعانة وتقريب عامة الناس للتدبر في آيات القرآن ، وما فيها من الحكمة العالية والإعجاز ، ومن وسائل التقريب الإحسان واللطف مع الناس جميعاً على إختلاف مشاربهم ، وإجتناب الإضرار بهم ، وما يبعث النفرة في نفوسهم ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ).
و(عن المستورد( ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر ثم يرجع)( ).
وقد ورد (عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر)( ).
وهل الحسنات في الحديث أعلاه مطلوبة بذاتها ، وهي مجردة ليس لها أثر ونفع في الدنيا أم أنها خير ونفع وبركة في الدنيا والآخرة ، الجواب هو الثاني.
الحمد لله الذي اثنى على نفسه في كل كتاب سماوي وتجلى هذا الثناء بالقرآن الذي جعله الله عز وجل خاتماً للكتب السماوية ، وبياناً سماوياً للأحكام ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
الحمد لله على خلق الملائكة ببدائع من قدرته ، وعجز الناس عن معرفة عددهم وكثرتهم وهيئاتهم ومواطن سكناهم.
الحمد لله عدد نجوم السماء ، وتفضله بأن جعلنا من أهل الزمان الذي تبين فيه الإكتشافات العلمية أن الأرض ومن عليها كالقطرة في البحر بالنسبة إلى السموات وعالم الأكوان.
وتبعد الشمس عن الأرض 150 مليون كم ويمكن ان تستوعب الشمس من حيث الحجم والسعة 1300000 كوكب مثل الأرض وحجمها ، وفي هذه العلوم المستحدثة دعوة للإنسان للتواضع والتطامن والخشية من الله ، والتنزه عن التطرف والعنف ، وإخافة الناس وكثرة الشقاق والخلاف والخصومة .
الحمد لله الذي جعل نعم الدنيا مقدمة لنعم الجنة ، وتذكيراً بها ، وترغيباً في السعي إليها ، فاذا كانت نعم الدنيا مباحة للناس جميعاً فانها خاصة يوم القيامة بالذين عملوا الصالحات بقيد الإيمان والتقوى ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا]( ).
الحمد لله الذي جعل علوم القرآن من اللامتناهي ، من جهات:
الأولى : مضامين الآية القرآنية .
الثانية : الأوامر والنواهي في القرآن.
الثالثة : الإنتفاع الأمثل من القرآن.
الرابعة : صدور الناس في كل زمان عن القرآن.
الخامسة : الثواب المتصل والمتجدد على تلاوة آيات القرآن.
السادسة : الإتعاظ من قصص القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
لبيان أن انفراد قصص القرآن بآيات من الحسن والبهاء وأسباب البهجة المقرونة بالتدبر وهي على أقسام :
الأول : الحسن الذاتي لقصص القرآن.
الثاني : الحسن الخاص للآيات التي وردت فيها قصص القرآن.
الثالث : الحسن الغيري لقصص القرآن ، ومنها الإتعاظ والإعتبار واقتباس الدروس منها، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الحمد لله الذي أرسل النبي محمداً لنشر ألوية السلام والأمن في الجزيرة العربية لبيان وجوب تعاهد المسلمين وأمرائهم وعلمائهم السلام في الأرض ، والزجر عن الإرهاب والعنف والتطرف وهو من الواجب العام الإستغراقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، ولتكن منكم أمة تدعو إلى السلام وتأمر بالأمن والسلم المجتمعي , وتنهى عن الإرهاب ومقدماته.
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض ، وتفضل وجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليشكر الله عز وجل بالعبادة والصلاح ، والإمتناع عن الظلم والتعدي ، فنزل القرآن بالعبادات والمعاملات والأحكام .
ولو دار الأمر بين إنحصار الخلافة بآدم أم استمرارها واستدامتها ، فالصحيح هو الثاني ، وهو الذي يدل عليه منطوق الآية ، ولغة التنكير (خليفة) التي تفيد العموم في مقام الإثبات ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : اني جاعل آدم في الأرض خليفة.
الثاني : اني جاعل كل رسول في الأرض خليفة.
الثالث : اني جاعل الرسول محمداً في الأرض خليفة.
الرابع : اني جاعل المؤمنين خليفة في الأرض .
الخامس : اني جاعل جنس الإنسان في الأرض خليفة.
وهل يصح تقدير الآية : اني جاعل القرآن في الأرض خليفة ، الجواب لا ، فالقدر المتيقن من الآية إرادة جنس الإنسان ، وخصوص الأنبياء خاصة وأن الملائكة احتجوا بحدوث الفساد والقتل في الأرض ، ولورود آيات تتعلق بخلافة الناس في الأرض . نعم يمكن تقدير الآية : إني جاعل في الأرض خليفة مؤيد بالقرآن إماماً وهادياً إلى صراط مستقيم.
ويدل لفظ (خليفة) على استدامة الصلة بين الله عز وجل والخليفة ، ولا تكون هذه الصلة إلا بالكيفية التي يريدها الله عز وجل.
وليس من حصر لوجوه هذه الصلة ، ومنها بعثة الأنبياء والرسل ، وقد بعث الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي .
ومن فضل الله عز وجل أن أبا البشر آدم كان نبياً رسولاً ، وهو الوحيد من الرسل الذي بعث الى نفسه وزوجته حواء قبل أن تكثر ذريته.
ومع كثرة الولادات يزداد عدد أتباعه والذين يقوم بتبليغهم أحكام النبوة .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أهبط الله آدم إلى الأرض مكث فيها ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال له بنوه : يا أبانا تكلم .
فقام خطيباً في أربعين ألفاً من ولده وولد ولده فقال : إن الله أمرني فقال : يا آدم أقلل كلامك ترجع إلى جواري) ( ).
وازدادت أعداد الناس ، وانتشروا في أقطار الأرض ، لتكون الآيات الكونية حاضرة في كل مكان تدعوهم إلى التفكر في الخلق ، وعبادة الله ، والإمتناع عن الكفر والجحود ، ويتوالى فضل الله في بعث الأنبياء والرسل وهم يدعون إلى الأخاء في جنب الله ، ونشر مفاهيم الود والسلام ، وبيان حتمية البحث فلئن انتشر الناس في الأرض فان الله عز وجل سينشرهم بعد الموت ، ويجمعهم في مواطن مخصوصة [فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ]( ) .
ولكن المسلمين يقرون بيوم البعث والحساب وهو من أسباب البركة واجتناب الظلم والتعدي على الغير .
وفي معركة أحد استشهد سبعون من الصحابة منهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أنس قال : كفن حمزة في نمرة كانوا إذا مدوها على رأسه خرجت رجلاه ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمدوها على رأسه ويجعلوا على رجليه من الإذخر وقال : لولا أن تجزع صفية لتركنا حمزة فلم ندفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع) ( ).
مما يدل على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتذكير بعالم الآخرة والنشور حتى عند المصيبة والمحنة , وفيه تأديب للمسلمين بلزوم ترك البطش والإنتقام .
وفي هذا الزمان صارت مسألة التعايش الإجتماعي حاجة في مختلف الأمصار , إذ تتألف المجتمعات من أجناس ومذاهب متعددة ومختلفة متآلفة أو متباعدة في المبدأ , وعالم الفعل , فلابد من التقارب ونبذ العنف بينها بما يساعد على إشاعة روح السلم والمودة , والإنتاج الوفير , وسلامة العيش لكل الناس , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).

حرر في الرابع من شهر رمضان 1443
6/4/2022

قانون الرزق الكريم
لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته وهو غني عنهم ، ورزقهم الطيبات لتقريبهم إلى الإيمان ، وسنن الطاعة ، وجعل رزقهم بيده وحده ، فلا يقدر على الهبات المتصلة والعلم بحاجات الناس وما ينفعهم في الدنيا والآخرة إلا هو سبحانه ، والله وحده الذي يعطي المؤمن والكافر ، ولا يمنع عن الكافر رزقه ، نعم نزل إنذار الكفار بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ]( ).
لقد ورد لفظ [كُلُوا وَاشْرَبُوا] ست مرات في القرآن في الآيات :
الأولى : قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
الثانية : في بني إسرائيل بمعجزة العصا التي رزقها الله موسى كما في قوله تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ).
الثالثة : آيات الصيام ، وقد ورد لفظ [الصِّيَامُ] معرفاً بألـ ثلاث مرات في القرآن ، وكل منها بخصوص فرض الصيام ، ووردت ست مرات من غير تعريف بألـ وكلها بخصوص الكفارات ، وهذا التباين من إعجاز القرآن.
الرابعة : قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ]( ).
السادسة : قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
وتبين الآية الأولى أعلاه وهي من سورة الأعراف فضل الله عز وجل على الناس جميعاً بالرزق الكريم ، ولزوم شكر الله عز وجل بأداء الفرائض العبادية ، والتحلي بالتقوى ومظهر الصلاح والزينة ، وما فيه من نشر للأمن والدعوة للسلم وسيادة العدل والإنصاف والإمتناع عن الأسراف والتبذير ، الذي يدل في مفهومه على سعة الرزق من الله عز وجل.
أما الآية الثانية أعلاه وهي من سورة البقرة فتبين قانوناً وهو عدم إنحصار الرزق الخاص والعام بقانون العلة والمعلول , والسبب والمسبب ، والمتوقع والحساب.
وفي الجمع بين الآيات أعلاه مسائل :
الأولى : فوز بني إسرائيل بمعجزة الأكل والشرب أيام موسى عند التيه في البيداء ، إذ شكوا لموسى الضمأ والعطش وضجوا بالبكاء لأنهم أشرفوا على الهلاك عطشاً فتوجهوا إلى الله بالدعاء والمسألة فاستجاب لهم الله عز وجل بما يزيد إيمان بني إسرائيل ، لبيان ووسيلة نجاة يأتي القرآن بذكرها بما يبعث الأمل في النفوس بالنجاة في أشد ساعات المحن والبلاء ، وبيان أن الإستجابة في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، مطلقة لأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل.
الثانية : فوز المسلمين بالنعم وأكل الطيبات كل أيام سنة ، ببركة الصيام وهو من شكر الله عز وجل للمسلمين على التقيد بفريضة الصيام.
فلما أراد المشركون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتفقوا على وقت السحر من ليلة مخصوصة نزل جبرئيل وأمره بالهجرة مع تعيين محل الهجرة وهو مدينة يثرب ، التي يوجد فيها أنصار له ، وسبقه رهج من المهاجرين إليها ، وهذا السبق وسلامة المهاجرين في دينهم وأنفسهم من اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعث الرغبة في نفسه للهجرة ، وقال تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وعن (ابن جرير عن الربيع بن أنس قال : ظلل عليهم الغمام في التيه قدر خمسة فراسخ أو ستة ، كلما أصبحوا ساروا غادين ، فإذا امسوا إذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه ، فكانوا كذلك أربعين سنة ، وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى ولا تبلى ثيابهم ، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً)( ).
الثالثة : انتفاع الناس جميعاً من النعم التي في الأرض ، وهو من رحمة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
قانون السنة النبوية زاجر عن الإرهاب
لقد نزل القرآن دستوراَ للحياة ومنهاجاَ لسيادة الأمن والعيش الكريم , وضياء ممتنعاً بذاته عن ظلمة وكدورة الإيذاء لتكون أيام الحياة الدنيا خالية من الظلم والقهر , ولا يمكن اتخاذ آيات من القرآن ذريعة للإضرار بالغير.
وهذا الإمتناع من عصمة القرآن عن التحريف والخطأ في التأويل واتباع المتشابه دون المحكم .
وهل يمكن القول بقانون كل آية من القرآن تدعو إلى الأمن ونبذ الإرهاب ، وهي مادة ووسيلة للسعادة الأبدية في الآخرة سواء في منطوقها أو مفهومها أو الجمع بينها وبين غيرها من الآيات ، الجواب نعم , وهو من معاني الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الذي يتلوه كل مسلم سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية.
وهل آيات القتال في القرآن تدعو للأمن أم أنها خارجة بالتخصيص من هذا القانون العام , الجواب هو الأول إذ أنها نزلت للدفاع ضد الإرهاب والغزو الذي يقوم به المشركون , ومنعهم من مواصلة التعدي والهجوم على المدينة ولم تختص قريش بهذا الغزو , بل شاركت فيه قبائل عديدة متحالفة معها , فنزلت آيات القتال دفاعاَ عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وحضهم على الصبر والدفاع ويمكن تسميتها آيات الدفاع بدل القتال , أي أن نزول ذات الآية دفاع , ولا يعلم بما في نزول هذه الآيات من القنوط واليأس الذي يصيب الكفار إلا الله عز وجل , قال سبحانه [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
لقد أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بملاقاتهم في سوح المعارك وقتالهم , وعدم الوقوف مكتوفي الأيدي ، لما في هذا الوقوف من الإبادة الجماعية ، وإستدامة مفاهيم الكفر والظلم العام والخاص ، فدفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مقدمات ومصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
والقتال في الآية أعلاه خاص بالكفار الذين يقاتلون المسلمين , وفيه زجر عن الإرهاب ودعوة للناس جميعاَ لإجتناب قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الخطاب والأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليدل في مفهومه على نهي الكفار وزجرهم عن الظلم والتعدي والإرهاب .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه التدرج في المراتب من وجوه :
الأول : الأمر الخاص بالقتال , بخصوص الذين يعتدون ويقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : النهي العام عن التعدي والظلم , وهو لا يختص بميدان القتال ويشمل الإرهاب , وهل تخويف الناس باحتمال القيام بعمل إرهابي من حولهم وفي بلدتهم من هذا التعدي , الجواب نعم .
الثالث : قانون بغض الله عز وجل للمعتدين وهو مستديم يشمل أيام الحياة الدنيا ابتداء من قابيل بن آدم الذي قتل أخاه هابيل , فهذا القتل من أشهر وأشد أنواع التعدي والإرهاب .
ليكون النهي عن الإرهاب واقية منه , والنسبة بين الإرهاب والقتل بغير حق عموم وخصوص مطلق , وكل فرد منهما من التعدي والظلم .
وجاءت السنة النبوية مرآة للكمال الإنساني , والعصمة من التعدي , وهي حرب على الإرهاب , ومع شدة إيذاء المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه فانه تحلى بالصبر وحسن السمعة واللطف والرفق مع الناس جميعاَ .
فمن طبائع الإنسان العصبية والغضب والإنفعال عندما تشتد عليه الأمور , الأعداء من حوله ، ولكن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من النفس الغضبية وأثرها , قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي , لذا فهي أصل يستدل منه القواعد والقوانين , ومنها زجر عن الإرهاب والظلم .
ويتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أول الناس امتثالاَ للأوامر والنواهي الواردة في القرآن .
وهو من مصاديق الأول في قوله تعالى [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] ( ).
ولأن السنة النبوية وحي من عند الله عز وجل فهي حجة للمسلمين , وحجة عليهم , وهي دعوة سماوية لأجيالهم رجالاَ ونساءَ , للعمل بها واتخاذها منهاجاَ ونبراساَ .
ومن معاني قوله تعالى [أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] بلحاظ الآية أعلاه من سورة البقرة : وأنا أول المسلمين في عدم التعدي .
وقد يأتي الفعل الإرهابي غيلة وغدراَ وخلسة , فجاءت السنة النبوية للنهي عن الغدر والخيانة والإضرار بالذي يستأمن صاحبه , ويطمئن إليه , وقد يحسن إليه ، وقال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ]( ).
قانون ثواب العبادات صرف عن الإرهاب
لقد صاحب الإخبار السماوي والوعد الكريم عن الثواب على الصالحات الإنسان من قبل أن يعمر آدم وحواء الأرض , قال تعالى [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ) ولم يرد لفظ (اهبطا) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وتفضل الله عز وجل وجعل النبوة ملازمة لوجود الإنسان في الأرض إذ كان آدم نبياَ رسولاَ ليجتهد في طاعة الله عز وجل , ويسعى للعودة إلى الجنة بالعمل الصالح هو وحواء للبث الدائم فيها من غير وسوسة إبليس , وهذه الغاية ورجاء الثواب حرز متجدد في ذرية آدم من الإرهاب والتفجيرات العشوائية وسفك الدماء إلى يوم القيامة .
لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل لإدراك وجوب عبادة الله والتصديق بالمعاد , ولزوم السعي إلى الجنة والإمتناع عن أسباب دخول النار , ومنه الأجر والثواب العظيم في الآخرة على الصيام بالأكل والشرب من ثمار ونعم الجنة وبيان أن الإمساك عن المفطرات أمر وجودي وعمل عبادي بدليل قوله تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، ويمكن انشاء وإحصاء خاص بكل من :
أولاً : الآيات المتشابهة في ألفاظها في القرآن ، ومنها بعض الحروف المقطعة مثل (الم) الوارد في أول سورة البقرة وآل عمران ، ومنها قوله تعالى [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، إذ وردت مرتين في سورة البقرة.
وهل هو من مصاديق اتباع الآيات المتشابهة في قوله تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( )، الجواب لا , لإنتفاء قيد وسبب الذم بإرادة الفتنة في هذا الإتباع.
نعم هناك اختلاف في مضامين الآيات متشابهة الألفاظ بلحاظ السياق ونظم الآية ، وموضوعها وصلتها مع الآيات المجاورة لها.
ثانياً : مجئ آية مستقلة بكلمات معدودة مع مجئ آية أخرى تتضمن هذه الكلمات ولكنها أعم في موضوعها ودلالاتها.
ثالثاً : مجئ ذات الكلمات في آيتين من القرآن ، ومنه مثلاً قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( )، الذي ورد في أربع آيات .
ومنه قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ويبعث أداء الفرائض العبادية النفرة في النفوس من العنف والإرهاب والبطش ، لقانون كل عبادة لواء سلام ، ودعوة سماوية للإنصراف إليها ، فمثلاً في الصيام مسائل :
الأول : تعيين أوان الإمتناع عن الأكل والشرب في شهر رمضان بطلوع الفجر الصادق سواء كان المسلم في المشرق أو المغرب ، ليأتي زمن النقل الجوي السريع فيتناول الصائم إفطاره عند الغروب ويركب الطائرة إلى بلد آخر فيصل إليهم عند العصر ، وليس عليه الإمساك فقد تم صيام ذلك اليوم إلا أنه يستحب له تأدباً ، وقد يحدث العكس بان يغادر بلدة ولم يبق عن الإفطار إلى نصف ساعة مثلاً فيصل إلى بلد آخر ويلزم الصبر أربع ساعات لحلول أوان المغرب بالإضافة إلى مدة السفر عندئد يجب أن يتقيد بالصيام.
وتعاهد المسلم الصيام في حله وترحاله , سواء كان في بلد إسلامي أو أوربي حجة ودعوة له للتنزه عن الإرهاب والعصمة عن الإضرار بالناس , فهذا التنزه من مصاديق الإمساك وحبس الجوارح عن الظلم في شهر رمضان وأشهر السنة كلها ، ودعوة للناس جميعاً لإكرام المسلم وإعانته في صيامه.
و(عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك ، فقال : هل تدرون مم أضحك ؟
قال : قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه ، يقول : يا رب ، ألم تجرني من الظلم ؟
قال : يقول عز وجل : بلى ، قال : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني ، قال : فيقول : كفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على فيه ويقال لأركانه( ) : انطقي ، قال : فتنطق بأعماله ،
ثم قال : يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أناضل)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحضً على اقتران الإمتناع عن إيذاء الغير بساعات الصيام في شهر رمضان , وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده ، ثم قال: قالت مريم: ” إني نذرت للرحمن صوما ” أي صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم،
وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا ولا تحسدوا. قال: وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله امرأة تساب جارية لها وهي صائمة ، فدعا بطعام وقال لها : كلي ! قالت: إني صائمة ، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك.
إن الصوم ليس من الطعام والشراب .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) ( ).
وإذا كان شتم الجارية محرماً فمن باب الأولوية حرمة الإرهاب والتفجيرات والإضرار بالممتلكات العامة والخاصة.
الثاني : التقيد التام بالإمتناع عن المفطرات في نهار شهر رمضان لبيان أن قوله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ]( )، على جهات :
الأولى : التمام الزماني لصيام النهار إلى حين الغروب.
الثانية : ترك كل المفطرات من الأكل والشرب والوطئ.
الثالثة : من معاني صيغة الجمع في الآية [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ] التعاون بين أفراد الأسرة الواحدة ، وبين المؤمنين وفي ميدان العمل في تنجز الصوم وتعاهده ، والتعاون في المقام من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
الثالث : تحريم الجماع لمن يعتكف في المسجد سواء في شهر رمضان أو غيره حتى يخرج من الإعتكاف.
وأختلف في قوله تعالى [وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ]( )، هل المراد إجتناب الجماع وحده ، أو مطلق التلذذ من النساء.
ونسب إلى الجمهور الثاني( )، والمختار هو إرادة إمتناع المعتكف عن الجماع لجهات :
الأولى : إرادة المعنى الإصطلاحي للفظ (تباشروهن).
الثانية : ورود لفظ (تباشروهن) في ذات الآية وحمل على الوطئ والجماع ، فلا يصار إلى معنى آخر مخالف له في ذات اللفظ في الآية إلا بدليل ، وهو مفقود في المقام.
الثالثة : أصالة البراءة والإعتكاف والتقيد بأحكامه إرشاد للمسلم بمنع الجوارح من الظلم والتعدي ، وإيجاد ذريعة وعذر لهذا التعدي ومن أسرار فرض الصيام على كل مكلف ومكلفة باستثناء المريض والمسافر واستفراقه لشهر كامل مخصوص هو شهر رمضان تأديب المسلمين للتنزه عن الظلم والإرهاب والحرام وأختتمت آية الصيام لقوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا]( ).
ومن فضل الله ان يلتقي الجزء 33 والجزء 235 من هذا السِفر المبارك في موضوع الصيام( ).
قانون فضل الله على قريش مقدمة للبعثة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة الذين حاربوه وقاتلوه من قبيلته قادة وأمراء في أيام نبوته وبعدها عندما هداهم الله عز وجل للإيمان.
وتجد عدداً منهم قاتلوا في صفوف المشركين في معركة بدر وأحد والخندق ليكونوا بعد فتح مكة قادة وأمراء لعدد من المهاجرين والأنصار البدريين والذين قاتلوا دفاعاً تحت لواء النبوة في معركة أحد أو حنين.
لقد كان فضل الله عز وجل على قريش عظيماً بالذات وبالمقارنة مع حال القبائل والمدن العربية الأخرى ، وهو من جهات عديدة منها :
الأولى : قريش من ذرية إبراهيم الخليل .
الثانية : جوار البيت الحرام .
الثالثة : فضل الله في قدسية البيت الحرام ، ودفع الطواغيت عنه بالمعجزة ، كما في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ] ( )، ومن إعجاز القرآن بيانه لفضل الله عز وجل على قريش في هلاك أبرهة وأصحابه بقوله تعالى [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
و(عن ابن عباس قال : أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم : ما جاء بك إلينا؟ ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت.
فقال : أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن فجئت أخيف أهله.
فقال : إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع ، فأبى أن يرجع إلا أن يدخله ، وانطلق يسير نحوه وتخلف عبد المطلب ، فقام على جبل فقال : لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله .
ثم قال : اللهم إن لكل إله حلالاً فامنع حلالك( )، لا يغلبن محالهم أبداً محالك( ). اللهم فإن فعلت فأمر ما بدا لك . فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طيراً أبابيل التي قال الله ترميهم بحجارة من سجيل فجعل الفيل يعج عجاً فجعلهم كعصف مأكول) ( ).
الرابعة : إنفراد قريش بالتجارة الدولية في الجزيرة العربية ، فليس من قبيلة غيرهم عندها قوافل تضم كل واحدة منها ألف بعير أو أكثر تجوب الصحراء ذهاباً وأياباً عدة مرات في السنة ، بمأمن من السلب والنهب .
الخامسة : قانون إستضافة قريش لوفد الحاج من أنحاء الجزيرة مرة في السنة بأشهر حرم , قانون عدم جواز القتال فيها والإعتداء والعنف ، ويستمر وجود الحجاج في مكة عشرين يوماً أو أكثر .
السادسة : قانون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أوسط قريش وساداتهم .
السابعة : قانون توالي المعجزات على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون فضل الله عز وجل المستديم والمتجدد على قريش حجة عليهم للتصديق بالمعجزات ، وتلقي النبوة من غير إرهاب ، ولكنهم جحدوا النبوة والرسالة وشهروا السيوف ، فلحقتهم الخسارة ، وتغشاهم الخزي ، وتبددت أموالهم وذخائرهم ، وفقدوا الصيت والسمعة ، لبيان أن الإرهاب ضرر محض ، وأنه يجلب على أصحابه الأذى والخسارة .
الثامنة : كثرة أموال قريش ، وقيامهم باقراض شيوخ ورجال القبائل حول مكة , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) .
التاسعة : تعدد الأحلاف والمواثيق بين مكة والقبائل.
ومن الأحلاف التي عقدتها قريش :
الأول : حلف الأحابيش , وعقد في أيام عبد مناف بن قصي الجد الثالث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , عقدته عدة قبائل من أهل مكة ومن حولها , ضد بني بكر بن عبد مناف من كنانة , واستمر هذا الحلف إلى ما بعد ظهور الإسلام .
الثاني : حلف المُطيبين : وهو حلف بين عدد من أفخاذ قبيلة قريش لمساعدة بني عبد مناف بن قصي في الحفاظ على ما أورثه لهم قصي بن كلاب ويقابل هذا الحلف في ذات الوقت دواخل مكة حلف اللعقة .
قال اليعقوبي : (ولما رأت قريش أن عبد المطلب قد حاز الفخر طلبت أن يحالف بعضها بعضاً ليعزوا ، وكان أول من طلب ذلك بنو عبد الدار لما رأت حال عبد المطلب، فمشت بنو عبد الدار إلى بني سهم، فقالوا: امنعونا من بني عبد مناف!
فلما رأى ذلك بنو عبد مناف اجتمعوا، خلا بني عبد شمس، فإن الزبيري قال: لم يكن ولد عبد شمس في حلف المطيبين، ولا ولد عبد مناف، وإنما كان فيهم هاشم، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وقال آخرون: كانت بنو عبد شمس معهم، فأخرجت لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب طيباً في جفنة، ثم وضعتها في الحجر، فتطيب بنو عبد مناف، وأسد، وزهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا حلف المطيبين، فلما سمعت بذلك بنو سهم ذبحوا بقرة، وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق منه، فهو منا!
فأدخلت أيديها بنو سهم، وبنو عبد الدار، وبنو جمح، وبنو عدي، وبنو مخزوم، فسموا اللعقة، وكان تحالف المطيبين ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضاً، وقالت اللعقة: قد أعتدنا لكل قبيلة قبيلة) ( ) .
الثالث : حلف الفضول : وعقد في دار عبد الله بن جدعان في مكة سنة 590م بعد شهر من انقضاء حرب الفجار بين كنانة ومنهم قريش , وبين قيس عيلان .
ومن بنوده : لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته , وشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحلف , وكان عمره عشرين سنة .
لبيان أن الأحلاف أيام الجاهلية قائمة على العصبية والجاهلية والولاء للنسب , فقضي عليها الإسلام بآيات من القرآن وجعل ألوية السلام والأمن تخفق زاهية على الناس , وتلامس ضعاف القلوب .
العاشرة : قانون حسن صلة أشراف قريش مع ملوك ووجهاء الدول العظمى آنذاك مثل بلاد الروم ، وفارس والحبشة .
ومن الواجب شكر الله عز وجل على النعم الظاهرة والجلية والباطنة ، ومن الشكر لله عز وجل في المقام التحلي بالعبادة والزهد.
لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في هذه المعركة التي اضطروا للدفاع فيها , وقد تقدم أنها كانت دفاعية محضة , وأن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم , لم يكن غازياَ في هذه المعركة أو غيرها من معارك الإسلام .
وقد توالت النعم على المسلمين بعد هذه المعركة التي أسست لثبات صرح بناء الإسلام بسنن التقوى .
وليفتح الله عز وجل باب الهجرة الواسع إلى المدينة , والبراءة من المشركين , والإستعداد للصبر على أذاهم , والتصدي له.
قانون الميثاق أمر وجودي يومي عام
الإسلام دين سماوي تتغش أحكامه مختلف أحوال الناس والمجتمعات ، والحياة الأسرية والميراث ، مما يؤدي إلى إصلاح النفوس ومنع الفرقة والخصومة والقتال .
فنزل القرآن بالميثاق والعهد ولزوم تعاهده ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
والمختار أن النسبة بين العهد والعقود عموم وخصوص مطلق ، فالعهود أعم ، وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ …] ( ).
و(عن أبي بكرة . أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام ، وما من عبد يقتل نفساً معاهدة إلا حرم الله عليه الجنة ورائحتها أن يجدها .
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن ماجه والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) ( ).
ويدل الحديثان أعلاه على حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية في بلدان وأقطار الأرض .
وأطراف الميثاق متعددة ، ومنها موضوعه ومقدماته وتعاهده بالقول والفعل ، وقد يكون الميثاق والعهد بين الله والعباد ، وهو أسمى مراتب الميثاق ، وفي التقيد به الخير والسلامة في النشأتين .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل الدستور والقوانين المتفرعة عنه ميثاق .
الثانية : هل المواطنة ميثاق والمختار أن الجواب نعم , فلابد من التقيد للقوانين الوضعية وإن كانت خلاف المعتقد الشخصي , كما ويلزم تعاهد المواطنة والصلات العامة التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد , وفيه وجوه :
الأول : التخفيف عن المسلمين .
الثاني : تعاهد المصلحة العامة .
الثالث : الإحتراز والإحتياط من التعدي والظلم للذات والغير.
الرابع : الأصل بالدساتير وضعها لما فيه النفع العام , واستقرار النظام وفق قواعد مخصوصة , ويكون الإرهاب ضداً لها , وضرر عاماً فيجب أن يتنزه عنه المسلمون والمسلمات , وقد ابتدأت دولة الإسلام في المدينة بالفرائض العبادية , والقوانين السماوية التي نظمت حياة الناس مع نزول القرآن بقبح الظلم , وشدة العقاب عليه في الآخرة .
والدستور أقرب ما يكون للبيعة وشروطها وإن لم يتوجه الخطاب فيه إلا كل شخص .
وعن الإمام علي عليه السلام : لما سمع قول الخوارج (لا حكم إلا لله ” قال: كلمة حق يراد بها باطل نعم إنه لا حكم إلا لله ولكن
هؤلاء يقولون لا إمرة وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الاجل ويجمع به الفئ ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر) ( ) .
وقال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) وهل الوصية في الآية أعلاه من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس ، أم لابد في الميثاق من ذكر لفظه أو لفظ العهد مثلاً ، الجواب هو الأول .
قانون آية الوضوء تنزه عن الإرهاب
من آيات الأحكام ما يتعلق بمقدمات الواجب فمثلاً في الصلاة لابد من الوضوء والغسل عند الجنابة ، والطهارة الترابية عند تعذر الماء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (قمتم) و(اغسلوا) (المرافق) (فامسحوا) (الكعبين) (اطهروا) (فتيمموا) إلا في آية البحث أعلاه ، وقليلة هي الآيات التي تنفرد بذكر سبع كلمات لم تأت في آية غيرها ، ومع أنه ورد في الآية (فاغسلوا) (فاطهروا) إلا اني ذكرت كل منهما هنا من غير الفاء ، لبيان أن الفعل بذاته غير موجود في القرآن إلا في هذه الآية.
وتكرر لفظ (امسحوا) و(جنباً) مرتين في هذه الآية ولم يرد أي منهما في آية أخرى من القرآن.
لقد أراد الله عز وجل للمسلم تعلم قانون الطهارة عند الإقدام على فعل لتأكيد قانون وهو لابد أن يكون ذات الفعل طاهراً خالياً من الشوائب والتعدي وإزهاق الأرواح.
ومن الأحكام الواردة في الآية :
الأول : نداء الإيمان ، وابتداء الآية بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه مسائل :
الأولى : الشكر من الله للمسلمين على الإيمان .
الثانية : دعوة كل مسلم ومسلمة لتعاهد الإيمان .
الثالثة : حض المسلمين على الأخاء ، وإشاعة السلم للملازمة بين الإيمان والسلم .
الرابعة : بعث المسلمين على التقيد بالأحكام الشرعية التي تتضمنها هذه الآية والآيات الأخرى .
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة قانون مقدمة الواجب واجب.
الثاني : وجوب أداء الصلاة ، فمن إعجاز الآية تقديم ذكرها على أحكام وأفراد الوضوء بقوله تعالى [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ]( )، وقد تضمنت آيات كثيرة وجوب الصلاة اليومية ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الثالث : عموم حكم الوضوء والطهارة مقدمة للصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا صلاة إلا بطهور( )، أي بطهارة لقدسية الصلاة وعظيم نفعها في الدنيا والآخرة .
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضأ فيحسن الوضوء ، ويصلي فيحسن الصلاة إلا غفر له ما بينها وبين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه)( ).
الرابع : وجوب غسل تمام الوجه عند الوضوء.
الخامس : غسل اليدين إلى المرافق .
ونزل لفظ (الوجوه) بالجمع ، وكذا الأيدي ، وتضمنت السنة بيان غسل الوجه ، مع غسل اليد اليمنى واليسرى ، وهو من إعجاز القرآن فلا يكفي غسل يد واحدة.
وقد جاءت السنة النبوية بياناً للقرآن بغسل اليدين معاً .
السادس : مسح جزء من الرأس بالماء.
السابع : مسح أو غسل الرجلين على قولين في الإسلام.
الثامن : وجوب غسل الجنابة قبل الدخول في الصلاة للذي أجنب.
ومثلما يكون الوضوء واجباً على الرجل والمرأة ، فكذا بالنسبة لغسل الجنابة لقانون الإشتراك في الأحكام إلا ما خرج بالدليل.
التاسع : التيمم بالتراب عند تعذر الماء سواء بدلاً عن الوضوء أو عن الغسل.
ويبعث الإجتهاد في مقدمات الصلاة الحرص في النفس على التقيد بأحكام الشريعة ، وآداب الإسلام ، وطهارة النفس وإعانة الناس.
قانون السلام من إعجاز النبوة
ورد اللفظ (فئتان) مرة واحدة في القرآن ، ومن إعجاز القرآن اتحاد مصداق اللفظ المتعدد تارة ، واختلافه تارة أخرى مع تجلي البيان والوضوح في كلا الحالتين ، وفي ذم الشيطان وإغوائه لكفار قريش ، قال تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحينما دنا القوم من بعضهم تجلت معاني المدد والنصرة بحدوث الوهن عند المشركين.
ونزلت الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحضر إبليس لإعانة المشركين وحضهم على القتال.
وكانت الملائكة تأتي الصحابة بهيئة وصورة الرجل (فيقول : ابشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم)( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا]( )، وكان إبليس مع المشركين بهيئة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج من بني كنانة .
فلما رأى الملائكة رجع القهقرى وانهزم وتبرأ من فعل الكفار فالتفت أبو جهل لحال الخذلان التي صار عليها جيش المشركين والذي لم يتعظ ولم يكن مطلوباً منه الصلح والرضا بشروط ونحوه ، إنما يكفيه الإمتناع عن القتال لأن النبي محمداً لا يريد القتال ، ولا يبدأ به ولكنه العناد ركب أبا جهل ، وهو ملازم للكف والجحود فصار (يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوا وخذوهم أخذاً)( ).
وهو المروي عن الصحابي البدري أبي أسيد مالك بن ربيعة.
وفيه فرصة وحجة وعلامة جعلها الله عز وجل للناس لإجتناب الحرام قبل إرتكابه وعندما يقارب فعله وهو من فضل الله عز وجل على الناس مطلقاً ، أي يُري الله عز وجل الإنسان أو الجماعة برهاناً عند مقاربة المعصية للإنصراف عنها.
وتجلى هذا القانون من اللطف الإلهي بخصوص يوسف عليه السلام وامرأة العزيز بقوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
فان قلت إنما كان يوسف عليه السلام نبياً ، وهذا صحيح إلا أن قانون البرهان على مشارف المعصية رحمة عامة من عند الله عز وجل خاصة وأن مسألة يوسف عليه السلام فيها طرف آخر وهي امرأة العزيز.
فأراها الله عز وجل البرهان أيضاً لتكف وتتوب وأيهما أكثر من جهة البراهين الزاجرة لمنع القتال أم منع الزنا أو السرقة ونحوها.
الجواب هو الأول ، فأكثرها لمنع القتال وهو من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في فضل الله عز وجل في منع الفساد ، والقتل الذي احتج به الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، والله يعطي بالأتم والأوفى ، فهو سبحانه يأتي بمصداق واحد لمنع الفساد وسفك الدماء وعلى نحو مستديم.
وتجلى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونشر ألوية السلم والأمن والصلاح في الأرض بها.
لقد كانت قريش عندما عزموا على الخروج إلى معركة بدر يخشون بني كنانة وإغارتهم على مكة عند خلوها من الرجال المقاتلين لعداوة وثأر كان بينهم.
فجاءهم الشيطان بهيئة سراقة لأنهم أصروا على الكفر ففتحوا نافذة بينهم وبينه ليخدعهم ويستدرجهم.
وهل يمكن أن يحدث مثل هذا بأن يأتي الشيطان بهيئة انسان في هذا الزمان ، الجواب نعم ، ولكنه فرد نادر وقليل إذ كانت واقعة بدر أمراً خاصاً لم يقع مثله في تأريخ البشرية بأن يقف خاتم النبيين مع فئة من أصحابه أمام ثلاثة أضعافهم من المشركين ، قال تعالى [كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( )، وقال تعالى [يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضوعاً ومناسبة وسبباً لتعدد وكثرة المنافع في كل يوم من أيام الحياة الدنيا ، وإلى يوم القيامة ، أما منافعها في الآخرة فهي أضعاف مضاعفة لمنافعها في الدنيا.
لقد كانت معركة بدر لمعاناً للسيوف ، وسفكاً للدماء إذ قتل من الصحابة أربعة عشر ذهبوا شهداء ، ولكنها صارت سبباً للحيلولة دون آلاف المعارك ، وملايين القتلى على مرّ الزمان ، وهي برزخ دون استئصال العرب وذراريهم ، لبيان أن من بركة لغة القرآن حفظ العرب كأمة ، ونشر الأمن في ربوع الجزيرة وانتشارهم في البلدان بصفة الأمراء والقضاة والوجهاء.
وهو من مصاديق ثناء الله عز وجل على نفسه بقوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، لبيان أن من معاني التعقل في المقام الهداية إلى الإيمان ، واتخاذ السلم منهاجاً والإتصاف بالأخلاق الحميدة ، ونبذ الحروب وترك الوأد والزنا والفحشاء والمعاملات الباطلة ذات صبغة الظلم .
لقد رمى الله عز وجل أبرهة وجيشه بالهلاك عندما زحفوا لهدم الكعبة ونزلت فيهم سورة الفيل ليعلم أهل المشرق والمغرب في كل زمان حرمة البيت ، قال تعالى [وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ).
لبيان المقدمات وأسباب الوقاية المتقدمة زماناً لحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبليغ الرسالة كاملة.
خاصة وأن أبرهة وأصحابه قدموا مكة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بطن أمه.
وقال الإمام الباقر عليه السلام (كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده بخمس وخمسين لي)( ).
والمشهور شهرة عظيمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولد عام الفيل ، ولو احتل الكفار مكة لعاثوا فيها فساداً ، ولعل بعضهم يبقر بطون الحوامل.
فتجلت بركات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس وهو حمل في بطن أمه.
وإذا كانت هزيمة أبرهة [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]( )، وتألفهم واستدامة وازدهار تجارتهم في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام خاصة وأن القبائل صارت تهابهم فلا يتعرضون لقوافلهم.
فان بعثة النبي محمد سلام دائم للناس جميعاً ، ونفع متجدد في كل يوم ، ومنه أداء كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم جماعة وفراداً وما يترشح عنها من بناء في العقيدة ، وصرح السلام والأمن والتعايش المجتمعي ، وهي رسالة يومية متجددة للبراءة من الإرهاب وإغواء النفس الغضبية والشهوية وهو من عمومات قوله [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وإذا أراد الله عز وجل أن ينعم على الإنسان أو الأمة فانه سبحانه ليهيئ الأسباب والمقدمات لتلقي النعمة والإنتفاع الأمثل منها ، ومنه تفضله باختيار الأنبياء ولطفه سبحانه بالنبي من قبل أن يولد في إختيار الأب والأم وطهارة المولد ، والذب عنه في صغره وشبابه ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ]( ).
لتكون نبوته سلاماً وأمناً ، فيجتهد في بيان أحكام الشريعة بصيغ الحكمة واللطف ، لتأديب أتباعه باتباع ذات النهج في الدعوة إلى الله عز وجل بعيداً عن العنف ، وليرضوا بتوفيقهم إلى الهداية ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
التفسير بالمأثور شاهد على عدم نسخ آيات السلم
أصل التفسير بالمأثور هو بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما أجمل من المعاني والمقاصد السامية في القرآن ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ]( ).
لقد فتح النبي محمد باب تفسير القرآن بالقرآن للعلماء إلى يوم القيامة وجعل أهل البيت والصحابة يستدلون بالآية القرآنية على مضامين ومعاني آية أخرى ، وفيه شاهد على قلة النسخ في القرآن وأن آيات السلم محكمة غير منسوخة ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل استدل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية من آيات السلم منطوقاً ومفهوماً خاصة في السنوات الأخيرة من البعثة النبوية.
الثانية : هل تدل السنة النبوية على عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات السلم بما يدل على عدم نسخها بلحاظ أن السنة القولية والفعلية حجة في المقام.
الجواب نعم ، وحينما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وكان معه ألف وأربعمائة من الصحابة حالت خيل قريش دون دخولهم الحرم والتوجه إلى مكة .
فلم يغضب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل اتخذ السلم والحكمة منهاجاً مما يبعث السكينة في نفوس أصحابه ، ويمنع من الإصرار على دخول مكة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم بدخولها.
فقال بمحضر من أصحابه (لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ إلَى خُطّةٍ يُعَظّمُونَ فِيهَا الْحَرَمَ إلّا أَجَبْتهمْ إلَيْهَا)( ).
وهذا القول ابتداء بالسلم والموادعة ، وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى وصول هذه الكلمة إلى قريش فيتمادون في شروطهم ، الجواب لا ، لأولوية السلم وحسنه الذاتي ولإقامة الحجة على الذين كفروا.
وفي هذا الحديث وكيفية جريان مفاوضات صلح الحديبية ، ورضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشروط قريش شاهد على موضوعية آيات السلم في اتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنهاج العمل .
وهو من الشواهد على الوحي اليومي المتجدد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحضور آيات السلم وبقاء أحكامها ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، لبيان وجوه :
الأول : إقتباس المفسرين وعامة العلماء من تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ، إذ يحتاجه الفقيه والأصولي والكلامي ، واللغوي وغيرهم من أرباب العلوم.
الثاني : تنمية ملكة حب السلم والسعي إلى الأمن العام عند المسلمين.
الثالث : تأسيس قانون التفسير بالمأثور ، وهو لا يختص بتفسير النبي لآيات القرآن إنما يشمل مطلق السنة النبوية القولية والفعلية لما فيها من بيان وتفسير للقرآن وهي مرآة له.
ويلحق بالتفسير بالمأثور النبوي قول الأئمة عليهم السلام والصحابة ، وهناك نوع تداخل بين :
الأول : منهج التفسير ، وهو الطريقة والمفتاح والكيفية التي يعتمدها المفسر ، والوسيلة التي يتخذها للبيان وكشف المستور ، كاتخاذ النقل أو اللغة أو العقل منهاجاً ، أو بالجمع بينها وبين علوم أخرى.
الثاني : إتجاه التفسير : وما يعطيه المفسر الأولوية والعناية في التفسير ، والغايات العلمية منه مثل البيان اللغوي والإعرابي أو البلاغي أو الفقه أو السنة النبوية أو التأريخ ونحوه للآية القرآنية خاصة على القول بأن إعجاز القرآن في بلاغته.
ومع القول بأن وجوه إعجاز القرآن أكثر من أن تحصى فان بلاغته تبقى شاهداً على إعجازه ، وتملي على المفسر إخراج الدرر البيانية والبلاغية في آيات القرآن , ومنه بلاغة آيات السلم ، وحضورها في الأذهان وعند الشدائد للإنصراف عن القتال .
ونضيف له في المقام قانون استقراء الإعجاز البلاغي من الجمع بين كل من :
الأولى : قانون البلاغة بالجمع بين كل آيتين من آيات القرآن.
الثانية : قانون البلاغة في العطف بين آيات القرآن.
الثالثة : قانون أسرار البلاغة في الجمع بين آيات الموضوع المتعدد ، وهو فرع التفسير الموضوعي للقرآن.
الرابعة : قانون وجوه البلاغة في الجمع بين كل ثلاث آيات من القرآن.
ومن الإتجاه التفسيري العناية بآيات الأحكام والبلاغة ، وفلسفة التأريخ في القرآن ، واستنباط القوانين من قصص القرآن ، ومنها :
الأولى : قصص الأنبياء ، وهي أكثر قصص القرآن ، للزوم الإتعاض منها وفيها دعوة للصبر والسلم ونبذ العنف ، وفيها شاهد على سلامة آيات السلم من النسخ والتبديل تعطيل أحكامها خاصة وأن آيات القصص والمثل في القرآن لا يطرأ عليها النسخ.
الثانية : قصص الأولياء والصالحين ، ومنه قصة مريم عليها السلام ، وأهل الكهف ، ولقمان وفي التنزيل [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( ).
الثالثة : تلقي الكفار رسالة الأنبياء السابقين بالتكذيب ، ومنه قوله تعالى [مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ]( ).
وأيهم أكثر ظلماَ وتعدياَ وإرهاباَ قوم نوح أم كفار قريش , الجواب هو الثاني , إذ جهزت قريش الجيوش الكبيرة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسقط عشرات القتلى من الطرفين مع أنه لم يأتهم إلا بقول لا إله إلا الله , وآيات التوحيد وأحكام الشريعة السمحاء .
ومن الإعجاز أن كثيراَ من الآيات تخاطب شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومنها قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ( ).
الرابعة : قصص الطغاة والعصاة ، ومنه قصة فرعون ، ونمرود وقارون ، ولم يذكر اسم نمرود في القرآن بينما ورد ذكر قارون أربع مرات في القرآن منها مرتان بالجمع بينه وبين فرعون ووزيره هامان.
ومن الإعجاز تقدم اسم قارون على اسم فرعون في قوله تعالى [وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ]( ).
مع أن قارون صاحب مال كثير ، وفرعون ملك عامة مصر الطاغي ، وهذا التقديم لبيان شدة ضرر الفتنة من قارون وأمواله خاصة.
وفي قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ]( )، قال ابن عباس (كان عدوّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو جهل ، وعدوّ موسى قارون ، وكان قارون ابن عم موسى)( ).
مما يدل على منزلة ورفعة قارون عند بني اسرائيل ، ومع كثرة أمواله قد تنصت طائفة منهم له.
و(عن ابن عباس قال : قال موسى عليه السلام : يا رب أمهلت فرعون أربعمائة سنة وهو يقول : أنا ربكم الأعلى ، ويكذب بآلائك ، ويجحد رسلك .
فأوحى الله إليه : أنه كان حسن الخلق ، سهل الحجاب ، فأحببت أن أكافئه)( ).
وليس في الأرض في هذه الأزمنة من هو أشد من فرعون في كفره وطغيانه ولم يبطش به موسى ، وصبر على أذاه ، ورضي بامهال الله عز وجل له ، فمن الدروس والمواعظ في مدرسة النبوة لزوم التنزه عن الإرهاب والعنف والإضرار بالناس على اختلاف مشاربهم.
الخامسة : القصص الخاصة بأيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الإعجاز في نزول القرآن نجوماً وبلحاظ أسباب النزول.
لقد كان تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن وسنته القولية والفعلية تأكيداً لإستدامة حكم آيات السلم ، ودعوة للأمن العام , ونبذاً الحروب والإقتتال .
إذ أن عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية الكريمة أو استشهاده بها دليل على سلامتها من النسخ .
قانون عصمة آيات السلم
من إعجاز القرآن عصمته بشواهد متعددة من التأويل البعيد عن المقاصد السامية للآية القرآنية.
ومن هذه العصمة كثرة آيات السلم والتي تدعو إليه ، وتحض على تعاهده ، وتدخل فيها كل من :
الأولى : آيات الصلح ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، و(قيل للصلح سلم وقال زهير :
وقد ملتما إن ندرك السلم واسعاً..بمال ومعروف من الأمر نسلم( ).
الثانية : آيات الموادعة .
الثالثة : آيات الصبر.
الرابعة : آيات إفشاء وإشاعة السلم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
الخامسة : آيات الرحمة والرأفة والمودة بين الناس سواء على نحو الإطلاق أو الخصوص ، منها قوله تعالى [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
السادسة : آيات التوحيد وأداء الفرائض العبادية ، والتقيد بسننها والفرد الجامع للفرائض كالصلاة والصيام بين المسلمين وأهل الكتاب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) وطهارة مكان المصلي ، وخلوه من النجاسات.
السابعة : آيات محاربة الإرهاب واستئصاله من الأرض في دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجه غزو كفار قريش للمدينة.
الثامنة : آيات العفو والتسامح والأجر العظيم في الآخرة على العفو بين الناس في الدنيا ، قال تعالى [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن الإعجاز في المقام توجه الخطاب العام من الله عز وجل الى المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وقال الثعلبي (أي في الإسلام قاله قتادة والضحاك والسدي وابن زيد، يدلّ عليه قول الكندي :
دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا.
أي دعوتهم إلى الإسلام لما إرتدوا، قال ذلك حين إرتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
ولكنه قياس مع الفارق فالكندي يدعو المرتدين الى العودة للإسلام وما فيه من الأمن والسلم لهم لغيرهم ، أما آية البحث فانها تخاطب المسلمين ، وتؤكد على العموم بسور الموجبة الكلية (كافة).
وكأن ارادة الإسلام في الآية من تحصيل ما هو حاصل لأن الآية تبدأ بالخطاب لعموم المسلمين والمسلمات ، ومن مضامين الآية الدخول في طاعة الله باختيار السلم وإفاضة مفاهيم الأمن على الناس .
وقد وردت آيات عديدة في القرآن تتضمن لفظ (السلم) وتدل على أن المراد منه الأمن والتعايش ونبذ الحروب والإقتتال ، مثل [فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( ).
كما جاءت آيات تتضمن الإخبار عن إرادة دين الإسلام كما في قوله تعالى [وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، [أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ]( ).
وتتجلى عصمة آيات السلم من جهات :
الأولى : كثرة آيات السلم.
الثانية : آيات السلم من المحكمات .
الثالثة : وضوح معاني السلم في القرآن بما يفيد القطع في دلالتها بنبذ الحروب والإقتتال والإرهاب.
وهل من السلم الإمتناع عن إخافة الناس والمجتمعات ، الجواب نعم .
الرابعة : تعضيد صبغة السلم العامة للنبوة ، لقانون ليس من نبي إلا ويدعو إلى السلم.
الخامسة : قانون الملازمة بين التنزيل والسلم.
ومن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إشاعة السلم في الأرض وتثبيت الأنبياء لقواعده وقوانينه .
ومن خصائص الإنسان النفرة العامة من الذين يبغون الحروب , ويكثرون من سوق الجنود للقتال , ومن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يبدأ قتالاً .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن توكله على الله عدم عسكرة المدينة ولا إعلان النفير عندما يسمع بنية وعزم المشركين على الهجوم والقتال .
نعم كان يتابع أخبارهم فحالما وصل رجال قريش المنهزمين من معركة بدر إلى مكة حتى صاروا يستعدون لمعرمة الثأر ، ومنعوا النياحة على قتلاهم في تلك المعركة ، وصاروا يرسلون رسائل التهديد والوعيد إلى المهاجرين والأنصار بأنهم قادمون إلى مدينة يثرب لأسر المهاجرين وإدخالهم مكة موثقين بالحبال وقتل رجال الأوس والخزرج ، وكان رد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإجتهاد في الصلاة وبيان الأحكام ، وتلاوة آيات القرآن المكية والمدنية والتي تنزل في الحال .
وكان للنبي عدد من عيون في مكة ، وفي الجادة العامة فاخبروه بخروج قريش وحلفائهم لمعركة أحد ، ولم يعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفير في المدينة إلى أن صاروا على مشارفها ، وهو من إعجاز النبوة ورجاء نزول الملائكة لنصرته ، وهو من الصبر في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ولا يتعارض مع قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )إنما تبين سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ماهية وكيفية هذا الإعداد بما يزجر الكفار عن تكرار الهجوم على المدينة ، وليكون مقدمة لصلح الحديبية والذي سماه الله فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) لبيان أن العنف والإرهاب لا يؤدي إلى خير وظفر ، إنما النصر والفتح بالصلح والموادعة لأنها مناسبة للأمن العام وأداء الفرائض العبادية ، وبيان البرهان على التوحيد.
قانون البسملة برزخ يومي دون الإرهاب
من إعجاز القرآن ابتداؤه وابتداء كل سورة منه بـ[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( )والبمسلة كنز نزل من السماء وهبة تفضل الله عز وجل بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات، وهي ذخر وخزينة إلى يوم القيامة للذات والفرد والجماعة والأمة ، ومانع من الظلم والتعدي ، ولابد من التدبر والتفكر في منافع البسملة من جهات :
الأولى : رسم البمسلة .
الثانية : تلاوة البسملة .
الثالثة : معنى البسملة .
الرابعة : دلالة البسملة .
وانشغل كثير من العلماء في جزئية البسملة من القرآن أو خصوص سورة الفاتحة :
الأول : البسملة آية من سورة الفاتحة دون غيرها من السور ، ونسب هذا القول إلى سعيد بن جبير ، وهو من التابعين مما يدل على أنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أهل البيت ولا الصحابة ،كما نسب إلى بعض القراء والفقهاء من أهل مكة .
وأستدل عليه بما ورد عن أم سلمة في قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسورة الفاتحة .
(عن أم سلمة: أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية، { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي) ( ).
ولكن اثبات شي لشي لا يدل على نفيه عن غيره ، إذ يبين الحديث أعلاه أن البسملة جزء من سورة الفاتحة ، وهو لا يمنع من جزئيتها من السور الأخرى .
بل هو أمارة على الجزئية من كل سورة وهو المتبادر لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، بوجود البسملة في أول كل سورة من القرآن إلا مع ورود دليل ينفي هذا العموم ، ويخص جزئية البسملة بسورة الفاتحة .
وعن (قتادة قال: سئل أنس بن مالك: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
فقال: كانت مدًا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم) ( ).
وظاهر الحديث التسالم بأن البسملة جزء من القرآن ، وعدم إنحصار هذه الجزئية بسورة الفاتحة .
وقيل يدل هذا الحديث على أنها آية تُقرأ من غير تعيين بأنها من آية من سورة الفاتحة ، ويرد عليه من جهات :
الأولى : إنه من التشديد .
الثانية : إنه خلاف قواعد الأصول كأصالة الإطلاق .
الثالثة : من علامات الحقيقة التبادر ، إذ يتبادر من الحديث أن آية البسملة من القرآن ، وأول كل سورة منه لأن النسبة بين الرسم والتلاوة هي التساوي ، إلا ما ندر كالحروف المقطعة فمثلاً [الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] ( ) فان [الم] تقرأ باسماء هذه الحروف فيقال ألف ، لام ، ميم .
الثاني : البسملة آية من كل سورة عدا سورة التوبة ، وورد هذا القول عن الإمام علي عليه السلام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وإليه ذهب قراء وفقهاء مكة والكوفة ، وبه قال الشافعي وأصحابه ، فهم يجهرون بها .
وقيل للإمام علي عليه السلام : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن (بسم الله الرحمن الرحيم) أهي من فاتحة الكتاب.
قال: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرؤها ويعدها آية منها، ويقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني،
فضلت ببسم الله الرحمن الرحيم، وهي الآية السابعة منها) ( ).
وعن عبد الله بن عباس (من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى) ( ) وما بين دفتي الكتاب قرآن .
الثالث : البسملة ليست آية من القرآن إلا في سورة النمل فهي جزء آية منها ، إنما وردت في أوائل السور للفصل بين الآيات والإبتداء بها ، والتيمن بها ، ونسب هذا القول إلى عدد من قراء المدينة والبصرة والشام وهو مذهب أبي حنيفة ، ومن تابعه فلا يقرأونها في الصلاة .
والمختار هو الثاني وأنها آية من كل سورة عدا سورة التوبة والإجماع على عدم جواز تكفير الذي انكرها أو الذي اثبتها لأنها مسألة خلافية .
ويجب أن لا يحول هذا المبحث والإختلاف عن التدبر في منافع البسملة العقائدية والعبادية والأخلاقية ، والتي لا يحيط بها وبكثرتها إلا الله عز وجل ، وهو الذي أنزل القرآن ، وجعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقرأها في أول كل سورة ، ولو دار الأمر بلحاظ وجود البسملة في نظم القرآن وبين الدفتين في أول كل سورة عدا سورة التوبة (براءة ) هل هي آية من السورة أو لا ، فالصحيح هو الأول .
وهي من أكثر الآيات التي ينطق بها المسلمون والمسلمات بلحاظ تكرارها في الصلاة اليومية في البسملة ، وفي السورة التي تقرأ بعدها مع أن شطراً من المسلمين لا يقرأونها في هذه السورة ومنهم من لا يقرأها الفاتحة ولا في السورة .
ووردت البسملة على لسان الأنبياء السابقين كما في سليمان عليه السلام ، وكتابه إلى بلقيس ملكة اليمن .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (لا تدع البسملة، ولو كتبت شعراً. وكانوا قبل الإسلام يصدرون كتبهم باسمك اللّهمّ فلمّا نزل قوله تعالى: (إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم) ( ) صدّروا بها.
وكان هذا في عنوان الكتاب الّذي أنفذه سليمان إلى بلقيس وإنّما كتب سليمان البسملة على ظهر الكتاب، لأنّها من عتوّها وتجبّرها كانت تبزق على ما يرد عليها من كتب الملوك قبل قراءته. فلمّا رأت البسملة على كتاب سليمان لم تبزق عليه وقالت لجلسائها: (إنّي اُلقي إليّ كتاب كريم) أي مختوم فإنّ إكرام الكتاب ختمه. ويدلّ أيضاً على تعظيم المكتوب إليه) ( ).
لبيان جواز كتابة البسملة على غلاف وظهر الكتاب والورقة الواحدة ، ولا حرج في لمسه من غير وضوء من باب الأولوية في الخبر أعلاه ، لأن النبي سليمان أرسل كتاباً إلى ملكة غير مسلمة .
وكان للبسملة موضوعية في إكرامها للكتاب ثم إسلامها ، وزواجها من سليمان النبي عليه السلام ، لبيان أن البمسلة خير محض وزينة في رسمها وفي النظر إليها ، وفي تلاوتها وكتابتها وبرزخ دون الفتنة والظلم والإرهاب .
وستبقى كتابة البسملة والنطق بها بالإبتداء بالعمل ، وعند الذبيحة والصيد ، واستحضارها في الوجود الذهني باعثاً للسكينة والإمتناع عن إيذاء الناس .
وعن أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام (قال: لما ولد عيسى بن مريم – على نبينا وآله و عليه السلام ، كان ابن يوم كأنه ابن شهرين، فلما كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به إلى، الكتاب، وأقعدته بين يدي المؤدب فقال له المؤدب: قل: بسم الله الرحمن الرحيم فقال
عيسى – على نبينا وآله وعليه السلام -: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال له المؤدب: قل: أبجد فرفع عيسى – على نبينا وآله وعليه السلام – رأسه فقال: وهل تدري ما أبجد ؟
فعلاه بالدرة ليضربه، فقال: يا مؤدب لا تضربني إن كنت تدري، وإلا فاسألني حتى افسر ذلك، فقال: فسر لى، فقال عيسى – على نبينا وآله وعليه السلام -: أما الألف: آلاء الله، والباء: بهجة الله، والجيم: جمال الله، والدال: دين الله. هوز: الهاء هي هول جهنم، والواو: ويل لأهل النار، والزاى: زفير جهنم. حطي: حطت الخطايا عن المستغفرين. كلمن: كلام الله لا مبدل لكلماته. سعفص: صاع بصاع، والجزاء بالجزاء، قرشت: قرشهم فحشرهم. فقال المؤدب: أيتها المرأة خذي بيد ابنك فقد علم، ولا حاجة في المؤدب) ( ).
قانون فيض البسملة
ومن خصائص تلاوة البسملة والتدبر في معانيها وجوه :
الأول : بعث السكينة في النفوس ، والسكينة زاجر عن الإرهاب والظلم والتعدي .
الثاني : وحدة المسلمين وإدراكهم بأن البسملة عنوان الإجماع بينهم لقيام كل واحد منهم بتلاوتها ، وقد تفضل الله عز وجل وجعلها شطر آية من سورة النمل لبيان تسليم وإقرار المسلمين والمسلمات جميعاً بأنها جزء من القرآن ، وبيان أنها لغة الأنبياء ، ولم تكن مبتدعة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله -وسلم ، قال تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ).
الثالث : بعث الرأفة والألفة بين المسلمين ، وبينهم وبين الناس جميعاً ، فالبسملة عنوان الوحدة بين المسلمين وأهل الكتاب وعموم الناس من جهة التسليم بالعبودية لله عز وجل .
الرابع : البسملة دعوة إلى الإيمان لما فيها من الإقرار بالحاجة إلى الله عز وجل في أمور الدين والدنيا ، ويستحب الإتيان بالبسملة عند ابتداء كل عمل أو خطبة ، وفيه زجر عن الإرهاب وفعل القبيح .
الخامس : في البسملة بركة وعز ومحو للآفات والمهالك ، وهذه النعم لا تنال بالإرهاب .
السادس : تلاوة البسملة بعث للطمأنينة في نفس السامع وغيره ، فلا يصح الإتيان بفعل إرهابي لتنافيه مع الطمأنينة .
السابع : ليس من حصر لمتعلق البسملة ، وتقدير المناسب بعدها كعلة ومقدمة له ، أو في وسطها أو قبلها وفق التفسير بالتقدير ومنه مثلاً :
الأول : بسم الله الرحمن الرحيم إلها واحداً واحداً فرداً صمداً .
الثاني : بسم الله الرحمن الرحيم الذي له ملك السموات والأرض .
الثالث : بسم الله الرحمن الرحيم الذي بيده كل شئ ، وفي التنزيل [إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] ( ).
(عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ) ( ) ، وبالبسملة تكون البركة وامتناع الخلاف .

النسبة بين الفرائض العبادية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار وبعث الأنبياء والرسل [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وأنزل الكتب السماوية وهي تتضمن الأحكام الشرعية من الأوامر والنواهي.
فتتصف الصلاة بأمور :
الأول : أداء كل مسلم ومسلمة الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثاني : أداء الصلاة واجب يومي .
الثالث : لاينيب شخص عن آخر في الصلاة ، فهي واجب عيني على كل مكلف ، إلا بخصوص القضاء عن الميت على المختار.
الرابع : تؤدى الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة.
الخامس : للصلاة أركان وواجبات لابد من التقيد بها ، كتكبيرة الأحرام والركوع والسجود ، وتلاوة القرآن ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( ).
وتنفرد الصلاة من بين الفرائض العبادية بوجوب تلاوة القرآن في كل ركعة ، وهو من أسباب حفظ القرآن من التحريف والزيادة أو النقيصة.
السادس : الصلاة واجب مطلق أنها تؤدى على كل حال ، وقد وردت آيات تخص أوقات الصلاة مع تأكيد وجوبها كما في قوله تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ) .
ومن الآيات ما يبين مقدمة الصلاة كما في آية الوضوء ومنها ما تذكر بعض واجبات الصلاة ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ومن خصائص الصلاة تقويم السلوك ، وإصلاح السيرة الخاصة والعامة ، لذا شرعت صلاة الجماعة ، ودلالتها في التعاون في الصالحات جلية .
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : لما هبط آدم من الجنة، ظهرت فيه شامة سوداء في وجهه من قرنه إلى قدمه فطال حزنه وبكاؤه على ما ظهر به، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: ما يبكيك يا آدم.
قال: لهذه الشامة التي ظهرت بي، قال: قم فصل فهذا وقت الصلاة الاولى. فقام فصلى فانحطت الشامة إلى عنقه فجاءه في وقت الصلاة الثانية.
فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الثانية، فقام فصلى فانحطت الشامة إلى سرته فجاءه في الصلاة الثالثة فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الثالثة فقام فصلى فانحطت الشامة إلى ركبتيه، فجاءه في الصلاة الرابعة.
فقال: يا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الرابعة، فقام فصلى فانحطت الشامة إلى رجليه فجاءه في الصلاة الخامسة.
فقال يا آدم قم فصل فهذا وقت الصلاة الخامسة، فقام فصلى فخرج منها فحمد الله وأثنى عليه.
فقال جبرئيل : يا آدم مثل ولدك في هذه الصلاة كمثلك في هذه الشامة، من صلى من ولدك في كل يوم وليلة خمس صلوات خرج من ذنوبه كما خرجت من هذه الشامة( ).
وأول من امتثل لأحكام الصيام التي وردت في القرآن هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه منع للغلو بشخصه الكريم ، لأن الصيام مظهر العبودية لله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الصلاة واجب مطلق لأنها تؤدى على كل حال حتى في حال المرض ، ولكن بالكيفية الخالية من الأذى والحرج ، كالصلاة جلوساً أو استلقاء ، لبيان قانون الصلاة لا تترك بحال لأنها من التقوى ووسيلة عبادية للتقرب إلى الله ، ورجاء رحمته ، وهي أمان للناس ، فالذي يقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم يطمئن له الناس على إختلاف مشاربهم .
قانون استدامة عصمة القرآن من التحريف
اجماع المسلمين على عدم حصول التحريف في القرآن من وجوه :
الأول : نزول آيات تدل على عصمة القرآن من التحريف ، منها قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) وقوله تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
الثاني : من إعجاز القرآن التحدي بسلامته من التحريف .
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية حال نزولها .
الرابع : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكتاب والوحي بكتابة الآية أو الآيات حال نزولها هذا في المدينة وتعدد الكتب يومئذ.
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر كتاب الوحي في مكة قبل الهجرة بكتابة الآيات والسور المكية.
المختار نعم خاصة وأن الإمام علي عليه السلام من كتّاب الوحي ، وهو أول من أسلم.
ومن اللطف الإلهي قصر السور المكية ، وسرعة حفظها ، ولا تزاحم بين كتابة التنزيل وحفظ المسلمين له .
الخامس : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات وسور القرآن خمس مرات في الصلاة اليومية إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
لبيان قانون تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة القرآن في الصلاة اليومية حفظ لآيات وسور القرآن ، وهل يدل هذا القانون على عدم حصر التلاوة بسور وآيات معينة في الصلاة اليومية ، الجواب نعم.
هل ثبوت ما بين الدفتين في هذا الزمان يجعل المسلمين يتلون آيات وبعض السور القصيرة في الصلاة وحدها ، المختار لا ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
السادس : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن خارج الصلاة وعلى المنبر ، وقيامه بتفسيرها عن سؤال من المسلمين أو غيرهم أو ابتداءً منه .
السابع : أسباب النزول ، وهي مدد وعون في حفظ الآيات وسلامتها من التحريف أو الضياع أو النسيان .
الثامن : تلاوة المسلمين والمسلمات للقرآن ، وحرصهم على حفظ القرآن ، وعلى ختمه في القراءة وإرادة الثواب عليه .
التاسع : حفظ المسلمين للقرآن في الصدور .
هذا الحفظ وبعث الشوق في النفوس له ، وتسيره ، واشتراك أفراد الأمة في الحض عليه ، والثناء على حافظ القرآن من إعجاز القرآن الغيري ، و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صفتي أحمد المتوكل مولده بمكة ومهاجره إلى طيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ، يجزي بالحسنة الحسنة ولا يكافىء بالسيئة ، أمته الحمادون يأتزرون على أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، أناجيلهم في صدورهم ، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال ، قربانهم الذي يتقربون به إلى دمائهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار)( ).
العاشر : كتابة وتدوين آيات وسور القرآن من قبل أهل البيت والصحابة باشراف مباشر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأوامر منه بوضع كل آية في موضعها المحدد لها على نحو التعيين من السماء.
الحادي عشر : تدارس ومعارضة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن .
الرابعة : نسبة اليدين للقرآن دليل القوة والمنعة والعصمة من التحريف ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ..] ( ).
واضــافة لفــظ (بين) يدل على الشأن والمرتبة الرفيعة للقرآن في تمييز كلام الله والكتب النازلة واسقاط ما اضيف لها، والإخبار عما حذف منها بتثبيته في القرآن، وكأن الآية تقول ان المحذوف في الكتب السابقة هو مما بين يدي القرآن.
وان المراد من [بَيْنَ يَدَيْهِ] في تنزيله وصدقه وما مدون في اللوح المحفوظ، لذا وردت الآيات بلفظ الكتاب لإرادة العموم والإستغراق من الألف واللام فيه ، كما في قوله تعالى [وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) وهذا من الإعجاز في المقام.
ومن وجوه التصديق ظهور البشارات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة وعلى لسان الأنبياء فبشرت بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكانت أعناق أهل الكتاب تشرأب لبزوغ نور القرآن وضياء الخاتم، فاراد الله عزوجل توكيد تلك البشارات والأخبار بالفعل والتنزيل بأن الأنبياء السابقين كانوا صادقين.
لقد جاء القرآن بامضاء وتصديق عمل الموحدين بالصلاح والفلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولزوم عدم ترك الصلاة ليتجدد الإيمان.
ويقود العقل الإنسان للرجوع الى التنزيل الذي جاء جامعاً للأحكام منزهاً عن التحريف , سالماًُ من المعارضة والنقص ، لذا قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
قانون [قُلْ] ضد للإرهاب
قد تقدمت الإشارة إلى هذا القانون في الجزء التاسع عشر بعد المائتين الذي هو بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب ) ومن أكثر الكلمات بعد اسم الجلالة في القرآن لفظ [قُلْ] إذ ورد فيه (332) مرة كلها موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربعة منها ، ولابد من تأليف مجلد خاص بترتيب الأسماء والأفعال في القرآن حسب كثرة العدد مع ضوابط محددة مثل :
الأول : إتحاد الاسم المعرف بألـ والنكرة ، فمثلاً ورد لفظ (الصيام ) تسع مرات في القرآن ثلاثة معرفة بالألف واللام ،وكلها في فريضة الصيام ، وستة في الكفارات ، قال تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ).
الثاني : الفصل بين صيغ الأفعال ، فاذا وردت كلمة بصيغة الماضي والمضارع والأمر فكل واحد منها يكون مستقلاً في الترتيب كما في قوله تعالى [إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى] ( ) وقوله تعالى [فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى] ( ) وبصيغة المضارع كما في قوله تعالى [ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
ومثل مادة كتب التي وردت في القرآن بصيغة الماضي ، قال تعالى [يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( )وقوله تعالى [قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( )، والمضارع والسؤال ، والأمر كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ] )، وقد وردت مادة [كَتَبَ] سبع مرات في آية الدين هذه منها بصيغة الاسم [كَاتِبٌ] مرتين .
كما وردت بصيغة المبني للمجهول [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ).
وكذا بالنسبة لصيغة المفرد والمثنى والجمع ، فكل واحدة على نحو مستقل .
وأكثر الكلمات ذكراً وتكراراً في القرآن اسم الجلالة إذ ورد فيه (2699) مرة ، وورد لفظ الصالحات (167 ).
وقد ترد أسماء متعددة لمسمى واحد كما في أسماء النار التي وردت في القرآن وهي :
الأول : النار ، ذكرت وهي أكثر أسماء النار في القرآن ، ووردت بالتعريف بالألف واللام ، ومن دونه ، قال تعالى [وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا] ( ) وتدل الآية أعلاه على حرمة التعدي وسفك الدماء ، وأكل المال بالباطل ،ومن معاني كثرة ورود لفظ النار في القرآن الإنذار والإتعاظ .
وهناك من الناس من دخل الإسلام بالخشية من النار ، ومنهم من امتنع عن الإرهاب والظلم بالخوف من سوء العاقبة ، وشدة لهيب النار والعذاب الأليم فيها ، ومنهم من خشي النار لكثرة أسمائها في القرآن وما فيها من تقريب الوصف إلى الإذهان كل اسم على لها يدل معنى ومفهوم في شدة عذابها .
الثاني : جهنم التي ذكرت في القرآن (77) مرة .
الثالث : الجحيم ، وذكرت في القرآن (26) مرة لشدة حرها .
الرابع : السعير ، وقد ذكرت مرة واحدة لأن من يُلقي فيها يهوى .
الخامس : الحطمة ، قال تعالى [كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ] ( ).
السادس : سقر ، وورد في القرآن أربع مرات .
السابع : سجين ، وذكر في القرآن مرتين ، لأن النار سجن مؤبد للكفار.
الثامن : لظى ، وذكرت في القرآن مرة واحدة لشدة لهب النار ، قال تعالى [كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى] ( ).
قانون الصدّ عن سبيل الله إرهاب
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل الحياة الدنيا دار عبادة خالصة له سبحانه ، فهو لا يرضى أن يكون له شريك في ملكه ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) فكل مخلوق هو مملوك لله عز وجل محتاج إلى فضله في نشأته واستدامة وجوده ، مثلما احتاج إليه في خلقه وإيجاده ، ومنهم الناس الذين هم من اشرف الخلائق إذ رزقهم الله عز وجل العقول والتدبير ، وسخر لهم السموات والأرض ، وهل من جنس من الخلائق غير الملائكة نالوا من النعم أكثر من الناس ، قال تعالى [الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ] ( ).
ويتجلى مقام الحجة على أهل النار في الآية أعلاه بخصال مذمومة هي :
الأولى : منع الناس عن الإيمان والهدى ، والسعي لتحريف التنزيل وإنكار المعجزات النبوية .
الثانية : إتخاذ الكفر والجحود طريقة ومنهاجاً للصدّ عن سبيل الله ، لذا جعل الله عز وجل المسلمين والمسلمات يحترزون بتلاوة القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ، وكل واحد منهم يقول سبع عشرة مرة في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ليكون من معانيه بلحاظ الآية أعلاه : أهدنا الصراط المستقيم بعصمة من الذين يصدون عن سبيل الله .
وليس من حصر لمصاديق (سبيل الله ) في الآية أعلاه منها :
الأول : شهادة التوحيد ، وهل عبادة الأصنام والتزلف إليها من الصد عن سبيل الله ، الجواب نعم .
الثاني : الإسلام .
الثالث : الإيمان .
وهل من موضوعية لسعي كفار قريش والمنافقين تخلف الأعراب عن مرتبة الإيمان ، كما في قوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) الجواب نعم .
الرابع : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت قريش تحذر الناس من لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وتحذرهم من الجلوس معه وسماع آيات القرآن التي يتلوها عليهم ، مع نعته بصفات مثل معلم ، مجنون ، لبعث النفرة في النفوس من الإنصات له .
الخامس : تجاهر الكفار بالمنكرات كالزنا ، وشرب الخمر والظلم والإرهاب .
السادس : تعذيب الصحابة .
السابع : التصفيق والصفير وتخليط الكلام ، والصراخ في وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند تلاوته آيات القرآن ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( ).
الثامن : منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة من الصلاة ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
وهو نوع وطريق للإرهاب والظلم والتعدي ، ويدل في مفهومه ‘على أن الذي يؤمن بالآخرة ، ويصدق بيوم الحساب يجتنب الإرهاب ومقدماته ، ولا يعين ولا ينفق عليه ،لقانون الإيمان بالآخرة عصمة من الإرهاب .
قانون حفظ النبي (ص) فضح للإرهاب
من خصائص الأنبياء حفظ الله عز وجل لهم ليقوموا بتبليغ الرسالة ، ليكون هذا الحفظ معجزة حسية ، وشاهداً على صدق النبوة بلحاظ أنه يجري وفق المعتاد بين الناس من أسباب الحفظ ، كما يتم بالإعجاز والأمر الخارق للعادة ، وفي قوله تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ]( ).
ورد عن الضحاك عن ابن عباس قال ([لَهُ مُعَقِّبَاتٌ] يعني محمد عليه السلام من الرحمن حراس من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ، يعني من شر الجن والإنس ومن شر طارق الليل والنهار)( ).
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ورد عن عبد الرحمن بن زيد (نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وزيد بن ربيعة وكانت قصتهما على ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أقبل علينا زيد بن ربيعة هو وعامر بن الطفيل يريدان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور ، وكان من أجمل الناس.
وقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك.
فقال : دعه فإن يرد الله به خيراً بهذه .
فأقبل حتى قام عليه.
فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت.
قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين،
قال : تجعل لي الأمر بعدك. قال : ليس ذلك إليَّ إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء.
قال : فاجعلني على الوبر وأنت على المدر،
قال الرجل : فماذا يجعل لي.
قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها.
قال : أوليس ذلك لي اليوم.
قال : لا. قال : قم معي أُكلمك .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فَدُرْ من ورائهِ بالسيف فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدار أربد بن ربيعة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله وعامر يومئ إليه.
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى أربد وما منع بسيفه.
فقال : اللهم أكفنيهما بما شئت ، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف وولى عامر هارباً.
وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة يعني الأوس والخزرج)( ).
وعن ابن عباس في الآية قال (الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله يحفظونه من القتل . ألم تسمع أن الله تعالى يقول [وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا]( )، لم يغن الحرس عنه شيئاً)( ).
وابتدأ هذا الحديث بصيغة الجمع (الملوك يتخذون) ولكنه انتقل إلى صيغة المفرد (يحفظونه من أمامه)أي يحفظون الملك وهو خلاف قواعد الحديث , والظاهر أنه سهو من النساخ .
وعلى فرض صحة السند والنسبة إلى ابن عباس فلا تعارض بين الحديثين ولبيان أن المعقبات من الله عز وجل تفيد الأمن والسلامة والنجاة من الآفات والأذى ، وهو من العصمة التي تفضل بها الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ليكون حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : حفظ الله سبحانه له كانسان وفرد من البشر ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
الثانية : حفظ الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة لقيامه بتبليغ الرسالة .
الثالثة : حفظ الله عز وجل للنبي كخاتم النبيين فليس من نبي بعده ، فأراد الله عز وجل بحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أموراً:
أولاً : بيان أحكام الشرعية كاملة .
ثانياً : قانون تثبيت أحكام الحلال والحرام إلى يوم القيامة.
ثالثاً : قانون المنع من طرو التحريف على القرآن ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ).
رابعاً : قانون وجود أمة مؤمنة في كل زمان إلى يوم القيامة.
الرابعة : قانون حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتم نزول جميع آيات وسور القرآن ، وتحقيق الغايات الحميدة التي بعثه الله عز وجل لها .
لذا حينما نزلت ([إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعيت إلي نفسي إني مقبوض في تلك السنة)( )، كما عن ابن عباس.
الخامسة : لقد حفظ الله عز وجل النبي محمداً للحرب على الإرهاب ، واستئصاله من الأرض من وجوه :
الأول : تثبيت قانون براءة النبوة من الإرهاب والتكفير .
الثاني : قانون تنزه المسلمين عن الإرهاب .
الثالث : قانون توارث المسلمين والمسلمات الرحمة والرأفة العامة .
الرابع : نزول الآيات والسور المدنية التي تمنع من الإرهاب .
الخامس : قانون مناجاة المسلمين بسنن التقوى والصلاح ، ومنها نشر ألوية السلم والأمن في ربوع الأرض .
لقد ذكرت سورة النصر أعلاه دخول الناس [فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، لبيان أن من معانيه وجوه :
الأول : قانون استدامة السلم المجتمعي .
الثاني : قانون الأخوة الإنسانية ، والتقاء الناس في مناهج التوحيد.
السادسة : لقد كانت أيام البعثة النبوية ثلاثمائة وستون صنماً منصوبة في البيت الحرام ، وما في البيوت والطرقات أكثر.
ويتفرع عن عبادتها انتفاء الواعز الأخلاقي فتشيع الفاحشة والرذيلة ، فنزل القرآن لتطهير الأرض من الأصنام ، وتزكية الناس باجتناب عبادتها ، وقطع سبل الرذائل والفواحش التي تترشح عنها ، ومنها الظلم والغزو والنهب والسلب والإرهاب .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بآيات الإنذار من الكفر ، وسوء عاقبة اتخاذ الأصنام آلهة ووسائط فلاقى أشد الأذى من الذين كفروا ، ثم عزموا على قتله بخطة محكمة وسريعة .
حتى إذا حانت ساعة التنفيذ أمره الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة يثرب ، ليكون أوان الهجرة في نفس الليلة التي أرادوا قتله فيها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لتكون حرباً على الإرهاب المقترن بالإضرار الإجتماعية من غير أن يقابله بارهاب مواز ، إنما يكون الإعراض عنه والصفح .
وهل كان للإصرار على بقاء الأصنام موضوعية في نشوب معركة بدر وأحد والخندق ، الجواب نعم ، إذ أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكف عن الطعن بالأصنام وذم عبادتها ، وكان المشركون يأولون هذا الذم بأنه شتم وسب لآبائهم لأنهم فارقوا الدنيا على عبادتها .
وأحتج إبراهيم عليه السلام على قومه [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ] ( ) فعجزوا عن إيجاد حجة أو برهان لعبادتهم لها ، وأعلنوا التقليد المخالف للشريعة والعقل ، وقد قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين توالي نزول الآيات عليه ببيان قبح عبادة الأصنام ، وسوء عاقبتها ، وأنها تقود صاحبها إلى الخلود في الجحيم ، قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا] ( ) أي جماعات متفرقة ، كل جماعة بحسب المعصية والذنوب التي استحقوا بها النار منهم أفواج خاصة من المشركين ، وأفواج الظالمين ، وأفواج المفسدين والذين سفكوا الدماء بغير حق وإخافة الآمنين ولم تدكهم الشفاعة.
فلابد من الإحتراز من السوق إلى النار ، ويتجلى هذا الإحتراز بالتقوى وعمل الصالحات ، وإجتناب الظلم وعامة السيئات، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ..] ( ) ، ومنهم أفواج عبدة الأوثان .
فتفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً لتخليص الناس من الحشر والسوق باهانة وتعنيف إلى النار بسبب عبادتهم الأوثان ، وحالما بعثه الله عز وجل دبّ الوهن والتناقص في عبادة الأوثان من جهات :
الأولى : قانون إذا دخل شخص الإسلام ضعفت جبهة الكفر .
الثاني : قانون نزول كل آية قرآنية حرب على الإرهاب .
ولا ينقطع النفع من الآية بأوان نزولها ، إنما يكون بداية لتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لها ، وكتابتها من حين نزولها في الرّقاع (الجلود ) واللخاف جمع لخفة وهي القطعة المستدقة من الحجارة وألواح الأكتاف ، كما حفظت الآيات والسور في صدور الرجال والنساء مسلمين وغير مسلمين .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة يكتبون آيات القرآن وهم في مكة ، ويتعاهدون تلاوتها وحفظها ويتدارسونها بإستبشار وعز وسرور ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانبعاث الصحابة للكتابة وحفظ القرآن بشوق ولهفة وحباً لله عز وجل ، وفيه إزدياد الحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يصدر منهم أي فعل فيه أذى لغيرهم من عامة الكفار والناس أجمعين .
لبيان أن الرحمة مصاحبة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين بدايات الوحي والتنزيل .
وتقدير الآية : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) من أول يوم من أيام رسالتك وإلى يوم القيامة لأصالة الإطلاق في فضل الله عز وجل واستدامة رحمته ، ومن مصاديق الرحمة في بعثته أمور :
الأول : قانون تنزه نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإرهاب .
الثاني : قانون خلو بيعة الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مفاهيم الإرهاب ، وكانت بيعة العقبة الأولى تسمى (بيعة النساء ).
الثالث : كل آية من القرآن رحمة متجددة .
الرابع : قانون السنة النبوية القولية والفعلية رحمة .

قانون الصبر سلاح ضد الإرهاب
الصبر حبس النفس ومنع الجوارح من الفعل بما يدل على الجزع أو يفيد الرد على الأذى والظلم , وليس من حصر لمواضيع الصبر في الحياة الدنيا لذا أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بالإستعانة بالصبر , واتخاذه وسيلة وسلاحاَ , قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ومن معاني الإستعانة بالصبر والصلاة في الآية أعلاه الوعد من عند الله عز وجل بقضاء حوائج العبد وتحقيق الأماني بالطرق الشرعية , وعدم وصول النوبة للإرهاب لأنه ضد كل من الصبر والصلاة.
ويحضر الصبر في باب العبادات بحسن أدائها والتقيد بشرائطها وأوقاتها وفي العصمة من المعاصي والسيئات , وفي إجتناب الإرهاب والظلم والإضرار بالغير .
(عن أبي سعيد الخدري . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنه من يستعف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبر يصبره الله ، ولم تعطوا عطاء خيراً وأوسع من الصبر) ( ).
ويدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (ومن يتصبر) على مجاهدة النفس بحملها طوعاَ وقهراَ على الصبر , ليأتي المدد من عند الله عز وجل من جهات :
الأولى : صيرورة الصبر ملكة عند الإنسان .
الثانية : المناجاة بين أفراد الجماعة والطائفة والأمة بالتحلي بالصبر .
الثالثة : قانون الثناء العام على الذي يتحلى بالصبر .
الرابعة : شياع مفهوم وقانون الصبر زينة .
الخامسة : تنجز الغايات الحميدة بالصبر .
السادسة : قانون انتفاء الندم على الصبر .
السابعة : قانون الصبر مناسبة للدعاء والمسألة والحاجة .
وهناك فرق بين الصبر والقعود , فلا يعني الصبر الفتور في طلب الدنيا بالحلال والكسب ، قال تعالى [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا] ( ) قال تعالى [قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومن معاني الصبر كظيم الغيظ , وتحمل الأذى من غير رد بالمثل فهل هو أمر وجودي أم عدمي , الجواب هو الأول وهو من مصاديق الحلم وفيه الأجر والثواب العظيم لإختياره واللجوء إليه بقصد القربة إلى الله عز وجل , ومحاربة المعصية والتعدي .
ومن إعجاز القرآن عدم اكتفائه بالأمر بالصبر , إنما أمر المسلمين بالمناجاة والتحلي العلني بالصبر , قال تعالى [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ).
ولم يرد لفظ (المرحمة) في القرآن إلا في الآية أعلاه ({ وتواصوا بالمرحمة }( ) يعني بذلك رحمة الناس كلهم) ( ) وتكرر لفظ (تَوَاصَوْا) في القرآن أربع مرات , مرتين في الآية أعلاه , ومرتين [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) .
وبلحاظ الآيتين أعلاه يتضاد الإرهاب مع كل من الإيمان والصدق .
قانون الدفاع ببدر دعوة للسلم الدائم
لقد أنزل الله عز وجل القرآن ليبقى دستوراً للحياة بتثبيت التوحيد والنبوة والمعاد ، فلا يجوز التفريط بأحدها ، وإن كان الفارق الرئيسي بينها كبير ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَا] ( ).
ويؤدي الإيمان إلى السلم العام بين المؤمنين بالله ، وبينهم وبين عامة الناس ، فتوجه القرآن إلى أهل الكتاب للألفة ونبذ الخصومة والقتال بالجامع المشترك بينهم وبين المسلمين ، وهو التوحيد ، قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ] ( ).
لقد حمل كفار قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة وسعوا في قتله في طريق الهجرة ، وعندما وصل سالماً إلى المدينة ظنوا أن اليهود سيحاربونه والقرآنَ ، ولكن خاب ظنهم فمن الإعجاز عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاهدة موادعة معهم في السنة الأولى للهجرة مما أغاظ الكفار ، لأن هذه الموادعة من الدلائل صفة السلم المصاحبة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه بُعث لإستئصال الإرهاب والظلم من الأرض ، كما تبين هذه الموادعة عدم نفرة أهل الكتاب من اليهود والنصارى من نبوته ومن آيات القرآن ، وكانوا يأتونه يسألونه عن أمور الدنيا والآخرة ، ومعالم نبوته فيجيبهم ، ويتلو عليهم آيات القرآن لبيان لزوم الرحمة والرأفة بين المسلمين ، وأهل البلد الذي يقيمون فيه .
وهل لإقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجماعة والجمعة في المدينة والموادعة والتألف بينه وبين يهود المدينة موضوعية في تعجيل الكفار لمعركة بدر ، المختار نعم .
قانون الإعتكاف تنزه عن الإرهاب
الإعتكاف : لغة َ الإحتباس
وفي الإصطلاح اللبث في المسجد أياماَ معدودة طاعة لله تعالى , وانقطاعاَ للذكر , وهو سنة مؤكدة أي انه مستحب , ويصح في كل وقت يصح فيه الصوم , ويجتهد فيه المعتكف بالصلاة وقراءة القرآن والتسبيح ومطلق الذكر , واجتناب الجدال وكثرة الكلام ويبطل الجماع والسكر .
وكان الإعتكاف عبادة معروفة ويقبل عليه المؤمنون والناس , وهو من عناوين صدق العبودية , وفي الإعتكاف مسائل :
(مسألة 1): لا فرق في وجوب كون الإعتكاف في المسجد الجامع بين الرجل والمرأة، فليس لها الإعتكاف في المكان الذي اعدته للصلاة في بيتها ولا في مسجد القبيلة والمحلة.
إذ أن الإعتكاف رياضة تقرب الرجل والمرأة إلى الله عز وجل ، ويكون اثناء أدائها بعيداً عن الدنيا وهمومها.
(مسألة 2) : يجوز للمعتكف الخروج من المسجد لإقامة الشهادة او لحضور الجماعة او لتشييع جنازة، وكذا في سائر الضرورات العرفية او الأمور الشرعية الواجبة الراجحة ، لبيان ضبط فعل المسلم خارج المسجد وحسن العشرة مع عامة الناس.
(مسألة 3) : يجوز الإتيان بالإعتكاف عن النفس وعن الميت نيابة.
شرائط صحة الإعتكاف
الأول : الإسلام.
الثاني : العقل.
الثالث : نية القربة.
الرابع : الصوم فلا يصح بدونه.
الخامس : يجب ان لا يكون الإعتكاف اقل من ثلاثة ايام.
وقال الجمهور أقله ما يصدق عليه عرفاً أنه اعتكاف لعدم وجود دليل على تقييد الإعتكاف بمدة معينة ، وقال المالكية أقله يوم وليلة.
(مسألة 4) : يجوز ان يكون الإعتكاف اكثر من ثلاثة ايام ولكن لو اعتكف خمسة ايام وجب السادس، واليوم من طلوع الفجر الى غياب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية فلا يشترط ادخال الليلة الأولى ولا الرابعة في اعتكاف ثلاثة ايام، نعم تدخل الليلتان المتوسطتان.
(مسألة 5) : يشترط ان يكون في المسجد الجامع لتعاهد صلاة الجماعة، والأولى ان يكون في المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسجد الكوفة ومسجد البصرة.
(مسألة 6) : يشــترط اســتدامة اللبث في المســجد، فلا يجوز الخروج لغير الحاجة والضرورة، الا ان يكون ناسياً او مكرهاً او مضطراً او لغسل الجنابة ونحوه.
(مسألة 7) : الأقوى عدم جــواز النيابة عن اكــثر من واحــد في اعتكاف واحد، نعم يجوز ذلك بعنوان اهداء الثواب فيصح اهداؤه الى متعددين احياء وامواتاً.
لا يشترط في صوم الإعتكاف ان يكون لأجل الإعتكاف بل يصح فيه صرف الطبيعة وكل صوم صحيح، فيجوز ان يكون المعتكف صائماً استئجاراً او واجباً من جهة النذر ونحوه في عشر شهر رمضان.
ومن خصائص الإعتكاف أنه تربية للنفوس , وتزكية وإصلاح لها , وهو مناسبة للإستغفار والتوبة , والإجتهاد في العبادة وطاعة الله عز وجل , وهو واقية من الإرهاب , وزجر عنه , فهو إنقطاع عن الدنيا والتجارة والبيع والشراء , وإذا كان المسلم يترك المباحات والمنافع الخاصة عدة أيام طاعة لله عز وجل رجاء الأجر والثواب منه سبحانه .
والإعتكاف عنوان الزهد والتقوى , فإذا كان المسلم يتخلى فيه عن المصالح الخاصة فمن باب الأولوية أنه يجتنب فيه الإرهاب والإضرار بعامة الناس , ولا يختص نفع الإعتكاف في السلوك وعمل الجوارح بالمعتكف ذاته بل يشمل غيره فمن حوله ففيه تأديب للذات , ودرس للآخرين من جهات :
الأولى : قانون الزهد يجلب النفع .
الثانية : قانون وجوب اجتناب الإضرار بالناس .
الثالثة : قانون التطوع في العبادة عنوان الإيمان والصبر والعزوف عما حرم الله.
ومن خصائص الإعتكاف اجتناب الجدال والسباب والغيبة ليدل بالأولوية القطعية على وجوب الإمتناع عن إخافة الناس والإضرار بهم , والتعدي عليهم , فالإعتكاف ضد للظلم وحرب عليه , وتنزه عنه , ودعوة للتوبة والإنابة , ويعتكف المسلم ويدرك معه الكثيرون ممن حوله قبح الظلم وإيذاء الناس , وسلب حقوقهم , وهو أمان للذات والغير القريب والبعيد .
وعن الإمام علي عليه السلام قال : لا اعتكاف الا بصوم( ).
ومن جامع زوجته في نهار رمضان وهو معتكف عليه كفارتان إحداهما لفساد الصوم ، والأخرى لفساد الإعتكاف.
وقد ذكرتُ في تفسير هذه الآية من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) هذا (ولا يفسد الإعتكاف الا بالجماع ويحرم الإستمتاع بالنساء لمساً وتقبيلاً ونظراً بشهوة ولكنها غير مفسدة للإعتكاف وهناك آداب خاصة للإعتكاف.
والإعتكاف سنة مؤكدة في العشر الأواخر من شهر رمضان بصورة خاصة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان) ( ) ( ) وفيها ليلة القدر فتحيى بالعبادة والإجتهاد في الصلاة وتلاوة القرآن وكثرة الدعاء .
قانون تعدد صيغ النصر
قال تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( )، ليكون هذا النصر شعبة من قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، فمن ملك الله عز وجل أن ينصر الأنبياء وأهل التقوى وأن يثبت بالنصر استدامة عبادة الناس له ، ومن بديع قدرة الله أنه جعل النصر بيده وحده ، ولا يعلم بالكيفية التي يكون بها النصر إلا هو سبحانه إذ لا تستعصي عليه مسألة أو كيفية.
وفي الآية دعوة للمسلمين للطمأنينة والسكينة والرضا بقسم الله عز وجل ، وعدم الخشية من المجهول ، وصيرورته سبباً للتعدي وقد قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
لقد نزل الملائكة مدداً وعوناً كما في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وموضوع الآية أعلاه هو معركة بدر ولكنها أعم من جهات :
الأولى : نزول الملائكة للنصرة نعمة ، وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، فان قلت هل امتناع هذا الرفع خاص بأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه متصل ومستمر حتى بعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
الجواب هو الثاني .
وهو من الإعجاز في مجئ الآية بصيغة الجمع في الآية أعلاه (تستغيثون) (فاستجاب لكم) ولا يضر بهذا المعنى ورود لفظ (أني ممدكم) وتعيين عدد الملائكة.
الثانية : بعث القدرة الذاتية والمنعة عند الذي يريد الله نصره ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وعن الإمام علي عليه السلام : طلبت النصرة فوجدتها في الصبر.
الثالثة : إلقاء الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة لهزيمتهم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الرابعة : العون الظاهر والخفي من عند الله مما لا يعلمه إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الخامسة : الإستجابة من الله عز وجل للدعاء والتضرع والتوسل إليه سبحانه.
قانون نزول الملائكة استئصال للكفر والإرهاب
من الشواهد على صدق النبوة الدعوة إلى الله عز وجل بالسلم وتعاهد الأمن , ومنع الفتنة والإقتتال .
وهذه الصبغة للدعوة لسور الموجبة الكلية الذي يلتقي عنده الأنبياء , وهم معصومون من طغيان النفس الغضبية على أقوالهم وأفعالهم , وفيه دعوة للمسلمين وأهل الكتاب وعامة أهل الأرض بالإقتداء بالأنبياء , بالتنزه عن الإرهاب الذي هو من رشحات الغضب والغرور .
وليس من نبي إلا وقد نزل عليه الملائكة بالوحي والتنزيل , وبعض الوقائع , واختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحضور الملائكة لنصرته وأصحابه في معارك الإسلام لأنهم يحاربون الظلم الفسوق والإرهاب .
وقد أخبر القرآن عن نزول الملائكة يوم بدر لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , (عن ابن عباس قال : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاً ، قد أرسلوها في ظهورهم . ويوم حنين عمائم حمراً ، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون عدداً ومدداً لا يضربون) ( ).
و(عن الحباب بن المنذر قال : أشرت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني .
خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعسكر خلف الماء ، فقلت يا رسول الله أبوحي فعلت أو برأي؟
قال : برأي يا حباب . قلت : فإن الرأي أن تجعل الماء خلفك ، فإن لجأت لجأت إليه ، فقبل ذلك مني .
قال : ونزل جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أي الأمرين أحب إليك تكون في دنياك مع أصحابك أو ترد على ربك فيما وعدك من جنات النعيم؟
فاستشار أصحابه فقالوا : يا رسول الله تكون معنا أحب إلينا ، وتخبرنا بعورات عدونا ، وتدعو الله لينصرنا عليهم وتخبرنا من خبر السماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما لك لا تتكلم يا حباب!
فقلت : يا رسول الله اختر حيث اختار لك ربك . فقبل ذلك مني)( ).
وقد نزلت آيات أخرى بخصوص معركة بدر في سورة النساء وسورة الحج , وفي سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر.
و(عن ابن شهاب قال : قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر في رمضان سنة اثنتين ، ثم قاتل يوم أحد في شوّال سنة ثلاث ، ثم قاتل يوم الخندق وهو يوم الأحزاب وبني قريظة في شوّال سنة أربع) ( ).
قانون لم يقصد النبي (ص) معركة بدر في خروجه
لقد كان النبي محمد يخرج في سرايا وكتائب استطلاع ودعوة إلى الله ، وبيان عملي لوجوب عبادته.
وعلى فرض وجود موضوعية لعلم قريش بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة فهو ليس علة تامة لهذا الخروج ، كما أن هذا التعرض ولم يثبت واقعاً تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقافلة أبي سفيان وتكرر منه هذا الخروج من السنة الأولى للهجرة ، ولم يقصد معركة بدر أو مطلق اللقاء مع المشركين نعم خرج مرة واحدة من المدينة إلى معركة أحد عندما صار المشركون على بعد (6) كيلو متر عن المسجد النبوي..
ومن الأدلة في المقام أصل البراءة ، وأصل الإستصحاب من جهات :
الأولى : لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعرض لاحدى قوافل قريش .
الثانية : لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتعرض للقوافل .
الثالثة : لم يتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللوم لأصحابه عند ترك القوافل وشأنها ، ففي شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة وبعد مضي سبعة أشهر على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية بأمرة عمه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ، ويحمل لواء أبيض.
(قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقامه ذلك حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الانصار أحد، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهنى، وكان موادعا للفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال) ( ).
فلم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلوم حمزة وأصحابه لتفويت القافلة .
لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة سلم وأمن وحفظ للحقوق والأموال العامة والخاصة ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (إن الناس مسلطون على أموالهم)( ).
وفيه دعوة رسالية لأجيال المسلمين بالإمتناع عن الإضرار بأموال الناس ، وتعريضها للتلق ولا يتخذ الدين والملة ذريعة للإجهاز عليها.
لقد كانت تلك الواقعة من أسباب حنق قريش ، وإرادتهم الإنتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأنهم صاروا أمة وقوة تدعو إلى طاعة الله عز وجل ، ونبذ الشرك والضلالة في الأرض .
فادركت قريش مسألة وهي إسلام رجال القبائل سبب لقطع تجارة قريش لزوال هيبتهم من النفوس ، وللسخط عليهم بتلبسهم بالكفر وعبادة الأوثان في جوار البيت الحرام ، فاشعلوا معركة بدر بذريعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد التعرض لقافلة أبي سفيان مع أنهم علموا بسلامة القافلة ووصولها إلى مشارف مكة قبل أن تصل جيوشهم إلى ميدان معركة بدر .
ليكون من معاني وصف (أذلة ) في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) عدم دخول القبائل في الإسلام بعد ، وتعجل قريش بالقتال قبل شيوع الدعوة بين أفراد القبائل بين مكة والمدينة ، وبين المدينة والشام .
ولم يقصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه يومئذ الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ولا دخول معركة مع قريش ، إنما خرج في كتيبة من أصحابه للتبليغ والصلاة في الجادة العامة .
وورود مضارب القبائل والقرى والصلاة في أفواهها ، والمدخل إليها ، وبيان معالم الإيمان قال تعالى [فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] ( ) .
وحينما كانت قريش تتجهز لمعركة أحد كانوا يتناجون بأسر المهاجرين وأنهم سيقتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويأتون بالمهاجرين أسرى ، ويدخلون مكة موثقين بالحبال .
والغرض من هذه المناجاة منع أهل مكة من دخول الإسلام ، وحينما سار ثلاثة آلاف من المشركين في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة نحو معركة أحد ، ووقعت المعركة في النصف من الشهر نفسه عجزت قريش عن أسر بعض المسلمين مع أن المشركين كانت لهم الجولة والصولة يومئذ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الموضوع في تفسير قوله تعالى [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ]( ).
قانون البراءة من قصد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يقصد الخروج إلى معركة بدر ، والقتال فيها إنما كان خروجه وأصحابه في كتيبة استطلاع حول المدينة وإخبار لأهل القرى والقبائل بعز المؤمنين ، وإبلاغهم الدعوة وإسماعهم تلاوة القرآن .
لقد ساح الرسول عيسى بن مريم في الأرض وهو من الأسباب المتعددة لتسميته المسيح ، إذ ورد هذا الإسم له في القرآن أحدى عشرة مرة ، واسمه هذا من عند الله عز وجل وقبل أن يولد ، قال تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ]( )، وهو من أكثر الأنبياء سياحة في الأرض وقد سافر من بيت لحم في فلسطين إلى مصر وهو طفل ثم عاد بعد عامين وبضعة شهور إلى أرض فلسطين ، وكان يرى في ساحل البحر ، وفي البراري وفي القرى وقيل (سمي المسيح . كان يمسي بأرض ويصبح بأخرى ، وانه لم يتزّوج حتى رفع)( ).
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج من مكة بعدما عزم المشركون على قتله ليصل إلى المدينة ، ويخرج بمئات من أصحابه في أنحاء الجزيرة داعياً إلى الله عز وجل ، مبلغاً رسالته ، فقد كان عيسة بن مريم عليه السلام سائحاً في الأرض وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي ساح مع أصحابه كثيرين يحملون السلاح دفاعاً عنه.
لقد بينت في الأجزاء السابقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينو الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، وإن كان هذا القول يتكرر في كتب التفسير والسيرة والتأريخ .
وتدل الوقائع وخريطة مسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأوانه على عدم قصدهم هذه القافلة.
وحتى قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]( )، يدل في مفهومه على حال الود وهو كيفية نفسانية وليس السعي للإستيلاء على القافلة.
ومن الإعجاز في ذكر القافلة ونحوها بصفة (غير ذات الشوكة) والقوة والمنعة حصول هذا الود بعد أن علم المسلمون بقدوم جيش المشركين ، وقرب وقوع المعركة ، أي حينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن المدينة لم يكن عند أهل مكة علم بهذا الخروج ، ولم يعلنوا النفير لقتاله إلا بعدها بأيام وعندما وصلهم أبي سفيان ضمضم بن عمرو.
فحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لم يعلم المشركون بهذا الخروج إنما علموا بعد أن سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فراسخ وُبرد وخشي أبو سفيان على قافلته فأرسل ضمضم بن عمرو رسولاً يندب ويستصرخ قريشاً للخروج لنجاة القافلة ، وبقيت قريش تستعد للخروج ثلاثة أيام.
ولو حسبت المدة بين علم أبي سفيان بنية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على القافلة كانت كالآتي :
الأول : إرسال أبي سفيان ضمضم بن عمرو إلى مكة لإخبارهم بالأمر ،ويلزمه ثلاثة أيام للوصول إلى مكة إذا كان مجداً في المسير .
الثاني : تهيؤ قريش للنفير والمسير في ثلاثة أيام .
الثالث : حاجة قريش لقطع مسافة (300) كم للوصول إلى موضع بدر ، مما يلزم ثلاثة إلى أربعة أيام خاصة وأن مسير الجيش يكون بتوئدة .
فصار المجموع تسعة أيام من حين علم أبي سفيان بخبر قصد النبي الإستيلاء على القافلة ، وهذه المدة كافية لوصول النبي إلى مكة ، بينما لا يبعد موضع بدر عن المدينة سوى (150) كم .
ولم يعلم الصحابة بقدوم جيوش قريش إلا عندما صاروا قريبين من بدر ، فكيف يودون إجتناب جيش قريش من حين خروجهم من المدينة .
و(عن ابن شهاب وموسى بن عقبة قالا : مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قتل ابن الحضرمي شهرين ، ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في عير لقريش من الشام ومعها سبعون راكباً من بطون قريش كلها وفيهم مخرمة بن نوفل ، وعمرو بن العاص ، وكانوا تجاراً بالشام ومعهم خزائن أهل مكة ، ويقال : كانت عيرهم ألف بعير .
ولم يكن لأحد من قريش أوقية فما فوقها إلا بعث بها مع أبي سفيان إلا حويطب بن عبد العزى ، فلذلك كان تخلف عن بدر فلم يشهده .
فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقد كانت الحرب بينهم قبل ذاك ، وقتل ابن الحضرمي وأسر الرجلين عثمان والحكم.
فلما ذكر عير أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن أبي الزغباء الأنصاري من بني غنم وأصله من جهينة وبسبس – يعني ابن عمرو – إلى العير عينا له ، فسارا حتى أتيا حياً من جهينة قريباً من ساحل البحر .
فسألاهم عن العير وعن تجار قريش ، فأخبروهما بخبر القوم ، فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه فاستنفر المسلمين للعير وذلك في رمضان) ( ) وهذا الخبر مرسل .
وابن شهاب تابعي وقد تقدمت ترجمته .
وموسى بن عقبة بن أبي عياش (مولى الزبير بن العوام وقد قيل مولى أم خالد بنت خالد من أهل المدينة) ( ).
وأدرك من الصحابة جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر ،وأنس بن مالك ، ولكنه لم يسمع منهم إنما روى عن أم خالد ، ولها صحبة (وأسمها آمنة بنت خالد بن سعيد بن العاص) ( ) وهي زوجة الزبير .
ومات موسى بن عقبة سنة إحدى وأربعين ومائة ,
وظاهر الخبر أعلاه بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن أبي الزغباء وبسبس وهو لا يزال في المدينة ، ولم يجمع أصحابه ويدعوهم للنفير ، وهذا بعيد لحاجة الأمر إلى عدة أيام كي يخرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد عودتهما بخبر قرب القافلة ، ثم يدعو أصحابه للنفير ثم يسير حتى يتعرض للقافلة .
وورد عن ابن حزم أن إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذين الصحابيين عندما قرب من الصفراء في طريقه إلى بدر .
وقال (فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني، حليف بني ساعدة، وعدي ابن أبي الزغباء الجهني، حليف بني النجار إلى بدر، يتجسسان أخبار أبي سفيان وعيره)( ).
وظاهر أخبار السيرة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيوناً وأفراداً بين يديه للإستطلاع ، ومعرفة الطريق وأحوال القرى ، ويمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الرعاة بالإبل والغنم من أموال مشركي قريش وغيرهم ، فلا يتعرضون لها.
قانون استئصال القرآن للإرهاب ومنه الوأد
من خصائص القرآن التعايش مع مستحدثات المسائل وإيجاد المخرج السليم فيها حتى مع الإرتقاء العلمي والتجدد والتبدل في النظم السياسية ،.
وهو من أسرار بقاء آياته غضة طرية بالذات والأثر والنفع العام والخاص ، فحينما ظهر ما يسمى بالإرهاب في هذا الزمان كان القرآن سداً منيعاً لحفظ العقيدة والأفراد والشعوب مع مرور السنوات المتتالية عليه ، وهل يعمل القرآن والسنة النبوية على تضاؤل وإنحسار الإرهاب .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في الصلاة اليومية .
ومن إعجاز القرآن قضاؤه على ظاهرة وأد البنات التي كانت سائدة في أيام الجاهلية ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) والوأد هو دفن البنت حيه .
وقد اشتهرت بعض القبائل بالوأد كقبيلة تميم , وهناك من القبائل ما تمتنع عنه وكذا بالنسبة للحجاز وأهل المدن إلا القليل , إذ يشيع الوأد مع كثرة الغزو بين القبائل , وخشية القبيلة في إغارة عدو لها أكثر عدداَ ومكراَ وبطشاَ إذ كانت العرب تخشى العار الذي يلحقهم بسبي النساء , بالإضافة إلى الفقر والمجاعة وشدة الغيرة سبباَ للوأد , وقد يكون الوأد بإلقاء البنت من مكان مرتفع وعال .
ومن العرب قبل الإسلام من جاهر بمنع الوأد وبذل المال لإنقاذ البنات من القتل وقيل منهم غالب بن صعصعة التميمي , أبي الفرزدق الشاعر .
وعن لبطة بن الفرزدق عن الفرزدق (قال : دخلت مع أبي على علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال له: من أنت .
قال : غالب بن صعصعة المجاشعي، قال: ذو الإبل الكثيرة .
قال: نعم، قال : ما فعلت إبلك؟ قال: نكبها النواكب، وعدتها الحقوق، قال: ذاك خير من سبلها، من هذا الفتى الذي معك .
قال : هذا ابني وهو شاعر، قال : علمه القرآن خير له من الشعر، قال لبطة: فما زال في نفس أبي حتى شد نفسه فحفظ القرآن) ( ).
وكان زيد بن عمرو بن نفيل ينقذ التي يراد وأدها إذ يقول لأبيها , لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها فيضمها إليه وكأنه مؤسسة خيرية , فاذا كبرت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك , وأن شئت استمر في مؤونتها .
وابتدأ الوأد أنفة عصبية , إذ امتنعت قبيلة تميم عن إعطاء الأتاوة للنعمان بن المنذر ملك الحيرة قبل الإسلام , فسير إليهم أخاه الريان بن المنذر بجيش غازياَ فاستاق الأنعام , وسبى الذراري , ولا يهمه الخوف والأذى الذي يصيب النساء والصبيان وهلاك بعضهم في طريق السبي , وشد الحبال .
لبيان الحاجة إلى بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفضل الله عز وجل في نزول القرآن وذكره لذات موضوع الوأد وقبحه والنهي عنه بصيغة الإخبار عن أهوال يوم القيامة.
ووفدت تميم على النعمان وسألوه النساء فقال النعمان كل امرأة اختارت أهلها ردت إليهم , أما التي تختار صاحبها في السبي فتترك له .
فاختارت النساء آباءهن وأهلهن إلا ابنة لقيس بن عاصم أرادت البقاء مع صاحبها عمرو بن المشرج .
فنذر قيس أن لا تولد له ابنة إلا قتلها فصاروا يفعلونه عصبية وأنفة خشية العار , فنزل القرآن يتلى بينهم , قال تعالى [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا]( ).
ولعل الوأد سابق لقيس بن عاصم , وأنه موجود عند عدد من القبائل , وعند غير العرب .
والوأد مخالف لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) فالتي يقتلونها بالوأد يحولون دون نشأتها وذكرها لله عز وجل , وإنجابها أولاداَ يذكرون الله عز وجل ونزل القرآن بحرمة الوأد وقتل البنات والأولاد مطلقاَ , خشية الفاقة والفقر , مع الوعد من الله عز وجل بالرزق الكريم , قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا]( ).
وقد وفى الله عز وجل للناس بكثرة وتوالي النعم عليهم والإنتفاع الأمثل من الأولاد .
وبين الإرهاب والوأد عموم وخصوص مطلق , فالوأد أحد مصاديق الإرهاب وكذا السبي لبيان قانون وهو استئصال الإسلام لأفراد الإرهاب بأحكام خاصة ونواهي تتعلق بكل فرد منها , ومن الآيات التي تحرم الوأد :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
كما جاءت آيات بالنهي عن قتل الأولاد بإكرام المرأة منه قوله تعالى[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
ولم تكن البنت الصغيرة تستطيع المقاومة , وكانت النسوة مستضعفات , فلا تقدر الأم على منع الوأد عن إبنتها , كما أن بعض الآباء يجعلون البنت تكبر حتى تبلغ السادسة مثلاَ , ثم يخرج بها خلسة ليرميها في البئر أو من مرتفع عال.
والوأد قتل وإرهاب للمجتمع , ونزل القرآن بحفظ الأبناء من القتل لبيان رحمة الله عز وجل بالناس بنزول القرآن الذي يدعو إلى الإمتناع عن سفك الدماء وعن الإرهاب مطلقاَ .
واثنى على بعض النساء مثل امرأة فرعون , مريم بنت عمران , قال تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ]( ).
وجعل القرآن البر بالوالدين واجباَ عينياَ على الإنسان ووردت السنة النبوية القولية والعقلية بإكرام الزوجة والبنت وبيان الثواب في إطعامها وتربيتها والعناية بالأسرة للإنصراف عن الإرهاب , كما أن حسن تربية الأبناء عصمة لهم من الإرهاب , ومن هذه التربية أمور :
الأول : تعاهد الفرائض العبادية.
الثاني : أداء الصلاة في وقتها ، قال تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى]( )، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزنه شئ لجأ الى الصلاة وبادر بالوقوف بين يدي الله عز وجل في حال خشوع يتلو آياته ويناجيه ويسأله ، وفيه تخفيف ورجاء العون والمدد.
الثالث : تنمية ملكة الإيمان في النفوس.
الرابع : معرفة القوانين الوضعية وعقوبة التعدي والإرهاب.
الخامس : التنزه عن الظلم والعنف والكراهية للغير .
لقد أراد الله عز وجل للمسلم أن يحب أولاده ذكوراً وإناثاَ ويرى النفع الدنيوي والآخروي منهم , ويكون هذا الحب نوع طريق يحفظ أولاد غيره من الناس وأن يحب لهم ما يحب لنفسه , فلا يعرض نفوسهم للتلف بالقتل والتشريد والتفجيرات .
قانون العناية بالعلوم برزخ دون الإرهاب
من إعجاز القرآن نزول أول كلمة وآية من القرآن بطلب العلم , وتسخيره في طاعة الله عز وجل , قال تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ]( ).
وتبين هذه الآيات البشارة بالمدد من عند الله عز وجل لمن يطلب العلم ويجعله وسيلة للصلاح والأمن ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الإعجاز القرآني ورود لفظ (اقرأ) ثلاث مرات في القرآن اثنتين في الآيات أعلاه والأخرى بخصوص يوم القيامة , كما في قوله تعالى [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
لبيان انتفاع الإنسان من قراءته وتعلمه الأحكام يوم القيامة.
وقيل أن تكرار قوله تعالى (اقرأ) في سورة العلق للتأكيد , ولكن الموضوع أعم , إذ يفيد هذا التكرار مسائل :
الأولى : تعدد موضوع القراءة , وعدم اختصاص باب بعلم دون آخر .
الثانية : الإكثار من القراءة , ومنها تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها .
الثالثة : اللطف والإعانة من الله عز وجل بجعل القراءة بتدبر .
الرابعة : الفقاهة العامة بالقراءة , وانتفاع الناس من القارئ والعالم .
الخامسة : بيان قانون وهو الإسلام دين العلم والتحصيل .
السادسة : تجلي البركة بقراءة ودراسة العلوم الشرعية , وهو من مصاديق قوله تعالى[اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ] ( ) .
السابعة : تعاهد آيات القرآن , وسلامته من الزيادة أو النقصان.
الثامنة : وردت الآية بصيغة الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي عامة للأمة بالإلحاق , ولكن صيغة الأمر المنفرد تدل على ماهية وسنخية المقروء ولزوم كونه في مرضاة الله عز وجل , والعصمة من الريب والشك ، وقال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) .
التاسعة : الأجر والثواب بطلب العلم والمعرفة في مرضاة الله عز وجل .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من غدا في طلب العلم ، أظلت عليه الملائكة ، وبورك له في معيشته ولم ينقص من رزقه وكان عليه مبارك) ( ) .
وهل من صلة بين دعاء إبراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتعلمهم الحكمة والمعارف الإلهية وبين قوله تعالى [اقْرَأْ] ( ).
الجواب نعم , قال تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) .
و(عن خزيمة بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام ، يقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين .
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً ، فإنه ليس دونها حجاب) ( ).
فقد ينصرف الذهن إلى تقييد إطلاق وصف الظالم بصيغة الإيمان ، ولكن ورد الحديث بما يؤكد الإطلاق ووجوب إجتناب الظلم على أي إنسان مسلماً كان أو كتابياً أو كافراً .
والنسبة بين الظلم والإرهاب من جهة ، وبين الإيمان التضاد فحينما يدخل الإنسان الإسلام يجب عليه الإمتناع عن الظلم والتعدي .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله : اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصراً غيري) ( ).
وهل يدخل ضحايا الإرهاب والتفجيرات العشوائية في هذا العنوان الجواب نعم ، وإن كانوا ذوي شأن لأنهم ساعة الإرهاب ليس لهم ناصر إلا الله عز وجل .
ومن الإعجاز في السنة النبوية وجوب النهي عن الظلم مطلقاً ، وإن صدر من القريب سواء نحو المسلم أو غير المسلم .
وعن (أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا.
قيل: يا رسول الله، هذا نَصَرْتُه مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما.
قال : تحجزه تمنعه فإن ذلك نصره) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإرتقاء العلمي بعد بعثته , والصلاح العام الذي ساد المجتمعات , وحال الأمن الذي ساد البلاد , وجعل العباد شاكرين لله عز وجل على نعمة النبوة فليس من غزو ولا قتل أو سرقة , والحاكم هو القرآن والسنة , فقد أمر الله عز وجل بالصلاة لتهذيب النفوس ، والتنزه عن الظلم والإضرار بالناس .
وهل يختص موضوع (اقرأ) بعلوم القرآن وأحكام الشريعة الجواب لا , إذ تطلب العلوم المتعددة على نحو الوجوب الكفائي وبما فيه النفع والصلاح , ومنه طب الأبدان والصناعات والزراعات وعلوم الفلك والهيئة والرياضيات والهندسة والعلوم الحديثة , لبيان فضل الله عز وجل على الناس , وقد برع في علوم الطب عدد من العلماء منهم , الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله البلخي (370-427) هجرية .
ثم البخاري وهو عالم وطبيب مسلم ، ولد في قرية أفشنة بالقرب من بخارى في اوزبكستان حالياً ، وأبوه من مدينة بلخ من افغانستان وأمه قروية حفظ القرآن وعمره عشر سنوات , وحفظ الكثير من القصائد العربية وغيرها من الأدبيات , وانتفع من المجلس الذي كان يعقده أبوه في بيته للمناظرة والحديث وهو من الإسماعيلية .
فانتقل إلى جرجان , وألف هناك كتابه القانون في الطب ثم انتقل إلى همدان فنال شهرة في الطب والعلاج , وصار وزيراَ للأمير شمس الدين البويهي , وعندما توفى هذا الأمير انتقل إلى أصفهان ومعه عدد من رجاله , وفيها أكمل كتاب القانون , وكتاب الشفاء تحت رعاية الأمير علاء الدولة , واصابه المرض فأكثر من استعمال الأدوية , ولكن المرض اشتد عليه فترك العلاج واغتسل وتاب وتصدقه بأمواله إلى الفقراء , واعتق غلمانه رجاء العفو والمغفرة من عند الله عز وجل , وتوفى في همدان سنة 1037م وعمره ثماني وخمسون سنة , ودفن فيها .
واعتنى بكتب الطب والفلسفة , ومنهم من رماه بالكفر والزندقة , ويرمي بعضهم هذه التهمة لأسباب طائفية .
عرف باسم الشيخ الرئيس ألف نحو 200 كتاباً في الطب والفلسفة وأشهرها كتاب القانون في الطب .
قام بمداواة الأمير نوح الثاني من مرض خطير فكافأه بأن جعله يصل إلى المكتبة السامانية الملكية ولما احترقت المكتبة بالنار بعدها بفترة ليست طويلة اشار أعداء ابن سينا اليه بالإتهام بأنه أحرقها , ومنهم ابن رشد في الطب والفلسفة , وابن البيطار (593-646) هجرية , ولد في الأندلس بمدينة مالقة , ودرس في اشبيلة طاف البلدان , وهو عالم بالنبات والأعشاب وله عدة مؤلفات , توفى في دمشق وعمره (51) سنة وهو يقوم بتجاربه على النباتات إذ دبً إليه السم من نبتة أراد صنع دواء منها.
وجابر بن حيان (721-805)م ، وله عدة كتب اعتنى بالكيمياء والصيدلة والنباتات خاصة وهو من طلبة الإمام الصادق عليه السلام , , وابن الهيثم (965-1041)م في الجبر والرياضيات والفيزياء , والإدريسي في الطب والفلك والرياضيات , ولد الإدريسي في قرطبة بالأندلس سنة 1099م , ومنهم الخوارزمي (780-850م) وعمل في بيت الحكمة ببغداد في عهد الخليفة المأمون.
والمحقق الطوسي وهو نصير الدين الطوسي (597-672) هجرية ولد في طوس ، وهو عالم في الفقه والأحياء والكيمياء وفيلسوف كان ينتمي إلى الإسماعيلية ثم اعتنق مذهب الإمامية ، عدّه ابن خلدون من أعظم علماء الفرس ودفن في الكاظمية .
ويدل نزول أول من القرآن بطلب العلم ، على أن الإسلام دين العلم وهناك آيات قرآنية عديدة بذات المضمون ومنها قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، وتعضدها السنة النبوية.
و(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : طلب العلم فريضة على كل مسلم)( ).
وقيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغايات من طلب العلم بما فيه النفع العام والأجر وحذر من تسخير العلم للضرر والإضرار.
و(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من تعلم العلم ليباهي به العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فهو في النار)( ).
قانون الإجارة واقية من الإرهاب
لقد وردت الإستجارة واللجوء إلى الغير في القرآن بقوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ]( )، وتبين هذه الآية فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فبعد أن كان المشركون يغزون المدينة ، ويهجمون عليها ويفرضون الشروط قبل القتال ، ويصرون على القتال ، كما في معركة بدر وأحد والخندق صارت طائفة منهم تستجير بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطلب الأمان والتدبر في آيات القرآن لتكون آية الإستجارة هذه من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وتبين آية الإستجارة قانوناً وهو إشاعة الإسلام الأمن والأمان والطمأنينة في النفوس ، وحماية المستضعف والنادم والمستغيث والمظلوم ، وطالب الحق والحقيقة بالتفكر في معجزات النبوة وصيرورة الإستجارة طريقاً للهداية والإيمان .
وجاءت الآية بصيغة الخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ]( )، وموضوع الآية عام شامل لكل المسلمين.
ومن خصائص صيغة الفرد في الخطاب وجوه :
الأول : وجوب التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ الإجارة .
الثاني : إجارة المسلم المنفرد المشرك المنفرد.
الثالث : إجارة المسلم المنفرد للجماعة من المشركين.
الرابع : إجارة الجماعة المسلمة للمشرك المنفرد.
الخامس : إجارة الجماعة السلم للمتعدد والطائفة من المشركين.
وهل يشمل ميدان القتال ، الجواب نعم ، لأصالة الإطلاق.
والنسبة بين الإجارة والإرهاب التنافي والتضاد لبيان قانون تأديب الله للمسلمين بما يعصمهم من الإرهاب والعنف والبطش والإنتقام .
ومن الإعجاز في الآية ذكرها إجارة المسلمين للمشرك متحداً أو متعدداً لبيان إجارة السلم والكتابي القريب والبعيد.
وجاء الإسلام بحسن الجوار ، وكانت الإجارة وحماية المستجير معروفة عند العرب ، وقد استجار النعمان بن المنذر ملك الحيرة بهاني بن مسعود الشيباني بأن استودعه أهله وسلاحه وماله ، وذهب إلى كسرى الذي غضب عليه وطلبه لأنه أبى أن يزوجه ابنته هند التي كان جمالها بارعاً أخاذاً وتكنى بـ(الحرقة).
ولما اطمأن النعمان على أهله وماله ذهب إلى كسرى الذي سجنه ثم قتله ، ثم أرسل كسرى في طلب ودائع النعمان من هاني بن عروة فأبت بنو شيبان وطلبوا النصرة من قبيلة بكر بن وائل فنصرتهم طائفة منها ، وأعلن كسرى النفير في جيشه وقبائل العرب الموالية له من قضاعة وإياد والنمر ، وولى عليها إياس بن قبيصة الطائي ، وبعث لهم كتائب من جيشه ، وكان قائد جيش بني شيبان عمرو بن ثعلبة .
وورد في التوراة ما يدل على شأن وقوة دولة العرب في العصور القديمة ، وإن الإسكندر لجأ إليهم مستجيراً بهم عندما كسر جيشه الملك بطلماوس.
إذ ورد في سفر دانيال (فهرب الاسكندر إلى ديار العرب مستجيرا بهم)( ).
وتدل استجارة الإسكندر عند العرب على وجود أمة منظمة وجيش يستطيع قتال الدول الكبرى مما يدل على شراسة قتال المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لولا فضل الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرته.
ولا تختص الإجارة بالعرب , ولا بزمان دون زمان أو يختص بها الملوك والأمراء , ولم تكن عند العرب دولة مركزية شاملة تحفظ الأمن , وتنصف المظلوم , وتجازي الظالم بعقوبة مخصوصة سواء في بدنه بالقصاص , أو ماله بالغرامة , أو بالحبس ومنع إضراره بالناس , أو إجباره على الصلح والتراضي ، فلذا ورد في النص أعلاه (ديار العرب) ولم يرد هذا اللفظ في التوراة إلا في مرة واحدة في تتمة سفر دانيال ولم يرد بعنوان مملكة العرب ونحوه.
فاصبح الجوار نظاماَ وقانوناَ يتفاخر به العرب في أشعارهم وأخبارهم , وتقع المعارك بسبب جوار رئيس قبيلة لشخص واحد.
وقد تكون الإجارة لظالم وقاتل مع الإستعداد لدفع الدية عنه , ويذم الذي ينكث بعهد الجوار .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إتساع حكم الإسلام عدم حدوث إجارة منه , فلم تذهب جماعة أو قبيلة للإستجارة منه , باستثناء أفراد خرجوا إلى الشام لإمتناعهم عن دخول الإسلام , ومن غير أن يحملهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على دخوله بالإكراه ولكنهم أردوا تحريض الدول الكبرى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات نشأة دولة الإسلام في المدينة , كما في خروج أبي عامر الراهب الذي دعاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام في بدايات الهجرة فأبى عليه , ثم خرج ومعه نحو خمسين من الأوس إلى مكة وصار يستنفر قريشاَ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاء معهم في معركة أحد , وقاتل , وسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا عامر الفاسق واسمه (عمرو بن صيفي بن زيد بن أمية بن ضبيعة ويقال اسم أبو عامر الراهب عبد عمرو ابن صيفي بن زيد بن أمية بن ضبيعة وقال ابن صيفي بن النعمان بن مالك بن أمية بن شبيعة بن زين بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة الأنصاري الأوسي)( ).
وكان إلى جانب المسلمين ابنه حنظلة غسيل الملائكة الذي استشهد في ذات المعركة.
وحينما جاء مع جيش قريش في معركة أحد ثم ورأى عجز قريش عن تحقيق النصر في معركة أحد وسخط قريش عليه لأنه وعدهم بخروج شباب الأوس لنصرته ولكنهم شتموه ,(ذهب إلى ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عامر على دين هرقل ممن تنصر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم ، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين.
فبنوا مسجداً في الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبى عامر الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.) ( ).
ونزل قوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] ( ).
(فلما فتحت مكة لحق بهرقل هارباً إلى الروم فمات كافراً عند هرقل وكان معه هناك كنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثة فاختصما في ميراثه إلى هرقل فدفعه إلى كنانة بن عبد ياليل وقال لعلقمة هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.
وكانت وفاة أبي عامر الراهب عند هرقل في سنة تسع وقيل في سنة عشرة من الهجرة) ( ), أي بعد فتح مكة بنحو سنة واحدة , لينقطع ضرره في إثارة الملوك .
وهرب صفوان بن أمية من مكة عند فتحها لشدة إضراره بالمسلمين وكثرة عدد الذين قتلهم وتآمره ومكره ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تسعه الأرض , وبقي حيراناَ , بينما اسلمت امرأته ناجية بنت الوليد بن المغيرة , وبادر ابن عمه عمير بن وهب فاحضر له أماناَ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعاد إلى مكة ورد إليه زوجته .
وهو من المؤلفة قلوبهم , واستعار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاَ وأعطاه من غنائم حنين حتى طابت نفسه , قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
وهل الإجارة بين الناس في الأرض من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) الجواب نعم , ليدرك الإنسان عجزه عن النيل من خصمه المستضعف والتأريخ ملئ بقصص الإجارة , والتفاخر فيها .
لتكون الإجارة نوع عهد أخلاقي ، وتتجلى في حفظ الأمن في البلاد والتقيد بالضوابط والقوانين ، ومساهمة المسلم في الإستقرار والتعاون والتكافل الإجتماعي بمفهوم الملة أو المواطنة.
والإجارة باعث أخلاقي وتعاهد للذمم , وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسأل وفود القبائل في الحج بايوائه والذب عنه , ودفع أذى قريش عنه , فهدى الله عز وجل وفد الأوس والخزرج للإيمان برسالته وإيوائه وأصحابه المهاجرين ونصرته .
لتكون بداية استئصال الإرهاب في الجزيرة ودعوة الأجيال بالإمتناع عن الظلم والتعدي وعدم جعل الإنسان يهاجر من بلده طلباَ للسلامة والأمن .
وفي التنزيل[قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ).
قانون التضاد بين السلم والإرهاب
لقد نزل القرآن بذم الإرهاب ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( ).
وجاءت آيات كثيرة في ذم الظلم وبيان سوء عاقبته , وأنه لا يجلب النفع لصاحبه أو غيره , قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( ) وهل تشمل الآية أعلاه الإرهاب.
الجواب نعم لأنه فرع الظلم , وشعبة منه , قال تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( ).
بينما تضمنت آيات القرآن الثناء على المؤمنين وصبرهم وطاعتهم لله عز وجل .
ووردت السنة النبوية بتأكيد أبوة إبراهيم للمسلمين ، ومنه ما ورد عن زيد بن أرقم قال (قلنا يا رسول الله ، ما هذه الأضاحي؟
قال سنة أبيكم إبراهيم قال : فما لنا فيها يا رسول الله؟
قال : بكل شعرة حسنة .
قالوا : فالصوف؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة) ( ).
وزيد بن الأرقم من الخزرج من الأنصار ، وهم من القحطانية وليس من عدنان .
وشهد زيد بن الأرقم مع الإمام علي عليه السلام صفين .
وهو الذي حينما رآى عبيد الله بن زياد (ينكت بقضيبه بين ثنيتي الحسين، فقال له زيد بن الأرقم: ارفع قضيبك عنها، فلقد رأيت شفتَي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم بكى، فزجره ابن زياد فخرج مغضبَاً) ( ).
وتوفي زيد بن أرقم في الكوفة سنة ثماني وستين للهجرة .
ومن معاني أبوة إبراهيم عليه السلام للمسلمين هدايتهم لسنن الرحمة مع الناس جميعاَ , فمع أن قوم إبراهيم يعبدون الأوثان فانه لم يؤذهم وكان يدعوهم إلى الله عز وجل وبالموعظة الحسنة , وتوجه لكسر ذات الأصنام .
وللدلالة على التسمية المتقدمة للمسلمين وعلى لسان الأنبياء دعوة لهم للسلم المجتمعي , وبشارة سيادة السلام والأمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن معاني هذه التسمية أن إبراهيم يتطلع إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باشاعتهم السلم والسلام في أرجاء الأرض ، وهو المستقرأ من تسمية المسلمين.

قانون المعاملة سلم
المعاملة مصدر عاملته معاملة ، وهي عنوان لكيفية التصرف العام ، وحال الإنسان في البيع والشراء ، والإجارة والديون ، والأخلاق والعشرة مع القريب ، والألفة مع البعيد ، والأمانة والصدق ، قال تعالى [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ( ) .
(والمُجامَلَةُ: المعاملةُ بالجَميلِ. ورجلٌ جُماليٌّ بالضم والياء مشدّدة، أي عظيم الخَلْقِ) ( ).
(والمعاملة في كلام أهل العراق: هي المساقاة في كلام الحجازيين) ( ).
وتتضمن آيات القرآن الحضّ على حسن المعاملة والأمانة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) والخلق الحسن ملكة وسجية تتجلى في المعاملة والعشرة والرفعة ولغة الخطاب ، والنسبة بينه وبين الإرهاب هو التضاد .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التحلي بحسن المعاملة ليكون برزخاً دون العنف والتطرف والتكفير والسب والشتم ، وفيه دلالة على لزوم إجتناب الإرهاب بالأولوية القطعية .
ونظّم القرآن دستور المعاملة مع أهل الملل كافة ، برداء السلم والأمن العام ، قال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل ببعثة الأنبياء خروج الناس من الظلمات إلى أنوار الهدى ، وتعاهد الكليات الضرورية لإستدامة الحياة ، الدين ، النفس ، العرض، العقل ، المال .
وآيات السلم رحمة في المقام لذا فهي محكمة غير منسوخة .
وتختلف علوم إعجاز الآية الغيري بلحاظ موضوعها وما فيها من الأحكام والسنن إلا أن هناك قانوناً عاماً وهو لابد للآية القرآنية من إعجاز غيري في كل من :
الأول : دلالتها .
الثاني : غاياتها ، والمقاصد السامية منها .
الثالث : العلوم التي تتضمنها.
الرابع : منافعها أيام التنزيل .
الخامس : الحاجة إلى الآية بلحاظ أسباب النزول .
السادس : تلاوة أجيال المسلمين للآية القرآنية .
السابع : البركات والفيض المترشح عن رسم وتلاوة الآية .
الثامن : العمل بأحكام الآية القرآنية .
التاسع : تأديب الآية القرآنية للمسلمين والمسلمات وتنميتها لملكة الصلاح في النفوس والمجتمعات ، لتكون واقية ذاتية من الإرهاب ، ومادة للزجر عنه ، وبيان حرمته وأضراره بالدليل القرآني .
العاشر : قانون منافع الآية القرآنية كل يوم إلى يوم القيامة .
ومنها آيات السلم وسلامتها من النسخ لبقاء دلالتها والمقاصد السامية منها متجددة إلى يوم القيامة .
ويدل عليه الخطاب في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار] ( )ومن الحسنة في الدنيا حسن المعاملة من الطرفين ، إن سعي المسلم لخلو معاملته من الكدورة والغضاضة واقية وحرز من العنف والإرهاب والظلم .
فهو متجدد في كل يوم ،ويجعل وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلوات اليومية الخمس هذا الخطاب وعموم حكمه حاضراً في الوجود الذهني العام ، وفي المنتديات والمجتمعات ، وقرار السلطات وأصحاب المشورة ، قال تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ) .
وهل الشورى في الآية شاهد على سلامة آيات السلم من النسخ ، الجواب نعم ، وهو الذي تدل عليه الوقائع والوجدان .
ويبعث تأسيس هذا العلم في هذا السِفر العلماء للتدبر في معاني ومفاهيم الآية القرآنية ، وما يترشح عنها من الخير ، فهي نعمة نازلة من السماء تفيض بالرزق الحسي والمعنوي .
وهل يمكن تأسيس علم الإعجاز الغيري للجمع بين الآيتين من القرآن ، الجواب نعم ، ويمكن ضمه إلى علم سياق الآيات ، والأولى جعله مستقلاً.
لقد كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً ووثيقة ينظم الصلات بين المهاجرين والأنصار ، والصلات مع اليهود في السنة الأولى للهجرة .
وهو من الوحي في تحقيق التعايش السلمي بين أفراد المجتمعات وأن اختلفت المذاهب والملة ، والقومية والعرق ، والتي تسمى باسماء متعددة منها :
الأول : صحيفة المدينة .
الثاني : كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل المدينة .
الثالث : دستور المدينة ، وهذه التسمية مستحدثة.
ومنها (وأن يهود بني عوف ومواليهم وأنفسهم أمة من المؤمنين، لليهود دينهم، وللمؤمنين دينهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يرتغ إلا نفسه وأهل بيته) ( ).
وكذا معاهدة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وفد نجران وجاء أولها (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمّدٌ النّبِيّ رَسُولُ اللّهِ لِنَجْرَانَ) ( ).
ومنها (وَلِنَجْرَانَ وَحَسْبُهَا جِوَارُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَتَبَعِهِمْ وَأَنْ لَا يُغَيّرُوا مِمّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَا يُغَيّرُ حَقّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا مِلّتِهِمْ وَلَا يُغَيّرُ أُسْقُفٌ مِنْ أُسْقُفِيّتِهِ وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيّتِهِ وَلَا وَافِهٍ عَنْ وَفَهِيّتِهِ وَكُلّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رِيبَةٌ وَلَا دَمُ جَاهِلِيّةٍ وَلَا يُحْشَرُونَ وَلَا يُعْشَرُونَ وَلَا يَطَأُ أَرْضَهُمْ جَيْشٌ وَمَنْ سَأَلَ مِنْهُمْ حَقّا فَبَيْنَهُمْ النّصْفُ غَيْرَ ظَالِمِينَ وَلَا مَظْلُومِينَ) ( ).
قانون الصيام حصن من الإرهاب
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) .
وعن الإمام عليه السلام قال : ليس في القرآن يا أيها الذين آمنوا الا وفي التوراة يا أيها المساكين.
و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: “مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةُ ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ” إِلا أَنَّ عَلِيّاً شَرِيفُهَا وَأَمِيرُهَا وَسَيِّدُهَا، وَمَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ إِلا قَدْ عُوتِبَ فِي الْقُرْآنِ إِلا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُعَاتَبْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ”)( ).
وقال ابن مسعود (إذا قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنها خير تؤمر به أو شر تنهى عنه ) ( ).
والخطاب التشريفي (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) انحلالي إلى أجيال المسلمين للذكور والأناث يشمل كل من أقر بالدعوة الظاهرة ، لذا فالنسبة بين المؤمنين والذين آمنوا عموم وخصوص مطلق.
ومن إعجاز هذه الآية الغيري أمران :
الأول : تلقي المسلمات الصيام كتكليف موجه اليهن ، مع وروده بصيغة التذكير.
الثاني : تسليم أجيال المسلمين والمسلمات بتوجه خطاب التكليف لهم فما أن يبلغ المسلم والمسلمة سن التكليف حتى يقوم بأداء فريضة الصيام بغبطة وسعادة ، فيشترك بالصيام الأب والابن أو الجد والأب والأم والابن والبنت في آن واحد ، في مظهر عبادي أُسري لم يحدث مثله في التأريخ وهو من أسباب إشاعة مفاهيم التقوى لذا أختتمت آية الصيام أعلاه بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ].
فلما يغادر الأب الدنيا إلا وقد حمل ابنه وبنته لواء الصيام ليكون تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام فامتثلتم للأمر ، ليشكركم الله عز وجل عليه ويهديكم الى سنن التقوى والخشية من الله عز وجل .
وفي حديث رفاعة عن العالم : أتدري يارفاعة لم سمي المؤمن مؤمناً ، قال : لا أدري.
قال : لأنه يؤمن على الله فيجيز أمانه).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : (ما سلت السيوف ولا اقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف ولا جهر بأذان ولا أنزل الله ” يا أيها الذين آمنوا ” حتى أسلم أبناء القيلة: الاوس و الخزرج) ( ),( ).
ورفاعة من أصحاب الإمام الصادق والكاظم ، وكان واقفياً ، وهو على قيد الحياة قبل سنة 183 .
كما كتب على الذين من قبلكم : وحدة الموضوع بخصوص المؤمنين و(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى الْأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ ) ( ).
وبالإسلام تحقن الدماء ، ويكون التوارث والنكاح ، وهو سابق للإيمان ، والنسبة بين الصيام والتقوى ليست التساوي أو العلة والمعلول ولكنه من الجزء والكل ، ومن المقدمة وذيها ، وقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] بشارة الفوز بالثواب العظيم يوم القيامة ، قال تعالى [تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا]( ).
ومن خصائص الصيام أنه زاجر سنوي عن الظلم والفجور ، فيحبس فيه المسلم جوارحه عن القبيح وفعل السوء ليكون هذا الحبس سجية في أيام السنة كلها .
وتقدير خاتمة الآية : لعلكم تتقون الله في كل أيام السنة .
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم) ( ).
و(قال عنترة : قلت لعلي عليه السلام: لأي شيء سُميت هذه الأيام البيض؟( )
قال : لما أهبط آدم ج من الجنّة إلى الأرض أحرقته الشمس. فاسوّد جسده ثمَّ صام اليوم الثالث. فأتاه جبرئيل فقال : يا آدم أتحب أن يبيض جسدك ؟
قال : نعم،
قال : فصم من الشهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر فصام آدم ج أول يوم فابيض ثلث جسده،
ثمَّ صام اليوم الثاني فابيض ثلثا جسده،
ثمَّ صام اليوم الثالث فابيض جسده كلّه فسُميت أيام البيض) ( ).
و(عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفِّعْني فيه ، قال : فيشفعان .
وأخرج أبو يعلى والطبراني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أن رجلاً صام يوماً تطوعاً ثم أعطى ملء الأرض ذهباً لم يستوف ثوابه دون يوم الحساب .
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) ( ).
وفي الحديث أعلاه بيان بأن في سبيل الله لا يعني الجهاد والقتال إنما يتحقق بالعبادات والمناسك ، وإذا كام الصيام يوماً واحداً في سبيل الله فان أداء الصلاة خمس مرات في سبيل الله من باب الأولوية .
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى) ( ) .
ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوب أداء الفرائض العبادية ، وتوجه الخطاب فيها لكل مسلم ومسلمة على نحو الوجوب العيني لأنها تنزه من الإرهاب وعصمة من الظلم والجور والإضرار بالناس .
وجاءت الرخصة بالإفطار للمريض والمسافر ، قال تعالى [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) وفيها مسائل :
الأولى : التخفيف عن المسلمين .
الثانية : إدراك المريض والمسافر وجوب قضاء الصوم على كل منهما ، مما يجعله حتى في أيام الرخصة متقيداً بآداب شهر رمضان ، والإمتناع عن الظلم فيه .
الثالثة : نفي الحرج في أداء العبادات بالرخصة والإذن للذي لا يستطيع أداء العبادة أو يستطيع ولكن بمشقة .
الرابعة : وحدة أداء المسلمين للفريضة ، كيفية وأجزاء وزماناً وإن تباينت وتعاقبت أجيالهم .
وهو من الشواهد على إنتفاء التحريف في أحكام الشريعة الإسلامية ، ترى ما هي النسبة بين هذا الإنتفاء وبين سلامة القرآن من التحريف .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، والأصل هو سلامة القرآن من التحريف مقترناً بالسنة النبوية ، فلم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا بعد أن أتقن الصحابة أداء الفرائض العبادية , ليتجلى قانون تعاهد الفرائض العبادية برزخ وحاجب دون الظلم والجور والتعدي .
ومن خصائص الصيام أنه حرز ذاتي متجدد في كل آن من آنات نهار الصيام وحبس للجوارح والغرائز , وكف اللسان من الشتم والسب والغيبة وإهانة الغير , ليكون من باب الأولوية الإمتناع عن الإضرار بالناس .
والصيام عبادة ملاكها الخشوع والخضوع لله عز وجل , لا يشوبها الرياء وحب الدنيا وفيها إقرار عملي باليوم الآخر , وعالم الحساب , ولزوم النجاة من النار يومئذ , لقد أحبً الله عز وجل المؤمنين فهداهم إلى الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الفرائض لتهذيب النفوس , وإصلاح المجتمعات , وصيرورة الناس على اختلاف مذاهبهم في مأمن من المؤمن ولم يكن الصيام خاصاَ ببعض المفطرات دون بعضها الآخر , أو لاسبوع ونحوه , إنما هو أفراد زمانية غير ارتباطية لشهر كامل مع التشديد بالكفارة لمن أفطر عمداَ بوجوب إطعام ستين مسكيناَ عن كل يوم , ومقدار الإطعام لكل واحد مدً من الطعام أي نحو كيلو إلا ربعاَ .
لبيان موضوعية تعاهد الفرائض العبادية وإعانة الفقراء , وكل منهما باعث للرحمة في القلوب , وصارف عن الظلم والإرهاب .
والصيام عنوان وحدة المسلمين في العبادات ليكون من معاني خاتمة آية الصيام (لعلكم تتقون) تعاون المسلمين والمسلمات في تثبيت معاني ومفاهيم الود والبر وحسن الصحبة والمنافع الإقتصادية العامة , والإمتناع عن القطيعة وأسباب النفرة مع الناس.
ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في قوله تعالى [الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ) في آية الصيام ، وهل يشمل المؤمنين من الأمم السابقة مطلقاً أم خصوص اليهود والنصارى بصفتهم أهل الكتاب سماوي ، ومن خصائص الكتاب نزوله بفريضة الصلاة والصوم .
الصحيح هو الأول ، فالصيام مفروض من أيام أبينا آدم ، لبيان قانون وهو الملازمة بين الحياة الدنيا وبين الصيام.
قانون شهر رمضان من الشعائر ( ).
من إعجاز القرآن ضبطة للمواقيت في السنة والشهر والاسبوع واليوم.
وذكر فيه يوم الجمعة ويوم السبت لتثبيت أيام الأسبوع بأسمائها والعناية بالتواريخ والحساب , ومن ملك الله عز وجل للأرض والسماء مجتمعة , وتسخيرها للناس تفضل الله عز وجل بجعل أصل الحساب بآيات كونية مرئية لكل الناس تتجلى في إطلالتها على الأرض معاني اللطف والرحمة الإلهية بذات الأطلاقة ومنافعها المتعددة كشروق ومغيب الشمس , والأهلة , وصيرورة القمر بدراَ , وذات تعاقب الليل والنهار إذ يثني الله عز وجل على نفسه وبديع خلقه بهذه الآية قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ), ( ).
وقد انفرد شهر رمضان بذكره في القرآن بالاسم , لبيان بركته في ضبط أشهر السنة اسماَ ومسمى ووقتاَ وترتيباَ .
والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة والأمارة .
ومن الآيات التي ذكر فيها الشهر بصيغة المفرد أو الجمع :
الأول : قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الثاني : قال تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ] ( ).
الثالث : قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ( ).
الرابع : قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ] ( ).
الخامس : قال تعالى [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] ( ).
السادس : قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ] ( ).
السابع : قال تعالى [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ]( ).
اللهم أهله علينا بالأمن والأمان والسلامة والإسلام والتوبة لما تحب وترضى واعنا على الصيام والقيام فيه .
اللهم أسألك الأمن في اليمن وسوريا والعراق وأوكرانيا.
وهل شهر رمضان من شعائر الله عز وجل فيه وجوه :
الأول : ذات شهر رمضان من شعائر الله عز وجل , فيفيد انتفاع أهل الأرض من بركة شهر رمضان .
الثاني : نزول القرآن في شهر رمضان من شعائر الله عز وجل , قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] ( ).
الثالث : الصيام في شهر رمضان من شعائر الله عز وجل , فتختص الشعيرة بالصائمين والصائمات .
الرابع : انحصار شعائر الله ورد القرآن أربع مرات كلها بخصوص مناسك الحج .
المختار أن الوجوه أعلاه صحيحة باستثناء الوجه الأخير منها .
ونزول القرآن بركة [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ] ( ).
وجاءت الآية بالمبتدأ والخبر (وَهَذَا كِتَابٌ) ثم وصف الكتاب بأنه مبارك ومصدق نعت ثاني للكتاب .
فشهر رمضان من شعائر الله الزمانية والفعلية والتنزيل , وكذا بالنسبة لليلة القدر هي من شعائر الله من جهات :
الأولى : ذات ليلة القدر وبركتها .
الثانية : نزول القرآن في ليلة القدر .
الثالثة : جزئية ليلة القدر من شهر رمضان .
الرابعة : ذكر ليلة القدر في القرآن , قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
خاطبت الآية المسلمين مما يدل على الملازمة بين الإيمان والصيام , وتشمل أحكام الآية والوجوب المنافقين وأهل المعاصي فالصيام باب للتوبة والتحلي بالأخلاق الحميدة وأسباب الصلاح , وفيه تجلية لسنن التقوى .
وتخلية عن الرذائل والأخلاق المذمومة وعن الإرهاب وإخافة الناس إذ تشارك الجوارح والبطن والفرج في الإمساك طاعة لله عز وجل .
ومن بركة شهر رمضان أنه لم يذكر في القرآن اسم شهر غيره , وورد ذكر الأشهر الحرم , قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
وقال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ( ) وهي شهر شوال وذي القعدة وذي الحجة .
وبينهما عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء شهر ذي القعدة , وذي الحجة كل منهما من الأشهر الحرم وأشهر الحج .
ومادة الإفتراق شهر رجب وشهر محرم من الأشهر الحرم وليس من أشهر الحج , وشهر شوال من أشهر الحج وليس من الأشهر الحرم .
أما شهر رمضان فهو ليس من الأشهر الحرم , ولا من أشهر الحج , ولكن له قدسية خاصة تتجدد كل عام , وتجمعه معها البركة والعبادة فليس بينهما نسبة التباين بين الكليين ، وفي شهر رمضان ليلة مباركة هي ليلة القدر .
ونزلت سورة كاملة باسمها وموضوعها وأسباب قدسيتها ، وعظيم شأنها عند الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( ).
قانون دفاع النبي (ص) إزاحة للإرهاب
لقد اتصفت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصية الدفاع ضد قوى الشرك التي اتخذت من الإرهاب المتكرر وسفك الدماء جلباباً.
والمراد من لفظ (المتكرر) أعلاه تعدد وجوه إرهاب قريش ، ومنها التخويف والتعذيب للصحابة ، والحصار الإقتصادي لأهل البيت ، وتجهيز الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولمعان السيوف وتتأثر الأشلاء في معركة بدر وأحد والخندق .
وسيبقى اصطفاف المهاجرين والأنصار خلف وحول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال معجزة حسية خالدة ، وشاهداً بفداء النفوس على صدق نبوته.
وتفضل الله برسالته لإستئصال الإرهاب من الأرض ، ليتعاهد المسلمون مفاهيم السلم في الأرض ، قال تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ.
لقد ابتدأت آية البحث بالخطاب العام [قَدْ كَانَ لَكُمْ] ترى من هم المخاطبون في الآية ، الجواب فيه وجوه :
الأول : إرادة المسلمين والمسلمات .
الثاني : خصوص المهاجرين والأنصار.
الثالث : مشركو مكة وما حولها للكف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة بدر ، وهذا الكف لوجود المانع وفقد المقتضي.
الرابع : إرادة الخطاب للناس كافة أيام التنزيل لما في نصر المسلمين في معركة بدر من الإعجاز لذا سمّت الآية هذا اللقاء بأنه آية.
الخامس : توجه الخطاب لأجيال المسلمين والمسلمات في كل زمان.
السادس : إرادة مخاطبة الناس جميعاً في كل زمان ، وتقدير الآية : يا أيها الناس قد كان لكم آية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث وهل يمكن تقدير شمول الملائكة بالخطاب وتكون : يا أيها الملائكة قد كان لكم آية في فئتين التقتا .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما قالوا أن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ويقصدون المشركين لأن الشرك أظهر وجوه الفساد ، وأشدها قبحاً.
وهو من إعجاز الخطاب القرآني ، وشموله للمحدود والمتسع من غير تعارض بينهما ، فينقطع جيل من الناس ، ويأتي آخر ، وكل جيل يقتبس منه من جهات :
الأول : التدبر في إعجاز القرآن.
الثاني : الإتعاظ .
الثالث : إدراك الناس أن مشركي قريش هم الغزاة.
الرابع : إنتفاء الحاجة للقتال وسفك الدماء.
الخامس : إتخاذ معركة بدر ونصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها مناسبة وسبيلاً للهدى.
السادس : شدة وتعدد ظلم قريش.
السابع : التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر .
وتقدير الجمع بين آية البحث وآية (ببدر) وهو قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) على وجوه :
الأول : لقد نصركم الله بآية ببدر .
الثاني : قد نصر الله ببدر الفئة التي تقاتل في سبيل الله.
الثالث : لقد انهزمت الفئة الكافرة ببدر مع كثرة عددها وعدتها.
الرابع : لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً والصحابة ببدر والله يؤيد بنصره من يشاء.
الخامس : ولقد نصركم الله ببدر إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
السادس : المسلمون فئة تقاتل في سبيل الله دفاعاً.
وذكرت في الجزء الخامس والخمسين من هذا السِفر (وقد غيرت معركة بدر وجه التأريخ وجعلت الأمور تأخذ اتجاهاً مباركاً نحو تثبيت دعائم الإسلام، وتبدلت منازل الجماعات والملل .
وارتقى المسلمون في الميادين العسكرية والإجتماعية لإجتماع الحق والنصر عندهم، بالإضافة الى توالي نزول الآيات ووجود النبوة بين ظهرانيهم، فمعركة بدر لم تكن آية منفردة بل كانت جزء من عدد من الآيات الباهرات، متصلة ومتجددة).
لقد بعث الله عز وجل الخوف في قلوب المشركين ، ومنه أنهم صاروا ينظرون إلى المسلمين وكأنهم ضعفهم ، فاذا كان عدد المشركين في ميدان معركة بدر ألفاً فانهم صاروا ينظرون باعينهم وكأن عدد المسلمين ألفان ، مع أن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر أي أقل من ثلث عدد المشركين في الميدان.
وعندما أسر الصحابة سبعين من المشركين ، سأل الأسرى : كم كنتم ، فقال لهم الصحابة ، ثلاثمائة وبضعة عشرة.
قالوا : ما كان نراكم إلا ضعف عددنا ، لبيان بقاء الآية الحسية وشواهدها حتى بعد انتهاء المعركة.
قانون علم المستقبل في القرآن
ومن إعجاز القرآن الغيري إخباره عما يقع في قادم الأيام بما يبعث السكينة في النفوس ، ويدعو للعمل بآيات السلم ، وعدم نسخها أو تركها وتأتي آية بجملة واحدة تتضمن الإخبار عن الماضي والدلالة على المستقبل كوقائع أو نصر أو فلاح ، ومنه الآية [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
فهي تتضمن أموراَ
الأول : الإخبار عن وقوع صلح الحديبية
الثاني : إنقطاع أيام القتال والخوف من المسلمين.
الثالث : قانون صيرورة قريش عاجزة عن محاربة الإسلام ووقف التنزيل .
الرابع : قانون ترغيب الناس بدخول الإسلام .
الخامس : قانون دعوة المسلمين في كل زمان إلى الصلح والموادعة والتسليم بأنه طريق الفتح والنصر والظفر لأن سلاح النبوة المعجزة.
السادس : قانون بعث النفرة من القتال والإرهاب .
السابع : قانون اتخاذ الصلح منهاجاَ وإجتناب الإعراض والإمتناع عن الدعوة إليه , قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
الثامن : قانون إنتفاء سبق وتقدم الشروط على الصلح فلا توضع الشروط من أجل الصلح .
التاسع : قانون الصلح استئصال للإرهاب .
العاشر : من معاني (المبين) في وصف النصر سعة وتجدد منافعه إلى يوم القيامة.
الحادي عشر : قانون إزاحة العوائق دون الدعوة إلى الله ليقابل من المسلمين بالشكر لله عز وجل ، ومن معاني الشكر في المقام المسالمة والموادعة والإحسان مع الناس جميعاً.
الثاني عشر : قانون الصلح مناسبة لتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة الناس بها بعيداَ عن العصبية والحمية والثأر .
الثالث عشر : كشف صلح الحديبية عن علم الغيب بصيرورة هذا الصلح فتحاَ ، ومنافع عظيمة ستترتب عليه ، وتتفرع عنه إلى يوم القيامة ، ومنه دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة محررين .
ويحتمل حال أهل مكة عند دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في شهر رمضان من السنة الثامنة وهو عام الفتح وجوهاً:
الأول : المسلمون هم الأكثر في مكة .
الثاني : لا زال المشركون هم الأكثر في مكة .
الثالث : نسبة التساوي بين الفريقين .
والمختار هو الأول ، فقد غلب الإسلام على أهل مكة ، ولم يعد المسلمون والمسلمات من أهلها يخشون المشركين.
وهل لآيات القرآن وخصوص آية البحث أعلاه موضوعية ، الجواب نعم ، إذ تنفذ البشارات والإنذارات التي في آيات القرآن إلى شغاف القلوب.
وهل يكون أثرها أكبر بجوار البيت الحرام ، المختار نعم ، وهو من بديع صنع الله عز وجل في اختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الحرم ومن ذرية إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى حكاية عن إبراهيم[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
ومن معاني وصف هذا الفتح بأنه مبين إدراك الصحابة الذين حضروا الصلح والأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خشية وخوفاً من قريش وعامة الناس أن الصلح تم بفضل وإحسان من عند الله عز وجل ، وأنه أحسن وأعظم من النصر في ميدان المعركة .
وقد وصف الله عز وجل نتيجة معركة بدر بأنه نصر من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعامة المسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
وهل يمكن تقدير الآية بأنه نصر للناس جميعاَ , فتقدير يا أيها الناس لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ , الجواب إذ يدل نظم الآيات والواقع وصيغة الخطاب على نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المعركة نعم هي نصر للإسلام وأجيال المسلمين , وتكون بلحاظ خواتيم الأمور على أن معركة بدر نصر للإنسانية والناس جميعاَ .
إنها بداية استئصال الظلم والجور وفضح وانحسار الإرهاب , وتقدير الآية : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة لتكونوا أعزة تتنزهون عن الظلم وتذبون عن المظلوم .
أما صلح الحديبية فقد وصفه الله بالفتح , والمفتاح لغيره من المغالق وسبل الهداية والرشاد للناس .
ويمكن تقسيم علوم الغيب في القرآن إلى شعب :
الأولى : علم الغيب القريب الذي يحدث في اليوم والليلة ،وقد يكون من أسباب النزول الظاهرة .
الثانية : علم الغيب في المستقبل القريب والمنظور .
الثالثة : علوم القرآن الغيبية في المستقبل البعيد .
الرابعة : مواطن وأهوال يوم القيامة , وعالم الحساب والجزاء.
الخامسة : مجئ آية بالجامع بين علم الغيب القريب والبعيد , كما في قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
ففي الآية تخويف ووعيد للذين كفروا بأن نتيجة غزوهم للمدينة هي الهزيمة والخسارة والإنكسار وأن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم ينتصر عليهم , وأنهم لابد وأن يحشروا في الآخرة , وتكون عاقبتهم دخول النار.
وقد تكون الآية جامعة للغيب في المستقبل القريب والبعيد مع التباين في الكيف والكم ، ومنه قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ) وعن عطاء في الآية قال (هم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (لابد أن يكون قدام القائم سنة تجوع فيها الناس، ويصيبهم خوف شديد من القتل، ونقص من الأموال والانفس والثمرات فان ذلك في كتاب الله لبين ثم تلا هذه الاية وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ( ) .
ومنه قوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ) .
والنسبة بين علوم الغيب وعلوم المستقبل والإخبار عنه في القرآن هو العموم والخصوص المطلق ، فعلوم الغيب أعم وأكثر .
ليكون من معاني آية البحث التسليم بقضاء الله ورجاء فضله وهباته مما خلق في السموات والأرض , وكل هذا التسليم والرجاء زاجر عن الإرهاب وباعث للنفرة منه , وفيه إدراك الغنى عنه , وأنه ضرر محض على الذات والغير عند وقوع العمل الإرهابي ، وفي المستقبل المنظور.
قانون السلم بلحاظ سياق الآيات
من إعجاز القرآن وتعدد وكثرة ما فيه من الأصول التي تستنبط منها الأحكام مثل :
الأول : مضامين الآية القرآنية .
الثاني : الأوامر .
الثالث : الأمر من الله عز وجل إلى البدء (قل) والذي ورد في القرآن (228) مرة , وفيه مدرسة في أصول الأحكام واستنباط المسائل القرآنية والنواهي في القرآن .
الرابع : البشارة والإنذار في القرآن .
الخامس : قصص الأنبياء والأمم السابقة .
السادس : أهوال يوم القيامة وأحوال الناس فيها .
السابع : قانون الحقوق والواجبات في القرآن .
الثامن : السنة النبوية في القرآن .
التاسع : باب آيات الأحكام .
العاشر : المعاملات في القرآن مثل البيع والشراء والديون والرهن والزراعة .
الحادي عشر : قانون الميثاق في القرآن .
الثاني عشر : القواعد الفقهية المستمدة من آيات القرآن مثل :
الأولى : قاعدة حلية البيع لقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ]( ).
وهل تدل على حلية الشراء أيضاَ الجواب نعم .
الثانية : قاعدة نفي العسر والحرج لقوله تعالى [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ] ( ).
الثالثة : أصالة الإباحة لقوله تعالى[هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] ( ).
الرابعة : قد تذكر الآية القرآنية بلفظها والنص كقاعدة كما في قوله تعالى [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ] ( ).
الثالث عشر : سياق الآيات , ومعاني الآية القرآنية بلحاظ نظمها وصلتها الموضوعية مع الآيات السابقة واللاحقة لها , ويمكن تسمية هذا العلم (علم الذخائر) لما فيه من الكنوز العلمية , وإمكان استلهام عشرات ألآف القوانين والقواعد منه , وقد تفضل الله عز وجل علينا بصدور أجزاء من هذا التفسير بخصوص هذا العلم منها :

  • الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
  • الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
  • الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران.
    قانون منع الإرهاب من النهي عن المنكر .
    لقد نزل القرآن بوجوب النهي عن المنكر , وفي آيات متعددة منها [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
    وتتجلى سبل النجاة في النشأتين بالأمر والنهي من منازل الإيمان , وتلقيه بالقبول أيضاَ بصفة الإيمان والمصلحة المشتركة .
    وقد اقترن هذا النهي بوجوب الأمر بالمعروف ، وكأن هناك ملازمة بينهما مع أن كل فرد منهما مستقل عن الآخر ولكنهما متصلان في وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
    ولبيان أن الإسلام تكاليف متعددة في حسن الخلق , وتضمنت الآية الثواب العظيم والسعادة الدائمة على هذا الأمر والنهي , وبصيغة العموم والإطلاق .
    ولم تقل الآية يأمرون (بعضهم بعضاَ) مع ورود هذا اللفظ أربع مرات في القرآن ومنه قوله تعالى [لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا] ( ).
    ويبعث وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تفقه المسلمين في الدين للحاجة إلى البصيرة والمعرفة بتعين موضوع الأمر وكيفيته وأوانه , وكذا بالنسبة للنهي فلا يرتقي الإنسان إلى مرتبة الآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر إلا بمعرفة أفرادهما ومصاديقهما ولو على نحو الإجمال , والمعروف هو ما أمر الله عز وجل به سواء على نحو الوجوب مثل الصلاة والصيام أو الندب مثل الصدقة المستحبة وإعانة الناس .
    أما المنكر فهو ما نهى الله عز وجل عنه مثل الظلم والفحشاء , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ).
    ومن الفقاهة في المقام القيام بالأمر والنهي وفق الشريعة بصيغ اللطف والإحسان والكلمة الطيبة سواء مع المسلم أو الكتابي أو عامة أهل الأرض.
    وقد تجلى إطلاق هذه الكيفية في قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) .
    فلا يصح الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر بالتغليظ أو العنف, ومن باب الأولوية لا يصح الإرهاب في المقام , فليس فيه دعوة إلى الخير وهو من أسباب النفرة والكدورة .
    وهو من الموضوع الذي يشمله الأمر والنهي , فلابد من الأمر بالأخلاق الحميدة وحسن العشرة , والرفق والكلام الطيب مع الناس جميعاَ على اختلاف مشاربهم والنهي عن الإرهاب والعنف والإضرار بالناس .
    ومع طغيان فرعون وغروره وادعائه الربوبية , قال تعالى في خطابه وأمره إلى موسى وهارون [فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] ( ) .
    مما يدل بالأولوية القطعية على لزوم اللطف مع عامة الناس وعدم اتخاذ وسائل الإرهاب آلة وواسطة للدعوة إلى الله ، لأن الله عز وجل بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاَ , وصارت نبوته ونبوة الأنبياء السابقين مناسبة لنزول البركة على أهل الأرض , والأصل تعاهدها والسعي في استدامتها , وتجلي مصاديقها اليومية .
    قانون الإرهاب نقيض مواثيق القرآن
    يقال وثقت الشئ أي أحكمته .
    وواثقه أي عاقده وعاهده .
    ويقال تجارة موثوق بها أي فيها ربح وفائدة محرزة .
    والوثاق ما يربط به الشئ .
    يأتي الميثاق مترشحاً عن اليمين والعقد .
    والوثقى تأنيث الأوثق ، قال تعالى [وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى] ( ) لبيان أن تعاهد المواثيق ، والتنزه عن الإرهاب سبيل النجاة في النشأتين .
    ويقال رجل ثقة ، وصديق ثقة ، وجار ثقة للثناء وبيان الإطمئنان من ناحيته ، والمسلم أولى بهذا الثناء سواء جاء من مسلم أو كتابي أو غيرهما ، وفي بلاد إسلامية أو عموم بلدان الأرض .
    وقد ورد لفظ [مِيثَاقًا غَلِيظًا] ثلاث مرا ت في القرآن بصيغة النصب ، ولم يرد بصيغة الرفع أو الجر ، إذ ورد في الآيات :
    الأول : قال تعالى [وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
    الثاني : قال تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
    الثالث : قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
    لبيان مرانب الميثاق ، وأنه من الكلي المشكك ، ولكن كل واحد من المواثيق يجب تعاهده والوفاء به ، وجاء الميثاق في الآيات أعلاه في العقائد ، وتبليغ الرسالة وأحكام الشريعة .
    وفي بني إسرائيل وفي المعاملات وبيان سمو ورفعة شأن الزواج ، وأنه لا ينحصر بالعقد أو الوطئ والإستمتاع ، إنما هو ميثاق غليظ منه تعاون الزوجين في تعظيم شعائر الله ، وأداء الفرائض العبادية .
    وهل أخذ الناس ميثاق من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتنزه المسلمين عن الإرهاب ، الجواب نعم من جهات :
    الأولى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، وسيد المرسلين .
    الثانية : لقد نشأت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط إرهاب شديد من المشركين ، وتلقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ، مما يلزم المسلمين التأسي به .
    الثالثة : بيان فضل الله ووعده الكريم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فلابد من مصاديق لهذه الرحمة العامة في كل يوم من الحياة الدنيا ، وما الإرهاب إلا ضد له .
    وقال تعالى [أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ] ( ) لبيان الأولية بخصوص المسلمين من جهات :
    الأولى : قانون أخذ الميثاق من الله على المسلمين .
    الثانية : تعاهد المسلمين للميثاق ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية صلاة المسلم خمس مرات في اليوم وفي أوقات متعددة ، ومبينّه بلحاظ آيات كونية يومية فاصلة كطلوع الفجر وزوال الشمس عن كبد السماء عند الظهيرة ، وصلاة العصر ، وصلاة المغرب عند غروب الشمس وصلاة العشاء .
    الثالثة : لزوم فعل الحق والعدل والإنصاف من باب الأولوية ، إذ ذكرت الآية أعلاه قول الحق ، والفعل أعلى مرتبة من القول في الجملة فلابد من إتصافه بالصلاح وعدم الإضرار بالناس أو إشاعة الخوف بينهم .
    قراءات القرآن
    المختار أن من معاني قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) إرادة الأجر والثواب بهذا الإستماع ، والتدبر في معاني الآية القرآنية ، والإنتفاع الأمثل من القراءة والإستماع ، وهل فيه مدد وعون على القراءة بها ، الجواب نعم ، وتقدير الآية بلحاظ قانون (التفسير بالتقدير ) على وجوه :
    الأول : إذا قرئ القرآن ففيه الرحمة والبركة .
    الثاني : وإذا قرئ القرآن في الصلاة ، وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام (وإذا قرئ القرآن ” يعني في الفريضة خلف الامام ” فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ( ).
    الثالث : وإذا قرئ القرآن فلابد أن يقرأ القرآن في كل زمان .
    الرابع : وإذا قرء القرآن بالتسليم بأنه كتاب الله عز وجل .
    الخامس : وإذا قرئ القرآن فتدبروا في معانيه .
    السادس : وإذا قرئت أي آية من القرآن فاستمعوا .
    السابع :وإذا قرئ كلام الله فاستمعوا له .
    الثامن : وإذا قرئت سورة من القرآن فاستمعوا .
    التاسع : وإذا قرئ القرآن في البيت فاستمعوا له .
    العاشر : وإذا قرئ القرآن في المصاحف فاستمعوا له .
    الحادي عشر : وإذا قرأ أحدكم القرآن فاستمعوا .
    الثاني عشر : وإذا قرئ أحدكم القرآن من ظهر قلب فاستمعوا له .
    الثالث عشر : وإذا قرئ القرآن في المذياع فاستمعوا له .
    وهل الإستماع لقراءة القرآن من الحاكية والتلفاز واجب ، الجواب لا ،إنما هو مستحب ومن غير إحراج لقوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( )، فمن إعجاز القرآن مجئ اللفظ والأمر الواحد يتضمن الوجوب والإستحباب معاً بحسب الحال واللحاظ .
    الرابع عشر : وإذا قرئ القرآن على نحو الوجوب أو الإستحباب .
    الخامس عشر : وإذا قرئ القرآن لكم بكل حرف عشر حسنات.
    السادس عشر : وإذا قرئ القرآن فهو كلام الله .
    السابع عشر : وإذا قرئ القرآن فتدبروا معانيه ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
    الثامن عشر : لابد أن يقرأ القرآن كل يوم ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    التاسع عشر : فاذا قرئ القرآن نزلت البركات على الناس .
    العشرون : فاذا قرئ القرآن يمحو الله ما يشاء من البلاء .
    الواحد والعشرون : فاذا قرئ القرآن فاستمعوا له ، فانه من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
    المشترك اللفظي
    الإشتراك خلاف الأصل ، والشرك ظلم للذات والغير ، بأن يجعل الكافر شريكا لله عز وجل ، وهو الإله الملك الرب للخلائق كلها ، وفي تلاوة كل مسلم ومسلمة كل يوم سبع عشرة مرة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) في الصلاة طرد للشرك عن النفس والغير ، فهذه القراءة حرب يومية على الشرك إلى يوم القيامة ، وهل هي حرب على الإرهاب والظلم ، الجواب نعم خاصة في هذا الزمان بلحاظ إنصراف الإطلاقات إلى المصاديق المتعارفة والرضا بالنعم ، والإنشغال بالشكر لله عليها ، وهو من أسرار بقاء الآية القرآنية غضة طرية .
    وإذا كان لقمان قد أوصى ابنه [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ) فان الأبوين في الإسلام يؤدبان أولادهما كل يوم بآية الحمد أعلاه مع آيات سورة الفاتحة الأخرى لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث (فإذا قال العبد (إياك نعبد) قال الله عز وجل : صدق عبدي إياي يعبد، لاثيبنه عن عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي.
    فإذا قال (وإياك نستعين) قال الله عزوجل بي استعان وإلى التجأ ، اشهدكم لاعيننه على أمره ولاغيثنه في شدايده، ولاخذن بيده يوم القيامة عند نوائبه.
    وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم) ( ) إلى آخرها، قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي، وأعطيته ما أمل، وآمنته مما منه وجل) ( ).
    علم إحصاء الأوامر والنواهي في القرآن
    لقد ابتدأ نزول القرآن بقوله تعالى [اقْرَأْ] لبيان قانون الإسلام دين العلم والمعارف ، ومن خصائص الآية القرآنية وجوه :
    الأول : قانون الآية علم .
    الثاني : قانون ترشح العلوم عن الآية القرآنية .
    الثالث : قانون استقراء العلوم بالجمع بين آيتين أو أكثر .
    الرابع : قانون تلاوة الآية والتدبر فيها علم .
    ومن آيات القرآن ما تتعلق بموضوع الإحصاء ، أو يستقرأ منها الإحصاء ، والإحصاء علم مصاحب للإنسان في حياته اليومية ، وسبل معيشته وخصوص الأسرة وسني العمر التي قد تضبط بلحاظ الوقائع والأحداث .
    ومن إعجاز القرآن إبتداء علم الإحصاء عند الإنسان من يوم خلق الله سبحانه آدم في الجنة ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) فيتجلى الإحصاء في الآية من وجوه :
    الأول : تعليم الله عز وجل لآدم علماً مخصوصاً .
    الثاني : إحصاء الأسماء والتمييز فيها من جهات :
    الأولى : الفصل بين ذات الأسماء .
    الثانية : العلقة بين الاسم والمسمى .
    الثالثة : الموضوع والمادة التي وضع لها الاسم مثل : رجل ، امرأة ، قلم ، شمس ، قمر .
    الثالث : إرادة المجموع وسور الموجبة الكلية بقوله تعالى أعلاه [كُلَّهَا].
    وهل تعلمت حواء علم الإحصاء مع آدم في الجنة ، أم صارت تزاوله عملياً بخصوص الحاجات الشخصية وأمور البيت والأولاد ، الجواب هو الأول .
    فيدل قوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ) على أن آدم عليه السلام قام بتعليم حواء الأسماء بالتبعية خاصة وأنها شاركته تلقي الأمر من الله عز وجل بلزوم الإمتناع عن الأكل من شجرة مخصوصة .
    ثم توجهت الفرائض العبادية إلى الناس جميعاً ذكوراً وأناثاً إلا ما خرج بالدليل باستقلال الرجل أو المرأة به ، كالدفاع بالنسبة للرجل وغسل الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة , وسقوط الصلاة عنها أيام الحيض من غير قضاء .
    فان قلت قد وردت أكثر خطابات التكليف في القرآن بصيغة التذكير كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) والجواب صيغة التذكير للغالب ، وتدل على العموم السنة النبوية القولية والعقلية ، وتلقي المسلمات وجوب الصيام بالقبول والإمتثال في كل عام ، وجاءت فرائض بصيغة العموم كما في فريضة الحج [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
    ويحتاج عامة الناس الإحصاء على نحو القضية الشخصية ، ومنافع الفرد الواحد ، أو على نحو الشركة والجماعة ، والنسب والمصاهرة ، ونظام الدولة ، وفي الزراعة والصناعة .
    وتجلى تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العملي لقوله تعالى [اقْرَأْ] بتقريب الصحابة الذين يحسنون الكتابة ، وحالما وقع سبعون أسيراً من الكفار بيد المسلمين في معركة بدر ، طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذين يقرأون ويكتبون قيام كل واحد منهم بتعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة .
    ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بخصوص قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] ( ) إنتفاع الكفار الذين يجيدون الكتابة من هذه الآية ، وفك قيد الأسر عنهم .
    فان قلت إنما قيدته الآية بأن القراءة باسم الله ، وذكره وعبادته وطاعته ، والجواب هذا صحيح ، وتعلم صبيان المدينة القراءة والكتابة هي لتلاوة القرآن وضبط كلماته وتدوين آياته ، وتلاوتها على آبائهم وأمهاتهم ، فينشأون ومعهم القرآن لا يفارقهم ، ويقومون بتعليم غيرهم من المهاجرين والأنصار .
    والنسبة بين قوله تعالى [اقْرَأْ]والإحصاء عموم وخصوص مطلق ، والإحصاء عموم وخصوص مطلق ، فالقراءة أعم .
    وعلم الإحصاء في القرآن مطلوب بذاته ، وأيضاً بما يستلزمه من أمور الدين والدنيا ، وقد خفف الله عز وجل عن الناس في باب الإحصاء في العبادات فمثلاً بالنسبة لتوقيت فريضة الصيام والحج والزكاة والخمس تجمعها آية واحدة ، وهو قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) فجاء ضبط أيام أشهر السنة الواحدة ، وفيها صيام شهر كامل محصور بين هلالين إذ ذكر الله عز وجل شهر رمضان بالاسم ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ] ( ).
    ومن خصائص هذا الذكر بلحاظ الإحصاء هذا وجوه :
    الأولى : ضبط أشهر السنة وترتيبها .
    الثانية : تعاهد العرب لأسماء الشهور .
    الثالثة : تعيين الأشهر الحرم اسما ومسمى ، والعناية بها ورصدها ، والأصل التهيؤ لها بالعبادة والذكر .
    ولكن العرب في الجاهلية كانوا يبادرون إلى الغزو والسلب والقتل قبل أن يحل الشهر الحرام، فتجلت الحاجة إلى البعثة النبوية لإنقاذ الناس وأفراد الزمان والسنن الإلهية في الأرض .
    فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى العرب والناس جميعاً للتقيد بأحكام الشريعة ، وتعظيم شعائر الله في أشهر السنة كلها من غير ترك للعبادة اليومية ، وهو من الإعجاز في الشريعة الإسلامية بالصلاة خمس عشرة مرة في اليوم بأوقات محددة تستلزم الرصد لعلم الهيئة وحركة الكواكب والشمس والقمر .
    وتبدأ الصلاة اليومية بصلاة الصبح التي يدخل وقتها عند طلوع الفجر ، وينقضي بآية كونية أخرى وهي طلوع الشمس من ذات اليوم .
    قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )وقال تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] ومن إعجاز القرآن التقييد الزماني لأول الشهر بالهلال ، بينما ذكرت الاية آخر الشهر باكمال العدة فقد يكون هناك هلال ولكن يغم وتمتنع رؤيته ، فتتم عدة الصيام ثلاثين يوماً .
    قراءة في الجزء 232 من هذا التفسير
    لقد صدر الجزء الرابع والثلاثون بعد المائتين من هذا السٍفر في (304) صفحة في تفسير آية واحدة من آل عمران ، وهو قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ).
    وتتضمن قوانين متعددة بخصوص مضامين هذه الآية الكريمة ، إلى جانب الأبواب الثابتة في تفسير آيات القرآن في الأجزاء السابقة وهي :
    الأول : الآية الكريمة , وهو قوله [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ).
    الثاني : الإعراب واللغة
    الثالث : في سياق الآيات .
    الرابع: صلة هذه الآية بالآية السابقة لها وهي الآية 189 والآية 188 .
    الخامس : إعجاز الآية الذاتي .
    السادس : إعجاز الآية الغيري .
    السابع : علم المناسبة .
    الثامن : الآية سلاح .
    التاسع : مفهوم الآية .
    العاشر : إفاضات الآية .
    الحادي عشر : الآية لطف .
    الثاني عشر : الآية بشارة .
    الثالث عشر : الآية إنذار .
    الرابع عشر : الصلة بين أول وآخر الآية .
    الخامس عشر : من غايات الآية .
    السادس عشر :علم المناسبة ويتعلق بأول الآية، وآخر بالجمع بين السموات والأرض في الخلق وقوله تعالى [لِأُولِي الأَلْبَابِ].
    السابع عشر : بحث بلاغي .
    الثامن عشر : بحث إعجازي .
    التاسع عشر : بحث منطقي.
    العشرون : وبحث كلامي .
    الحادي والعشرون : بحث أصولي .
    الثاني والعشرون : التفسير .
    أما القوانين فمنها :
    الأول : قراءة في تفسير الآية السابقة.
    الثاني : مسائل في الجمع بين الآيتين .
    الثالث : تقديم آية الملك
    الرابع : قانون ملك الله نعمة .
    الخامس : قانون التخويل المتزلزل المؤقت.
    السادس : قانون نبذ الحروب في ملك الله.
    السابع : خصائص ملك الله.
    الثامن : قانون سعة البحار من آيات الخلق .
    التاسع : التفسير بالتقدير [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ]
    العاشر: قانون رحمة الله في السموات والأرض .
    الحادي عشر : بحث منطقي .
    الثاني عشر : قانون النبوة والتفسير.
    الثالث عشر : بين التوراة والصحف والوحي .
    الرابع عشر : تفسير الفاتحة بالتقدير.
    الخامس عشر : تقدير البسملة .
    السادس عشر : قانون نزول الملائكة بطي المسافة .
    السابع عشر : قانون تعاقب الليل والنهار .
    الثامن عشر : قانون البديع الإستغراقي .
    التاسع عشر : قانون صدق وتصديق القرآن .
    العشرون : شجرة طوبى.
    الحادي والعشرون : قانون الإطراد في (أُولِي الأَلْبَابِ) .
    الثاني والعشرون : قانون في كل زمان [أُوْلِي الأَلْبَابِ] .
    الثالث والعشرون : أيهما أكثر الكنوز الظاهرة أم الخفية .
    الرابع والعشرون : لغة الخطاب (يصوركم) .
    الخامس والعشرون : بحث فقهي (هل الكفار مكلفون بالفروع).
    أما الجزء السابق وهو الرابع والثلاثون فجاء على خلاف منهجنا في ترتيب الأجزاء وفق نظم سور القرآن .
    قانون تعدد المدد من الله عز وجل
    لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء وتفضل وخفف عن الناس جميعاً وعن المؤمنين خاصة بأسباب المدد والعون وليس من انسان إلا وأسباب المدد والتخفيف واللطف والتقريب إلى الطاعة ، وابعاد الأذى والشر عنه أكثر من أن تحصى ، ويمكن القول بأمور :
    الأول : قانون لا ينحصر المدد من الله بالمؤمن وحده ، بل يشمل كل انسان براً أو فاجراً ، نعم المدد من الله للرسل والمؤمنين أكثر وأعظم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( )، والنسبة بين المدد والنصر عموم وخصوص مطلق ، فالمدد أعم ، ويختص بالأنبياء والمؤمنين بالتأييد من الله بالنصر ، قال تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( ).
    الثاني : قانون عدم حضور المدد من الله عند الحاجة إليه فقط بل يأتي من غير حاجة ، كما يسبق الحاجة فيمحوها ، فيأتي أوانها وينقضي وليس من حاجة وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) .
    وسواء علم العبد هذا المحو والفضل الإلهي أم لا ، فانه يعلمه يوم القيامة ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
    الثالث : قانون لا يختص المدد بحال الدعاء والمسألة فيأتي ابتداءً من فضل الله عز وجل ، ومصاديق رحمته بالناس في الحياة الدنيا ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، الجواب نعم ، واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فاستجابة الله عز وجل للدعاء ، فالله عز وجل يهب ويعطي بالسؤال ، ويعطي ابتداء من غير دعاء ومسألة.
    فيمكن تسمية الحياة الدنيا دار المدد لتغشيه للناس جميعاً ، وبلوغه لكل فرد في صغره وعند الكبر والشيخوخة ، وفي نفسه ورزقه وعياله ، وصرف البلاء عنه ، ليكون شاكراً لله عز وجل على النعم الظاهرة والباطنة.
    ومن شكر المسلم لله عز وجل في المقام امتناعه عن العنف والتطرف والتعدي والإرهاب ومقدماته.
    وليعلم الإنسان مطلقاً مسلماً أو كتابياً أو كافراً أن الله عز وجل يمده ويمد غيره من البشر ويعينهم في أمور دنياهم لإجتناب إيذائهم والإضرار بهم ، ومن هذا المدد الإلهي أن قصد الإضرار بالغير قد يرجع على صاحبه وفاعله في الدنيا ، أما في الآخرة فالحساب والعقاب ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
    قانون طرد الإرهاب بكظم الغيظ
    وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى كبح جماح النفس وكظم الغيظ.
    وعن معاذ بن أنس قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحوَّر شا)( ).
    لبيان أن الجنة لاتنال بالإرهاب والعنف والعداوات وكثرة الخصومة ، قال تعالى [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً]( )، وقد وردت آيات عديدة وأحاديث نبوية كثيرة في الصبر والأجر العظيم على كظم الغيظ ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله)( ).
    والمراد من كظم الغيظ حبسه ومنعه من الترجل على اللسان والجوارح.
    وعن معاوية بن حيدة (قلت : يا رسول الله أخبرني بوصية قصيرة فألزمها قال : لا تغضب يا معاوية بن حيدة ، ان الغضب ليفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل)( ).
    ولا يمنع النفس من الإنجرار خلف الغضب وغليان الدم إلا الإيمان والعقل.
    ومن بديع خلق الله عز وجل للإنسان ندم الغضبان على فعله ساعة الغضب ، إلا الذي يصر على فعله أياً كان أو شطر من أفعاله.
    ومن الإعجاز مجئ الآيات والأحاديث بالصبر على الأذى وحبس الغضب والمنع من الحنق وما يترتب عليه الضرر أو الندم أو هما معاً ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    وعن الإمام عليه عليه السلام (أن يهودياً كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنانير ، فتقاضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : ما عندي ما أعطيك .
    قال : فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني .
    قال : إذن أجلس معك يا محمد فجلس معه فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتهددون اليهودي ويتوعدونه .
    فقالوا : يا رسول الله ، يهودي يحبسك؟
    قال : منعني ربي أن أظلم معاهداً ولا غيره .
    فلما ترحل النهار أسلم اليهودي وقال : شطر مالي في سبيل الله .
    أما ولله ما فعلت الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة : محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحشاء ولا قوّال للخنا)( ).
    والمراد من صلاة الغداة في الحديث أعلاه صلاة الصبح ، والغداء لغة أول النهار ، وقيل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر المسجد من حين صلاة الظهر الى فجر اليوم الثاني لأن رجلاً من يهود المدينة قال له لا افارقك إلا أن تقضي ديني.
    قانون التعايش من خلافة الأرض
    لفظ التعايش مشتق من العيش وهو نوع مفاعلة بين الأفراد والطوائف والمجتمعات ، ولم تتضمن أمهات كتب اللغة لفظ (التعايش) ولكن آيات القرآن أشادت وندبت إليه بقيد التوحيد ، قال تعالى [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ]( )، ومنها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
    ومن معاني التعارف في المقام التعاون والإنسجام ، وتبادل المعارف بين عموم البشر ، واقتباس العلوم ، والمحاكاة في محاسن الأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإزدهار أسواق التجارة والصناعة ، واحياء الأرض مع التقيد بقاعدة لا ضرر ولا ضرار ، والمنع من الغبن ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( )، وجاءت الآية أعلاه بلفظ الناس لأفادة عموم أهل الملل والنحل .
    ولابد أن تكون عبادة الله هي الراجحة في هذا التعارف ، لذا ذكرت الآية أن الإكرام والمنزلة الرفيعة لأهل التقوى والخشية من الله ، للدلالة على تأثيرهم ونفعهم في التعايش المجتمعي ، ووقايتهم من مفاهيم الضلالة والظلم والإرهاب في هذا التعايش ، فهم الميزان والعدل فيه.
    ولفظ (التعايش) اصطلاح مستحدث على جهات :
    الأولى : التعايش الحضاري.
    الثانية : التعايش السلمي .
    الثالثة : التعايش المجتمعي .
    الرابعة : التعايش الدولي ، ولعل منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها مرآة له.
    ومن إعجاز القرآن ذكره لحال وشأن الإنسان في الدنيا بمرتبة سامية في الخليقة إذ قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
    وذكرت الآية الخليفة بصيغة التنكير الذي يفيد الإجمال ولكن آيات القرآن تنبيه لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وقد تكون هناك خشية من هذه الإصطلاحات الجديدة وإرادة الإدماج بين الحضارات والمفاهيم فلا يأس بالقدر المتيقن منه الذي فيه نفع لعامة الناس والمجتمعات والمذاهب ولمنع الشقاق والتصادم ، وبما يقي الناس من الإرهاب ، وينفي موضوعه والظنون والأوهام التي تؤدي ببعض الأفراد للجوء اليه .
    والتعايش المجتمعي تصالح مع الغير قريباً كان أو بعيداً سواء في الرأي والمعتقد ، أو في المعاملات ، وقد أكد الإسلام على حسن الجوار ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا]( ).
    ومن قواعد التعايش السلمي العدالة والمساواة وعدم الإستخفاف والطعن والتشكيك بالطرف الآخر ، أو إزدراءه ، ونبذ العنصرية والطائفية .
    لقد صارت ظاهرة الإرهاب مصدر حزن وخوف لعامة الناس ، وتنفق للوقاية منها أموال طائلة ووسائل التعايش السلمي القائم على الإحترام من أهم وسائل إنحساره.
    قانون إرهاب كفار قريش عام
    قد يتبادر الى الذهن اختصاص إرهاب قريش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه كان عاماً يشمل حتى اتباعه ، لتبقى تلك الصفات مصدر أذى للناس ، ومناسبة للتدبر والإتعاظ ، ولزوم الصبر في الإمتناع عن الباطل ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
    وأيهما بدأ أولاً بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
    الأول : دخول أفراد من الناس الإسلام.
    الثاني : أذى قريش للنبي محمد.
    المختار هو الأول ، فما أن أعلن النبي محمد لأقرب الناس إليه بعثته وأن الله عز وجل أنزل عليه آيات من القرآن حتى اسلمت خديجة بنت خويلد زوج النبي والإمام علي عليه السلام ، ولم يكن اسلامهما باللسان وحده بل كانا يحضران في البيت الحرام وفي منى , معه لأداء الصلاة في وقتها.
    وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (أن أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام ، يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل ، صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عليّ فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال : صل جناح ابن عمك ، وانصرف مسروراً يقول :
    إنَّ عليّاً وجعفرا ثقتي … عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ
    والله لا أخذل النبيّ ولا … يخذله من كان ذا حَسَبِ
    لا تخذلا وانصرا ابن عمكما … أخي لأمي من بنيهم وأبي
    فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك)( ).
    وقال ابن الأثير (اختلف العلماء في أول من أسلم مع الاتفاق على أن خديجة أول خلق الله إسلاماً، فقال قومٌ: أول ذكر آمن علي. روي عن علي عليه السلام، أنه قال: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذبٌ مفترٍ، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قبل الناس بسبع سنين.
    وقال ابن عباس: أول من صلى علي. وقال جابر بن عبد الله: بعث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم الإثنين وصلى علي يوم الثلاثاء. وقال زيد بن أرقم: أول من أسلم مع النبي، صلى الله عليه وسلم علي)( ).
    وحتى على فرض أن خديجة أسلمت قبل الإمام علي عليه السلام فانه أول من صلى خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    لذا ورد عن حية العوفي في حديث أن الإمام علي عليه السلام قال وهو على المنبر (لا أعرف أن عبداً لك من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك ثلاث مرات لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً)( ).
    وذكر عفيف الكندي كيف أنه كان تاجراً يقدم إلى مكة موسم الحج وينزل ضيفاً على العباس بن عبد المطلب ، فرأى وهو في منى أيام التشريق كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من الخباء وتوضأ وتوجه إلى جهة الكعبة ليصلي.
    ثم خرج الإمام علي عليه السلام وتوضأ ووقف الى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم خرجت امرأة فتوضأت ووقفت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    ودهش عفيف وتوجه بالسؤال إلى العباس فاجابه
    (هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب قد تابعه على دينه، وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد، قد تابعته على دينه. قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الإسلام في قلبه: يا ليتني كنت رابعاً)( ).
    (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصديقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار صاحب آل ياسين ، وعلي بن أبي طالب) ( ).
    لقد رأى رجال قريش أن النبي محمداً جاء بهدم الأصنام ، وذم عبادتها ، وقبح التوسل بها ، واللوم للذين يعبدونها أو عبدوها في السابق فاغتاظوا وأطلقوا الإنذارات ، وتوجهوا بلغة الرجاء والطلب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكف عن آلهتم ، والإمتناع عن سبّ آبائهم .
    منها مثلاً [وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ]( ).
    و(سورة الشعراء مكيّة ، إلاّ قوله [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ]( )، إلى آخر السورة فإنّها مدنية ، وهي خمسة آلاف وخمسمائة وإثنان وأربعون حرفاً ، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ومائتان وسبع وعشرون آية ، وهي أكثر سور القرآن في عدد الآيات بعد سورة البقرة , لكن حروفها وكلماتها أقل من حروف وكلمات سورة آل عمران .
    وعن عكرمة عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أُعطيت السورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل، وأُعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه السلام , وأُعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش ، وأُعطيت المفصّل نافلة)( ).
    وتدل آيات القرآن والسنة النبوية على تصرف قريش بظلم وتعد ، مما يستقرأ منه معاني الإرهاب وفق مفهوم هذا الزمان من جهات :
    الأولى : قيام المشركين بإرهاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخويفه وإنذاره ليترك الدعوة إلى الإسلام .
    الثانية : إرهاب بني هاشم ، المؤمن والكافر منهم ، وهل ينحصر إرهاب قريش لهم بفرض الحصار عليهم لثلاث سنين متتالية ، الجواب لا ، إذ اقترن بالتهديد والتخويف ، وكان أبو طالب يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينام في فراشه أثناء الحصار خشية قتل قريش له غيلة .
    الثالثة : إرادة قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واشتراك بيوت وقبائل قريش في دمه ، كي تعجز بنو هاشم عن الثأر فيرضون بالدية ، ونزل جبرئيل يأمره بالهجرة ،ونزلت آية المبيت في الثناء على الإمام علي عليه السلام لمبيته في فراش النبي كما في قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( ) .
    الرابعة : إرهاب وتعذيب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وملاحقتهم حتى في أطراف مكة ، عندما يخرجون للصلاة وتلاوة القرآن في أرض البطائح ، ولا يختص هذا التعذيب بالرجال من الصحابة بل يشمل المسلمات أيضاً .
    الخامسة : إخافة عامة أهل مكة والوافدين إليها ، وإرهابهم لمنعهم من دخول الإسلام .
    السادسة : الإرهاب الاقتصادي بمحاربة المسلمين الأوائل في أرزقاهم ومعايشهم .
    السابعة : ملاحقة مهاجري الحبشة وتشويههم عند ملك الحبشة رجاء طردهم منها وتسليمهم إلى قريش .
    ومن معجزات القرآن الغيرية امتناعه عن تسليمهم بعد سماع آيات من سورة مريم وغيرها من جعفر الطيار ، بما يدل على التطابق والتوافق بين ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به عيسى عليه السلام .
    الثامنة : من إرهاب قريش رمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر لإخافة الناس منه ، ومنعهم من إتباعه ، فحينما يأتي موسم الحج وتقدم وفود العرب إلى مكة ، يجتمع وجهاء قريش في دار الندوة لبحث سبل حجب الناس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع إلى آيات القرآن , قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
    وهل يمكن مخاطبة المسلمين في هذا الزمان بالإتعاظ من ملازمة الإرهاب لكفار مكة ، ولزوم إجتنابه ، فقد أخزاهم الله عز وجل ، ولم يجد إرهابهم نفعاً ، وتقديره : يا أيها الذين آمنوا لقد أرهب الكفار نبيكم فلا ترهبوا أحداً .
    الجواب نعم ، لقد كانت آيات القرآن والسنة النبوية مدرسة المعارف الإلهية .
    فسألوا الوليد بن المغيرة وكان أسنهم ومن أكثرهم مالاً ، واقترحوا عليه القول بأن مجنون ، وأنه شاعر ، وأنه كاهن ، وأنه ساحر ، وفي كل مرة يضطر المشركون إلى نفي هذه الصفات عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدليل كما مبين في كتاب السيرة .
    ثم سألوه إذن ماذا ينعتونه كي يبتعد عنه الناس ، فقال (وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلّا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ . فَتُفَرّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ .
    فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلّا حَذّرُوهُ إيّاهُ وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلّا إِنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) ( ).
    إحصاء الكلمات المنفردة في القرآن
    قد تأتي الكلمة على الأصل الإشتقاقي فلابد من أصل اشتقاق للكلمة سواء على القول بأن الفعل هو الأصل كما ذهبت اليه مدرسة الكوفة ، أو أن المصدر هو الأصل وإليه ذهبت مدرسة البصرة ، وكل له حجته ، والمختار أن الفعل هو الأصل.
    والإشتقاق لغة من الشق والقطع وأخذ جزء أو شطر من الشئ وهو في الإصطلاح نزع لفظ من آخر بشرط التوافق بينهما في المعنى والتركيب ، والمغايرة في الصيغة إلا ما ندر.
    ولا ينحصر الإشتقاق في القرآن بمباني الكلمة الواحدة انما يشمل المعاني فمثلاً اسم آدم لأنه خلق من أديم الأرض.
    وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث)( ).
    وعن ابن عباس (إنما سميت المرأة مرأة لأنها خلقت من المرء ، وسميت حواء لأنها أم كل حي)( ).
    وعن الإمام الصادق عليه السلام : سميت حواء حواء لأنها خلقت من حي، قال الله عزوجل خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا.
    ومن ثمرة معرفة اشتقاق اللفظ الجمع والربط بين المفردات ذات الأصل الواحد وان وردت في آيات وسور متعددة ، إذ تتفرع عن هذا الأصل معاني متقاربة فمثلاً مادة (يد) في قوله تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( )، وقوله تعالى [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( )، [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ]( )، لبيان إفادة اليد القوة والمنعة.
    وهو لا يتعارض مع مجئ اليد بمعناها اللغوي وهي العضو من الإنسان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ…]الآية ( ).
    وقال تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ]( ).
    ومن إعجاز القرآن أن كل كلمة منه لا تصح غيرها بدلها وان كانت من الأشباه والنظائر لبلاغة تركيب كلمات القرآن ، وبراعة النظم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، الجواب نعم.
    فمثلاً تكرر لفظ (تمشي) في القرآن وكل فرد منهما بخصوص النساء بقوله تعالى [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ]( )، وقوله تعالى [إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ]( )، ولم تقل الآية (تسعى) لبيان السكينة والوقار والحياء في مشية المرأة ، وما يمنع من إثارة الغرائز.
    ويأتي اللفظ على نحو الحقيقة أو المجاز في الإستعمال الغالب عند العرب ، والوجوه والنظائر ، والحقيقة الشرعية ، وما يسمى بالمصطلح الشرعي باستعمال اللفظ في الشريعة لمعنى خاص غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة كلفظ الصلاة وبالأصل هي الدعاء أو لفظ الزكاة ، وهي بالأصل النماء.
    أو لفظ الحج وبالأصل هو القصد والزيادة والنسبة بين الحقيقة الشرعية وبين المصطلح القرآني العموم والخصوص المطلق ، فالحقيقة الشرعية أعم.
    وموضوع هذا القانون هو إحصاء الكلمات التي لم ترد في القرآن الا مرة واحدة ، ترد في آية ثم لا ترد في غيرها من القرآن.
    وهناك كلمات وردت كل واحد منها مرتين في آية واحدة ولم ترد في غيرها من القرآن مثل(يُعَلِّمُكُمْ)( ) مع لحاظ اتحاد رسم الكلمة ولفظها ، والمدار على اللفظ وليس الرسم وحده فاذا اتحد الرسم وتعدد اللفظ تكون الكلمة من المتعدد.
    (وعد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعاً وثلاثين كلمة، وقيل وأربعمائة وسبعاً وثلاثين)( ).
    ترى كم كلمة منها وردت مرة واحدة في القرآن ، يستلزم الأمر الإحصاء وتتبع كلمات القرآن كلمة كلمة مع ضبط الكلمات المفردة في جدول خاص ويقابلها اسم الآية ومجموع الكلمات المفردة في كل سورة من القرآن مع معنى مختصر لذات الكلمة فمثلاً نقول : وفيها من الكلمات المفردة سورة الفاتحة :
    الأولى : قوله تعالى [نَسْتَعِينُ]( )،
    الثانية : قوله تعالى [الْمَغْضُوبِ]( ).
    سورة البقرة مثلاً : قوله تعالى [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ]( )، الكلمات المنفردة
    في هذه الآية والتي لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
    الأولى : يخطف.
    الثانية : أضاء .
    الثالثة : استوقد.
    الرابعة : أضاءت.
    الخامسة : بنورهم.
    السادسة : تركهم .
    وهكذا نتتبع كل آية من سورة البقرة وما فيها من الكلمات التي وردت مرة واحدة في آية منها سورة آل عمران مثلاً قوله تعالى [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ]( )، وفيها كلمات منفردة هي :
    الأولى : القناطير.
    الثانية : المقنطرة.
    الثالثة : المسومة.
    الرابعة : المأب.
    وهكذا يتم إحصاء الكلمات المفردة في كل سورة إلى سورة الناس ، ثم تجمع الكلمات المفردة لمعرفة عددها ، ويمكن تقسيمها وفق الموضوع والحكم والدراسة الخاصة بها :
    الأولى : الكلمات المفردة في الأسماء الحسنى والتوحيد مثلاً .
    الثانية : الكلمات المفردة في السور المكية والكلمات المفردة في السور المدنية .
    الثالثة : الكلمات المفردة في العبادات والأخرى التي في المعاملات والأحكام .
    الرابعة : الكلمات المفردة في قصص القرآن .
    الخامسة : الكلمات المفردة بخصوص رسالة الأنبياء .
    السادسة : الكلمات المفردة بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
    السابعة : الكلمات المفردة بخصوص يوم القيامة .
    وقد تجد ثلاث او أربع كلمات في آية واحدة ولم تر في غيرها من آيات القرآن.
    وسيتجلى قانون وهو الكلمات المنفردة في القرآن من الإعجاز ، وقد يصل عددها إلى ألفي كلمة ، ولا بأس أن تخصص رسالة ماجستير أو دكتوراه لهذا المبحث أو أن يشترك فيه أكثر من مؤلف ، ويكون معجماً مفهرساً للكلمات المنفردة في القرآن مع استقراء بعض الأسرار لهذا الإنفراد.
    قراءة في الحروف المقطعة
    من آيات الحروف المقطعة (الطواسين) اسم لثلاث سور متتالية هي سورة الشعراء والنمل والقصص ، إذ تبدأ كل واحدة منها بحرفي الطاء والسين.
    فالآية الأولى من سورة الشعراء [طسم]( ).
    والآية الأولى من سورة النمل [طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
    وتبدأ سورة القصص بالآية [طسم]( )، أي بمثل ما بدأت به سورة الشعراء.
    وكل حرف من القرآن إشراقة علمية ، من جهات :
    الأولى : الدلالات الخاصة بالحروف المقطعة.
    الثانية : صلة الحروف المقطعة بما جاورها من الآيات.
    الثالثة : أثر ومنافع الحروف المقطعة أوان النزول ، فهي حرب سلمية ولسانية على الكفر والجحود ، وشاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يحمل سيفاً لقتال الذين كفروا ولكن الحرف القرآني يضرهم ويهزمهم فيكون فيه غنى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
    وهو من أسرار تسمية القرآن كلام الله ، فالكلمة الواحدة من القرآن تذم جيشاً من المشركين بأسلحتهم ، وفيه حجة بلزوم إجتناب الإرهاب والظلم ، وحض على الإكتفاء بالقرآن وعلومه في الدعوة إلى الله عز وجل , وبيان لزوم التوحيد , وسيادة مفاهيم الصلاح في الأرض.
    الرابعة : من خصائص الإنسان أنه كائن ممكن محتاج ، فنزلت الحروف المقطعة لبيان ضعفه ، ولتنقذ الذي آمنوا وتقودهم إلى الجنان ، وتلحق الخزي بالذين كفروا فتبهتهم ، وتجعلهم في حال ذهول وتحول بينهم وبين الفتنة العامة.
    وقال تعالى [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ]( ).
    ومجموع آيات الحروف المقطعة (29) آية ويمكن تقسيمها كالآتي:
    الأولى : الآيات التي ليس فيها إلا الحروف المقطعة :
     قوله تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ) ، فـ(الم) مستقلة.
     قوله تعالى [الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ).
     قوله تعالى [المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
     قوله تعالى [كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا]( )، وآية (كهيعص) هي أكثر آية من آيات الحروف المقطعة في عدد الحروف.
     قوله تعالى [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
     قوله تعالى [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ]( ).
     قوله تعالى [الم *تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ]( ).
     قوله تعالى [الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
     قوله تعالى [طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ]( ).
     قوله تعالى [طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ]( ).
    الثانية : مجئ آيتين متتاليتين من الحروف المقطعة كما في قوله تعالى [حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، وتمتاز هذه السورة سورة الشورى بورود الآية الأولى والثانية منها حروفاً مقطعة.
    الثالثة : الآيات التي تجمع بين الحروف المقطعة وكلمات قرآنية أخرى ، كما في:
    قوله تعالى [طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
    قوله تعالى [الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ]( ).
    قوله تعالى [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ]( ).
    قوله تعالى [الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ]( ).
    قوله تعالى [المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
    قوله تعالى [الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ]( ).
    قوله تعالى [الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ]( ).
    ويلاحظ فيه أن السور التي تبدأ بـ[الر] تجمع الآية الأولى منها بين الحروف المقطعة وكلمات من القرآن .
    وهي سور متعاقبة لم تفصل بينها إلا سورة الرعد التي ابتدأت بالحروف [الر] .
    ومنهم من اتجه إلى حساب الحروف واستنتاج مسائل ووقائع في المستقبل ، ولم يثبت هذا المعنى ، ومنهم من استدل بقوله تعالى [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ] ( ) أن المسلمين يفتحون بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، فتم الفتح بتلك السنة ، ولكن بيت المقدس تم فتحه في اليوم الثالث عشر( ) من السنة السادسة عشرة للهجرة النبوية الشريفة .
    كما تعدد هذا الفتح ، ثم أن الوقائع والحوادث أكثر من أن تحصى ، وهي مصاحبة لتعاقب الليل والنهار .
    الحروف المقطعة سلاح آمن
    يتبادر إلى الذهن من لفظ السلاح أنه آلة الحرب والقتال ، فجاء القرآن بسلاح سماوي آمن ، لإحقاق الحق ، وتنزيه الأرض من القتال ، فكل آية من القرآن سلاح علمي لطيف ، ينفذ إلى القلب ويجالس الفكر ، ويملي على الإنسان التدبر بحقيقة الدنيا , وفي تسمية القرآن وآياته سلاح نهي عن العنف والإرهاب .
    ويدعو القرآن للتفكر بالآيات الكونية وصدق نزول القرآن من عند الله وما يترتب عليه من التقيد بأحكام الشريعة ، والإستعداد لعالم الحساب ، ومنه التنزه عن الإرهاب والإضرار بالناس في نفوسهم وأموالهم وأوطانهم ، سواء باسم الدين أو غيره لقانون وهو خلو الدين السماوي من الأمر بالإرهاب.
    ونزل القرآن بتوثيق خبث ودهاء ومكر كفار قريش ومنه قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] ( ).
    ولم يرد لفظ [َالْغَوْا] ولفظ[تَغْلِبُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، والآية أعلاه من سورة فصلت وهي سورة مكية لتبين جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلام الله وليس بالسيف وصبره على أذى المشركين .
    أي تواصى رجال قريش فيما بينهم ، وقاموا بتوصية الوافدين إلى مكة بتلقي تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن بأمور :
    أولاً : التصفيق الذي يصدر هنا وهناك ، ومن القريب والبعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيحجبون وصول القرآن إلى الناس ، فملأ الله قلوبهم بالرعب .
    ثانياً : الصياح في وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو المروي عن السدي( ).
    ثالثاً : اللغط ، والقاء الشعر عند قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ، ودعوة الناس للإيمان ، قال ابن عباس (يعني والغطوا فيه، كان بعضهم يوصي إلى بعض ، إذا رأيتم محمداً يقرأ ، فعارضوه بالزجر والإبتعاد)( ).
    رابعاً : مقابلة تلاوة الصحابة ودعوتهم الناس لنبذ عبادة الأصنام بالجدال والصراخ والأشعار.
    خامساً : الصفير ، والمعارضة بأصوات مبهمة ، وكلام غير مفهوم ، فنزلت الحروف المقطعة حجة عليهم في المقام.
    فاذا سمعها الناس انصتوا إليها باستغراب ، ورجاء معرفة ما بعدها والتفكر فيها.
    ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( )، أي استمعوا وأنصتوا للقرآن طوعاً وقهراً وانطباقاً ، فيأبى الله عز وجل إلا أن يسمع الناس كلامه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهناك مسائل :
    الأولى : هل الإستماع للقرآن من العبادة .
    الثانية : هل الإستماع للقرآن واقية من الإرهاب.
    الثالثة : هل استماع القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
    أما المسألة الأولى ، فالجواب نعم ، فهو من العبادة أو مقدمات العبادة والدعوة إليها ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
    وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، إذ تبعث قراءة القرآن والإستماع له الرحمة في القلوب ، وتجعل الإنسان ينفر من الظلم والتعدي ، ويخشى عواقبه ، والإرهاب فرع من الظلم.
    وأما المسألة الثالثة فالجواب نعم فذات التلاوة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتذكير بهما , وبعث المسلمين والناس عامة على اتخاذهما منهاجاَ وفي التنزيل[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ).
    والنسبة بين التقوى والأمر والنهي أعلاه عموم وخصوص مطلق , أما النسبة بين التقوى والإرهاب فهي التباين والتضاد .
    خصائص الحروف المقطعة
    لقد جعل الله عز وجل القرآن كنز السماء في الأرض ، وتتصف خزائن الله بأنها من اللامتناهي وهي في إزدياد متصل وما يستحدث فيها كماً وكيفاً أضعاف ما ينال ويغترف منها الناس والخلائق ، ولم يطلع ويعلم الناس إلا بحزء يسير وقليل من خزائن الله عز وجل سواء في الأرض أو في السموات.
    وهل هناك من خزائن الله الموجودة ما لا يعلم بها الملائكة والخلائق كلها ، الجواب نعم .
    و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سخاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه . قال : وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى القبض يرفع ويخفض)( ).
    ومن خزائن وعلوم القرآن الحروف المقطعة ، ولها خصوصية.
    وهل الحروف المقطعة من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
    الجواب نعم ، فهي آيات من القرآن وتتضمن لغة الإنذار والبيان ، وفيها دعوة للتدبر في آيات القرآن وأسرار الكون ، وبدائع الخلق وشواهد التوحيد ، ولا يضر بهذا المعنى تقدم نزول أكثر آيات الحروف المقطعة قبل آية (سنلقي) أعلاه من سورة آل عمران و(عن سفيان الثوري قال: قلت للصادق عليه السلام: يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عزوجل :
    (الم) و (المص) و (الر) و (المر) و (كهيعص) و (طه) و (طس) و (طسم) و (يس) و(ص) و(حم) و (حم عسق) و (ق) و (ن).
    قال عليه السلام : أما (الم) في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك، وأما (الم) في أول آل عمران فمعناه أنا الله المجيد ، و(المص) معناه أنا الله المقتدر الصادق و (الر) معناه أنا الله الرؤف و (المر) معناه أنا الله المحيي المميت الرازق.
    و(كهيعص) معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد وأما (طه) فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله ومعناه ياطالب الحق الهادي إليه ما انزل عليك القرآن لتشقى بل لتسعد به.
    وأما (طس) فمعناه أنا الطالب السميع وأما (طسم) فمعناه أنا الطالب السميع المبدئ المعيد.
    وأما (يس) فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله ومعناه يا أيها السامع لوحيي [َالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
    وأما (ص) فعين تنبع من تحت العرش، وهي التي توضأ منها النبي صلى الله عليه وآله لما عرج به، ويدخلها جبرئيل عليه السلام كل يوم دخلة فيغتمس فيها ثم يخرج فينفض أجنحته فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكا يسبح الله ويقدسه ويكبره ويحمده إلى يوم القيامة.
    وأما (حم) فمعناه الحميد المجيد، وأما (حم عسق) فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر القوي، وأما (ق) فهو الجبل المحيط بالارض وخضرة السماء منه، وبه يمسك الله الارض أن تميد بأهلها، وأما (ن) فهو نهر في الجنة.
    قال الله عزوجل : اجمد ! فجمد فصار مدادا ثم قال عزوجل للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمداد مداد من نور، والقلم قلم من نور ، واللوح لوح من نور)( ).
    وخاب وعجز المشركون عن إظهار عيب أو تعارض أو تزاحم بين آيات القرآن ، وهذا العجز مناسبة لشكر المسلمين لله سبحانه بالتقوى ،والصبر ، والحلم .
    ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن الكفار لم ينهوا عن الإستماع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل عن السماع للقرآن وآياته ، وهو على وجوه :
    أولاً : دعوة المشركين إلى عدم مجالسة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    ثانياً : ترك مقدمات سماع آيات القرآن وتحذير الناس منها.
    ثالثاً : الإمتناع عن الإنصات لآيات القرآن ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، لبيان قانون وجود أمة مؤمنة تعمل بخلاف عمل المشركين .
    رابعاً : إجتناب سماع تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في الصلاة ، واللغة والصراخ أثناء تلاوته ، وهو من الإعجاز في صيرورة التلاوة في صلاة الظهر والعصر بالإخفات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
    خامساً : الإعراض عن سماع القرآن من عامة الناس ، فمن الإعجاز في آيات القرآن عدم انحصار تلاوتها بأهل البيت والصحابة.
    وكل وجه من هذه الوجوه من الإرهاب ، لبيان قانون وهو عدم ترتب النفع على الإرهاب.
    رسم وأسماء وأصوات الحروف المقطعة
    وهي من خصائص الحروف العربية أن اسم الحرف غير رسمه , وغير صوته وهو من أسرار الحروف المقطعة .
    الاسم ألف باء تاء ثاء جيم حاء خاء دال ذال
    الرمز أ ب ت ث ج ح خ د ذ

الاسم راء زاي سين شين صاد ضاد طاء ظاء عين
الرمز ر ز س ش ص ض ط ظ ع

الاسم غين فاء قاف كاف لام ميم نون هاء واو ياء
الرمز غ ف ق ك ل م ن هــ و ي

الحروف المقطعة لطف عام
لقد كانت الحروف المقطعة في القرآن سلاحاً نازلاً من السماء ، وهل هي سلاح أرضي ، الجواب نعم.
وكذا بالنسبة لآيات القرآن الأخرى ، إذ يتلوها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلى يوم القيامة فتكون الآية القرآنية كالغيث من السماء فينتفع منه الناس عامة مع أن بركات القرآن يومية إذ يقرأها كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم.
وهل هذه القراءة اليومية المتجددة من خزائن القرآن الغيرية ، الجواب نعم ، وفيها مسائل :
الأولى : إفاضة قراءة القرآن بالعلوم.
الثانية : قانون القراءة وسيلة التدبر والتفكر في الخلق , قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ).
الثالثة : ذات تلاوة القراءة صلاح .
الرابعة : قانون حب الله لقارئ القرآن وهل يختص هذا الحب بساعة القراءة أم هو أعم ، الجواب هو الثاني.
وهل لهذا الحب مصداق خارجي ، الجواب نعم ، فحب الله ليس كيفية نفسانية فهو سبحانه منزه عن الكيف ، ولكن حبه تعالى مدد وعون ورزق كريم ، ومنه إصلاح العبد , وهدايته إلى الأخلاق الحميدة ، والصرف عن الإضرار بالغير.
الخامسة : إغاظة الكفار بقراءة القرآن ، لإعجازه الذاتي ولإعجازه الغيري بدخول الناس في الإسلام بسبب تلاوة القرآن والتدبر في معاني كلماته وآياته والصلة بينها ، ومنها الحروف المقطعة ، قال تعالى [وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا]( ).
ويدل قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( )، على موضوعية الحروف المقطعة وآيات القرآن في الغلبة والنصر لبيان التباين بين سلاح الأمن وسفينة النجاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتنقذ الناس في النشأتين وبين لجوء الذين كفروا إلى سلاح التصفيق واللغو لمنع استماعهم والناس لآيات القرآن ، لقد قال سحرة فرعون [فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ]( ).
ولكنهم دخلوا الإسلام ، أما في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد شهر المشركون السيوف وخاضوا المعارك العديدة ضد النبوة والنبي والتنزيل والصحابة من غير وجود ملك جبار يأمرهم ويغريهم بالمال والجاه إلى أن أخزاهم الله عز وجل ، فكان صلح الحديبية ثم فتح مكة ودخلوا الإسلام إلا من قتل على الكفر مثل أبي جهل وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد.
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشهاره سلاح الحروف المقطعة في مواجهة عداوة وأذى وسيوف الذين كفروا ، ومنها أيضاً أن العرب مع فصاحتهم وإرتقاؤهم في البلاغة لم يعترضوا أو يحتجوا على الحروف المقطعة ، مما يدل على تسليمهم بموضوعيتها وأثرها.
لقد قهر الله عز وجل عتاة المشركين وأصحاب الأموال والجاه منهم بحروف مقطعة تتلى بأسمائها كما في (الم) إذ تتلى : ألف لام ميم ، وفيه دلالة على الإستغناء عن الإرهاب ، وبيان لأسلحة القرآن في الدعوة إلى الله عز وجل .
الثمرة من الحروف المقطعة
من خصائص القرآن وجود منافع خاصة لكل آية من آياته ، ومن هذه المنافع ما كان حاضراً وقريباً ، ومنها ما كان بعيداً وفي الأمد الطويل.
ترى ما هي المنافع من الحروف المقطعة ، الجواب من وجوه :
الأول : تلاوة الحروف المقطعة والفوز بثواب الأجر بقراءة القرآن ، وقد ورد عن عوف بن مالك الأشجعي قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن كتب الله له بكل حرف حسنة . لا أقول [الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ] ( )، حرف ، ولكن الألف ، والذال ، والألف ، والكاف)( ).
الثاني : من الإعجاز في الحديث أعلاه ذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لخصوص الحروف المقطعة في أول سورة البقرة في تأكيد لجزئية هذه الحروف من القرآن وموضوعيتها ونزولها من السماء .
وبينما ورد الحديث أعلاه بأن في تلاوة كل حرف حسنة ، فقد ورد في حديث آخر أن في كل حرف عشر حسنات ، إذ جاء عن عبد الله بن مسعود (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر)( ).
ويمكن تأسيس قانون من جهتين :
الأولى : إذا ورد حديثان بينهما تباين في العدد والكم والكيف في حسنات وأجر فعل مخصوص يحمل على الأكثر والأعلى .
الثانية: إذا ورد خبران في التباين في مقدار الأثم بخصوص معصية وفعل مذموم فيحمل على الأقل منهما .
هذا مع التساوي في مراتب وصحة سند الحديث وعلم الرواية والدراية .
ويفيد الجمع بين الحديثين أن المراد من الحسنة هي المضاعفة بعشر لقوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
الثالث : من فضل الله لا يختص ثواب القرآن بتلاوته انما يشمل الإستماع إليه ، وعن (بشر بن غالب الاسدي عن الحسين بن علي عليهما السلام: من قرء آية من كتاب الله في صلاته قائما يكتب له بكل حرف مائة حسنة.
فان قرأها في غير صلاة كتب الله له بكل حرف عشرا.
فان استمع القرآن كان له بكل حرف حسنة وإن ختم القرآن ليلا صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن ختمه نهارا صلت عليه الحفظة حتى يمسي، وكانت له دعوة مستجابة، وكان خيرا له مما بين السماء والارض.
قلت: هذا لمن قرأ القرآن فمن لم يقرأه قال: يا أخا بني أسد إن الله جواد ماجد كريم، إذا قرء ما معه أعطاه الله ذلك)( ).
وهناك فرق رتبي بين السماع والإستماع ، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق فالإستماع أخص لأنه عن قصد .
فان سمع الإنسان القرآن عرضاً فهل له ثواب أم لابد من الإنصات والإستماع لقوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
المختار هو الأول ، فيؤجر المؤمن بسماع التلاوة عرضاً ومن غير قصد ، وللآية أعلاه موضوعية في لزوم العناية بهذا السماع بالتدبر والإنصات .
فهي تخاطب الإنسان ، إذا سمعت القرآن عرضاً فتدبر فيه ففيه الرحمة والعفو ، ولو سمع المسلم الحروف المقطعة أو أي آية من القرآن ففيه من جهة الحسنات والأجر وجوه :
الأول : للسماع ذات ثواب القراءة فمن يستمع للقرآن ينال ذات ثواب الذي قرأه.
الثاني : قانون ثواب قراءة القرآن أكثر من ثواب الإستماع.
الثالث : للسماع ثواب ، ولو تدبر المسلم بما ما يسمعه فيبقى ذات الثواب.
الرابع : قانون للسماع ثواب ، وللتدبر ثواب خاص .
والمختار هو الثاني والرابع ، فثواب القراءة والتدبر أكثر ، وقد يتفضل الله به ويجعل ثواب الإستماع كالقراءة ، وإن كان فرع القراءة.
ومن الإعجاز عدم إنحصار نزول الحروف المقطعة بالسور المكية وأيام ما قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فهناك سور مدنية ابتدأت بالحروف المقطعة ، ولكنها قليلة فقد نزلت الحروف المقطعة في تسع وعشرين سورة ، والسور المدنية منها هي :
الأولى : [الم] أول سورة البقرة , وهي سورة مدنية( ).
الثانية : [الم] أول سورة آل عمران , وهي سورة مدنية( ).
الثالثة : [المر] أول سورة الرعد , وهي سورة مدنية( ).
أما السور المكية التي ابتدأت بالحروف المقطعة فهي :
الأولى : [المص] أول سورة الأعراف , وهي سورة مكية( ) .
الثانية : [الر] أول سورة يونس , وهي سورة مكية( ) .
الثالثة : [الر] أول سورة هود , وهي سورة مكية( ) .
الرابعة : [الر] أول سورة يوسف , وهي سورة مكية( ) .
الخامسة : [الر] أول سورة ابراهيم , وهي سورة مكية( ) .
السادسة : [الر] أول سورة الحجر , وهي سورة مكية( ).
السابعة : [كهيعص] أول سورة مريم , وهي سورة مكية( ).
الثامنة : [طه] أول سورة طه , وهي سورة مكية( ) , وقيل معنى (طه : يا رجل).
التاسعة : [طسم] أول سورة الشعراء , وهي سورة مكية( ).
العاشرة : [طس] أول سورة النمل , وهي سورة مكية( ).
الحادية عشرة : [طسم] أول سورة القصص , وهي سورة مكية( ).
الثانية عشرة : [الم] أول سورة العنكبوت , وهي سورة مكية( ).

الثالثة عشرة : [الم] أول سورة الروم , وهي سورة مكية( ) .
الرابعة عشرة : [الم] أول سورة لقمان , وهي سورة مكية( ) .
الخامسة عشرة : [الم] أول سورة السجدة , وهي سورة مكية( ) .
السادسة عشرة : [يس] أول سورة يس , وهي سورة مكية( ) ولم يرد لفظ ياسين في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ]( ) وعن (ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : السبق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس . والسابق إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب) ( ).
وفي المرسل عن عبد الرحمن بن ليلى قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، الذي قال { يا قوم اتبعوا المرسلين } وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله }( ) وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم) ( ).
السابعة عشرة : [ص] أول سورة ص, وهي سورة مكية( ) .
الثامنة عشرة : [حم] أول سورة غافر, وهي سورة مكية( ) .
التاسعة عشرة: [حم] أول سورة فصلت, وهي سورة مكية( ) .
العشرون : [حم , عسق] الآية الأولى والثانية من سورة الشورى , وهي سورة مكية( ) .
الواحدة والعشرون : [حم] أول سورة الزخرف, وهي سورة مكية( ).
الثانية والعشرون : [حم] أول سورة الدخان , وهي سورة مكية( ).
الثالثة والعشرون : [حم] أول سورة الجاثية , وهي سورة مكية( ).
الرابعة والعشرون : [حم] أول سورة الأحقاف , وهي سورة مكية( ).
الخامسة والعشرون : [ق] أول سورة ق , وهي سورة مكية( ).
السادسة والعشرون : [ن] أول سورة القلم , وهي سورة مكية( ), قال تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ] ( ).
قانون (نصرت بالرعب) حرب على الإرهاب
قد تقدمت الإشارة إلى هذا القانون في الجزء الواحد والثلاثون بعد المائتين من هذا التفسير .
وقول (نصرت بالرعب) شطر من حديث مستفيض وبطرق متعددة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالإسناد عن الإمام الباقر قال (نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي) ( ).
ورواه البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري ،وروي عن أبي ذر الغفاري يرفعه .
وتتصف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة المعجزات الحسية والعقلية التي تفضل الله عز وجل بها ، والتي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتضمن هذا الحديث خمس معجزات لا تنحصر بواقعة مخصوصة ، فكل واحدة منها تتكرر مرات عديدة ، وقد تجتمع بعضها في حادثة وأوان معين ، لبيان المدد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص هذه المعجزات أنها تأسيس للأمن في الجزيرة ، واستئصال للإرهاب مع حقن للدماء في وقت يسعى المشركون فيه للإنتقام والبطش ويسلون السيوف كما في معركة بدر وأحد والخندق لتأتي هذه المعجزات الخمس على كيدهم وسعيهم ، قال تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ]( ).
وأولى مفردات هذا الحديث هي :
(نصرت بالرعب ) وهو من مصاديق رد الله تعالى على الملائكة حينما احتجوا على جعل الإنسان في الأرض خليفة وقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل أنه يرزق النبي محمداً ما يبسط كلمة التوحيد في الأرض بسلام مع قيام الكفار بالغزو والهجوم والقتال ، ومن معاني الحديث قذف الله عز وجل الرعب في قلوب المشركين من وجوه :
الأول : تغشي الخوف والرعب لرؤساء الكفر لنزول آيات الإنذار والوعيد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن بدايات البعثة النبوية .
الثاني : حضور هذا الخوف عند المشركين حال الإعداد للمعارك والخطط لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : من خصائص هذا الخوف تفرق الأتباع عن رؤساء الشرك .
لقد أخبر القرآن عن سلاح الرعب في معركة أحد وعلته وهي الشرك بالله ، قال تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
ليكون من معاني أول الآية أعلاه وجوه :
أولاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليكفوا عن القتال .
ثانياً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب جزاء على إقامتهم على الشرك ومحاربتهم النبوة .
ثالثاً : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب تخفيفاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
رابعاً : يا أيها الناس سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فادخلوا الإسلام .
لقد كان كثير من أهل مكة ومن رجال القبائل يخشون سطوة قريش ، والحاجة إليهم بالمال والجاه ، فيمتنعون عن التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوصون رجالهم عند دخول مكة ألا يجلسوا إليه ، ولا يسمعوا منه خشية جانب قريش.
خامساً : قبح الشرك ، ونفاذ ضرره إلى المسألة النفسية للمشرك ، وصيرورته خائفاً فزعاً ، يصاحبه الرعب في نهاره وليله.
سادساً : من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) جمع إلقى الله السكينة في قلوبهم وهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وقوم القى الرعب في قلوبهم .
لوجوب شكر المسلمين لله عز وجل على هذا التباين والتضاد ، ومن وجوه هذا الشكر عدم السعي لإلقاء الخوف والرعب في قلوب الناس وإخافة الآمنين في بيوتهم ومنتدياتهم وبما يبعث الكدورة والأذى عند عامة المجتمعات ، فهو خلاف مفاهيم الرحمة واللطف والإحسان العام والسماحة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قوانين في الرعب
صحيح أن سبب نزول آية (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) ( )هو واقعة أحد ، وفضل الله عز وجل بصد جموع المشركين بالرعب حتى يتم نزول آيات القرآن ولكن موضوعها أعم وهو متصل الى يوم القيامة لتترشح عنه قوانين منها :
الأول : قانون قلوب الناس بيد الله عز وجل.
الثاني : قانون الرعب من جنود الله ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالث : قانون التضاد بين الإيمان والرعب ، فاذا دخل الإيمان القلب فان الرعب لا يستقر معه ، إنما يصاحبه الخوف من الله ، وهومن أسباب الإنزجار عن الإرهاب .
ومن الإعجاز الخروج إلى معركة أحد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفاعاً والوقوف في الميدان ، وقد انخزل المنافقون من وسط الطريق .
وقد تفضل الله عز وجل ودعا الأعراب الى صدق الإيمان للنجاة من الرعب ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابع : قانون العقوبة العاجلة على التلبس بالكفر ، ونفاذ هذه العقوبة إلى المشرك وإن كان منفرداً وجالساً في بيته.
الخامس : ظاهر كلمة (سنلقي) ( ) المستقبل القريب ، وان الله عز وجل يلقي الرعب في قلوب المشركين بعد إنذارهم ، وتماديهم في الغي ، ومعرفتهم لصبغة الضلالة في إتخاذ الشرك منهاجاً ، وعندما تزحف جيوشهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : قانون الرعب مانع من الإرهاب .
السابع : يأتي الرعب واقية تارة وتارة زاجراً ، وأخرى عقوبة وجزاءً .
الثامن : قانون الرعب لواء سلام ، وبرزخ دون القتال وسفك الدماء ، فعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأنه يعمل المعاصي ويقتل النفس التي حرم الله ، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل في المقام القائه الرعب والخوف الشديد في قلوب الذين كفروا لصدّهم عن القتال ، واشغالهم بأنفسهم ، وفيه منع من الفساد ، فتقام دولة الحق والعدل وأحكام الشريعة ، فينحسر الفساد وينقطع الغزو بين القبائل ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
التاسع : تجلي منافع سلاح الرعب وإخافة المشركين بصيرورة المؤمنين في حال منعة وأمن ليقيموا الصلاة والفرائض العبادية ، ويجتنبوا الإرهاب وإخافة الناس ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] ( ).
العاشر : قانون إنتفاء الحجة والبرهان على التلبس بالشرك .
فان قلت تقع الحروب بين الدول ويذهب ضحيتها آلاف وملايين الناس كما في هذه الأزمنة ، الجواب هو من مصاديق احتجاج الملائكة أعلاه ، ومن علم الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : قانون قبح سفك الدماء .
الثاني : صرف ومحو أكثر القتال بين الناس ببركة النبوة.
الثالث : تجلي النداء على القتال والغزو .
الرابع : قانون أيام السلم أضعاف أيام الحرب والقتال .
الخامس : قانون البركة والنماء في الذراري بفضل الله عز وجل.
السادس : قانون التضاؤل السريع للإرهاب ووقائعه .
وهل من موضوعية لسلاح الرعب بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر مع أنهم أذلة ، الجواب نعم.
قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) فلو التقت ذلة المؤمنين وقلة عددهم وأسلحتهم ، مع كثرة عدد المشركين وأسلحتهم والرعب الذي يصاحبهم ، فان المؤمنين ينتصرون ، لبيان أن سلاح الرعب يجعل المشركين قلة وأذلة حينما ينفذ إلى قلوبهم وصفوفهم ، وأن سلاح الإيمان يجعل الصحابة في قوة ومنعة ، وهو قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
وفي الآية أعلاه (قال مقاتل : ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل (لقاء) العدو فأخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بما رأى. فقالوا : رؤيا النبيّ حق.
القوم قليل .
فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين وأصدق رؤيا النبيّ صلى الله عليه آله وسلم .
قال عبد الله بن مسعود : لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتّى قلت لرجل إلى جنبي : (نراهم سبعين) قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم؟
قال : ألفاً. ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم) ( ).
وهل يمكن احتساب آية البحث [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) من آيات السلم والموادعة لأنها برزخ دون تكرار المشركين الغزو وسفك الدماء ، الجواب نعم ، وهو لا يتعارض مع سبب النزول وهو معركة أحد ، ففي لهيب المعركة ولمعان السيوف يُنزل الله عز وجل الآيات التي تبعث الرحمة ، وتهدي الناس إلى السلام ، وقد تجعلهم مضطرين إليه ، راضين بالصلح .
والآية محكمة غير منسوخة حتى على فرض القول بأن هذه الآية من آيات السلم والصلح والموادعة ، وموضوعها متصل إلى يوم القيامة , وفيه شاهد على أن آيات السلم ممتنعة عن النسخ لكثرتها , وتعدد موضوعها .

بيعة العقبة زجر عن الإرهاب
عن (عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة الاولى ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر.) ( ).
فكل فرد من أفراد ومادة البيعة إستئصال للإرهاب وعصمة منه ، وهي:
الأول : التوحيد وعدم الشرك بالله .
الثاني : الإمتناع عن السرقة وما فيها الظلم ، ويدل بالدلالة التضمنية على إجتناب الغزو والسلب والنهب الذي كان سائداً في الجزيرة ، ويكون محل تفاخر ، فنزل القرآن لبيان قبحه وحرمته , ليكون تأسيساَ لحرمة الإرهاب في هذا الزمان .
فمن خصائص أحكام الشريعة أن النهي عنوان الحرمة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع في كل معركة دخلوها كمعركة بدر وأحد والخندق وحنين ، وهذه هي أكبر المعارك التي حضرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى ، وأول موضوع في البيعة كما في الخبر أعلاه هو وجوب الإمتناع عن الشرك .
والنسبة بين الشرك وعبادة الأوثان عموم وخصوص مطلق ، فالشرك أعم ، لبيان قانون دخول الإسلام استئصال للشرك وحرب عليه .
وهو من أسباب تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن شريعته تمنع من استحداث ضروب من الشرك الظاهر والخفي .
وهو من مصاديق دعاء إبراهيم عليه السلام بخصوص مكة ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ) .
وجاءت الآية بالجمع بين وجوب التوحيد والإقرار باليوم الآخر ،وعالم الحساب ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
لبيان حرمة الإرهاب وسوء عاقبته لأنه ضد للعمل الصالح الذي تدعو إليه الآية أعلاه ، وهل من العمل الصالح النهي عن الإرهاب ، الجواب نعم ، كما سيأتي .
وفي الحديث القدسي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن ربكم يقول : أنا خير شريك ، فمن أشرك معي في عمله أحداً من خلقي تركت العمل كله له ولم أقبل إلا ما كان لي خالصاً) ( ).
الثالث : التنزه عن السرقة , فمن أفراد البيعة (لا نسرق) .
أي حرمة السرقة الخاصة والعامة
الرابع : حرمة الزنا وهو نوع مفاعلة قبيحة.
الخامس : العهد بالإمتناع عن الوأد , وعن قتل الأولاد مطلقاَ , لبيان أن الدعوة إلى الله عز وجل , تبدأ بإكرام الأسرة وللحاجة إلى الأبناء في الدفاع ضد جيوش المشركين .
وفي عمرة القضاء قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة للشرط الذي تم في صلح الحديبية , و(عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة ، يعنى مكة، عام عمرة القضاء، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرملوا وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم) ( ).
ومعنى صبيحة رابعة : أي صبيحة الليلة الرابعة من شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة , لذا فإن تعاهد الأولاد الصغار وتربيتهم حاجة لدماء شابة تدخل الإسلام , وتدافع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل , وتكون سبباَ لزجر المشركين عن الهجوم على المدينة .
لابتداء البيعة في الإسلام بنية الأمن ، والزجر عن الإرهاب ، والنسبة بين السرقة والغزو عموم وخصوص مطلق ، فالغزو أعم ففيه القتل والسرقة والسبي , وإخافة الناس .
ومن الإعجاز في بيعة العقبة أمور :
الأول : إبتداؤها بالنهي الجازم عن الشرك في مجتمع مشركين .
الثاني : قانون تعدد أفراد هذه البيعة .
الثالث : قانون شمول البيعة للعقائد والأخلاق الحميدة والإجتماع والتنزه عن الباطل .
الرابع : قانون الملازمة بين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقضاء على الوأد وإلى يوم القيامة .
الخامس : التنزه عن الكذب والإفتراء والغيبة ونحوها من الأخلاق المذمومة ، لبيان معجزة حسية عامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقيد المسلمين دفعة ومرة واحدة بأظهر أحكام الشريعة ، خلافاً للطبع والعرف ، وإن الناس لا يتقلبون الجديد دفعة إنما يكون على مراتب مع التردد والتشكيك والتلكؤ في العمل.
ولكن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهداية الصحابة إلى مبادئ وأحكام الإسلام ، وزاد الله من فضله وجعل هذا التعدد سبباً لدخول جماعات وأفواج من الناس في الإسلام ، وهو من الأسباب التي جعلت رؤساء الكفر يمتلئون غيضاً وحنقاً ، ويجمعون الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرماهم الله عز وجل بالرعب قذفه في قلوبهم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ومن خصائص هذا الرعب أمور :
الأول : قانون مجئ الرعب من عند الله فهو سلاح رحمة .
الثاني : قانون إزاحة موانع عن دخول الناس ، فكان كثير من أهل مكة ، ورجال القبائل يخشون بطش وأذى قريش عندما يهمون بدخول الإسلام.
وهل كان فرض قريش الحصار على بني هاشم من السنة السابعة إلى العاشرة للبعثة النبوية الشريفة تخويفاً متعمداً للناس من دخول الإسلام ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ومن مكر الله عز وجل دخول الأنصار في الإسلام ، فهم لا يخشون بطش قريش ، ليكون إسلام الإنصار من مصاديق المنّ في قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) فقد كان دخول الأنصار الإسلام تحفيفاً ونفعاً لكل من :
الأول : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أهل البيت وعموم بني هاشم .
وقد ذكر أن العباس بن عبد المطلب حضر بيعة العقبة الثانية ليستوثق من الأنصار في بيعتهم مع أنه كان على الكفر .
الثالث : الصحابة الأوائل من الرجال والنساء الذين دخلوا الإسلام قبل بيعة العقبة .
الرابع : عموم أهل مكة ورجال القبائل ، فقد فتح الأنصار باب الدخول إلى الإسلام من غير خشية من الكفار .
الخامس : قانون تهذيب السلوك العام من الإرهاب والعنف ، ومنع الكفار , من حمل الناس بالإكراه على البقاء على الشرك وعبادة الأوثان .
وعن أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام في الآية (بأمر الله من أن يقع في ركي، أو يقع عليه حائط، أو يصيبه شئ حتى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل، وملكان يحفظانه بالنهار يتعاقبان)( ).
لبيان إرهاب قريش في محاربتها النبوة ، ونزول آيات القرآن لاستئصاله.
وتبين السنة النبوية براءة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإرهاب ، وإخافة الناس في أي زمان ومكان .
وفي قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ) روي عن أبي هريرة (أن أبا جهل قال : واللات والعزّى لئن رأيت محمداً يصلّي بين أظهركم لأطأن رقبته ولأعفرن وجهه في التراب ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته ، فما فجأه منه إلا وهو ينكص ، أي يرجع على عقبيه ، فقيل له : ما لك؟
فقال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهواء وأجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً .
وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّ لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل) ( ).
وهذه الواقعة في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ،وأسلم أبو هريرة في السنة السابعة للهجرة ، ولم يكن من أهل مكة .
إنما نشأ في مساكن قبيلة دوس بأرض اليمن ، وكان يتيماً ، ولما جاءت دعوة الإسلام لهم أسلم وهاجر إلى المدينة وعمره ثماني وعشرون سنة مع نفر من قومه , والظاهر أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أهل البيت أو الصحابة الأوائل .
ومع تعاقب أيام دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله وجهره بتلاوة القرآن في مكة أخذ حنق أعدائه يزداد ، ويتناجون في كيفية الإنتقام منه ، كما قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد سلامته بين ظهرانيهم ثلاث عشرة سنة.
حتى إذا ما أبرموا عقد قتله بخطة وتعيين أوانها القريب في ذات الليلة التي جمعوا فيها عشرة شبانهم كل واحد من بيت من بيوت قريش باستثناء بني هاشم وبعض البيوت ليهجموا عليه في فراشه ويضربوه بسيوفهم فنزل جبرئيل بالأمر من عند الله بالهجرة.
فكان ذات إعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين حرب على الإرهاب وفضح له ، وبيان لخيبة أمالهم ، وقد اثبت تأريخ النبوة للناس عموماً عدم ترتب النفع على الإرهاب ، إنما هو ضرر محض ، قال تعالى [وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامته عند خروجه من مكة من العاهات والآفات ، ولم يستطع المشركون الإضرار به ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) أمس واليوم وغداَ .
وهل تختص هذه العصمة ببدن وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل تشمل عصمته في رسالته إلى يوم القيامة ، الجواب هو الثاني.
من أسرار تعدد أسماء يوم القيامة
تتعدد أسماء يوم القيامة في القرآن , وهذا التعدد موعظة وعبرة منها :
الأول : يوم القيامة : يقال قام يقوم قياماَ , وادخلت تاء التأنيث على المصدر للمبالغة , لما فيه من الأهوال والأمور العظيمة , وإنفراده بقيام الناس جميعاَ في المحشر.
وقد ورد هذا اللفظ سبعين مرة في القرآن منها في سورة آل عمران , ودلالات هذا اللفظ من جهات :
الأولى : الإخبار الذي يفيد القطع , قال تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا]( ) .
الثانية : البشارة والوعد بالثواب العظيم , قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ) .
الثالثة : الإنذار والوعيد , وفي فرعون ورد قوله تعالى [يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ] ( ) .
الرابعة : بيان عظيم قدرة الله عز وجل , وإنفراده بالملك والحكم في الآخرة.
الخامسة : تجليات العدل الإلهي , قال تعالى [فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) .
السادسة : عنوان انقطاع الحياة الدنيا وأيام الإبتلاء فيها , قال تعالى [فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
السابعة : بيان رحمة الله عز وجل بالناس يوم القيامة , قال تعالى [قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
الثامنة : دعوة المسلمين والناس للإستعداد للبعث يوم القيامة بوجه مشرق تضيؤه الصالحات ، لايكون العمل الإرهابي ندبة سوداء فيه ، وباباً للمساءلة والحساب الشديد.
ومن إعجاز أسماء يوم القيامة في القرآن بعث الناس للدعاء والإستغفار ورجاء النجاة يوم القيامة .
الثاني : الساعة : وهذا الإسم من الإعجاز في علم الأسماء بأن يكون أطول يوم باسم الساعة , وإن كان المراد أحياناَ أوان ابتداء يوم القيامة , وللدلالة على قربه , وأنه حاضر عند الملائكة ينتظرون وقوعه في أي وقت , قال تعالى [لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
و(عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ينادي مناد بين الصيحة : يا أيها الناس أتتكم الساعة – ومد بها صوته يسمعه الأحياء والأموات – وينزل الله إلى السماء الدنيا ، ثم ينادي مناد : لمن الملك اليوم لله . . . ؟ الواحد القهار)( ).
ومن معانيه احتمال قيام الساعة في أي يوم من أيام الحياة الدنيا ، للإقبال على الصالحات والألفة الحسنة مع الناس ، وإجتناب فعل السيئات ، والتنزه عن الظلم ، وسفك الدماء ، والتفجيرات العشوائية التي تسئ الى صاحبها في نفس الساعة التي يفعلها فيها.
ومن معاني هذا الاسم ملاحظة وتدبر الإنسان في عمله بالساعة التي تمر عليه ، وكأنه من أحصاء الإنسان لعمال في كل ساعة لإجتناب فعل السيئات.
الثالث : اليوم الآخر : فليس من يوم أو تأريخ بعد يوم القيامة , لليل والنهار , قال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ.
لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو لابد من انقطاع الحياة الدنيا ، وهذا الإنقطاع ليس الى لا شئ ، إنما إلى يوم لآخر يختلف عنها فهو يوم الحساب والجزاء ، وفي هذه التسمية تذكير بالمعاد ، ودعوة للإستعداد له بجني الحسنات ، وثمار الصالحات ، والإبتعاد عن الظلم ومقدماته.
الرابع : يوم الدين , أي يوم الجزاء على الأعمال , فيثاب المؤمن ويعاقب الكافر والذي غادر الدنيا على المعصية , وورد هذا اللفظ في القرآن ثلاث عشرة مرة , منها ثلاثة في أربع آيات متتالية [يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ]( ).
وفيه تأكيد لعالم الحساب والجزاء يوم القيامة ، وانتفاء العمل فيه ، وامتناع الفرصة في تجدده ، و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيحول بين عينيه ، فعند ذلك يقول رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ( ).
الخامس : يوم البعث : لبيان صفة من صفات يوم القيامة ببعث الناس من قبورهم بعد رقود طويل جثثاَ هامدة تأكلت مع مر الزمان , واختلطت بذرات التراب لتستجيب لأمر الله عز وجل , فيجمع كل بدن وتعاد إليه الروح .
وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مرتين , وفي آية واحدة قال تعالى [لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وورد بصيغ منها الإضافة , قال تعالى [مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( ) وبصيغة الفعل قوله تعالى [ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ]( ).
وكان إبليس يوم أخرج من الجنة يعلم بتكاثر بني آدم وأنهم يبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء كما ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
السادس : يوم الفصل : إذ يفصل الله عز وجل بين الناس يوم القيامة وهو يوم القضاء بينهم أفراداَ وجماعات وأهل ملل , ودولاَ لذا قال تعالى [إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
وفي يوم القيامة تمييز بين صاحب الحق وغيره , فيظهر يومئذ الحق وينكشف المكر والخديعة وأكل المال بالباطل ويفارق المقتول ظلماً وغدراً الحياة الدنيا من غير أن يقتص من قاتله أو يقف للفصل بينهما في القضاء ، ولكنه يوم القيامة يكون حاملاً رأسه مضرجاً بدمه يسأل الله عز وجل الحكم بالحق بينه بين قاتله .
وكذا بالنسبة للذين يصابون بالعاهات والآفات نتيجة الظلم والإرهاب ، لذا يجب أن يتنزه المسلم وغير المسلم عنه ويستعد للقاء الله عز وجل وليس من مدع وشكوى سابقة لدخوله القبر أو ملازمة له .
السابع : يوم الفتح : أي الحكومة بين المؤمنين والكافرين وتحقيق النصر والفتح للأنبياء وأتباعهم وأنصارهم ، وتغشيهم بالنور والسكينة والطمأنينة ، مع لحوق الفزع والرعب للذين كفروا وتبرؤ بعضهم من بعض ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] ( ) ولم يرد لفظ [الَّذِينَ اتُّبِعُوا] في القرآن إلا في الآيتين أعلاه وهو خاص بالذين أشركوا بالله وعبدوا الأوثان لبيان أن المؤمنين في عصمة من هذا التبرأ ، وهم يحرصون على عدم الإنقياد والمناجاة في الظلم وسفك الدماء والإرهاب .
وكم من حق ذهب هدراَ في الدنيا تجده جلياَ واضحاَ في الآخرة مقرونا بالحساب والجزاء , قال تعالى [قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ]( )
ولم يرد لفظ (يوم الفتح) في القرآن إلا مرة واحدة في الآية أعلاه ، واحتمل بعضهم أن المراد من يوم الفتح هو معركة بدر لأن الله عز وجل حكم فيها بين المؤمنين والمشركين وقيل أنه فتح مكة إلى جانب إرادة يوم القيامة ، وقال في النكت والعيون ({ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيمَانهُمْ } ( )فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الذين قتلهم خالد بن الوليد يوم فتح مكة من بني كنانة ، قاله الفراء .
الثاني : أن يوم الفتح يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أن اليوم الذي يأتيهم من العذاب ، قاله عبد الرحمن بن زيد) ( ).
ومع ورود دليل على التعدد في معنى يوم الفتح يصح ، والمختار أن المراد في الآية هو يوم القيامة ، وأحكام آية البحث شاملة لأجيال الناس جميعاً .
وقد سمّى الله عز وجل يوم بدر يوم الفرقان ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
والنسبة بين الفتح والفرقان عموم وخصوص مطلق ، فالفتح أعم ، وأستمر قيام المشركين بتجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة بدر كما في معركة أحد ، ومعركة الخندق مما يدل على أنه ليس بفتح ، ولو كان المراد فتح مكة لما نفع الذين أسلموا يومئذ أسلامهم بل قبل الله عز وجل اسلامهم وهم نحو الفين ، وقد وردت تسمية طائفة من رؤسائهم بالمؤلفة قلوبهم .
وجعل الله عز وجل لهم سهماً من الصدقات والغنائم ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن يلحقه الأذى في الدنيا بسبب إيمانه يرى الفتح كاملاً في الآخرة .
وهل فيه إشارة إلى عدم تسمية دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة (يوم الفتح) الجواب لا .
لعمومات معنى الفتح , قال تعالى [أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ]( ) وقال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) .
و(عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ صَلِّ هَاهُنَا فَسَأَلَهُ
فَقَالَ صَلِّ هَا هُنَا فَسَأَلَهُ فَقَالَ شَأْنَكَ إِذًا) ( ) .
الثامن : يوم الصاخة : مأخوذة من صخ الأذن أصمها بشدة الصراخ والصياح في إشارة إلى النفخ في الصور الذي يكاد يصيب الأسماع بالصمم , وشدة الأمر يوم القيامة , قال تعالى [فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ] ( ) .
ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وهل يستثنى المؤمنون من شدة صوت يوم القيامة ،والصيحة التي تفيد إعلان وقوعها ، المختار لا ، ولكن التمايز في الوقائع التي تقع بعدها ، كما تدل عليه مضامين سورة عبس التي وردت فيها الآية أعلاه ، ومنها [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ *وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ] ( ). وتحمل شدة الصيحة يوم القيامة الناس على التصديق بالآخرة ، وأنه حق ليفوز يومئذ من كان يؤمن به في الدنيا وهو من الشواهد على تسميته أصلاً من أصول الدين ، وإن جاءت هذه التسمية بالإستقراء من قبل عدد من العلماء ،وتبعت الصيحة التي تصخ الأذان الناس على استحضار أعمالهم في الدنيا لتكون هذه الآية وتسمية يوم القيامة بـ (يوم الصاخة ) دعوة لإجتناب الإضرار بالناس ومعاشاتهم ومساكنهم ، وترك استعمال السلاح للقتل والجرح والغيلة والتفجير فهو خلاف وظائف الإيمان . التاسع : الواقعة : وقيل الواقعة الصيحة , والنفخة في الصور (وقيل الواقعة صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وهذا بعيد) ( ) . [وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ]( ) ونزلت سورة كاملة من القرآن باسم سورة الواقعة ، قال تعالى [إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ]( ) فعند وقوع يوم القيامة وحدوث علاماتها القريبة لا يكذبها أحد .
وحينما يحشر الناس يوم القيامة يقرون جميعاً بوقوعها ، فمن كذّب بها في الدنيا أظهر الحسرة والندامة يومئذ ، وصار من الأخفض والأدنى يومئذ ، لذا وصفها الله عز وجل بأنها [خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ]( ).
ولا تقال الواقعة إلا في الشدة ، ويفيد الألف واللام في لفظ (الواقعة) العهد والحصر بها من جهة شدة الأهوال يوم القيامة .
وفيه تخفيف عن المؤمنين فيما ينزل بهم من المصائب والمحن ، ودعوة لهم للصبر فهي قليلة بلحاظ الصيحة والطامة والصاخة يوم القيامة ، وليس للمسلم أن يلجأ إلى الإرهاب لضرر لحقه إنما عليه الصبر واتباع السبل الشرعية والقانونية إلى أن يحين أوان الواقعة التي هي حق وصدق .
العاشر : الطامة الكبرى , قال تعالى [فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى]( ) والطامة من أسماء يوم القيامة لأن وقائعها تطم وتغطي كل هالكة مما عداها , وتغلب على الأمور التي كان الناس ينشغلون بها .
ويولي الناس العناية لأمور خاصة أو عامة في الدنيا ، فيستحضر كل إنسان عمله ، وكذا تتذكر الجماعة والطائفة والحزب أعمالهم مما يلزم الإستعداد ليوم القيامة بالتنزه عن الظلم والإرهاب والمناجاة أو التعاضد فيه وتهيئة مقدماته .
ومن معانيه سوق أهل النار إلى النار , ولم يرد لفظ (الطامة) في القرآن إلا في الآية أعلاه وقيل الطامة النفخة الثانية لأن الصاخة النفخة الأولى .
الحادي عشر : يوم الآزفة لبيان دنو وقرب يوم القيامة ، ولهذا سمي الساعة ، قال تعالى [أَزِفَتْ الآزِفَةُ]( ) ولا يعلم أوان وقوع يوم القيامة إلا الله عز وجل ، ولا يستطيع أحد إرجاءه ، وهل الدعاء وسيلة لدفعه وتأجيله ، المختار نعم ، وهل يختص الأمر بآخر جيل من الناس أم هذا الدعاء نافع في كل زمان ، الجواب هو الثاني ، فتسأل الله عز وجل إرجاء يوم القيامة ، وإصلاح الناس للتهيئ له بعمل الصالحات لننال والمؤمنون من ثواب عبادة وصلاح الأجيال اللاحقة .
الثاني عشر : يوم الحشر : ذكر الحشر في القرآن على وجوه :
الأول : قال تعالى [وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا]( ).
الثاني : حشر المؤمنين الذين عملوا الصالحات قال تعالى [يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا]( ).
الثالث : قال تعالى [يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا]( ).
فجاء ذكر المتقين مستقلاَ , بينما ورد حشر المجرمين في الآية أعلاه مقترناَ بالنفخ في الصور لبيان الرعب الذي يحل بهم .
وهناك سورة باسم سورة الحشر وعدد آياتها أربع وعشرون آية .
وورد لفظ الحشر في القرآن مرة واحدة في ذات السورة أعلاه ولكنه ليس بخصوص يوم القيامة قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا] ( ).
الثالث عشر : يوم لا ريب فيه : وفي التنزيل [رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( )، إذ تتعاقب أيام الحياة الدنيا بنظام كوني دقيق ، وإطالة عمر الدنيا أو قصرها أمر بيد الله عز وجل وهو سبحانه [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، فلذا تضمن القرآن الإخبار عن قانون وهو لا يعلم أوان الساعة والنفخ في الصور إلا الله عز وجل.
ويتصف يوم القيامة بأنه حتمي الوقوع ، ليس من شك صغير أو كبير في وقوعه ، وفيه دعوة للناس لتعاهد الأمن والمحافظة على السلم وإجتناب مافيه الحساب والعقاب الشديد كالظلم والتعدي ، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن بيان المقصود من اليوم الذي لا ريب فيه وأنه يوم القيامة في آيات منها قوله تعالى [قُلْ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بحرف اللام (ليوم) ولم تأت بحرف الظرفية (في) لبيان أهوال يوم القيامة ، وأنه يوم النشور ، وحضور الأعمال والحساب والجزاء الدائم.
ويلزم تعظيم كل اسم من أسماء يوم القيامة على نحو مستقل , وبالجمع بينه وبين أسماء القيامة الأخرى , مع التدبر في دلالة كل اسم منها فصحيح أن الاسم غير المسمى ولكن للأسماء معاني تشير إليها , وفي قوله تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ), هل علم الله عز وجل آدم اسماء يوم القيامة الواردة في القرآن أم علمه اسماَ واحداَ منها وما هو هذا الاسم , المختار أن الله عز وجل علم آدم اسماَ واحداَ أو أكثر منها .
ويمكن استقراء هذا الإسم من القرآن كما لو تم إحصاء كل اسم من أسماء يوم القيامة في القرآن واختيار أكثرها عدداَ , لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
سور باسم يوم القيامة
ومن إعجاز القرآن تعدد السور التي هي باسم يوم القيامة وهي :
الأولى : سورة الدخان وهي مكية ( ) .
الثانية : سورة الواقعة وهي مكية ( ).
عن أبي طيبة الجرجاني قال (دخل عثمان بن عفان على عبد الله بن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال : ما تشتكي.
قال : أشتكي ذنوبي. قال : فما تشتهي.
قال : أشتهي رحمة ربي. قال : أفلا ندعو الطبيب.
قال : الطبيب أمرضني. قال : أفلا نأمر بعطائك.
قال : لا حاجة لي به. قال : أندفعه إلى بناتك.
قال : لا حاجة لهنَّ بها؛ قد أمرتهنَّ أن يقرأن سورة الواقعة ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً)( ).
الثالثة : سورة الحشر وهي مدنية ( ) .
الرابعة : سورة التغابن وهي مكية ( ) .
الخامسة : سورة الحاقة وهي مكية ( ) .
السادسة : سورة القيامة وهي مكية ( ).
السابعة : سورة النبأ وهي مكية ( ) .
الثامنة : سورة التكوير وهي مكية ( ) .
التاسعة : سورة الإنفطار وهي مكية ( ).
العاشرة : سورة الإنشقاق وهي مكية ( ).
الحادية عشرة : سورة الغاشية وهي مكية ( ) .
الثانية عشرة : سورة الزلزلة وهي مكية ( ) .
الثالثة عشرة : سورة القارعة وهي مكية ( ) .
وعدد السور المكية منها هو (12) وتدل هذه الكثرة على إرادة إنذار قريش والناس جميعاً وهدايتهم إلى التوبة والإنابة ، وهل منه زجرهم عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وترك الإرهاب العام والخاص .
الجواب نعم ، فمن معاني الإكثار من ذكر يوم القيامة والحساب في السور المكية منع قريش من تجهيز الجيوش لغزو المدينة ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا ساروا في معركة بدر وأحد والخندق .
ولولا نزول هذه السور لكان هجومهم أكثر كماً ورجالاً وأسلحة ، ولتدافعوا وتسابقوا في القتال ، وأطالوا مدته ، وقد علم الله عز وجل ضعف الصحابة يومئذ فخفف عنهم بقلة مدة القتال في معركة بدر ، ومعركة أحد ، فكل واحدة منهما انقضت في ذات اليوم الذي ابتدأت فيه ، وهذه القلة من معاني وصفهم بالذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
أما السور التي تتحدث عن يوم القيامة فهي أكثر ، منها سورة البقرة ، وآل عمران ، والمائدة ، وهي من آخر سور القرآن نزولاً .

الْتَقَى الْجَمْعَانِ
من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) وجوه :
الأول : يوم التقى الجمعان جمع مشركي قريش يريد القتال وسفك الدماء لغرض الإقامة على الفساد والظلم ، وجمع نبوة وإيمان يريد إعلاء كلمة التوحيد.
الثاني : يوم التقى الجمعان جمع مضطر للدفاع ، وجمع مشركين يصر على القتال.
الثالث : يوم التقى الجمعان جمع يؤيده الله بنصره وجمع منهزم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ]( ).
الرابع : يوم التقى الجمعان جمع معه الملائكة للنصرة ، وجمع معه الشيطان الذي ولى هارباً.
الخامس : تأييد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، في معركة بدر وأحد ، لذا ورد اللفظ أعلاه ثلاث مرات في القرآن واحدة في سورة الأنفال وتتعلق بمعركة بدر كما تقدم واثنتين في سورة آل عمران بخصوص معركة أحد وهما :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( )، و(عن كليب قال : خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها فلما انتهى إلى قوله { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } .
قال : لما كان يوم أحد هزمنا ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد فقلت : لا أجد أحداً يقول قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]الآية كلها)( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ (الجمعان) مرة رابعة في القرآن بخصوص خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر ولحوق فرعون بهم ليغرق وجنوده في بحر القلزم وهو البحر الأحمر ، من غير ذكر لقاء بينهما قال تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ]( ).
مما يدل على عدم وقوع مواجهة وقتال في الميدان بين موسى وأصحابه وبين فرعون وجيشه للتباين الكبير في العدد والعدة ، ولأن الله عز وجل أراد أن يهلك فرعون وجنوده لإدعائه الربوبية.
و(عن ابن عباس أن الله أوحى إلى موسى : أن أسر بعبادي . وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون حلياً وثياباً . إن لنا عيداً نخرج إليه فخرج بهم موسى ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف . فذلك قول فرعون [إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ]( ).
وخرج فرعون ومقدمته خمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب ، فلما انتهى موسى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه ، فمشى على الماء ، واقتحم غيره بخيولهم فوثبوا في الماء ، وخرج فرعون في طلبهم حين أصبح وبعدما طلعت الشمس ، فذلك قوله [فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ]( )، فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه.
وقيل له : اضرب بعصاك البحر . ففعل[فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( )، يعني الجبل . فانفلق منه اثنا عشر طريقاً فقالوا : انا نخاف أن توحل فيه الخيل . فدعا موسى ربه فهبت عليهم الصبا فجف.
فقالوا : انا نخاف أن يغرق منا ولا نشعر ، فقال بعصاه فنقب الماء فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر .
وأقبل فرعون حتى انتهى إلى الموضع الذي عبر منه موسى وطرقه على حالها فقال له أدلاؤه : إن موسى قد سحر البحر حتى صار كما ترى ، وهو قوله [وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا]( )، يعني كما هو . فخذ ههنا حتى نلحقهم وهو مسيرة ثلاثة أيام في البحر)( ).
أي كانت هناك فرصة لفرعون لنجاته وجيشه ، ومن ثم عودتهم إلى مصر وسلطانه لعدم اللحاق بموسى في الصحراء إذ أشار عليه الأدلاء بأن ما حدث في البحر من سحر موسى ، وأنه يزول بسرعة فلا تدخله أنت وجنودك ، ولكن فرعون أصرّ على اللحاق بموسى وقومه وأقحم فرسه في الماء باستدراج من جبرئيل لأن فرعون قال [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ).
ومن قبل قتل فرعون السحرة وامرأته أسيا لإيمانهم ، ولم يبق مستقراً في ملكه وعرشه بل سار يريد أن يقتل الرسول موسى عليه السلام وإبادة أمة مؤمنة ، فنصر الله عز وجل رسوله موسى عليه السلام وحفظ الأمة ، وهو من مصاديق التأييد الإلهي في قوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]( ).
وهل أدرك الأدلاء أن تلك آية ومعجزة لموسى عليه السلام وربطوا بين انفلاق البحر وبين أكل عصا موسى عليه السلام لعصي السحرة ، ولكنهم خشوا من طغيان فرعون وأن يقتلهم كما قتل السحرة عند اعلانهم الإيمان.
فقالوا (ان موسى قد سحر البحر) تورية منهم ، ولأن الغاية صرف فرعون عن العبور ، الأقرب لا ، لوجوه :
الأول : قد جاءت آيات تبين مدرسة جهادية أسسها سحرة فرعون فلما توعدهم بالصلب والقتل [قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( )، ولما دخل الإيمان قلوب السحرة لم يتوجه بلاضرار بفرعون بل اختاروا الصبر ، نعم أنذروه بأن الدنيا زائلة وأن اللقاء في الآخرة ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( )، لبيان أن الصبر والإمساك عن افضرار بالناس من علامات الإيمان.
الثاني : لقد عبر الأدلاء مع فرعون البحر ، ولم يمتنعوا عنه ، خاصة وأن الجنود في ساحة القتال في يتجرأون في القول والفعل خاصة مع الظالمين.
الثالث : لقد صاحب الأدلاء فرعون في الطريق إلى البحر ، يتبعون أثر موسى وأصحابه عندما أمر فرعون بالعبور لم يظهروا ما يدل على إيمانهم.
وفي الجمع بين قوله تعالى [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، وبين قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، مسائل :
الأولى : الزجر عن الحروب والإقتتال.
الثانية : اللجوء إلى السلم والصلح والموادعة.
الثالثة : تأكيد قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الرابعة : دلالة كل من الآيتين في المفهوم على الأمر للذين آمنوا بالتقيد بالفرائض والواجبات العبادية .
الخامسة : البشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأتباعه بالنصر عند لقاء المشركين.
السادسة : الإنذار للذين كفروا من القتال.
فصحيح أن الآية أعلاه لم تقيد وتكشف عن الجهة التي يريد الله نصرها ويؤيدها.
ولكن آيات أخرى تدل على المطلوب منها قوله تعالى بخصوص معارك الإسلام [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ) .
والخطاب في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وهل يشمل أجيال المسلمين ، الجواب نعم ، لأصالة العموم في الخطاب القرآني ، ولدعوة المسلمين والمسلمات في كل زمان للشكر لله عز وجل على نعمة النصر المتعددة ، وما فيه من استئصال للإرهاب وزجر عام عنه .
قراءة سلام في [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]
من خصائص الكلمة القرآنية أن يكون لها مفهوم مغاير للمنطوق تقتبس منه المسائل والمواعظ ، لتبقى غضة طرية تدعو العلماء والناس جميعاً للإنتفاع منها ، ومنه آيات الدفاع والوئام بين الناس ، واستئصال للظلم الذي كان يزاوله المشركون ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] ( ) وفي بيان الآية أعلاه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ( ).
وجعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التخويف ، فهو سبحانه يمنع من استدامة الظلم في الأرض ، وليس من حصر لمصاديق هذا المنع ، ومنه بعثة الأنبياء والمرسلين ، والتأييد بالنصر ، وابتلاء الظالم والقاء البأس بين الظالمين ، وهداية القلوب للصلاح ، والنفرة من الظلم ، وهي من المقدمات والتوطئة لبعثة الأنبياء .
وجاءت الآية بصيغة المضارع [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ] للوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر ، والإنذار للمشركين بالهزيمة إن أقدموا على قتاله ، وهو الذي حصل في معركة أحد والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، بعد ثلاثة عشر شهراً على معركة بدر ، وأرادها المشركون ثأراً لهزيمتهم فيها ، وانتقاماً لما لحقهم من الذل والخزي والخسران.
فأخبر الله عز وجل بكلمة واحدة بسوء عاقبتهم وأنهم سينهزمون بكلمة واحدة وهي [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ].
ولم ينتصر المشركون في معركة أحد ، وإن لحقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خسارة كبيرة وسقط سبعون شهيداً من الصحابة وهو من البراهين الدالة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في حالة دفاع ولم يكن غازياً لا في معركة بدر ، ولا معركة أحد.
ومن معاني السلام في هذا الشطر من الآية صرف الحروب والقتال المتجدد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الناس جميعاً ، لتكون كل من أيام السلم والحرب مناسبة لذكر الله وإدراك الحاجة الخاصة والعامة له سبحانه.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً فأخبر عن نصر الله عز وجل للمسلمين بآيات منها ورود لفظ (بنصره) مرة أخرى في قوله تعالى [فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( )، في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
لبعث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة إيواء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين في المدينة ، وتوالي نزول القرآن فيها ، وهو يدعو إلى الصبر والسلم والصلح والإحسان والود مع الناس.
لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً على الشرك والفسوق والظلم والتعدي ونصره الله ليقيم والمسلمون سنن السلام في الأرض ويطمئن الناس لرياستهم وحلمهم ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
معنى الباء في [بِنَصْرِهِ]
لم تذكر الآية رمي الله عز وجل المشركين بالهزيمة والخسارة بل جاءت الباء في (بنصره) على وجوه :
الأولى : الإلصاق كما تقول : أمسكت بيدك ، وكما في قوله تعالى [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ]( )، إذ تكررت الباء في الآية أعلاه وكل واحدة منهما للإلصاق ، وقيل اقتصر سيبويه في معنى الباء على هذا الوجه بلحاظ أنه لا يفارقها.
ولكنه لم ينكر المعاني الأخرى للباء التي ذكرها النحويون ، إذ قال (وباء الجر إنما هي للإلزاق والاختلاط، وذلك قولك: خرجت بزيدٍ، ودخلت به، وضربته بالسوط : ألزقت ضربك إياه بالسوط. فما اتسع من هذا في الكلام فهذا أصله)( ).
أي أن سيبويه أبقى الباب مفتوحاً لذكر معاني أخرى للباء غير الإلصاق.
و(عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله {يؤيد بنصره من يشاء} قال : يقوي بنصره من يشاء قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم . أما سمعت قول حسان بن ثابت:
برجال لستمو أمثالهم … أيدوا جبريل نصراً فنزل)( ).
الثاني : مجئ الباء في قوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ] للآلة والوسيلة وهي التي تسمى في علم النحو باء الإستعانة نحو (كتبت بالقلم) لإرادة آلة الفعل ، ومنه قوله تعالى [وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ]( ).
وعند نسبة الفعل إلى الله عز جل فلا يصح تسمية الباء للإستعانة ، لأن الله عز وجل غني ، وغناه مطلق ، وهو سبحانه لا يستعين بشئ ، إنما يستعين العباد به ، وفي التنزيل [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ويكون معنى الباء في (يؤيد بنصره) جهتين :
الأولى : يؤيد الله عز وجل بآلة ووسيلة النصر من يشاء من عباده .
الثانية : يؤيد الله من يشاء باستعانته بنصر الله عز وجل ، فيتخذ النبي والذين آمنوا نصر الله مادة واستعانة للفوز بتأييد الله عز وجل ،لبيان قانون وهو النسبة بين التأييد والنصر من عند الله عموم وخصوص مطلق.
الثالث : إرادة السببية ، كما في قوله تعالى [تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( )، والمعنى يكون تأييد وإعانة الله عز وجل لأوليائه بسبب نصره لهم لبيان الرحمة والفضل المركب.
فهو سبحانه الذي ينصرهم ثم يؤيدهم بهذا النصر ، والشواهد عليه كثيرة فالله عز وجل يهدي الناس للإيمان ويرزقهم تعاهده ثم الثواب عليه ، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ]( )، وفيه إقرار بأن الهداية الخاصة والعامة من عند الله عز وجل مع سؤال رحمة إضافية ، والنجاة من ميل القلوب إلى الضلالة ومفاهيم الإرتداد.
الرابع : الباء حالية كما في قوله تعالى [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا]( )، أي وهم متلبسون برحمة من عند الله.
وكذا فان الله عز وجل يؤيد الأنبياء وهم في حال نصر وظهور ، والمراد من النصر في الآية أعم من مواطن القتال ، إذ يراد منه أيضاً الظهور والرفعة واستماع الناس لدعوة التوحيد ، وهذا هو المعنى الأعم للنصر ، والقدر المتيقن من النصر في بعض الآيات هو النصر في ميدان المعركة.
وهل يمكن القول أن دخول كل فرد الإسلام من الصحابة ذكراً أو انثى هو نصر ، الجواب نعم ، وهو الذي كان يغيظ قريشاً.
الخامس : الباء للظرفية كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، أي في بدر ويمكن تقسيم الباء إلى جهات :
الأولى : باء ظرفية مكانية.
الثانية : باء ظرفية زمانية .
الثالثة : باء ظرفية مكانية زمانية .
والباء في قوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]( )، من القسم الثالث ، فالله عز وجل يؤيد النبي في المكان والزمان على نحو مستديم.
السادس : الباء للمصاحبة كما في قوله تعالى [ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ]( )، أي أدخلوا الجنة بسلام وتسليم وأمن من حر وعذاب النار ، ومن الرجوع إلى الدنيا وعالم الإبتلاء والإفتتان ، وادخلوها بسلام دائم.
وكذا فان تأييد الله عز وجل للأنبياء والذين آمنوا مصحوب بالنصر والغلبة على المشركين.

قانون الإطلاق في حضور التأييد
لقد تكررت الآيات التي تخبر بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل وحده لا يشاركه فيه أحد وأيهما أهم انتفاء الشريك في العبادة أم في ملك الله عز وجل ، الجواب كلاهما أهم ، والعبادة تكليف ، والنسبة بين قبح الشرك فيها والشرك في الملك عموم وخصوص مطلق.
فالذي لا يتخذ مع الله شريك يسلم بأن السموات والأرض ملك طلق لله عز وجل وحده ومن شكر الله عز وجل لعباده الذين جاهدوا التثبيت سنن التوحيد في الأرض تأييدهم وحصرهم وإعانتهم وفيه حجة على الذين آمنوا للإمتناع عن الإرهاب والغدر والغيلة ، للإكتفاء بالعون من الله وهو الذي له ملك السموات والأرض ، يعلم ما يفعل كل انسان ، وقد فتح باب التوبة للناس جميعاً.
وهل ينحصر تأييد الله عز وجل للرسل وأهل الإيمان والتقوى بالنصر ، الجواب لا ، خاصة وأن أيام السلم أضعاف أيام الحرب والقتال .
فالتأييد أعم موضوعاً وزماناً ، وهو من اللطف الإلهي وهداية القلوب للإنصات للحق والتدبر في المعجزات ، وبعث الشوق في النفوس لأهل الإيمان ، وفي التنزيل حكاية عن ابراهيم عليه السلام [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
ترى كيف يكون تأييد الله بالنصر ، الجواب إنه من المتعدد كماً وكيفاً بما لا يعلمه إلا الله عز وجل ، خاصة مع تباين الأحوال ، ويمكن استقراء صيغ ووجوه من هذا النصر من القرآن منها :
الأول : نزول الملائكة للنصرة .
الثاني : اشتراك الملائكة في القتال .
الثالث : اكتفاء الملائكة بتكثير العدد.
الرابع : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا.
لبيان عدم اختصاص مصاديق النصر بتقوية طرف النبوة والإيمان ، إنما يشمل إضعاف المشركين قبل واثناء وبعد المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الخامس : مضاعفة عدد المؤمنين في أعين الكافرين ، وقلة عدد المشركين في أعين المؤمنين.
وعن عبد الله بن مسعود (في قوله [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ]( ) الآية . قال : هذا يوم بدر فنظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وذلك قول الله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ( ).
فحينما نظر الصحابة أول مرة للمشركين رأوهم بعددهم الفعلي وهم نحو ألف أي أكثر قليلاً من ثلاثة أضعاف المسلمين في الميدان.
فاجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بالدعاء وأكثروا من ذكر الله عز وجل فقلل الله عز وجل عدد جيش مشركي قريش في أعين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تخفيفاً عنهم وليكونوا شهوداً على هذه المعجزة.
وهل من معاني الآية والتبدل الحاصل في الرؤية أن المشركين نظروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعددهم الحقيقي ، الجواب [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ).
ولما جال رجال قريش حول معسكر المسلمين يوم بدر وعلم رؤساؤهم عدم وجود مدد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
قال ابو جهل (احملوا عليهم، ما هم الا أَكَلَة رأس، ولو بعثنا إليهم عبيدنا لاخذوهم أخذا باليد)( ).
وأكلة : جمع آكل أي أن عدد المسلمين كمجموعة رجال يجتمعون على أكل رأس بعير مثل يضرب لقلة العدد ، ولبعث الحماس في نفوس الجنود للقتال لبيان أن عدد المسلمين في عيون المشركين صار على أحوال :
الأولى : نظر المشركون لعدد المسلمين كثلاثمائة ونيف فحينما بعثوا عمير بن وهب الجمحي للإستطلاع قال هم ثلاثمائة أو يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ثم جال بفرسه في الوادي ليرى هل من مدد للمسلمين فلم ير مدداً.
الثانية : تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين حتى ظنوا أنهم جماعة قليلة لغلبة الحمية والعصبية عند المشركين ، واستدراجاً لهم من عند الله.
الثالثة : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورؤية المشركين للمسلمين حينئذ [مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ]( )، أي ضعف عدد المشركين لبيان أن تقليل عدد المسلمين وكذا زيادته ومضاعفته هو من تأييد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
الرابعة: تعدد صيغ تأييد ونصرة الله عز وجل بدلالات وشواهد من الإعجاز في ملكه وسلطنته تعالى ، وبعظيم قدرته.
فنزلت الملائكة فصار عدد المسلمين في أعين المشركين كثيراً ، وضعف عدد جيش المشركين ، وهو من التأييد الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
ولبيان أن تأييد الله عز وجل ليس له حد أو منتهى .
وجاء هذا التأييد للمسلمين يوم بدر وهم في حال دفاع ودعوة خالصة للتوحيد ، وفيه حض لأجيال المسلمين على الصبر والرضا بفضل الله عز وجل.
وهل هذا التأييد من مصاديق الجنود في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) أم أنه من مقدمات وأسباب الجنود ، الجواب هو الأول .
لبيان خصوصية في جند الله وأنها جنود توليدية تتفرع عنها جنود أخرى على نحو متكرر ومتعدد ، فمثلاً كان الملائكة الذين أنزلهم الله يوم بدر من أسباب النصر في المعركة ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ…] ( ) ثم صار ذات النصر في معركة بدر من جنود الله إلى يوم القيامة.
السادس : رجحان كفة الإيمان في المبارزة ، وما لها من أثر ، فمن عادة المقاتلين تقديم أشجع رجالهم للمبارزة.
ولم يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المبارزة يوم بدر ولا في المعارك الأخرى مع أنهم من جنود الله ، وتحضر معهم الجنود والتأييد من الله عز وجل ، وهو من الشواهد على إرادته السلام وإدراك الناس بغضه للقتال.
لقد احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لقيام شطر من الناس بالفساد وسفك الدماء فتفضل الله عز وجل وأجابهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال الفساد والإرهاب والعنف ، واجتنابه سفك الدماء فلا يجعل أصحابه يطلبون المبارزة في معارك الإسلام مع أنها دفاعية محضة ، لبيان أن صيغة السلم والموادعة في النبوة قبل واثناء وبعد المعركة ، وهو من الشواهد على أن آيات السلم غير منسوخة ، لأن عدم نسخها جزء من استدامة صبغة السلم في منهاج النبوة.

نصر النبي (ص) سلم
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لإشاعة العدل والسلم في الأرض ،وإجتهاد الناس في عبادة وطاعة الله عز وجل ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
نشر السلام في الأرض ، وحرمة الإرهاب والتعدي في ملك الله والإنذار على إرتكابه ، لأن ملك الله للأرض وما فيها وما عليها ، ملك تصرف ومشيئة وسلطان تام ، فلا يرضى الله على الجور والإرهاب والظلم في أرضه وعدم رضاه سبحانه ليس كيفية نفسانية لأنه معصوم عن الكيف والأين.
وهل من ملازمة بين السلم والعبادة ، الجواب لابد من عبادة الله على كل حال في السراء والضراء ، والرخاء والشدة ، وحال السلم والحرب ، لذا شرّعت صلاة الخوف ، وصلاة الغريق ، قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا] ( ) ولا يعلم كثرة وسّدة العوائق التي يزيحها الله عز وجل عن طريق العبادة ومسالك الصلاح ، إلا هو سبحانه ، ومنها إزاحة الظالمين والمشركين عن مقامات الرياسة ، وجاء القرآن بشواهد كثيرة بخصوصه ، ومنها ايضاً إلقاء الخوف والرعب في قلوب رؤساء قريش ، لبيان أن هذا الرعب عقوبه وضرر كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
وتأييد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين اختياره للبعثة النبوية وتهيئة أسباب قيامه بالدعوة والتبليغ والأمن من شرور قريش لتثبيت السلم والأمن في الأرض ، لذا فالخطاب والأمر واللطف في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً..] ( ) متجدد إلى يوم القيامة ، وشامل لأجيال المسلمين والمسلمات ، وهو في دلالته ومفهومه زجر عن العنف ، وإخافة الناس ، ودعوة عامة للتعاون في بيان لزوم التنزه عن الإرهاب والإبتعاد عنه .
وحينما أراد كفار قريش قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره الله عز وجل بالهجرة إلى مكة ، والهجرة تأييد ونصر من الله عز وجل ليصاحبه النصر في معركة بدر.
لقد سأل المسلمون والمسلمات الله عز وجل عصمة القلوب من الميل إلى الهوى ومفاهيم الضلالة ، مع وجود برزخ وفاصلة بين هذا الميل ، وبين ترجله في الخارج الذي يكون عليه الحساب ، لبيان الإرتقاء في المعارف الإلهية عند المسلمين بتقوى الله ، والخشية من مراودة الشك والريب قلوبهم وسؤالهم الله عز وجل صدّ ومنع مقدمات المعصية ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
وعن الإمام الحسن بن علي عليه السلام قال (واعلم أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب)( ).
والظلم والإرهاب ليس من الشبهات إنما هو حرام ومنهي عنه كتاباً وسنة وعقلاً وعرفاً.
لوجوب تنزه الناس جميعاً عنه خاصة وأنه خال من النفع القريب أو البعيد ، وعلى الذات أو الغير.
وقد ورد عن شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدّث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت: قلتُ: يا رسول الله، وإن القلب ليقلَّب.
قال : نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب.
قالت : قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي.
قال : بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيظَ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن( ).
وقول شهر بن حوشب سمعت أم سلمة تحدث : أي أنها تحدث جمعاً من الناس وفدوا عليها ، بما ينشر السنة النبوية وتوثيقها وبيان أنها تفسير القرآن ، وتعضيد للآيات.
ليكون نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، مصاحباً لهم في كل من :
الأولى : معارك الإسلام اللاحقة مثل معركة أحد ، والخندق.
الثانية : أيام وحالات السلم .
الثالثة : كتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد معركة بدر ، فلا يتعرض لهم المشركون ، ومع عدم التعرض هذا تتجلى حقائق للناس بأن النبي محمداً لا يريد القتال ويبغض سفك الدماء ، إنما هو رسول هدى وسلام وأمن في النشأتين ، إذ أن القتال والحروب تخلط الأوراق وتبعث على العصبية والحمية والحنق والثأر.
الرابعة : إزاحة العوائق عن التبليغ ، ليكون نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر مقدمة لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
الخامسة : الجدال والإحتجاج ، وهل فيه حجة على الذين كفروا ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : أسباب معركة بدر ، وأنها بابتداء وإصرار من رؤساء قريش .
الثاني : التضاد العقائدي بين الإيمان والكفر ، وهل هذا التضاد سبب حتمي ومقدمة لوقوع القتال .
الجواب لا ، إنما وقعت معركة بدر لأن المشركين أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : إنتفاء الأسباب العقلائية لغزو كفار قريش للنبي المدينة ، وإرادة قتل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وورد قوله تعالى [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، بصيغة الإطلاق ، ولم يرد لفظ (يؤيد) في القرآن إلا في هذه الآية .
فهل يعني أن الله عز وجل يؤيد النبي وقد يؤيد المشركين ، ويؤيد المؤمن وقد يؤيد الكافر ، الجواب لا ، فمن خصائص القرآن وجود المطلق والمقيد فيه ، أو ورود التقييد بالسنة النبوية .
ويتجلى التقييد والماهية في الجهة التي ينصرها الله عز وجل من جهات منها :
الأولى : الآيات التي تذكر نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، منها قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ).
ونستدل بقانون امتناع اجتماع الضدين على أن الله عز وجل لا ينصر الكافرين لأنهم بالضد مع دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنها رحمة لهم ، وخير محض للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثانية : الوعد الكريم من الله عز وجل باعلاء كلمة التوحيد ، والعزة للمؤمنين ، والنسبة بين العز والنصر عموم وخصوص مطلق ، فالعز أعم ، قال تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثالثة : نصر الله عز وجل للرسل عندما تعرضوا للأذى ، وتلقوه بالصبر والتحمل ، والمواظبة على الدعوة إلى الله ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الرابعة : المراد من النصر بقوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]أعم من الغلبة والنصر في سوح المعارك ، ومن معاني نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل قبل الوحي .
الثاني : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: كل آية قرآنية نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل مسلم ومسلمة ، ويشمل النصر بالقرآن النصر على النفس الأمارة بالسوء والنفس الغضبية.
وتقبض الآية الجوارح عن البطش والفتك ، وسيبقى اللسان الرطب بالقرآن معصوماً من السب والشتم ، وهذا البقاء حرز من الإرهاب والإساءة للناس .
الرابع : صرف البلاء الخاص والعام نصر .
الخامس : السلام والأمن نصر للفرد والمجتمع ، لذا فمن نصر الله عز وجل للأنبياء سيادة الأمن في مجتمعاتهم ، وصيرورته مظهراً من مظاهر نبوتهم ولزوم اتباعهم ، لذا أوجب الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين ، ليكون تأصيلاً للسلام ، وحرزاً ومانعاً من الإرهاب ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
قانون التضاد بين فضل الله والإرهاب
الفضل هو الخير والإحسان ، ويأتي بمعنى الزيادة والنافلة ، وعالم الخلق والتكوين من فضل الله عز وجل ، لتحار العقول في عظيم قدرته وسلطانه ، وليس من حصر لتعداد أصول وتقسيمات فضل الله ، فمن باب الأولوية العجز عن إحصاء مصاديق فضل الله عز وجل في باب من أبواب رحمة الله عز وجل في الدنيا ، هذه الأبواب كقطرة الماء في البحر من فضل الله عز وجل في الآخرة.
نعم يحجب الكافر عن نفسه الفضل الأخروي بالجحود والشرك بالله عز وجل.
وفي قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) ورد عن (فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلهم من أهله) ( ).
وقد ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )ست مرات في القرآن ، مع تعدد متعلق موضوعها ، فمنها ما يتعلق بالدنيا ، ومنها ما يخص الآخرة ، ومنها ما ورد ضمن خطاب للمسلمين والمسلمات بقيد التقوى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
ومن التقوى التنزه عن الإرهاب ، وعن إخافة الناس في بيوتهم ومدنهم وقراهم ، وفي المركبات والبرية والجوية ، ولم يأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالعفو والصفح والرحمة والهداية ، وقول لا إله إلا اله محمد رسول الله ووجوب أداء الصلاة ، وقد قال تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ]( ).
لبيان أن الصلاة واقية من التعدي والظلم ، وأن ذكر الله عز وجل يحبس الجوارح عن الإضرار بالآخرين ، ومن أشد الضرر مباغتة الناس بالعدوان الشخصي أو الجماعي .
ومن واجبات الناس مقابلة فضل الله عز وجل بالشكر ، فلا يختص هذا الواجب بالمسلمين وأهل الكتاب إنما هو شامل للناس جميعاً ، ومنه الإقرار بالتوحيد ، وتعاهد السلم المجتمعي ، ونبذ العنف والإرهاب .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يكون فضله على الفرد والجماعة والأمة حاضراً في كل ساعة من ساعات الحياة الدنيا لبيان قانون وهو نسخ وإزاحة الإرهاب من الأرض فلا يلبث أن يختفي حالما يظهر ، ومن فضل الله عز وجل استهجان عامة الناس له ، وعدم رضاهم بالفعل الإرهابي.
ومن فضل الله عز وجل على الناس تحقيق الغايات الحميدة من غير حاجة للجوء إلى العنف والإرهاب.
والمختار أن النسبة بين التناقض والتضاد عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي التضاد والتنافر وعدم الإجتماع ، ومادة الإفتراق أن المتناقضين لا يرتفعان ، كالليل والنهار ، والوجود والعدم أما المتضادان فقد يرتفعان كالسواد والبياض فانهما يرتفعان باللون الأخضر والأصفر وغيرهما.
قانون النسخ تخفيف وسلام
لقد جعل الله عز وجل القرآن كتاب الرحمة والهداية للمسلمين ، والناس جميعاً ، وتتعدد مصاديق الرحمة والهداية في كل آية من آيات القرآن ومضامينها القدسية ، والصلة بين الآيات في الموضوع والحكم ، ومنها أحكام النسخ في القرآن.
لقد انشغل عدد من المفسرين بالقول بنسخ آية السيف لأكثر من مائة آية من آيات السلم والصلح والموادعة ولا أصل لهذا القول ، ولقد تضمن القرآن النسخ في موارد التخفيف وتيسير أداء الفرائض العبادية ، وتحسين السنن ، وفي النسخ مسائل :
الأولى : النسخ خاص ببعض الأحكام تخفيفاً من غير تعارض بين الحكم المنسوخ والناسخ، فالنسخ دليل على كون الحكم السابق مؤقتاً وان افاد في ظاهره الثبوت، والناسخ هو الأفضل والأيسر للأمم والأجيال المتعاقبة , قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
والنسبة بين قوله تعالى [ُيرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( )، وبين الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق ، إذ أن النسخ من اليسر والتسهيل ، لذا فان القول بنسخ آية السيف لمائة آية من القرآن لا أصل له ، لأن كل آية من آيات السلم رحمة وتخفيف ويسر ، ومن مصاديقه الآيه أعلاه( ).
الثانية : الناسخ دال على المنسوخ، وهاد اليه ولكن ليس بعنوان تثبيته وامضائه بل باقراره ثم العدول عنه إلى ما هو أيسر منه ، فمن التصديق في باب النسخ بيان فضل المنسوخ وملاك الأمر فيه، ثم ذكر أفضلية الناسخ , وما فيه من التخفيف والتيسير ، ومصاديق الفضل واللطف الإلهي المستحدثة.
الثالثة : لا يستطيع المنسوخ النهوض لمعارضة الناسخ لإتصاف الناسخ بالتخفيف ومناسبة الحال والشأن والإرتقاء في مراتب الكمال، او لزيادة الثواب والأجر , قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
الرابعة : يبقى المنســوخ شــاهداً على منافع تصديق القرآن وانها لا تنحصر بالتصــديق والإقرار ويدل على أفضلية القرآن وأهــليته للإمــامة ولزوم رجــوع الناس له، والنسخ رحمة ومدرسة لمعرفة الإرتقاء العقائدي في منازل التنزيل، وشــهادة ذاتية على عظـيم فضل الله تعالى بالقرآن والكتب السماوية الأخرى.
ولتكون آيات القرآن مجتمعة ومتفرقة شهوداًُ على جهاد المسلمين ، وحسن تلقيهم لأحكام الشريعة، وقد يقول قائل كيف يكون التصديق مع القول بتحريف الكتب السابقة ، والجواب من جهات :
الأولى : قانون القرآن شاهد على موضوع نزول التوراة والإنجيل، ونبوة موسى وعيسى عليهما السلام والأنبياء الآخرين.
الثانية : يكشف التصديق ذاته التحـريف ، ويمنــع من تجــدده واستمراره لأن المدار على المصدق وآخر الكتب السماوية، ومن الآيات في المقام ان كفار قريش لم يجدوا سبيلاً الى الطعن في القرآن وآياته.
الثالثة : طرو التحريف على الكتب السماوية على نحو السالبة الجزئية التي لا تضر في أصل التنزيل ومضامين التوحيد.
قانون دفاع النبي قهر للإرهاب
حينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن أحد يتوقع حدوث المعارك والقتال في نبوته بسبب عدم تصديق وجهاء قومه بنبوته ، ولم يتبعوه.
وقد يقال حينئذ باب الأولوية عدم إتباع أكثر الناس له من داخل وخارج مكة وهذا الذي كان يقصده رؤساء الكفر من قريش بتحريض أبي لهب بحمله لواء محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ورميه بالجنون والسحر وتحذير الناس خاصة وفد الحاج منه ، لبيان أن قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن إمتناع أهل مكة عن الإيمان لم يمنع من دخول الناس في الإسلام ، وقيامهم بالدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والسعي لجعل هذا الدفاع نصراً ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( ).
ومن إعجاز الآيات والسور التي نزلت من القرآن في بدايات الدعوة وفي مكة أنها تمنع من القتال ، وتزجر عنها ، إذ أنها تتقوم بلغة الإنذار ، وصيغ التخويف بالآخرة ، وما فيها من العذاب للذين كفروا ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ] ( ) ليكون من منافع لغة الإنذار هذه وجوه :
الأول : دعوة الناس لدخول الإسلام .
الثاني : منع الناس من إتباع الذين ظلموا ، وإنذارهم من الإنقياد لأوامر قريش في النفير والخروج لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة .
الثالث :المندوحة والسعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله ، وقيامه بالتبليغ من غير خوف وضرر ليس في الأشهر الحرم وحدها بل في كل أيام السنة , للأمن والوعد الإلهي الذي يتجلى في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) .
الرابع : دخول أهل القرى والقبائل الإسلام .
وهل ظهر أثر آيات البشارة والإنذار في معارك الإسلام الأولى,الجواب نعم ، وكان لها موضوعية من جهات :
الأولى : عدم خروج جميع أهل مكة إلى معركة بدر، إنما خرج الذين لهم أموال في قافلة أبي سفيان ، وقيل أن بني عدي لم يخرج منهم أحد.
الثانية : سبب وقوع معركة بدر إصرار أبي جهل ونفر قليل من رؤساء قريش على القتال ، وقيل لما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنجاة القافلة ، وأن قريشاً خرجت للقتال أراد بعض المسلمين أن يرجعوا ، ولكن النبي أصر على القتال كيلا تفسره قريش هزيمة ، ولا أصل لهذا القول ، إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدفع القتال ومقدماته في كل مناسبة .
وكان يوصي أصحابه في السرايا أن لا يبدأوا قتالاً مع المشركين ، وعندما يلتقي هو معهم كما في معركة بدر وأحد والخندق ، كان ينادي قبل بدئ القتال (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) .
الثالثة : حينما أرسل أبو سفيان إلى جيش قريش يخبرهم بأن القافلة قد نجت وطلب منهم الرجوع رجع فريق من قريش منهم بنو زهرة إذ قال (الاخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، وكان حليفا لبنى زهرة، وهم بالجحفة: يا بنى زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بى جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا.
قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا) ( ).
ولكن أبا جهل أصرّ على التقدم ، ولم يعلم أنه يريد القاء ، إنما قال حتى نصل إلى بدر (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسِلْ إلَى قُرَيْشٍ : إنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فَقَدْ نَجّاهَا اللّهُ فَارْجِعُوا .
فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَرِدَ بَدْرًا – وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ شَوْقٌ كُلّ عَامٍ – فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، فَنَنْحَرَ الْجُزُرَ وَنُطْعِمُ الطّعَامَ وَنَسْقِي الْخَمْرَ وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا ، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا ، فَامْضُوا) ( ).
الرابعة : تردد وتخاذل أفراد جيش المشركين في ميدان المعركة ، وهو من أدلة إنقضاء كل من معركة بدر ومعركة أحد في ذات اليوم الذي بدأت فيه .
الخامسة : إنهزام جيش المشركين بعد ساعات قليلة من بدء المعركة ، كما حصل في معركة بدر ، وكذا في معركة أحد لولا أن أكثر أفراد سرية الرماة تركوا مواضعهم مما مكّن خيل المشركين من المجئ من خلف جيش المسلمين فكانت الخسارة الكبيرة ، وفي وقائع معركة أحد ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
لقد تفضل الله عز وجل على قريش بمنزلة عظيمة ومرتبة رفيعة في المال والجاه بين القبائل والسطوة والسمعة والشأن بين الدول العظمى آنذاك مثل الروم وفارس والحبشة ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، وتخصيص سورة لقريش .
وكيف صرف الله عز وجل عنهم شرور أبرهة وجيشه مع أن بلاد قريش صحراء قافلة ، لبيان معجزة في بركة البيت الحرام في كل زمان حتى قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة والمال والأمن لمجاوريه من ذرية إبراهيم عليه السلام.
ولتكون هذه المعجزة مقدمة لتصديق قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته ، ولكن قريشاً جحدوا بالنعم واتخذوا الإرهاب ومحاربة النبوة منهاجاً يومياً داخل البيت الحرام وفي مكة وخارجها.
فتلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأذى بالصبر ولكن الآيات كانت تنزل تباعاً لترد عليهم وتفضحهم ، وتفصلهم عن عامة الناس ، وهو من أسرار تسمية آيات القرآن فرقاناً ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
وهذه الآية هي الأولى من سورة اسمها الفرقان وعدد آياتها (77) آية ، ومن إعجاز القرآن في المقام صرف أذى المشركين ومنع استحواذ لغة العنف والبطش والإرهاب على المجتمعات.
لقد إضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع عن بيضة الإسلام في معارك الإسلام الأولى ، وفي الإحتجاج والإضرار بهم خارج ميدان القتال، وهذا الدفاع ضد الإرهاب والطغيان ، والعتو والغرور ، وهل ينحصر بزمانه .
الجواب لا ، فلقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نظام محاربة الإرهاب ليقتدي به المسلمون في بعث الأمن ومفاهيم السلم حولهم وفي دويرتهم وأرجاء العالم ، والتحلي بالصبر على الأذى والتنزه عن الإرهاب.
ويتنافى الإرهاب منطوقاً ومفهوماً ومنهاجاً مع ثناء الله عز وجل على المسلمين , وأحكام الشريعة السمحاء .
قانون تصديق الكتب السماوية لبعضها
لقد أنزل الله عز وجل القرآن رحمة بالناس جميعاَ , وكانوا أقساماَ :
الأول : المسلمون والمسلمات , الذين تلقوه بالتصديق .
الثاني : المليون او الكتابيــون وهم الذين لهم كتاب سماوي يرجعون اليه كاليهود وكتابهم التوراة ، والنصارى وكتابهم الإنجيل , وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ] ( ).
الثالث : الكفار والمشركون الذين ليس لهم كتاب يرجعون اليه، وهؤلاء على ثلاث شعب:
الأولى: الجماعات والأمم التي تدعي أن عندها كتاب , وتنسبه إلى السماء وإلى أحد الأنبياء من الذين ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن , والوحي أعم من أن ينحصر بهذه الكتب السماوية الثلاثة ، قال تعالى [قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثانية: الأمم التي عندها كتاب وقوانين وضعية ولا تدعي أنها نازلة من السماء.
الثالثة : الجماعات والطوائف التي ليس لها كتاب ولا تعمل الا وفق قواعد وأنظمة وضعية بلحاظ العرف وقد يغلب عندها نظام الغاب والنفس الشهوية والغضبية ونحوها.
فجاء القرآن (بعلم التصديق) ليكشف وجوه الضلالة والكفر ويحذر منها ويدعو إلى ابطالها وتفنيدها بعرضها على القرآن لمعرفة زيفها وكذب اصحابها وعدم صدقها ولزوم هجرانها والإعراض عنها.
وتصديق القرآن للكتب السماوية الأخرى سبيل إلى التقارب بين الملل السماوية ودعوة لأهل الكتاب لتلقي آيات القرآن بالتدبر والأخذ منه وعدم التفريط بما فيه من العلوم والخزائن والأسرار، وهو مناسبة لميل نفوسهم الى المسلمين وعدم التعدي عليهم أو ظلمهم ، وهذا التصديق حق ، وشهادة سماوية ، وهو من أسباب استئصال الإرهاب وغلق الذرائع والمنع منه.
وكان المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في أيام البعثة شديد , بينما توجه القرآن وقال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
ونزل القرآن بقانون الجزية بخصوص أهل الكتاب[حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ] ( ) لبيان أنهم في ذمة الإسلام ، ويسقط عنهم قتال المشركين ، إنما يقاتل المسلمون دونهم.
ولم يرد لفظ (الجزية ) و(الخمس ) في القرآن إلا مرة واحدة ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وفي هذا الزمان صارت القوانين بصفة المواطنة العامة ، والتساوي في الحقوق والواجبات ، وغابت مسألة العتق في الكفارة لأنها أصبحت سالبة بانتفاء الموضوع.
وحينما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وســلم الى المدينـة وكان فيها اليهود عقد معهم معاهدات موادعة ، فلحقه المشــركون وحاربــوا المسلمين في بدر وأحد والخندق ، وكان المشركون هم الغزاة في كل من هذه المعارك مع إصرارهم على القتال فيها .
ولقد ثبت ان القرآن ناسخ فهل هناك تعارض بين أحكــام النســخ، وعلــم التصــديق، الجواب: لا، من وجوه:
الأول : يتعلق التصديق بالتنزيل واثبات ان التوراة والإنجيل من عند الله تعالى ، ومن إعجاز القرآن مجئ آيات تتضمن التصديق بالكتب السماوية الثلاث :
أولاً : القرآن .
ثانياً : الإنجيل .
ثالثاً : التوراة .
منها قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ) إذ تجمع هذه الآية بين بشارة عيسى عليه السلام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه برسالة موسى عليه السلام السابق له زماناً ، وفيه دعوة لأتباع الأديان الثلاث لنبذ الخصومة والشقاق .
الثاني : من أفراد التصديق علوم التوحيد والإمتثال للأوامر الإلهية , واجتناب النواهي التي جاءت بها الكتب السماوية , قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
الثالث : مما بين يـدي القرآن النبوات وبعثة الإنبياء والمرسلين، فجاء القرآن بتصديق نبوة موسى وعيسى، وهو أمر محكم وثابت ، واجنبي عن النسخ.
ومن معاني التصديق وجوه :
الأول : الإعتراف بصدق الشئ .
الثاني : الإقرار بالشئ .
الثالث : الإتيان بالشواهد على صدق الشئ .
الرابع : البرهان على أنه حق وصدق .
لقد أكرم الله عز وجل الكتب السماية النازلة من السماء بالشهادة على صدق نزولها من وجوه :
الأول : بشارة الكتاب السابق بالكتاب اللاحق .
الثاني : تصديق الكتاب اللاحق للكتاب السابق .
الثالث : إلتقاء الكتب السماوية بالدعوة إلى التوحيد .

الرابع : جهاد الأنبياء للتصديق بالكتب السماوية فيأتي النبي بالتصديق بالكتاب الذي أنزل إليه والكتب السماوية الأخرى .
وهو من الشواهد بأن الأنبياء لم يجاهدوا من أجل دنيا أو سلطان فيها , إنما كان جهادهم لإصلاح النفوس والتعايش السلمي , وبعث الناس للسعي للفوز بالجنة .
الخامس : بقاء شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن للكتب السماوية إلى يوم القيامة , قال تعالى [وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
وورد لفظ (الميهمن) مرة واحدة في القرآن اسماً من الأسماء الحسنى ، كما ورد لفظ (مهيمناً عليه) لإرادة القرآن حفظه للكتب السماوية والجار والمجرور في الآية نوع تعضيد للمعنى ، وهو في المقام على وجوه :
الأول : الرقيب على الكتب السابقة ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : حفظ القرآن للكتب السماوية السابقة .
الثالث : القرآن شهيد على نزول الكتب السماوية اسابقة من عند الله.

الرابع : من معاني (مهيمناً عليه) أن القرآن أمين على الكتب السماوية السابقة ، يمنع من طرو التحريف والزيادة على الأصول الواردة فيها.
الخامس : تقرير وإمضاء القرآن لما في الكتب السماوية من أصول عقيدة التوحيد .
السادس : اشراف وسيطرة القرآن على الكتب السماوية السابقة لحفظها.
السابع : توثيق القرآن للوقائع والأخبار وقصص الأنبياء والأمثلة.
الثامن : التجديد الجامع لمضامين الكتب السابقة في القرآن.
ومن معاني هيمنة القرآن على الكتب الأخرى بيانه وسلامته من التحريف أو الزيادة أو النقصان ، لذا فالقرآن كاشف لما طرأ على الكتب السابقة وفيه دعوة لأهل الكتب للتصديق بنزول القرآن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
ومن منافع تصديق الكتب السماوية لبعضها الشهادة العامة منها على صيغ السلم والحفاظ على الأمن التي تتصف بها ، فحينما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأنه يفسد في الأرض ويقتتل الناس فيما بينهم إذ [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، لبيان أن أي سبب من أسباب القتال في الدنيا لا أصل له ، وهو مخالف لمناهج الخلافة في الأرض ، وعلة خلق الإنسان قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وهل الآية أعلاه من آيات السلم ، الجواب نعم ، ولا يختلف اثنان في كونها من الآيات المحكمات والعبادة برزخ دون الظلم والإرهاب والتعدي.
قانون دفاع النبي (ص) سلام
قد يتبادر إلى الذهن إنصراف الإبتلاء والإمتحان عن الإنبياء لأنهم سادة الخلق , والذين أكرمهم الله عز وجل بالنبوة والرسالة , ولكن الله عز وجل أبى إلا أن يتلقى كل إنسان ضروباَ من الإبتلاء والإمتحان في الدنيا , وهو من مصاديق سور البشرية الجامع للناس في قوله تعالى [) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلاقي الإبتلاء كفرد من البشر مع رحمة الله عز وجل والتخفيف منه بالوحي .
وفيه دعوة للمسلمين بالصبر على الإبتلاء , وحسن التعايش والكلمة الطيبة مع عامة الناس , وهو من مصاديق الإقتداء والإسوة الحسنة في قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) وسيأتي قانون الأسوة حصن من الإرهاب.
ترى كيف كان دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدر دعوة للسلم وفيه وجوه :
الأول : اضطرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه للقتال , فلم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاربة قريش , وقيل كان ينوي الإستلاء على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام والتي تتألف من ألف بعير ولا أصل لهذا القول , ولو تنزلنا وقلنا بصحته فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعلمون بأن قريشاَ ستنتقم وستحرض معها القبائل المتحالفة معها , والتي لها مصالح مشتركة مع قريش , ولس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بطاقة بمواجهتم فقد كان مجموعهم ثلاثمائة وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار يوم بدر , وهناك من الأنصار من اعتذر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين انقلابه من معركة بدر ولو زحف المشركون حينئذ في السنة الثانية من الهجرة فلا يخرج لملاقاتهم إلا نحو خمسمائة من الصحابة قياس لعددهم في معركة أحد إذ كانوا سبعمائة في مقابل ثلاثة آلاف عدد جيش المشركين , هذا إلى جانب والفارق الكبير في السلاح والعدة لصالح المشركين .
لقد تفضل الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر , وهو سبحانه الذي ينزلهم إذا وقعت معركة بديلة عنها , بدليل نزولهم في معركة أحد التي جرت بعدها بثلاثة عشر شهراَ , قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
وتحتمل الإستغاثة في الآية أعلاه خاصة من جهات :
الأولى : إنها خاصة بمعركة بدر , فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه العودة والمدد بخصوص هذه المعركة .
الثانية : إتصال الإستغاثة فهي سابقة لمعركة بدر , ومصاحبة لها , ومن خصائص التقدم الزماني بالدعاء ,واللجوء إلى الله عز وجل في حال الرخاء حضور الإستجابة عند الشدة الضراء .
و(عن الإمام الصادق عليه السلام قال :من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء، وقيل : صوت معروف ولم يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدم في الدعاء ، لم يستجب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة : إن ذا الصوت لا نعرفه )( ) .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعًاء َ كثير الدعاء من أول أيام البعثة النبوية , وهل تلاوة الصحابة لآيات القرآن , التي تتضمن دعاء تحتسب لهم دعاءَ .
الجواب نعم ومنها قصص الأنبياء والصالحين من الأمم السابقة التي تتضمن الدعاء وذات الإيمان سبب لنزول الملائكة للحفظ والنصرة , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ) .
الثالثة : استغاثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالله لإرادة السلامة والظفر في معركة بدر وما بعدها.
ولا تعارض بين هذه الجهات , لذا وردت الآية بصيغة الماضي (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) ( ) والإخبار عن فضل الله عز وجل بمجئ المدد منه قوله تعالى بصيغة المضارع (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) ( ).
الثاني : إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبتداء بالقتال , ونهى أصحابه عن الرمي أو المبارزة .
الثالث : مناداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان بكلمة التوحيد التي السور الجامع للناس على إختلاف مذابهم .
فلم يناد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة والتصديق بنبوته , إنما كان يدعو قريشاَ بما جاء به أبوهم إبراهيم , وبما سادوا على العرب بجوار البيت الحرام , مع الترغيب بالتوحيد , وبيان منافعه في النشأتين , إذ كان ينادي قولوا لا إله إلا الله تفلحوا .
وستبقى كلمة التوحيد شعار السلام .
والمرجع الذي يلتقي عند الناس , ويصدرون عنه.
وهو سور الموجبة الكلية الذي تنزل معه البركات من السماء ,وتخرج الأرض كنوزها وحينما نادى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) امتنعت قريش عن قولها , وبادروا إلى رمي السهام والنبال على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وسقط عدد من الصحابة قتلى , وهو مقدمة وحجة لنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(وكان أول قتيل من المسلمين في المعركة مهجع مولى عمر بن الخطاب رمي بسهم فقتله.
قال ابن إسحاق: فكان أول من قتل، ثم رُمي بعده حارثة بن سراقة أحد بني عدى بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فمات)( ).
ومع هذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم على المشركين إنما أظهر الصبر , واستمر بالنداء والدعوة إلى كلمة التوحيد لبيان قانون وهو نبوته سلام محض .
الرابع : عندما انهزم المشركون يوم بدر لم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللحاق بهم ومطاردتهم وقتلهم , إنما تركهم لحالهم , وهو يعلم أنهم يأوون إلى فئة .
وسيعودون إلى الغزو والقتال , وفي المرة التالية لم يصبروا ويرصدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتائبه كي يلقوه في البيداء إنما يتوجهون لغزو المدينة , فتركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر يهربون دعوة للسلم والصلح الذي اضطروا إليه في السنة السادسة للهجرة في الحديبية .
الخامس : حسن معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأسرى قريش والعناية بهم .
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية دعوة للسلام , وتثبيت له في الأرض إلى يوم القيامة , لتكون هناك مصاحبة بين بقاء آيات وأحكام القرآن وبين السلام في الأرض , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
قانون معارك قبل الإسلام في القرآن
لقد ذكر القرآن الأنبياء السابقين ، مثل نوح وإبراهيم وإسحاق وإسماعيل .
وقد تأتي آية بذكر عدد من الأنبياء ومنه قوله تعالى [وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ).
كما ذكر القرآن الكتب السماوية السابقة ، مثل التوراة والإنجيل ، قال تعالى [وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( ).
ومن الإعجاز في المقام تجلي إكرام القرآن من جهات :
الأولى : لقد وقعت معارك كثيرة بين الناس عبر التأريخ ، وما لم تذكر وتوثق وانقطع خبرها أكثر من التي وثقت وذكرت في ذاكرة التأريخ والكتب والأشعار والوثائق والحكايات.
الثانية : اختصت الكتب السماوية بذكر معارك مخصوصة ، فذكر القرآن بعض المعارك من الأمم السابقة منها قوله تعالى [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وقد قتل داود عليه السلام جالوت قائد جيش المشركين الطغاة بمقلاع رماه به.
إذ اصطف الفريقان ، وكان ملك بني اسرائيل طالوت معه نبي يوحى إليه اسمه شمويل ، وهو الذي نصبه ملكاً.
وخرج إخوة داود وعددهم أربعة مع جيش طالوت ، وتخلف داود مع أبيه في غنم أبيه يرعاها .
(قال ابن إسحاق: وكان داود، فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: رجلا قصيرا أزرق ، قليل شعر الرأس، وكان طاهر القلب نقيه.
فقال له أبوه : يا بني، إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوون به على عدوهم، فاخرج به إليهم، فإذا دفعته إليهم فأقبل إلي سريعا! فقال : أفعل)( ).
لبيان أن أباه لا يستطيع فراق أولاده كلهم وليس عنده من يرعى ويحرس الغنم ، ولم يكن مع داود سلاح وسيف ودرع ، إنما كان معه مقلاع ، ومخلاة يحمل بها الحجارة التي يرميها بالمقلاع لطرد الذئاب ونحوها عن غنمه.
وحينما ابتعد عن أبيه وتوجه إلى ميدان المعركة ناداه حجر في الطريق ، وقال ياداود خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت فاني حجر يعقوب أي يعقوب النبي بن إسحاق بن ابراهيم عليه السلام .
ثم مر بحجر آخر وناداه بأنه حجر إسحاق وأن يحمله ، فأخذه .
ثم مرّ بحجر ثالث فقال اني حجر إبراهيم عليه السلام .
لتثبيت قلبه وانزال السكينة في نفسه حينما يصل إلى معسكر بني إسرائيل ويرى الخشية والفزع من جالوت فلا يخافه.
فحينما وصل المعسكر ، وأعطى إخوته ما بعث إليهم أبوهم من الزاد سمع العسكر يعظمون أمر جالوت ، ويظهرون الخشية منه ، فقال : والله اني لو أراه لقتلته ثم سألهم أن يدخلوه على الملك طالوت.
وطلب منه أن يلبسه درعاً ، وأخبرهم داود عن شجاعته بأنه يرى الأسد يأخذ الشاة من غنمه ، فيركض خلفه ويدركه ، ويفك لحييه ويأخذها من فيه.
فتفاءل طالوت وقال (والله لعسى الله أن يهلكه به)( ).
فلما اصبحوا والتقى الجيشان للمبارزة والقتال ،( قال داود: أروني جالوت!
فأروه إياه على فرس عليه لأمته، فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته، فيقول هذا: خذني!
ويقول هذا: خذني!
ويقول هذا: خذني!
فأخذ أحدها فجعله في مقذافه، ثم فتله به، ثم أرسله، فصك به بين عيني جالوت فدمغه، وتنكس عن دابته، فقتله.
ثم انهزم جنده، وقال الناس: قتل داود جالوت!
وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه، حتى لم يسمع لطالوت بذكر إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود، هم بأن يغتال داود وأراد قتله، فصرف الله ذلك عنه وعن داود، وعرف خطيئته، والتمس التوبة منها إلى الله)( ).
الثالثة : إتصاف قصص القرآن بأنها حق وصدق وأنها تؤكد التوحيد ، ووجوب عبادة الله وحده ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله
مع أنه لم يرد لفظ ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) في القرآن فقد وردت أحاديث عديدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصه وتفسيره ومعانيه ومنافعه منها (عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أنعم الله عليه نعمة فأراد بقاءها ، فليكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله}( ).
وأخرج أحمد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش.
قلت : نعم .
قال : أن تقول {لا قوة إلا بالله }( ).
وأخرج ابن منده في الصحابة من طريق حماد بن سلمة ، عن سماك ، عن جرير قال : خرجت إلى فارس فقلت {ما شاء الله لا قوة إلا بالله }( ) فسمعني رجل فقال : ما هذا الكلام الذي لم أسمعه من أحد منذ سمعته من السماء؟
فقلت : ما أنت وخبر السماء؟
قال : إني كنت مع كسرى فأرسلني في بعض أموره ، فخرجت ثم قدمت ، فإذا شيطان خلفني في أهلي على صورتي ، فبدا لي ، فقال : شارطني على أن يكون لي يوم ولك يوم ، وإلا أهلكتك ، فرضيت بذلك ، فصار جليسي يحادثني وأحادثه ، فقال لي ذات يوم : إني ممن يسترق السمع والليلة نوبتي ، قلت : فهل لك أن أختبئ معك؟
قال : نعم .
فتهيأ ثم أتاني فقال : خذ بمعرفتي ، وإياك أن تتركها فتهلك ، فأخذت بمعرفته فعرج بي حتى لمست السماء ، فإذا قائل يقول : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله فسقطوا على وجوههم وسقطت ، فرجعت إلى أهلي فإذا أنا به يدخل بعد أيام ، فجعلت أقول : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال : فيذوب لذلك حتى يصير مثل الذباب .
ثم قال لي : قد حفظته فانقطع عنا .
وأخرج أحمد في الزهد ، عن يحيى بن سليم الطائفي ، عن شيخ له قال: الكلمة التي تزجر بها الملائكة الشياطين حتى يسترقون السمع { ما شاء الله}.
وأخرج أبو نعيم في الحلية ، عن صفوان بن سليم قال : ما نهض ملك من الأرض حتى يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله .
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم .
وأخرج ابن مردويه والخطيب والديلمي من طرق ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أخبرني جبريل أن تفسير { لا حول ولا قوة إلا بالله } أنه لا حول عن معصية الله ، إلا بقوة الله ، ولا قوة على طاعة الله ، إلا بعون الله ) ( ).
ويأتي بيانه عادة في تفسير قوله تعالى [وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا] ( ).
الحمد لله حمداً كثيراً دائماً أبداً ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ومن اضرار الإرهاب أنه يعكر الوجدان الشخصي والنوعي , وفيه أذى عام للمجتمعات , خاصة مع إنتفاء أسبابه الشرعية والعقلائية .
وعن الإمام محمد بن علي الباقر (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : القرآن أفضل من كل شيء دون الله وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن لم يوقر القرآن لم يوقر الله وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده)( ).
و(روى انس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : القرآن أفضل من كل شيء فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن استخف بالقرآن استخف بحق الله تعالى حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله المعظمون كلام الله الملبسون نور الله فمن والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد استخف بحق الله تعالى)( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن آيات التوحيد والأحكام والسنة النبوية تجعل المسلم في شغل عن الإرهاب ، وتنفر نفسه منه ، وتأتي آيات البشارة والإنذار والوعد والوعيد لتدعو المسلمين والمسلمات بالمناجاة بلزوم إجتناب الإرهاب .
وتتجلى مصاديق ومنافع هذه المناجاة في الواقع العملي بانتفاء صفة الإرهاب عن المسلمين ، ولا عبرة بالقليل النادر الذي هو في نقصان وتضاؤل ، وهذا النقصان من إعجاز القرآن فهو الكاشف والفاضح للوهم ومفاهيم الضلالة .
وخزائن الله سبحانه بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وكذا آيات القرآن فانها كلام الله ، ويمكن القول بقانون كل كلمة من الله خزينة لا تنضب ، لذا فان القرآن باق إلى يوم القيامة ، وفيه النفع والأجر ، ومن نفع القرآن بيان قبح الظلم والزجر عنه , وعن أفراده العامة والخاصة ، ومنه الإرهاب ، فيدرك العقلاء قانون التضاد بين القرآن والإرهاب ، وقد صدرت من هذه السِفر عدة أجزاء بهذا القانون وهي :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .

قضاء الإسلام على إرهاب ( الوأد )
فالأم تقص على أولادها ذكوراَ وأناثاَ ما تم وأده من بناتها , والجدة تروي للأبناء ما لاقته والأسى الذي يصيب الأسرة بالوأد والعجز عن الإعتراض والإحتجاج , فلم يكن من سبيل إلى فضل الله عز وجل الذي منً على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولعل من النساء لم تلد إلا بنات فحرمت من الذرية .
لقد كانت النساء تدرك العسر والمشقة في نجاتهن من الوأد الذي نال كثيراً من البنات عند الولادة أو الرضاعة أو الصيام ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
وهل الوأد من الإرهاب ، الجواب نعم ، إذ أن سببه الخوف من غزو القبائل الأخرى ، وتسبى النساء فتكون سبباً للعار والخزي ، وذات الوأد إرهاب.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للحرب على الإرهاب من جهات :
الأولى : قطع أسباب الوأد ، ومنع الغزو بين القبائل والقرى ، ونهب الأموال وسبي النساء.
لقد كان العرب يأمنون في الأشهر الحرم وهي شهر رجب منفصل ، وشهر ذي القعدة ، وذي الحجة ومحرم متصلة ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
فان قلت قد استمر الغزو حتى في أيام النبوة ، الجواب إنه محدود ، وليس غزواً بين القبائل إنما هو غزو المشركين للمدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في معركة أحد إذ صار جيش المشركين على بعد (6)كم من المسجد النبوي أي أنهم بأطراف المدينة.
وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل مدججين بالسلاح والدروع أما في معركة الخندق فالحجة على صحة قانون لم يغز النبي أحداً أظهر عقائدياً وتأريخياً ، إذ زحفت الجيوش من مكة وحواليها فاحاط عشرة آلاف رجل منهم بالمدينة.
وسمّاها الله عز وجل الأحزاب ، قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( )، وقال تعالى في ذم المنافقين يومئذ [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً]( )، كما تسمى هذه المعركة غزوة الخندق ، وهي تسمية صحيحة ورديفة للتسمية القرآنية ، وشاهد على اضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حفر خندق حول المدينة ، واجراء الماء فيه ، إلا أنها تسمى غزوة بقصد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الغازي، وهذا هو المتوارث في كتب السيرة وفي المدارس والحلقات ولكن الحقيقة هي أن المشركين هم الغزاة ، وأن النبي وأصحابه كانوا مضطرين للصبر والدفاع ، وقد دبّ الخوف بينهم ، قال تعالى [وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
والحناجر : جمع حنجرة وهي من الإنسان غضروف بين البلعوم والقصبة الهوائية في الرقبة ، وتضم الحبال الصوتية فيصدر الصوت منها.
وبلوغ القلب للحنجرة مجاز شدة الخوف فلا يترك القلب موضعه ، ولكن لبيان شدة الخوف وخشية الصحابة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يغادر الميدان وعلى أنفسهم , وهل يشمل هذا الوصف من شدة خوف النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا فهو ليس من الذين بلغت قلوبهم الجناجر لأن الله عز وجل رزقه السكينة ولأنه لا يظن بالله عز وجل إلا خيراَ فهو الذي ينصره , ويصرف كيد المشركين .
وعن أبي سعيد الخدري قال (قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول : فقد بلغت القلوب الحناجر، قال : نعم . قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله بالريح)( ).
وذكرت الآية أعلاه بلوغ القلوب إلى الحناجر على نحو المجاز مع أن القلوب ثابتة في مكانها لا تتحرك ولكن لإرادة شدة الخوف وفوران الدم والإرباك .
وهل الذين آمنوا وصبروا في طاعة الله في نجاة من هذه الحال يوم القيامة لأنهم ذاقوا وعاشوا المحنة في مرضاة الله ، كما في واقعة الخندق وقوله تعالى [وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ] المختار نعم ، وهو من مصاديق الوعد العام في قوله تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ولو دار الوعد الإلهي بين الإطلاق والتقييد ، فالأصل هو الإطلاق إلا مع القرينة الدالة على التقييد ، ومن خصائص القرآن تعدد وكثرة الآيات التي وردت بهذا المعنى ، وإرادة الآخرة , وأكثرها لا يعني التقييد أو أنها خاصة بعالم الآخرة ، إنما تشمل الحياة الدنيا والآخرة.
لبيان أن المسلمين كانوا في حال خوف ، ولم يشهروا السيوف ، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال والمبارزة ثم أمرهم بالدعاء بستر العورة ، والأمن والسلم.
وكانت مبارزة الإمام علي عليه السلام مع عمرو بن ود العامري اضطراراً بعد عبور عمرو وجماعة الخندق وإصرار عمرو على القتال ، وتعييره لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدم مبارزته فصرعه الإمام علي عليه السلام ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، وذات الكفاية في الآية أعلاه شاهد على إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغزو ، فقد كفاه الله وصرف جيوش المشركين , ويعطي ويهب الله عز وجل بالأوفى والأحسن والأتم , فقد يتبادر إلى الذهن اختصاص الكفاية من الآية أعلاه بخصوص معركة الخندق , ولكنها أعم كما تدل عليه الوقائع والأحداث من جهات :
الأول : وكفى الله المؤمنين القتال في الميدان بعد معركة الخندق.
الثاني : وكفى الله المؤمنين القتال بصلح الحديبية .
الثالث : وكفى الله المؤمنين القتال فلم يزحف المشركون بجيش عدده معشار عددهم في معركة الأحزاب .
الرابع : وكفى الله المؤمنين القتال بصيرورة صلح الحديبية فتحاَ , ونزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) بخصوص هذا الصلح.
الخامس : وكفى الله المؤمنين القتال بفتح مكة .
السادس : وكفى الله المؤمنين القتال للدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية , كفى الله المؤمنين القتال بآية من عنده تعالى .
ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قولوا : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)( )، وجوهاً :
الأول : إنه خاص بواقعة الخندق ، وشدة الأذى والخوف فيها.
ومن الإعجاز القرآني لم يرد لفظ (الرعب) بخصوص المسلمين إنما ورد في ذم الذين كفروا ، كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
الثاني : الدعاء خاص بالصحابة من الذكور والأناث.
الثالث : إرادة عموم المسلمين .
والصحيح هو الثالث ، فكما أن الآية القرآنية تنزل لها أسباب نزول ، ولكن موضوعها أعم والمدار على عموم المعنى ، فكذا الحديث النبوي يأتي في واقعة ولكن المقاصد السلمية منه أعم وأكثر شمولاً.
قانون التعليم والإصلاح من وظائف النبوة
قال تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) .
وتبين الآية أعلاه وظائف الرسول ، وليس فيها قتال وحروب ، إنما هي مانع من القتال ومن الخصومات وأسباب الكدورة ، ولكن المشركين أصروا على القتال والهجوم فأخزاهم الله عز وجل واضطروا للصلح في الحديبية , وقد ذكرت الآية أموراً تخص النبوة وهي :
الأول : الثناء من الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله عز وجل .
الثاني : بيان فضل الله عز وجل في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المؤمنين خاصة وعلى الناس جميعاً .
وهل قوله تعالى [مِنْ أَنْفُسِهِمْ] تقييد للنفع من بعثة النبي ، الجواب لا لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه نفي الفروق والتباين بين العربي والأعجمي وبين الذكر والأنثى في الإسلام ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وورد التذكير في الآيتين أعلاه للتغليب والمراد جميع المؤمنين والمؤمنات.
الثالث : وهل يصح تقدير الآية : لقد منّ الله على المؤمنات إذ بعث فيهن رسولاً يتلو عليهن آياته) الجواب نعم.
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس جميعاً للإسلام ، وتسمع النساء تلاوته القرآن ، سواء في الصلاة أو خارجها ، ليتجلى لهن قانون وهو الإسلام دين الرحمة والحرب على الإرهاب , من جهات :
الأولى : جاءت هذه الآية توثيقاً سماوياً لدعاء إبراهيم فمع أن المدة بين ابراهيم عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو الفي عام فان الله عز وجل لم يترك هذا الدعاء .
وهل ذكر الله عز وجل الدعاء والعناية به خاص بالأنبياء أم يشمل أدعية الناس جميعاً .
الجواب هو الثاني ، لبعث المسلمين بالدعاء لأنفسهم وذراريهم وإخوانهم ولأمور الدين والدنيا ، ومن الدعاء سؤال الله عز وجل التنزه عن الإرهاب ، والسلامة منه ، وإجتناب الناس لمقدماته والنفرة منه ، والإمتناع عن الإعانة فيه فهو نقيض الهدى والرحمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهذا الدعاء من الشواهد على براءة القرآن والنبوة من الإرهاب ، وأنه ضد للإيمان .
الثانية : كما نزلت هذه الآية لبيان دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة والناس ، جاءت آية قرآنية أخرى بلطف من الله عز وجل في ذات موضوع الدعاء مما يدل على استجابة دعاء ابراهيم بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
ولو دار الأمر بن انحصار الدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإبراهيم الخليل أم أن أنبياء آخرين وأولياء وصالحين من أيام أبينا آدم وإلى أوان البعثة , دعوا الله عز وجل لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ونصره وتثبيت أحكام الشريعة فالمختار هو الثاني .
وهل تدل الآية أعلاه على إختصاص الأميين والمسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا إنما تفيد الظرفية والتبعيض ولأن القرآن يفسر بعضه بعضاَ , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) وحتى هذه الآية تفسر بما يفيد مضمون ومصاديق الرسالة للناس جميعاَ وأنها رحمة بهم في النشأتين , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) ليكون كل مسلم مرآة لهذه الرحمة بإعانة الناس والإحسان إليهم والإمتناع عن الإضرار بهم .
الثالثة : لقد قدمت الآية تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن ونسبة الآيات إلى الله عز وجل بقوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( )، لبيان أنها رحمة وخير محض للناس جميعاً ، ويتسالم الناس من كل المذاهب والأديان بأن الله عز وجل لا ينزل إلا شآبيب ومصاديق الرحمة وسبل الهداية والصلاح ، وما هو زجر عن الإرهاب والظلم ، قال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
وتكرر لفظ (يتلو عليهم) مرتين في القرآن في ذات الموضوع ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الرابعة : بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنبياء والرسل ، إذ يتطلع إبراهيم عليه السلام إلى أيام بعثته كي يقرأ على الناس كلام الله عز وجل ، لتبقى هذه التلاوة إلى يوم القيامة ، وتقدير الآية : يتلو آياتك فيتلون آياتك على الناس ويعملون بمضامينها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وتقدير الآية أعلاه : كافة للناس في كل زمان وإلى يوم القيامة ، ليكون من معاني العموم الإستغراقي هذا لزوم التعايش السلمي ، وبسط الأمن ، وحرمة الإرهاب إلى يوم القيامة ، قال تعالى في خطاب للأجيال المتعاقبة [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وفي لفظ (الأميين) أقوال متعددة سعة وضيقاً ، ومنه أن أمة محمد سميت الأميين لأنه لم ينزل عليهم كتاب ، ليشمل المسلمين من العرب والعجم ، لذا من معاني [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]( )، أي ليس من ذم علينا في شأنهم لأنهم ليسوا من أهل الكتاب.
علم إحصاء أحكام القرآن
يتألف القرآن من (114) سورة ، وكل سورة تضم عدداً من الآيات ، وهذه الأعداد من الكلي المشكك فمثلاً عدد آيات سورة الشعراء (227) آية ، وعدد آيات سورة آل عمران (200) مع أن كلمات وحروف سورة آل عمران أكثر من عدد وحروف سورة الشعراء وعدد كلمات آية الدين من سورة البقرة (129) كلمة وعدد حروفها (551) حرفاً.
وهناك (33) سورة من القرآن عدد حروف كل واحدة منها أقل من حروف آية الدين وآية الدين هي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ…]الآية( )، التي هي أطول سورة في القرآن وفيها أيضاً آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن وكل آية منه ذات عظمة وخصوصية بما فيه الحروف المقطعة.
هذا من جهة طول وكثرة الآيات أما من جهة القصر وقلة عدد الآيات فان سورة الكوثر تتألف من ثلاث آيات ، وعدد كلماتها عشر كلمات ، وعدد حروفها (42) حرفاً ، قال تعالى [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ]( ).
والأولى تأليف لجنة لمتخصصين في علوم القرآن والفقه والأصول والعقائد لاستظهار الأحكام التي ورد فيها نص في القرآن أو التي تستنبط منه ، ويمكن أن يقوم بهذا المشروع عالم واحد مع توسعته في قادم الأيام.
وقد تجد الآية القرآنية تتضمن عدداً من الأحكام الشرعية لبيان قانون وهو عدد أحكام القرآن أكثر من ستة أضعاف عدد آيات القرآن والبالغة (6236) آية إذا احتسبنا كل فرد من الحكم المتكرر مستقلاً ، فمثلاً قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( )، وفيها من الأحكام وجوه :
الأول : الآية من آيات الصيام.
الثاني : جواز وطئ الزوجة ليلة الصيام سواء الصوم الواجب بالأصل في شهر رمضان أو الصيام الواجب بالعرض كصيام الكفارة ، أو الصيام المستحب كصيام أيام الليالي البيض.
وسمي الوطئ مباشرة لتلاصق جسد كل واحد من الزوجين بالآخر .
و(عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صِرْمة يعمل في أرض له، قال: فلما كان عند فطره نام، فأصبح صائمًا قد جُهد. فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما لي أرى بكَ جهدًا ، فأخبره بما كان من أمره. واختان رَجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله[أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ]( )، إلى آخر الآية)( ).
الثالث : ولم يرد لفظ (الرفث) معرفاً ولفظ (تختانون) و(باشروهن) و(تباشروهن) في القرآن إلا في الآية أعلاه وورد لفظ (عاكفون) مرتين في القرآن إحداهما في هذه الآية بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ] ( )، في ثناء من الله على المسلمين وشهادة لهم بالجمع بين الصلاة والصيام وتعاهد الأحكام ، والتنعم بالطيبات ، والأخرى في قيام إبراهيم عليه السلام بذم قومه لعبادتهم الأوثان لقوله كما ورد في التنزيل [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ]( ).
لبيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء وصلاح أمته ، وأهليتهم لخلافة الأرض بسنن التقوى وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ولابد من دلالة في إنفراد آية قرآنية بكلمة خاصة بالأحكام.
فحينما احتجت الملائكة على هذه الخلافة بقيام طائفة من الناس بالفساد ، والإقتتال ، واشعال الحروب
جاء الرد من الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لبيان حضور مشيئة الله عز وجل في كل آن وحال وفعل للناس فهو سبحانه الذي يحول دون تفشي الفساد , وسفك الدماء ببعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية , وإصلاح النفوس , وتغيير النوايا وقبض الجوارح عن الظلم ومقدمات الفساد والقتل , قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (يحول) في القرآن إلا مرة واحدة في الآية أعلاه , وهل من معاني ومصاديق الآية أعلاه أن الله عز وجل يحول في هذا الزمان بين الأفراد مجتمعين ومتفرقين وبين الإرهاب وإخافة الناس , الجواب نعم .
وهل إثارة الفتنة من الفساد أم من سفك الدماء أم منهما معاً في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
المختار أن الفتنة من الفساد ويدل عليه موضوع الفتنة ، والتغاير في قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، ومن أظهر الفتنة هنا الشرك , وذات القتل فتنة أخرى.
الرابع : طلب الولد في ليالي رمضان ، لقوله تعالى [وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ]( )، لتضفى بركة شهر رمضان على المولود.
والمختار ان النسبة بين الآية أعلاه ، وطلب الولد بالوطئ عموم وخصوص مطلق ، فموضوع الإبتغاء أعم وأكثر ، ومنه طلب الرزق والكسب وانتعاش الأسواق في ليالي رمضان ، وهو ظاهر في بلاد المسلمين ومن مصاديق البركة في شهر رمضان.
فلا يقع غبن وتأخير في المكاسب في أيامه ولياليه.
الخامس : الأمر من الله بالأكل والشرب في ليالي رمضان إذ يدل قوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] ( )، على حرمة صوم الوصال وهو صيام يومين والليلة التي بينهما ، أو ثلاثة أيام والليلتين اللتين بينها.
نعم هذا الصوم من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن أبي سعيد الخدري (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر . قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني)( ).
السادس : وجوب استحضار أحكام الحلال والحرام في شهر رمضان استقراء من قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ] في أول آية البحث ، وقد ورد هذا اللفظ ست مرات في القرآن آية البحث 187 سورة البقرة وهي :
الأولى : قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
لبيان أن أحكام الحلال والحرام لا تختص برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما تشمل رسائل الأنبياء السابقين ، ومنهم عيسى عليه السلام وللدلالة على ما فيها من التخفيف ، وهل يمكن القول بأن من معاني النسخ في الشرائع هو التخفيف ، وأن الشريعة اللاحقة تأتي بأحكام أخف من السابقة ، المختار نعم.
السابع : يان الإطلاق في جواز اتيان الرجل لامرأته لقوله تعالى [هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ]( )، لتتضمن آية البحث استثناء نهار الصوم ، من عمومات قوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، لبيان الدقة والضبط في أحكام الشريعة ، وعدم التعارض بين الآيات الخاصة بالواجب أو المندوب أو المباح أو المكروه أو المحرم فيها.
الثامن : التحذير والإنذار من مخالفة أحكام الشريعة والإخبار بأن الله عز وجل يعلم بفعل كل عبد من عباده ، فجاء قوله تعالى [عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ]( )، بصيغة الخطاب العام للمسلمين ، مع أن الذين يقعون على أزواجهم بعد النوم في ليالي رمضان أفراد قليلين ، فجاءت التوبة عنهم والرخصة من الله عز وجل لجميع المسلمين إلى يوم القيامة ، فكما يحل الأكل والشرب في ساعات ليالي رمضان كلها سواء قبل النوم ليلاً أو بعده فكذا بالنسبة للجماع والوطئ.
إن انشغال المسلم بصلاته وصيامه ، وتقيده بأحكام الصيام مانع من الإضرار بالناس وإتلاف المال العام.
التاسع : دعوة المسلمين للتوجه إلى الله تعالى بالدعاء للتخفيف في الأحكام أيام نزول القرآن ، وهو من أسرار وجود ناسخ ومنسوخ فيه ، نعم ليس في القرآن حرمة وطئ الزوجة قبل العموم في شهر رمضان ، ولكنه مستقرأ من هذه الآية كما في استقبال المسلمين للمسجد الأقصى ، فلم يذكر في القرآن ، ولكن آية النسخ بهذا الخصوص بتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأجيال المسلمين إلى البيت الحرام ، ووردعن ابن عباس أنه قال (أول ما نسخ في القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ]( )، إلى قوله [فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( )، يعني نحوه ، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله [قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( )، وقال َأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ( ).
اما الظلم والإرهاب فهو محرم من الأصل ، وحرمته مؤبده من أيام آدم والى يوم القيامة ، وكان قتل ابن آدم قابيل لأخيه هابيل تأسيس للإرهاب ، لذا ذكره القرآن والكتب السماوية السابقة لبعث النفرة في قلوب المؤمنين والناس جميعاً من الإرهاب وضرره وسوء عاقبته ، ولم يكن قتل هابيل لذاته ، إنما حال دون أمة عظيمة من نسله.
العاشر : بيان العفو العام من عند الله سبحانه على المسلمين في الفعل المخصوص فقد يتبادر إلى الذهن أن العفو والمغفرة تأتي على نحو القضية الشخصية للعبد ، وهو صحيح ولكن آية البحث ذكرت عفواً عاماً.
وكذا ورد في معركة أحد بعد أن ترك الرماة الذين عينهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعهم فهجت خيل المشركين من خلف المسلمين فسقط سبعون شهيداً ، فمنع الله عز وجل من استمرار المعركة ، وفرق من الصفين بمعجزة منه تعالى حينما صارت الجولة للمشركين ، فقال تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الحادي عشر : بيان أوان الإمساك من الأكل والشرب عند رؤية شآبيب الفجر ليكون في الأكل والشرب في ليالي رمضان طعم ونكهة خاصة ذات صبغة عقائدية ، وفيها نصر وغلبة على النفس الشهوية ، وهي دعوة للمسلم ليشكر الله عز وجل على الطيبات ، والإنشغال بالشكر لله عز وجل وعدم الأكل في رمضان إلا بالإذن الشرعي الثابت في القرآن دعوة سماوية للتقيد بأحكام الشرعية ، ومنها العصمة من الظلم وسفك الدماء ، وبعث الرعب في قلوب الناس الأمنين.
الثاني عشر : إتمام الصيام الى بدايات الليل بسقوط قرص الشمس ، وعليه مشهور علماء الإسلام وقال جمع الإحتياط في المقام التريث لزوال الحمرة المشرفية.
الثالث عشر : حرمة الوطئ والجماع عند الإعتكاف في المسجد سواء كان الإعتكاف في شهر رمضان أو غيره ، والوطئ في الليل أو النهار لأن مباشرة النساء اثناء الإعتكاف من تفسد الإعتكاف وقد ذكر الله عز وجل المباشرة والمقصود هو الوطئ والجماع ولكن الله عز وجل يكفي.
قانون النصر بالسلم
موضوع النصر في القرآن أعم من القتال وميدان المعركة ، فكل آية تنزل من القرآن هي نصر من الله ، وهو من أسرار نزول القرآن على نحو التدريج والتوالي.
ومن النصر هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
فمن الإعجاز في الآية أعلاه بيان وجوه للنصر ليس للسيف فيها موضوعية أو حضور ، ولكن منافعها أعظم بكثير ، وهي متصلة إلى يوم القيامة.
لقد سمّى الله عز وجل الإعراض عن الظالمين ومحل سكناهم وأذاهم نصراً ، ويتجلى من جهات :
الأولى : ابتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة من مكة نصر.
الثانية : لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى غار صور نصر.
الثالثة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة نصر.
الرابعة : وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة (يثرب ) سالماً نصر.
الخامسة : بناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسجد النبوي نصر.
السادسة : صلاة الجماعة فيه نصر.
وكل فرد من هذه الجهات عز مؤبد للمؤمنين وبرزخ دون مباغتة الناس بالأذى والضرر سواء الخاص أو العام.
وفيه دعوة للمسلمين للتفقه في الدين ومعاني النصر ، وأنها تتحقق بمصاديق السلم أكثر منها بالحرب والقتال ، وفيه زجر عن الإرهاب ، ووجوب تنزه المسلمين عنه ، فهو لا يؤدي إلى النصر ، وليس فيه إلا الضرر المحض لمن يرتكبه ، ومن يقع عليه أثر الفعل الإرهابي وغيرهم من عامة من الناس.
بينما جاء النصر بالهجرة والصلاة رحمة وخال من الضرر والإضرار ، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى] ( ).
قانون الوحي نصر
من إعجاز القرآن ولغة السلم التي فيه وهو أن الوحي نصر ، ومادة وطريق للنصر ، ومن غير إراقة دم.
لقد أردك مشركو قريش ومن والاهم أن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية لإنتشار الإسلام ، ودخول أفواج من الناس فيه ونشر لألوية السلم والعدل ، وأن المساجد ستملأ الجزيرة ، يذكر فيها الله عز وجل وبلغة التوحيد كما في الأذان الذي يتضمن الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة وتلاوة المسلمين القرآن في الصلاة في خشوع وغبطة ، ومن خصائص الصلاة أنها عصمة من الإرهاب للتضاد بينهما ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
لقد كانت قريش تنفر من سجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام ، وقاموا بايذائه وهو ساجد للكف عن الصلاة في البيت الحرام وخارجه.
ولا تختص تفرعتهم هذه بأداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة إنما هي متعددة من وجوه :
الأول : قانون الصلاة حرب على عبادة الأوثان.
الثاني : قانون صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للإجهاز على الأوثان .
الثالث : خشية قريش من دخول الناس الإسلام بسبب صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن أثناء أداء الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، ومن الأقوم الإيمان والسلم والأمن في الأرض.
وهل كانت صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام بمرأى ومسمع من المشركين بالوحي ، الجواب نعم ، لبيان أن أثر الوحي نصر وأمن ، وبعث للناس للإيمان أي أن الله عز وجل يوحي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة في البيت الحرام فيراه أهل مكة والوافدين إليها فيشيع خبر النبوة ويكفل الله عز وجل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
و(عن عبد الله بن مسعود قال (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور( ) نحرت بالأمس قريبا فقالوا – وفي رواية فقال أبو جهل – من يأخذ سلا هذا الجزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد .
فانبعث أشقاهم عقبة بن أبي معيط فجاء به فقذفه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يرفع رأسه، وجاءت فاطمة عليه السلام فطرحته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك)( ).
و(عن أنس : لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى غشي عليه) ( ).
فان قلت هل من تعارض بين الآية أعلاه وهذه الأخبار في إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، اذ أراد الله عز وجل إقامة الحجة على الذين كفروا .

قانون النصر بالصلح والموادعة
من النصر بعد الهجرة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ، ووصوله سالماً إلى المدينة وكانت في الطريق خطورة شديدة خاصة وأن قريشاً طلبوه وجعلوا جعلاً بمقدار ديته لمن يأت به حياً أو ميتاً.
ولأن الأنصار اشترطوا في بيعة العقبة الذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وصل إلى المدينة سالماً ، فهم لم يعدوه بارسال جيش لإخراجه من مكة أو استقباله وسط الطريق .
فكان سلاح النبي النصر من عند الله ابتداء في طريق الهجرة من جهات:
الأولى : الوحي بالخروج ليلة المبيت التي أراد المشركون فيها البطش به وقتله في فراشه، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي مقابلة الإرهاب بالوحي الذي يتضمن الأمن والمنع من سفك الدماء ، وفيه تأديب وإرشاد للمسلمين بإجتناب إخافة الناس لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثانية : لجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى غار ثور وبناء العنكبوت على باب الغار بيتاً كأنه منذ سنوات.
الثالثة : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طلب قريش ، ومنهم سراقة بن مالك.
قال ابن شهاب (فأخبرني عبدالرحمن بن مالك المدلجى وهو ابن أخى سراقة، أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره.
فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بنى مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.
فقال: يا سراقة إنى رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا.
ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهى من وراء أكمة فتحبسها على، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه الارض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسى فركبتها فدفعتها تقرب بى حتى دنوت منهم، فعثرت بى فرسى فخررت عنها، فقمت فأهويت يدى إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذى أكره.
فركبت فرسى وعصيت الازلام.
فجعل فرسى يقرب بى، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يلتف وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسى في الارض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لاثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الازلام فخرج الذى أكره فناديتهم بالامان، فوقفوا فركبت فرسى حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآنى ولم يسألانى إلا أن قالا: أخف عنا.
فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لى رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وتمر الأيام ويخرج سراقة الكتاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة عند رجوعه من الطائف بعد فتح مكة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يوم وفاء وبر ، ودنا منه سراقة وأعلن إسلامه.
الرابعة : بناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسجده وسط المدينة (يثرب) حال وصوله لها ومشاركته في البناء ، وبناء الأنصار مساجد متعددة في المدينة وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
قانون الإحسان للناس عامة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : وقوع سبعين أسيراً من المشركين في أيدي المسلمين يوم معركة بدر.
الثاني : لم يتمكن المشركون من أسر واحد من المسلمين مع أن عدد المشركين يومئذ أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين.
الثالث : معاملة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لهم بالحسنى والرفق فكانت هذه المعاملة حجة في دعوتهم إلى الإسلام ، ورجوعهم إلى مكة وكأنهم سفراء الإسلام وان بقوا على كفرهم ، ولكن هذا البقاء متزلزل.
تدفعه صبغة السلم التي شاهدوها في منهاج وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظهم لآيات وسور من القرآن ، والتدبر طوعاً وانطباقاً وقهراً بمضامينها القدسية ويحتمل حال الأسرى عند رجوعهم إلى مكة وجوهاً:
الأول : زجر مشركي مكة عند العودة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تحريض المشركين على الثأر ، وبيان الثغرات في المدينة وأحوال الصحابة.
الثالث : عدم إبداء رأي في هذا الموضوع.
الرابع : دخول طائفة من الأسرى الإسلام.
الخامس : التعدد والتباين في أقوال وأحوال الأسرى ، فمنهم من دخل الإسلام ، ومنهم من حض وحرض على الإمتناع عن القتال ، ومنهم من حضّ على الثأر والقتال ، عصبية وجهلاً.
وهذه الوجوه صحيحة باستثناء الحض على القتال ، لبيان منافع الإحسان العام حتى المشركين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
ولم ترق لوائح حقوق الإنسان واتفاقية جنيف بخصوص معاملة أسرى الحرب الى حسن معاملة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للمشركين الأسرى ، وفكهم من الأسر بمبلغ ليس كبيراً ، ليبلغوا أهل مكة بحال المسلمين في المدينة ، وتزينها بالمساجد.
وحالما وصل الأسرى إلى المدينة بدأت عملية فكهم من الأسر ، وجاء إلى المدينة رجال من قريش اشتركوا في معركة بدر لفك أسراهم أو لتفقدهم ورؤيتهم ، فلم يقتص منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يأمر بحجزهم ، وهو يعلم أنهم سيعودون لقتاله والهجوم على المدينة في معركة أحد .
ومن الأسرى من أعتقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير بدل أو عوض ، ومنهم ممن وعدوا بسداد بدل الأسر عند وصولهم مكة ولم يفوا بوعدهم.
وعتق أسرى بدر والتعجيل به من الإحسان للعدو والمعتدي لبيان وجوب إحسان المسلمين للناس جميعاً من باب الأولوية سواء من تجمعهم معهم الملة والدين أو المواطنة أو الطريق والراحلة.
فأعدوا لمعركة أحد مدة سنة كاملة ، وسخروا أرباح قافلة أبي سفيان لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قالوا لأصحابها انما قُتل رجالنا بسبب الدفاع عن القافلة وانقاذ أموالكم.

هَل زيارةُ البابا فَرنسيس للعراق من إعجازِ القرآن ؟
الحمدُ للهِ الذي جَعلَ القرآنَ [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وَتِجدُ فيه تَفسيراً للوقائعِ والأَحداثِ بما ينفعُ الناسَ , وَيبعثُ على الأمنِ العامِ , والإستقرارِ والسكينةِ.
وَمن خصائصِ القرآنِ أن آياتِ المودةِ والسلمِ والرحمةِ والرفق والأحكامِ بالعدلِ أكثرُ من آياتِ الإنذارِ والدفاعِ .
قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
وفي هذه الآية بيانٌ ووعد وإخبارٌ متجددٌ في كل زمان بعلامات مودة وصيغ التراحم بين المسيحيين والمسلمين ، وفيها دعوة للتعايش المجتمعي ونبذ الحروب والإقتتال في الأرض وبين الناس كافة ، وأثنى القرآن على النصارى لرقة قلوبهم ، ولين عريكتهم وأصغائهم للحجة والبرهان ، وعدم لهثهم وراء الدنيا ، وقال تعالى [ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً] ( ) ، ولتأكيد قانون وهو إتحاد السنخية في الكتب السماوية الثلاثة التي تتقوم بالسلم والتآخي :
الأول : التوراةٌ .
الثاني : الإنجيلُ .
الثالث : القرآنُ.
وهل من إعجاز الآية أعلاه التي نزلت قبل أكثر من ألف وأربعمائةِ سنةٍِ أن زيارةَ البابا (Franciscus) لبغدادَ والنجفِ وأورِ والموصلَ وأربيلَ من مظاهرِ اللطفِ والودِ الذي تذكره الآية أعلاه من سورة المائدة وهي من أواخر السور التي نزلت والتي وردت بصيغة المضارع [وَلَتَجِدَنَّ] أي في المستقبلِ القريبِ والبعيدِ ، المختارُ نَعم.
ففي اليومِ الخامس ِمن شهرِ مارس الماضي لسنةِ 2021 أبدأت زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى العراق والتي تغشتها مَعالمُ الفَرحِ والبهجةِ ، وأَحاطتها وسائلُ الإعلامِ العالميةِ بتغطيةٍِ غيرِ مَعهودةٍِ ، وهي أول زيارةٍِ في التأريخ لبابا الفاتيكان إلى العراقِ .
وأطّل البابا من الطائرة في مطار بغداد من غير أن يلبس الكمامة مع شدة التدابير وأنها أَولُ رحلةٍِ لَه خارجَ روما بعد جائحةِ كُورونا ، وَقلةِ اللقاحاتٍِ التي وَصلت إلى العراقِ يومئذ.
ومِن دلالاتهٍِ رِسالةُ بأن العِراقَ بلدٌ الأمنِ والوقايةِ , وَرَجاء محو صورِ التَفجيراتِ والخَطفِ والقَتلِ التي انتشرتَْ في بِلادِ النِهرينِ أصل الحضارةِ.
لَقد قَدّم أهلُ العراقِ مُجتمعينَ وَمتفرقين هديةً إلى البابا وهي حَفاوتُهُم بهِ ، وَخروجُهُم من العُنفِ وجِراحاتِ الإرهابِ إلى مُقدِماتِ بر السلام بتضحيةٍ وصبرٍ , وَشَكَروا للبابا تعضيدَه لهم الذي تَتَوجَ بهذهِ الزيارةِ الكريمةِ ، ويتطلعون إلى اِستدامةِ هذه الصلاتِ الوديةِ , ونرجو عودةِ النازحينِ من مُسلمينَ وَمَسيحيينَ وغيرهمِ إلى بَلدِهِم الأم العراق ، الذي يَحكُمُ فيه الدُستوُر والمشاركةُ في بِنائِهِ من بين أَنقاض الإرهابِ والحروبِ.
وقبل ثمانمائة عام زار القديس فرنسيس مِصر والقُدسَ ويافا وعكا وبيروت وكان يدعو إلى احترامِ الناسِ جميعاً ، ويدَعو إلى الأخوة والمساواةِ والسَلامِ.
وهذا هو الجزء الخامس والثلاثون بعد المائتين من تفسيري للقرآن وهو بعنوان (آياتُ السلمِ مُحكمةُ غيُر منسوخة) ومعه بياننا في الترحيب بزيارة البابا يومئذ الذي زَارَ مشكوراً النجف الأشرف وسَماحةَ السيد السيستاني وعلى بعد خمسين متراً فقط منه يقعُ مكتبي الذي أحاضرُ فيه ومنذ اثنتين وعشرينَ سنةِ على فضلاء الحوزةِ العلميةِ أعلى بحوث الحوزةِ (البحث الخارج) في الفقه والأصول والتفسير.
وهذه الآية [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ونحوها وزيارة وَفدِ نصارى نجران للنبي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة في السنة التاسعة للهجرة التي توافق سنة 631م أساسٌ عقائديٌ , وميثاقٌ تأريخيٌ لِتعضيد البابا في تكثيف الحوار مع المسلمين ، ويجب الإنتفاع الأمثلٌ من هذه الدعوة الكريمة لترسيخ قَواعدِ السلام والأمن وهي وظيفة الأديان والعلماء ، وَوسيلةٌ التقربِ إلى اللهِ عَزَ وَجلَّ.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn