معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 236

المقدمــــــة
الحمد لله الذي جعل الحمد لله مفتاح البركة ، ووسيلة الزيادة في الخير والرزق الكريم.
الحمد لله الذي ذكر (الحمد لله) ثلاثاً وعشرين مرة في القرآن وابتدأت بأول آية بعد آية البسملة من سورة الفاتحة في نظم القرآن لبيان موضوعية الحمد لله في التنزيل.
وتفضل الله عز وجل وجعل قراءة كل مسلم ومسلمة يقراءان سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية ، وتؤدى الصلاة على كل حال أي في حال الصحة والسقم ، وقائماً أو قاعداً أو مستلقياً ، والأمن والخوف ، وعند توفر الطهارة المائية أو الإنتقال إلى الطهارة الترابية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا]( ).
وليس أكثر وفرة من التراب , لبيان التخفيف في مقدمات الصلاة , ومنع الحرج في الدين .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع( )( ).
الحمد لله الذي جعل آيات التنزيل ضياءً ينير دروب الهداية للناس ، ويمنع من الظلم والفساد وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( )، بسبب الفساد وسفك الدماء من طائفة من البشر ، أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أن كل آية من التنزيل عصمة من الفساد ، وزاجر عن القتل والجور والإرهاب.
الحمد لله الذي جعل الأرض دار السلم والأمن ، ومنح برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صفة الإسلام اشتقاقاً من اسمه تعالى (السلام) وليكون فيه تأديب للمسلمين لوجوب الصلاح والأصلاح.
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن مدداً سماوياً وعوناً للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً للتآلف والتراحم مع تعاهد الفرائض والعبادات.
الحمد لله الذي جعل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم [ مَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، ولم يغز أحدا وكان اذا عاد من كتيبة أو سرية استطلاع أو دفاع أو حج أو عمرة (يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ، ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده)( ).
الحمد لله الذي جعل الأنبياء أئمة الشكر والثناء على الله في السراء والضراء ، فكان هذا المنهاج سبباً لنصرهم وكثرة أتباعهم ، ودوام بقاء رسالات السماء في الأرض ، ولم يغادر النبي منازل الشكر لله في أي ساعة من ساعات أيام حياته.
وعن (كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثاً من الأنصار وقال : إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله علي في ذلك شكراً .
فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه : سمعناك تقول إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله عليّ في ذلك شكراً قال : قد فعلت!
قلت : اللهم شكراً ، ولك الفضل المن فضلاً .
وأخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : فقد أبي بغلته فقال : لئن ردها الله عليّ لأحمدنَّه بمحامد يرضاها ، فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها ، فركبها فلما استوى عليها رفع رأسه إلى السماء فقال { الحمد لله } لم يزد عليها فقيل له في ذلك . . . فقال : وهل تركت شيئاً أو أبقيت شيئاً؟ جعلت الحمد كله لله عز وجل)( ).
وهل أجر وثواب كلمة [الحمد لله] واحد متشابه في كل الأحوال ، الجواب لا ، فهو متعدد في الماهية والنفع والأثر ، وكل فرد منه نعمة وزيادة في الخير ، وفيه دعوة لإستحضار الحمد لله في كل نعمة واستدامتها وعلى كل حال و(في الطب النبوي عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : من قال عند كل عطسة سمعها { الحمد لله رب العالمين } على كل حال ما كان.
لم يجد وجع الضرس والأذن أبداً) ( ) .
و(عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قضى صلاته : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك فإن للسائلين( ) عليك حقاً أيما عبد أو أمة من أهل البر والبحر تقبلت دعوتهم ، واستجبت دعاءهم ، أن تشركنا في صالح ما يدعونك به ، وإن تعافينا وإياهم ، وأن تقبل منا ومنهم.
وأن تجاوز عنا وعنهم ، بأنا { آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين }( ) .
وكان يقول : لا يتكلم بهذا أحد من خلقه إلا أشركه الله في دعوة أهل بَرِّهم وأهل بحرهم فعمتهم وهو مكانه)( ).
الحمد لله رب العالمين الذي جعل السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ملكاً خالصاً له سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ) وليكون هذا الملك رحمة للخلائق جميعاً ، وعلة لاستدامة الحياة الدنيا ، وعمارة الأرض بذكر الله عز وجل ،وتلاوة القرآن من قبل المسلمين في الأرض ، وسماع أهل الأرض والسماء لهم ، ليدعوا لهم ، وهذا السماع والدعوة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليشكر الملائكة الله عز وجل على بديع صنعه ، وخلقه الإنسان وجعله [خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ) .
ولبيان اشتراك الملائكة مع الناس بقانون العجز عن الإحاطة بعلم الله ، ليكون من تقدير قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ) والله يعلم وانتم والملائكة لا تعلمون .
الحمد لله الذي سخر للناس في الدنيا ما في السموات والأرض رحمة منه تعالى , لبيان فضله على الإنسان لإختياره [خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ]( ) .
الحمد لله الذي بعث الأنبياء لبسط العدل , ودفع الظلم , واختتم النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ) فجاء بالمعجزة العقلية المتعددة والمتفرقة , فكل آية في القرآن معجزة من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية من السماء معجزة .
الثانية : مضامين الآية القرآنية معجزة .
الثالثة : رشحات الآية القرآنية في تعاهد صرح التوحيد وبناء الأخلاق الفاضلة معجزة .
الرابعة : صرف الآية القرآنية الناس عن الإرهاب والظلم ، وهو من أسرار الجهر بالقراءة في أكثر ركعات الصلاة اليومية مع النفع العظيم في القراءة باخفات في صلاة الظهر والعصر ، وهذا الصرف من مصاديق قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ) .
الحمد لله الذي أبى إلا ان تكون وسائط بينه وبين الخليفة والخلفاء في الأرض ومن هذه الوسائط ما يكون خاصاً بالأنبياء والرسل كالوحي .
ومنها ما هو عام كالآيات الكونية والبشارات والإنذارات العامة والخاصة وسبل التذكير بقرب فضل الله من البر والفاجر والمحسن وغيره ، وسبل وصيغ التذكير بالمعاد وما فيه من الجزاء.
اللهم سبحانك أن جعلت الحمد طريق الإستغفار ومناسبة لاستحضار ذكرك ورجاء لطفك وعفوك ، وليس من إنسان أو مخلوق الا هو محتاج الى رحمتك في كل ساعة من وجوده .
ويمتاز الإنسان بحاجته الى رحمتك ولطفك قبل خلقه ، ومدة وجوده في الحياة الدنيا وبعد موته ، وحاجته لرحمتك بعد موته أعظم وأكبر من حاجته لها في الدنيا ، مع العظيمة وفاقته لها في الدنيا.
و(عن سلمان قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض.
فأهبط منها رحمة إلى الأرض ، فيها تراحم الخلائق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها ، وبها يشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق ، فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين ، وزاد تسعاً وتسعين رحمة ، ثم قرأ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ( ).
والمتبادر عودة الضمير في (قرأ) أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الحمد لله الذي جعل علوم التفسير من اللامتناهي ، وجاءت هذه السنوات لتبين مصداقاً جلياً لهذا القانون بتفسيري هذا والحمد لله بعد صدور أجزاء متعددة في الصلة بين آيتين متجاورتين من القرآن ، أو بين شطرين من آيتين من آيات القرآن ، كما سيأتي( ).
بالإضافة الى صدور أربعة أجزاء من هذا التفسير خاصة بآية واحدة ، كما في تفسير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) إذ صدرت بخصوصه الأجزاء التاسع والثمانون , والتسعون , والواحد والتسعون , والثاني والتسعون من هذا السِفر .
وثلاثة أجزاء في تفسير آية واحدة كما في قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
كما صدرت ستة أجزاء خاصة بتفسير نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إبتداءَ من الجزء الخامس والثلاثين بعد المائة .
مع صدور جزء في تفسير آية واحدة من القرآن في أكثر الأجزاء , ومنها الجزء الرابع والثلاثون بعد المائتين من هذا السِفر الذي اختص بتفسير وتأويل الآية (190) من سورة آل عمران , وسيأتي الجزء التالي وهو خاص بتفسير قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وتتضمن أجزاء هذا التفسير آلاف القوانين المستنبطة من ذات مضامين الآية القرآنية ، وكلها بفضل ولطف ومدد من الله عز وجل .
وأسأل الله عز وجل أن تكون القوانين في الأجزاء التالية أكثر منها بأن ينعم الله عز وجل عليّ بالصحة وتيسير أمر التأليف والتصحيح , واستدامة إعطاء البحث الخارج الفقهي والأصولي لفضلاء الحوزة العلمية والذي ألقيه منذ اثنتين وعشرين سنة في النجف الأشرف حاضرة الإسلام العلمية .
وهذا الجزء هو السادس والثلاثون بعد المائتين من تفسيري للقرآن في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً , وكل أجزاء التفسير تأويل واستنباط واستقراء من ذات مضامين الآية القرآنية .
وفيه شواهد قرآنية ونبوية وتأريخية لكل من :
الأول :قانون ( التضاد بين القرآن والإرهاب) والذي صدرت بخصوصه من هذا السِفر الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .
الحادي عشر : الجزء الخامس والثلاثون بعد المائتين.
الثاني : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) , وصلته بالقانون أعلاه الذي هو عنوان هذا الجزء المبارك .
وقد صدرت بخصوص قانون لم يغزُ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأجزاء التالية :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
الرابع والعشرون : الجزء الواحد والعشرون بعد المائتين .
الخامس والعشرون : الجزء التاسع والعشرون بعد المائتين .
الحمد لله على ما رزقنا وإياكم ، ونسأله تعالى أن يؤتينا الحكمة ، ويرزقنا دوام الصحة ، ويصرف عنا آفة المرض .
الحمد لله الذي جعلنا من أهل زمان ارتقى فيه علم الطب لينتفع منه الناس على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي ، ونسأله تعالى ايجاد وقاية وعلاج لكل داء , وفي التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
لقد بعث الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ، وهل قامت طائفة أو جماعة منهم بالغزو ، الجواب لا , ولقد بين القرآن وظيفة الأنبياء وهي التبليغ ، والبشارة والإنذار ، والوعد والوعيد ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
وجاءت السنة النبوية مرآة عملية وترجمة ثابتة إلى يوم القيامة لمنهاج النبوة ، وهي سلامة السنة النبوية القولية والفعلية من الغزو ، إنما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال صبر ودفاع ، ودفع للكفار .
وتقسم معجزات الأنبياء إلى قسمين :
الأول : المعجزات الحسية : وهو سور جامع يشترك به كل الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والبدلي ، فكل نبي له معجزة تناسب الشأن الأهم عند أهل زمانه بما يفيد جعلهم عاجزين عن الاتيان بمثلها وليس بالقرآن لفظ معجزة أو لفظ إعجاز بمعنى (المعجز) ولكن هذا المصطلح مستقرأ.
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، السالم من المعارضة.
الثاني : المعجزة العقلية : وقد اختص بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو القرآن ، وهل القرآن معجزة على نحو العموم المجموعي لآياته ، أم على نحو العموم البدلي وكل آية منه معجزة.
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، فكل منهما معجزة ، وكذا شطر الآية القرآنية معجزة ، والجمع بين آيتين من القرآن معجزة.
وقد أسست في هذا الجزء قسيماً ثالثاً للمعجزة.
الثالث : المعجزات المستحدثة والمتجددة في اليوم والليلة إلى يوم القيامة.
لقد تقدم في الجزء السادس بعد المائتين من هذا السِفر قانون قول الحمد لله منسأة في الأجل ( ).
ليكون من منافع الصلاة اليومية طول الأعمار للرجال والنساء ، إذ يقرأ كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) سبع عشرة مرة في اليوم بلغة قرآنية ، وبحال الخشوع والخضوع لله سبحانه ، والتقيد بآداب الصلاة .
[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بناء صرح الأخلاق العقائدي ، وحسن السلوك والسيرة بقصد القربة إلى الله ، وإرادة رضاه سبحانه والفوز بالأجر والثواب في الآخرة وهو من رشحات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وعن عبد الله بن عمر قال (أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاشر عشرة ، فجاء رجل من الأنصار ، فقال : يا نبي الله ، من أكيس الناس وأحزم الناس .
قال : أكثرهم ذكراً للموت ، وأشدهم استعدادا للموت قبل نزول الموت ، أولئك هم الأكياس ، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)( ).
الحمد لله[الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) ومن هذا العلم تلاوة آيات القرآن ، وجعلها قريبة من كل إنسان في رسمها لمعاني أسمائه وان كانت هذه المعرفة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ،ولا تصل أعلاها رتبة إلى درك كنه وأسرار ودلالات الآية القرآنية والمعاني المستنبطة من صلتها بآيات القرآن الأخرى من جهات :
الأولى : صلة الآية القرآنية بالآيات المجاورة .
الثانية :صلة الآية القرآنية بآيات ذات السورة.
الثالثة : صلة الآية بالآيات التي تلتقي معها في الأمر أو النهي أو الخبر.
الرابعة : اتحاد الموضوع بين الآية القرآنية والآيات التي يجمعها معها لفظ واحد ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] الذي تكرر اثنتي عشرة مرة في القرآن ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه تقديم إقامة الصلاة وإتيان الزكاة على طاعة الرسول ، لبيان إعجاز وهو إقامة الصلاة وإتيان الزكاة بأمر من الله عز وجل وأن القرآن بيان لأحكام الدين أصولاً وفروعاً ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وطاعة الرسول من أصول الدين ، وقدمت الآية فروع الدين عليها لبيان أن تقسيم أحكام الشريعة إلى أصول وفروع تقسيم استقرائي من بعض العلماء ، وليس له أصل خاص في الكتاب والسنة .
ومن إعجاز القرآن دعوته لأداء الصلاة والفرائض العبادية الأخرى ، وبعثه الرغبة في النفوس لإتيانها ، والتعاون فيها كما أنها تبعث على تلاوة القرآن والترغيب بالعمل بأحكامه التي تشمل أمور الدين والدنيا من غير أن يلزم الدور بينها لأن موضوع وأحكام وسنن كل طرف من اللامتناهي .
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا تستديم بقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إشتراك الناس جميعاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلابد أن يكون الإنسان يوماً آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر.
فان قلت هل هذا القانون خاص بالمؤمنين من أيام آدم إلى يوم القيامة، كما هو المتبادر أم أنه يشمل الناس جميعاً، المختار هو الثاني ويدرك بالوجدان ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس, وذخائر نفخ الله عز وجل في آدم من روحه , ووظائف الخلافة في الأرض .
وعلى فرض صحة ما نذهب إليه هنا ، ولعله بيان لأول مرة .
فهل تعلم الملائكة يوم احتجت على خلافة الإنسان بالقول والتساؤل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )أن كل إنسان لابد أن يأمر بالمعروف وينهى يوماً عن المنكر .
المختار أن هذا القانون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ويأتي الأمر بالمعروف وعلى فرض قيام الكافر غير المسلم أو الكتابي بالأمر بالمعروف مرة أو مرات فهل يؤجر ، الجواب لا .
فان قلت قد وردت الآيات بقيام المؤمنين والمؤمنات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( )، والجواب إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , وهم يفوزون بالثواب العظيم على هذا الأمر والنهي كما تدل عليه خاتمة الآية أعلاه ، لأنهما منهاج وسنة لهم في حياتهم .
أما المشرك فانه لا يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر إلا نادراً ، ويأتي أمره هذا بصفة الخلافة العامة من عند الله ، ولأن الله عز وجل رزق الإنسان العقل وموازينه العامة.
ومن خصائص نفخ الله عز وجل من روحه في الإنسان وقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) قانون تخلف الكفر والجحود عن الغلبة على عقل الإنسان لذا وردت الآيات بمخاطبة العقول ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وهل في علوم وتفسير القرآن وتلاوة آياته وقراءتها ونشرها والعناية بها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، الجواب نعم .
ومن فضل الله قيامي بتأليف ومراجعة وتصحيح كل جزء من أجزاء هذا التفسير بمفردي ، وكذا بالنسبة إلى كتبي الفقهية والأصولية ، وفي التنزيل [وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
وقد تأخر إصدار هذا الجزء خلافاً لمنهجيتي بسبب الإنشغال بشطر الجزء الرابع والخمسين من هذا التفسير إلى جزئين مع التنقيح والزيادة والحذف ، ولوعكة صحية ، وحالة مرضية حادة وطارئة ألمت بي في الثلث الأخير من شهر الصيام , أسأل الله عز وجل بالشفاء ، وفي التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
حرر في اليوم الحادي عشر من شهر شوال 1443
13/5/2022

المعجزات المستحدثة والمتجددة للنبي محمد (ص)
من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ]( )، بعث الله عز وجل الأنبياء متعاقبين ، ومصاحبة المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي زاده وسلاحه ووسيلة الهداية التي تجذب الناس للإيمان واتباع الرسل ، والتنزه عن الظلم ، والعدوان والإرهاب.
وتتصف معجزات الأنبياء السابقين لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها حسية مثل سفينة نوح التي كان يصنعها ويبني بها لسنوات على الرمال حتى نعته قومه بالجنون لعدم وجود نهر بناحيته ، وهو يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام ، قال تعالى [لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ) إلى أن انهمرت المياه من السماء ، وانفجرت الينابيع من الأرض ، قال تعالى [فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ]( ).
ويمكن تأسيس علم جديد يتعلق بالبشارة والإنذار بتقسيم البشارة إلى:
الأول : البشارة العقلية .
الثاني : البشارة الحسية .
الثالث : البشارة المتجددة في الأزمنة المتعاقبة بعد انقطاع النبوة وإلى يوم القيامة.
وتقسيم الإنذار إلى :
الأول : الإنذار العقلي .
الثاني : الإنذار الحسي .
الثالث : الإنذار المتجدد في الأزمنة المتعاقبة بعد إنقطاع النبوة وإلى يوم القيامة.
وسفينة نوح من الإنذار الحسي للذين كفروا ، وهي بشارة حسية للذين آمنوا الذين ركبوا فيها عند الطوفان فانجاهم الله عز وجل فغرقت الأرض والجبال ، ولم تكن وسيلة نجاة إلا سفينة نوح ، ، ولا يختص موضوع بشارة وإنذار سفينة نوح بأهل زمانه ، إنما هو متجدد إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار ورود قصة نوح وما فيها من الإنذارات والبشارات في القرآن الذي هو معجزة عقلية باقية إلى يوم القيامة ، لتكون هذه الآيات وفي كل زمان بشارة للذين آمنوا ، وإنذاراً للذين كفروا .
ومن معاني قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) أي في كل زمان ومكان .
ومن إعجاز القرآن أن كلاً من البشارة والإنذار سبب وموضوع للهداية .
وقد يجتمع موضوع البشارة والإنذار والوجوه الستة أعلاه في مصداق واحد وهو من بديع صنع الله ، ومنه ناقة صالح فهي تشمل وجوه البشارة والإنذار أعلاه ، وبقيت آثار ثمود وهلاكهم إنذاراً تأريخياً وعبرة متجددة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ) .
، ومنها معجزات الأنبياء ناقة صالح التي خلقها الله من صخرة وبسؤال من قوم صالح ، قال تعالى [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
وقبيلة ثمود من العرب البائدة ، وترجع بالنسب إلى سام بن نوح للدلالة على صدق رسالته ، وشرطوا على أنفسهم عند تحقق المعجزة التنزه عن الكفر والشرك إذ عينّوا له صخرة صماء وأرادوا خروج ناقة حامل منها ، وقد ورد سبع مرات في القرآن لفظ (ناقة) بالتنكير وبالتعريف بالألف واللام ، كلها بخصوص الناقة معجزة الرسول صالح عليه السلام.
ولم يرد في القرآن لفظ ناقة صالح ولكنه متعارف في كتب التفسير للدلالة ، والا فقد وردت نسبتها إلى الله عز وجل ، وفي التنزيل [فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا]( ) .
وهل تدل الآية أعلاه على النهي عن القول ناقة صالح خاصة وأن الرسول صالح هو الذي سماها ناقة الله ، الجواب لا ، لأن التبادر من لفظ ناقة صالح أي معجزة النبي صالح بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، والتبادر من علامات الحقيقة .
ومن أسرار تسميتها ناقة الله جواز أكلها الكلأ وشربها الماء من غير تقييد أو منع لها ، فخصص لها شرب ماء البئر يوم كاملاً كل يومين ، وتعطي الحليب بذات اليوم بما يكفي قوم صالح كلهم ليُطعم الغني الفقير ، والكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، لبناً لذيذاً سائغاً كأنه من شرب الجنة ، وهذا العموم في الإطعام وطيب النكهة من أسرار تسميتها ناقة الله .
ونشير إلى أن عموم النعم والبركة من حليب الناقة وصيرورة الفقراء والعبيد مرتبة واحدة مع غيرهم سبب لسخط بعض الأنبياء والأشقياء وسعيهم لعقر الناقة ، ولعل هذه الإشارة لأول مرة وهو من الإرهاب.
وهل أغاظ قريش وقوف المسلمين متساويين في صفوف متراصة في صلاة الجماعة ، وقد يتقدم العبد على السيد ، والفقير على الغني ، الجواب نعم ، وبرزت وشاعت صلاة الجماعة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وبناء المسجد النبوي والمساجد الأخرى فيها، ولم تعلم قريش أن الله عز وجل كفل حماية المساجد بقوله سبحانه [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ).
أما معجزة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام فهي قيامه بتكسير وتهشيم الأصنام التي يعبدها قومه من دون الله ، فغضبوا وأرادوا البطش والإنتقام منه بابشع كيفية بأن توقد نار عظيمة ويرمى فيها ، فنزل قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) .
ومن معجزاته أنه أسكن زوجته هاجر وابنه إسماعيل في مكة لبناء البيت الحرام ، وليكون هذا السكن والبناء مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه آيات عديدة ، وفي التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ) .
وهل بيعة الأنصار في العقبة من مصاديق هداية الأفئدة في الآية أعلاه الجواب نعم.
لقد كان إبراهيم عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم وهم نوح ، إبراهيم ، موسى ، عيسى ، عليهم السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات إبراهيم عليه السلام رؤيته كيفية إحياء الله الموتى بواسطة الطير ، وفي التنزيل [قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وكما كانت معجزات إبراهيم كثيرة ، فكذا معجزات موسى عليه السلام ، إذ رزقه الله معجزة العصا [فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى] ( ).
ولمعجزة عصا موسى وظائف إعجازية متعددة سواء بالذات أو مع فرعون وقومه .
ومن المعجزات التي ترجلت بعصا موسى أكلها لعصي وحبال سحرة فرعون بحضور الملأ من قومه ، وانفلاق البحر إلى شطرين عند ضرب موسى عليه السلام له بعصاه بها ، قال تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ] ( ) .
لينجو موسى والمسلمون الذين معه ، ويهلك فرعون وجنوده إذ أرادوا العبور خلف موسى البحر ، الذي عبر بالمعجزة وهي محجوبة عنهم ، فكما أكلت المعجزة عصي وحبال السحرة ، فانها تنقلب على فرعون وجنوده لبقائهم على الكفر والشرك ، ولم يغادر موسى وبنو إسرائيل مصر بعد واقعة أكل العصا لعصي السحرة ، إنما لبث في مصر يري أهلها الآيات ، ويدعوهم إلى الإيمان ، ويقيم عليهم الحجة ، بما فيه الإنذار من لحوق فرعون وجنوده لموسى وقومه ، قال تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ] ( ).
(عن ابن عباس قال : مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات ، الجراد والقمل والضفادع) ( ).
وفيه درس وموعظة في معجزات الأنبياء ، ولزوم الإنتفاع الأمثل منها بالهدى والإيمان .
ومن خصائص معجزات الأنبياء دعوة المعجزة إلى نبذ الإرهاب، وهل تختص هذه الدعوة بزمانها وزمان ذات النبي صاحب المعجزة ، الجواب لا ، فهذه الدعوة مستمرة ومتجددة إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار مجئ القصص ومعجزات الأنبياء في القرآن ، والإنتفاع الأمثل واقتباس الدروس والمواعظ منها في كل زمان.
ومن خصائص معجزات الأنبياء الحسية ، ومعجزة القرآن العقلية أنها بشارة وإنذار في كل زمان ، وتترشح عنها منافع لا تحصى بعمل المسلمين بها ، وأتخاذها نبراساً وطريق صلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
معجزات النبي (ص) بعد وفاته سلام
من خصائص رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إنحصار معجزاتها في أيام حياته بل هي متصلة ومتجددة ، ومنه الدلالة العظيمة لآيات القرآن ، وما تكشفه وتهدي إليه من السنن وسبل الصلاح بالتقدير المستقرأ من الكتاب والسنة ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن سبع عشرة مرة في صلاتهما كل يوم وليلة .
فمن خصائص الآية القرآنية بعثها على التدبر في معانيها ،ولا يختص هذا البعث بالمسلم التالي لها بل يشمل المستمع والسامع لها مطلقاً أي سواء كان مسلماً أو غير مسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وتترشح عن السنة الفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منافع كثيرة في الإجتماع والسياسة ، وتنمية روح المحبة والتعايش والرأفة بين الناس.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إخباره عن المغيبات بما علمه الله عز وجل وأوحى إليه ، وهي على أقسام :
الأول : علوم الغيب في عوالم التكوين والكون.
الثاني : قصص الأمم السالفة وأحوال وصبر الأنبياء ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ]( ).
الثالث : ما وقع مصداقه في أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ما وقع بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفترة وجيزة كإخباره عن الأحوال الخاصة لأهل البيت وبعض الصحابة ومنها ركوب المسلمين البحر .
الخامس : علوم الغيب التي أخبر عنها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقعت في أيام التابعين وتابعي التابعين .
السادس : علوم الغيب التي لم تقع بعد مع ورودها في كتب التفسير والسنة.
وعن (عوف بن مالك الأشجعي ، يقول : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم ، فقال لي : يا عوف ، اعدد ستا بين يدي الساعة : موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاس الغنم .
ثم استفاضة المال فيكم حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا .
ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا)( ).
ومن خصائص المعجزة النبوية من أيام أبينا آدم عليه السلام إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها دعوة إلى السلم وتثبيت قواعده في الأرض واستقرار المجتمعات ، ولزوم تعاهد المؤمنين وتوارثهم له ، لذا فان آيات السلم شاهد على منافع النبوة في الأرض ، ودعوة للعصمة من الإرهاب.
وقد نزل آدم عليه السلام بالسلم والسلام ، لذا كان قتل قابيل لهابيل أمراً خارج النهج السلمي العام بدليل تمسك هابيل بالتقوى ، كما ورد في التنزيل [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
ولم يرد لفظ [لِتَقْتُلَنِي] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن الأولى إعداد دراسة خاصة بأحصاء الكلمات التي وردت في القرآن مرة واحدة ، ودلالة كل واحدة منها ، والمختار أنها تزيد على ألفي كلمة ، وقد ذكرتَ كثيراً منها في السِفر.
وقد تقدم ذكر الآية الثالثة من سورة المائدة وكيف أن فيها احدى عشرة كلمة لم ترد في آية أخرى من القرآن( ).
ومنها الحروف المقطعة , ويكون الإحصاء وفق نظم القرآن بالإبتداء بسورة الفاتحة وفيها كلمتان ذكرتا مرة واحدة في القرآن هما [نَسْتَعِينُ]( )، و[الْمَغْضُوبِ]( )، مع غض النظر عن الإختلاف في التشكيل من الرفع والنصب والجر او الإتحاد في الجذر ، فالمدار على رسم الكلمة متحدة المعنى في المصحف وكل كلمة في القرآن فريدة .
فمثلاً ورد في آيتين متعاقبتين [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ) أربع كلمات منفردة هي حمالة ، الحطب ، جيدها ، مسد .
واسم هذه السورة سورة (المسد) وهي من السور التي سميت باسم كلمة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة ، ومنها سورة الروم وتتألف من ستين آية ، قال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
وتلحق بها سورة العنكبوت ، وعدد آياتها تسع وستين آية.
فلم يذكر لفظ [عَنْكَبُوتِ]أو [الْعَنْكَبُوتِ]في القرآن إلا في سورة العنكبوت مرتين ، وفي آية واحدة [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ).
ومن الآيات في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والي معجزاته كل يوم إلى يوم القيامة فوقوف المسلمين خمس مرات بين يدي الله في كل يوم للصلاة معجزة ، وتجدد صيام شهر رمضان كل سنة معجزة وحج الملايين للبيت الحرام كل عام معجزة.
قانون طلب العلم وقاية من الإرهاب
ومن إعجاز القرآن نزول أول آيات منه بطلب العلم , وحضّ النبي والمسلمين على تنمية ملكة التعلم وإكتساب العلوم منها قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ) , فمع أن علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ومن لدن الله عز وجل فهو لا يتعارض مع تحصيل العلوم في مرضاة الله عز وجل , وإتقان المسلمين أداء التكاليف .
ولبيان قانون وهو طلب العلم ضد للإرهاب , ودليل على قبحه الذاتي ولقانون التباين بين نفع طلب العلم وضرر الإرهاب .
و(عن أم كثير بنت يزيد الأنصارية ، قالت : دخلت أنا وأختي ، على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت له : إن أختي تريد أن تسألك عن شيء ، وهي تستحي ، قال : فلتسأل ، فإن طلب العلم فريضة قالت : فقلت له ، أو قالت أختي : إن لي ابنا يلعب بالحمام ، قال : أما إنها لعبة المنافقين) ( ) ويدل الحديث على أمور :
الأول : قانون التوجه بالسؤال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طلب للعلم .
الثاني : قانون طلب العلم فريضة .
الثالث : عدم إنحصار طلب العلم بالرجال فهو شامل للنساء .
الرابع : بعد أن غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فيها يكون بدل السؤال إلى النبي وجوه :
الأول : الرجوع إلى القرآن , والسنة النبوية .
الثاني : التفقه في الشريعة .
الثالث : الصدور عن الكتاب والسنة .
ومن خصائص الكتاب والسنة جعل سلوك المسلم منضبطاَ خالياَ من العنف .
وعن سعد بن أبي وقاص قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ، فرب حامل فقه وهو غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ( ) والفقه : الفهم والفطنة , بآيات التنزيل وأحكام القرآن .
(نَضَره ونَضَّره وأَنْضَره أَي نَعَّمَهِ يروى بالتخفيف والتشديد من النَّضارة ِ وهي في الأَصل حُسْن الوجه والبَرِيقُ) ( ) وجاء لفظ نضر , مطلقاَ غير مقيد بخصوص الوجه فالمراد التوفيق والمدد من عند الله عز وجل , في تحسين فعله وخلقه , يقال أخضر ناضر مثل أصفر فاقع , وأبيض ناصع .

المعجزات المستحدثة / الحج كل عام مثالاً
يتناول علم التأريخ (History) سجل الوقائع والأحداث وتوثيقها زماناً ومكاناً مع بيان أسباب الوقائع ، مع التحقيق الرجالي والموضوعي بالأخبار رواية ودراية.
وتعتني كل أمة أو أهل ملة أو قبيلة بالتأريخ ، وهو علم قائم بذاته تستقرأ منه الدروس والمواعظ .
وقد وثق القرآن كل معركة من معارك الإسلام الأولى ، مع بيان الجامع المشترك بينهما ، وهو قانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) مع أن المفسرين وكتاب السيرة ذكروا وعلى نحو التسليم والتقرير بأن هذه المعارك غزوات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن إعجاز القرآن حضورالوقائع التي يذكرها في الوجود الذهني المسلم والمسلمة في كل زمان .
ولقد تقدم الكلام بأن معجزات الأنبياء على قسمين وهما :
الأول : المعجزات الحسية ، والوحي سور الموجبة الكلية الذي يلتقي فيه الأنبياء ، وهل ذات الوحي معجزة ، الجواب نعم.
الثاني : المعجزات العقلية ، وانفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي آيات القرآن ، وكل آية معجزة .
وقد أسست قسيماً ثالثاً لهما ، وهو :
الثالث : المعجزات المستحدثة بعد مغادرة النبي الحياة الدنيا ، ومنها مثلاً حج المسلمين للبيت الحرام ، ولا يعلم موضوعية قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، في تعاهد ملايين المسلمين والمسلمات فريضة حج بيت الله الحرام.
ففي كل سنة تتجلى معجزة الحج ، ولا تختص بأداء المسلمين مناسك الحج بل تنفذ إلى كل بيت من بيوت المسلمين من جهات :
الأولى : الإستعداد لموسم الحج .
الثانية : إصلاح النفوس والإعداد للحج ، ونظر المسلم والمسلمة كل سنة هل بالإمكان أداء الحج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثالثة : تهيئة مقدمات الحج ، والتي لا تنحصر بالذين يرومون الحج بل تشمل ذويهم والأجهزة الحكومية والمؤسسات ذات الإختصاص.
الرابعة : نشاط بعض الصناعات والتجارات الخاصة بوفد الحاج من اللباس الخاص والطعام والنقل ، ولا تختص بالمسلمين وبلدانهم ، بل تشمل بلدان ومصانع وشركات طيران ونقل لأهل الكتاب ، وعموم بلدان الأرض ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فمن المعجزات المستحدثة والتأريخية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاع عامة أهل الأرض من الشعائر والمناسك التي يؤديها المسلمون والمسلمات .
الخامسة : إجتماع وفد الحاج في أماكن مباركة مخصوصة في زمان ويوم محدد لا يقبل التعدد ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( ).
ويكون الأداء على قسمين :
الأول : أداء مناسك مخصوصة في زمن محدد وهو من الواجب المضيق مثل وقوف وفد الحاج في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة في عرفات (عن عبد الله بن يعمر الديلمي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو واقف بعرفة وأتاه أناس من أهل مكة فقالوا : يا رسول الله كيف الحج.
فقال : الحج عرفات ، الحج عرفات ، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك أيام منى ثلاثة أيام [فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ]( )، ثم أردف رجلاً خلفه ينادي بهن) ( ).
والنفر إلى مزدلفة ليلة العاشر من ذي الحجة ، والمبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر من ليالي التشريق ، والإجماع على أن هذا المبيت مسنون ، ولكن أختلف هل هو واجب أو مستحب.
والمختار هو الثاني ، وقد رخصّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجماعة في عدم المبيت مثل العباس بن عبد المطلب لأجل السقاية في زمزم والرعاة ، والمرضى.
لتشمل الرخصة المعنى الأعم من كبار السن وذوي الأعذار والذين يشق عليهم المبيت .
مع جواز المبيت في مكة للعبادة ، وذات النظر للكعبة عبادة ، وهو لا يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع (لتأخذوا عني مناسككم)( )، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم بات في منى.
الثاني : أداء مناسك مخصوصة من الواجب الموسع على نحو الموجبة الجزئية مثل أداء عمرة التمتع والإحلال منها قبل الإحرام للحج ، ومثل طواف الإفاضة ، ورمي الجمرات ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
أي تعجل في الرمي بأن رمى في يوم القر وهو الحادي عشر من ذي الحجة ، واليوم الثاني عشر الذي يسمى يوم النفر الأول ، فلا اثم عليه ، وكذا من تأخر ورمى في اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة وهو ثالث أيام منى فلا اثم عليه ، وفيه بيان لأحكام الحج ، ومن أسباب النزول أن طائفة من العرب في الجاهلية كانوا يقولون من تعجل يؤثم ، وطائفة تقول من تأخر يؤثم.
ويكون التعجل أو التأخر في يوم ونصف.
وتقدير الآية : ومن تعجل في يومين من أيام التشريق ونفر في اليوم الثاني منها ، وهو الثاني عشر من ذي الحجة فلا جناح ولا إثم عليه ، ومن تأخر فنفر في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة فلا إثم عليه أيضاً.
وهل الرخصة بالتعجيل خاصة بمن كان مسكنه بعيداً عن مكة وذوي الأعذار أم أنه عام ، المشهور والمختار أنه عام ، وهو ظاهر الآية الكريمة وصيغة الإطلاق فيها .
و(عن نُبَيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيام التشريق أيامُ أكل وشرب وذكر الله)( ).
وهل من المعجزات التأريخية المتجددة التضييق في بعض المناسك والتوسعة في بعضها الآخر ، الجواب نعم ، مع اليسر في التقديم والتأخير بينها عند السهو.
وهل يتعلق موضوع الآية أعلاه بما هو أعم مثل التوسعة في أوان الوقوف في عرفات ، وجعله واجباً موسعاً وليس مضيقاً ، ليستمر لخمسة أيام ، يومين قبل عرفة ، ويوم عرفة , ويومين بعده للإطلاق في مضمون الرخصة في الآية أعلاه مع بلوغ وفد الحاج الملايين من المسلمين والمسلمات ، الجواب لا . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا القول المستحدث في الجزء السادس والثلاثين وفي تفسير الآية الثالثة بعد المائتين من سورة البقرة.
المعجزات المستحدثة / تجدد زكاة الفطرة كل عام
قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]( ) الفلاح النجاح والتوفيق.
ومن معاني تزكى في الآية قول لا إله إلا الله كما عن ابن عباس والإكثار من الإستغفار وموضوع ظاهر الآية هو إخراج الزكاة من المال ، وجاءت السنة النبوية لبيان خصوص زكاة الفطرة وكان عبد الله بن مسعود( يقول : رحم الله إمرءاً تصدّق ثم صلّى ثم يقرأ هذه الآية)( ).
وردت روايات متعددة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تدل على أن موضوع الآية زكاة الفطرة.
وعن (عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]( )، وفي لفظ قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن زكاة الفطر قال {قد أفلح من تزكى} فقال : هي زكاة الفطر .
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر( ).
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كَانَ يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى فِى يَوْمِ الْعِيدِ وَالْعَنَزَةُ( ) تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا بَلَغَ الْمُصَلَّى نُصِبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّى إِلَيْهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمُصَلَّى كَانَ فَضَاءً لَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ يُسْتَتَرُ بِهِ)( ).
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري {قد أفلح من تزكى} قال : أعطى صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى العيد {وذكر اسم ربه فصلى} قال : خرج إلى العيد فصلى ( ).
وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن نافع عن ابن عمر قال : إنما أنزلت هذه الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}( ).
وأخرج الطبراني عن واثلة بن الأسقع في قوله {قد أفلح من تزكى} الآية قال : إلقاء القمح قبل الصلاة يوم الفطر في المصلى)( ).
وفي حديث طويل عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟
قال : يا أبا ذر نعم {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى })( ).
وقد ورد قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ] أربع مرات احداهن في الآية أعلاه ، من ثلاثة في الثناء على المؤمنين .
وواحدة في ذم آل فرعون ، وتلقيهم نبوة موسى عليه السلام بالجحود ، قال تعالى [قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى]( ).
والزكاة تطهير للنفوس وإصلاح للمجتمعات ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( )وهذه الآية من سورة التوبة وهي سورة مدنية ونزلت بعد كتيبة تبوك .
قال تعالى [وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى]( ).
و(عن إسحاق بن عمار، عن مُعتَّب، عن الإمام الصادق عليه السلام
قال: اذهب فأعط عن عيالي الفطرة، وأعط عن الرقيق بأجمعهم ولا تدع منهم أحدا، فانك إن تركت منهم إنسانا تخوفت عليه الفوت فقلت: وما الفوت ، قال : الموت) ( ).
ومُعتَّب مولى للإمام الصادق عليه السلام ، وهو ثقة ودرس عند يونس بن يعقوب ، والمعلى بن خنيس ، وإسحاق بن عمار ، ووثقه العلامة في الخلاصة دون توقف .
وعن الصادق عليه السلام أن مواليه عشرة ، وأن خيرهم وافضلهم معتب .
وسميت زكاة الفطر لفرضها بعد إفطار شهر رمضان وتجب يوم العيد.
وتنفرد زكاة الفطر من جهة وجوبها بأمور :
الأول : يخرج ويدفع زكاة الفطرة الغني والفقير ، بينما لا تجب زكاة المال إلا مع تحقق النصاب , والفقراء هم أكثر المسلمين أيام التنزيل ، لينعكس الأمر إلى الضد بعدها , إذ صار المسلمون في حال سعة وغنى,والضد يظهر حسنه الضد , وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل زكاة الفطرة من الكلي المتواطئ المتساوي بتعيين مقدار من القوت عن كل فرد سواء كان غنياً أو فقيراً ، فتقدر مثلاً بما يعادل 6 دولار أو دينار واحد ، أم أنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، الصحيح هو الأخير ، بحسب الحال وأسعار البلد ومراتب طعامهم ومعيشتهم ، وفي كفارة اليمين ، قال تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ]( ).
وزكاة الفطر من الشعائر التي يحرص المسلمون والمسلمات في أنحاء العالم على إخراجها وتأديتها قبل صلاة العيد ، فمع ثبوت اخراجها وتأديتها قبل صلاة عيد الفطر يقع التباين فيها من جهات:
الأولى : التباين بين البلدان فمقدارها في بلد يختلف عن الآخر.
الثانية : الإختلاف من سنة إلى أخرى بحسب الأسعار ، وحتى إذا كانت زكاة الفطر قوتاً وهو الأصل ، فان الإختلاف موجود بحسب الحال والأسعار .
الثالثة : حال المكلف من السعة في الرزق ، لذا ورد في كفارة اليمين قوله تعالى [مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ..]( ).
الرابعة : نوع زكاة الفطرة والتباين في السعر بين الطحين ، والأرز ، والذرة والتمر ونحوها.
(عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام ، أو صاعاً من أقط ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من زبيب) ( ).
ويجوز تأديتها نقداً لقاعدة نفي الحرج في الدين ، والتوسعة في الأمصار والصلات ،ولقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ) ولا تصل النوبة إلى جعل الفقير وكيلاً عن الذي يؤدي الزكاة ، وإن كانت هذه الوكالة صحيحة وهي من الإحتياط.
ومن المعجزات التأريخية المستحدثة توجه المسلمين لأداء زكاة الفطرة في اليوم الأول من شوال من كل سنة ، بشوق وغبطة ورضا وطاعة لله وقصد القربة فلا يمكن أن يجتمع حال الرضا بدفع المال عند عامة الناس إلا بالمعجزة.
ويتكرر ويتوالى هذا الأداء كل سنة لتكرر المعجزة ، ويتجلى مصداق عام على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص زكاة الفطرة والعناية بها أنها واقية من الإرهاب وحرب عليه ، إذ أنها دعوة للرحمة والتراحم بين الناس.
المعجزات التأريخية المتجددة في شهر رمضان
لقد أكرم الله عز وجل شهر رمضان بأمور منها نزول القرآن وورود اسمه في القرآن من بين الشهور ليكون ضابطة في تعاهد أسماء وأوان شهور السنة الأحد عشر الأخرى.
ومنها صيام المسلمين والمسلمات لأيام شهر رمضان كلها قال تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ]( ).
وشاء الله عز وجل أن يكون شهر رمضان مناسبة للسلم والأمن ونبذ الإرهاب بالقول والفعل ، ومن المعجزات المتجددة في شهر رمضان جهات :
الأولى : إجتهاد المسلمين في تلاوة آيات وسور القرآن ، والحرص على ختمه أيام شهر رمضان ، وعن الإمام الباقر عليه السلام (لكل شئ ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)( ).
الثانية : أداء المسلمين صلاة الليل ، وصلاة التراويح في ليالي شهر رمضان.
الثالثة : التبدل النوعي في حياة المسلمين في شهر رمضان بتجلي معاني قدسية الشهر في الأسواق والمنتديات والبيوت.
الرابعة : صلاح النفوس ، وسعي المسلم لصيام الجوارح.
الخامسة : التكافل الإجتماعي والمسارعة في الخيرات ، وإعانة الفقراء في شهر رمضان ولا يعلم أسرار الباعث النفسي عند عامة المسلمين للإنفاق في سبيل الله في شهر رمضان إلا الله عز وجل.
ويدل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، على أن القلوب بيد الله عز وجل وأنه سبحانه يصلح المؤمنين بسلامة قلوبهم وغيرهم وإلقاء شآبيب الرحمة فيها ، وإزاحة الكدورة والغل عنها ، خصوصاً في شهر رمضان .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب.
وفتح أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر . ولله عز وجل عتقاء من النار ، وذلك عند كل ليلة)( ).
ولم يرد اسم شهر في القرآن إلا شهر رمضان ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وهل يمكن أن تلحق هذه الآية بآيات السلم خاصة أنها محكمة ومتجددة كل عام ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : قانون عام وهو الفريضة العبادية سلام متجدد.
الثاني : الإنصراف الطوعي والقهري والانطباقي عن الحرب والقتال.
الثالث : الصيام تنزه عن الظلم والتعدي والإرهاب .
الرابع : بيان قانون تجدد الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، كل يوم وكل شهر وكل سنة.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه بيان وجوه من علة ذكر شهر رمضان في القرآن ، وقدسيته بنزول القرآن فيه ، وتجدد التكليف بالصيام عند دخول شهر رمضان إلى يوم القيامة ، ففي كل سنة يخاطب القرآن المسلمين والمسلمات الأحياء [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
وتتعدد أفراد الإعجاز في الآية أعلاه من جهات :
الأولى : الإعجاز العقلي بنزول آية البحث ومضامينها القدسية وبلاغتها وضبط التكليف والتخفيف فيها.
الثانية : الإعجاز الغيري للآية من جهة الدلالة والأثر والنفع العام واقتباس القوانين منها ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : الإعجاز الحسي للآية ببيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعاني الآية ، وإمتثاله بصيام شهر شهر رمضان ، وبعث أهل البيت والصحابة على الصيام.
الرابعة : المعجزات المتجددة كل عام من أيام تشريع الصيام في السنة الثانية للهجرة إلى يومنا هذا ، وما يستحدث منها في السنوات والأحقاب القادمة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
فيجتمع هذا القسم مع المعجزات العقلية والحسية في أيام النبوة ثم تستقل بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى لتتجدد كل عام بمصاديق وكيفية وكم متعدد لا يعلمه الا الله عز وجل.
قانون الملازمة بين النبوة والدعاء
لقد جعل الله عز وجل الدعاء سلّماَ وصلة صاعدة في السماء , وخطاباَ وتوسلاً من الإنسان إلى الله عز وجل , وإقراراَ بأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه , وأكثر الناس معرفة لمنافع الدعاء والحاجة إليه الأنبياء , وهل كانوا أكثر الناس إنتفاعاَ من الدعاء , المختار نعم.
ويلازم الدعاء النبي قبل أن يبعث وبعد البعثة وإلى أن يفارق الحياة إلى الرفيق الأعلى , وكان إبراهيم عليه السلام دعّاءَ يكثر من الدعاء , ومن أدعية إبراهيم عليه السلام [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( ).
وفيه تحذير سابق لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإرهاب والظلم والجور ، فتمادى كفار قريش بالظلم للذات والغير فتم الفتح بفضل ولطف من الله عز وجل.
ولم ينحصر دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بعشية وصباح يوم المعركة بل إبتدأَ من حين الخروج من المدينة .
و(عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة كما خرج طالوت فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج.
فقال اللهم إنهم حفاة فاحملهم , اللهم انهم عراة فاكسهم , اللهم إنهم جياع فأشبعهم ففتح الله لهم يوم بدر فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو بجملين واكتسوا وشبعوا)( ).
وهل دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا يختص بخروجهم إلى معركة بدر والقتال فيها , الجواب لا , إنما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله عز وجل عند الخروج في أي كتيبة , خاصة وأنه لم يقصد ماء بدر بالذات ولا قتال المشركين يومئذ , إنما كانت كتيبة بدر للإستطلاع والمرابطة المتنقلة , وبيان مفاهيم النبوة والدعوة إلى الله عز وجل , وإظهار عز الإيمان .
ويدل وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في هذا الدعاء أعلاه بأنهم حفاة , وعراة , وجياع , على عدم الإستعداد أو التهيئ للقتال .
ولم يثبت أن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان .
قانون صبر النبي (ص)
تبين قصص الأنبياء التي في القرآن والكتب السماوية السابقة له قانون ملازمة الصبر للنبوة فهما لا يفترقان .
نعم صبر الأنبياء من الكلي المشكك الذي كان على مراتب متفاوتة من جهات :
الأولى : كثرة أو قلة مواضيع الصبر.
الثانية : طول أو قصر مدة الصبر في موضوع معين ، وفي النبي يعقوب عليه السلام وحزنه على فقد يوسف ورد في التنزيل [وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ]( ).
الثالثة : شدة أو خفة موضوع الصبر.
الرابعة : تعدد الجهات التي يأتي منها الأذى والإبتلاء .
الخامسة : الكم والكيف في أسباب الصبر .
السادسة : نزول المصائب بالنبي في حال السلم والرخاء ، وحال الشدة والقتال.
وقد فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولاده في حياته إلا فاطمة عليها السلام ، كما ماتت زوجته خديجة قبل الهجرة ، وهي والإمام علي عليه السلام أول من آمن به ، ثم شهد قتل عمه حمزة بن عبد المطلب مع تسعة وستين من الصحابة في معركة أحد.
وعندما مات إبراهيم ابن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكى عليه وقال (إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالَقْلَبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)( ).
وعندما انقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من ميدان معركة أحد مرّ (بِدَارِ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَظَفَرٍ فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَكَى ، ثُمّ قَالَ لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ.
فَلَمّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزّمْنَ ثُمّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُكَاءَهُنّ عَلَى حَمْزَةَ خَرَجَ عَلَيْهِنّ وَهُنّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْنَ يَرْحَمْكُنّ اللّهُ فَقَدْ آسَيْتُنّ بِأَنْفُسِكُنّ)( ).
لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكره عمه حمزة إظهار حزنه عليه ومواساة الأنصار رجالاً ونساءً ، والتذكير بأنه أيضاً فقد عمه شهيداً بسبب قيام المشركين بغزو المدينة.
ومن خصائص الأنبياء عدم الشكاية للناس ، إنما يقبضون همهم في صدورهم ويتوجهون إلى الله عز وجل بالدعاء ، ورجاء الأجر والثواب ، وهم الأئمة في حبس الغيظ والأذى ، قال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وفي يعقوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحزنه على فقد يوسف ورد قوله تعالى [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وعن (عبد الله بن عمر ، قال : اشتكى سعد شكوى ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، فلما دخل وجده في غشيته ، فقال : قد قضى يا رسول الله ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بكوا.
فقال : ألا تسمعون إن الله جل وعلا لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا أو يرحم ، وأشار إلى لسانه)( ).
وستبقى شواهد صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة يومية متجددة للمسلمين للإقتداء به ، واجتناب الإرهاب ، وبعث النفرة منه وهل التحلي بالصبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
من أقسام الصبر النبوي
لقد نزلت الأوامر من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب الصبر والتحمل ، وبذل الوسع في الدعوة إلى الله ، وعدم التوقف بسبب شدة الأذى الذي يلقاه من الكفار ، ومن هذه الآيات الأمر الصريح بالصبر .
ليكون منهاجاً للنبوة وحجة على الناس ودعوة للمسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان الصبر والخلق الحميد.
ولم يرد فعل الأمر (اصبر) في القرآن من غير حرف عطف كالواو والفاء إلا مرة واحدة بقوله تعالى [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( ).
ومن المواضيع التي أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصبر الجميل فيها :
الأول : الصبر على تكذيب قريش لرسالته.
الثاني : الصبر على استهزاء المشركين بالتنزيل.
الثالث : شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين.
الرابع : الصبر على الجوع ، وقد فرضت قريش حصاراً اقتصادياً وإجتماعياً ونفسياً على بني هاشم وبني المطلب استمر ثلاث سنين ، وكان بكاء الصبيان من شدة الجوع يسمع من وراء الشعب.
وقد استمر الحصار لثلاث سنين من شهر محرم من السنة السابعة للبعثة النبوية ، وحينما خرجوا من الحصار كان عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسعاً وأربعين سنة ، وبعده بأشهر مات عمه أبو طالب الذي كان يذّب عنه ، وماتت زوجته خديجة فاشتد أذى كفار قريش له .
ولكن آيات القرآن تتوالى في نزولها وهي تتضمن البشارة على الإيمان ، والإنذار على الكفر والجحود وعبادة الأوثان.
و(عن محمد بن إسحق قال: لما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذى بعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه، وأبوا أن يسلموه، وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه، إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه.
فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب، وعرفت قريش ألا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بنى هاشم وبنى عبدالمطلب: ألا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم وألا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة.
ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا)( ).
الخامس : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله ، وهذا الفرد ينبسط على كل أيام النبي محمد من أول البعثة النبوية وإلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى.
السادس : أذى المشركين لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال والنساء ، وقد مات بعضهم تحت التعذيب ، ليكون من معجزات النبي محمد امتناع أصحابه عن الإرتداد.
ومع بدايات الدعوة قُتل بعضهم تحت تعذيب كفار قريش مثل سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر.
السابع : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال ، ودنو القتل منه خاصة في معركة أحد ، ومعركة الخندق.
الثامن : تكرار محاولات قريش لإغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكشفها بالمعجزة وإتخاذه الصبر جلباباً ، وعدم لجوئه للإنتقام.
التاسع : الأذى الذي يأتي على نحو القضية الشخصية من بعض الأفراد والأعراب.
قانون محو أكثر الإبتلاء
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار وليس من انسان إلا وينزل به الإبتلاء مسلماً أو كافراً ، رجلاً أو امرأة ، غنياً أو فقيراً .
لبيان قانون وهو أن الأرض والسماء ملك طلق لله عز وجل ، وأن الإنسان محتاج إلى رحمة الله في التخفيف عن البلاء وقصر مدته.
ولا يعلم ما يمحى عن الإنسان من البلاء الذي اجتمعت أسبابه أو لم تجتمع إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
ومن ثمرات الإيمان محو كثير من ضروب الإبتلاء عن ذات المؤمنين ومن يلوذ بهم ، وعن أهل زمانهم.
وورد تبعيض الإبتلاء في قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( ).
وكان السائب بن أبي حبيش يحدث بعد أن دخل الإسلام عن حاله يوم بدر عندما كان مع جيش المشركين (والله ما أسرني أحد من الناس.
فيقال : فمن ، يقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها، فأدركني رجل أشعر طويل على فرس أبيض فأوثقني رباطا.
وجاء عبدالرحمن بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر: من أسر هذا ، حتى انتهى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أسرك.
قلت: لا أعرفه ، وكرهت أن أخبره بالذى رأيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أسرك ملك من الملائكة اذهب يا بن عوف بأسيرك .
وقال الواقدي: حدثنى عابد بن يحيى، حدثنا أبو الحويرث، عن عمارة بن أكيمة، عن حكيم بن حزام، قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بجاد ، من السماء قد سد الافق، فإذا الوادي يسيل نهلا، فوقع في نفسي أن هذا شئ من السماء أيد به محمد، فما كانت إلا الهزيمة ولقى الملائكة)( ).
والبجاد كساء مخطط وجمعه بُجد ، جاء هنا للتشبيه عن كثرة الملائكة وكبر هيئاتهم.
و(يقال: بجد النساء، إذا لبسن البجد على الميت)( ).ومنه ذو البجادين ، وهو عبد الله بن عبد نهم صحابي من مزينة من نواحي المدينة سّمي به لأنه حين أراد القدوم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطته أمه بجاداً أي كساء من صوف فشقه شطرين ، فأتزر بواحد وارتدى الآخر.
وقيل أنه كان في حجر عمه وحينما أراد الإسلام انتزع منه عمه كل شئ إلا رداء كان عليه وتوجه بحاله هذه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصلى معه صلاة الصبح ، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتفقد الناس بعد الصلاة.
فرآه (فقال : من أنت ، قال: أنا عبد العزى، فقال: بل أنت عبد الله ذو البجادين، فالزم بابي، فكان يلزم باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يرفع صوته بالقرآن والنحيب والتسبيح، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أمرائي هو؟ قال: دعه عنك فإنه أحد الأواهين)( ).
وصحيح أن الدنيا دار ابتلاء ولكن الذي يمحوه الله عز وجل منه أكثر من الذي يلقاه الناس ، وهل يختص المؤمنون بكثرة ما يمحى من الإبتلاء عنهم .
الجواب لا ، إنما الدنيا دار رحمة الله عز وجل ، نعم يأتي الثواب للمؤمن والمؤمنة عند الإبتلاء ، وكذا بالنسبة للبلاء الذي يمحوه الله عز وجل بالدعاء والصدقة والإنقطاع إلى العبادة والذكر ، وفيه دعوة للمسلم للإمتناع عن الإضرار بالناس أياً كانت مشاربهم.
الغايات الحميدة لكتائب النبي (ص)
لقد كان خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب بالوحي في كل مرة ولو كان بقصد الغزو فهو صحيح شرعاً إلى جانب تعضيد العقل له ، ولكن ليس من موضوعية للغزو في كتائب النبي .
ولم يثبت ذات الاسم (غزوات النبي) وأنها ست وعشرون غزوة أو سبع وعشرون غزوة ، فلم يهجم أو يباغت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل قرية أو قبيلة أو بلدة ، إنما كان يخرج لوجوه :
الأول : قانون التبليغ العملي والقولي للرسالة .
الثاني : قانون إقامة الصلاة في الطرق العامة .
الثالث : قانون دعوة الأفراد والجماعات إلى الإسلام بآيات القرآن والحجة والبرهان ، وليس الإرهاب.
الرابع : قانون الوصول إلى الرجال والنساء في القرى والأرياف والبوادي ، وإسماعهم آيات القرآن .
الخامس : قانون إمتناع المانع بين الناس وبين النبوة والتنزيل.
وهو من المساعي النبوية الحميدة ، وتحمل الأذى في هذا الخروج .
السادس : قانون استقراء حال الإيمان في المدينة المنورة حتى مع غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه .
السابع : قانون دلالة الكتائب والسرايا النبوية على كثرة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعلم أهل النواحي والقرى كثرتهم إلا بالسرايا ، وهي مادة التبليغ .
الثامن : معرفة الناس بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه إلى المدينة ، ووجود أمة تأويه وتنصره ، وهل هو من مصاديق التأييد بالنصر في قوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ] ( ) أم أن القدر المتيقن من النصر هو الغلبة في سوح المعارك ، الجواب هو الأول.
التاسع : كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) لبيان عدم إنحصار جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ بخصوص بقائه في المدينة ،وإنتظار مجئ الناس إليه ، بل لابد أن يخرج إليهم في قراهم ومدنهم ، ومن خصائص النبوة قانون الملازمة بين النبوة والسياحة .
العاشر : قانون كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإستطلاع واستكشاف ما حول المدينة .
الحادي عشر : قانون الإخبار العملي والقولي المتجدد بوجود أمة مؤمنة لا تشرك بالله شيئاً .
الثاني عشر : بيان مسألة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت للمدينة ليقيم ويجلس فيها ، إنما هي مصدر إشعاع ومركز للتوجه إلى القرى والمدن التي حولها .
الثالث عشر : بيان مصداق لبنوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاكاته لسيرة الأنبياء السابقين بالذهاب إلى الناس ومفاتحتهم بالدعوة وسؤالهم دخول الإسلام .
الرابع عشر : قد يتساءل الناس إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عند الله ، فلماذا لا يظهره الله ، أو لا أقل يحول دون أسباب إخافته وإيذائه ، فتفضل الله عز وجل عليه بالهجرة ثم خروجه وأصحابه في كتائب وسرايا ، وتوجهه بالخطاب العام إلى الناس بالحضّ على الإيمان وأداء الفرائض والإنذار من النار ، قال تعالى [فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] ( ).
الخامس عشر : الدعوة إلى الله ، ومن خصائص الأنبياء الذهاب إلى الناس أفراداً وجماعات ،ودعوتهم إلى الهدى والإيمان .
السادس عشر :من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه عندما كان في مكة يتصل بالأفراد والجماعات يخبرهم عن نبوته ، ويدعوهم إلى الإسلام ومنهم وجهاء قريش .
وإذا رآى وافداً قد حضر إلى البيت الحرام للعمرة أو الطواف قام وجلس إلى جواره ، ودعاه إلى الإسلام وسأله أن يكتم أمره خشية من قريش .
ومع هذا تمادت قريش في إيذائه وأصحابه لتتجدد المعجزة بعد الهجرة ، فيخرج بمئات من أصحابه ويطرق أبواب القرى التي كان يأتي منها الوافد والغريب إلى مكة ويفاتحه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية ، لتصبح الدعوة النبوية بعد الهجرة عامة ، وهو من فضل الله في الهجرة .
السابع عشر : قانون كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلم وموادعة.
الثامن عشر : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتائبه الناس إلى عدم إعانة قريش في قتالهم له ، وغزوهم المدينة ، وهذه الدعوة العملية من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الإعجاز في إنذار مكة ثم من حولها
لقد أراد المشركون من محاربتهم وقتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منع بزوغ شمس الإيمان والعدل والحرية في الجزيرة ، ليكون من معاني تسمية مكة أم القرى بقوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، موضوعية وأثر وسطوة قريش وسدانتهم للبيت الحرام عند القبائل فتفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً في مكة.
ومن إعجاز الآية التباين في المنذَرين من جهتين :
الأولى : إنذار أم القرى ، فذكرت البلدة والمراد عموم أهلها من غير تعيين لقريش .
ولبيان التساوي بين الناس في توجيه الدعوة إلى الإيمان فقد تسلم المرأة قبل زوجها وأخيها وأبيها ، وفيه شواهد عديدة من قريش ، وقد يسلم العبد قبل سيده.
نعم خصّ الله عز وجل قريشاً بالدعوة والإنذار بقوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، ليكون هذا الإنذار أمراً خاصاً في طول العام الوارد في الآية أعلاه .
والإنذار في المقام من الشواهد على قانون التنافي والتضاد بين الإسلام والإرهاب ، وعلى قانون القرآن حرب على الإرهاب ومانع منه.
الثانية : إنذار الذين حول مكة من أهل القرى والإرياف فلم تذكر المدن والقرى إنما ذكروا بقيد العاقل (من) وهل فيه تعريف بأهل مكة لعدم ذكرهم بالذات ، الجواب لا ، إنما المراد من إنذار مكة إرادة أهلها وزوارها وعمار البيت الحرام ، وهذا العموم من الإعجاز في قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، ثم عطف من حولها بصيغة العاقل ولم تقل الآية (وما حولها).
ومن مصاديق إمتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمضامين الآية أعلاه قبل الهجرة أنه إذا رأى معتمراً وزائراً للبيت الحرام من خارج مكة جلس إلى جواره وسأله عن اسمه وقبيلته ومسكنه.
ثم عرّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم له نفسه وانه رسول من عند الله ، ودعاه إلى الإسلام وتلا عليه آيات القرآن والسور المكية خاصة وأنها قصيرة , وسهلة الحفظ ، وسأله كتمان الأمر خشية من أذى قريش.
ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، الكف والإمتناع عن إيذائك والإضرار بك في دعوتك عمار المسجد الحرام إلى الإسلام.
تجليات كتائب النبي (ص)
لقد كانت كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبهى أنواع الجهاد في سبيل الله فهي دعوة ، للناس في قراهم وفي الجادة العامة للإيمان من غير قتال أو لمعان سيوف ، لقد كانت قريش تؤذي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الأفراد ، على نحو القضية الشخصية ، فصار يدعوهم دعوة عامة من وجوه:
الأول : قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى القرى ، وتجمع الناس عند الأبار والمياه .
الثاني : قانون الدعوة الجهرية والعلنية بعد الهجرة .
الثالث : تلاوة آيات وسور القرآن المكية والمدنية على الناس ، وبيانها وتفسيرها .
الرابع : قانون إقامة صلاة الجماعة اليومية بعد الهجرة .
الخامس : إستماع النفر والرهط والطائفة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الدعوة إلى الإيمان ، وتتجلى في كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسائل :
الأولى : طول مدة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد يمكث في الموضع الهدف سبعة أيام أو شهر أو أكثر أو أقل ، ويحتمل تعيين مدة هذه الأيام وجوهاً :
الأول : باجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : طبيعة المنطقة والأحداث.
الثالث : بالوحي .
الرابع : العنوان الجامع للوجوه أعلاه .
الجواب إنه بالوحي ويتفرع عنه ملائمة الأحداث .
الثانية : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة في الموضع خمس مرات في اليوم ، ولابد أن تكون الإقامة عند موضع القرى والماء والمسافرين ، ويأتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبين لهم معالم الإيمان ، ويتلو عليهم آيات القرآن ، ويدعوهم إلى الإسلام ونبذ عبادة الأصنام ، وينذرهم من إعانة المشركين في قتالهم ضده.
الثالثة : إزدياد عدد الصحابة واستعدادهم للدفاع .
فان قلت قد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى كتيبية بواط ولم يكن هناك قتال بينه وبين المشركين ، إذ أنها قبل معركة بدر ، والجواب من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تهيئة مقدمات منع الناس عن نصرة المشركين في معركة بدر بالخروج في كتائب وبعث أصحابه في سرايا.
الرابعة : هذه الكتائب والسرايا تأسيس للسلم المجتمعي ، للقتال وأطرافه ومدته ، وفيه مانع من استقواء المشركين ، ومن كثرة سفك الدماء ، وهذه الكتائب من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لفساده في الأرض وسفكه الدماء ، فمن علم الله عز وجل قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والبشارة والإنذار .
وإظهار آيات النبوة وإطلاع عامة الناس عليها بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب والسرايا .
الساد سة : والمنع من الفساد وسفك الدماء.
كتائب رسول الله (ص) سلام
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بعد الهجرة إلى المدينة في ست وعشرين كتيبة وقيل(سبعا وعشرين) ( )،وفي المقام مسائل :
الأولى : هل كان خروج النبي محمد في هذه الكتائب دون غيرها حاجة.
الثانية : ترى ماذا لو لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الكتائب.
الثالثة : ما هي النسبة بين هذا الخروج وبين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله سبحانه بواسطة جبرئيل.
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، فلم يتم هذه الخروج إلا بالوحي ، وفيه حاجة للمسلمين وعامة الناس وتنظيم لخطط الدعوة إلى الله وفق منهاج سماوي ، وهو نشر الإسلام والسلام في الجزيرة.
لبيان الملازمة الواقعية بينهما ، وهو من الإعجاز في إتحاد أصل اللفظ لهما ، بمادة (سلم ) وحينما يسمع الإنسان اسم الإسلام يتبادر له السلام ، إذ أن التبادر من علامات الحقيقة ، وفيه دعوة لكل مسلم ومسلمة لبعث الأمن والطمأنينة في قلوب الناس منه ، قال تعالى [إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل أن يضع بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السرايا القواعد الكلية لها ، والضوابط العقائدية التي تحكم هذه السرايا وهي الرحمة العامة والعصمة من الإضرار بالناس .
فليس من رئيس وآمر في سرية من سرايا الإسلام إلا وقد خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الحل والترحال ، فكان حضوره في الكتائب بياناً لصدق نبوته.
أما المسألة الثانية فلو لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب لتباطأ انتشار الإسلام ، ولحدثت أضرار في الخروج بالإجتهاد الفردي ، وبصدود الناس عن الدعوة ولأصاب الناس الضرر الدنيوي والأخروي بتحريض قريش لهم ضد النبوة والقرآن ، قال تعالى [أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ]( )، قال تعالى [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ..] ( ).
أما المسألة الثالثة فالنسبة بين هذا الخروج وبين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنسبة الأصل والفرع مع وحدة الموضوع في تنقيح المناط ، فكل فرد منها من مصاديق الوحي .
لقد كان كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة إلى السلم وإقامة للبرهان على صدق نبوته ، وبيان قانون وهو بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه مضارب القبائل ومواضع الآبار والمياه في دعوته إلى الله سبحانه .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) تبليغ الأشخاص والسياحة في الأرض للوصول إلى الناس في مواطنهم ومساكنهم وتبليغهم ليجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين التبليغ اللساني والتبليغ العملي ، والدعوة للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد تقدم البيان بخصوص كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونبين في المقام جوانب السلم وأسباب نشر الأمن في هذا الكتائب ،ومنها :
الأولى : كتيبة ودّان
وهي كتيبة الأبواء .
والأبواء موضع بين مكة والمدينة ، وهو أقرب إلى المدينة سمي به لتبوء واجتماع السيول فيه لانخفاضه وفيه قبر آمنة بنت وهب أم النبي ، والذي زار قبرها في السنة السادسة للهجرة عند عودته من كتيبة بني لحيان وبكى وأبكى المسلمين ، وقيل زاره أكثر من مرة.
وقعت كتيبة الأبواء في الثاني من شهر صفر في السنة الثانية للهجرة، آب623م وتبعد ودّان عن المدينة بنحو 240كم تقريباً وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستون من الصحابة ، وتبعد الأبواء عن ودان ستة أميال (وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال : أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه غزوة الأبواء حتى إذا كان بالروحاء عند عرق الظبية.
قال : أتدرون ما اسم هذا الجبل يعني ورقان( )، هذا حمت( )، اللهم بارك فيه وبارك لأهله فيه، تدرون ما اسم هذا الوادي يعني وادي الروحاء ، هذا سجاسج( )، لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبياً.
ولقد مر بها يعني الروحاء موسى بن عمران عليه السلام في سبعين ألفاً من بني إسرائيل، عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة له ورقاء، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى ابن مريم عليهما السلام حاجاً أو معتمراً أو يجمع الله تعالى له ذلك)( ).
ويلاحظ أن تسمية (غزاة) لم ترد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما وردت على لسان الصحابي (أول غزاة غزاها) ولعلها من رجال السند للبيان والإيضاح خاصة وأنه لم يقع فيها قتال.
وفيها عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقداً وميثاق أمان مع مخشي بن عمرو الضمري رئيس بني ضمرة.
وقيل أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكتيبة عيراً لقريش وأراد عيراً لبني ضمرة ، ولم يثبت كل من هذين القولين والأصل عدم الصحة خاصة بعقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق أمان مع رئيس بني ضمرة .
ولعل أصل هذا القول الإستصحاب القهقري للقول بطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعير قريش في معركة بدر ، والقول بالإستصحاب القهقري لم يثبت في علم الأصول .
كما أن النقاش في الكبرى وهي إدعاء خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، لطلب عير قريش ، وهي قافلة أبي سفيان والذي لم يثبت أيضاً وإن كان مشهوراً ومتوارثاً في كتب السيرة ، وربّ مشهور لا أصل له .
فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
والجواب تذكر الآية الود على نحو التعيين والحصر ، وهو كيفية نفسانية يلزم ترجله في الخارج بعالم الفعل ، الذي لا يترشح في عالم الفعل والمبرز الخارجي إلا عن الوحي ويكون ظاهراً جلياً.
وإذا حصل تعارض بينهما يكون الوحي هو المقدم في عالم القول والفعل ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
فان قيل وردت الآية أعلاه بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أما لفظ (تودون) الذي تذكره الآية السابعة من سورة الأنفال والذي لم يرد في آية أخرى من القرآن فهو خاص بشطر من المهاجرين والأنصار.
والجواب إنما كان الصحابة يأتمرون بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو من رشحات الوحي.
وتقدير الآية أعلاه (وما ينطق عن الهوى فيما يخص التنزيل والأحكام وعمله وعمل أصحابه الذين معه إن هو إلا وحي يوحى).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب والسرايا تقيد أصحابه بأوامره ونواهيه ، وفيه مسائل :
الأولى : إقرار الصحابة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق إلا عن الوحي .
الثانية : تغشي البركة لأفعال الصحابة ، ومن مصاديقها استقراء بركة القرآن وأثره في الواقع اليومي للمسلمين ، وهو من مصاديق تلاوة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى آيات القرآن في الصلاة وخارجها ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) وسيأتي قانون من بركة القرآن إنحسار الإرهاب .
الثالثة : البشارة بالنصر والغلبة على المشركين.
ليكون من معاني الجمع بين الرسل والذين آمنوا في قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( )، هو انقياد الذين آمنوا لأوامر الله والرسل ، واتباعهم لمنهاجهم في الصبر ، والدفاع والذب عن الحرمات.
وليكون من وجوه تقدير الآية أعلاه (انا لننصر الذين آمنوا برسلنا وما معهم من الوحي والتنزيل).
الرابعة : قانون توارث منهاج الوحي .
الخامسة : قانون تنمية ملكة اتباع الوحي عند المسلمين .
السادسة : قانون دعوة الناس للإيمان إذ تميل النفوس بالفطرة للوحي ، وتنفر مما هو ضده من الكفر والفسوق والظلم .
السابعة : تجلي التباين بين حال سرايا المسلمين التي تتصف بالإنضباط والصبر ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( )، وبين جيوش المشركين التي تكثر الخصومة والشقاق فيما بينهم ، وكان أكثرهم مستأجرين.
ومن أسبابه إقرارهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واختيارهم الظلم والتعدي في قتالهم إياه ، قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الثانية : كتيبة الفُرع
توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نجد لموضع الفُرُع ويسمى بَحران في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة ولم يلق قتالاً.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى بَلَغَ بَحْرَانِ ، مَعْدِنًا بِالْحِجَازِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرُعِ ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخِرَ وَجُمَادَى الْأُولَى ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
وَذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَتَى بَحْرَانِ مَعْدِنًا بِالْحِجَازِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرُعِ ، فَأَقَامَ بِهِ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخِرَ وَجُمَادَى الْأُولَى . الْفُرُعُ بِضَمّتَيْنِ يُقَالُ هِيَ أَوّلُ قَرْيَةٍ مَارَتْ إسْمَاعِيلَ وَأُمّهُ التّمْرَ بِمَكّةَ وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا عَيْنَانِ يُقَالُ لَهُمَا : الرّبُضُ وَالنّجْفُ يَسْقِيَانِ عِشْرِينَ أَلْفَ نَخْلَةٍ كَانَتْ لِحَمْزَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ) ( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة هو وأصحابه يصلون الصلوات اليومية الخمس ، ويصعد المنبر ليعظهم ويبشرهم وينذرهم ، وينمي عندهم ملكة الفقاهة بتلاوة آيات القرآن سواء التي نزلت في مكة ، أو التي نزلت في المدينة .
وهل كان حينما يخرج في الكتائب يخطب بأصحابه ، وهل يصنعون له منبراً من طين مثلاً ، أو أن هناك منبراً سياراً .
الجواب نعم يخطب النبي بأصحابه في السفر ولكن ليس من منبر يصعد عليه ، خاصة وأنه بقي لسنوات يخطب في المسجد النبوي واقفاً متكئاً على جذع إلى أن تم صنع منبر له ، لذا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخبر المتواتر بحنين هذا الجذع شوقاً إليه عندما تحوّل عنه .
وروي حديث الجذع بألفاظ متقاربة عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري والمطلب بن ابي وداعة (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب إلى جذع نخلة، فاتخذ له منبر، فلما فارق الجذع.
وغدا إلى المنبر الذي صنع له جزع الجذع، فحن له كما تحن الناقة.
وفي لفظ : فخار كخوار الثور، وفي لفظ: فصاحت النخلة صياح الصبي حتى تصدع وانشق.
فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاحتضنه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن فسكن.
وقال : اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت أن أغرسك في الجنة، فتشرب من أنهارها وعيونها، فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك الصالحون ” فاختار الآخرة على الدنيا.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة.
وقال : لا تلوموه فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفارق شيئا إلا وجد) ( ).
وهذه الخطب عنوان للسلام ودعوة للإرتقاء في التفكير ، وبناء الصلات في المجتمعات على الوئام.
وهل كان المشركون يسمعون هذه الخطب اثناء خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب ، الجواب نعم ، لتغزو مبادئ الإيمان القلوب.
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا ينسى الآيات والسور التي نزلت في مكة مع تقادم الأيام ، ولا يترك تلاوتها ويكتفي بالآيات والسور المدنية أو الإنشغال بأمور الدولة وبناء الأسرة والمجتمع .
ومن إعجاز القرآن الطراوة والحلاوة ومناسبة آياته للوقائع والأحداث ، إذ تحضر مضامين السور المكية في الواقع بعد الهجرة وأيام التابعين وإلى يوم القيامة ، وليس من قتال في هذه الكتائب ، ومع هذا تسمى غزوات.
واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ابن أم مكتوم ، وكان أعمى وهو من المهاجرين لبيان حال الإستقرار في المدينة ، وإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس فيها.
لقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بَحران شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى ، أي نحو ستين يوماً وهي مدة ليست قصيرة ولم يقاتل فيها أحداً ، ولم يدع إلى حرب.
وقيل أن سبب هذه الكتيبة ما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن طائفة من بني سُليم قد تجمعوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقبل أن يصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليهم بليلة واحدة لاقاه رجل وأخبره بأنهم تفرقوا فحجزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تأكد من صدق قوله عند الوصول إلى ذات الموضع فاطلقه.
ليكون من الغايات الحميدة لهذه الكتيبة :
الأولى : صرف الفتنة ومقدماتها من غير قتال وهو من معجزاته ، ومصاديق نبوته وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثانية : إزاحة الموانع التي تحول دون تدبر الناس في معجزات النبوة.
الثالثة : حلول الإيمان محل الكفر في مواضع في الجزيرة ، فبعد أن تناجى بنو سليم في الفرع لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر وأصحابه في ذات الموضع وأذنوا للصلاة اليومية ، وهل هو من عمومات تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )بأن محى ونسخ الله عز وجل الكفر وعبادة الأصنام في ذات الموضع ، وجعل محله صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب نعم ، لبيان قانون مصاديق المحو والإثبات من اللامتناهي .
الرابعة : الفصل بين كفار قريش وعامة أهل الجزيرة والمستضعفين.
الخامسة : زيادة إيمان المسلمين ، وتثبيت أقدامهم في مسالك الهدى والرشاد.
السادسة : دعوة بني سُليم ونحوهم إلى التوبة والإنابة وفتح باب الحوار معهم ، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطيلة مدة شهري إقامته في ذات موضع بحران لم يرسل السرايا لمحاربة القوم بل تركهم وشأنهم مع مقابلته لمن يسأل عن أمور الدين والدنيا ، سواء منهم أو من غيرهم.
السابعة : قانون كتائب النبي إضعاف لجبهة الشرك ، وبعث الشقاق بين المشركين ، وهداية فريق منهم.
الثامنة : لقد كانت قريش تبذل قصارى الجهد ، وتنفق الأموال لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتستعد للقتال ، وتحشيد الحلفاء والمستأجرين والثأر لخسارتهم في معركة بدر.
فلم يواجهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمثل ، إنما قابلهم بمناسك التوحيد وآيات القرآن.
وذات هذه المقابلة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا انتصاره عليهم في ميدان المعركة وخارج الميدان لبيان قانون وهو إبتداء سلسلة انتصارات النبوة والتنزيل قبل معركة بدر ، وهل كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وسلامته من أخطار الطريق نصراً .
الجواب نعم ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، ووردت في هذه الآية ألفاظ لم ترد في آية أخرى من القرآن وهي :
الأول : (تنصروه).
الثاني : (نصره).
الثالث : (أخرجه).
الرابع : (ثاني) بمعنى العدد.
الخامس : (أيده).
السادس : (السفلى).
السابع : (العليا).
لقد وقعت كتيبة الفرع (بحران) قبل معركة بدر وقبل معركة أحد إذ كانت قريش تعد العدة لغزو المدينة ، وترسل الوفود والشعراء إلى القبائل تحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتبعث معهم الأموال والهبات الكبيرة لرؤساء القبائل والوجهاء ، وكانت هذه الوفود من رؤساء قريش الذين كانوا يستضيفون رجالات القبائل موسم الحج والعمرة ، ويقرضونهم الأموال الربوية.
وكانوا يبينون لأهل مكة والقبائل وجوه رجحان كفتهم في القتال من جهات :
الأولى : كثرة عدد جيوش المشركين أزاء قلة عدد المسلمين ، لقد زحف ثلاثة آلاف رجل من المشركين نحو المدينة في معركة أحد ، ولولا خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب قبل وبعد معركة بدر فربما تضاعف عدد جيش المشركين يومئذ ، ولكن هذه الكتائب الإيمانية من مكر الله عز وجل ولطفه ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثانية : السطوة والنفوذ لقريش بين العرب.
الثالثة : سدانة قريش للبيت الحرام ، وقيامهم بخدمة وفد الحاج فيتخذها المشركون ذريعة لندب القبائل لنصرتهم ، لذا تفضل الله عز وجل وأخبر عن فقدانهم أهلية السدانة ، واستحقاقهم لنزول العذاب بهم ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة : كثرة أسلحة وخيول ومؤن المشركين ، وهو أمر لا يلزم بذل قريش الوسع في تأكيده للقبائل لكثرة تجارة وأموال وإبل قريش ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
لبيان أن كتائب وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس لعدم الإفتتان بقريش وأموالها وخيلائها ، قال تعالى [مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ]( )، ولم يرد لفظ (ينفد) و(باق) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
الثالثة : كتيبة بُواط
بضم الباء وفتح الواو : إلى ناحية رضوى لقد توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى ناحية رضوى في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة، وحمل لواءه سعد بن معاذ ، وقيل سعد بن أبي وقاص( ).
وكان عدد الصحابة الذين معه مائتين وتسمى غزوة بواط وليست بغزوة .
قد توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منطقة بواط وجبال جهينة في منطقة الرضوى قريباً من مدينة ينبع الحالية.
وقيل أن سبب هذه الكتيبة إرادة النبي إعتراض قافلة لقريش برئاسة أمية بن خلف ومعه مائة رجل وتضم القافلة ألفاً وخمسمائة بعير وقيل أكثر ولكن ابن هشام لم يذكر هذا السبب واكتفى بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد قريشاً مع أنه نقل كلامه عن ابن اسحاق الذي يذكر خبر التعرض للقافلة إذ اكتفى بذات القول : قال ابن إسحاق (ثُمّ غَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ يُرِيدُ قُرَيْشًا . : قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ السّائِبَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى بَلَغَ بُوَاطٍ ، مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، فَلَبِثَ بِهَا بَقِيّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَبَعْضَ جُمَادَى الْأُولَى)( ).
والمختار أن كتيبة بواط للإستطلاع والمرابطة المتنقلة ، وهذا الإصطلاح مستحدث في هذا السٍفر ، ولدعوة الناس للإيمان ونبذ عبادة الأصنام .
وتبعد بواط عن المدينة أربعة برد ، جمع بريد.
والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ نحو 5,5 كم ، مع إختلاف فيه فتكون المسافة بينهما 4×4×5,5= 88 كم تقريباً.
الغرض من كتيبة بواط
الإجماع على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بُواط ، ولكن الغرض منه الذي ذكره المؤرخون بأنه طلب قافلة لقريش لم يثبت ، وإن اتخذه بعض المستشرقين ذريعة ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه بخروجه طلب عيراً لقريش ولعله لم يرد عن الصحابة هذا القصد ، إنما جاء عن ابن إسحاق المتوفى سنة 150 للهجرة وأورده مرسلاً.
والإجماع على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلق كيداً أو قتالاً في هذا الخروج ، فلم يقولوا أن القافلة فاتته أو أن أصحابه أظهروا الأسى والحزن على فوات قافلة لقريش وقيل كان فيها الفان وخمسمائة من الإبل محملة بالبضائع قادمة من الشام .
كما ذكرها الواقدي مرسلة من غير اسناد إذ قال (ثم غزا بواط في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهراً، يعترض لعير قريش، فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، ثم رجع ولم يلق كيداً، وبواط هي من الجحفة قريب) ( ).
وقد ورد في صحيح مسلم عن الصحابي جابر بن عبد الله ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد قافلة قريش في كتيبة بواط.
قال جابر (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بطن بواط وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني وكان الناضح( ) يعقبه منا الخمسة والستة والسبعة .
فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له فأناخه فركبه ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن فقال له شأ لعنك الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا اللاعن بعيره.
قال أنا يا رسول الله قال انزل عنه فلا تصحبنا بملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم ) ( ).
فذكر جابر أن الغاية طلب المجدي بن عمرو الجهني، وكان مجدي قد حجز بين سرية حمزة بن عبد المطلب وقافلة أبي جهل ، ولم يحدث بينهم قتال بعد أن اصطفوا .
ولما قدم رهط مجدي بن عمرو على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسلمين (كساهم وصنع إليهم خيراً، وذكر مجدى بن عمرو فقال: إنه ما علمت ميمون النقيبة مبارك الأمر. أو قال: رشيد الأمر) ( ).
لبيان رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الذي يقوم بالصلح ويتوسط فيه ، ويحجز بين الناس ويحول دون القتال بين المسلمين والمشركين.
فلم يوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوماً إلى مجدي بن عمرو لأنه سبب بفوات قافلة أبي جهل في ثلاثمائة راكب عند لقاء سرية حمزة بن عبد المطلب معها بعيداً عن قريش ، وكان مع حمزة ثلاثون من الصحابة ، خمسة عشر من المهاجرين ، وخمسة عشر من الأنصار (من المهاجرين: أبو عبيدة ابن الجراح، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبى حذيفة، وعامر بن ربيعة، وعمرو بن سراقة، وزيد بن حارثة، وكناز بن الحصين وابنه مرثد بن كناز، وأنس مولى رسول صلى الله عليه وآله وسلّم، في رجال.
ومن الأنصار : أبي بن كعب، وعمارة بن حزم، وعبادة بن الصامت، وعبيد بن أوس، وأوس بن خولى، وأبو دجانة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وقطبة بن عامر بن حديدة، في رجال لم يسموا لنا) ( ).
كما ورد ذكر مجدي بن عمرو عند وصول قافلة أبي سفيان إلى بدر الذي كان خائفاً من الرصد فوجه مجدي بن عمرو فسأله (هل أحسست أحدا من عيون محمد؟ فإنه، والله، ما بمكة من قرشي ولا قرشية له نش فصاعدا إلا قد بعث به معنا.
فقال : مجدي: والله ما رأيت أحدا أنكره إلا راكبين أتيا إلى هذا المكان، وأشار له إلى مناخ عدي وبسبس، فجاء أبو سفيان فأخذ أبعارا من بعيريهما ففته، فإذا فيه نوى فقال: علائف يثرب هذه عيون محمد، فضرب وجوه العير فساحل بها وترك بدرا يسارا وانطلق سريعا)( ).
لقد أخبر جابر بن عبد الله عن كتيبة بواط باسم : بطن بواط( ) والمراد من الناضح هو البعير الذي يستقى عليه ، لبيان أن الأنصار اتخذوا ابلهم التي كانت تستعمل لنقل الماء لسقي المزروعات في الكتائب والسرايا ، وفيه تعطيل للأعمال في سبيل الله ، وكانوا كل خمسة أو ستة أو سبعة يتناوبون على ركوب البعير الواحد ، وكل واحد منهم يركب مسافة فرسخين أو أقل ، أي نحو أحد عشر كيلو متر.
ولما جاءت نوبة ركوب أحدهم تلدن البعير عليه ، أي تلكأ وتوقف.
وذكر الحديث بطوله وأنه شح الماء عليهم فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم جابراً فأتى له بحفنة فيها قطرات قليلة من الماء ليضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده فيها ويدعو الله عز وجل فيفور الماء من بين أصابعه ، وامتلأت الجفنة ، وأمر الناس بالإستقاء حتى ردوا.
وذكر البيهقي معجزة جريان الماء هذه من بين أصابع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن جابر بن عبد الله ذاته في كتيبة ذات الرقاع.
كما ورد الخبر أيضاً في صلح الحديبية ، وهو مشهور ، ولا مانع من تكراره وتعدده مع ثبوت صحة السند والخبر ، والمختار أن كتيبة بواط لم تكن للتصدي لقافلة قريش واعتراضها إنما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من المدينة لنشر مبادئ الإسلام ودعوة الناس لدخوله ، وبيان منعة المسلمين.
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتحرى وقت الكتائب باجتناب لقاء وقتال المشركين ، الجواب نعم.
وهل كتائب الرسول والقوافل من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ) ( ).
الجواب نعم ، إذ يبعث الآية المسلمين على الدفاع عن النبوة والتنزيل طاعة لله عز وجل ، وتبث الخوف والرعب في قلوب المشركين ، وهذه الآية ومضامينها القدسية سبب في إمتناع طائفة من المشركين عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهداية طائفة أخرى وتوبتهم.
ويمكن القول بقانون كل آية من السور المكية والسور المدنية التي نزلت قبل صلح الحديبية وبعده لها موضوعية ، ونفع حسن ، وهو من أسرار بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله عز وجل ثلاث عشرة سنة في مكة قبل الهجرة ، ومنه قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) إلى جانب آيات التوحيد والحمد لله.
(وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال : كسر برج من أبراج تدمر ، فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير ، عليها عمامة طولها ثمانون ذراعاً ، مكتوب على طرف العمامة بالذهب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود ، ملكت الدنيا كافرة ومؤمنة ، ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي ، صار مصيري إلى الموت فأقصروا يا طلاب الدنيا .) ( ).
الرابعة : كتيبة العشيرة
وهي من بطن نبع ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مائتين من أصحابه ، وتسمى أيضاً على وجوه :
الأول : ذات العشيرة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزا فيها قريشاً( ).
الثاني : العشير .
الثالث : العُشيراء .
الرابع : العُسيرة .
الخامس : العُسيراء.
(يُقَالُ فِيهَا : الْعُشَيْرَةُ وَالْعُشَيْرَاءُ وَبِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا الْعُسَيْرَةُ وَالْعُسَيْرَاءُ)( ).
ويدل تعدد تسمية هذه الكتيبة بذات موضوع العشيرة والمراد منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد قافلة لقريش بالإضافة إلى أصل الإستصحاب وهو دليل عقلي ، أي استصحاب قصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب السابقة وانتفاء قصد الغزو في أي منها.
وهل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه في الكتائب حول المدينة رد ومكر جميل من عند الله عز وجل على مكر قريش بالتضييق عليه ، وإرادة قتله وهو في مكة ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذي العشيرة ومعه مائة وخمسون من أصحابه على ثلاثين بعيراً أي كل خمسة يعتقبون بعيراً ، وذكر أنهم يعترضون عيراً لقريش خرجت من مكة ذاهبة إلى الشام ، إذ ورد الخبر إلى المدينة بانفصالها من مكة ، وفيها أموال لقريش .
وقال الواقدي : وخرج عليه السلام لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام( ) .
ولم يذكر ابن حزم في جوامع السيرة هذا السبب بل لم يذكر لها سبباً( ) ، كما لم يذكره ابن اسحاق وابن هشام في السيرة النبوية( ).
والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب فيها عيراً لقريش.
إنما كانت كتيبة العشيرة للإستطلاع ونشر عملي لمبادئ الإسلام وإقامة الصلاة ، وسماع الناس لآيات القرآن.
وقيل حينما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذا العشيرة وجدوا ان العير قد ابتعدت في طريقها إلى الشام ، وفاتهم.
وذكر أن هذه العير هي نفسها التي كانت سبباً لمعركة بدر الكبرى ، ولا دليل عليه ، إنما كانت قوافل قريش تقطع الصحراء ذهاباً وإياباً ، ومروراً بالمدن والقرى.
لقد كان خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب حول المدينة تأسيساً للسلم الدائم الذي يتقوم بالإيمان ، فلا يتم دوام السلم بحل وتعليق الخصومات القبلية إذ سرعان ما يتجدد بسبب الثأر والسلب والغزو ونحوه لولا فضل الله على الناس بهذه الكتائب ، وكل واحدة من هذه الكتائب من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ولم يرد في الواقع قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باحتجاز قافلة وسلب بضائعها والإستيلاء على العير مع أن قريشاً استولوا على أموال وأملاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة.
وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ولم يقتل أو يأسر أحداً ، ولم يكره أحداً على دخول الإسلام وترك عبادة الأوثان.
وهل يدل قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) على أنه كانت رحلتان فقط لقريش إحداهما للشام في الصيف ، وأخرى لليمن في الشتاء ، وهل المراد من لفظ (رحلة) في الآية أعلاه الجنس.
الجواب نعم ، إذ تبين الآية تعدد قوافل قريش ثم أنهم كانوا رجال تجارة على نحو مستقل قد يجتمع اثنان أو ثلاثة في تجارة واحدة ، وقد يستقل بعضهم بتجارته .
وهل كان اشتراك عموم أهل مكة إلا ما ندر بقافلة أبي سفيان مكراً من رؤساء قريش لتجهيز حملة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بذريعة قصده الإستيلاء على القافلة.
المختار نعم ، ولكن لابد من دليل أو أمارة ، لذا فان القوافل تدخل مكة وتخرج منها على نحو متصل خاصة في موسم الحج .
ولو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإستيلاء على قافلة لقريش لما تأخر ثمانية عشر شهراً من حين هجرته من مكة خاصة وأن الصحابة لم تكثر اسلحتهم وخيلهم عند قيام معركة بدر بدليل نعت الله عز وجل لهم بأنهم [أذلة ] يوم المعركة ، إذ قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومع أن قريشاً لم تستعد للمعركة كثيراً إنما استنفرت رجالها في ثلاثة أيام ومن داخل مكة بالخصوص فان عددهم كان أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين يومئذ .
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرف هذا الفارق قبل أيام المعركة ، الجواب نعم وكان يعلم بطش قريش ، ورغبتها في الإنتقام منه ومن أصحابه .
فصحيح أنه ليس من ثأر وطلب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش إلا أنهم حسبوا أن دعوة الإسلام تقوض سلطانهم في مكة وخارجها ، وهذا الحسبان ليس بصحيح ، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم إذا أسلموا سادوا على العرب والعجم لصيرورتهم أئمة وحملة لواء الدين ولكنهم أبوا لبيان قانون وهو انفراد دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإقتران بالترغيب والشأن العظيم والفوز في النشأتين.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على إجتناب لقاء الصفين .
و(قال محمد بن إسحاق : و يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي ما قال فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب القرظي حدثني أبو يزيد محمد ابن خيثم عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا و علي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع.
فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أقام بها شهرا فصالح بها بني مدلج و حلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم.
لقد كانت السنة النبوية ترجماناً للقرآن ، وشواهد عملية لآيات القرآن ، وتبين كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها رسائل صلح وموادعة إلى أهل الأرض جميعاً ، فليس هناك أشد قبحاً من إتخاذ الأصنام أنداداً لله عز وجل ، قال تعالى [وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ]( ).
ومع هذا لم يتعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في كتائبهم التي تسمى غزوات إلى المشركين وأموالهم ، وإنما كان يتلو عليهم القرآن ، ويؤدي الصلاة بديارهم عابراً ومسافراً ، ولتتجلى عندهم مقارنة فطرية بين رؤيتهم له قبل الهجرة في موسم الحج وحيداً خائفاً يرميه أبو لهب من خلفه بالحجارة ، وهو ينادي عليه بما يحذر الناس من اتباع رسالته.
قال عمار فقال لي علي بن أبي طالب : هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون.
فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة فغشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه فو الله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحركنا بقدمه فجلسنا و قد تتربنا من تلك الدقعاء .
فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لعلي ما لك ياأبا تراب ؟ لما عليه من التراب فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال (ألا أخبركم بأشقى رجلين).
قلنا : بلى يا رسول الله فقال : أخمير ثمود الذي عقر الناقة و الذي يضربك ياعلي على هذه و وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على رأسه حتى تبل منها هذه ووضع يده على لحيته)( ).
نعم وردت نصوص عديدة تتضمن إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بأن قاتله أشقى الآخرين ، أما كنية أبي تراب فلم تثبت .
ويدل هذا الخبر على إختلاط الصحابة مع أهل القرى التي تصل إليها كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقيم قربها من غير نفرة بين الفريقين ، مما يكون مناسبة لدعوة لسانية وعملية متعددة للإسلام ، وهجران عبادة الأوثان وما كانت صيغ الدعوة هذه أن تتم لو كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معتكفاً في المدينة .

الخامسة : كتيبة بدر الأولى (سفوان )
لقد عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من ذي العشيرة إلى المدينة من غير أن تكون غزوة في خروجهم ، وكانوا دعاة سلم إلى الله ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وعقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلحاً وموادعة مع بني مدلج واستبشر أهل المدينة بعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يتوجه حال وصوله إلى المسجد النبوي ، ويؤم الصحابة فيه عند حلول وقت الصلاة اليومية .
وما أن مرت أيام قليلة لا تبلغ العشرة كما عن ابن إسحاق ( ) حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح وأنعام أهل المدينة ، التي كانت ترعى في الجماء وأطراف المدينة المنورة.
لقد قطع كرز وأصحابه من قريش نحو أربعمائة وخمسين كيلو متراً من مكة إلى المدينة للإغارة على أنعام ومواشي أهل المدينة من الأنصار واليهود والكفار لسلبها ، وتحريض أهل المدينة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين .
ولم تقع اي معركة بين المسلمين والمشركين بعد ، لبيان حقيقة وهي أن قريشاً تصر على العدوان ، وتسعى للفتنة وهياج أهل المدينة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين بأنهم السبب في فقدان أنعامهم ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ..]( ).
فاضطر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخروج بنفسه خلف كرز الفهري وأصحابه درءً للفتنة .
ووصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سفوان، ولأنه واد قريب من بدر سميت بدر الأولى .
والأولى تسميتها كتيبة سفوان ببقاء اسم (بدر) خاصاً بالتسمية القرآنية لمعركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
والتسمية الغالبة لهذه الكتيبة هي غزوة بدر الأولى ولم ترد هذه التسمية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، سفوان واد في ناحية بدر ، لإرادة حصر اسم (بدر ) بالمعركة التي نزل القرآن بتسميتها بهذا الاسم .
وكتيبة سفوان بعد كتيبة العشيرة ، ومن المؤرخين من جعلها قبل العشيرة ، ولكن يستفاد من تأريخها الأول أعلاه ،إذ أقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد بدر الأولى نحو ثلاثة أشهر ، وهي بقية جمادى الأخرى ، وشهر رجب ، وشهر شعبان من السنة الثانية للهجرة ، بينما خرج إلى معركة بدر في العشر الأوائل من شهر رمضان.
ولم يقع في كتيبة سفوان ، قتال وليس من بلدة أو قرية قد غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

السادسة : كتيبة بدر أو معركة بدر
في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وقعت هذه المعركة التي بدأ معها إنحسار الشرك ، قال تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وهي أول كتيبة يحصل فيها قتال بين المسلمين والكفار باصرار وغرور من قبل رؤساء المشركين.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر لأيام خلت من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي لَيَالٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أَصْحَابِهِ ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خَرَجَ (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ)( ).
وقال ابن الأثير (وكان مسير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وقيل أربعة عشر، وقيل بضعة عشر رجلاً، وقيل ثمانية عشر، وقيل كانوا سبعة وسبعين من المهاجرين، وقيل ثلاثة وثمانون والباقون من الأنصار)( ).
وقال ابن سعد (فخرج رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من المدينة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره،، وذلك بعدما وجه طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بعشر ليال، وخرج من خرج معه من المهاجرين، وخرجت معه الأنصار في هذه الغزاة، ولم يكن غزا بأحد منهم قبل ذلك، وضرب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عسكره ببئر أبي عنبة، وهي على ميل من المدينة، فعرض أصحابه ورد من استصغر، وخرج في ثلاثمائة رجل وخمسة نفر، كان المهاجرون منهم أربعة وسبعين رجلا، وسائرهم من الأنصار)( ).
كما قال (وكان من تخلف لم يلم لأنهم لم يخرجوا على قتال انما خرجوا للعير)( ).
أما الشطر الأول وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يخرجوا لقتال فهو صحيح ، وأما طلب العير فلم يثبت ، والأصل البراءة واستصحاب عدم طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قوافل قريش في الكتائب السابقة وإن سُميت من قبل المفسرين والمؤرخين بالغزوات ، فيقال : غزوة الأبواء( )، وغزوة البواط وغزوة العشيرة.
قال ابن حزم : غزا صلوات الله وسلامه عليه خمساً وعشرين غزوة، وهي على ترتيبها :
الأولى : غزوة ودان وهي الأبواء .
الثانية : غزوة بواطٍ وهي من ناحية رضوى .
الثالثة : غزوة العشيرة من بطن ينبع.
الرابعة : غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر.
الخامسة : بدر الثانية ، وهي البطشة التي أعز الله تعالى فيها الإسلام، وأهلك رؤوس الكفرة .
السادسة : غزوة بني سليم حتى بلغ قرقرة الكدر.
السابعة : غزوة السويق فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطلب أبا سفيان بن حرب.
الثامنة : غزوة غطفان وهي غزوة ذي أمر.
التاسعة : غزوة بحران.
العاشرة : غزوة أحد .
الحادية عشرة : غزوة حمراء الأسد .
الثانية عشرة : غزوة ذات الرقاع من نخل .
الثالثة عشرة : بدر الآخرة .
الرابعة عشرة : دومة الجندل .
الخامسة عشرة : غزوة الخندق ، وهي آخرة غزوة غراها أهل الكفر إليه.
السادسة عشرة : غزوة بني قريظة .
السابعة عشرة : غزوة بني لحيان من هذيل .
الثامنة عشرة : غزوة ذي قرد .
التاسعة عشرة : غزوة بني المصطلق من خزاعة.
العشرون : غزوة الحديبية .
الواحد والعشرون : غزوة خيبر .
الثانية والعشرون : غزوة الفتح ، فتح مكة .
الثالثة والعشرون : غزوة حنين إلى هوازن .
الرابعة والعشرون : الطائف .
الخامسة والعشرون : ثم تبوك.
قاتل منها في تسعٍ: وهي بدر المعظمة، وهي بدر القتال، وهي بدر البطشة، وقاتل صلى الله عليه وآله وسلم في أحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف( ).
ولم يثبت اسم غزوة على أي منها ، إنما كانت كتائب استطلاع أو دفاع ضرورة.
وكانت الغلبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع قلة عددهم وعدتهم، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) وتسمى غزوة بدر أي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يغز ولم يطلب القتال فيها .
وفيه حجة متجددة بأن الله عز وجل يظهر المؤمنين وإن كانوا قلة، ولا يملكون معشار ما يملك الكفار من الرجال والسلاح، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( ).
وهل هذا الإظهار سلام ، الجواب نعم لوجوه :
الأول : قانون الملازمة بين النبوة والسلام .
الثاني : في نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزاحة لمفاهيم الكفر عن المجتمعات .
الثالث : منع سمة التعدي التي كانت سائدة في مجتمعات الشرك والضلالة .
الرابع : من إعجاز النبوة إشراقة شمس السلم والأمن على الناس ، ودخول السكينة إلى البيوت ، وتجلي صبغة العدل بالأحكام والمعاملات ، وهو الذي لم يرضه رؤساء قريش وغيرهم من الكفار ، فكانت معركة بدر.
وهل وقوعها أمرحتمي لقانون عدم إجتماع الضدين في الحكم وتسيير شؤون المجتمعات .
الجواب لا ، للتباين المكاني والسعة في السلطة والشأن والنفوذ.
والتضاد في سنخية الحكم .
فقد كانت ولاية المشركين ظلماً وقهراً ، أما ولاية وحكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان بالحق والتنزيل ، وقال الله تعالى مخاطباً النبي محمداً [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ]( ).
فمن الحجة وألوية السلم في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم مزاحمته أو منافسته لقريش في سلطانها في مكة ، وولايتها على البيت الحرام ، ولكن محاربتهم للنبوة وعداءهم الشخصي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها واتباعهم للهوى جعل النفس الغضبية تطغى على سلوكهم ، وتظهر في مناجاتهم .
قانون تعدد إنذار المشركين من يوم بدر
من فضل الله عز وجل تعدد الفرص والمناسبات والبراهين للإنزجار عن السوء والعودة عن الفعل الخطأ والخسران في كل زمان ، وتهيئت مثل هذه المناسبة لجيش قريش عدة مرات منها :
الأولى : القصائد الشعرية التي كانت تلقى في الطريق إلى المعركة ، إذ كان بعضها يشير إلى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى ضلالة وخسارة الذين يحاربونه ، لتبين هذه القصائد الإختلاف الشديد والظاهر في الجيش بخصوص قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
مما يلزم القيادة الحيطة وإجتناب القتال خشية تفكك الجيش ، وإمتناع شطر منه عن القتال ، أو مبادرتهم إلى الإنسحاب أو الهزيمة عند إبتداء القتال.
نعم لم يغب الحزم عن رؤساء قريش إذ أمروا طائفة من بني هاشم بالخروج معهم (ولم يتركوا كارها للخروج يظنون أنه في صف محمد وأصحابه، ولا مسلما يعلمون إسلامه، ولا أحدا من بني هاشم، إلا من لا يتهمون، إلا أشخصوه معهم، وكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب في آخرين)( ).
وكان هذا الخروج وبالاً على كفار قريش وانسحب بعضهم وسط الطريق لولائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم طالب بن أبي طالب الذي لم يصل إلى مكة ولم يعرف خبره .
الثانية :مجئ كتاب عاجل من أبي سفيان في الجحفة في طريق جيش المشركين إلى بدر يتضمن :
الأول : سلامة القافلة من السلب والإحتجاز
الثاني : انتفاء الحاجة لمسير الجيش لسلامة أموال قريش .
الثالث : الأمر بالرجوع إلى مكة ، قال ابن اسحاق (وَلَمّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ : إنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فَقَدْ نَجّاهَا اللّهُ فَارْجِعُوا ، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَرِدَ بَدْرًا) ( ).
الرابع : مشي عدد من رؤساء قريش بين أفراد الجيش صبيحة يوم بدر للنهي عن القتال ، والنصح بالإمتناع عنه مثل عتبة بن ربيعة .
الخامس : رجوع بني زهرة باقتراح وإلحاح من قبل الأخنس بن قيس.
الثالثة : نزول السور المكية قبل الهجرة تدعو إلى استحضار عالم الآخرة الذي يملي على الإنسان الإستعداد له بالعمل الصالح ، وفي التنزيل [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ] ( ).
الرابعة : نزول آيات الخلق وبديع صنع الله ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( )، وفيها بعث للتفكر في بديع الخلق ، ومن خصائص الآية أعلاه ومدحها لأولي الألباب التعريض بالذين كفروا لإصرارهم على القتال والغزو ظلماً وعدواناً ،
وليكون من معاني خاتمة الآية أعلاه : لأولي الألباب الذين يتلقون معجزات النبوة بالتصديق( ).
موضوعية (بالحق) يوم بدر
قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( ).
ترى ما المراد من قوله تعالى (بالحق) فيه وجوه :
الأول : أخرجك ربك من بيتك بالوحي والتنزيل .
الثاني : أخرجك ربك من بيتك للدفاع عن النفس والنبوة والتنزيل والصحابة .
الثالث : لقد جعل الله عز وجل خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة ومقدمة لينزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) وهل للنصر في معركة بدر موضوعية في مضامين الآية أعلاه الجواب نعم .
فالنصر في معركة بدر مقدمة لكمال الدين وتقدير الآية اليوم أكملت لكم دينكم بعد النصر في معركة بدر .
ونزلت الآية أعلاه يوم غدير خم في السنة التاسعة للهجرة , أما معركة بدر فوقعت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان ومن السنة الثانية للهجرة , فهل من صلة أو ملازمة بينهما , الجواب نعم , فقد كانت معركة بدر مقدمة لتمام الدين وإتمام النعمة , وتثبيت أحكام الشريعة إلى يوم القيامة.
وهل هذه المقدمة واجبة وضرورة لوجوبها وتحقيق كمال الدين , ام أنها غير واجبة ولا ضرورة , الجواب هو الثاني , فليس من ضرورة في المقام مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغزُ أحداَ , ولم يطلب القتال في معركة بدر أو في غيرها .
الرابع : الوعد من الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسلامة والنصر في معركة بدر مع كثرة جيوش قريش ، وإصرارهم على قتله .
الخامس : إلقاء السكينة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وعدم الخوف من لقاء المشركين ولمعان السيوف.
السادس : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر حق واضح لا لبس فيه.
السابع : بيان نهاية عبادة الأوثان في الجزيرة وفي التنزيل [قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ]( )، وقال تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ]( ).
الثامن : مصاحبة الحق والعدل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى معركة بدر وإرادة ملكية الله المطلقة للأرض ، وهو سبحانه الذي يجعل أنبياءه يسيحون في الأرض ، دعاة إلى الهدى والإيمان ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ومما هو ثابت تأريخياً وعليه الإجماع والنصوص انقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء عشية ويوم بدر ، وكان لهذه الأدعية موضوعية في جلب النصر ، وفيه شاهد على أنه لم يكن رجل حرب وقتال إنما هو نبي يدعو الناس إلى الإيمان بالوحي والتنزيل ، قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…] ( ).
لتتهاوى رؤوس نفر من رؤساء الكفر يوم بدر بعد إصرارهم على القتال دفاعاً عن عبادة الأوثان ، فتكون مقدمة لفتح مكة وتهشيم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لثلاثمائة وستين صنماً يومئذ.
و(عن ابن عباس قال : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت.
وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
ثمّ قال : ما تظنون ، قالوا : نظنّ خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت.
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم)( ).
الصلة بين آية ببدر والقتال
ترى ما هي الصلة بين آية [ببدر ] وقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) الجواب من جهات:
الأولى : قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر دفاعاً واضطراراً.
ويحتمل طلب القتل في الميدان وجوهاً :
الأول : طلب المشركين قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : عزم المشركين على قتل طائفة من الصحابة خاصة المهاجرين .
الثالث : طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتل طائفة من المشركين .
الرابع : سعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتل أشخاص معينين من كفار قريش خصوصاً الذين كانوا يؤذونه في مكة مثل أبي جهل وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط .
والصحيح هو الأول والثاني أعلاه .
واسم أبي مُعيط أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس فيكون اسم عقبة هو عقبة بن أبان بن ذكوان .
وقد قُتل الثلاثة أعلاه يوم بدر لإصرارهم على القتال والظلم والتعدي.
الثانية : قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر في سبيل الله ، وبقصد الدفاع عن بيضة الإسلام والتنزيل.
الثالثة : لم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر إلا بعد أن طلب المشركون المبارزة ، وهجمت خيولهم ، ليكون من معاني الآية أعلاه (ودافعوا في سبيل الله) المشركين الذين يعتدون عليكم.
الرابعة : بيان قانون نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله.
الخامسة : قانون لزوم التنزه عن التعدي عند تحقق النصر ، وتقدير الآية أعلاه : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وسينصركم الله فلا تعتدوا ، لبيان وجوه :
الأول : قانون حرمة التعدي قبل القتال.
الثاني : قانون الإمتناع عن التعدي أثناء القتال.
الثالث : قانون التنزه عن التعدي بعد تحقق النصر ، ويكون تقدير آية (ببدر) ولقد نصركم الله ببدر فلا تعتدوا أن الله لا يحب المعتدين( ).
السادسة : سيتم الله عز وجل نعمته عليكم بفضل ولطف منه تعالى مع تنزهكم عن التعدي والظلم ، قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وقد وردت في هذه الآية كلمات لم ترد في آية أخرى من القرآن وهي :
الأولى : الْمُنْخَنِقَةُ.
الثانية : َالْمَوْقُوذَةُ .
الثالثة : َالْمُتَرَدِّيَةُ .
الرابعة : َالنَّطِيحَةُ.
الخامسة : ذَكَّيْتُمْ .
السادسة : النُّصُبِ .
السابعة : تَسْتَقْسِمُوا.
الثامنة : أَكْمَلْتُ .
التاسعة : رضيت .
العاشرة :مَخْمَصَةٍ .
الحادية عشرة : مُتَجَانِفٍ.
تجهيز قريش لمعركة بدر
لقد جهز ت قريش الجيش لمعركة بدر في ثلاث ليال ، وهي مدة قليلة في مثل هذا الحال عند مجتمع حضر منقطع إلى التجارة ،ويتصف بالإستقرار.
إذ يستلزم هذا التجهيز جمع الأفراد وإعداد الخيول ومطلق الظهر ، وإصلاح السيوف والدروع والرماح ، وهناك السيف المقوس والسيف المستقيم .
وعادة ما يكون عدد الذين يتولون هذه الحرفة قليلاً ، ويزداد في أيام الحروب وإستدامة المعارك واتخذت قريش نبأ خبر إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستحواذ على قافلة أبي سفيان ذريعة للتعجيل بالخروج ، ومن المقاصد والمكر في هذا التعجيل أمور :
الأول : منع الناس من الإحتجاج على الخروج .
الثاني : حمل الناس على الخروج بالهياج العام ، والمغالطة المجتمعية ، وهو من المكر السئ ، قال تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ] ( ) ونزلت آية [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ) .
لتكون زاجراً للمشركين عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل وإنذاراً .
الثالث : الحيلولة دون سماع الإنذارات من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : لقد غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة مهاجراً إلى المدينة ، ولكن الإسلام لم يغادر مكة ، إنما كان في نماء واتساع متصل بين الرجال والنساء من أهلها والوافدين إليها .
وهذا النماء مع غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
الخامس : هذا التعجيل من استكبار قريش ومصادرتهم لحق الناس في التساؤل والإحتجاج على الخروج للقتال على إحتمال وظن استيلاء على قافلة ، تبين فيما بعد أنه ظن غير معتبر.

بحث أصولي
لقد كان تعجيل قريش بالخروج على خبر يحتمل الصحة والكذب خلاف السلم المجتمعي ، وجاء القرآن بالتأديب والإرشاد في مثل هذه الأخبار.
وقد تجلت فرص وإنذارات متعددة لقريش للإمتناع عن القتال منها :
الأول : ورود خبر سلامة قافلة أبي سفيان.
الثاني : كتاب أبي سفيان الى رؤساء قريش المتوجهين إلى موضع بدر بالرجوع إلى مكة.
الثالث : إنسحاب نفر من بني هاشم ، وبني زهرة.
الرابع : المناجاة في مجتمع المشركين صبيحة بدر بالإمتناع عن القتال ، منها مشي عتبة بن ربيعة بين رؤساء المشركين وتوسله بهم لإجتناب القتال.
وفي حديث طويل عن الإمام علي عليه السلام قال (فلما طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله.
فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرض على القتال ثم قال : إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل)( ).
أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حرصوا على أداء صلاة الصبح في وقتها عند طلوع الفجر صبيحة المعركة وهل هذه الصلاة من مصاديق الإستغاثة في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، الجواب نعم.
وتبعث هذه الصلاة الخوف في قلوب المشركين ، وهي بذات الوقت تدعوهم للهدى والإيمان.
وقال الإمام علي عليه السلام (فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي ناد حمزة ، وكان أقربهم من المشركين ، من صاحب الجمل الاحمر.
فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة ، وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم اعصبوها برأسي وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة.
وقد علمتم أنى لست بأجبنكم.
فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك، والله لو غيرك يقوله لاعضضته، قد ملات رئتك جوفك رعبا.
فقال: إياى تعير يا مصفر استه ، ستعلم اليوم أينا الجبان)( ).
لقد قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] ( ) .
وبهذه الآية يستدل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً لأن الآية تأمر بالتثبت والتحقق من خبر الفاسق على نحو الخصوص ، وقد يحصل عند الأخذ به وتلقيه بالقبول ضرر عام وخاص وتلف النفوس مما يؤدي إلى الندامة المركبة ، وفيه زجر عن التصديق بخبر الفاسق وتحذير من الأضرار التي ترشحت عنه، أي أن الخبر يكون على وجوه :
الأول : خبر العدل والصادق ، وهو مقبول .
الثاني : خبر الكاذب وهو مردود .
الثالث : خبر الفاسق ، ويلزم التأكد منه والتثبت منه ، إذ تدل الآية في مفهومها على وجود أسباب وطرق متعددة لهذا التثبت .
وحينئذ يكون الأمر على وجوه :
الأول : قبول خبر الفاسق بعد ثبوت صدقه.
الثاني : الإرجاء والتأني في قبوله أو رده .
الثالث : رد خبر الفاسق.
الرابع : ورود قرائن وشواهد على صدق خبر الفاسق أو كذبه.
الخامس : قبول خبر الفاسق على نحو الموجبة الجزئية.
والفاسق هو الذي يتجاهر بالمعصية ، والكذب والفسوق ضد الإيمان ، قال تعالى [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ]( ).
وفي أسباب نزول الآية ورد أنها (نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدّقاً ، وكان بينه، وبينهم عداوة في الجاهلية.
فلمّا سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحدّثه الشيطان أنّهم يريدون قتله، فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّ بني المصطلق، قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله، وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقّاه، ونكرمه، ونؤدّي إليه ما قِبلنا من حقّ الله، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنّما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنّا نعوذ بالله من غضبه، وغضب رسوله، فأبهمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر، وأمره أن يخفي عليهم قدومه.
وقال له : انظر، فإن رأيت منهم ما يدلّ على إيمانهم، فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم ترَ ذلك، فاستعمل فيهم ما يُستعمل في الكفّار.
ففعل ذلك خالد ووافاهم، فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلاّ الطاعة، والخير، فانصرف خالد إلى رسول الله، وأخبره الخبر، فأنزل الله سبحانه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ]( )، يعني الوليد بن عقبة بن أبي معيط سمّاه الله فاسقاً)( ).
وورد الخطاب والنداء في الآية أعلاه للمسلمين والمسلمات عامة لتأسيس قانون التثبت من الخبر ، والتوقف عند مجئ الفاسق بخبر سواء كان على نحو القضية الشخصية أو العامة .
وجاءت الآية أعلاه خطاباً للمسلمين والمسلمات ، بصيغة التنبيه والتحذير ، فهل تشمل أهل الكتاب وعامة الناس ، الجواب نعم.
وأبو زبيد معمر استعمله عمر بن الخطاب على صدقات قومه على نصارنيته ، إذ مات على النصرانية .
(وقال أبو زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
ان الكرام على ما كان من خلق … رهط امرئ جامع للدين مختار
طب بصيرٌ بأصناف الرجال ولم … يعدل بخير رسول الله أخيار) ( ).
وأشار الخطابي إلى هذه القصيدة في كتابة غريب الحديث ( ).
(وكان ينادم الوليد بن عقبة بن أبي معيط بالكوفة فلما شُهد على الوليد بأنه شرب الخمر وصرف عن إمرة الكوفة قال أبو زبيد:
فلعمر الإله لو كان للسيف … نصال وللسان مقال
ما نفى بيتك الصفا ولا أتو … ه ولا حال دونك الإسعال) ( ).
وهل إنطباق مضمون الآية على خبر رسول أبي سفيان وأنه يلزم من قريش التثبت ، الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، وليس هو من الإستصحاب القهقري .
وكان الفسق ظاهراً في الخبر ومصدره وسرعان ما بينت الوقائع كذبه إذ وصل كتاب من أبي سفيان بسلامة القافلة واقترابها ومجموع إبلها من مكة ، ومع تعجل قريش بالخروج في ثلاث ليال من حين وصول ضمضم بن عمرو رسول أبي سفيان يندبهم للخروج لنجدة قافلته فانهم تعجلوا أيضاً بالقتال قبل دخول الأشهر الحرم ، وخرجوا في شهر رمضان وليس بينه وبين ثلاثة أشهر حرم متتالية إلا شهر شوال ، إذ أن كلاً من شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم شهر حرام .
ومن خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إخلال دعوته بالسلم المجتمعي سواء عندما كان في مكة أو بعد الهجرة إلى المدينة ، وإلى حين معركة بدر ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتلقون الأذى من قريش بصبر وحلم ، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
وهل هذا الصبر من التقوى ، الجواب نعم ، وهو مقدمة لنزول البلاء بالمشركين الذين حينما أحسوا بمقدمات البلاء لم يتعظوا ولم يتوبوا إنما لجأوا إلى التمادي في الشر ، وتجهيز الجيوش واشهار السيوف والتوجه إلى ميادين القتال.
ولم يلتفتوا إلى آية جلية وهي إذا كانوا قد عجزوا عن وقف دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة عندما كان وحيداً منفرداً ، فكيف يستطيعون وقفها وقد صار أصحابه بالمئات ، وعندهم بلدة وثغر ومساجد [يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ] ( ) ولكنهم ظنوا أن السيوف تحسم الأمر خلافاً للإرادة التكوينية إذ أن السيوف والسلاح والتعذيب لا تنتزع الإيمان من القلوب ، ولا تحجب الناس عنه ، وفي التنزيل [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
تسمية كتيبة بدر
هذه التسمية لأول مرة في التأريخ إذ المتعارف تسميتها غزوة بدر “بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا المشركين” , وكأنه من المغالطة الشائعة , نعم تصح تسميتها (معركة بدر) .
وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (قال : لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال) ( ) فقد سميً المعركة (يوم بدر) ولم يقل غزوة .
والنسبة بين تسمية كتيبة ويوم عموم وخصوص مطلق , فالمراد من تسمية الكتيبة في المقام أعم موضوعاَ وزماناَ وحكماَ , إذ تبدأ من حين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، وتسميتها يوم صحيح ، وشاهد على أنها ليس غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتمتلأ كتب التفسير والسيرة بوصف معركة بدر بأنها غزوة بدر ، وترد على نحو مستقل أو في سياق تعداد غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار عدم وقوع غزوة من قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن المشركين هم الغزاة والذين أصروا على القتال والبطش.
وهناك تباين بين المعجزة والغزو بالذات ، والغاية والأثر إذ تغني المعجزة عن الغزو وتمنع منه .
وهل المعجزة تأديب للناس ، الجواب نعم ، وهي إصلاح للنفوس، لقد أدرك الناس مع إشراقة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوب التنزه عن الغزو لما في بعثته من البشارة بالأجر والثواب على عمل الصالحات والعذاب الأليم بالناس على الظلم والتعدي ، والنسبة بين الظلم والغزو عموم وخصوص مطلق ، لبيان قانون وهو قطع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغزو والتعدي العام في الجزيرة.
واطلاق اصطلاح (كتيبة) أو نحوها على جمع الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الأنسب من تسمية غزوة التي لا أصل لها ، فصحيح أن الاسم غير المسمى كما هو المشهور.
والمختار في علم الكلام إلا أن التسمية في المقام دلالات إذ يتبادر إلى الذهن من تسمية (غزوة بدر) وغزوة أحد ، وغزوة الخندق أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الغازي ، وهو خلاف الواقع ومنهاج النبوة ، ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).

تفسير (التقى الجمعان) بالتقدير
ولم يكن تشابه في السلاح والعدة بين المؤمنين والمشركين يوم بدر ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وجوه :
الأول : يوم التقى جمع سلاحه التنزيل والوحي وجمع يتوسلون بالأوثان ويسعون لبقاء عبادتها في الأرض.
الثاني : يوم التقى الجمعان المتضادان ، فلابد أن يرتفع ويزول أحدهما.
الثالث : يوم التقى الجمعان في ماء بدر ثم في معركة أحد.
الرابع : يوم التقى الجمعان جمع معهم الملائكة مدداً ، وجمع معهم الشيطان مُستدرجاً وضالاً ، وفي التنزيل [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الخامس : يوم التقى الجمعان جمع معهم جبرئيل في خمسمائة من الملائكة ، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة ، وهو مصداق الإستجابة من الله عز وجل في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وجمع معهم إبليس ومعه جند بهيئة رجال من بني مدلج وراية ، وإبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم.
السادس : يوم التقى الجمعان : جمع مؤمن يثبتهم ويمدهم الملائكة ، وجمع مشرك يغريهم ويمنيهم الشيطان ويقول لهم [لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( ).
وعن ابن عباس في حديث طويل : فقال جبريل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار.
فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله والله شديد العقاب ، فذلك حين رأى الملائكة)( ).
السابع : جمع فيهم خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجمع مشركين عتاة منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف.
الثامن : جمع يتغشاهم دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً)( ).
وجمع مشركين لا يُرفع دعاؤهم ، وفي التنزيل [قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
التاسع : يوم التقى الجمعان عند ماء بدر ، جمع يدافع عن النبوة والتنزيل ، وجمع غزاة مشركين.
معجزة عدد المسلمين في عيون المشركين
لقد رآى المشركون المسلمين وكأنهم ضعفي عددهم ، لقد كان عدد المسلمين يوم بدر أقل من ثلث عدد المشركين ، قال تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه في معركة بدر ولكن موضوعها كمعجزة حاضر حتى في معركة أحد أيضاً ، لذا حالما بدأت معركة أحد حتى إنهزم المشركون لولا ترك أغلب الرماة المسلمين مواضعهم .
نعم قبل بدء معركة بدر كان المشركون وسراياهم الإستطلاعية بعددهم الحقيقي (قَالُوا : فَلَمّا اطْمَأَنّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ – وَكَانَ صَاحِبَ قِدَاحٍ – فَقَالُوا: احْزِرْ لَنَا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْمُعَسْكَرِ فَصَوّبَ فِي الْوَادِي وَصَعِدَ يَقُولُ عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَدَدٌ أَوْ كَمِينٌ.
ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ لَا مَدَدَ وَلَا كَمِينَ الْقَوْمُ ثَلَثُمِائَةٍ إنْ زَادُوا قَلِيلًا، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا، وَمَعَهُمْ فَرَسَانِ.
ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، الْبَلَايَا1 تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ أَلَا تَرَوْنَهُمْ خُرْسًا لَا يَتَكَلّمُونَ يَتَلَمّظُونَ تَلَمّظَ الْأَفَاعِي وَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتّى يَقْتُلَ مِنّا رَجُلًا، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ مِثْلَ عَدَدِهِمْ فَمَا خَيْرٌ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ فَارْتَئُوا رَأْيَكُمْ) ( ).
ترى لماذا رآى المشركون المسلمين قبل بدء المعركة بعددهم الحقيقي ثلاثمائة وثلاثة عشر ، الجواب من وجوه :
الأول : إنه أمر واقع وحقيقي .
الثاني : لم يأت بعد مدد مضاعفة العدد في أعين المشركين ، لذا فان مضاعفة عدد المسلمين في أعين المشركين تأييد ونصر من الله عز وجل ، لذا قال تعالى [يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثالث : استدراج المشركين لأنهم أصروا على القتال وواصلوا محاربة النبوة والتنزيل .
الرابع : توثيق وقائع معركة بدر تأريخياً .
الخامس : زجر الكفار عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فلم يكن الكفر منحصراً بمكة ورؤساء قريش ، بل هناك قبائل عديدة حليفة لقريش ، وتعبد الأوثان ، قال تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ) .
السادس : إقامة الحجة على المشركين لإستضعافهم المؤمنين وإرادة قهرهم وقتلهم من غير سبب إلا أن صدّقوا بالنبوة والتنزيل ، وإذ وقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة فان آية السيف نزلت في السنة التاسعة للهجرة قبل حجة الوداع بسنة، عندما صار المشركون قلة ضعفاء ، قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وتدل الوقائع على أن هذه الآية دعوة للمشركين للتوبة والإنابة والصلاح وليس هي للقتل .
آيات في معركة بدر
لقد وردت آيات عديدة بخصوص معركة بدر , ولم تذكر أنها غزوة , وإذا كانت أسباب النزول هو واقعة بدر فهل يختص موضوع هذه الآيات بواقعة بدر ، الجواب لا ، وهو من إعجاز الآية القرآنية بتجدد معانيها ودلالتها ومنافعها من حين نزولها وإلى يوم القيامة.
لذا لم تذكر هذه الآيات لفظ غزوة ، إنما كانت آيات دفاع وضرورة وهي مقدمة لسلام دائم ، وأمن عام ، ونبذ للإرهاب والظلم والتعدي ، ومن هذه الآيات :
الأولى : قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
الثالثة :قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ]( ).
الرابعة :قوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الخامسة :قوله تعالى[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
السادسة :قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
السابعة : قوله تعالى [ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ].
الثامنة: قوله تعالى [ إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ].
التاسعة: قوله تعالى [ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
التاسعة : [وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ ].
وفي الآية وعد وعهد من عند الله سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار بأنهم يغلبون عشرة أضعاف عددهم يوم بدر ، ثم خفف الله عز وجل عنهم بغلبهم لضعف عددهم .
الحادية عشرة : قوله تعالى [ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثانية عشرة: قوله تعالى [ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [ لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
تفسير آية (ببدر) بالتقدير
مع قلة كلمات آية (ببدر ) فانها تضمنت خبر وأمر عام وبعث على الشكر لله عز وجل بينها حرف العطف الواو مكرراً ، والفاء ولام التعليل في [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] وتسمى لام كي ، ويكون تقدير وبيان وتفسير الآية على وجوه :
الأول : ولقد نصركم الله ، وفيه جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا لقد نصركم الله ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ) وهل من صلة بين أمره تعالى في آية ببدر [فَاتَّقُوا اللَّهَ] وبين إجتناب الخسارة في معركة حنين ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن بالإحتراز بعد النصر لتعاهده .
الثانية : يا أيها الرسول لقد نصركم الله.
الثالثة : يا معشر المهاجرين والأنصار ولقد نصركم الله .
الرابعة : ولقد نصركم الله كما نصر المؤمنين من قبلكم ، وهو من أسرار إبتداء الآية بحرف العطف الواو ، فقد يكون معناه أعم من عطف جملة على أخرى ، أو كلمة على التي قبلها ، وبحسب اللحاظ والدلالة .
الخامسة : ولقد نصركم الله فان النصر بيده سبحانه .
السادسة : ولقد نصركم الله شكراً منه تعالى على حسن إيمانكم وسمتكم ، ومن أسماء الله الحسنى ، الشاكر ، الشكور ، وهو فعول من الشكر ، والشكران خلاف الكفران ، وفي التنزيل [لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ] ( ).
ويختلف شكر الله عز وجل عن شكر الناس ، فيصدر الشكر من الإنسان على المعروف والإحسان ، ويكون الشكر بالقلب واللسان بالثناء ، ويكون بالجوارح والجزاء أو الإنقياد .
أما شكر الله عز وجل للعباد فهو سبحانه غني عنهم وعن الخلائق كلها ، وهو المحسن لها مجتمعة ومتفرقة مع إمتناع الإحسان إليه سبحانه ، ولكن شكر الله عز وجل للعباد هو الجزاء وزيادة الفضل منه تعالى [لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
السابعة : ولقد نصركم الله لأنه يثيب على اليسير من الطاعة الكثير من الأجر والثواب .
الثاني : ترى لماذا نصر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه [ببدر ] الجواب لا يدرك كنه وعلة المشيئة الإلهية إلا الله ، ومما يستقرأ في المقام مسائل :
الأولى : ولقد نصركم الله لوعده بنصر الرسل والأنبياء والذين آمنوا .
الثانية : ولقد نصركم الله لنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : ولقد نصركم الله ببدر لإستدامة نزول آيات القرآن .
الخامسة : ولقد نصركم الله لحبه لكم .
السادسة : ولقد نصركم الله ببدر دعوة للناس للهدى والإيمان.
السابعة : ولقد نصركم الله لتثبيت الإيمان في صدوركم .
الثامنة : ولقد نصركم الله ببدر لفضح الذين كفروا .
التاسعة : ولقد نصركم الله في أول معركة للإسلام .
العاشرة : ولقد نصركم الله وليس عندكم إلا بلدة واحدة هي المدينة (يثرب ) .
الحادية عشرة : ولقد نصركم الله ببدر لمنع سطوة وكيد المنافقين ، قال تعالى [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ]( ).
الثانية عشرة : ولقد نصركم الله ببدر لإقامة الصلاة وأداء الزكاة ، وصيام شهر رمضان ، وكل من فريضة الزكاة والصيام نزلتا في السنة الثانية للهجرة وهي ذات السنة التي وقعت فيها معركة بدر إذ وقعت في شهر رمضان منها وهو الشهر التاسع من أشهر السنة القمرية .
الثالثة عشرة : ولقد نصركم الله ببدر فاجتهدوا بسنن التقوى والصلاح .
الرابعة عشرة : ولقد نصركم الله نصراً تاماً ببدر لأن الله يعطي بالأتم والأكمل .
الخامسة عشرة : لقد نصركم الله ببدر ضد المعتدين الغزاة .
السادسة عشرة : لقد نصركم الله ببدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
الثالث : وأنتم أذله ، وتقدير وبيان الآية على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا كنتم أذلة مستضعفين .
الثانية : يا معشر المهاجرين والأنصار ما كان لكم النصر يوم بدر لولا فضل الله إذ كنتم أذلة وقلة .
الثالثة : تجلي معجزة النصر مع حال الذلة والضعف ونقص العدة والظهر .
الرابعة : إنقطاع حال الذلة والضعف عن المسلمين بعد معركة بدر لبيان معجزة وهي تغيير حال المسلمين إلى الضد من الذل في يوم واحد ،هو يوم معركة بدر ، ليكون من معاني تسميته [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) التفريق بين حال الذل والضعف التي كان عليها المسلمون قبل يوم بدر وحال العز والمنعة والقوة بعده ، ولا يقدر على هذا الإنقلاب النوعي إلا الله عز وجل لذا تفضل ونسب النصر في الميدان له سبحانه ، فقال [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الخامسة : لقد نزل القرآن بالبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر فصبروا على الأذى حتى جاء النصر يوم بدر ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ).
السادسة : بيان مصداق عملي للإرادة التكوينية في منهاج الرسالة ، وقانون الملازمة بين الرسول من الله والنصر ، قال تعالى [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
السابعة : لقد نصركم الله ببدر ، وهو نصر للإيمان وتثبيت له إلى يوم القيامة ، قال تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
الثامنة : لقد نصركم الله ببدر فجاءتكم الغنائم ، ووقع الأسرى بين يديكم ، وفرت فلول المشركين منهزمة خائبة ، قال تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
التاسعة : ولقد نصركم الله ببدر فقال طائفة من يهود المدينة هو النبي الذي ورد نعته في التوراة لا ترد له راية ، ولكن عندما وقعت معركة أحد ارتابوا .
العاشرة : ولقد نصركم الله ببدر وهو خير محض وأمر تحبونه ، قال تعالى [وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ]( ).
الحادية عشرة : قد تقدم في الجزءالخامس بعد المائتين قانون (وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]رحمة بالعالمين) ( ) .
ترى هل تختص شآبيب ومصاديق الرحمة بأيام النبوة والمعاصرين للبعثة النبوية أم أنه متجدد ، الجواب هو الثاني.
الرابع : فاتقوا الله ، وفيه مسائل :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله .
الثانية : ولقد نصركم الله ببدر .
الثالثة : فاتقوا الله في الغنائم والمكاسب ، وبخصوص آية [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ] ( ) ورد عن عبادة بن الصامت (قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ .
فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون .
وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه .
وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة .
حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب .
وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة ، واشتغلنا به ، فنزلت { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }( ) .
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أغار في أرض العدوّ نفل الربع ، وإذا أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويُّ المسلمين على ضعيفهم) ( ).
الرابعة : فاتقوا الله بطاعة الله ورسوله .
ترى ما هي النسبة بين طاعة الله ورسوله وبين التقوى ، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ] ( ).
الخامسة : من إعجاز آية (ببدر ) مجئ الأمر بتقوى الله بعد الإخبار عن النصر مباشرة ، وبحرف العطف الفاء [فَاتَّقُوا اللَّهَ] لبيان قانون فورية التحلي بالتقوى والتقيد بسننها لإفادة الفاء التعقيب والتتابع .
وهل يختص الأمر بالتقوى في المقام بميدان القتال والدفاع ، الجواب لا ، إنما يشمل أمور الحياة الخاصة والعامة .
وهل تقوى الله عز وجل في المقام من الشكر له عز وجل ، أم أن الشكر جاء مستقلاً في ذات الآية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الجواب هو الأول ، فالتقوى شكر لله عز وجل ، وهو لا يتعارض مع بعث المسلمين على الشكر لله عز وجل ، ومن معاني الآية الكريمة وجوه :
الأول : فاشكروا الله بالتقوى .
الثاني : فاشكروا الله على النصر ببدر .
الثالث : فاشكروا الله على رشحات النصر .
الرابع : لعلكم تشكرون على تحليكم بالتقوى .
الخامس : لعلكم تشكرون على ملازمة التقوى لكم في ميدان المعركة وبعده .
السادسة : فاتقوا الله عند الشكر له سبحانه .
والنسبة بين التقوى والشكر لله عز وجل الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالتقوى أعم وأوسع .
الخامس : من مصاديق إختتام الآية أعلاه بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]جهات :
الأولى : قانون الإنتفاع الأمثل من النصر ببدر .
الثانية : قانون عصمة المسلمين من الظلم والتعدي ، وقد قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] بشارة بتوالي النصر وفضل الله عز وجل على المسلمين ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع وتقدير الآية على جهات :
الأولى : ولقد نصركم الله ببدر وسينصركم في معارك لاحقة .
الثانية : لقد نصركم الله عز وجل فلا تعتدوا فهذه البشارة ليست سبباً لتحريض المسلمين على الغزو أو القتال ، إنما هي باعث للطمأنينة في نفوسهم مع التقيد بسنن التقوى ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( )وقال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ).
الثالثة : لقد نصركم الله ببدر [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الرابعة : لقد نصركم الله ببدر لوعد منه لرسوله .
الخامسة : لقد نصركم الله ببدر لبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فمحى حال الذلة عنكم .
ويحتمل هذا المحو في مدته وكيفيته وجوهاَ:
الأول : محو الذلة عن الصحابة يوم بدر .
الثاني : محو الذلة عن الصحابة في ميدان المعركة , سواء معركة بدر أو معركة أحد أو الخندق .
الثالث : محو الذلة عن الصحابة أيام البعثة النبوية , وما دام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم .
الرابع : إرادة الإطلاق في محو الذلة إلى يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأصالة الإطلاق , ولأن الله عز وجل يهب بالأتم والأحسن والأكمل.
وهل هذا المحو مستديم أم مؤقت ، الصحيح هو الأول ولا يختص بأيام النبوة وطبقة الصحابة بل هو متجدد إلى يوم القيامة.
بين قيد الوجوب والواجب
الوجوب هو المقتضى واللزوم ، وهو أحد الأحكام التكليفية الخمس الوجوب ، الندب ، الإباحة ، الكراهة ، الحرمة.
أما الواجب فهو المأمور به .
وعادة ما يتطابق زمان الوجوب والواجب مثل صيام شهر رمضان ، وقد يتقدم زمان الوجوب مثل الوقوف على جبل عرفات إذ أن الواجب على المستطيع هو الوقوف بين ظهر وغروب يوم عرفة ، ولكن الوجوب من حين الإستطاعة ، لذا ينقسم الواجب إلى الواجب المنجز والواجب المعلق.
فقيد الوجوب في الحج هو الإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] أما قيد الواجب فهو الزمان المعين للمنسك مثل اوان الوقوف على عرفات حصراً.
ومن القيد الواجب الطهارة كمقدمة شرعية لواجب الصلاة ، وقد يجتمع قيد الواجب والوجوب في مصداق واحد مثل شهر رمضان كوعاء لأداء الصوم فلا وجوب للصيام من دون شهر رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وهو قيد للصيام الواجب بالذات والأصل.
ولا يجب تحصيل قيد الوجوب كالإستطاعة ، ولكنها إن تحققت تم الوجوب ، أما قيد الواجب فلابد من تحصيله كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ].
وكما في المقدمة العقلية للإنتقال من مكة إلى عرفة قبل ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة لمن كان واجبه أداء الحج ، والعلم عند الله.
وهل الإمتناع عن الإرهاب واجب ، الجواب نعم .
معجزة الدعاء يوم بدر
لقد كان عدد المسلمين قليلاً في معركة بدر ، وهو أقل من ثلث عدد جيش المشركين الذي يتألف من نحو ألف مقاتل راكب مدججين بالسلاح والدروع ، مما قد يبعث الخوف في قلوب الصحابة على كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : نزول آيات القرآن والتي لا تنزل على غيره من الأولين والآخرين.
الثالث : خوف الصحابة الذين صدّقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم وايقنوا بالمدد من عند الله ولم يعلموا أن الأمر يصل إلى القتال ولمعان السيوف بينهم وبين عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم قريش الذين يطلبون قتلهم ، وهذا الطلب وانتفاء موضوعه أشهر أنواع الإرهاب في التأريخ.
عندئذ توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء إلى الله ليرى المسلمون والمشركون معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ]( )، ورد عن ابن عباس في حديث طويل منه (فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره .
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً .
فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته.
فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار.
فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله والله شديد العقاب ، فذلك حين رأى الملائكة)( )، وفيه مسائل :
الأولى : إظهار سلاح الدعاء الذي لم يعتد أهل الجزيرة عليه ، ولم يعرفوا نفعه العظيم ، ليكون هذا الإظهار ونفعه معجزة مستقلة ، ودعوة للإيمان .
الثانية : الملازمة بين النبوة والدعاء ، ترى أيهما أهم وأظهر النسبة بين هذه الملازمة وبين الملازمة بين النبوة والوحي ، الجواب كل منهما ذو أهمية وشأن عظيم ، وملازمة الوحي هي الأعظم ، ولقانون الدعاء فرع الوحي.
الثالثة : تجلي حب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتبائه واختياره للنبوة
الرابعة : بيان مصداق لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، بتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة وحضور الإستجابة الفورية، ففي معركة بدر نزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الخامسة : بيان المائز في قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، إذ اتخذ جمع المؤمنين الدعاء على وجوه :
الأول : إنه واقية من إرهاب المشركين .
الثاني : قانون الدعاء طريق للنجاة.
الثالث : قانون الدعاء سلّم للإرتقاء في مقامات الإيمان.
السادسة : حسن تأديب القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة وعامة المسلمين.
فقد ذكرت الآية أعلاه الإستغاثة والإلحاح في طلب العون والمدد ، وقد قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
و(عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقل أعطني إن شئت فإن الله لا مستكره)( ).
السابعة : من مستحبات الدعاء ورجاء الإستجابة تحري أوقات مخصوصة وأماكن مباركة مثل أوان أداء الأذان وأدبار الصلوات الخمس ، وعند نزول الغيث ، ويوم الجمعة ، ويوم عرفة ، وفي المسجد ، وعند الشدة .
ومنه التقاء الصفين صف أهل الإيمان وهم في حال دفاع وإضطرار للقتال ، وصف مشركين لا يرضون إلا بالإبادة العامة ، واستدامة الظلم والوأد والفسوق.
قانون دفع المشركين
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على أمور :
الأول : عدم وقوع قتال بين المسلمين والمشركين وان كانت الغلبة للمسلمين ، والملائكة عند أبواب السماء للهبوط لنصرتهم.
الثاني : تفريق جموع المشركين الذين يرومون الإغارة على المدينة.
الثالث : دفع المشركين عن المدينة لتبقى في مأمن من شرور المشركين ، فلم يعسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة إنما جعلها روضة عبادية تتلى فيها آيات القرآن ، وتقام فيها الصلاة خمس مرات في اليوم ، ويعيش أهلها من المسلمين واليهود والكفار في أمن وسلام .
وذات التلاوة والصلاة دعوة للهدى والإيمان لأهل المدينة وغيرهم ، ودرساً لأجيال المسلمين بلزوم التنزه عن الإرهاب.
الرابع : زيادة إيمان المسلمين ، ومنع الإختلاف والفرقة فيما بينهم.
الخامس : إعطاء درس للناس بأن المسلمين أمة واحدة يستجيبون لأمر الله ورسوله ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ليكون من مصاديق الرحمة في الآية أعلاه إصابة المشركين بالإحباط عند رؤية المسلمين يمتثلون للأوامر الإلهية ، ويظهرون التبجيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة والرسالة.
السادس : الحيلولة دون جعل المبادرة بيد المشركين.
السابع : جذب طائفة من المشركين إلى الإسلام ، وبعث الفرقة والخلاف في صفوف الذين يقيمون على الكفر وعبادة الأوثان وهو من أسرار نزول السور المكية بصيغة الإنذار والوعيد ، مع قصر آياتها وسهولة حفظها لتكون حاضرة في الوجود الذهني ، وفي المنتديات ، والبيوت ، والمجتمعات ، ومنها جماعات المشركين ، وهو من الإعجاز في تسمية مكة (أم القرى) ، إذ قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
لبيان قانون وهو تعضيد السور المكية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، من وجوه:
الأول : صرف المشركين عن القتال .
الثاني : دخول جماعات من الناس في الإسلام.
الثالث : بث الفرقة والإختلاف بين صفوف المشركين.
الرابع : تثبيت أقدام المسلمين في مقامات الإيمان ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن دعوة كل آية منه إلى التقوى والخشية من الله ، ومجئ السنة النبوية بمصاديق التقوى والترغيب فيها .
وعن عبد الله بن عمر قال (أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِى قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِى أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ)( ).
وهل في زيادة إيمان المسلمين دفع لشرور المشركين ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : بعث اليأس والقنوط في قلوب المشركين .
الثانية : ترغيب الناس بالإيمان .
الثالثة : قانون صدق الإيمان مدخل للمدد من عند الله ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( ).
الرابعة : تحلي المسلمين بطاعة الله ورسوله ، والخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب الدفاع ، والمرابطة في ثغور المدينة وما حولها ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
طرق إخبار النبي (ص)
لقد عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كتيبة السويق من غير وقوع قتال مع أبي سفيان ورجاله الذين ساروا بالإنسحاب من أطراف المدينة والقوا المؤن والسويق الذي معهم تخفيفاً عنهم في طي الأرض للهزيمة.
وهل هو من الرعب الذي جعله الله عز وجل في قلوب أعداء النبوة والتنزيل ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو ترجل رعب المشركين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعالم القول والفعل والهزيمة.
فاقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة وشهر محرم من السنة الثالثة في المدينة باقامة الصلاة وتلاوة آيات القرآن وتفسيرها ، وتفقه الصحابة في الدين ، وإصلاح شؤون المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
مع تجلي معجزات حسية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها توالي الأخبار إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخص الذين يسعون للإغارة على المدينة.
فحالما يقومون بحشد الجيوش حتى يبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم ومن هو رئيسهم والقبائل التي ينتمون لها ، وتعاهدهم لنواياهم الخبيثة بارادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أهل بيته وأصحابه وإشاعة النهب والسلب في المدينة [اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا]( ).
ولم يعلموا أن المسجد النبوي والمساجد التي أنشأها المسلمون في المدينة المنورة واقامة الصلاة اليومية فيها حرز وواقية ، بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
وهل من موضوعية في إبدال اسم مدينة يثرب إلى طيبة والمدينة لإنشاء المسجد النبوي والمساجد الأخرى في المدينة ، الجواب نعم.
وكل مسجد يدعو إلى الألفة والرحمة ، ونبذ الإرهاب والظلم ، ومن هذه المساجد التي بنيت أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسجد قباء وهو أول مسجد أسسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حالما وصل إلى أطراف المدينة مهاجراً من مكة ، ويقع في الجنوب الغربي منها ، قال تعالى [لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ]( ).
ومسجد الجمعة وهو الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول جمعة في طريقه إلى وسط المدينة.
ومسجد الوادي ومسجد القبلتين لتحويل القبلة أثناء الصلاة فيه .
وسيأتي باب مساجد المدينة داعية لنبذ الإرهاب.
وهل كانت مساجد المدينة محلاً لوصول أخبار المشركين وحشودهم ، الجواب نعم ، وكل مسجد يدعو إلى الهدى والإيمان ، والإمتناع عن الظلم والإرهاب.
وتأتي الأخبار إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : الوحي من عند الله عز وجل ونزول جبرئيل بالأنباء التي تفيد البشارة أو التحذير ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ]( ).
الثاني : العيون التي جعلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حول المدينة ، وفي مكة وبعض القبائل ، وهو من منافع ورشحات كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقامته لساعات أو أيام في أفواه القرى للأذان وإقامة الصلاة ، والإجتهاد بذكر الله ، لتكون تلك المواضع شاهداً على بزوغ شمس الإيمان ، ولفظها لعبادة الأوثان.
الثالث : وجود أفراد من المسلمين في كل قبيلة من قبائل العرب في الجزيرة ، وهو من معجزات النبي محمد في التبليغ موسم الحج في مكة ، ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة إلى المدينة ، ومن المسلمين في مكة وما حولها من كان يخفي إسلامه خشية المشركين ولكنه لا يمتنع عن بعث الأخبار إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بحركات وتحشيد المشركين.
الرابع : تنقل الركبان والمسافرين بين المدن والقرى ووفود المعتمرين والحجاج إلى مكة ، والإطلاع على الحوادث الطارئة ، فمثلاً تجمع بني محارب حدث في شهر حرام بعد أيام الحج من السنة الثانية للهجرة فيطلع عليه الناس ، ويتناقلونه.
ومن منافع بناء إبراهيم واسماعيل عليهما السلام للبيت الحرام مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الخامس : مجئ الأخبار من عامة الناس الذين يكرهون محاربة النبوة والتنزيل ، ويتلقون أخبار جموع المشركين بالإستهجان.
السادس : الأفراد الذين يأتون إلى المدينة لدخول الإسلام والوفود التي تأتي من أهل القرى والمدن للإطلاع على معجزات النبوة والتنزيل.
السابع : رسائل التهديد والوعيد التي يبعثها المشركون إلى كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المهاجرون ، مع ترغيبهم بالرجوع من المدينة وبالإرتداد.
الثالث : رسائل التهديد إلى الأنصار لإيوائهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابع : المناجاة بين مشركي مكة والمنافقين في المدينة لإثارة الشكوك ومقدمات الفتن ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
قانون عز الإيمان بعد معركة بدر
كما كانت معركة بدر فرقاناً وفيصلاً بين الإيمان والكفر ، فانها فرقان وتمييز بين حال الصحابة من الضعف والذلة التي كانوا عليها ، وبين حال العز والمنعة وكثرة الأموال التي أصبحوا عليها بعد المعركة ، والغنائم التي جلبوها من المشركين الذين فروا وتركوها.
وفيه تمييز بين حال الإسلام والدعوة قبل معركة بدر وبعدها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
إن مدح الصبر والدفاع في سبيل الله تعالى دليل على وجود المصلحة والملاك فيه وبما انه عبارة عن تضحية بالنفس وتعريضها للتلف ليكون كالضرورة وحاجة لابد منها، وعليها تتوقف سلامة المجتمعات والنفوس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
لقد كان دخول معركة بدر اضطراراً ودفاعاً وخسارة أفراد قليلين ذهبوا إلى جنة الخلد فتح الآفاق أمام المسلمين وابقاهم أعزة الى يوم القيامة .
لذا ورد وصف المسلمين بالذلة بصيغة الماضي وما قبل النصر في معركة بدر , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ومفهوم الآية ولفظ (أَذِلَّةٌ) على وجوه :
الأول : قانون أصبحتم أعزة .
الثاني : قانون لم تعودوا أذلة بعد المعركة .
الثالث : قانون إنقطاع استهزاء المشركين بكم , كيف وقد قتلتم منهم سبعين وأسرتم سبعين .
الرابع : قانون خلع المسلمين رداء الضعف والنقص في العدة والأسلحة والمؤون.
الخامس : قانون صيرورة المسلمين بعد معركة بدر كثرة في عددهم .
السادس : زيادة إيمان الصحابة بعد الإنتصار في معركة بدر لتجلي المعجزات فيها ، ويتحقق السلم المجتمعي .
السابع : لقد كان المسلمون الذين تخلفوا في مكة ولم يهاجروا في حال ذلة وأذى من المشركين , فجاء النصر في معركة بدراً نصراً وعزاً لهم ، ومحطة لإستئصال الإرهاب .
الثامن : قانون إمتلاء قلوب المشركين بالخوف والفزع.
قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
التاسع : توالي نزول آيات القرآن , وفيه أمن وحصن وبشارة لهم ، ودعوة للرأفة بالناس جميعاً .
قانون (اصبر) مانع من الغزو والغزو المقابل
لقد نزل القرآن بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ، واختلف في الأمر هل المراد منه الوجوب أو الإستحباب أم , الفرد الجامع لهما .
والمشهور والمختار إرادة الوجوب إلا مع القرينة الصارفة للندب والإستحباب .
وأمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر واجب وتكليف ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم.
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ (اصبر) فيه تسع عشرة مرة وباستثناء واحدة في وصية لقمان لابنه بقوله تعالى [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، فان البواقي كلها خطاب وأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأولى : قوله تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( )، وهي آخر آية من سورة يونس .
ومن إعجاز الآية أعلاه الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : اتباع الوحي ومنه التنزه عن التعدي ، لبيان قانون إن الله عز وجل لا يأمر بالظلم ولا بالإضرار بالناس ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
الثاني : التحلي بالصبر ، وكظم الغيظ .
الثالث : يشمل الأمر (اصبر) في آية البحث المسلمين والمسلمات.
الرابع : رجاء فضل الله عز وجل بالنصر وإزاحة عبادة الأوثان من الأرض بقوله تعالى [حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وفي الآية بيان لفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بذكر القرآن لقصة نوح عليه السلام على نحو التفصيل وإيذاء وتكذيب قومه له ، وهل يشمل اسم الإشارة (تلك) في أول الآية أعلاه قصة هود وقصة صالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى ، الجواب نعم .
لذا بينت خاتمة السورة جانباً من منافع إطلاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على علوم الغيب ، وقصص الأنبياء ، قال تعالى [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
لتدل قصص الأنبياء مجتمعة ومتفرقة على وجوب العمل على منع وقوعه في مشارق الأرض ومغاربها , وعلى تنزه المسلمين عنه.
الثالثة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا]( ).
السادسة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى]( ).
السابعة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( ).
وتقدير الآية من وجوه :
الأول : يا أيها الرسول اصبر .
الثاني : يا أيها النبي اصبر .
الثالث : واصبر يا محمد .
الرابع : يا أيها الذين أمنوا اصبروا .
لبيان قانون على وجوه :
الأول : الصبر حاجة .
الثاني : قانون ملازمة الصبر للإيمان .
الثالث : قانون حب الله عز وجل للصابرين .
الرابع : قانون الصبر إحسان .
الخامس : قانون الصبر في سبيل الله .
وأيهما أكثر في القرآن آيات الصبر أم آيات القتال , الجواب هو الأول , وهو من الشواهد على أن الإسلام دين الصبر والحكمة وأول آية نزلت من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ) فهل تلحق بآيات الصبر , الجواب نعم .
معجزة فكاك الأسرى
تتعدد مصاديق الإعجاز في معركة بدر والآيات التي نزلت بخصوصها , وستبقى شاهداَ على صبغة السلم التي بُعث بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقون , ومنها وقوع أسرى من المشركين بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهات :
الأولى : حدوث مسألة وقوع الأسرى من قريش بيد المسلمين , فقد كان أبو جهل وأصحابه يتناجون فيما بينهم بأن محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أكلة رأس كناية عن قلة عددهم وسرعة الإجهاز عليهم في ميدان المعركة , ولكن في بضع ساعات المعركة صار جيش المشركين على أقسام :
الأول : سبعون قتيلاَ .
الثاني : سبعون أسيراَ , ومنهم بعض أشراف قريش , مثل العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وسهيل بن عمرو .
الثالث : هزيمة باقي جيش المشركين الذين هم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين في الميدان .
الرابع : ترك المشركين لإبل وخيل وأسلحة ومؤن كثيرة , فقد كان مجموع القتلى والأسرى منهم أربعة عشر ومائة فلابد أنهم تركوا إبلهم وأسلحتهم ومؤنهم لأن الذين إنهزموا منهم لا يفكرون إلا بنجاتهم بأشخاصهم , فهي من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الأسرى من وقع في الأسر أثناء فراره , ومنهم (خالد بن الأعلم الخزاعي، ويقال : عقيلي، حليف لهم، وهو القائل :
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا … ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وهو أول من فر يوم بدر، فأدرك وأسر) ( ).
لبيان أن المدح والتفاخر بالذات والقبيلة لم يمنع المشركين يوم بدر من الهزيمة , فقد قذف الله عز وجل في قلوبهم الخوف والفزع.
وحالما وصلت فلول قريش إلى مكة بدأوا الإعداد لمعركة الثأر , وهذا إصرار على الخطأ وإرادة القتال والقتل والإرهاب .
ولقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لفساد واشاعة القتل بغير حق , فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
وقد جمع كفار قريش بين الفساد وسفك الدماء بمحاربة النبوة والتنزيل , لتكون هزيمتهم يوم بدر من مصاديق احتجاج الله عز وجل أعلاه , وقد أمر الله عز وجل الملائكة بالنزول لمحاربة الفساد ومنع القتل بأنفسهم وهو من مصاديق التجمع والإتحاد في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ), ( ).
ليكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : لله ملك السموات .
الثاني : لله ملك كل شئ .
الثالث : لله ملك الأرض .
الرابع : لله ملك ما بين السموات والأرض .
الخامس : لله الملك الجامع للسموات والأرض على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي .
السادس : كل إنسان هو ملك لله عز وجل في الدنيا والآخرة .
لماذا تأخرت قريش بفكاك الأسرى
من مقدمات استعداد قريش لمعركة أحد وجوه :
الأول : منع النياحة والبكاء على قتلى بدر كيلا يشمت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في مكة , وإلا فإن أهل المدينة لا يسمعون هذه النياحة , مما يدل على إزدياد عدد المسلمين في مكة بعد معركة بدر .
الثاني : صدرور الأوامر من رؤساء قريش بعدم السعي في فكاك أسراهم .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ ، ثُمّ قَالُوا : لَا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ حَتّى تَسْتَأْنُوا بِهِمْ لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ) ( ) ترى لماذا طلبت قريش التأني في فكاك أسراهم , فيه مسائل :
الأولى : إذا طالت المدة ولم يأت أحد لفكاك الأسرى يضطر الصحابة للقبول بأدنى عوض لفكهم .
الثانية : حاجة المسلمين للإنفاق على الأسرى , مع الفاقة في المدينة .
الثالثة : إطمئنان كفار قريش بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يقتلوا الأسرى ولم يعتدوا عليهم , وهل هذه الطمأنينة بالإستقراء أم بلغتهم أخبار عن عناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالأسرى , الجواب هو الثاني قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) .
و(عن ابن عباس في قوله تعالى: ” ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا “( ).
ثم ذكر ما مضمونه: أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعادهما عامة العرب ، فقالوا لعلي: لو نذرت ؟
فقال علي : إن برئا مما بهما صمت لله ثلاثة أيام.
وقالت فاطمة كذلك، وقالت فضة كذلك.
فألبسهما الله العافية فصاموا ، وذهب علي فاستقرض من شمعون الخيبرى ثلاثة آصع من شعير، فهيأوا منه تلك الليلة صاعا، فلما وضعوه بين أيديهم للعشاء وقف على الباب سائل فقال: أطعموا المسكين أطعمكم الله على موائد الجنة.
فأمرهم على فأعطوه ذلك الطعام وطووا، فلما كانت الليلة الثانية صنعوا لهم الصاع الآخر فلما وضعوه بين أيديهم وقف سائل فقال: أطعموا اليتيم.
فأعطوه ذلك وطووا.
فلما كانت الليلة الثالثة قال : أطعموا الاسير.
فأعطوه وطووا ثلاثة أيام وثلاث ليال.
فأنزل الله في حقهم: ” هل أتى على الانسان ” إلى قوله ” لا نريد منكم جزاء ولا شكورا( )) ( ).
وهذه السورة مكية , وهو لا يمنع من كون بعض آياتها مدنية , وزمان نزول هذه الآية متأخر عن واقعة بدر فهل هو من الإستصحاب القهقري الذي لم يثبت في علم الأصول , أم أن الآية أخبرت عن عناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بأسرى معركة بدر , أم تشملهم مضامين هذه الآية.
الجواب هو الأخير خاصة وأن المدار في الآية ليس على أسباب النزول بل على عموم المعنى , وعدم ثبوت الإستصحاب القهقري في الأصول لا ينطبق على آيات وإعجاز القرآن .
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بالأسرى خيراَ , وكان يتفقدهم على نحو العموم المجموعي الإستغراقي والبدلي , ومن الأخير .
و(عن ابن عباس ، قال : لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر والاسارى محبوسون بالوثاق، بات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: ما لك لا تنام يا رسول الله؟
فقال : ” سمعت أنين عمي العباس في وثاقه ” فأطلقوه، فسكت، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
الرابعة : الحرب على المسلمين وجعلهم يتكفلون أعباء الأسرى والرضا بأي عوض وإن كان قليلاَ .
الخامسة : منع المسلمين من الإنتفاع من مبالغ العوض , وهذا المنع بالوقت والكم والكيف , إذ أن التأخر في الدفع يمنع من الإنتفاع العاجل بالمال .
الثالث : النقص الحاد في أموال قريش بعد معركة بدر , وقتل عدد من رجالاتهم , وتوزيع ثراوتهم ميراثاَ , والميراث عنوان تشتت المال , وعدم بقاء كثرته محصورة عند فرد واحد .
الرابع : إمتناع قريش عن توزيع أموال التجارة التي في قافلة أبي سفيان على أهلها .
الخامس : عزوف الناس عن شراء البضائع والمواد من قافلة أبي سفيان حتى بعد توزيعها , فقد دخلت المصيبة إلى كل بيت من بيوتهم .
استحداث دراسة عن أسرى بدر
لابد من دراسة خاصة بأسرى بدر من جهات :
الأولى : أسماء أسرى المشركين في معركة بدر .
الثانية : كيفية الأسر من دروس الرواية بخصوصه .
الثالثة : ترجمة كل أسير .
الرابعة : الذين دخلوا الإسلام منهم , وتأريخ دخول الرواية بخصوصه .
الخامسة : تأريخ وفاة أو شهادة كل واحد منهم , فمن دروس الرواية بخصوصه .
السادسة : صدق إيمان طائفة منهم بعد دخولهم الإسلام .
السابعة : خصوص الأسرى من بني هاشم , وعاقبتهم .
الثامنة : الأحاديث التي رواها الأسرى عن المعركة وما بعدها.
التاسعة : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الأسرى , ومعاملتهم ودخولهم الإسلام , واقراهم بصدق نبوته .
ولم يكن الأسرى كلهم أغنياء , ولم يرض الأغنياء الدفع عن الفقراء منهم , وهو من الإبتلاء الذي ينزل بالذين كفروا , قال تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
لذا بادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطلب من عمه العباس بدفع البدل عن نفسه وعن كل من :
الأول : عقيل بن أبي طالب .
الثاني : نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
وكان أسن بني هاشم في أيامه , فهو أكبر من عمه الحمزة وعمه العباس بن عبد المطلب , وأسلم في السنة الخامسة للهجرة , وشهد فتح مكة وحنين , وتوفى سنة (15) للهجرة .
الثالث : عتبة بن عمرو , أحد بني الحارث بن فهر وهو حليف للعباس( ).
وكان فداء كل واحد منهم أربعمائة دينار , والدينار مثقال ذهب عيار 18حبة , فيكون المجموع ألف وستمائة , فأدعى العباس أن لا مال عنده , (فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، وقلت لها: إن أصبت في سفري هذا لبني: الفضل، وعبد الله، وقثم ؟
” فقال : والله إني لاعلم أنك رسول الله، إن هذا الشي ما علمه إلا أنا وأم الفضل) ( ) وكان العباس أكثر الأسرى فداء يوم بدر .
وقيل (لما أسر نوفل يوم بدر قال له النبي صلى الله عليه وآله : ” افد نفسك برماحك التي بجدة “، فقال: والله ما علم أحد أن لي بجدة بعد الله غيري، أشهد أنك رسول الله، ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح)( ).

الصبر على الأسرى
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أسرى بدر منع دبيب اليأس إلى قلوب الصحابة من تأخر قريش عن فكاك أسراهم .
فمن بين الأسرى شخص اسمه (أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ ضُبَيْرَةَ السّهْمِيّ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّ لَهُ بِمَكّةَ ابْنَا كَيّسًا تَاجِرًا ذَا مَالٍ وَكَأَنّكُمْ لَهُ( ), قَدْ جَاءَكُمْ فِي طَلَبِ فِدَاءِ أَبِيهِ فَلَمّا قَالَتْ قُرَيْشٌ لَا تَعْجَلُوا بِفِدَاءِ أُسَرَائِكُمْ قَالَ الْمُطّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ – وَهُوَ الّذِي كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنّي – : صَدَقْتُمْ لَا تَعْجَلُوا ، وَانْسَلّ مِنْ اللّيْلِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَأَخَذَ أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَانْطَلَقَ بِهِ) ( ).
فدخل أبو وَدَاعَةَ إلى مكة سالماَ مع ابنه فبدأ الناس في السعي في فكاك أسراهم .
(فَقَدِمَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ فِي فَدَاءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ
أَسَرْتُ سُهَيْلًا فَلَا أَبْتَغِي … أَسِيرًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ
وَخِنْدَفُ تَعْلَمُ أَنّ الْفَتَى … فَتَاهَا سُهَيْلٌ إذَا يُظّلَمْ
ضَرَبْتُ بِذِي الشّفْرِ حَتّى انْثَنَى … وَأَكْرَهْت نَفْسِي عَلَى ذِي الْعَلَمِ)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأسرى أنه لم يقبض فدية أسير , إنما تركها للذي أسًره من الصحابة وكأنه مقدمة للدفاع في معركة أحد .
وصار مكرز يقاول مالك بن الدخشم عن قيمة عوض سهيل بن عمرو , ولما اتفقوا على مقدار .
قالوا لمكرز : هات مبلغ العوض .
فعرض أن يبقى أسيراَ عندهم إلى حين وصول سهيل بن عمرو إلى مكة ويبعث بفدائه , فرضوا ولم يشددوا ويشترطوا وصول العوض .
ومع أن الإمام علي عليه السلام هو فارس يوم بدر ونزل القرآن بالثناء عليه يومئذ , ففي قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ] ( ) , كان أبو ذر (يقسم قسماً إن هذه الآية { هذان خصمان اختصموا في ربهم . . .}( ) إلى قوله { ان الله يفعل ما يريد }( ) نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر وهم : حمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث ، وعليّ بن أبي طالب ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة) ( ) , فقد أطلق الإمام علي عليه السلام بعض الأسرى بلا مقابل .
فقد أسر يوم بدر عمرو بن أبي سفيان بن حرب وهو أخو معاوية لأبيه .
(فَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ افْدِ عَمْرًا ابْنَك ؛ قَالَ أَيُجْمَعُ عَلَيّ دَمِي وَمَالِي قَتَلُوا حَنْظَلَةَ وَأَفْدِي عَمْرًا دَعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ يُمْسِكُوهُ مَا بَدَا لَهُمْ .
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ مَحْبُوسٌ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إذْ خَرَجَ سَعْدُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ أَكّالٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمّ أَحَدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ مُعْتَمِرًا وَمَعَهُ مُرَيّةٌ لَهُ وَكَانَ شَيْخًا مُسْلِمًا ، فِي غَنَمٍ لَهُ بِالنّقِيعِ فَخَرَجَ مِنْ كَانَ عَهِدَ قُرَيْشًا لَا يَعْرِضُونَ لِأَحَدٍ جَاءَ حَاجّا ، أَوْ مُعْتَمِرًا إلّا بِخَيْرٍ فَعَدَا عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِمَكّةَ فَحَبَسَهُ بِابْنِهِ عَمْرٍو) ( ).
وهذا خلاف آداب جوار الحرم , وعادات العرب وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ولم يكتف أبو سفيان بهذا بل قال شعراَ :
أَرَهْطَ ابْنِ أَكّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ … تَعَاقَدْتُمْ لَا تُسْلِمُوا السّيّدَ الْكَهْلَا
فَإِنّ بَنِي عَمْرٍو لِئَامٌ أَذِلّةٌ … لَئِنْ لَمْ يَفُكّوا عَنْ أَسِيرِهِمْ الْكَبْلَا( ).
ومشى رهط سعد بن النعمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروه بما حدث وسألوه أن يسلمهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم فاستجاب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعثوا به إلى مكة , فخلى أبو سفيان سبيل سعد .
ولكن الضرر الذي لحق قريشاَ من هذا الفعل أشد من قيمة العوض خاصة وأن هذا العوض لم يكن بذات المقدار أربعمائة دينار بل قد يكون ثلاثمائة وأحياناَ مائة دينار واحدة حسب المال .
غايات ذكر بدر في القرآن
[لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وما موضع بدر إلا مثل قطرة في بحر واسع متلاطم الأمواج , مثل المحيط الهادي الذي تبلغ مساحته ثلث مساحة الأرض أي نحو 180 مليون كم , ويصل عمقه أحياناَ نحو 4300م , ليكون موضع بدر كقطرة صغيرة من ماء هذا البحر , ومع هذا ذكرها الله عز وجل في القرآن لغايات حميدة متعددة لا ندرك كنهها ومنها :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة .
الثانية : ذكر شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : بديع قدرة الله عز وجل بتحقيق النصر خلاف قاعدة السبب والمسبب , فإن موازين القوة كلها تميل لجانب قريش , ومع هذا لحقتهم الهزيمة والخزي .
الرابعة : نزول آية ببدر وآيات أخرى بخصوص المعركة وفيه وجوه :
الأول : استقراء المواعظ من كل آية من الآيات التي تخص معركة بدر .
الثاني : استنباط الأحكام من آيات ببدر مجتمعة .
الثالث : بيان موضوعية آيات ببدر في حياة المسلمين اليومية .
الرابع : أثر ومنافع نتائج معركة بدر في معارك الإسلام اللاحقة كمعركة أحد والخندق وحنين .
الخامس : استحضار سرايا الصحابة لآيات معركة بدر وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وبعد المعركة .
الخامسة : تنمية ملكة الرحمة والعفو عند المسلمين .
السادسة : إزاحة أسباب الخوف عند الناس من قريش عند العزم على دخول الإسلام .
لقد أخبر الله عز وجل عن إلقاء الرعب والخوف والفزع في قلوب مشركي قريش ونحوهم بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) فهل له موضوعية في كسر هيبة قريش عند العرب , وإزاحة الخوف عن الذين يريدون دخول الإسلام.
الجواب نعم , لقانون الذي يستوي عليه الخوف يتخلف عن إخافة الآخرين مع إتحاد الموضوع .
السابعة : تثبيت وقائع الإسلام , وتوثيقها من السماء وجعل أجيال المسلمين يستحضرونها .
الثامنة : منع التحريف بالوقائع والحوادث التي حدثت أيام النبوة , إذ تدل آيات معركة بدر وأحد والخندق وحنين على قانون وهو المشركون هم الغزاة .
ومن وجوه هذا المنع تسمية غزوة الخندق باسم (الأحزاب) أي أن أحزاب المشركين اجتمعت على الهجوم على المدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللتأكيد في المقام هناك سورة من سور القرآن اسمها سورة الأحزاب .
ومن الإعجاز في المقام عجز المشركين بعد الخندق جمع ربع عددهم في الأحزاب , إذ أحاط بالمدينة يومئذ عشرة آلاف من قريش وحلفائها وأعدائها , ولم تكن بعدها معركة كبيرة تذكر , وبعدها بنحو سنة أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيتوجه إلى مكة للعمرة وندب أصحابه والقبائل المحيطة بالمدينة للخروج معه , فكان صلح الحديبية الخالد الذي سمّاه الله عز وجل فتحاَ بقوله [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) .
السابعة : كتيبة بني سُليم ، قال ابن الجوزي (غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني سُليم، وذلك لست ليال خلون من جمادى الأولى. على رأس سبع وعشرين شهراً من مهاجرته، ببحران، وهو بناحية الفُرع، وبين الفُرع والمدينة ثمانية برد.
وذلك أنه بلغه أن بها جمعاً من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة من أصحابه واستخلف ابن أم مكتوم فوجدهم تفرقوا، فرجع ولم يلق كيداً، وكانت غيبته عشر ليال)( ).
وذكر أن عدد الصحابة الذين خرجوا مع النبي يؤمئذ مائتان وهو الأرجح ، وتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى بني سُليم بعد عودته من معركة بدر بسبع ليالِ، فمع شدة الأذى الذي لاقاه وأصحابه في معركة بدر ، وسقوط أربعة عشر شهيداً .
ومع الغبطة والرضا الذي تغشى أهل المدينة بالنصر ، وكثرة الغنائم والأسرى المشركين ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عجّل بالخروج من المدينة ، مما يدل على أهمية وخطورة الأمر ،ولزوم عدم الإبطاء فيه.
ترى ما هي الصلة بين هذا الخروج وبين قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) الوارد في آية ببدر .
الجواب لقد اختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالوحي تفريق المشركين الذين يرومون الهجوم على المدينة ، ومنع كفار قريش من تسخيرهم للإنتقام الإبتدائي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للخسارة التي لحقت قريش يوم بدر ، وكأن الآية تقول : فاتقوا الله ولا تعتدوا وامنعوا الإعتداء عليكم.
ولم يكن الجمع لبني سُليم وحدهم، ولكن كانت معهم غطفان مما يثير الريب ، وينذر بالخطر ، فسار لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل قيامهم بغزو المدينة ونحوه من ضروب التعدي.
ليكون سير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم لتفريقهم ، ومنع الفتنة والإتصال بقريش ، وبذل الأموال في زيادة جمعهم وأسلحتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
وحمل اللواء يومئذ الإمام علي بن أبي طالب وكان أبيض ، وكذا في كتيبة سفوان (بدر الأولى ) فقد كان لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ مع الإمام علي عليه السلام كما عن الواقدي ( ).
وفي معركة بدر كان اسم اللواء الذي معه (العقاب).
من غايات كتيبة بني سُليم
هل مسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني سُليم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب نعم لوجوه :
الأول : تفريق جموع المشركين.
الثاني : بعث الخوف في قلوب الذين يريدون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
الثالث : غلق الباب بوجه قريش في تحريضهم للقبائل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تفريق جيوش المشركين مانع من الإقتتال ، وفيه رحمة عامة .
الخامس : نهي المنافقين عن بث الريب والشك في المدينة.
السادس : إزاحة هاجس الخوف عن أهل المدينة من غزو المشركين ، سواء بخصوص الأنعام أو الزروع والنخيل والأنفس .
السابع : لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المسير استتباب الأمن والسلم المجتمعي بتفريق جموع المشركين التي تبغي العدوان .
الثامن : بعث الناس على التدبر في معجزات النبوة بدل الإنشغال بالمناجاة في تكذيبها وحربها .
التاسع : بيان منافع تعدد كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصوله إلى القرى والأرياف والصلاة وتلاوة القرآن عند مداخلها ، وحضّ الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ووصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مياههم والآبار التي يستقون منها وتسمى (الكُدر ) ولكنهم تفرقوا ولم يجد أحداً منهم .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفراً من أصحابه إلى أعلى الوادي لتحري أماكنهم ، وسار هو وبقية أصحابه في بطن الوادي ، ووجدوا غلاماً اسمه يسار يرعى أنعامهم والذي اعتقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ رآه يصلي .
وأقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الموضع ثلاث ليالِ ولم يقع قتل أو سفك دماء ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو معركة الخندق وما بعدها.
الجواب هو الأول .
وكان مجموع الأيام التي غاب فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة في هذه الكتيبة خمسة عشر يوماً .
ثم أقام بالمدينة شهر شوال وذا القعدة وأطلق في هذه المدة أكثر أسرى بدر ، وكثير منهم كان الذين أسروهم يتولون عتقهم وقبض البدل عنهم مباشرة من غير الرجوع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيه تخفيف وتيسير كبير، ولم يأخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قيمة بدل الأسرى ، مما جعل بعض الصحابة يطلقون عدداً من الأسرى بلا مقابل ، أو بوعد منه بقضاء البدل أو بتعليم عشرة من صبيان المدينة.
أو بعتق وإطلاق من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل كان مسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني سليم علة أو جزء علة لدخولهم الإسلام قبل فتح مكة .
الجواب نعم ، وهو من أسرار كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من تعظيم لشعائر الله.
إذ جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من بني سُليم اسمه قيس بن نسيبة وصار يسأله عن مسائل وهو يجيبه ، وفطن إلى دلالة الأجوبة على الوحي والإعجاز ، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام فأسلم ونطق بالشهادتين.
كتيبة درء الفتنة
لقد أخبر الله عز وجل عن قانون في الأرض وهو [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) ويدل عليه حال المشركين من بني سُليم إذ جمعوا الجيوش للإغارة على المدينة لفتنة عمياء من مقاصدها :
الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إشاعة القتل والأسر بين أصحابه .
الثالث : سبي نساء المدينة .
الرابع : أخذ أموال الأنصار ، وأموال اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع .
الخامس : حرق المزروعات والنخيل التي حول المدينة ، وهل هذا الحرق من الإرهاب ، الجواب نعم ، وقد تكرر هذا الأمر من المشركين ، ومنه قيام أبي سفيان ورجاله بعد معركة (فأتوا ناحية منها يقال لها العريض فحرقوا في أصوار من نخل بها، ووجدوا رجلا من الانصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، وانصرفوا راجعين)( )، كما سيأتي بيانه في كتيبة السويق.
السادس : نهب سروح وأنعام أهل المدينة التي ترعى قريباً منها كما في إغارة كرز بن جابر الفهري عليها ، بعد كتيبة العشيرة ، إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبه ولم يدركه.
السابع :الإبادة الجماعية في المدينة .
الثامن :تحريض قريش والقبائل الأخرى للإغارة على المدينة .
التاسع :منع نزول آيات القرآن وأحكام الشريعة .
العاشر : إعادة نصب وعبادة الأصنام .
الحادي عشر : إرادة ارتداد طائفة من المسلمين تحت تهديد السلاح وشد الوثاق والسجن ، وفي ذم كفار قريش وتحذير المسلمين منهم قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
ليكون من معاني الرحمة العامة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منع الفتنة التي هي أشد من القتل ودرء الفتنة العظيمة من غير خسائر في النفوس والأموال ، بأن يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى جمع الكفار فيعلمون بقدومه فيتفرقون ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، بلحاظ أن كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي.
لبيان قانون وهو أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ليس غزواً إنما هو رحمة وحرب على الغزو ، وهو من البركات العرضية لكتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد الحاضرة في كل زمان على أنه لم يغز أحداً ، إنما كان خروجه إصلاحاً عاماً للمجتمعات .
وتسمى كتيبة بني سُليم غزوة قرقرة الكُدر .
وكانت مدة مكث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بني سُليم ثلاثة أيام ، ولم يقع قتال أو مراماة ونحوها إذ تفرق القوم ،وفيه رسالة إلى كفار قريش بعجزهم عن جمع الجموع لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار أنه ليس من غزوة في المقام ،والعقل والوجدان يؤكدان هذه الحقيقة ، إنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لتفريق جموع المشركين الذين يريدون الغزو والهجوم على المدينة ،ولكن هذا التفريق ليس بصيغة الغزو ، إنما بالحضور في موضع تجمعهم ، وجعلهم يتفرقون ويتشتت جمعهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وفيه منع لقريش من جعل قبائل متعددة تجتمع في ديارها استعداداً لمعركة أحد ، ومع هذا فقد خرج معهم ولحقهم في الطريق إلى معركة أحد طائفة من الحلفاء .
دعوة الخير
يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة هو ومئات من أصحابه إلى أهل القرى فيدعوهم إلى الهدى والفلاح والعيش الآمن والسعادة الأخروية فليس من دعوة جامعة للخير ،ومانعة من الأذى والشر مثل دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيفيتها ،وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء لبيان قانون وهو مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) غير متناهية .
وإذا كان هناك شخص من أفراد القبائل دعاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة على خوف وخشية من قريش ، ثم رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مئات من أصحابه يقيمون الصلاة، ويتلون القرآن ، ويعملون بأحكام الشريعة ، فهل يدل هذا التبدل القوي على معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب نعم .
وهو من أسباب دخول طائفة من الناس الإسلام ، خاصة وأن الأمر لا يختص بذات الشخص الذي دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل إنه كان ينقل لأهله وعشيرته وقومه نبأ البعثة النبوية ، وآيات من القرآن وهو من أسرار قصر السور المكية ، ليسمع الناس بعد الهجرة السور الطوال وآيات الأحكام ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( )، لبيان مسائل :
الأولى : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية كثيرة ومتعددة.
الثانية : غزو معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلوب الناس ، والقرى فهو لم يغز أحداً ، إنما معجزاته هي التي تغزو القلوب والمنتديات أمس واليوم وغداً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثالثة : إنحسار سطوة كفار قريش على أهل القرى والناس جميعاً.
وقد كان الناس يحتاجون اليهم باقتراض المال ، فاصاب أموال قريش النقص الفادح والسريع لإنفاقهم لها في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كانت قريش تحتاج رجال القبائل وتطلب ودهم لمرور قوافل تجارة قريش عليهم ، فقلّ عدد هذه القوافل ، وأعداد الإبل وأنواع التجارات فيها.
لقد أدرك الناس صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : التغير النوعي في حاله وحال أصحابه إذ أبدلهم الله الخوف بالأمن ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
الثانية : السلامة والدعوة الخفية والعلنية إلى الله عز وجل.
الثالثة : إقامة الصلاة من غير خوف أو خشية من المشركين.
لقد كانت طائفة من الصحابة قبل الهجرة يخرجون من مكة إلى أطرافها وأرض البطائح للصلاة وتلاوة القرآن وتدارس آياته ، وإذا رأوا أحداً سكتوا وصبروا ، ومع هذا لاحقتهم قريش على هذا الحال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] ( ) .
ليكون من الإعجاز الغيري لهذه الآية أن الناس كانوا يعرضون عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأذى الذي يلحق الذين يؤمنون بها ، فنصر الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعز المؤمنين ، ليزول المانع من دخول الناس الإسلام.
ولم يرد لفظ [مُسْتَضْعَفُونَ] بالرفع في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وإذا هم صاروا يصلون في مساجد بنيت حديثاً لتكون نواة لملايين المساجد اليوم وغداً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
فمثلاً مجموع المساجد في اندونسيا 900 ألف مسجد وفي الهند أكثر من 300 ألف مسجد ، وكل مسجد مصدر ضياء وهدى وسلام وأمن ، ودعوة إلى الصلاح والرشاد والإحسان للناس جميعاً.
قانون الحاجة إلى كتيبة بني سُليم
من منافع ورشحات هذه الكتيبة منع الكثير من القبائل من نصرة قريش في معركة أحد ، ويدل على هذه الحاجة أمور :
الأول : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في كتيبة بني سُليم .
الثاني : عدم مكث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد معركة بدر سوى سبع ليالِِ ، ليتوجه بعدها إلى بني سُليم .
الثالث : خروج مائتين من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث ليالِ في ماء الكدر ، وهو محل سقاية بني سُليم وشربهم لجعلهم يدركون الحاجة إلى الماء ، والعجز عن الوصول إليه عند محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ( )أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى لبني سُليم رسالة وهي أن حلو الحياة والغنى مع الإيمان أو لا أقل إجتناب محاربة النبوة والتنزيل والإمتناع عن إعانة مشركي قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فان قلت لم ينحصر ماء بني سُليم بماء الكُدر ، الجواب هذا صحيح ، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع الماء عنهم منعاً باتاً ، إنما أراد تحذيرهم وإنذارهم وإخبارهم بأن مشركي قريش يعجزون عن نصرتهم بحجبهم عن الوصول إلى أهم مياههم والآبار التي منها يستقون .
وجاءت هذه الكتيبة بعد معركة بدر التي انتصر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وهل نسبة النصر في معركة بدر إلى الله عز وجل أمارة على إستدامة وتجدد مصاديق هذا النصر في السنين اللاحقة أم أنه يختص بواقعة بدر.
الجواب هو الأول ، ومنه خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جمع بني سُليم وتفرقهم وبقائه عند أهم ماء لبني سُليم ، وعليه إستدامة حياتهم وحياة أنعامهم ، وبقائهم في ذات الموضع ، فاذا فقدوا ماء الكدر فانهم يغادرون مساكنهم طوعاً وانطباقاً ، وفي مغادرتهم مشقة عليهم ، وهو سبب لتفرقهم والتشتت الدائم لجمعهم ، أي إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد جعلهم يتركون ماءهم ومحل سكناهم ثلاثة أيام ، فان بقاءه مدة أطول وملاحقتهم في منازلهم يجعلهم يهجرونها ، وإن وفدوا على قريش فانها لا تنصرهم ولا تمدهم بالمال كمساعدة ، إنما كانت تقرض الناس بالربا ، وصاروا بعد معركة بدر عاجزين عن إقراض المال الكثير للخسارة الكبيرة التي لحقتهم ولإعدادهم لمعركة أحد.
الثامنة : كتيبة السَّويق( )
لقد وقعت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، بتحريض أبي سفيان لكفار قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بذريعة أنهم على وشك الإستيلاء على قافلته التي تتكون من ألف بعير محملة بالبضائع ، ولكل بيت من قريش سهم فيها .
ولم يتعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقافلة أبي سفيان ، وتفاجئ أهل مكة بوصول قافلة أبي سفيان سالمة بينما خرج الرجال شباباً وشيوخاً لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب هذه القافلة ، فأوجس الناس خيفة ، وتطيروا من هذا المكر الخفي.
وأعتذر لهم أبو سفيان بأنه بعث رسولاً لقريش يخبرهم عن سلامة القافلة ، ويطلب منهم العودة في الحال ، فازداد خوف الناس لأنهم لم يستجيبوا لطلبه.
وهل هذا الخوف من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) الجواب نعم.
ولم تمر بضعة أيام حتى كان الحيسمان بن حابس الخزاعي أول من وصل مكة من فلول قريش ، فسألوه : ما وراءك ، فبادر إلى تعداد القتلى من أشراف قريش بما جعلهم يظنون أنه يهجر إذ قال (قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام( )، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.
قال: فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال: هو ذاك جالساً في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا)( ).
حينئذ نذر أبو سفيان (أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه حتى جاء المدينة ليلاً واجتمع بسلام بن مشكم سيد النضير فعلم منه خبر الناس.
ثم خرج في ليلته فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة، فأتوا العريض فحرقوا في نخلها وقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له، واسم الأنصاري معبد بن عمرو وعادوا، ورأى أن قد بر في يمينه.
وجاء الصريخ، فركب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه فأعجزهم، وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق يتخففون منها للنجاة، وكان ذلك عامة زادهم، فلذلك سميت غزوة السويق ولما رجع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون قالوا : يا رسول الله أتطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال : نعم)( ) عن ابن إسحاق .
ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ندب أصحابه على جناح السرعة فقد خرج معه مائتان من المهاجرين والأنصار، والحديث أعلاه عن ابن إسحاق وهو مرسل ،وعلى فرض صحته فالمقصود من الغزوة الدفاع والأجر عليه .
ولم يقصد فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلدة أو قرية من قرى الكفار ، ولم يغنم أنعاماً وذهباً وفضة ، إنما خرج دفاعاً عن أهل المدينة وأموالهم حالما بلغه مجئ جيش الكفار إلى أطرافها قاطعين نحو أربعمائة وخمسين كيلو متر ، لذا فان تسميتها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل له .
وحينما (رَجَعَ فَلّ قُرَيْشٍ مِنْ بَدْرٍ ، نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتّى يَغْزُوَ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ) ( ) يدل على أن الغازي هو أبو سفيان ، وهو الذي يتحدث بالغزو والهجوم ، ويريد الثأر بلغة النذر.
ولم يرد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النذر للغزو والهجوم ، إنما كان صابراً يتلو ما ينزل عليه من القرآن ، ويدعو الناس إلى الهدى ونبذ الغزو والإقتتال .
التاسعة : كتيبة ذي أمر : وهي كتيبة غطفان إلى نجد ، و(عن محمد بن إسحاق، قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، أو قريباً منه، ثم غزا نجدا يريد غطفان؛ وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفراً كله أو قريباً من ذلك، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً)( ).
وتتجلى شذرات من البيان في قوانين (لم يغز النبي (ص) أحدا) ( ) وكان سبب خروج النبي بلوغ أخبار بأن قوماً من ثعلبة ومحارب يجمعون الجموع لغزو أطراف المدينة برئاسة رجل منهم يسمى دعثور بن الحارث .
واختلف في أصل بني ثعلبة هل هم من بني إسرائيل ومن سلالة داود ، أم من العرب وقيل أنهم من بطون بني قريظة ، ويسكنون فدك وتيماء والمدينة ، وهم حلفاء قبيلة الأوس وقد شاركوهم القتال ضد الخزرج في معارك عديدة منها يوم بعاث ، وهو آخر معارك الأوس والخزرج إذ وقع قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين.
وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى ذي أمر أربعمائة وخمسون من أصحابه وتسمى هذه الكتيبة على وجوه :
الأول : غزوة غطفان .
الثاني : غزوة ذي أمر -بفتح الألف والميم- وهو اسم الماء من ديار غطفان في نجد.
الثالث : غزوة أنمار .
لقد كان عدد الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبيراً بين راكب وراجل مما يدل على شدة الخطر والتهديد لتجمع بني محارب ولإخافة عامة المشركين غزو المدينة ، وهل في خروج أربعمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار مع النبي محمد زاجر لقريش عن التوجه لغزوة أحد ، أم أنه باعث لهم لجمع أكبر عدد من الرجال إذ ساروا يومئذ بثلاثة آلاف رجل ، الجواب هو الأول .
وكانت المدة بين كتيبة بني أمر وغزوة المشركين في معركة أحد سبعة أشهر وبضعة أيام.
وعناد المشركين يقودهم إلى الضلال ، وكان الملائكة في استقبالهم لخزيهم وهزيمتهم ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
أسباب كتيبة ذي أمر
ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة للغزو أو القتال ، وهو لم يخرج في كتائبه إلا رحمة بالناس ودعوة للهدى والإيمان .
لقد كان نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر معجزة حسية جلية تتفرع عنها الدرس والمواعظ من يوم وقوعها وإلى يوم القيامة.
والأصل أن يكف المشركون عن القتال ولكنهم استمروا في مزاولة المكر والكيد ، فبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خبر مفاده أن بني محارب وهم من القبائل العربية ذات الشأن يعدون العدة للإغارة على المدينة بمؤازرة بني ثعلبة .
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا للقائهم ولكن لتفريقهم ، مع أن عدد الصحابة الذين معه كاف لهزيمتهم ، وجلبهم أسرى مقيدين بالحبال إلى المدينة ليكونوا عبرة لغيرهم من المشركين ولكن قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، حاضر.
وقال ابن سعد (ذو أمر بناحية النخيل وكانت في شهر ربيع الاول على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجره وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من ثعلبة ومحارب بذي أمر قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمعهم رجل منهم يقال له دعثور بن الحرث من بنى محارب.
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وخرج لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الاول في أربعمائة وخمسين رجلا ومعهم أفراس واستخلف على المدينة عثمان)( ).
وهل من منافع النصر في معركة بدر خروج أربعمائة وخمسين من الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذي أمر ، مع أن مجموع الصحابة في معركة بدر هم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، الجواب نعم.
ومن الآيات أنهم رجعوا من ذي أمر من غير غنائم ومكاسب مادية ، ولم يطلبها أحد منهم إنما أرادوا الثواب والأجر ، قال تعالى [رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أصحابه لم يظهر أحد منهم الحسرة لعودتهم إلى المدينة من غير غنائم ومكاسب ، فهي حال غير مألوفة في الجزيرة وبداية سمو الأخلاق الحميدة ، وتقديم لسنن التقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، ورشحات هذه الآية على قول وفعل الصحابة أيضاً .
وهل فيه بعث للخوف والرعب في قلوب المشركين ، الجواب نعم ، فهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )،
لقانون تعدد أسباب وطرق وكيفية مجئ الرعب إلى المشركين.
ولا تنحصر أسباب كتيبة ذي أمر بجمع بني محارب الجيوش لغزو المدينة ، ويمكن تقسيم أسباب كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يسمى غزواته إلى :
الأول : الأسباب الخاصة لكل كتيبة ، والتي تختلف من كتيبة إلى أخرى بحسب الحال .
الثاني : الأسباب العامة التي هي كالسور الجامع لكتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها :
الأولى : نشر مبادئ الأيمان .
الثانية : إقامة الصلاة خارج المدينة ، لتكون هذه الإقامة من مصاديق كل من الدعوة والأمر والنهي في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : الإستطلاع .
الرابعة : إنذار الذين كفروا .
الخامسة : ترغيب الناس بالإسلام ، وتحصين القلوب من الخوف من المشركين .
السادسة : ملاقاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعامة الناس في الجادة العامة ، وعند مداخل القرى.
السابعة : إغاظة المشركين ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
لم يرد لفظ (محمد رسول) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
تفرق بني محارب
لم يكن توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه إلى غطفان وذي أمر سراً أو خفية ، إنما كان علانية وفي النهار ، وفيه تخفيف عنهم ، ودعوة لهم للتفرق والتشتت.
وبيان لصيرورة الإسلام في منعه وعلانية المسير هذه من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وما أن بلغهم قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى دبّ الخوف في قلوبهم ، وهربوا بأنفسهم وأنعامهم ، وتركوا ديارهم ومياههم وصعدوا إلى أعالي الجبال.
وهو من الشواهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، ولم يقصد الهجوم والإضرار بالناس على كفرهم ، ولم يلاحقهم ويطاردهم ، مع أن تفرقهم يسهل القبض عليهم وأسرهم.
لقد أقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند ماء ذي أمر نحو شهر يقيم وأصحابه الصلاة ويستقبل الناس ، ويجيب على أسئلة أصحابه وغيرهم ، وهو من أسرار ورود لفظ يسألونك خمس عشرة مرة في القرآن
وقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في آيتين متجاورتين [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وأكثر الناس لا يصلون إلى المدينة ويدخلون المسجد النبوي ليسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان هو الذي يذهب إليهم وكذا الأنبياء السابقين في سياحتهم في الأرض.

بين دعثور وحبان
لقد كان دعثور بن الحارث من رؤساء بني محارب وهو الذي تصدى لجمع الجموع للإغارة على أطراف المدينة.
وفي طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى ذي أمر وجدوا بذي القَصة وهو موضع قريب من المدينة رجلاً اسمه حبان وقيل جبار من بني ثعلبة حلفاء وشركاء بني محارب بالعزم على الهجوم على المدينة.
فسألوه إلى أين أنت ذاهب ، للتحقق من مسيره ولعله عين للمشركين قال (أريد يثرب لأرتاد لنفسي وأنظر)( ).
أي يريد التبضع وينظر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نبوته فقد يدخل الإسلام ، فأدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن القوم ومدى استعدادهم للهجوم على المدينة ، فأخبره حال القوم وعددهم ، ونواياهم الخبيثة وأسلحتهم.
وقال (لن يلاقوك ولو سمعوا بمسيرك هربوا في رؤوس الجبال وأنا سائر معك)( ).
ودعاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام فاسلم ونطق بالشهادتين ، وضمه إلى بلال ليتفقه في الدين ، فأخذ بهم طريقاً خاصاً ليهبطوا عليهم فجأة ، ولكنهم عندما سمعوا بمسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم هربوا إلى رؤوس الجبال .
ومن مصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم طلبه الغزو والقتال إنتفاء التورية في جهة المسير ، والغاية منه ، خاصة بعد كثرة عدد الصحابة الذين معه.
فكان يخبر بالتوجه نحو بني محارب لقصدهم محاربة الله ورسوله ، وكأنه يدعوهم إلى الفرار والتفرق وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
فان قلت قد يأوون إلى فئة ، إلى قريش فيأتون معهم إلى معركة أحد ، الجواب يكون الملائكة والرعب ودفاع المسلمين في وجوههم ، كما قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وصحيح أن الآية نزلت في معركة أحد ولكن موضوعها أعم ، وهل في كتيبة ذي أمر قطع لطرف من الكفار ، الجواب نعم ، من جهات :
الأول : تفرق جموع المشركين من بني محارب وبني ثعلبة.
الثاني : الأذى والضرر الذي لحق الكفار بتركهم لبيوتهم ومياههم.
الثالث : خيبة المشركين بعجزهم عن إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الواقعة كما تقدم بيانه في جزء سابق إذ بعثوا دعثوراً عندما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعاً.
فقام على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف وقال : يا محمد من يمنعك مني اليوم .
فقال : الله ، ودفع جبرئيل في صدره فسقط إلى الأرض على قفاه ، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيف من يده ، وعفا عنه.
الرابع : دخول رئيس القوم وهو دعثور بن الحارث الإسلام عندما رآى الآيات.
ومعه دخل الكثير من أفراد قبيلته الإسلام لبيان تعدد منافع كل كتيبة وسرية من كتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلوها من الإضرار .
وعندما تساءلت الملائكة تفضل الله عز وجل بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ومن أشد ضروب الفساد الكفر والجحود .
فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون من علم الله عز وجل كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تقضي على الكفر ومظاهر الفساد من غير سفك دماء ، بل وتمنع عن القتال والقتل ، لبيان التضاد بين رسالته وبين الإرهاب الذي يتضمن الفتك وسفك الدماء والإضرار بالممتلكات العامة والخاصة.
العاشرة : كتيبة بَحران ، وتبعد عن المدينة نحو (200) كم ، إذ سار النبي ومعه (300) من أصحابه إلى ناحية بني سُليم بعد أن بلغه تجمعهم للفتنة ، وعندما علموا بمسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحوهم تُفرقوا .
وعن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا)( ).
والباء في بالرعب باء الإستعانة ، وتقدير الحديث (نصرني الله بالرعب مسيرة شهر).
لبيان قانون هذا الرعب من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، والرعب في المقام واقية من الإقتتال ، وهو مدد إضافي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة إن وقع القتال ، ولا يعلم كثرة ماصرف من القتال بسبب هذا الرعب إلا الله عز وجل.
وفيه كسر لشوكة الشرك ، وخزي لكفار قريش وإن لم يكونوا مع جمع بني سُليم.
الحادية عشرة : كتيبة معركة أحد إذ خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع أمام جيوش الشرك الغازية في شوال من السنة الثالثة للهجرة، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
لقد أرادت قريش الثأر لأشرافها ورؤسائها الذين قتلوا في معركة بدر وحاولت رد إعتبارها بين القبائل وخشيت خروجها عليهم وإغراء نصر المسلمين في بدر لتلك القبائل بنهب تجارة قريش بين مكة والشام ، ومكة واليمن ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ). فسعى نفر من رجالات قريش بين أهل مكة وقبائل كنانة وتهامة يحرضون على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم : الأول : عكرمة بن أبي جهل. الثاني : صفوان بن أمية . الثالث : عبد الله بن أبي ربيعة. ورجال من قريش ممن قتل آباؤهم وإخوانهم في معركة بدر قبل أن يدخلوا الإسلام . وبذلوا لرؤساء القبائل الأموال وقدموا الوعود واصطحبوا معهم الشعراء يمدحون رجال القبائل ونخوتهم ويذكرونهم بالعهود التي لهم مع قريش. (فخرج أبو عزة يسير في تهامة، ويدعو بني كنانة. وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح؛ إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأبو عزة هو عمرو بن عبد الله الجمحي ، وقع أسيراً في معركة بدر ، فشكا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقره وكثرة عياله ، وقال أنك تعرف حاجتي وفاقتي أي أنه لا يملك عوضاً بدل فكاكه من الأسر ، فأخذ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهداً على أن لا يظاهر عليه أحداً أي سواء قريش أو غيرها ، وقال أبو عزة يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم باشعار وقصائد منها : (مَنْ مُبَلّغٌ عَنّي الرّسُولَ مُحَمّدًا … بِأَنّك حَقّ وَالْمَلِيكُ حَمِيدُ وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَدْعُو فِي الْحَقّ وَالْهُدَى… عَلَيْك مِنْ اللّهِ الْعَظِيمِ شَهِيدُ وَأَنْتَ امْرُؤُ بُوّئْتَ فِينَا مَبَاءَةً … لَهَا دَرَجَاتٌ سَهْلَةٌ وَصُعُودُ فَإِنّك مَنْ حَارَبْتَهُ لَمُحَارَبٌ … شَقِيّ وَمَنْ سَالَمَتْهُ لَسَعِيدُ وَلَكِنْ إذَا ذُكّرْتُ بَدْرًا وَأَهْلَهُ … تَأَوّبَ مَا بِي : حَسْرَةٌ وَقُعُودُ)( ). وأغراه صفوان بن أمية وغيره وخرج إلى معركة أحد فوقع في الأسر وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عنه فرد طلبه. ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم برد طلبه بل ذكر العلة والسبب لهذا الرد لإقامة الحجة عليه وليكون عبرة لغيره بعد نقض ماعاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فلما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد أن يمّن عليه أجابه (لا أدعك تمسح عارضيك وتقول: خدعت محمدا مرتين)( ). وهل لسقوط سبعين شهيداً من أهل البيت والصحابة موضوعية في رد طلبه ، المختار لا. ودعا جبير بن مطعم غلاماً له يقال له وحشي ، كان حبشياً يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها. فقال له : اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت عم محمد( ) بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيقٌ. فخرجت قريش بحدها وجدها وأحابيشها، ومن معها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن والنساء التماس الحفيظة؛ ولئلا يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة ، وقد قُتل أبوها وأخوها وعمها في معركة بدر بعد إصرارهم على المبارزة والقتال ، إذ تقدم يومئذ لهم ثلاثة من شباب الأنصار ، عوف ومعوذ ابنا عفراء ، وعبد الله بن رواحه ، وبعد أن عرفوا أنفسهم لم يرضوا بهم (قَالُوا :أَكْفَاءٌ كِرَامٌ وَإِنّمَا نُرِيدُ بَنِي عَمّنَا ، فَبَرَزَ إلَيْهِمْ عَليّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَحَمْزَةُ ، فَقَتَلَ عَلِيّ قِرْنَهُ الْوَلِيدَ وَقَتَلَ حَمْزَةُ قِرْنَهُ عُتْبَةَ وَقِيلَ شَيْبَةُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَقِرْنُهُ ضَرْبَتَيْنِ فَكَرّ عَلِيّ وَحَمْزَةُ عَلَى قِرْنِ عُبَيْدَةَ فَقَتَلَاهُ وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ فَلَمْ يَزَلْ ضَمِنًا حَتّى مَاتَ بِالصّفْرَاءِ)( ). وعبيدة هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف. وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة . قال أبو جعفر : وقيل ببرة – بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية؛ وهي أم عبد الله بن صفوان. وخرج عمرو بن العاص بن وائل بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد وهي أم بني طلحة مسافع والجلاس وكلاب؛ قتلوا يومئذ وأبوهم . وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك ابن حسل، مع ابنها أبي عزيز بن عمير وهي أم مصعب بن عمير الذي كان يحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذات المعركة ، واستشهد فيها. وخرجت عمرة بنت علقمة احدى نساء بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة( ). وكانت هند بن عتبة بن ربيعة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت : إيهٍ أبا دسمة -اشف واشتف – وكان وحشي يكنى أبا دسمة. فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة؛ من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين : إني قد رأيت بقراً فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ؛ وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. (ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء. فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة. وراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة( ). وامتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بادئ الأمر عن الخروج إلى أحد ، وأراد انتطارهم في المدينة ، ولكن ثلة من الأنصار ألحوا عليه بالخروج إليهم ، فدخل بيته ، ولبس لامة الحرب ، وصلى صلاة الجمعة وخرج مع ألف من الصحابة قبل أن يرجع ثلاثمائة منهم من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ). وتدل الآية أعلاه على حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز قريشاً وأنهم هم الغزاة. وقد ذمهم الله عز وجل بقوله [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، ليكون من معاني البغض وعدم الحب هذا نزول البلاء بالمشركين عند اصرارهم على القتال ، فقال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، إذ انسحبوا من ميدان المعركة عائدين إلى مكة من غير أن يحققوا الغايات الخبيثة التي انفقوا من أجلها الأموال الطائلة وعطلوا تجارتهم لبيان قانون وهو أن الأموال التي تصرف في محاربة النبوة والتنزيل تذهب سدىً ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ). وهل يكون هذا الإنفاق سبباً للفتنة بين الكفار ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق الحسرة في الآية أعلاه ، لأنها نتيجة وسبب. دراسة مقارنة بين معركة بدر وأحد لقد وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ووقعت معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين من جهة أخرى . وبين المعركتين عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، أما مادة الإلتقاء فمن وجوه : الأول : كل من المعركتين وقعت بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين مشركي قريش. الثاني : المشركون هم الغزاة في كل منهما . الثالث : عدد جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين. فقد كان عدد المشركين في معركة بدر نحو ألف وعدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر . و(عن عمر بن الخطاب قال: لما كان في يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم القبلة . ثم مد يديه، فجعل يهتف، بربه يقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام لا تعبد في الارض، فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه)( ). أما عدد المشركين في معركة أحد فكان ثلاثة آلاف رجل وعدد المسلمين سبعمائة. الرابع : وقعت كل من المعركتين في شهر من الأشهر الحل ، وليس الحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ) لبيان حرص المشركين على إجتناب القتال في الشهر الحرام ، وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد ، فلابد من الإمتناع عن قتاله طيلة أيام السنة . الخامس : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة. السادس : في كل من المعركتين إبتدأ المشركون بالرمي والقتال. السابع : مناداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا). الثامن : اشتراك المهاجرين والأنصار في القتال . التاسع : في كل من المعركتين المسلمون في حال دفاع ، واضطرار للقتال. العاشر : إرادة المشركين قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر طائفة من الصحابة . الحادي عشر : كفار قريش هم الذين اختاروا أوان وموضع المعركتين. الثاني عشر : خيل وإبل المشركين أضعاف خيل وإبل المسلمين ، فمثلاً في معركة بدر كان عند المسلمين فرس واحدة وقيل اثنتان ، بينما عند المشركين مائة فرس. وهل ساعد وجودها المشركين على الفرار يومئذ ، الجواب نعم ، لبيان مصداق لقوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) إذ أراد المشركون إتخاذ كثرة الخيل وسيلة ومادة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فاضطروا لإتخاذها للهزيمة والفرار وما يترشح عنه من الذل والخزي. الثالث عشر : إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء في ميدان المعركة . (وروى البيهقي عن ابن عباس وحكيم بن حزام، وإبراهيم التيمي قالوا: لما حضر القتال رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه يسأل الله النصر وما وعده، ويقول : اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك، وما يقوم لك دين)( ). وفي معركة أحد حينما أشرف أبو سفيان على جمع المسلمين ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم)( ). الرابع عشر : لم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميدان المعركة في كل من معركة بدر ومعركة أحد. لقد اثبتت كل من معركة بدر وأحد أهلية المسلمين للخلافة في الأرض ، فقد كانوا في الميدان ضعافاً مستضعفين فأنعم الله عز وجل عليهم بالثبات والغلبة . الخامس عشر : لم يقاتل الصحابة لدنيا أو جاه أو امرة أو غنائم ، سواء في معركة بدر أو أحد إنما كانوا في حال دفاع محض . أما مادة الإفتراق فمن وجوه : الأول : التباين الزماني ، وسبق معركة بدر بثلاثة عشر شهراً عن معركة أحد . الثاني : نزلت آيات مخصوصة في كل من المعركتين . الثالث : لم يشاع في معركة بدر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قُتل ، بينما شاع في ميدان معركة أحد إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتل . الرابع : وقعت معركة بدر ابتداء بالتعدي والغزو من قريش ، بينما هجموا في معركة أحد ثأراً لخسارتهم في معركة بدر ، و(قال أبو سفيان يومئذ: أعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر)( ). الخامس : لم يصب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات في معركة بدر ، وكان الصحابة يحيطون به ، بخلاف معركة أحد فقد سال دمه وكثرت جراحاته من جهات : الأولى : كسر رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليمنى السفلى من أسنانه. الثانية : شق شفته السفلى ، إذ رماه عتبة بن أبي وقاص بحجر. الثالثة : شج جبهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد رماه عبد الله بن شهاب الزهري . الرابعة : جرح وجنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما رماه عبد الله بن قمئة ، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ونادى ابن قمئة قتلت محمداً . الخامسة : وقوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق وأصحابه ليقع فيها المسلمون ، فأخذ الإمام علي عليه السلام بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى قام على قدميه . (وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما وقع لشقه أغمى عليه، فمر به سالم مولى أبى حذيفة فأجلسه ومسح الدم عن وجهه، فأفاق وهو يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله) ( ). السادسة : عدم إنقطاع دم جراحات الوجه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قامت فاطمة عليها السلام بحرق قطعة من حصير ودست الرماد في الجرح . السادس : كانت الغلبة في معركة بدر للمسلمين ابتداء واستدامة ، أما في معركة أحد فكانت الغلبة في أول المعركة للمسلمين ثم صارت للمشركين بسبب ترك الرماة المسلمين مواضعهم لولا فضل الله عز وجل وبعثه الرعب في قلوب المشركين وانصرافهم ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ). السابع : يبعد موضع معركة بدر عن المدينة المنورة مائة وخمسين كيلو متر ، بينما يبعد موضع معركة أحد عن المسجد النبوي (6) كم فقط. الثامن : لم ينهزم أحد من الصحابة يوم بدر ، بينما انهزم عدد قليل منهم يوم معركة أحد ، وتفرق عدد أكثر منهم. التاسع : كان الصحابة يحيطون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة بدر ، بينما تفرق عنه أكثر أصحابه يوم معركة أحد. العاشر : مص مالك بن سنان وهو والد أبي سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وفي حديث أبي سعيد الخدري (أن الحلقتين لما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل مالك بن سنان يأخذ الدم بفيه ويمجه منه يزدرد منه، فقال له : أتشرب الدم . قال : نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من مس دمه دمي لم تصبه النار) ( ). ومالك بن سنان بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي استشهد يوم أحد (قتله عراب بن سفيان الكناني) ( ). الحادي عشر : ترس أبو دجانة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظهره ، والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك( )، واسم أبي دجانة : سماك بن خرشة. وكان ابو دجانة قد شهد بدراً ، ولم يقتل يوم أحد وبقي حياً إلى يوم اليمامة على قول . (روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: رمى أبو دجانة بنفسه في الحديقة يومئذ فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل. وقد قيل: إنه عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام صفين)( ). الثاني عشر: التباين في عدد الشهداء إذ سقط أربعة عشر شهيداً في معركة بدر ، وسبعين في معركة أحد . الثالث عشر: كثرة الغنائم التي حازها الصحابة يوم معركة بدر بخلاف معركة أحد . الرابع عشر : ذكرت معركة بدر في القرآن بالاسم ، قال تعالى [ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) ومن فضل الله لم تذكر معركة بدر إلا بالنصر والظفر . بينما لم يذكر اسم معركة أحد وجبل أحد في القرآن مع كثرة الآيات التي نزلت بخصوصها . وقد ذكرت في الجزء الثاني والخمسين من هذا السٍفر وفي تفسير الآية الثالثة عشرة من سورة آل عمران [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( ). (والعبرة عامة ولا تنحصر بفئة أو أمة دون أخرى. وان كانت ليست حيثية تعليلية يترشح عنها ثبوت الحكم للموضوع لأن الآيات التي تدعو الناس للإيمان أكثر من أن تحصى. والعلل الغائية للنصــر في بدر متعــددة ومتصلة الى يومنا هذا، نعم العبرة والموعظــة جامع للناس فاتعاظ المسلم زيادة في ايمانه، واعتــبار غيره استحضار خطئه ولزوم تخلصه من جحوده ، قال تعالى فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ). وإذا كان في معركة بدر عبرة للناس فهل في معركة أحد عبرة ايضاً أم تختص العبرة والموعظة بمعركة بدر لأن الله عز وجل أيد بنصره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب هو الأول من جهات : الأولى : وحدة الموضوع في تنقيح المناط ومصاحبة تأييد الله عز وجل للنبي في كل معركة . الثانية : إنكشاف ظلم وعدوان الكفار باصرارهم على الغزو والقتال ، فكما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال دفاع في معركة بدر فانه في حال دفاع في معركة أحد أيضاً . الثالثة : معركة أحد عبرة للناس في كل زمان ، فقد استعد لها المشركون عاماً كاملاً وانفقوا الأموال الطائلة ، وندبوا القبائل الحليفة لهم ، فجاءوا بثلاثة ألاف مقاتل إلى أطراف المدينة فصلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجمعة بأصحابه في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ثم خرج إليهم . لتكون هذه الصلاة واقية من الهزيمة ، وعبرة أخرى للناس بأن النصر مصاحب للإيمان ، وأن المشركين لا يحصدون إلا الخزي. الرابعة : من معاني العبرة في قوله تعالى [لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( )التوبة والإنابة العامة ، ودخول أهل مكة والمدينة وما حول كل منهما الإسلام . وإذ كانت كل من معركة بدر وأحد عبرة لأرباب العقول ، وأصحاب التدبر والتفكر ، فهل هي عبرة لغيرهم أيضاً ، الجواب نعم . إنما ورد ذكر أولي الإلباب لبيان سبقهم غيرهم من الناس بالتدبر في آيات معركة بدر وأحد ، وقيامهم بدعوة الناس للتفكر فيها ، ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (لعبرة لأولي البصائر ) إنما ذكرت الأبصار ، لبيان موضوعية الحواس في إدراك المعجزات ، وكل إنسان عنده عينان باصرتان ، وهو من التخفيف عن الناس ،واللطف الإلهي بتقريبهم إلى منازل الهدى والإيمان . بينما وردت آيات أخرى تذكر أولي الألباب والعقول كما في قوله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ، لبيان مسائل : الأولى : وجوب التدبر في الآيات الكونية . الثانية : شكر الله عز وجل بتوظيف العقول في السياحة في بديع صنع الله عز وجل الثالثة : اجتماع الفعل والحواس في الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل . الخامس عشر : هناك جامع مشترك بين معركتي بدر وأحد ومعارك الإسلام الأولى , منه : الأول : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) والذي صدرت بخصوصه ستة وعشرون جزءً من هذا السٍفر . الثاني : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وقد صدرت بخصوصه ستة أجزاء . الثالث : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب ) وقد صدر بخصوصه أحد عشر جزءً . الرابع : قانون ( آيات الدفاع سلام دائم ) وقد صدرت بخصوصه خمسة أجزاء من مجموع أجزاء هذا التفسير . الخامس : قانون ( النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ) وقد صدرت بخصوصه أربعة أجزاء . السادس عشر : نزلت آيات قرآنية متعددة في كل من معركة بدر ومعركة أحد ، فمن الأولى قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ). وقوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ). وقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) وقد تقدمت الإشارة إليها . ومن آيات معركة أحد قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) ( )، تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) , ( ). التباين فيما ذكر في أسباب كل من معركتي بدر وأحد ، فتوالت الأخبار بأن سبب معركة بدر إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، والمختار عدم ثبوت هذا القول ، وإن كان هو الشائع من أيام التابعين . أما سبب معركة أحد فهو إرادة كفار قريش الثأر لقتلاهم وهزيمتهم وما لحقهم من ذل في معركة بدر ، وهو صحيح ، ولكن الجامع المشترك بخصوص أسباب كل معركتين هو حرب المشركين على النبوة والتنزيل . السابع عشر : كل من المعركتين معجزة دفاعية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) . الثامن عشر: ابتداء كل من المعركتين بدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنذاره للمشركين . التاسع عشر : لم ينهزم المسلمون في أي من المعركتين . العشرون : سقوط شهداء قتلى من المشركين فيها . الواحد والعشرون : عدم وقوع أسرى من المسلمين في أيدي المشركين في كل من المعركتين ، إذ أولى المشركون عناية خاصة بتأسير طائفة من المسلمين ، وكانوا يتوعدون المسلمين ويغيرون على أهل مكة بأنهم سيأتون بالمهاجرين مقيدين بالحبال ، فسقط بأيديهم ، وهو في الخيبة من قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ). لتكون سلامة الصحابة من الأسر من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا الجزء هو (السادس والثلاثون بعد المائتين) من معالم الإيمان في تفسير القرآن ومن فضل الله أقوم بكتابة أجزاء هذا التفسير ومراجعتها وتصحيحها بمفردي ، وكذا كتبي الفقهية والأصولية والكلامية إلى جانب القائي البحث الخارج في الفقه وفي الأصول وفي التفسير على فضلاء الحوزة العلمية ، ومنذ سنة 1999 وإلى يومنا هذا بلطف ومدد وعون من عند الله سبحانه . الثاني والعشرون : من الإعجاز في المقام تعدد الآيات التي نزلت بخصوص معركة بدر، والآيات التي نزلت في معركة أحد ، وأيهما أكثر آيات بدر أم آيات أحد . والجواب آيات معركة بدر هي الأكثر ليتجلى قانون إعجازي في المقام ، وهو الإنتفاع الخاص والعام من آيات بدر في معركة أحد وما بعدها بلحاظ أمور : الأول : التقدم الزماني لمعركة بدر على معركة أحد . الثاني : معركة بدر أولى معارك الإسلام . الثالث : لم يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بقصد القتال في بدر ، ولا إرادة تعيين بلوغه وأصحابه ماء بدر . الرابع : المدار على عموم المعنى للآية القرآنية، وليس سبب أو موضوع النزول ، وهو من أسرار بقاء القرآن غضاً طرياً إلى يوم القيامة لا تنفد مسائله . وليكون من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، إيجاد الإنسان لمفاتيح أموره وسبل الهداية في مسائل الدين والدنيا في القرآن . الثالث والعشرون : لقد جعل الله عز وجل كل معركة من معارك الإسلام الأولى عزاً وفتحاً ، وسبباً لدخول طائفة من الناس في الإسلام ، وبالنسبة للمقارنة بين معركة بدر وأحد في المقام تحتمل وجوهاً : الأول : الذين دخلوا الإسلام بسبب معركة بدر أكثر من الذين دخلوه بعد معركة أحد ، لأن معركة بدر نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبمعجزات ظاهرة للعيان . الثاني : الذين دخلوه الإسلام بعد معركة أحد أكثر من الذين دخلوا بعد معركة بدر. الثالث : التساوي في عدد الذين دخلوا الإسلام بعد المعركتين. والمختار هو الثاني، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصحيح أن المسلمين لم ينتصروا في معركة أحد وأن خسارتهم كبيرة , ولكن آياتها حضرت في معركة الخندق وحنين . آيات معركة (أحد) الدفاعية في سورة آل عمران وردت آيات في سورة آل عمران بخصوص معركة أحد والمدار على عموم المعنى والسعة في مضامين الآية القرآنية ودلالاتها ، وليس سبب النزول وحده ، ومن هذه الآيات : الأولى : [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ), ( ). والآية خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الأذى الذي لاقاه من قومه ، وقرب القتل منه مع أنه لم يؤذهم بل جاءهم بالحق والهدى ، لبيان قانون وهو الملازمة بين الشرك والإرهاب ، وأن رجالات وأشراف قريش كانوا رؤساء الإرهاب بكفرهم ، وهم عتاة ظلمة فنزل بهم البلاء يوم بدر بين قتيل وأسير ومنهزم، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ). وهل وصف الصحابة في الآية أعلاه من سورة آل عمرن بـ[الْمُؤْمِنِينَ] حين خروجهم من المدينة أم عندما اصطفوا للقتال ، المختار هو الثاني ليخرج بالتخصيص المنافقون الذين إنخزلوا من وسط الطريق إلى معركة أحد حيث رجع ثلاثمائة من مجموع المسلمين ليبقى سبعمائة مومناً . وهذه الآية حجة من الكتاب والسنة والتأريخ بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هو الغازي في معركة أحد . أما من جهة الكتاب فالآية أعلاه صريحة ، ومعنى غدوت أي باكرت وبادرت من غير إبطاء للدلالة على شدة الخطر الذي يهدد المدينة وأهلها . وقد تقدم في الجزء السابع والسبعين من هذا السٍفر (يقال غدا عليه غدواً وإغتدى: بكر، وغاداه: باكره، والغدوة بالضم البكرة ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس). ترى لماذا ذكرت الآية أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، الجواب لبيان أن المشركين أفزعوا المؤمنين والمؤمنات وأهل المدينة قاطبة ، وهو من الإرهاب المحض ، وأن المشركين لم يكتفوا بارادة القتال إنما نشروا الرعب والفزع في البيوت ، والمتبادر عقلاً أن العدو إذا صار على بعد (6) كيلو متر عن وسط المدينة ، وجاء بجيوش لا قبل لها بها ، وعدة وخيل وأسلحة حادة وسيوف قاطعة فلابد أن يدب الخوف بين أهلها ، ولكن الآية تنفي الخوف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه . وتبين أن إنتفاء هذا الخوف من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، إذ خرج من أهله ، وهو يهيئ المهاجرين والأنصار . وتبين الآية قلة أسلحة وخيل المسلمين إذ اكتفت بذكر المؤمنين ومواقعهم في القتال ، فليس فيها توزيع أسلحة أو ركوب الخيل ، وهو الذي تدل عليه الوقائع التاريخية ، فقد كان عدد جيل المشركين يوم معركة أحد مائتا فرس لم تركب ظهورها في الطريق إلى المعركة ، وثلاثة آلاف بعير بعدد أفراد جيش المشركين ، وسبعمائة درع ، ويتألف الجيش من قريش وحلفائهم من الأحابيش وثقيف ،وحامل لوائهم هو عبد العزى طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار. أسرار خاتمة آية (وَإِذْ غَدَوْتَ) مع قلة كلمات الآية أعلاه فانها أختتمت بثلاثة من أسماء الله الحسنى وهي : الأول : اسم الجلالة. الثاني : (سميع). الثالث : (عليم). وفيه بيان لحضور رحمة الله بالمؤمنين يوم أحد ، وبطشه بالذين كفروا ، وفي التنزيل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ). ومن معاني ورود اسم (السميع) في الآية البشارة بأن الله عز وجل سمع دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم أحد وما قبله ، وهو سبحانه يسمع مناجاة الذين كفروا وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعزم على جعل أصحابه بين قتيل وأسير. ومن معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] في هذه الآية استجابة الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخيبة المشركين في مقاصدهم الخبيثة ، قال تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ). وهل من معاني قوله [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، سماع الله عز وجل لمناجاة المشركين وهم في مكة بارادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يعلم الله عز وجل رسائل التهديد والوعيد التي تبعثها قريش إلى المهاجرين والأنصار ، الجواب نعم ، ليتفضل الله عز وجل برجوع كفار قريش من معركة أحد بخيبة وقنوط وانكسار ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ). وبينما إبتدأت آية البحث بالإخبار والخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها اختتمت بثلاثة من أسماء الله عز وجل لبيان نصرة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ). ومن إعجاز القرآن عدم ورود لفظ (لننصر) في القرآن إلا في قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ). ومن أسرار خاتمة آية (إذ غدوت) ترغيب المؤمنين والناس جميعاً بالدعاء للمدد والعون وصرف الظلم والإرهاب . و(عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم)( ). ومن مواطن استجابة الدعاء عند التقاء الصفوف ، لذا فان آية البحث بعث للمسلمين للدعاء ، خاصة مع أصل الإستصحاب بتجلي منافع دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشية وصبيحة يوم بدر ، وهل كان لهذا الدعاء موضوعية بنزول النصر من عند الله يومئذ بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، الجواب نعم. تفسير الآية بالتقدير وفيه وجوه : الأول : وإذ غدوت يا رسول الله. الثاني : وإذ غدوت من أهلك والوحي مصاحب لك و(عن ابن عباس قال : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً ، فعير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه ، فأنزل الله [وَ الضُّحى وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى]( )، يعني أقبلما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى( ).
الثالث : وإذ غدوت من أهلك لصد الغزاة المشركين .
الرابع : وإذ غدوت من أهلك لبيان سقوط الجهاد عن النساء ، وبقائهن في البيوت ، إذ وردت الآية بصيغة التذكير ، ومنه [تبوء المؤمنين].
الخامس : وإذ غدوت والوحي مصاحب لك .
السادس : وإذ غدوت محارباً للإرهاب .
السابع : وإذ غدوت ومئات من أصحابك يحيطون بك فاذكر خروجك من مكة خائفاً ليس معك إلا فرد واحد من الصحابة ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثامن : وإذ غدوت من أهلك بالدعاء وسؤال الله عز وجل النصرة.
التاسع : وإذ غدوت من أهلك ليبشرك الله عز وجل بالعودة إليهم سالماً ، وهو من أسرار ذكر الأهل في الآية أعلاه .
العاشر : وإذ غدوت والمهاجرون والأنصار من أهليكم وخرجتم عن بيوت المدينة للقاء المشركين .
الحادي عشر : وإذ غدوت للدفاع ، ففي كل مر يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب استطلاع ودعوة ، أما في أحد فانه خرج للدفاع وليس بين خروجه من المدينة وبين قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، إلا ساعات معدودة .
مسائل في (وَإِذْ غَدَوْتَ)
قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ]خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتضمن الخبر والتوثيق ، وتستقرأ منه مسائل :
الأولى : حب وإكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل.
الثانية : إذ (غدوت) بصفة الرسالة ، وسيأتي تفصيل في باب تفسير الآية بالتقدير.
الثالثة : بيان شدة الأهوال التي تلاقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل .
الرابعة :قانون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عين الله عز وجل .
الخامسة :إتصال نزول القرآن على النبي قبل وبعد معركة أحد.
السادسة : إنتفاء الخوف أو الجبن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
السابعة : الثناء على الصحابة لمبادرتهم للإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التهيئة للدفاع.
الثامنة : قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد دفاع محض ، فلم يخرج من بيته إلا بعد أن علم بوصول جيوش المشركين إلى أطراف المدينة.
وهل ذات هذا الوصول من الإرهاب ، الجواب نعم .
التاسعة : لم تقل الآية مقاعد للهجوم أو الغزو ، إنما هي [مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، للتذكير بشروط القتال ووجوب التنزه عن التعدي والظلم ، كما في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
لبيان أن إتخاذ مواقع للقتال غير القتال ، وقد لا يقع معها قتال ، وهي مرحلة سابقة لقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
العاشرة : وإذ غدوت من أهلك وغدا المؤمنون من أهلهم للقتال.
لماذا لم تقل الآية (مقاعد للدفاع) لقد وردت الآية صريحة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل أصحابه في مواضعهم للقتال وهو يدل على إرادة الدفاع المحض.
لبيان الحجة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن غازياً في معركة أحد من وجوه :
الأول : النسبة بين القتال والدفاع عموم وخصوص مطلق ، فالقتال أعم.
الثاني : يتجلى معنى الدفاع في الآية بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته لجعل الصحابه في مواضع القتال.
الثالث : لم يقطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسافات ويعبر أودية ليلاقي المشركين ، إنما هم الذين صاروا على مشارف المدينة.
الرابع : ذكر لفظ الـ [مَقَاعِدَ] ( ) شاهد على إرادة الدفاع ، وصدّ المشركين في هجومهم.
فمن إعجاز الآية والدلائل الباهرة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب القتال ، ولم يأمر أصحابه من المهاجرين والأنصار بطلب المبارزة أو بالهجوم على ميمنة أو ميسرة المشركين إنما فقط يجلس الصحابة في مقاعد للدفاع.
الخامس : جمع الآية بين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهله في المدينة وبين الوصول إلى موضع معركة أحد ، فليس ثمة مسافة تذكر بينهما ، لبيان أن الصحابة لم يتناجوا في الطريق إلى المعركة بالهجوم ومباغتة العدو ، ورميهم بالسهام ، إنما هم يمتثلون لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في مواقعهم.
لتكون آية البحث [وَإِذْ غَدَوْتَ] من آيات السلم مع تعلق موضوعها بمعركة أحد ، وهي محكمة وسالمة من النسخ لأنها إخبار والنسخ لا يتعلق بالأخبار.
السادس : دلالة الشواهد التأريخية ، ووقائع معركة أحد على أن خصوص تعيين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مواضع الدفاع لأصحابه وليس الهجوم ، فقد التقى الجمعان وابتدأ المشركون برمي الحجارة والسهام ، ويرد عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء باعلى صوته (قولوا لا اله الا الله تفلحوا).
ثم تقدم حامل لواء المشركين طلحة بن عبد الله بن عبد العزى من بني عبد الدار وهو مشهور باسم طلحة بن أبي طلحة وطلب المبارزة وأصر عليها ، فخرج له الإمام علي عليه السلام وصرعه وسقط اللواء أرضاً.
الآية الثانية : بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ.
الآية الثالثة : وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
لبيان أن نزول الملائكة يوم بدر بشرى وتعضيد وأمل للمسلمين وأجيالهم المتعاقبة ، ومعنى الضمير الهاء في (جعله) وجوه :
الأول : نزول الملائكة يوم بدر وأحد ، مدداً من عند الله.
الثاني : كثرة عدد الملائكة .
الثالث : قتال الملائكة يوم بدر .
الرابع : نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر .
الخامس : قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
فصحيح أن هذه الآية إخبار ولكنها تتضمن معنى البشارة المتجددة إلى يوم القيامة وهو من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات آيات وسور القرآن كل يوم ، وسلامة القرآن من التحريف .
السادس : المدد الملائكي بشرى لتحقيق النصر يوم بدر ، لبيان أن موضوع البشارة هو عند ابتداء ووقوع القتال إذ اختتم بتحقق مصداق البشارة بالنصر.
الآية الرابعة : لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ.
الآية الخامسة : لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
الآية السادسة : إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ.
و(عن المسور بن مخرمة قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف يا خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد .
قال : اقرأ بعد العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا { وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال }( ) إلى قوله { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا }( ) .
قال : هم الذين طلبوا الأمان من المشركين إلى قوله { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه}( ).
قال : هو تمني المؤمنين لقاء العدو إلى {أَفَإنْ مات أو قتل انقلبتم}( ) قال : هو صياح الشيطان يوم أحد : قتل محمد إلى قوله {أمنة نعاساً}( ) قال : ألقي عليهم النوم)( ).
و(عن جابر بن عبدالله قال : فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا }( ) وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله {والله وليهما })( ).
الآية السابعة : [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ), ( ).
الآية الثامنة : [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ), ( ).
الآية التاسعة : وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ.
الآية العاشرة : [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ), ( ).
الآية الحادية عشرة : وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
الآية الثانية عشرة : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.
الآية الثالثة عشرة : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ.
الآية الرابعة عشرة : وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
والآية واقية من دبيب الخوف والفزع والرعب إلى قلوب الصحابة يوم أحد ، خاصة وأن عدد جيش المشركين أكثر من أربعة أضعاف عددهم مع زيادة في نسبة الأسلحة والخيل والظهر .
لقد تجلت معجزة في معركة بدر بأن كان المشركين ينظرون إلى الصحابة وكأنهم ضعف عدد المشركين .
فقد كان عدد الصحابة يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ولكن المشركين صاروا يرونهم وكأنهم ألفان ، قال تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
وقيل يحتمل أن المشركين يرون الصحابة ضعف عدد الصحابة أنفسهم أي ستمائة وستة وعشرين ، وهو بعيد.
و(عن ابن مسعود في قوله [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ]الآية . قال : هذا يوم بدر فنظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وذلك قول الله [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ]( ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ]الآية . قال : أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين ، كانوا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وكان المشركون مثليهم ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين فكان هذا في التخفيف على المؤمنين)( ).
والصحيح أن عدد المشركين هو نحو ألف .
الآية الخامسة عشرة : [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الآية السادسة عشرة : بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ.
الآية السابعة عشرة : إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
الآية الثامنة عشرة : وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
الآية التاسعة عشرة : [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ), ( ).
الآية العشرون : [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ), ( ).
الآية الواحد والعشرون : وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
الآية الثانية والعشرون : فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.
الآية الثالثة والعشرون :يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ.
الالآية الرابعة والعشرون : [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الآية الخامسة والعشرون : [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ).
الآية السادسة والعشرون : [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
لبيان فضل الله عز وجل في لإلقاء سبب التوالي وإنهزام طائفة من الصحابة على الشيطان الذي استزلهم وأخافهم لبعض ما ارتكبوا من المعصية ، وقد عفا الله عز وجل عنهم ، ولكنه لا يعفو عن المشركين إلا أن يتوبوا ويؤمنوا ، ولا يعفو عن الشيطان إنما هو ملعون ، وحينما طرد الله عز وجل ابليس من الجنة خاطبه عز وجل [قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ *إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ] ( ).
ولا تهنوا ولا تحزنوا أي لا يصيبكم اليأس والقنوط والفتور بسبب ما أصابكم يوم أحد وسقوط سبعين شهيداً منكم .
قانون قبح انفاق المشركين
هناك مسألتان :
الأولى : هل عجز قريش عن إقراض الأموال بعد معركة بدر معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
ليتجلى قانون من الإرادة التكوينية وهو إبتلاء الذي يحاربون النبوة والتنزيل بأحب ما عندهم ، وجعلهم حيارى وفي إرتباك وضعف رأي .
لقد غابت الحكمة والسداد عن كفار قريش وهل اضطرت قريش للإقتراض وإرجاء بعض الديون التي عليها لتجار الشام واليمن وغيرهم ، المختار نعم وهو من معاني الحسرة في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه ورد عن سعيد بن جبير قال (نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى من استجاش من العرب ، فأنزل الله هذه الآية ، وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك :
وجئنا إلى موج من البحر وسطه .. أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية … ثلاث مئين إن كثرن فأربع)( ).
الثانية : هل هذا العجز من مصاديق ورشحات نصر الله عز جل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، الجواب نعم ، وهو من أسرار صيغة الجمع في الآية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
لبيان مسألة وهي إنتقال الصحابة من حال الذل والضعف إلى حال المنعة والقوة يوم بدر لم ينحصر بالنصر والغنائم يومئذ ، إنما يشمل لحوق حال الوهن والضعف ونقص الأموال عند مشركي قريش ، وتضرر حلفائهم بهذه الحال والنقص.

قانون سلامة النبي (ص) يوم أحد معجزة
من إعجاز القرآن ورود لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، ثلاث مرات فيه هي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( )، وتتعلق بمعركة أحد( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتبين كل من الآيات الثلاث ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة من الأذى يوم بدر ، وفي معركة أحد بسقوط سبعين شهيداً يومئذ ، منهم حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في حال دفاع فلم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة للقاء جيوش المشركين إلا بعد أن صاروا على بعد (6) كيلو متر عن وسطها.
ومن الإعجاز في المقام قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، وذكر الخروج من الأهل واقترانه باعداد الصحابة للدفاع حجة بأن هذه المعركة ليست غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي دفاع محض ، وأن الخسارة التي أصابت المسلمين يومئذ بسبب غزو المشركين للمدينة ، وإردتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون هذه الخسارة وكثرة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد بعد أن صارت حجارة المشركين تصل إليه.
ومن الآيات والشواهد على دنو القتل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة الجراحات التي أصابته ومنها في رأسه ووجهه وجريان الدم من وجنته.
لقد كانت نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة بدر ومعركة أحد ، ومعركة الخندق معجزة حسية جلية وفق موازين القتال ، وهي خلاف قاعدة السبب والمسُبَب.
وليس من إرهاب أشد من قصد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عقر دارهم ، وفي بلدتهم ، وهو من معاني قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ترى لماذا لم تذكر الآية أعلاه المؤمنين بصفة الجار والمجرور فلم تقل تبوئ للمؤمنين مقاعد ، الجواب لبيان موضوعية كل فرد من الصحابة يوم أحد ، وأن الله عز وجل ينظر إليهم بعين الرحمة والرأفة ، ويجازيهم على إيمانهم ، فموضوع الإختيار والعناية هو المؤمنون وليس المقاعد الذي ورد مفعولاً ثانياً في الآية.
قانون نجاة النبي (ص) من القتل معجزة
من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن سنته مرآة للقرآن ، فليس من تزاحم أو تعارض بينهما ، وكل منهما دليل شرعي ، وأصل لإستنباط الحكم .
ومن الآيات في المقام تعدد مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومنها إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة واتخاذه العفو منهاجاً.
وهل يمكن القول بالتضاد بين النبوة وبين طلب الغزو والقتال ، الجواب نعم ، فمن خصائص الأنبياء عدم تجهيز الجيوش لغزو المدن والقبائل ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الجواب إنه قتال دفاع بدليل وصف صحابة النبي في الآية أعلاه بأنهم ربانيون مجتهدون في طاعة الله ، ومن مصاديق هذا الإجتهاد التنزه عن التعدي وعن الإرهاب.
لقد تجلت في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مشركي قريش وحلفائهم قوانين :
الأول : قانون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاع محض .
الثاني : قانون كل من معركة أحد ومعركة الخندق حجة على اضطرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع .
الثالث : قانون نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القتال معجزة.
وهل هذه المعجزة متحدة أم متعددة بلحاظ كثرة المعارك التي خاضها ، الجواب هو الثاني ، لتتفرع عن هذا القانون عدة قوانين منها :
الأول : قانون نجاة النبي محمد يوم بدر معجزة حسية.
الثاني : قانون نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد معجزة حسية.
الثالث : قانون نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : قانون نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال معجزة.
وتتعدد هذه المعجزات مع كثرة محاولات قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون المعجزة في المقام من مصاديق قوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ليكون من مكر الله عز وجل وجوه :
الأول : نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
الثاني : قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام السلم.
الثالث : قانون الواقية الملكوتية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام الحل والأشهر الحرم.
الرابع : قانون سلامة التنزيل من الإنقطاع ، فما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً فان آيات القرآن تترى في نزولها ، وما دامت آيات القرآن تنزل من عند الله فان النبي محمداً سالم من القتل ، وهل يترتب الدور بينهما ، الجواب لا .
للتباين الجهتي ولبديع صنع الله ، ولطفه ، وإحسانه ، وكثرة النعم التي يتفضل بها الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وهل دفع وصرف شرور قريش في معركة أحد من معاني الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية المتقدمة في أول البحث [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم.
قانون كتائب النبي (ص) دعوة إلى الله
لقد كانت كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألوية سلام وأمن ، وبيان عملي وحجة ظاهرة بأنه لا يريد من الناس إلا الإقرار بالتوحيد ، وأن رسالته بركة متصلة .
ترى ما هي النسبة بين الرحمة العامة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وبين البركة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالرحمة أعم ، والبركة إحدى مصاديقها لبيان قانون وهو الرحمة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اللامتناهي من جهات كثيرة منها :
الأول : الموضوع .
الثاني : أفراد الزمان الطولية .
الثالث : النفع العام والخاص.
الرابع : صرف البلاء ، ومحو الأذى وهو مصاديق الآية أعلاه [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهو يختص المحو في المقام بالمسلمين أم يشمل أهل الكتاب وعامة الناس ، المختار هو الثاني لصيغة العموم في قوله تعالى [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في الآية أعلاه.
الخامس : قانون تعدد مفاتيح الرزق .
السادس : الأمن والسلام .
ومن الآيات إنقطاع الغزو والإقتتال بين القبائل بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
ويشتاق الناس لرؤية الرؤساء ، بينما يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعظم من في الأرض على أفواه قراهم يتلو عليهم القرآن ، ويجيب على اسئلتهم ويحيط به أصحابه الذين ينقادون إلى نبوته ، في شهادة تأريخية خالدة على العصر.
لذا أكرمهم الله عز وجل بتسمية عز وفخر خاصة فقال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وقيل للصحابي أنس بن مالك (هذا الاسم الأنصار أنتم سميتموه أنفسكم أو الله تعالى سماكم من السماء؟ قال : الله تعالى سمانا من السماء)( ).
وهذه التسمية من جهات :
الأولى : السابقون : أي في الهدى والإيمان وتصديق النبوة ، والتنزيل ، وتعضيد ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل السابقون الأولون هم الذين اسلموا في بداية الدعوة الإسلامية أم يشمل المهاجرين والأنصار ، الجواب هو الثاني .
وقال الشعبي ({والسابقون الأولون} قال : من أدرك بيعة الرضوان ، وأول من بايع بيعة الرضوان سنان بن وهب الأسدي)( ).
ولعل في الخبر أعلاه زلة قلم من النسُاخ فهو (أبو سنان) كما في خبر ابن عبد البر( )، وقيل أول من بايع يوم الحديبية ابنه سنان بن أبي سنان.
قال الواقدي (أول من بايع بيعة الرضوان سنان بن أبي سنان بايعه قبل أبيه)( ).
لقد كان كل صحابي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائبه أو يخرج في السرايا أو يكون الى جانبه في المسجد النبوي والمدينة ، ومصاحباً له شاهداً على صدق نبوته ، ودعوة شخصية للناس , ولدخول الإسلام ، وللإمتناع عن الحرب والقتال والإرهاب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]( ).
ومعركة نهر طلاس التي وقعت سنة 133 هجرية الموافق سنة 751م وهي أول وآخر معركة وقعت بين المسلمين والصين لتأمين حدود الدولة الإسلامية من جهة الشرق أيام أبي جعفر المنصور.
والتي وقعت على ضفاف نهر الطلاس بجمهورية قرغيزيا ، وكانت الخسائر البشرية كبيرة من الطرفين وانتهت بانتصار المسلمين ، وأسرهم نحو عشرين ألفاً أرسلوا إلى بغداد وكان فيهم عدد من صناع الورق فنقلوا صناعة الورق إلى بغداد ثم انتشرت إلى الشام ومصر والأندلس وأوربا وغيرها من بلاد العالم.
أصالة الإستصحاب في كتائب النبي (ص)
الإستصحاب لغة طلب المصاحبة والرفقة ، يقال : استصحب الشئ : لازمه .
أما في الإصطلاح الأصولي فهو ثبوت حكم أو أمر أو حال أو نفيه في الزمن الحاضر أو المستقبل إرتكازاً على ثبوته أو عدمه في الزمن الماضي لعدم طرو دليل على تبدله وتغييره.
فمثلاً الأصل في الماء الطهارة حتى تثبت بدليل نجاسته ، ومثلاً تمام عدة الشهر إذا لم تتم رؤية الهلال في ليلة الشك ثلاثون يوماً ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) والأصل بقاء الملك على مالكه حتى يثبت نقل الملكية بدليل ، كالبيع أو الهبة أو الإرث .
ولو دار الأمر في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة مع أصحابه من المدينة هل كان غزواً أو لا ، فيستصحب موضوع الخروج السابق ، وليس من غزو في المقام.
فقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه في السنة الأولى للهجرة عدة مرات ، ولم يقع فيها قتال ، ولم يغز أحدا وكانوا يمرون على قرى المشركين ، وإبلهم وغنمهم وأموالهم فلم يأخذ منها شيئاً .
وهل يمكن استصحاب حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة للدلالة على سنخية كتائبه ، وأنها ليست قتالية ، الجواب نعم ، وقيل نزلت آيات القتال في المدينة .
الجواب هذا صحيح ولكنها آيات دفاع محض ، فلم تنزل إلا بعد أن اشتدت هجمات المشركين على المدينة ووصول كتبهم إلى المهاجرين والأنصار بالوعيد.
وهذه الآيات مقيدة بحال الدفاع ، وأن يكون في سبيل الله ، مع التنزه عن التعدي وما يغضب الله عز وجل ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
قانون صبر وامتناع النبي عن سفك الدماء
لقد جعل الله عز وجل السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وهل إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو والقتال الإبتدائي مما أتى به ، الجواب نعم ، لأن هذا الإمتناع أمر وجودي ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان منهاج رسالي .
الثانية : تجلي مصداق عملي للوحي.
الثالثة : إحياء سنن الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كانت بين الرسول عيسى عليه السلام والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فترة ستمائة سنة.
ومن معجزات عيسى عليه السلام ولادته من غير أب من مريم البتول العذراء ،وهذه المعجزة تحتاج تعضيداً ، وتخفيفاً عن الناس للتصديق بها ، والذي لا يكون إلا بمعجزة ، فانطق الله عز وجل عيسى وهو في المهد صبياً ، قال تعالى [يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ).
ولو تم فحص D.N.A والمادة الوراثية في الإنسان ، والصفات الموروثة من الآباء إلى الأبناء .
لتجلت المعجزة والحجة لفقدان العلة المادية الشرعية لتكون الولد بوطئ الزوج لزوجته ، ولم يعلموا أن العلة الفاعلية والمشيئة الإلهية حاضرة لإيجاد وولادة المعجزة من غير أب ، فلا يخرج في تحليل عيسى عليه السلام إلا جينات أمه مع قانون طهارة مولد كل نبي.
و(عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خَرَجْتُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ مِن ْ نِكَاح غَيْر ِسِفَاح)( ).
فالذين عاصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يدركوا هم وآباؤهم أيام الأنبياء السابقين فأحيت سنة النبي محمد منهاجهم من وجوه :
الأول : قانون حمل الأنبياء لألوية السلام.
الثاني : قانون الأنبياء أئمة الصبر .
الثالث : قانون دفع الأنبياء مقدمات القتال .
الرابع : قانون اقتران المعجزة بشخص النبي.
الخامس : قانون صبر الأنبياء على أذى قومهم ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
ويحتمل المراد من الرسل في الآية أعلاه وجوه :
الأول : إرادة الرسل الأربعة أول العزم وهم نوح ، إبراهيم ، موسى ، عيسى عليهم السلام ، وهو المروي عن ابن عباس( )، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام( ).
الثاني : المقصود الرسل الثمانية عشر الوارد ذكرهم في سورة الأنعام ، قال تعالى [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : ورد (عن أبي العالية [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( )، قال : نوح وهود وإبراهيم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا وكانوا ثلاثة ورسول الله صلى الله عليه وسلم رابعهم.
قال نوح [يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ]( )، إلى آخرها فظهر لهم المفارقة وقال هود حين قالوا [إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ]( )، فأظهر لهم المفارقة.
قال لإِبراهيم [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ]( )، إلى آخر الآية فأظهر لهم المفارقة.
وقال يا محمد [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة فقرأها على المشركين فأظهر لهم المفارقة)( ).
الرابع : المراد الرسل جميعاً ،وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فان قلت ورد حرف التبعيض (من الرسل) ، والجواب المراد الرسل من مجموع الأنبياء وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي.
الخامس : المراد خصوص الأنبياء والرسل الذين تحملوا الأذى ، وأصابهم الضرر من الكفار.
السادس : جميع الأنبياء والرسل ، والمراد من حرف الجر (من) في قوله تعالى (من الرسل) بيان الجنس.
والمختار عدم التعارض بين هذه الوجوه لأن الأذى الذي تلقوه من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متفاوتة ، إنما المقصود من التبعيض والأولوية والتأسي بالرسل الذين لاقوا أشد الأذى من المشركين .
والمراد من أولي العزم أهل الصبر في طاعة الله ، والثبات على الإيمان ، والإجتهاد في الدعوة إلى الله مع شدة الأذى فلم يمنعهم جحود المشركين .
وهل يمكن المراد لزوم صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل صبر الأنبياء والرسل السابقين على نحو العموم المجموعي وليس الإستغراقي ، فكما أن ما عند الأنبياء السابقين من المعجزات هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فان أفراد الأذى التي لاقاها الأنبياء مجتمعين لاقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب لا دليل عليه ، والله عز وجل هو الرؤوف الرحيم ، وهو الذي يخفف عن الأنبياء والمؤمنين وعامة الناس ، وقد تغشى الله عز وجل بفضله ورحمته النبي محمداً ، قال تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمً]( )، نعم لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى من قومه ، و(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَأُخِفْتُ مِنْ اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِعِيَالِي طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا مَا يُوَارِي إِبِطَ بِلَالٍ)( ).
ولا يختص الأمر بالصبر في آية البحث أعلاه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما تلحق به الأمة ، كما جاءت آيات بالأمر بالصبر بصيغة الجمع والخطاب إلى المسلمين والمسلمات كما في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
ومن صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمتناعه عن الغزو وعن الإبتداء بالقتال ، وعن سفك الدماء .
ومنه ملاقاته أذى المشركين بالعفو عنهم ودعوتهم للإيمان ، وما أن حلّ شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة حتى اضطر مشركو مكة عقد صلح الحديبية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وما أن دخل النصف الثاني من السنة الثامنة للهجرة حتى كان أكثر أهل مكة من المسلمين ، وصاروا يتطلعون لدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة.
وتكسير الأصنام التي نصبت في البيت الحرام.
قانون معجزات النبي (ص) التأريخية
وتسمى هذه الغزوة غزوة السويق ، وموضوعها من أظهر الأدلة على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) من جهات :
الأولى : نذر أبي سفيان والمدينة بارادة الغزو .
الثانية : تعيين أبي سفيان الغاية من الغزو ، وهي إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : عزم أبي سفيان على التعجيل بالغزو ، لأنه قال (لا يغسل رأسه من جنابة حتى يغزو) أي يمتنع عن النساء إلى أن يغزو.
الرابعة : المقصود من قول أبي سفيان (حتى يغزو محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمدينة)
طلب قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه ليس على سبيل القطع ، فيدل ذات النذر على إرادة أبي سفيان الغزو ، وإصرارهم على الهجوم ، والعجز عن الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعل موضوع النذر مسمى الغزو .
ويستقرأ منه حصول الإتحاد والجمع بين :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : النبوة .
الثالث : المهاجرون والأنصار .
الرابع : أهل المدينة المنورة .
الخامس : ذات وشأن المدينة .
وهل هو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التأريخية .
الجواب نعم ، وهو باب مستحدث من العلم تستقرأ منه المواعظ ، وهل ذات كتيبة السويق من المعجزات التأريخية ، الجواب نعم ، إذ ينذر أحد أكبر رؤساء الشرك في مكة غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ويقود جيشاً عظيماً مجهزاً بالأسلحة والمؤون والسويق ، وهو طعام من الحنطة أو الشعير.
أو الإرز معجون ومعمول بالسمن ، ويقلى بالنار ، ويحمص ويتصف بطول مدة بقائه صالحاً للأكل .
وفي قوله تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( )كان شطر من الناس يحضرون إلى مكة في موسم الحج ، وليس معهم زاد توكلاً على الله ، ورجاء إطعام المحسنين لهم ، فنزلت الآية أي خذوا معكم من الزاد ما يكف وجوهكم ، ويمنع من السؤال والحرج ، ويخفف عن وفد الحاج الآخرين ، قال تعالى [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ]( ).
وعن سعيد بن جبير [وَتَزَوَّدُوا] السويق والدقيق والكعك.
قانون مصاحبة الندامة للكفر
الندم هو كيفية نفسانية ، وشعور بالأسى والحسرة والحزن على فعل.
وقال الشاعر :
وأقبَلَتْ يومَجدّ البينُ في حُلَلٍ … سودٍ تعَضُّ بَنانَ النّادِم الحَصِرِ( ).
ويصيب الندم الشخص على فعل صادر منه في الغالب ، وقد يترتب الندم على فعل الغير ، أو على فعل الجماعة وقد يكون على فعل متقدم زماناً من السابق أو المورث وجلب الأذى أو الضرر على اللاحق والوارث .
وقد قامت قريش بايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة فاختاروا الهجرة بوحي وتوفيق من الله عز وجل.
فوقعت قريش بالضلالة والخطأ الفاحش والظلم للذات والغير بأن جهزت الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان رجالات قريش قادة هذه الجيوش في كل من معركة بدر وأحد والخندق.
لتنفذ الندامة إلى بيوتهم ومجتمعاتهم وتظهر جلية في الدار الآخرة ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وهل صاحبت الندامة قريشاً عند عقد صلح الحديبية ، الجواب نعم ، وهل هذه الندامة بخصوص إمضاء العقد أم قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
لبيان عدم انحصار الحسرة التي تلحق المشركين بعالم الحساب والآخرة ، إنما تكون أيضاً في الدنيا ، فقد أدرك المشركون يوم صلح الحديبية أن الأموال التي أنفقوها في قتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل لم تؤد إلا الى رفعة الإسلام ، وتأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
وهل استيلاء الندامة على كفار قريش متفرقين ومجتمعين موضوعية في رضاهم بصلح الحديبية ، الجواب نعم.
لتكون هذه الندامة على وجوه :
الأول : تعدد موضوع وأسباب ندامة المشركين ، وسيأتي قانون بخصوصه.
الثاني : ندامة المشركين من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
والنسبة بين الرعب والندامة عموم وخصوص من وجه وقد يكون كل منهما من رشحات الآخر من غير أن يترتب عليه الدور .
الثالث : ندامة قريش سبب للفرقة والشقاق بينهم.
الرابع : حمل قريش على الرضا بصلح الحديبية وحق الناس في دخول الإسلام ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والإمتناع عن القتال عشر سنين.
قانون الإنفاق الضائع
لقد كان إنفاق المشركين على كل معركة ضد النبوة مثل معركة بدر وأحد والخندق أضعافاً مضاعفة لما ينفقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وهي نحو سبعين ضعفاً ، ومع هذا تكون الخسارة والخيبة بانتظار المشركين.
وقد وردت الآية أعلاه بصيغة المضارع [يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ] وجاءت الحسرة قبل هزيمتهم لقوله تعالى [ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ].
ولم يرد لفظ (ليصدوا) و(سينفقوها) و(يغلبون) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وورد قوله تعالى [فَسَيُنفِقُونَهَا] لبيان عدم تدبر المشركين بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إتعاظهم من هزيمتهم المتكررة.
ومن مصاديق الجمع بين مادتي الإنفاق في الآية أعلاه (ينفقون) (فسينفقوها) وجوه :
الأول : انفق مشركو قريش أموالهم في معركة بدر وسينفقونها في معركة أحد.
الثاني : انفق المشركون أموالهم في معركة أحد ، وسينفقوها في معركة الخندق.
الثالث : انفق المشركون أموالهم في التحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة إغتياله ، وسينفقون الأموال في قتاله.
الرابع : أنفق المشركون أموالهم في قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المدينة فسيصيبها النقص ، وتركبهم الديون ، ويتخلى عنهم الأعوان والأتباع خاصة مع توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي ذات يوم معركة أحد ورد قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) ( )، وقد تقدم قانون (ليس من أحد أظهر العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ندم على هذه العداوة , وتاب عنها)( ).
لقد نزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، عندما عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلح الحديبية لبيان أن الصلح فتح ونعمة عظمى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
عن عبد الله بن مسعود قال (لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم.
قال : فقلنا : امضوا .
فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي.
قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبنها، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي .
قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه ، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا( ).
لقد كانت الأموال تأتي إلى قريش من التجارة مع الشام واليمن وغيرهما ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
كما تأتي من أسواق مكة خاصة في موسم الحج ، أما النفقات فهي محدودة ومعلومة ، لذا فهم يقومون باقراض أفراد القبائل ، ولكن ما إن وقعت معركة بدر حتى توجه إنفاق قريش إلى الإفراط والمبالغة في شراء الأسلحة ، وتحشيد الجيوش ، وسخروا إبل التجارة إلى قتال النبوة والتنزيل فلحقهم الخزي وتعطلت تجاراتهم وقوافلهم ، وركبتهم الديون وهي علامة وأمارة لتجار الشام باجتناب إعانتهم في حربهم وقتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد ذهبت أموال قريش هباءً وستكون وبالاً عليهم في الآخرة إلا من أدركته التوبة والإنابة ، وهذا الذهاب والتفريط من أسباب رضا المشركين بصلح الحديبية رجاء إصلاح أحوالهم [وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ]( ).
قانون الجامع المشترك بين كتائب النبي (ص)
من خصائص كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن النسبة بينها عموم وخصوص من وجه لمادة إلتقاء وإفتراق بينها وهي:
الأول : مادة الإلتقاء بين جميع كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تسمى غزوات وعددها نحو سبع وعشرين كتيبة .
الثاني : مادة الإلتقاء بين كتيبتين أو أكثر .
الثالث :مادة الإفتراق بين الكتائب لخصوصية تنفرد بها كل كتيبة ، وهو من الإعجاز في السنة النبوية ، وبدائع الوحي ، وحضوره في حلّ وترحال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
ويتجلى قانون وهو المنافع العامة التي تتصف بها كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى ، ومنها :
الأولى : قانون تجلي الإعجاز في منهاج وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي كل كتيبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هناك وجوه مشرقة من الإعجاز والبراهين التي تدل على صدق نبوته .
الثانية : قانون بيان صدق النبوة في الكتائب .
الثالثة : إظهار عز المؤمنين ، فقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في هجرته إلى المدينة خائفاً يخشى القتل ليس معه إلا فرد واحد من أصحابه ليهزم في أقل من سنتين جحافل قريش في معركة بدر.
واستحضار التمايز بين حال الهجرة ومعركة بدر ، مع قصر المدة بينهما معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال ابن هشام (ثُمّ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى ، الّتِي قَتَلَ اللّهُ فِيهَا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ)( ).
فنسب قتل المشركين إلى الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
وكأنه من التسالم على أن النبي محمداً لم يغز قريشاً في هذه المعركة.
وفي كل كتيبة من كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتجدد مصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
الرابعة : قانون تمرين الصحابة على الصبر والتحمل في سبيل الله .
الخامسة : قانون تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة عن النهب والسلب ، فقد كانوا يمرون على قرى المشركين من غير أن يتعرضوا لأنعامهم وأموالهم ومزورعاتهم ومراعيهم .
السادسة : قانون تنمية ملكة المرابطة عند الصحابة بقصد القربة لمدة شهر أو أكثر أو أقل خارج المدينة مع قلة الزاد والظهر [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السابعة : تجلي قانون طاعة الصحابة لله عز وجل ورسوله ، وانقيادهم لأوامره ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
الثامنة : زجر المشركين عن التعدي على المدينة المنورة وغزوها ، ولم يكن عند المسلمين مصر إلا هي ، فليس من مدينة أخرى ينسحبون إليها إذا تعرضوا لهجوم شديد لذا في معركة الخندق بقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه محاصَرين لنحو عشرين ليلة ، ليس لهم من ناصر إلا الله عز وجل ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
التاسعة : عصمة واستقرار المدينة المنورة في حال حضور وإقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحال غيبته عنها ، والذي لم يخرج منها إلا في الكتائب ، كما خرج في كل من :
الأول : صلح الحديبية بقصد العمرة لولا صدّ المشركين له في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
الثاني : عمرة القضاء في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة .
الثالث : فتح مكة ، وهذ الفتح من عامة الكتائب إلا أن له خصوصية لما فيه من أداء لمناسك العمرة ، ومعجزة الفتح ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الرابع : حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودّع الناس فيها ، وتسمى أيضاً :
الأول : حجة البلاغ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلّغ أحكام الحج بالقول والفعل .
و(عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول : كتب عليكم السعي)( ).
حديث (صلوا كما رايتموني أصلي) هل يشمل الكفار.
الثاني : حجة الإسلام ، ونزل بعدها قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( )، ولم يحج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة غير حجة الوداع ، إنما حج من مكة قبل الهجرة.
وأختلف في أوان نزول فريضة الحج على أقوال :
الأول : سنة ست للهجرة .
الثاني : سنة تسع للهجرة .
الثالث : سنة عشرة للهجرة .
ولم يـتأخر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أيام حجة الوداع ،فقد عاد إلى المدينة قبل إنقضاء شهر ذي الحجة ، وأقام فيها شهر محرم وشهر صفر ، قال ابن إسحاق (بعث أسامة بن زيد فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بشكواه الذي قبضه الله فيه) ( ).
العاشرة : دعوة الناس للإسلام ، وصيرورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قريباً منهم ، فتطل أنوار النبوة على قراهم وتنفذ آيات القرآن وتلاوتها إلى بيوتهم ، وترسخ في أذهانهم أفعال الصلاة من قيام المسلمين صفوفاً بخشوع بين يدي الله عز وجل ، وركوع وسجود لم ير مثله أهل الجزيرة .
وهل من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه الإمام في القيام والركوع والسجود في الصلاة ، الجواب نعم.
وفيه منع للغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل بالأولوية القطعية على الزجر عن الغلو بالأئمة والأولياء .

قانون معجزة النصر خلاف الأسباب
الشواهد على تحقيق النصر بخلاف قاعدة الأسباب المادية ومسبباتها كثيرة في تأريخ الموحدين كما تقدم في قصة طالوت وقوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) .
ولكن الآية في بدر لم تنحصر بالقلة مقابل الكثرة بل ببداية انشاء جيش المسلمين، وعصر تأسيس قواعد البناء الإسلامي ومجيء القرآن والوحي مطلقاً بالوعد بالنصر والظفر.
ولإنفراد معركة بدر من بين معارك الموحدين في التأريخ بنتائج ودلالات خاصة ذات صبغة عالمية عقائدية لم تسـتطع معركة أن تحقق ما حققته بدر من الغايات السامية وتوجه المسلمين الى سوح الدفاع والصبر .
وكانت سبباً بتجديد روح الإيمان وحب الدفاع في سبيل الله تعالى في نفوس المسلمين دفاعاً وصداً لغزو مشركي قريش وحلفائهم.
فلا غرابة ان يضفي عليها القرآن صفة (آية) لتبقى فخراً وعزاً للمسلمين ومناراً ينير دروبهم.
لقد أعطت بدر والنصر فيها لأجيال المسلمين درساً بمواجهة الكفر، وأصبح المسلمون لا يعبأون بالعدو مهما كانت قوته، وهي ملائمة لزمان التباين وتفوق مشركي قريش في العدة والعدد .
لقد كان النصر في معركة بدر هبة ومنحة لكل مسلم ومسلمة الى يوم القيامة للإعتبار منها، ولأنها في ذاتها منة إلهية كريمة على المسلمين الموجود منهم والمعدوم.
وهو من دلائل نسبة الله عز وجل النصر في المعركة لنفسه واقتران هذا الخبر والنسبة بلزوم تحلي المسلمين بالتقوى والخشية من الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
ولا تنحصر معجزة النصر خلاف الأسباب بالمادية وترتب المسَبب على السبب والعلة على المعلول بميدان القتال , وعصمة الأنبياء وأتباعهم من الهزيمة بل تشمل ميادين الحياة العامة والخاصة وهو من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ولبيان قانون وهو ملك الله عز وجل للسموات والأرض ملك تصرف مطلق , وذات الأسباب وقاعدة العلة والمعلول ملك لله أيضاَ وتخضع للمشيئة الإلهية وقانون [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) .
وبما فيه نصرة الله عز وجل للأنبياء , والنفع العام ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
معجزة التخفيف
من الإعجاز ان ترى القرآن يولي عناية خاصة بمعركة بدر ، وينعت ذات اللقاء بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين مشركي قريش بأنه (فرقان) وفصل وتمييز بين الإيمان والكفر ، وبين الحق والباطل.
وبين نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهزيمة المشركين ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
لبيان تعدد الآيات والمعجزات في هذه المعركة ، ونزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، بعد إنقضاء المعركة ، وفيه توكيد على إعجاز القرآن في المقام من وجوه :
الأول : جعل المسلمين قادرين على القتال ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) .
ولا تدل الآية أعلاه على الحض على القتال أو الأمر به ، إنما تبعث على دفع وصرف القتال ، وعلى أخذ المسلمين الحيطة والمرابطة بما يجعل المشركين يجتنبون غزوهم والهجوم على المدينة وهو من أبهى معاني التخفيف.
الثاني : تحلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وبذل الوسع في إجتناب القتال ، وسيأتي ذكر ثماني عشرة آية تتضمن كل واحدة منها الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بـ(الصبر ) مع تعدد موضوع وأوان الصبر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ] ( ).
الثالث : تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو ، واستهداف المدن أو القرى ، ولا يعلم موضوعية هذا التنزه في دخول الناس الإسلام إلا الله عز وجل ، فهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الرابع : دخول الصحابة المعركة بنية في (سبيل الله) وطلب مرضاته تعالى وهذه النية قيد وشرط ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
ومضمون الآية أعلاه الإمتناع عن الغزو ، وعدم قتال أحد إلا المشركين الذين يصرون على محاربة النبوة والتنزيل بالسيف .
الخامس : مواجهة الكفار مع ما عندهم من القوة الظاهرة للعيان.
السادس : تجاوز اعتبارات صلة الرحم والقربى التي كانت تربط المسلمين مع الكفار، كما في المهاجرين مع عمومتهم من كفار قريش، إذ المدار على الإيمان ، وهو من أسرار تسمية يوم بدر في القرآن يوم الفرقان.
السابع : انتهاء معركة بدر بانتصار المسلمين مع قلة عددهم.
الثامن : ذكر القرآن لمعركة بدر بعد انتهائها لبيان عظيم فضل الله على المسلمين، وتوكيد موضوعيتها في تأريخ الإسلام لذا سمى القرآن يوم بدر بانه يوم الفرقان ، لما فيه من الفصل والتمييز بين الإيمان والكفر ، قال تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
سُورُ (في سبيل الله)
السبيل لغة الطريق ، يذكر ويؤنث ، والتأنيث هو الغالب ، وفي التنزيل [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي]( ).
وفي سبيل الله عنوان جامع لفعل الخير بقصد القربة إلى الله عز وجل وأداء الفرائض والنوافل ، ووجوه التطوع في الصالحات وتلاوة آيات القرآن.
وعنوان (في سبيل الله) له مصاديق متعددة منها :
الأول : انه من مصارف الزكاة .
الثاني : يشمل بناء وعمارة المساجد والقناطر .
الثالث : مساعدة الفقراء والمحتاجين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
الرابع : مطلق الإنفاق قربة الى الله سبحانه.
الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودرء الفتن وسد الخلة، وإصلاح ذات البين، والصدقة المندوبة، والكلمة الطيبة .
السادس : الموعظة وتعظيم شعائر الله، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وذكر قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، القتال في سبيل الله لبيان إرادة الدفاع على نحو الخصوص وهو من أسمى وأعلى مراتب الفعل في سبيل الله فلذا استحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار المدح والثناء والخلود بالذكر الحسن في الدنيا مقدمة وعلامة على حسن الجزاء في الآخرة.
ومن الآيات في القرآن ورود الخبر وارادة مقاصد سامية ومضامين قدسية متجددة منه، والآية دعوة للمسلمين لإكرام أهل بدر مطلقاً وشهداء بدر وفي شهداء أحد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يدفنوا بدمائهم ليلاقوا ربهم وأوداجهم تشخب دماً.
و(عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال: ” ادفنوهم بدمائهم وثيابهم)( ).
وتبين الآية موضــوعية قصــد القربـة في ترجيــح كفة النصــر والــفــوز، فالفئــة القليــلــة تصــبح قــوية قـادرة على تحقيــق النصــر إذا كان قتــالها في سبيل الله.
وصفت الآية المسلمين بأنهم فئة تقاتل في سبيل الله ويشتركون مع الكفار بعنوان (فئة) ومجال الإقتتال لأنه نوع مفاعلة وتضاد بين الاثنين، قال تعالى [ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
فانفرد المسلمون في المقام بأن قتالهم [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وهذا الإختصاص نوع مدح لهم وتوكيد على موضوعيته عند الشروع بالقتال، وتحذير من القتال لغير سبب أو علة شرعية محضة.
وهل يجوز جعل السبب مشتركاً ليكون في سبيل الله مع سبب دنيوي، وحمية وعصبية، الجواب لا.
وتبين الآية خلوص السبب وأن يكون في مرضــاة الله ، وعـشقاً وحباً له وشوقاً إلى لقائه، فان أفضل وجوه الحشر ما كان عن لقاء مشركي قريش والقتال في سبيل الله تعالى دفاعاً عن النبوة والتنزيل وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون هذا المدافع في حرز وأمان في النشأتين .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين إخلاص النية وصدق العزيمة والإنقطاع اليه تعالى.
ومن ينوي العزم على القتال في سبيل الله تعالى، ولم يقاتل فانه يصدق في عمله ويحسن الإمتثال لأوامره تعالى ويتجنب معاصيه ولا يفعل الا ما يوجب مرضاته تعالى .
وهل الصبر من مصاديق [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] الجواب نعم إذ أن الصبر أمر وجودي ، ومنه تحمل الأذى ، وقبض اليد والجوارح عن التعدي والإضرار بالناس ، والمشهور إفادة الجهاد إذا ورد لفظ [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] مطلقاً ، ولا دليل عليه ، إنما يبقى العموم وعمل الصالحات والإحسان على حاله إلا مع القرينة الصارفة .
النسبة بين بدر والحديبية
لقد أخبر الله عز وجل بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) بينما أخبر عن صلح الحديبية بأنه فتح ترى ما هي النسبة بينهما , الجواب من جهات :
الأولى : نسبة العموم والخصوص المطلق فالفتح أعم , وهو من إعجاز القرآن إذ أخبر عن الصلح والسلم بأنه فتح .
وهل هو من الشواهد على كل من قانون (لم يغزُ النبي “ص” أحداَ) وقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) والذي صدرت منها ستة أجزاء , وآخرها الجزء الثالث والثلاثون بعد المائتين .
وقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) الذي صدر منه أحد عشر جزء , وأخرها الجزء السابق وهو الخامس والثلاثون بعد المائتين وهذا الجزء المبارك .
الثانية : هزيمة كفار قريش في معركة بدر إزاحة لهيبتهم عند الناس , وشاهد على أنهم على باطل لأن هذه الهزيمة خلاف رجحان كفة القتال بالعدد والعدة لهم.
الثالثة : نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر مقدمة لصلح الحديبية من وجوه :
الأول : تأهيل المسلمين للدفاع عن بيضة الإسلام .
الثاني : حدثت معركة بدر فجأة وعلى حين غرة , ولكن المشركين انشغلوا بالإعداد لمعركة أحد سنة كاملة بتجنيد الرجال وحض القبائل , وإلقاء الأشعار وانفاق الأموال الطائلة لشراء الأسلحة .
الثالث : هل كان نزول سورة قريش في مكة إنذاراَ للمشركين بالإمتناع عن تسخير أموالهم في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق , الجواب نعم , قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
إذ تدل هذه الآيات على النعمة العظيمة من الله عز وجل بطاعته وعبادته والتصديق برسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم أنفقوا الأموال في محاربة النبيوة والتنزيل لتقوم الحجة عليهم , وتذهب أموالهم هباءاَ لا تخلف عندهم إلا الحسرة والندامة .
الرابع : صيروة المسلمين أمة ودولة لها بلدة ودار وحكم , ومحل للتفاوض , وقد منع رجالات قريش أهل أسراهم في معركة بدر من الذهاب إلى المدينة لفكاك الأسرى تأنياَ ولكن بعضهم خرج سراَ إلى المدينة , ودفع البدل والعوض وعاد بأسيره وكان هو والأسير سفيرين للنبوة والرسالة , وبيان حال المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنصر في معركة بدر , كما في قدوم المطلب أبي وداعة إلى المدينة وقيامه بفك أسر أبيه كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وسيأتي بيانه( ).
حمل المشركين على صلح الحديبية
لقد أرادت خيل قريش الإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل وصولهم إلى الحديبية ، ثم عندما وصلوا إليها رموا معسكر المسلمين بالنبال والسهام والحجارة مع أنهم كانوا بلباس الإحرام لأداء العمرة.
وامتنعت قريش عن الصلح في بداية الأمر ، ولم يطلبوا إلا عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من حيث أتوا من المدينة ، وكان مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحال الإحرام ومن غير أسلحة تذكر شاهد على امتناعه عن دخول مكة بالإكراه على المشركين ، وفيه حرب على الإرهاب ، ودعوة للناس جميعاً للتنزه منه ، ورجاء تغليب لغة الحوار ، ومن إعجاز القرآن أن أكثر آياته حوار وإخبار وبراهين ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا]( ).
ترى لماذا لم تكن هذه الحال سبباً لتماديهم بعدم الموافقة على الصلح ولماذا اضطر المشركون إلى عقد صلح الحديبية وترك الإصرار على القتال .
الجواب من جهات :
الأولى : حال الضعف والوهن التي صارت عليها قريش.
الثانية : تعطيل تجارات قريش سني القتال والحرب ، وحاجتهم إلى عودة قوافل التجارة ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، أن التجارة سبب لرضا قريش بصلح الحديبية ، وامتناعهم عن استمرار القتال ، لذا كان من بنود صلح الحديبية المهادنة ووضع السلاح (وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض)( ).
الثالثة : العرف العام بوجوب عدم صدّ الناس عن المسجد الحرام، وخشية قريش من الهياج ضدها.
الرابعة : شيوع معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة الذين دخلوا الإسلام علانية وخفية سواء من أهل مكة أو غيرها.
الخامسة : قانون خشية كفار قريش من الفتنة العامة.
السادسة : فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتحقيق مقدمات زيارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبيت الحرام ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
السابعة : استدامة وتجدد حال الخوف والرعب ، إذ نزل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
فأخبرت هذه الآية عن إبتداء استيلاء الرعب والفزع والهلع على قلوب المشركين ومن غير أن تخبر عن إنقطاع أو ضعف هذا الإستيلاء في أجل معين ، مما يدل على اتصاله ودوامه ، وقانون الملازمة بين الشرك ورعب القلوب ، ليحضر هذا الرعب في صلح الحديبية ، ولجوء المشركين إليه.
هل يعلم المشركون أن صلح الحديبية فتح
لم يرد [إِنَّا فَتَحْنَا]( )، في القرآن إلا في خطاب وبشارة وتنجز وعد من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لقد قال الله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
لتتجلى آيات الملكية المطلقة لله ، وقدرته على كل شئ في كل آن وساعة من ساعات الحياة الدنيا والآخرة ، وبما يكون ظاهراً وواضحاً للناس بالحواس ، وللملائكة ، أو يكون خفياً تدركه العقول.
وقد سأل ذعلب اليماني الإمام علي عليه السلام فقال (هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ، فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى.
فقال : وكيف تراه .
فقال : لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان .
قريب من الاشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين . متكلم لا بروية ، مريد لا بهمة . صانع لا بجارحة . لطيف لا يوصف بالخفاء .
كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة . رحيم لا يوصف بالرقة . تعنو الوجوه لعظمته ، وتجب القلوب من مخافته)( ).
وقد ذكرت في الجزء الخامس بعد المائتين كل من :
الأول : قانون مقدمات صلح الحديبية .
الثاني : قانون النسوة في الحديبية .
الثالث : قانون صلح الحديبية .
الرابع : قانون وهن قريش .
الخامس : قانون نزول الآية القرآنية برزخ دون سفك الدماء( ).
ويحتمل صلح الحديبية بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : صلح الحديبية من ملك الله عز وجل للسموات والأرض.
الثاني : صلح الحديبية من بديع صنع الله ، ومصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالث : ليس من صلة بين صلح الحديبية ومضامين الآية أعلاه إنما هو من أفعال العباد.
والصحيح هو الأول والثاني أعلاه مجتمعين ومتفرقين ، لبيان أن الوحي إلى الأنبياء من ملك الله ، وعظيم قدرته وسلطانه ، ولم يتم صلح الحديبية إلا بالوحي ، ومنه إعلان النبي محمد قبل الصلح الرضا بأي شرط تطلبه قريش مما فيه تعظيم البيت الحرام.
وكما في مرسلة ابن إسحاق في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما وصل إلى الحديبية وبركت ناقته قال (لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ قَالَ لِلنّاسِ انْزِلُوا ؛ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِالْوَادِي مَاءٌ نَنْزِلُ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ .
فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ بِهِ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ . فَغَرّزَهُ فِي جَوْفِهِ فَجَاشَ بِالرّوّاءِ حَتّى ضَرَبَ النّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ)( ).
ولم يكن صلح الحديبية أمراً سهلاً ويسيراً ، فقد سبقته معارك ، ومفاوضات شاقة ، ومجئ وفود متعددة من قبل قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصول خلافات حادة عند قريش وحلفائها بخصوص الصلح ، ولزوم عدم تشديدهم بشروطه.
وهذه الخلافات في صفوف المشركين على ذات الصلح من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبعد أن كانوا متفقين على قتاله ومحاربته والسعي لقتله وأصحابه ، والمناجاة بمنع توالي نزول آيات القرآن ، افترقوا على عقد الصلح ، وأدركوا التهديد الذاتي الذي يطال جماعتهم ورياستهم وتجارتهم .
فكما ابتلى الله عز وجل آل فرعون بالآيات لجحودهم برسالة موسى عليه السلام ، فقد ابتلى الله عز وجل كفار قريش وحلفاءهم بالخسارة والوهن والخيبة والفتن الداخلية.
وهل هي مقدمة لرضاهم بصلح الحديبية ، الجواب نعم ، لبيان معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتهيئة مقدمات الصلح في طرف المشركين ، وإزاحة الموانع العصبية وأسباب الجهالة التي تحول دونه ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
والمختار إدراك مشركي قريش أن صلح الحديبية في حال عقده هو فتح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصر للإسلام ، لذا تشددوا في الشروط لحفظ ماء الوجه والإعتبار ، ولم ينفعهم فقد أيقن العرب قبل الصلح وبعده بظهور دولة الإسلام وسيادة الإيمان ، وهزيمة مفاهيم الشرك ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
(قل) ضد للسيف
لقد نزل الأمر المتعدد من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وورد هذا الأمر والخطاب في القرآن (332) مرة كلها من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربعة وقد تقدم التفصيل .
وأصل الفعل (قل) (قال) وهو فعل ماضي معتل أجوف , والأصل في حرف العلة السكون (قال) وللمنع من إلتقاء ساكنين , حذف حرف العلة (الألف) فعند عرض الفعل (قال) على الميزان الصرفي يكون القاف فاء الكلمة , والألف عين الكلمة وهو حرف علة , والميم لام الكلمة , لذا فإن الفعل (قال) أجوف وحروف العلة , الواو , الألف , الياء .
الأجوف : صام , نام , باع , زاد , قام .
قال تعالى [قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) , وفيه مسائل :
الأول : لا أحد يأمر في القرآن (قل) إلا الله عز وجل .
الثاني :موضوعية القول في جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : أثر قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند المسلمين وأهل الكتاب وعامة الناس .
الرابع : الدلالة على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف والخيل , إنما انتشر بالبرهان والإحتجاج , قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الخامس : تلاوة المسلمين الأمر (قل) في المشرق والمغرب كل يوم من أيام الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة .
السادس : استقراء القوانين والأحكام من آيات (قل) .
السابع : تعدد المسائل والمواضيع التي تشملها آيات (قل) فتأتي بالتوحيد كما في قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ) [قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]( ) ومنها آيات العبادات والأحكام التكليفية , وآيات الصبر وآيات السلم وآيات الدفاع وآيات عالم الآخرة وغيرها .
الثامن : لقد أخبر الله عز وجل عن إلقائه الرعب في قلوب المشركين , كما ورد في التنزيل [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
فهل قوله تعالى(قل) من علة ومادة هذا الرعب , أم أن الرعب كيفية نفسانية تخترق شغاف قلوب المشركين من غير علة ظاهرة , الجواب لا تعارض بين الأمرين .
التاسع : قانون (قل) من آيات السلم , إذ أنه خال من الشدة والغلظة , والإجماع على أن آيات (قل) محكمة غير منسوخة خاصة مع كثرتها وتعدد المواضيع والأحكام التي تشملها .
العاشر : لما قال الله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) نزلت آيات (قل) فهذه الآيات من الرحمة الإلهية برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحتمل وجوهاَ :
الأول : كل آية من آيات (قل) رحمة متحدة .
الثاني : آيات (قل) مجتمعة رحمة .
الثالث : تكون معاني الرحمة باتحاد موضوع (قل) فكل طائفة منها رحمة مستقلة .
الرابع : كل آية من آيات (قل) رحمة متعددة , باستثناء الوجه الأول أعلاه فإن الوجوه الأخرى كلها من مصاديق ودلالات (قل) في القرآن , وهو من إعجاز القرآن في تعدد معاني اللفظ الواحد , من جهات :
الأولى : ذات اللفظ القرآني .
الثانية : موضوع وأحكام الآية القرآنية التي ورد فيها لفظ (قل).
الثالثة : دلالة ومنافع الأوامر القرآنية .
دلالة أسماء السيف
للسيوف وحدتها وأنواعها موضوعية في القتال , واعتنى العرب وغيرهم بالسيف لأنه عنوان القوة والمنعة , ودحر العدو , ولكن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم عنايته وأصحابه بالسيف إلا بمقدار الضرورة , ودفع شرور العدو وقد خفف الله عز وجل عنهم بنزول الملائكة مدداَ , إذ كانت عنايتهم بالآية القرآنية وسنن التقوى, وإقامة الصلاة اليومية في وقتها.
ونزل القرآن بالحث على التقيد بأداء الفرائض العبادية , ليدل بالدلالة الإلتزامية على الوعد من عند الله عز وجل على صرف كيد المشركين , ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( )، ومعاني الصبر في الآية تعاهد التكاليف العبادية , لذا سمًي الصيام صبراَ .
وفي قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
أن الصبر في الآية هو (الصوم ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ استعان بالصلاة والصيام ، ورُويَ أنه رأى سلمان منبطحاً على وجهه ، فقال له : أشكو من بردٍ .
قال : قم فصلِّ الصلاة تُشْفَ)( ).
ومن بديع اللغة العربية أن الأسماء ترمز بدلالة ومعنى للمسمى الذي وضع له اللفظ وهل علًم الله عز وجل آدم بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )، أسماء أنواع السيوف أم أسماَ واحداَ , المختار هو الثاني.
ومن أسماء السيف :
الأول : الحسام وهو السيف القاطع.
وسمّي حسّان بن ثابت، الحُسَام بقوله:
فسوفَ يجيبكم عنه حُصَامٌ … يصوعُ المُحْكمات كما يشَاءُ( ).
إن تسمية حسان بن ثابت الحسام شاهد على أن عناية المسلمين بالعلم والبيان والحجة وليس بآلة السيف وحدته .
والنسبة بين عنوان السيف وبين الإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالإرهاب عنف وإضرار بالغير ، بينما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبرهان العقلي والحسي والصبر والرحمة ، وفي خطاب للمسلمين كافة قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ).
الثاني : الرسوب وهو السيف الذي يغور في المحل المضروب , ويغيب في الضريبة .
وذكر أن بلقيس ملكة سبأ أهدت إلى سليمان النبي عليه السلام خمسة سيوف هي : ذو الفقار , وهو سيف الإمام علي عليه السلام.
ويمكن القول أنه أشهر السيوف في التأريخ من جهة منافعه وإقامة الدين وذبّه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وذو النون , والرسوب .
والصمصامة وله قصة طويلة وهوسيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي , وهو من الشجعان في الجاهلية والإسلام .
وسيف مجذوب , وقيل أنها سبعة سيوف .
وفي أسماء السيف (ذكر ابن خالويه في شرح الدريدية: الصَّارِم، والرِّدَاء، والخليل، والقَضِيب، والصَّفِيحة، والمُفَقَّر.
والصَّمْصَامة، والمَأْثُور ، والمِقْضَب ، والكَهام ، والأنِيث، والمِعْضَد، والجُرَازُ، واللَّدْن، والفُطَار ، وذُو الكَريهة، والمَشْرَفيّ، والقُسَاسِيّ.
والعَضْب ، والحُسام ، والمُذَكَّر، والهُذام، والهَذُوم، والمُنْصَل، والهَذَّاذ، والهَذْهَاذِ، والهُذَاهِذ، والمِخْصَل، والمِهْذَم، والقاضِب، والمُصَمِّم، والمُطَبِّق .
والضَّرِيبة ، والهِنْدُوَاني ، والمُهَنَّد، والصَّقيل، والأبْيض، والغَمْر، والعَقِيقة، والمتين، وهو الذي لا يقطع، والهِنْدِكيّ أيضاً، في شعر كثير)( ).
الثالث : البارقة وهو السيف الذي له بريق ولمعان ظاهر مما يدخل الخوف في قلب العدو , ولكن الله عز وجل قذف الرعب في قلوب المشركين بآية منه تعالى ومن غير أن تكون سيوف الصحابة بارقة ولامعة.
وبيّن القرآن هذا القذف وهو إختيارهم الشرك خلافاَ لوظيفة العقل , وتوالي معجزات النبوة , قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وكما نسب الله لنفسه نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، فانه تعالى نسب إلقاء الرعب في قلوب المشركين في معركة أحد إليه سبحانه ولا يقدر على هذا الإلقاء إلا هو سبحانه.
ترى لماذا لم تذكر الآية دخول الرعب في قلوب المشركين بكيفية القذف كما في قوله تعالى [وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ]( )، خاصة وأن الإلقاء أقل حدة من القذف .
الجواب لبيان أن الإلقاء على نحو تدريجي يزداد مع إصرار المشركين على الكفر ثم إرادتهم قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيزهم الجيوش وإطلالتها على مشارف ومداخل المدينة المنورة بسيوف مهتدة حادة شديدة القطع.
الرابع : المهند , وهو المنسوب إلى حديد بلاد الهند وكذا الهنداوي وأنشد ابن ميادة (لنفسه، مفيد ومتلاف إذا ما اتيته، تهلل واهتز اهتزاز المهند فقيل له اين يذهب بك هذا للحطيئة، فقال الان علمت أني شاعر إذا وافقته على قوله ولم اسمعه)( ).
وقال الثعالبي (عن الأئمة إذا كان السيف عريضاً، فهو صفيحة فإذا كان لطيفاً، فهو قضيب فإذا كان صقيلاً، فهو خشيب وهو أيضاً الذي بدئ طبعه ولم يحكم عمله فإذا كان رقيقاً، فهو مهو فإذا كانفيه خزوز مطمئنة عن متنه، فهو مفقر ومنه سمي ذو الفقار.
فإذا كان قطاعاً، فهو مقصل، ومخضل، ومخذم، وجراز، وعضب، وحسام، وقاضب، وهذام فإذا كان يمر في العظام، فهو مصمم فإذا كان يصيب المفاصل، فهو مطبق فإذا كن ماضياً في الضريبة، فهو رسوب.
فإذا كان صارماً لا ينثني، فهو صمصامة فإذا كان في متنه أثر، فهو مأثور.
فإذا طال عليه الدهر فتكسر حده، فهو قضم فإذا كانت شفرته حديداً ذكراً ومتنه أنيثاً، فهو مذكر. والعرب تزعم أن ذلك من عمل الجن. وقد أحسن ابن الرومي في الجمع بين التذكير والتأنيث حيث قال من الخفيف :
خير ما استعصمت به الكف عضب … ذكر حده أنيث المهز
فإذا كان نافذاً ماضياً، فهو إصليت فإذا كان له بريق، فهو إبريق، وينشد لابن أحمر من الطويل:
تقلدت إبريقاً وعلقت جعبة … لتهلك حياً ذا زهاء وجامل
فإذا كان قد سوي وطبع بالهند، فهو مهند وهندي وهندواني فإذا كان معمولاً بالمشارف وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، فهو مشرفي فإذا كان في وسط السوط، فهو مغول .
فإذا كان قصيراً يشتمل عليه الرجل فيغطيه بثوبه، فهو مشمل فإذا كان كليلاً لا يمضي، فهو كهام وددان.
فإذا امتهن في قطع الشجر، فهو معضد فإذا امتهن في قطع العظام، فهو معضاد)( ).
فمن اعجاز القرآن وعيده للكافرين بالهزيمة والخسارة في آيات عديدة ، ومجئ آيات بالإخبار عن حصول النصر والظفر للمسلمين ، وقد تجمعهما آية واحدة ، قال تعالى [أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وكذا في الواقع ليس بين الوعيد وحدوثه واقعاً فاصلة زمانية تذكر، لذا أشرنا الى دلالة السين في قوله تعالى [سَتُغْلَبُونَ] ( ) على المستقبل القريب.
من معاني (نزّل)
لم تقل الآية [أنزل ] إنما وردت بلفظ نزّل لبيان نزول القرآن نجوماً ووفق الوقائع والأحداث ، كما في الآية أدناه والتي ذكرت التوراة والإنجيل بلفظ (أنزل).
قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( )إذ نزلت كل من التوراة على موسى عليه السلام والإنجيل على عيسى عليه السلام دفعة واحدة.
وهو لا يتعارض مع ورود لفظ [َأَنْزَلَ] بخصوص القرآن كما في قول أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى السماء الدنيا ، ثم نزل نجوماً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( ) .
ويحتمل التنزيل وجوهاَ :
الأول : إرادة التوالي والتعاقب , ونزول آية بعد آيات ، وسورة بعد سورة , إذ نزل القرآن في ثلاث وعشرين سنة من أول البعثة النبوية إلى حين مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً]( ).
ولم يرد لفظ (جملة) في القرآن إلا في الآية أعلاه قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( )، ولم يرد لفظ (فرقناه) (لتقرأ) (مُكث) إلا في الآية أعلاه.
الثاني : المراد كثرة التنزيل , إذ أن مجموع آيات القرآن هو (6236) آية.
الثالث : تكرار التنزيل وما فيه من البشارة والإنذار .
الرابع : إرادة نزول القرآن حسب الوقائع والأحداث وحاجة الناس إليه , في حلً المعضلات.
وتعدد معاني نزًل بخصوص نزول القرآن لا يتعارض مع معاني (أنزل) الواردة بخصوصه لبيان الإعجاز في كيفية نزوله.
قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ) ولم يرد لفظ (خَاشِعًا) و (مُتَصَدِّعًا) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
تفريق التنزيل إخافة للمشركين
لقد أنكر المشركون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن نجوماً ومفرقاً وأرادوا نزوله مرة واحدة ، وهل كان هذا التنجيم والتفريق من مصاديق الرعب الذي أصاب الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) الجواب نعم ، لبيان قانون هو مجئ الرعب للذين كفروا من جهات:
الأولى : إخافة المشركين في ميدان المعركة ، وهو من وجوه :
الأول : رؤية المشركين للمسلمين وكأنهم ضعف عدد المشركين كما في قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( ) اي أن الكفار يرون المسلمين في ميدان معركة بدر ضعفيهم ، فاذا كان عدد المشركين هو ألف فانهم يرون المسلمين وكأنهم ألفان مع أن عددهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر ، ليتجلى تعدد الإعجاز في حضور الملائكة يومئذ .
و(قراءة نافع : ترونهم ، بالتاء أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة ، أو مثلي أنفسهم)( ) ، ولكن المرسوم في المصاحف هو الأنسب وإن كان نظم الآيات يساعد على المعنى أعلاه وتقديره بلحاظ الآية السابقة : قل للذين كفروا (ستغلبون) إذ أن مضمون الخطاب إلى الناس جميعاً بالبشارة والإنذار ، البشارة إلى الذين آمنوا ، والإنذار إلى الذين كفروا.
و(عن ابن مسعود قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا رجلا منهم فقلنا كم كنتم قال ألفا) ( ) .
لبيان الإعجاز المتعدد في الموضوع المتحد , من جهتين :
الأولى : لقد كثّر الله عز وجل المسلمين في أعين المشركين بأكثر من الضعف لتأكيد المعجزة والمنع من انكارها , ولتحقق المقاصد السامية منها .
الثانية : لقد جعل الله عز وجل عدد المشركين قليلاَ في أعين الصحابة لتثبيت أقدامهم وعدم الخشية من لمعان السيوف وما لقريش من الهيبة والشأن .
ومن إعجاز الآية تضمنها الإخبار عن نصر المؤمنين في معركة بدر ، ثم مجيؤها بصيغة المضارع [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ].
وهل تحتمل هذه الآية التحذير والإنذار للمؤمنين إن قصروا في الواجبات العبادية فان الله ينصر المشركين عليهم.
الجواب لا ، لذا لم ينتصر المشركون في أي معركة من معارك الإسلام الأولى ، فان قلت حتى في معركة أحد ، الجواب نعم ، فقد كانت خسارة المسلمين جسيمة في هذه المعركة لكنهم لم ينهزموا ولم ينكسروا ، إنما خرجوا منها أشد قوة ومنعة وصبراً .
وهل من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية خروجه وأصحابه في اليوم التالي لمعركة أحد خلف جيش المشركين إلى حمراء الأسد ، الجواب نعم .
ووثق القرآن هذه المعجزة ، قال تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) وتسمى الآية أعلاه خسارة المسلمين في معركة أحد بـ(القرح) والمراد الجروح الكثيرة والبليغة التي أصيب بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو غير موضوع سقوط سبعين شهيداً في ذات معركة أحد ، إذ يتعلق القرح بالذين خرجوا إلى حمراء الأسد ، وكان بعضهم يحمل على البعير لا يستطيع الركوب بمفرده من شدة الجراح.
الثاني : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الثالث : شجاعة وبسالة أهل البيت والصحابة في ميدان معركة القتال.
الرابع : المدد الظاهر والخفي من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..] ( ).
الثانية : توجه الأمر من عند الله عز وجل إلى الرعب لينفذ إلى قلوب الذين كفروا من قريش وحلفائهم .
ترى هل هذا الرعب من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.
الجواب هو الثاني ، فكل فرد منهم يأتيه كمٌ وكيفُ من الرعب يناسب حاله ويخذله ، ويذكره بوجوب التوبة والإنابة والإيمان ، فصحيح أن آية البحث جاءت خطاباً للذين آمنوا .
إلا أنها في الواقع والدلالة والمفهوم تبعث الخوف في قلوب المشركين ، وهل يتعارض هذا الخوف مع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب لا ، لما فيها من الدعوة السماوية الى التوبة والإنابة ، وترك الشرك والضلالة.
الثالثة : خشية المشركين من نزول آيات قرآنية تفضحهم وتكشف سوء سريرتهم ومقاصدهم الخبيثة .
الرابعة : من إعجاز القرآن الغيري أن كل آية منه مدد وعون لكل مسلم في حال السلم والدفاع .
الخامسة : دخول الأفراد والجماعات في الإسلام كل يوم وكل أسبوع.
ولا يختص غزو الرعب لقلوب المشركين بميدان المعركة ، إذ تتضمن الآية في دلالتها الإطلاق والإتصال والإستمرار بنفاذ الرعب الى قلوب المشركين ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
توالي كلمة [آمَنُوا]
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ) هذه الآية هي الوحيدة التي تأتي بكلمة [آمَنُوا]مرتين إحداهما مجاورة للأخرى ، متفقتين في الرسم ومختلفتين في الصيغة والحركة ، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]بصيغة الماضي أي ثبت منهم النطق بكلمة التوحيد والإقرار بالرسالة .
أما الثانية فهي بصيغة فعل الأمر [آمِنُوا] ولا يتبادر إلى الذهن أنه من تحصيل ما هو حاصل ، إنما يدرك كل مسلم ومسلمة إرادة معنى آخر وزيادة في فعل الأمر [آمِنُوا] والنسبة بين فعل الأمر والفعل الماضي في الآية عموم وخصوص مطلق فموضوع فعل الأمر أعم وأكثر وهو متصل.
لقد ورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، والمخاطبون هم الذين نطقوا بالشهادتين من الرجال والنساء ، ويدخل فيهم المنافقون والعصاة والأعراب ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والنسبة بين موضوع النداء وفعل الأمر [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] العموم والخصوص المطلق ، فالمراد من صيغة الأمر [آمَنُوا] هو الأكثر والأعم ، إذ يتضمن أموراً :
الأول : الإيمان بالله رباً وخالقاً .
الثاني : الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن إعجاز الآية ذكرها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهتين :
الأولى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول ومرتبة الرسالة أعلى وأسمى من مرتبة النبوة .
الثانية : ذكر قانون من الإرادة التكوينية وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله عز وجل .
ومن إعجاز الآية تكرار لفظ [رسوله] مرتين في الآية ، وتعود كل منهما للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : التصديق بالقرآن وأنه الكتاب الجامع للشرائع والنازل من عند الله عز وجل .
آية الإستجارة
قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) لبيان أن سماع القرآن حجة , ودعوة عقلية للإيمان وهجران الكفر .
وهل الآية أعلاه من آيات السلم , الجواب نعم وهي سالمة من النسخ إلى يوم القيامة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)( ).
لبيان قانون إنتفاع عامة الناس من الوحي ، نعم هذا الإنتفاع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.
فالمؤمنون أكثر الناس إنتفاعاً من الوحي ، كما أن الإنتفاع منه في الآخرة أكثر من الدنيا ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
ولم يرد لفظ [الْحَيَوَانُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لإفادة أن الآخرة هي الحياة الدائمة والحقيقية ، وليس من موت فيها.
وفي بناء الحيوان زيادة في المعنى على بناء الحياة للمبالغة والتأكيد والتمييز والفصل بين عالم الآخرة والدنيا والجمع بين لغة البشارة والإنذار في الآية الكريمة .
وقال ابن جزي في الإستجارة (هو من الجوار أي استأمنك فآمنه حتى يسمع القرآن ليرى هل يسلم أم لا , ثم أبلغه مأمنه ، أي إن لم يسلم فرده إلى موضعه وهذا الحكم ثابت عند قوم وقال قوم نسخ بالقتال) ( ).
وقال الحسن البصري : (وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة) ( ) وقال مجاهد والسدي بآية الأمر بقتل المشركين( ).
و(عن سعيد بن جبير :جاء رجل إلى علي عليه السلام فقال : إنْ أراد الرجل منا أنْ يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل .
قال : لا ، لأن الله تعالى قال [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ]( )، الآية)( ).
ويدل الحديث على مسائل :
الأولى : آية الإستجارة أعلاه محكمة غير منسوخة .
الثانية : حصر أحكام آية السيف في الأشهر الأربعة التي نزلت بها في السنة التاسعة للهجرة النبوية الشريفة .
الثالثة : بيان قانون وهو حرمة الإرهاب في الإسلام .
ولم تم إمساك المشرك ثم استجار هل تقبل استجارته ، الجواب نعم ، وجاءت الآية مطلقة ، كما يتضمن الحديث أعلاه الأمن للمشرك إن جاء لحاجة ومسألة أو فقر وعوز .
وقد دخل عدد من مشركي قريش المدينة بعد معركة بدر لرؤية الذين أسروا منهم في المعركة وعددهم سبعون ،ولفكاك عدد منهم فلم يتعرض لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكان بعضهم قد اشترك في معركة بدر ، وآذى المسلمين ، كما في عمير بن وهب الجمحي الذي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ثم بعثته قريش يوم بدر وقالوا له (احزر لنا القوم أصحاب محمد.
فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد.
فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع) ( ) كما عن ابن اسحاق .
ثم دخل عمير المدينة بحجة فكاك أسر ابنه وهب بن عمير ولكنه كان يقصد إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض وموعدة من صفوان بن أمية ،وتجلت آيات ومعجزة حين دخوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما جعله يعلن إسلامه .
و(عن الباقرين عليهما السلام قالا: قام خداش وسعيد أخوا عمرو بن عبد ود فقالا( ):
وعلى ما تسيرنا أربعة أشهر ؟ بل برئنا منك ومن ابن عمك، وليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح.
وإن شئت بدأنا بك، فقال علي عليه السلام : هلم) ( ).
و(عن الإمام الصادق عليه السلام إذا فشت أربعة ظهرت أربعة: إذا فشا الزنا ظهرت الزلازل، وإذا أمسكت الزكاة هلكت الماشية وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذا خفرت الذمة نصر المشركون على المسلمين)( ).
وفي الحديث دعوة للتقيد والعناية بهذه الأمور الأربعة ومنها تعاهد الذمة والعهد ، وعدم نقضها والحرص على العمل بالقوانين الوضعية وسنن المواطنة والأخاء بين أهل البلد والتعارف والثقة الظاهرة بينهم.
معركة الأحزاب
الأحزاب جمع حزب ، وهو التجمع على أمر سواء كان حقاً أو باطلاً ، وكان إجتماعاً بالأبدان في موضع واحد أو بالفكر والرأي ، وهل يصدق على التجمع عبر شبكة التواصل الإجتماعي ، الجواب نعم .
ومن إعجاز القرآن ورود مادة (حزب) فيه بصيغ متعددة وهي:
الأول : ورد لفظ (حزب ) في الثناء على المؤمنين ، في بعث المسلمين على تعاهد سنن التقوى والصلاح في قوله تعالى [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ] ( ) .
وفي قوله تعالى [لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الثاني : ورد لفظ [حِزْبُ] بصيغة الذم للذين كفروا في قوله تعالى [اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ) وقوله تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ]( ).
الثالث : من إعجاز القرآن ورود لفظ [الأَحْزَابِ ] فيه على نحو متكرر ، وفي ذم الذين كفروا وسوء عاقبتهم ، كما في قوله تعالى [أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ) .
وورد لفظ [الأَحْزَابِ] بخصوص معركة الخندق ثلاث مرات في آيتين بقوله تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) وقوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ).
والآيتان من سورة الأحزاب التي سميت باسم هذه الواقعة لتأكيد أن المشركين هم الغزاة وأنهم اجتمعوا من قبائل ومدن متعددة ، وهذا التأكيد بالاسم والمسمى ، وشهادة الوقائع والتأريخ.
واختصت الآيات من التاسعة إلى الآية السابعة والعشرين من هذه السورة بواقعة الخندق لبيان شدة الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة وتجليات الصبر في السنة النبوية يومئذ لدعوة المسلمين للصبر على الأذى والإمتناع عن مصاديق الإرهاب التي هي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وكل فرد منها منهي عنه ، ولا يجلب إلا الأذى والضرر.
وجاءت بين الآيتين أعلاه آية تحض المؤمنين على الصبر ، وتدعوهم إلى السلم والموادعة وعدم التعدي ، وهو قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
لقد تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذى والشدة في معركة الأحزاب ، وهجوم عشرة آلاف من المشركين ليحاصروا المدينة لأكثر من عشرين ليلة .
ومع هذا لم ينتقم منهم إنما توجه بالشكر إلى الله عز وجل على إنصرافهم خائبين ، ومن إعجاز القرآن إخباره عن تغشي رحمة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مدة الحصار.
والله سبحانه هو الذي مكّن الإمام علي عليه السلام من قتل فارس مضر عمرو بن ود العامري ، وبعث الله سبحانه الريح العاتية على جيوش الأحزاب ليتناجوا بالإنسحاب ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
وقيام المشركين بهذه الغزوة من الشواهد والبراهين القاطعة التي تدل على قانون لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، وقد تقدم الكلام بخصوصه في الجزء السادس عشر بعد المائتين .
وهل يلزم تسميتها بمعركة الأحزاب دون الخندق لبيان أن الأحزاب هم الغزاة ، ولأن الاسم ورد في القرآن ، الجواب لا ، خاصة وأن ذكر الأحزاب بخصوص المعركة إنما يتعلق بالمسمى ، ولا يعني حصر الاسم بخصوصه .
وتسمية المعركة بمعركة (الخندق) تدل أيضاَ على أن المشركين هم الغزاة وهم الذين حاصروا المدينة ، وستبقى سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من القتل أو الأسر في هذه المعركة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية .
ويمكن تأليف مجلد خاص بعنوان : معجزة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الخندق .
وتستلزم نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الخندق شكر أجيال المسلمين لله عز وجل على هذه النعمة بنشر ألوية السلم في الأرض .
وهل هذا الشكر وسنخيته وتجدده من المعجزات المستحدثة للنبي محمد في كل زمان ، الجواب نعم.
لقد أخاف المشركون المسلمين في معركة الخندق وادخلوا الفزع في قلوب الرجال والنساء , من أهل المدينة , قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
ومن مصاديق الشكر لله عز وجل في المقام الإمتناع عن إخافة الناس في أوطانهم وفي الأسواق والبيوت والمنتديات العامة والخاصة .
سورة النصر آخر السور نزولاً
لقد نزل القرآن نجوماً وبالتعاقب والتوالي بخلاف نزول التوراة ثم الإنجيل دفعة ، ولم يعلم المشركون أن كيفية التعاقب في نزول القرآن عهد من عند الله عز وجل لحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الموت إلى حين تمام نزول القرآن ، وتثبيت معالم الإيمان في الأرض ، لقد أخبر القرآن عن نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ببدر بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
والمختار أن الخطاب والضمير (َكُمُ) في [نَصَرَكُمُ] عام يشمل أجيال المسلمين والمسلمات مع إتحاد الواقعة والتي انحصرت بشطر من نهار يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وتوافق 13 مارس سنة 624 م ، وقيل أنها وقعت في فصل الصيف .
وعن عكرمة قال (لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } ( )قال المشركون بمكة : لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، قد دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فاخرجوا من بين أظهرنا ، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟
فنزلت { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له }( ) الآية) ( ).
وهو بعيد خاصة وأن سورة النصر من آخر سور القرآن نزولاً ، وهو المشهور والمختار .
وأهل مكة كلهم مسلمون أوان نزول هذه السورة إلا القليل النادر ، ومنهم [وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] ( ) وقد نزلت قبلها آية السيف مهلة أربعة أشهر للمشركين آنذاك .
و(قال مقاتل وقتادة : عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين) ( )وورد مثله عن عكرمة والخبر ضعيف سنداَ ودلالة ، إذ نزلت سورة النصر بمنى أيام التشريق في حجة الوداع .
و(عن ابن عباس قال: لما أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غزوة حنين، وأنزل الله سورة الفتح قال: يا علي بن أبي طالب ويا فاطمة ” إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخر السورة) ( ).
ورد عن (عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال : لما نزلت {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعيت إليّ نفسي بأنّه مقبوض في تلك السنة) ( ).
ولو تعارض قول مقاتل وقتادة مع قول ابن عباس مع إتحاد مرتبة السند وصحته فالراجح هو قول ابن عباس إلا مع القرينة والمانع ، وتسمى سورة النصر سورة التوديع ( ).
وعن عبد الله بن عمر (قال: نزلت هذه السورة: ” إذا جاء نصر الله والفتح” على رسول الله صلى الله عليه واله في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فركب راحلته لعضباء فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس كل دم كان في الجاهلية فهو هدر وأول دم هدر , دم الحارث بن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في هذيل فقتله بنو الليث – أو قال: كان مسترضعا في بني ليث فقتله هذيل – وكل ربا كان في الجاهلية فموضوع، وأول ربا وضع ربا العباس بن عبد المطلب … الحديث ) ( ).
وعن الإمام الرضا عن أبيه عليهم السلام قال (أول سورة نزلت ” بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك ” وآخر سورة نزلت ” إذا جاء نصر الله والفتح “)( ).
ومن لوازم علم التفسير التدبر بالآية القرآنية ومضامينها القدسية ، والمسائل المستنبطة من جهات :
الأولى : سبب النزول .
الثانية : أوان النزول .
الثالثة : موضوع النزول .
الرابعة : الأحكام الواردة في الآية منطوقاً ومفهوماً .
الخامسة : المواعظ المستقرأة من صلة الآية بغيرها من آيات القرآن ، وتضمن تفسيري للآية القرآنية باباَ اسمه (في سياق الآيات) لبيان صلة الآية محل البحث ببضع آيات مجاورة لها ، كما اختصت أجزاء منه بالصلة بين الآيات أو شطر من آيتين كما في :

  • الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
  • الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
  • الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران.
    السادسة : مفهوم الآية الذي هو خلاف المنطوق .
    السابعة : الإشارة والتنبيه واللطف التي في الآية القرآنية .
    الثامنة : تفسير الآية القرآنية لآية أو آيات قرآنية أخرى ، واقتباس المسائل منه ، وتأكيد قانون إنتفاء التزاحم أو التعارض بين آيات القرآن .
    وبينما ورد قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) بصيغة الماضي والمشهور والمختار أن المراد هو صلح الحديبية الذي وقع في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، ولم يتم فتح مكة إلا بعده بسنتين .
    فان سورة النصر نزلت بصيغة الإستقبال [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
    ومن الإعجاز سنخية المأمور به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد تحقق الفتح ، إذ ورد الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإجتهاد بطاعة الله والتسبيح والتهليل والذكر والإجتهاد بالإستغفار .
    كما في قوله تعالى [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( )، وفيه شاهد من آخر أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا على صدق نبوته .
    مع دخول الناس الإسلام أفواجاً وجماعات وقبائل ، فان مفاتيح الدنيا تحضر عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الله عز وجل أمر بالتنزه عنها والتوجه إلى الإجتهاد في العبادة ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه أن أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنشغال التام بالذكر والعبادة ، وهداية الناس إلى أحكام الشريعة والتقيد بها ظاهر وجلي بسورة كاملة هي سورة النصر ، وليس بآية واحدة.
    ليكون من المواعظ في هذه السورة دعوة المسلمين ومنهم الأفواج حديثو العهد الإسلام لتعظيم شعائر الله ، وتعاهد الصلاة في وقتها ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا] ( ).
    وأختتمت السورة بالوعد الكريم من الله عز وجل بالتوبة والمغفرة ، وفيه ثناء وبشارة للأفواج التي دخلت الإسلام ، وترغيب لغيرهم .
    قانون إنخزال النفاق
    من إعجاز آية البحث تعيين صفة الذين يخاطبهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويخبرهم ببشارة المدد الملكوتي من الله ، وهم المؤمنون فلم تقل الآية إذ تقول للمسلمين ، ولم تقل إذ تقول للذين آمنوا.
    لبيان شرط الإيمان في نزول النصرة من الله عز وجل بشرط الإيمان على نحو التقييد ، وفي التنزيل [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
    ترى لماذا لم تقل الآية (إذ تقول للمهاجرين والأنصار ، الجواب من جهات :
    الأولى : لقد التقى الصفان بالتضاد بين الإيمان والكفر .
    الثانية : لا يكون الثبات في أزاء كثرة جيوش المشركين وعدتهم الا بصفة الإيمان .
    الثالثة : إنقطاع الغزو والقتال للطمع والحمية والعصبية القبلية.
    الرابعة :الإخبار عن حال الشدة والمحنة التي سيلاقيها الصحابة يوم معركة أحد.
    الخامسة :الإعجاز في الإشارة إلى إنخزال المنافقين من وسط الطريق إلى معركة أحد.
    ولما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد النبوي متوجهاً إلى ملاقاة المشركين في معركة أحد بعد أن عسكروا في مشارف المدينة ، وهددوا باقتحامها ، كان المنافقون معه أيضاً ، وحينما وصلوا إلى موضع اسمه الشوط نادى بالشقاق والتحريض على الرجوع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول وهو من رؤساء الخزرج ، ومن بني عوف (وسلول امرأة من خزاعة) ( ).
    وكانت الخزرج تعدّ العدّة لتتويجه عليهم قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد الهجرة تآخى الأوس والخزرج تحت لواء النبوة ، وصاروا يتلقون الأوامر الإلهية وأحكام الشريعة مما أثار روح الحسد عند عبد الله بن أبي سلول ، وأظهر هذا الحسد في معركة أحد.
    فحينما أراد الرجوع بشطر من الأنصار قال (مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ)( ).
    ثم ظهر نفاقه مرة أخرى في كتيبة تبوك إذ نزل في ذمه قوله تعالى حكاية عنه [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )،
    وجاء الرد عليهم من قبل ابنه عبد الله ، الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هو الذليل يا رسول الله وأنت العزيز. وقال لرسول الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: إن أذنت في قتله قتلته.
    فقال رسول الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: لا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه ، ولكن بر أباك وأحسن صحبته)( ).
    ومن معاني إنخزال النفاق في المقام التباين في أثره بين معركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة وبين كتيبة تبوك التي وقعت في السنة التاسعة للهجرة .
    فقد انخزل مع رأس النفاق في معركة أحد نحو ثلاثمائة من جيش المسلمين من وسط المعركة ، أما في كتيبة تبوك فقد قام الصحابة من الأنصار بنقل كلام عبد الله بن أبي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأراد ابنه قتله لولا نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له.
    وهل من موضوعية لآيات القرآن والسنة النبوية التي تذم النفاق في إنحسار النفاق مع تقادم الأيام والسنين ، الجواب نعم ، فأبى الله عز وجل إلا أن يضعف ويتضاءل النفاق قبل مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
    وهذا التضاؤل من مقدمات محاربة الردة حينئذ وإعادة الناس إلى مسالك الإيمان ، فلم تبق يومئذ إلا المدينة يهددها أهل الردة من عدة جهات وهو بلاء وامتحان كحصار يوم الأحزاب لولا أن أنعم الله عز وجل على المسلمين بالدفاع والصبر والتصدي لأهل الردة في السنة الحادية عشرة ، والثانية عشرة للهجرة بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
    وأيهما أكثر عشرة آلاف فارس من المشركين في معركة الخندق أم رجال أهل الردة تابعاً ومتبوعاً.
    المختار هو الثاني ، ومن القبائل التي ارتدت طائفة من رجالها:
    الأولى : بنو أسد .
    الثانية : بنو تميم .
    الثالثة : قبائل اليمامة.
    الرابعة : أهل البحرين من الشاطئ الممتد من القطيف إلى عُمان.
    الخامسة : أهل عمان حيث أدعى ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي (فادعى النبوة فقاتل عكرمة وعرفجة وجبير وعبيد فاستعلاهم فأتى المسلمين مدد من بني ناجية وعبد القيس عليهم الحارث بن راشد وصيحان بن صوحان العبدي فقوي المسلمون وانهزم لقيط وقتل ممن كان معه عشرة آلاف ذكره سيف)( ).
    وبلوغ عدد القتلى عشرة آلاف أمر مبالغ فيه كثيراً ، ولكنه يدل على بلوغ عدد أهل الردة في موضع واحد وهو عمان بعدد جيش المشركين في الأحزاب وحصارهم للمدينة وحيث اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحفر خندق حولها .
    السادسة : تطاول بعض الأعراب بالعودة إلى السلب والنهب وإرباك الوضع العام.
    فلو أخرج النفاق رأسه فيها بغياب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل فلا يعلم ما سيحدث من الشر ، والضرر وإشاعة القتل بين الصحابة إلا الله عز وجل.
    ليكون من معاني قوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ] في الآية أعلاه حصانة وتنزيه مجتمعات المسلمين من ظهور وسنة وأثر النفاق ، وهذه الحصانة من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ). 
    إمساكية شهر رمضان ــ 1443هـ(مدينة النجف الأشرف وضواحيها)
    شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
    1 الأحد 3/4 4:26 5:49 12:06 6:39
    2 الإثنين 4/4 4:24 5:48 12:06 6:39
    3 الثلاثاء 5/4 4:23 5:46 12:05 6:40
    4 الأربعاء 6/4 4:21 5:45 12:05 6:41
    5 الخميس 7/4 4:20 5:44 12:05 6:41
    6 الجمعة 8/4 4:18 5:43 12:05 6:42
    7 السبت 9/4 4:17 5:41 12:04 6:43
    8 الأحد 10/4 4:16 5:40 12:04 6:44
    9 الإثنين 11/4 4:14 5:39 12:04 6:44
    10 الثلاثاء 12/4 4:13 5:38 12:03 6:45
    11 الأربعاء 13/4 4:11 5:36 12:03 6:46
    12 الخميس 14/4 4:10 5:35 12:03 6:46
    13 الجمعة 15/4 4:09 5:34 12:03 6:47
    14 السبت 16/4 4:07 5:33 12:02 6:48
    15 الأحد 17/4 4:06 5:32 12:02 6:49
    1- يكون يوم الأحد 3/4/2022 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال ليلتئذ بعد الغروب ساعة و(11) دقيقة.
    2- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق، وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، وتتجلى المندوحة بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] وقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ].
    3- يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.
    شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
    16 الإثنين 18/4 4:04 5:31 12:02 6:49
    17 الثلاثاء 19/4 4:03 5:29 12:02 6:50
    18 الأربعاء 20/4 4:02 5:28 12:02 6:51
    19 الخميس 21/4 4:00 5:27 12:01 6:51
    20 الجمعة 22/4 3:59 5:26 12:01 6:52
    21 السبت 23/4 3:58 5:25 12:01 6:53
    22 الأحد 24/4 3:56 5:24 12:01 6:54
    23 الإثنين 25/4 3:55 5:23 12:01 6:54
    24 الثلاثاء 26/4 3:54 5:22 12:00 6:55
    25 الأربعاء 27/4 3:52 5:21 12:00 6:56
    26 الخميس 28/4 3:51 5:20 12:00 6:57
    27 الجمعة 29/4 3:50 5:19 12:00 6:57
    28 السبت 30/4 3:49 5:18 12:00 6:58
    29 الأحد 1/5 3:47 5:17 12:00 6:59
    1- يكون يوم الإثنين 2/5/2022 أول أيام عيد الفطر المبارك إذا ثبتت الرؤية الشرعية ، ويبقى الهلال بعد الغروب مساء الأحد ليلة الإثنين نحو عشرين دقيقة بعد الغروب.
    2- صدرت مائتان وأربعة وثلاثون جزءً من تفسيري للقرآن في سورة البقرة وأكثر آيات آل عمران ، وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، وكلها تأويل وإستنباط وقوانين من ذات مضامين الآيات لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، إلى جانب كتبي الفقهية والأصولية [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
    3- ستعلن أكثر الدول العربية والإسلامية ، وعدد من العلماء يوم الإثنين 2/5 أول أيام شهر شوال.
    إمساكية شهر رمضان ــ 1443هـ
    ((مدينة بغداد صانها الله من الفساد))
    شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
    1 الأحد 3/4 4:24 5:48 12:05 6:40
    2 الإثنين 4/4 4:22 5:47 12:05 6:40
    3 الثلاثاء 5/4 4:21 5:45 12:04 6:41
    4 الأربعاء 6/4 4:19 5:44 12:04 6:42
    5 الخميس 7/4 4:18 5:43 12:04 6:42
    6 الجمعة 8/4 4:16 5:42 12:04 6:43
    7 السبت 9/4 4:15 5:40 12:03 6:44
    8 الأحد 10/4 4:14 5:39 12:03 6:45
    9 الإثنين 11/4 4:12 5:38 12:03 6:45
    10 الثلاثاء 12/4 4:11 5:37 12:02 6:46
    11 الأربعاء 13/4 4:09 5:35 12:02 6:47
    12 الخميس 14/4 4:08 5:34 12:02 6:47
    13 الجمعة 15/4 4:07 5:33 12:02 6:48
    14 السبت 16/4 4:05 5:32 12:01 6:49
    15 الأحد 17/4 4:04 5:31 12:01 6:50
    4- يكون يوم الأحد 3/4/2022 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال ليلتئذ بعد الغروب ساعة و(11) دقيقة.
    5- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق، وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، وتتجلى المندوحة بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] وقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ].
    6- يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.

شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الإثنين 18/4 4:02 5:30 12:01 6:50
17 الثلاثاء 19/4 4:01 5:28 12:01 6:51
18 الأربعاء 20/4 4:00 5:27 12:01 6:52
19 الخميس 21/4 3:58 5:26 12:00 6:52
20 الجمعة 22/4 3:57 5:25 12:00 6:53
21 السبت 23/4 3:55 5:24 12:00 6:54
22 الأحد 24/4 3:54 5:23 12:00 6:55
23 الإثنين 25/4 3:53 5:22 12:00 6:55
24 الثلاثاء 26/4 3:51 5:21 11:59 6:56
25 الأربعاء 27/4 3:49 5:20 11:59 6:57
26 الخميس 28/4 3:48 5:19 11:59 6:58
27 الجمعة 29/4 3:47 5:17 11:59 6:58
28 السبت 30/4 3:45 5:16 11:59 6:59
29 الأحد 1/5 3:43 5:14 11:59 7:00
1- يكون يوم الإثنين 2/5/2022 أول أيام عيد الفطر المبارك إذا ثبتت الرؤية الشرعية ، ويبقى الهلال بعد الغروب مساء الأحد ليلة الإثنين نحو عشرين دقيقة بعد الغروب.
2- صدرت مائتان وأربعة وثلاثون جزءً من تفسيري للقرآن في سورة البقرة وأكثر آيات آل عمران ، وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، وكلها تأويل وإستنباط وقوانين من ذات مضامين الآيات لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، إلى جانب كتبي الفقهية والأصولية [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
3- ستعلن أكثر الدول العربية والإسلامية ، وعدد من العلماء يوم الإثنين 2/5 أول أيام شهر شوال.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

                                                                                                                  العدد :   865/22

التاريخ : 1/5/2022

[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ]
م/الأثنين 2/5/2022 أول شوال

الحمد لله الذي جعل مناسك وأعياد المسلمين بآيات كونية ظاهرة ، وقد ثبتت رؤية هلال شوال هذه الليلة برؤية ستة من المؤمنين في البحرين.
ويكون يوم غد الإثنين 2/5/2022 الأول من شهر شوال لسنة 1443 .
وقد صدر لنا والحمد لله الجزء (234) من معالم الإيمان الإيمان في تفسير القرآن ، ويقع بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
اللهم تقبل منا الصيام والقيام وضاعف لنا الحسنات واجعل الأمن يتغشى أقطار الأرض كلها.
الأسماء :
1- السيد حسين السيد جواد السيد حسين .
2- السيد جواد السيد حسين .
3- عبد الأمير ملا عيسى .
4- سليمان الشيخ طاهر المدني .
5- السيد حسين المشعل .
6- السيد فاضل المشعل .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn