المقدمــــــة
الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، والذي خلق السموات والأرض من غير تفكر أو تدبر ، بل بقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
لتكون هذه الآية باعثاً للمسلمين والناس جميعاً لسؤال عاجل فضل الله ، ونعمه السابغة بأمر منه سبحانه ، وهل في هذه الآية دعوة للناس للدعاء للإنتفاع الأمثل من مضامينها وفيوضات الكاف والنون ، الجواب نعم ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
ولرحمة الله بالخلائق ، وإستدامة النعم تفضل سبحانه بجعل الإرادة والمشيئة في السموات والأرض له وحده لا يشاركه فيها أحد من غير أن يلحقه نصب أو شغل عن شغل ، قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] ( ).
لبيان أن الله عز وجل هو [رَبِّ الْعَالَمِينَ] المتصرف في شؤون الخلائق كلها ، وقد فاز المسلمون بتلاوة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في الصلاة كل يوم لا يستثنى منها يوم ، لأن الصلاة تؤدى على كل حال ، قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار.
وهو من مصاديق كون الصلاة واجباً مطلقاً يؤدى على كل حال ، لبيان قانون الملازمة بين الإسلام واللهج بالحمد لله .
فقد أراد الله عز وجل استدامة ذكره ، والثناء عليه في الأرض كي تدوم النعم على الناس فبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل عليه القرآن .
وكانت أول فريضة في الإسلام هي الصلاة التي جاء الأمر بها وبأجزائها بالوحي ، ومنها قراءة سورة الفاتحة فيها.
فهذه السورة من أوائل السور التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات البعثة النبوية في مكة ، وتبدأ سورة الفاتحة بالبسملة ، وكان العرب يقولون (بسمك اللهم) ولم يعهدوا قول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] .
و(عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت قريش : دق الله فاك) ( ).
و(عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فقال [بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ]( )، فقالت قريش : دق الله فاك)( ).
وقد تقدم كل من :
الأول : قانون البسملة سلام( ).
الثاني : قانون البسملة برزخ يومي دون الإرهاب( ).
الثالث : قانون فيض البسملة( ).
وسيأتي (قانون جهاد النبي بالبسملة)
مع كثرة الموارد التي يستحب فيها قول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] منها عند الإبتداء بالكلام أو الأكل ، وعند الوضوء ، وعند الشروع بعمل ، ونحوه للنص والبركة واستحباب الذكر والإكثار منه ، ولطرد الغفلة.
و(عن أبى الحسن موسى عليه السلام قال : في وصية رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام: يا علي إذا أكلت فقل: بسم الله، وإذا فرغت فقل: الحمد لله، فان حافظيك لا يبرحان يكتبان لك الحسنات حتى تبعده عنك)( ).
ترى ما هي النسبة بين ذكر الله وبين الظلم والإرهاب ، الجواب هو التباين والتضاد.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الحمد والشكر له سبحانه , وهدى الله الناس طوعاَ وإنطباقاَ وقهراَ إلى حمده والثناء عليه , ليفوزوا بالأجر والثواب والنفع الحاضر والآجل , فلا يعلم منافع وبركة قول الحمد لله إلا هو سبحانه الذي جعل خزائنه لا تنفد عدداَ وكماَ وكيفاَ , وما من أحد من الناس إلا وينال من هذه الخزائن في كل يوم من أيام حياته .
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وبديع صنعه , الذي جعل السموات والأرض وما بينهما من ملكه وعلمه بها ونفاذ مشيئته وسلطانه فيها , وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الحمد لله الذي أضاء القلوب بذكره , وأصلح النفوس بالحمد والثناء عليه , سبحانه لا يُدرك كنهه ، وعلمه حاضر معنا في كل آن , وفي التنزيل [وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ] ( ).
وكان الله عز وجل ، وليس من مكان , وهو سبحانه بائن عن خلقه , وفي التنزيل [إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ] ( ).
الحمد لله عدد ذرات الكون , ونسمات الهواء , وحبات الرمل , الحمد لله الذي جعلنا في حاجة متصلة للحمد والثناء عليه , ولتتوالى النعم مع تعاهد الحمد .
وقد تفضل الله عز وجل ورزق كل مسلم ومسلمة قول [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية , وبحال الخشوع والخضوع في الصلاة , والتسليم له سبحانه بالربوبية المطلقة على الخلائق .
الحمد لله بعدد الملائكة وتسبيحهم ، وذكرهم لله عز وجل ، ونغادر الدنيا بالموت والملائكة مشغولون بالذكر والتسبيح ، [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ] ( ) فنسأل الله عز وجل أن يكتب لنا أجر وثواب حمدهم وتسبيحهم قبل أن نهلك ، وأثناء وجودنا في الدنيا وبعد الممات .
وصحيح أن الآخرة دار حساب من غير عمل إلا أن الثواب ومضاعفته لا ينقطع عن الناس ، فيموت المؤمن ولكن الأجر يأتيه من وجوه :
الأول : الفعل المترتب عليه النفع بعد الممات ، كالصدقة الجارية ، والكتاب النافع ، وبناء المسجد ، والأمر بالصلاح والتقوى ، وبيان أضرار الإرهاب والنهي عنه ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
الثاني : فضل الله عز وجل على العبد بعد موته وهو من جهات منها :
الأولى : الأجر والثواب على النوايا الحسنة ، كما لو كان العبد عازماً على عمل صالح مستديم ، وحالت أسباب قاهرة دونه ، وهو من مصاديق ما ورد (عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال: “إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هَمّ بحسنة فلم يعملها كَتَبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)( ).
الثانية : مضاعفة الثواب الذي ناله العبد في الدنيا .
الثالثة : الأجر والثواب ابتداء من عند الله عز وجل .
الثالث : استغفار المؤمنين للميت ، ودعاؤهم له .
الرابع : أداء أوليائه ما فاته من الفرائض العبادية ، والكفارات والنذور ونحوها .
الحمد لله على كل نعمة أنعم الله عز وجل بها علينا ، وليس من حصر لنعمه المتوالية على الفرد أو الجماعة .
لقد استعلى القرآن على كلام الناس فهو أسمى مرتبة وأعلى درجة ، وتعجز العقول عن درك مقاصده السامية .
وهو من الشواهد على أن الإنسان من عالم الممكن الذي تلازمه الحاجة والنقص والضعف والعجز والتفاوت بين الآماني والقدرة الذاتية للفرد والجماعة.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها كافوراً الأخشيدي حاكم مصر يومئذ :
مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ … تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ( ).
ولغة القرآن اسمى من افكار وأوهام الشعراء فلا يدرك المرء والجماعة ما يتمناه حتى وإن جرت الرياح بما تشتهي السفن وربانها وان شقت الماء بجؤجؤها ، ومن غير أن تجنح وتبلغ ماءً قليلاً وتلتصق في الأرض ، وكذا العكس , إذ أن فضل الله أكبر من التمني وليس دونه مانع.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار النبوة والتنزيل ، فقد صاحبت النبوة والوحي الإنسان حال عمارته الأرض ، وكان آدم أبو البشر نبياً ، وهل كان رسولاً أيضاً ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل وحجته على الناس .
و عن أبي ذر (يا رسول الله كم الأنبياء ، قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم ، قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء قلت : أكان آدم نبياً ،قال : نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده ، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك.
قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب ، قال : مائة وأربع كتب.
منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوح، وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان) ( ).
لبيان مصاحبة النبوة والتنزيل للإنسان في أول هبوطه إلى الأرض ، وهو من فضل الله على الناس جميعاً ، وفيه دعوة للسلم المجتمعي والتراحم للجامع المشترك بينهم بالأبوة والأمومة المتحدة بآدم وحواء.
وأن معنى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أعم من أن ينحصر بخلافة الناس بعضهم لبعض ، وجيلاً بعد جيل ، وأمة لأخرى وإن تباينت في المبدأ والعقيدة ، إنما جعل الله عز وجل الإنسان خليفة الأرض يتصرف ويمتلك ويتنعم فيها ، وفي قوم يونس قال الله [فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ]( ).
وهل يصدق تقدير الآية أعلاه من سورة البقرة خطاباً لآدم عليه السلام (اني جاعلك خليفة في الأرض) الجواب نعم.
وهل يصدق ذات التقديرعلى حواء ، الجواب إذا كان المراد من الخليفة النبي فلا يصدق ، أما إذا كان المعنى جنس البشر فيصدق على حواء وعموم النساء أنهن من الخلفاء في الأرض فلابد من التحلي بالتقوى.
ولا مانع من شمول الخليفة في المقام للمعنيين أعلاه ، فاذا ورد لفظ الخلفاء في الأرض دخلت فيه النساء ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، أما بخصوص خلافة الأنبياء ، فليس بينهم امرأة.
وقد لا تدل النكرة في مقام الإثبات على إفادة العموم إذا كانت مجردة من القرائن ، كما في قوله تعالى [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ]( ).
فمعنى الآية جاء رجل مخصوص وليس كل الرجال ، وهو مؤمن آل فرعون ، وابن عم فرعون ، واسمه حزقيل.
ونسبه الثعلبي إلى أكثر أهل التأويل وهو المختار لورود الحديث النبوي أدناه بخصوصه.
وقال الجبائي اسمه شمعون ، وقيل شمعان( ).
وهو الذي قام بانذار موسى وطلب منه مغادرة مصر لأن آل فرعون يتشاورون في القبض عليه وقتله.
فتوجه إلى مدين ولم يكن يعلم الطريق ، ولكنه يهتدي بالوحي.
لبيان الشدة والحرج وضيق المخرج عندما تبعث السلطة على الشخص لإرادة حبسه ، وموسى عليه السلام نبي رسول هداه الله للنجاة من آل فرعون بمعجزة إذ لا يعلم أين يتوجه وإلى من يلتجأ.
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزل عليه جبرئيل في ذات الليلة التي عزم كفار قريش على قتله فيها وأمره بالهجرة إلى المدينة لبيان تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتوجه إلى أنصار وبلدة تنشئ فيها المساجد حال وصوله ويتغير اسمها من يثرب إلى طيبة والمدينة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
ونزلت سورة الأنفال بعد معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، وورد موضوع الآية أعلاه في آية أخرى قبل هذه الآية بآيتين فقط ، فهل تكون هذه السورة فيصلاً بين المهاجرين وغيرهم ، وان القول بأن معنى الصحابي هو كل من رآى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسلم أعم من موضوع هذه الآية كما أن النسبة بين الصحابي والمهاجر عموم وخصوص مطلق .
فكل مهاجر هو صحابي وليس العكس ، وستبقى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعراضه عن المشركين بأمر من الله عز وجل حجة في لزوم إجتناب الإرهاب وإيذاء أهل البلد والناس.
ومن إعجاز القرآن ورود قوله تعالى [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى]( )، مرتين في القرآن مع تعدد واختلاف الموضوع ، إذ ورد مرة أخرى في سورة يس الآية (20) وعن ابن عباس اسمه حبيب النجار( ).
إذ سمع بالرسل الذين بعثهم عيسى عليه السلام إلى أهل انطاكية ورأى كرامة ومعجزة لهم ، فخرج من غار كان يعبد الله فيه ، وسألهم : تسألون أجراً ، فقالوا : لا ، فقال لقومه [اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :الصديقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار صاحب آل ياسين ، وعلي بن أبي طالب .
وأخرج أبو داود وأبو نعيم وابن عساكر والديلمي عن أبي ليلى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، الذي قال [يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ]( )، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال [أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ]( )، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم)( ).
وهل انقطعت النبوة ، الجواب نعم عندما غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا ، ولكن أحكام النبوة والتنزيل باقية إلى يوم القيامة ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس من جهات:
الأولى : نزول القرآن كاملاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يفارق الدنيا خاصة وأن القرآن كان ينزل نجوماً وعلى نحو التوالي والتعاقب ، وقال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثانية : سلامة القرآن وإلى يوم القيامة من التحريف أو الزيادة أو النقيصة ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالثة : بيان القرآن والسنة النبوية لأحكام الشريعة على نحو التكامل .
الرابعة : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات وأحكام القرآن ، وإجابته على الأسئلة التي تتعلق بالقرآن ، والسؤال من كل من :
الأول : أهل البيت وأزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (سأل علي عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله عن تفسير قوله [يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ]( )، قال: يا علي إن الوفد لا يكونون إلا ركبانا، اولئك رجال اتقوا الله فأحبهم الله واختصهم ورضي أعمالهم فسماهم الله المتقين.
ثم قال: يا علي أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنهم ليخرجون من قبورهم وبياض وجوههم كبياض الثلج، عليهم ثياب بياضها كبياض اللبن، عليهم نعال الذهب شراكها من لؤلؤ يتلالؤ)( ).
و(عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إنها قالت : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى [إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا]( ).
فقال : يا أم سلمة، هن اللواتي قُبضن في دار الدنيا عجائز شمطاً عمشاً رمصاً جعلهن الله عزّوجل بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء)( ).
الثاني : توجه المهاجرين والأنصار بالسؤال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسألة ، وإرادة البيان ذي صبغة الإعجاز من وجوه :
أولاً : إعجاز القرآن .
ثانياً : معجزة تفسير النبي بالوحي لآيات القرآن ، لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ثالثاً : إنتفاء التعارض بين القرآن والسنة .
رابعاً : معرفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخزائن القرآن الكريم ، فمن آياته ما يفهم ظاهرها العرب ولا يلجأون إلى السؤال بخصوصها ، نعم إنهم يدركون تعدد معانيها الظاهرة والخفية ، وأن في كل آية من القرآن ذخائر علمية متجددة ، وتستقرأ مع تقادم الأيام من غير أن تنفد .
الثالث : سؤال المهاجرين والأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن آيات القرآن وأحكام الشريعة .
وليس من حصر لأوان ومكان هذه الاسئلة فتأتي في المسجد والنبي على المنبر ، وقبل وبعد الصلاة ، وفي المجالس ، وفي السفر ، والكتائب ، وفي الليل والنهار ، وقد نزل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( ) ، لبيان كيفية وأوان سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترك غير المناسب وقد يأتي السؤال من المتعدد والجماعة.
و(عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية ، فتأثموا أن يتجروا في الموسم ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فنزلت [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ]( )، في مواسم الحج)( ).
وعن ابن عباس قال (إن الله لما أنزل [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا…]( )، كره المسلمون أن يضموا اليتامى وتحرجوا أن يخالطوهم في شيء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله [قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ]( )، يقول : لأحرجكم وضيق عليكم ، ولكنه وسع ويسر)( ).
الرابع : مجئ السؤال من يهود المدينة ، إذ كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم سؤال اختبار تارة ، وأخرى طلباً للبيان ، أو لاستقراء المستقبل ، أو للإطلاع على أسرار التنزيل ، ولا ينحصر سؤالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما بعد الهجرة إلى المدينة حيث جوارهم له ، إنما سألوه أيضاً وهو في مكة قبل الهجرة .
(قال المفسِّرون : سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ…]( )، فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا : يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول : وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً، أفعنيتنا أم قومك.
فقال عليه السلام : كلاًّ قد عنيت. قالوا: ألستَ تتلو فيما جاءَك : إنّا قد أُوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي في علم الله قليلٌ وقد آتاكم الله ما إنْ عملتم به انتفعتم. قالوا : يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا]( )، فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير)( ).
فأنزل الله [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وليس من حصر للأسئلة التي توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضوعها فتشمل أمور الدين والدنيا وإعجاز القرآن ودلالاته ، وما فيه من المجمل والمبين ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمكي والمدني ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد وأسباب النزول ، والتأويل وتفاصيل قصص الأنبياء ومواعظ القرآن.
وتفسير القرآن بعضه لبعض ، ومصاديق الرحمة والرأفة والعفو والصفح وقبح الظلم وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً يبين هذه العلوم ابتداء من غير أن يسأله أحد.
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإيمان بضع وسبعون باباً،
أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله) ( ).
ويستقرأ من الحديث لزوم تنزه المسلم عن الإرهاب من باب الأولوية القطعية لأن وظيفته الصلاح والإحسان لعموم الناس , فالطريق سور الموجبة الكلية ومن الكلي الطبيعي الذي يشترك بالإنتفاع منه الناس جميعاَ على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم .
ومن خصائص الآية القرآنية بعثها النفرة في النفوس من الظلم والإرهاب والتعدي , سواء في منطوقها أو مفهومها , كما في قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ) .
إذ تدعو الآية الأولى أعلاه إلى فعل الخيرات وترّغب بالقليل والصغير منها لبيان البشارة والثواب العظيم في الكثير والكبير منها .
وتدل في مفهومها على لزوم الإمتناع عن الإرهاب لخلوه من النفع مطلقاَ .
أما الآية الثانية فتزجر عن السيئات والظلم والإرهاب وتتضمن في ذات الوقت الإنذار والوعيد عليه , وهي في مفهومها دعوة للأمر بالمعروف , وتأديب الناشئة على بغض الإرهاب وبيان منافاته للإيمان ولسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تتجلى فيها معاني الرحمة والرأفة والحكمة , قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) .
الحمد لله الذي جعل القرآن كتاب السلم والأمن والسلام ، وتبعث تلاوة آياته السكينة في النفوس ، وتنمي ملكة الأخوة الإنسانية والإيمانية ، وفيها درء للفساد ، ومنع من الظلم وسفك الدماء ، وتدعو الآية القرآنية إلى الإحسان إلى الآخرين ونشر شآبيب الرحمة ، قال تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ].
الحمد لله الذي أنعم علينا بتوالي أجزاء هذا السِفر والتفسير الذي لم يشهد له التأريخ مثيلاً تأويلاً واستنباطاً من ذخائر القرآن ، ومع بلوغ أجزاء هذا التفسير (237) جزءً بفيض من الله سبحانه , فلا زلت في سورة آل عمران ، كما صدرت أجزاء متعددة بقوانين مستحدثة مستقرأة من آيات القرآن , منها قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) الذي صدرت بخصوصه الأجزاء(179-180-183-191-194-195-198-206-207-216-234-235-237)
لبيان أن كل آية من القرآن تدعو في منطوقها أو مفهومها أو بالجمع بينها وبين آية قرآنية أخرى إلى التراحم العام ، وتدل على حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية مطلقاً.
والمساهمة في تنضيد وطبع أجزاء هذا الِسفر المبارك من الخمس والحقوق الشرعية مبرئة للذمة , وفيها النماء والبركة.
وأكتب وأراجع وأصحح كتبي في التفسير والفقه والأصول بمفردي والحمد لله ، وهي معروضة على موقعنا (www.marjaiaa.com).
و(عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين)( ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إنما أنا رحمة مهداة.
لبيان إتصال واستدامة مصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة ، فتطل مصاديق الرحمة الواردة في القرآن والسنة على كل جيل وطبقة من الناس ، ومنها دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسلم ونشره الأمن ، ومنعه السلب والسبي ، ونهيه عن إرتكاب السيئات والمعاصي والظلم والإرهاب .
والنسبة بين الظلم والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإرهاب فرع الظلم ، وقال تعالى [وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
فالله سبحانه القادر على كل شئ ، وهو المتصرف بأمور الخلائق والحاكم المطلق في الدنيا والآخرة ، فلابد أن يتحلى المسلم بالصبر ويظهر الرحمة والرأفة بالناس جميعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في السنة النبوية جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتهذيب الأخلاق وإصلاح النفوس ، والإرشاد إلى العمل الصالح ، وإجتناب الفعل القبيح .
وعن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه وأرحب جوفه وأعطاه من الدنيا ، فكان للناس ظلوماً ، فذلك العتل الزنيم) ( ).
في اشارة إلى قوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ] ( ).
وقد وردت كلمات في هذه الآيات القصيرة لم ترد في غيرها وهي [حَلاَّفٍ] [هَمَّازٍ] [مَشَّاء] [نَمِيمٍ] [عُتُلٍّ] [زَنِيمٍ]لإنذار المسلمين من ذوي الأخلاق المذمومة ، ولزوم إجتناب طاعتهم أو الإنصات إليهم ، إنما أمر الله عز وجل بالإنصات إلى القرآن ،والإستماع لصوت الإرهاب ضد للقرآن ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
كما ورد لفظ [مَنَّاعٍ]و[مُعْتَدٍ] مرة أخرى في قوله تعالى [مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ] ( ) لبيان أن الإرهاب حاجب للخير عن الذات والغير ، وهو بذاته اعتداء على الناس ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار ومن واجبات الأمة مجتمعة كذا الأفراد والرؤساء منها تعاهد منزلتها وأمنها ، والنعم التي أسبغها الله عز وجل عليها ، بالتقوى والصبر والتقية ، والإمتناع عن الظلم والتعدي خاصة مع التداخل بين الأمم والتقارب بين البلدان بوسائط النقل فائقة السرعة ووسائل الإعلام التي جعلت البعيد قريباً عند الناس جميعاً ، وشدة فتك الأسلحة الهجومية وتطورها بسرعة مستمرة.
ولابد من اللجوء إلى حكم العقل العام ، وحفظ أنظمة الحياة ، ومنع أسباب الأزمات في الغذاء أو الطاقة أو السياسة ، ولابد من السعي لاستقرار العملات والأسواق العالمية ففيه نفع للجميع ، والتنزه عن الإرهاب والتفجيرات وما يبث الخوف بين عامة الناس مما هو ضرر محض على الذات والغير وضد الخشية من الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
لقد نزل القرآن وجاءت السنة النبوية بلزوم حبس النفس عن الغضب وأنه طريق لفتنة الشيطان، وقال يوسف عليه السلام [مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي]( ).
وقد حذر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإرهاب ومقدماته ، قال صلى الله عليه وآله وسلم (لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار)( ).
و(في الحديث: إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سَفْسافها)( ).
ومن وظائف السلم السعي في مسالك الأخلاق الحميدة ، وحسن المعاملة مع الناس جميعاً ، وتعاهد معالي الأخلاق ، وإجتناب الإرهاب الذي يبعد الإنسان عنها .
(عن أبي أيوب قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : دلني على عمل أعمله يدنيني من الجنة ويباعدني من النار . قال : تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل ذا رحمك . فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن تمسك بما أمر به دخل الجنة) ( ).
وكل أمر من هذه الأمور دعوة نبوية للعصمة من الإرهاب والتنزه عنه ، وإخبار بأنه يبعد الإنسان عن طريق الهداية إلى الجنة ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشر مرة في الصلاة اليومية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) والإرهاب طريق غواية ، وبعيد عن الإستقامة عقلاً وشرعاً وعرفاً .
حرر في السادس من شهر ذي الحجة 1443
8/7/2022
أسماء القرآن دعوة للتراحم
لقد وردت أسماء للقرآن متعددة في ثنايا آياته تدل على قدسيته وحاجة الناس إليه ومع أن المدار على المسمى إلا أن أسماء القرآن لها موضوعية لأن الله عز وجل هو الذي اختارها له ، فلابد لها موضوعية من جهة المعنى أو الدلالة أو المفهوم ، وما فيه الهداية والإصلاح وتأكيد نزول القرآن من عند الله عز وجل ، ومن هذه الأسماء :
الأول : الكتاب ، فالقرآن هو الكتاب السماوي الجامع للأحكام الشرعية ، والذي فيه السلامة والنجاة ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).
وفي تسمية القرآن بالكتاب دعوة للمسلمين لتعاهده وحفظه برسمه وكلماته وآياته ، لبيان أنه خزينة سماوية وعهد من عند الله عز وجل يجب تعاهده ، وبيان لزوم العمل بأحكامه .
الثاني : تسمية القرآن بشطر من الكتاب لمقام حرف جر التبعيض (مِن) في قوله تعالى [وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ] ( ) لبيان أن النسبة بين الكتاب والقرآن هي العموم والخصوص المطلق ، وأن الكتاب أعم ، وليس من حصر للأحكام والكتب السماوية .
إن تسمية القرآن بالكتاب عهد وميثاق بين الله عز وجل وبين المسلمين بلزوم عملهم بمضامينه وما فيه من الأوامر والنواهي ، وهل يتضمن اسم القرآن معاني النهي عن الإرهاب ، الجواب نعم .
لأنه دعوة لقراءة آياته والعمل بأحكامها ، وللأجر والثواب العظيم في قراءته والتدبر بمضامينه ، وذات قراءة الكتاب المنزل رحمة ، وإشاعة للتراحم والصفح بين الناس.
ومن معاني تسمية القرآن بعث المسلمين والناس على قراءته والترغيب فيها ، وتأكيد استقراء الإعجاز في تنزيله عند قراءته ، وترشح المنافع عن هذه القراءة ، وفيها تأديب وإصلاح للناس ونبذ للإرهاب.
الثالث : الذكر : يأتي الذكر في القرآن بمعاني متعددة منها أنه أنباء الأمم السابقة ، وموضوع التذكر والتذكير وأسباب الإنذار ، منه قوله تعالى [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ]( ).
ومن أسماء القرآن الذكر ، ووردت فيه آيات عديدة منها [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا]( )ومنها [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( )ومنها [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ويذكر القرآن الناس بأصول وفروع الدين ، ومن الأصول وجوب عبادة الله عز وجل والتصديق برسوله ، والإقرار باليوم الآخر ، وكل منها دعوة لنبذ العنف والإرهاب ، فذات العبادة وأداء الفرائض العبادية تقوى وتدعو إلى الخشية من الله عز وجل.
ويقود التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلم إلى الصبر والتواضع ، والرأفة بالناس .
أما الإقرار بيوم القيامة فهو زاجر عن الإرهاب لما فيه من إدراك لقانون إلتقاء الناس جميعاً في المحشر ، وإقتصاص المظلوم من الظالم.
ومجئ المقتول وأوداجه تقطر دماً يسأل الله عز وجل أخذ حقه من الذي قتله ، وهل يشكو الأيتام لله عز وجل ، قتل أبيهم أو أمهم.
الجواب نعم ، وكذا بالنسبة للآباء والأمهات الذين ذهب أبناؤهم ضحية الإرهاب والتفجيرات.
لبيان تبعات الإرهاب وأضراره وأنها متصلة في الدنيا والآخرة .
فجاء القرآن ذكراً وتذكيراً وإصلاحاً للناس ، ولمنع الإنسان من إلحاق الأذى بنفسه وغيره من الناس ، لقد أثنى الله عز وجل على نفسه بقوله [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( )من جهات :
الأولى : صيغة الجمع في الوصف ، لينفرد الله عز وجل باسم [إِنَّا نَحْنُ] الذي ورد في خمس آيات وهي :
أولاً : قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ثانياً : قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ]( ).
ثالثاً : قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
رابعاً : قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ]( ).
خامساً : قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً]( ).
ومن الإعجاز في الآيات أعلاه تأكيد قانون وهو المراد من الذكر هو القرآن فآية تقول نزلنا عليك الذكر ، وأخرى تقول نزلنا عليك القرآن ، وقد تقدم في الجزء السابق إنفراد الله عز وجل باسم التقديس [سُبْحَانَكَ] ( ) .
الثانية : تفضل الله عز وجل بتنزيل القرآن لبيان الأمن والسلامة للتنزيل في طرق السموات وإنعدام المسافات بين السماء والأرض .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بتسمية القرآن بالذكر ليبقى ذكرى وذاكرة وتذكيراً لأجيال الناس جميعاً وإلى يوم القيامة .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أعلاه أن نزول الذكر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى التوالي والتعاقب .
وتقدير الآية : انا نحن نزلنا عليك الذكر تنزيلاً ، وكان عمر مدرسة تنزيل القرآن ثلاثاً وعشرين سنة في تأديب الناس وإرتقائهم في سلم المعارف .
وكان الذي يدخل الإسلام يلتحق بهذه المدرسة ، فمن أسلم أوان الهجرة مثلاً استعاد التدبر في آيات القرآن التي نزلت في مكة ، ومن أسلم بعد صلح الحديبية ، وفك الإشتباك بين المسلمين والمشركين ، أعاد دراسة آيات القرآن ومضامينها القدسية ، وكذا بالنسبة للذي دخل الإسلام عام الفتح أو عام الوفود ، أو في العام العاشر عام حجة الوداع .
ليكون من معاني قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( )، الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الدخول في دين الله التفقه في الدين ، ومنه النفرة من الإرهاب ، والإمتناع عنه ، للتسليم بأن القرآن ينهى عنه ، ويذكر المسلمين بوجوب تنزه المؤمنين عن الظلم والإرهاب والتعدي .
الرابعة : إخبار الله عز وجل للناس بأنه سبحانه حافظ للقرآن ، وفيه تحد للمشركين وتأكيد لسلامة القرآن من التحريف والنقص ، ودعوة الناس في كل زمان للعمل بمضامينه ، ومنه التعاون والتأزر لنشر الأمن ، وتحقيق السلم والمصالحة والتنزه عن العنف والإرهاب.
الرابع : الفرقان : وهو مشتق من الفعل فرق ، ويراد منه التفريق بين اثنين أو أكثر ، وقد وردت سورة كاملة في القرآن باسم [الْفُرْقَانَ] وتبدأ بقوله تعالى [الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ).
ومن حيث التذكير والتأنيث فان الفرقان اسم علم مذكر مفرد ، وهو من أشهر أسماء القرآن بعد تسمية القرآن والكتاب ، ويدل كل واحد منها على معاني قدسية متعددة ، ويبعث الشوق في النفوس لقراءته ، كما أن الجمع بينها له دلالات وفيه مواعظ متعددة ، فهو الكتاب النازل من عند الله الجامع للأحكام الشرعية والمفرق بين كل من :
*الإيمان والكفر .
*الحق والباطل .
*الفعل الحسن والفعل القبيح ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
*التنزيل ، فلا يعني الفرقان إنحصار موضوعه بالتفريق بين اثنين أو أكثر ، فقد يصدق على تمييز الفرد الواحد ، كالهدى والصدق والسلم والعدل .
وهو لا يتعارض مع التفريق بينها وبين ضدها من الكفر والكذب والحرب والظلم ، وإرهاب عامة الناس .
وليس من حصر لمعاني أسماء القرآن التي جعلها الله موعظة سواء بذاتها أو بمعانيها أو بما يترشح عنها ، ويفرق القرآن بين الدفاع والغزو ، فقال سبحانه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومن معاني الجمع بين اسم الفرقان واسم التبيان للقرآن وضوح معاني ودلالات القرآن ، وتعيينه لمنهاج الإيمان وسنن التقوى ، وأن الظلم والإرهاب ضدً لها .
ومن معاني تسمية القرآن بالفرقان أنه ميزان للأعمال ، ويستطيع الذي يتلوه وينصت له أن يميز بين الحق والباطل ، فالقرآن بذاته فرقان ، ويجعل الإنسان يرتقي إلى مرتبة التفريق بين الحق والباطل في المسائل الإبتلائية، ويدرك وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الظلم قبيح .
الصغرى : الإرهاب ظلم .
النتيجة : الإرهاب قبيح .
ومن أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية تنمية ملكة الفرقان عندهم ، لذا فهم يقرأون سبع عشرة مرة كل يوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) إذ أن الفرقان طريق الهداية والرشاد ، وسبيل النجاة .
الرابع : البلاغ : من أسماء القرآن (البلاغ) فهو تبليغ وموعظة ، قال تعالى [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) وأيهما أكثر وجوه وأفراد البلاغ التي يتضمنها القرآن أم عدد آياته والتي مجموعها (6236) آية .
المختار هو الأول ، فوجوه البلاغ هي الأكثر ، وهو من إعجاز القرآن ، وبالإمكان إحصاء وجوه متعددة من بلاغات القرآن منها :
الأول : ما يتعلق بالتوحيد .
الثاني : بيان سعة ملك الله وقدرته المطلقة ، وفي التنزيل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الثالث : ما يخص حاجة الخلائق لله .
الرابع : مدرسة الدعاء والفيوضات التي تترشح عنها في النشأتين ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الخامس : ما يخص الرسالات السماوية .
السادس : ما يتعلق بالإيمان ، ونبذ الكفر .
السابع : بلاغات البشارة والإنذار والبلاغ المتعدد عن عالم الآخرة.
إلى جانب أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقيام بالتبليغ ، ليتفرع عنه قانون وهو (بلاغات الرسول) وذكرها وإحصاؤها وهذا الإحصاء مستقرأ من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( )، وقوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) وقوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
لتدل هذه الآية على لزوم تعاهد المسلمين لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإقامة على أداء الفرائض ونشر سنن الإيمان ومفاهيم الإحسان والرحمة والمودة بين الناس ، وما الإرهاب إلا ضد لها ، فيجب الإمتناع التام عنه ، وحض الناس على التنزه عنه وعن مفاهيمه .
ومن مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا] ( )، الجهاد لنشر الفضيلة والأخلاق الحميدة ، ومنها الصبر والصفح والعفو ، وإختبار السلم والموادعة ، وفي التنزيل [أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ]( ).
ومن خصائص الأنبياء النصح لعامة الناس ، وهي وظيفة أتباع الأنبياء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، لذا يجب نصح عامة الشباب بأن الإرهاب ضرر محض ، ويعود أذاه على ذات الشخص وعلى الطائفة والملة .
ومن معاني بقاء أحكام القرآن غضة طرية إلى يوم القيامة ، أنه كتاب النصح والهداية ، وما من نبي إلا واتصف بالنصح لقومه.
ويمتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن كل آية نزلت عليه من القرآن هي ناصح للأجيال المتعاقبة من المسلمين والناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ] ( )، ويلزم المسلمين في هذا الزمان التعاون للنصح لنبذ الإرهاب والتبرأ منه ، وهو ضد للإيمان ، وسبب لجلب البلوى على فاعله والمقصود منه بغير حق ، وما هو أعم وإذ ينقطع العمل الإرهابي في ساعته فان آثاره السلبية وأضراره مستمرة ، إذ قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً]( ).
ومن أسرار كون الإسلام الشريعة الباقية إلى يوم القيامة واتخاذ المسلمين القرآن دستوراً في الحياة نصح آياته للناس لنبذ الظلم والتعدي ، والإرهاب فرع الظلم وفرع التعدي .
وكذا بالنسبة لأسماء القرآن الأخرى ، فمن إعجاز القرآن نهيه عن الإرهاب ، وكون أسماؤه هي الأخرى ضد للإرهاب ، وعون على دفعه.
وصحيح أن المدار على المسمى ،وليس على الاسم إلا أن القرآن ينفرد بأن كل اسم من أسمائه زاجر عن الإرهاب .
وتعدد معنى كل اسم من أسماء القرآن فضل ولطف من عند الله لإصلاح النفوس والهداية لسبل الرشاد .
ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، (إن أسماء هذا القرآن تهدي للتي هي أقوم) ، وهو من الإعجاز في كون هذه الأسماء توقيفية من عند الله ، وهو لا يمنع من اسماء للقرآن من السنة النبوية أو أسماء مستقرأة من آيات ومضامين القرآن.
قانون اسم القرآن مانع من الإرهاب
القرآن الكتاب السماوي الذي يتضمن كلام الله الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة جبرئيل ، والمصحف هو كتاب جامع يقع بين دفتين ، فلا ينحصر هذا الاسم بالقرآن ، لذا لم يرد لفظ (المصحف) في القرآن إنما وردت تسميته على وجوه ، منها القرآن ، وهو أشهر أسمائه ، والاسم الذي ينفرد به من بين الكتب السماوية .
ومن الإعجاز في المقام ورود لفظ (هذا القرآن ) ست عشرة مرة في القرآن كلها تشير إلى خصوص القرآن منها [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] ( ) .
ومنها [وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا]( ).
ويراد منه شكاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله على القوم الكافرين من قومه لاستهزائهم بالتنزيل ، وهجران وترك القرآن ، وفيه دعوة للمسلمين بالعناية بالقرآن والصدور عنه ، ومنه التنزه عن الإرهاب والإمتناع عن الإضرار بالناس .
وقالوا إنه سحر ، وهل إرتكاب الإرهاب من الهجران للقرآن ، والإبتعاد عن أحكامه وسننه ، وأسباب الرحمة فيه ، الجواب نعم .
وصحيح أن المدار على المسمى ، ولكن للاسم العقائدي والشرعي أمارات ودلالات ، ومنها اسم القرآن فهو سور جامع في التربية والتأديب .
ومن خصائص المؤمن إدراكه لقانون توجه خطابات القرآن له ، فهو يعلم أن الأوامرالقرآنية موجهة إليه للعمل بها ، وأن النواهي القرآنية زاجرة له ، وهو من أسرار وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم في صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء لتنمي هذه القراءة ملكة حب القرآن في النفوس ، وفي هذه الملكة عصمة مسائل :
الأولى : إنها عصمة من الإرهاب .
الثانية : إنها مانع من إختيار الفعل الذي يضر عامة الناس .
الثالثة : لزوم ترك الفعل الذي يسبب سفك الدماء كالتفجير العشوائي .
ومن معاني اسم القرآن دعوة المسلمين لقراءته ، والتفقه في الدين ، وهذه القراءة حجاب وبرزخ دون الإرهاب والظلم والتعدي ، فلا غرابة أن أول آية نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) وسيأتي بيان مفهومها في نبذ الإرهاب.
وفي قراءة القرآن والتدبر في مضامينه عز للمؤمنين ، وسعادة وباب للرزق الكريم ، فلا يصح أن يخدش الإرهاب هذا العز ، أو يحجب أبواب الرزق عن الفرد أو الجماعة والأمة .
ويمكن القول أن اسم القرآن وحده حرب على الإرهاب ، لما يتبادر من النطق به أو سماعه من الإقرار بالتنزيل ، ولزوم التحلي بالأخلاق الحميدة ، واتباع الأوامر التي وردت فيه ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص وعلى نحو يومي على إكرام القرآن ، وتأكيد موضوعيته في الحياة العامة ، وأنه حق وصدق ، وجزء من حياة المسلم اليومية .
ومن معاني وأسماء القرآن أنه نور ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
ومن خصائص نور التنزيل طرده لظلمة الإرهاب والعتمة التي تترشح عنه .
ومن أسرار بقاء آيات القرآن غضة طرية كشف الحقائق للناس ، فالفرد الذي يرى جواز الإرهاب تنكشف له أمور :
الأول : قبح الإرهاب .
الثاني : ضرر الإرهاب الخاص والعام .
الثالث : سوء عاقبة الإرهاب .
الرابع : نفرة الناس من الإرهاب .
الخامس: التنافي والتضاد بين القرآن والإرهاب .
وهل نهي القرآن من الإرهاب من باب القطع أم الظن ، الجواب هو الأول ، فقد نزل القرآن لتنزيه الأرض من الإرهاب وإلى يوم القيامة إلى جانب إدراك العقل لخلو الإرهاب من النفع الخاص أو العام .
ومن معاني تسمية القرآن بالنور أنه يملأ الصدور بالمعرفة ويضئ للناس سبل الهداية فيرتقي المسلم إلى مراتب العصمة من الإرهاب ، ولا عبرة بالقليل النادر .
(عن جابر بن عبد الله قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخط خطاً هكذا أمامه فقال : هذا سبيل الله ، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال : هذا سبيل الشيطان . ثم وضع يده في الخط الأوسط وتلا [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ]الآية)( )( ).
ووردت آية آخرى بتسمية القرآن نوراً مبيناً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا] ( ) في دلالة على أن القرآن كتاب هداية ورشاد للناس جميعاً ، وأنه فرقان يميز معه الإنسان بين الحق والباطل ، ويُدرك معه إقامة الله عز وجل الحجة على الناس بأن الظلم قبيح ، وأن الإرهاب منهي عنه .
قانون المواطنة مانع من الإرهاب
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن تستوعب التبدل والتغيير في حياة الأمم والشعوب بما يفيد الصلاح ونبذ الظلم والإرهاب , لقانون القرآن كتاب السلم السماوي , فلا ينزل الله عز وجل كتاباَ إلا وهو يدعو إلى السلم ، ويأمر به ويحض عليه ، ويخبر عن الثواب العظيم بإنتهاج السلم , وينذر من الإقتتال والظلم والإرهاب , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وهل هذا الدخول خاص بالمسلمين الجواب لا , فهو عام لأن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ولأن النبي محمداً رسول إلى الناس جميعاً , ولورود آيات تدعو الناس للسلم وتعاهد السلم المجتمعي , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
لبيان أن تعاهد الأمن العام مسؤولية تكافلية على الناس جميعاَ , وهو غير الإيمان أو الكفر .
نعم لا يتم السلم العام إلا بالخشية من الله عز وجل واتباع سنن التقوى لذا أبى الله عز وجل أن تغادر النبوة والتنزيل الأرض , واصطلاح المواطنة مأخوذ من مادة وطن .
(والغُرْبَةُ: الاغْتِرابُ من الوَطَنِ. والغُرْبُ: الذَّهَابُ والتَّنَحّي عن الناس، غَرَبَ غُرْباً. وأغْرَبْتُه وغَرَّبْتُه: إذا نَحَّيْتَه، وأغْرِبْهُ وغَرِّبْهُ) ( ).
ليكون مفهوم الوطن لغة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة فيشمل المسكن والمحلة والقرية , ومحل الإقامة والبلدة.
وهو في إصطلاح هذا الزمان الدولة والدستور التي هي الخيمة وسور الموجبة الكلية والإنتماء إليه سواء حصل التقسيم وضبط حدود الوطن تأريخياَ أو عبر إتفاقات أو حروب أو بالسلم والصلح .
ومن خصائص المواطنة المساواة بين الأفراد في الواجبات والحقوق , ولزوم خضوع والتزام الفرد بقوانين البلد , لقانون الإشتراك في الوطن , ولا يختص هذا الإلتزام بالمواطنين بل يشمل عموم المقيمين والمسافرين إليه , وفي الفقه من أقام عشرة أيام في بلدة يؤدي الصلاة تماماَ ويصوم اليوم من رمضان لأنه كأهل تلك البلدة في الحكم , وتملي قوانين المواطنة وحسنها الموضوعي على المواطنين والمقيمين جميعاَ التنزه عن الإرهاب , والإبتعاد عنه , فهو ضد لكل من واجبات وحقوق المواطنة .
وهل يدخل تقسيم الأرض والأمصار إلى دول في هذا الزمان في مصاديق الشعوب في قوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ) الجواب نعم .
ومن الإعجاز في المقام نسبة الشعب إلى الوطن في هذا الزمن فيقال الشعب العراقي , والشعب المصري , والشعب الإيراني , والشعب الأمريكي وغيره .
مما يلزم عناية الأفراد بمصالح الشعب ومنها منع حدوث الإرهاب أو التفجيرات العشوائية بين ظهرانيهم .
قانون آية النفر دفع للإرهاب
صار لنزول القرآن أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، ولم يخط علم التفسير والتأويل إلا خطوات عديدة مباركة ، ولم يحط بتسمية واحد إلى ألف من علوم القرآن ، وإن كانت هناك شهرة لعدد من كتب التفسير ورجالاته الذين بذلوا الوسع في التحقيق والتفسير ، ولكن كنوز وخزائن القرآن عظيمة .
وهل هو من الصرفة أي أن الله عز وجل صرف العلماء عن سبر أغوار القرآن واستخراج كنوزه ، الجواب لا ، إنما يدعو الله عز وجل العلماء والناس للنهل من القرآن ، والتدبر فيه ، وبيان ذخائره ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
وأستدل في علم الأصول بالآية أعلاه على حجية خبر الواحد الثقة لأن من معاني الطائفة لغة هو الفرد الواحد ، ومع أن المختار هو حجيته فقد رددت على هذا القول بافادة معنى الطائفة في الآية الجمع ، إذ ورد قوله تعالى في وصفهم [لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ].
وتدل واو الجماعة المتكررة أعلاه الجمع .
وكذا الضمير (هم) في [قَوْمَهُمْ] .
ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتدارسوا القرآن ويظهروا علومه ، ويبينوا أحكامه والسنة النبوية .
الثاني : لينذورا قومهم من الإرهاب والتعدي .
الثالث : لينذروا قومهم من الركون إلى الإرهاب للزوم النهي عنه .
الرابع : لينذروا قومهم من الاضرار الخاصة والعامة التي تترتب على الإرهاب ، إذ يقوم بالفعل شخص واحد , ولكن الأذى قد يلحق الطائفة والدولة والأمة .
الخامس : من دلالات [وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ]( ) براءة الإسلام والسنة النبوية من الإرهاب .
السادس : بيان قانون التفقه في الدين واقية من الإرهاب .
السابع : قانون وجوب البيان على الفقهاء لأنهم لم ينفروا إلى القتال أو مرابطة في الثغور، إنما وصفت الآية طلبهم العلم بأنه نفير ومرابطة مما يلزم ترتب الأثر عليه من التفقه والتعليم ، وبيان أحكام الشريعة للناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثامن : قانون وجوب إخلاص الفقهاء في عملهم وسعيهم ، والقيام بالتبليغ وفق الكتاب والسنة .
التاسع : آية النفر أعلاه شاهد سماوي ووجداني على أن الله عز وجل أراد حفظ القرآن من الزيادة أو النقيصة أو التحريف ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) .
العاشر : قراءة القرآن وتبليغ أحكامه زجر عن الإرهاب ، ودعوة لإجتنابه .
الحادي عشر : في تبليغ أحكام الشريعة تهذيب للسلوك .
الثاني عشر : من مصاديق النفر للتفقه في الدين تولي إمامة الجماعة في الصلاة ، وفيه تعاهد للصلاة ، ومن خصائصها النهي الفعلي عن الإرهاب لقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) وبين المنكر والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالإرهاب والإضرار بالأنفس والممتلكات من المنكر .
ومن منافع صلاة الجماعة إصلاح النفوس ونشر ألوية السلم , والتعاون لمنع الإنسان من التعدي والعدوان ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ) وخصت الآية الركوع لانفراد صلاة المسلمين به وما فيه من الخشوع وتعظيم مقام الربوبية ، وفيه تأديب للإمتناع عن الظلم والإرهاب .
وسواء كان النفير للتفقه أو نفير الأمة للدفاع فانه ضد للإرهاب ، وإنصراف عنه ، ومن خصائص التفقه في الدين بعث النفرة في النفوس من الإرهاب .
وهل تدل الآية على أن النفر للتفقه على نحو الواجب الكفائي ، الجواب نعم ، وقد يكون واجباً عينياً على بعض العلماء ، وأمناء الشريعة ، وليس في الآية ما يدل على الغزو والنفر له .
إذ تدل الشواهد على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع في معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة الخندق ، ومعركة حنين .
يطل المشركون على المدينة لغرض استباحتها ، فينفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع وتبقى طائفة لإقامة الصلاة في المدينة ، والإجابة على الأسئلة من عامة المسلمين الذين لم يخرجوا للنفر عن عذر ونحوه ، وأسئلة المسلمات ، إذ يسقط عنهن الجهاد ، وأسئلة اليهود وغيرهم , وفك الخصومة , والتصدي للمنافقين , ومنع الفتنة .
وتلقي رجال ووفود القبائل والبدو الذين يأتون إلى المدينة لرؤية دلائل النبوة ، وقدومهم هذا مقدمة واستعداد لنبذ الإرهاب والغزو والسلب والنهب بين القبائل ، ليكون ذات القدوم هذا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما يتضمن من المعاني والدلائل والمقاصد .
وتبين آية النفر قانون ثبوت قواعد الإسلام وإنشاء دولته في المدينة المنورة لا تغادرها الفقاهة وإلى يوم القيامة ، لبيان قانون وهو التضاد المستمر والمتجدد بين الفقاهة والإرهاب ، فالذي يتفقه في الدين يمتنع عن الإرهاب ، ويدعو الناس لإجتنابه والنفرة منه .
وإذا جاءت الوفود والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة خارج المدينة فهل يرون شواهد ومعجزات في المدينة تدل على صدق نبوته ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ يرون إقامة صلاة الجماعة خمس مرات في المدينة ، ومن وظائف الطائفة التي تنفر للفقاهة تعاهد إقامتها لعمومات قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ) .
ويرون الأخلاق الحميدة التي صار عليها الناس ، والتنزه عن الإرهاب ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه البركة ومنافعها متجددة وباقية في عموم الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من رشحات إعلان الأذان خمس مرات يومياَ في ربوع الأرض ، ودعوة المسلمين للصلاة ، وللتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله عز وجل رحمة للناس ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
(عن ابن عباس في قوله { وما كان المؤمنون لينفروا كافة }( ) يعني ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }( ) يعني عصبة يعني السرايا فلا يسيرون إلا باذنه .
فإذا رجعت السرايا وقد نزل قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا : إن الله قد أنزل على نبيكم بعدنا قرآناً وقد تعلمناه ، فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم بعدهم ، ويبعث سرايا أخر ، فذلك قوله { ليتفقهوا في الدين } يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيه ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم { لعلهم يحذرون })( ).
ومن معاني تسمية القرآن بالكتاب أنه جامع للأحكام الشرعية ، وفيه ما يحتاج الناس ليعرض العمل الإرهابي عليه ، فتجد القرآن ينهى عنه سواء كان الإرهاب ضد مسلم أو كتابي أو غيرهما ، وكذا بالنسبة للسنة النبوية ، فقد كان بعض رجالات قريش يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات الدعوة في مكة ، ولم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باغتيال أحدهم ، وقتلوا بعض الصحابة تحت التعذيب ، مثل سمية بنت خياط أم عمار ، قتلها أبو جهل ومع هذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقصاص إنما كان يقول حينما يمر عليهم أثناء التعذيب , صبراَ آل ياسر.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ ، فَيَمُرّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَيَقُول ، فِيمَا بَلَغَنِي : صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة فَأَمّا أُمّهُ فَقَتَلُوهَا ، وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ) ( ).
و(عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بعمار بن ياسر وبأهله ، وهم يعذبون في الله عز وجل ، فقال : أبشروا آل ياسر ، موعدكم الجنة) ( ).
ومن معاني تسمية القرآن الكتاب أنه الفيصل والحكم ، وفيه دعوة لصدور المسلمين عنه ، واستنباط الأحكام منه ، ويمكن القول أن كل آية مسألة أصولية يقع مضمونها ونتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي ، وفيه حرمة الإرهاب مثلما يدل القرآن على حرمة الربا والكذب ، بل من باب الأولية القطعية لأنه أضرار بالنفس والغير ، وبقاء التبعات التي تترتب عليه إلى أجل ، قال تعالى [تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ] ( ) . ومن إخلاص العبادة التنزه عن الإرهاب ، وعن الإضرار بالآخرين مسلمين أو غيرهم ، ومن معاني إخلاص العبادة الإمتناع عن الإرهاب ، والتنزه عن مفاهيمه ، وعدم نصرة أو تعضيد الذي يقوم به . ولم يرد لفظ [كِتَابُنَا] في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( )ويتعلق موضوع الآية بالدار الآخرة ،وهل يشمل القرآن . الجواب نعم ، ففيه إنذار من فعل السيئات وما يخالف أداب وسنن القرآن ، وإرتكاب المعصية التي نهى عنها ، ومنها الظلم والتعدي . والنسبة بين كل واحد منهما وبين الإرهاب هو العموم والخصوص المطلق . وقال تعالى [اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ] ( ) ومن معاني الميزان العدل وانزاله أي إحكامه بالعدل ، وتقريب الناس للعمل به . ترى ما هي النسبة بين العدل والإرهاب ، الجواب هو التضاد ، لذا لابد من الإحتراز من الإرهاب ومقدماته . قانون ذهاب إرهاب قريش هباءً لقد ابتدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية بعد أن نزل عليه جبرئيل بالوحي والتنزيل ، وعندما توالت آيات القرآن ، وتضمنت ذم الأصنام وعبادتها قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ) وقال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا]( ). ومع توالي نزول آيات القرآن فكلما نزلت سورة أو آيات من القرآن يزداد أذى الكفار على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحاربونه بالسخرية والإستهزاء والإفتراء ، ثم ادركوا أن هذه الصيغة من الحرب لم تمنعه من مواصلة التبليغ ، ولا تحجب الناس عن دخول الإسلام . وكانت قريش ذات معرفة بالتأريخ ومعارك العرب وتداول الأيام بين الدول فأدركوا عقلاَ ووجداناَ أن النبوة ظاهرة وأن الناس تنجذب إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن دولتهم إلى زوال فلابد من حكم الشريعة عندها عزموا على التخلص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحد وجوه : الأول : السجن كما يسجن بعض الشعراء , الذين يكثرون الهجاء والذم لقومهم فيرمون بالجنون ونحوه . الثاني :القتل , ودفع دية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني هاشم . الثالث : الإخراج من مكة وإغراء القبائل به . وقد وثّق القرآن مكر ودهاء وخبث قريش هذا وخيبتهم وعجزهم فقال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ). لتكون نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة من جهات : الأولى : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عزم المشركين على قتله مع سهولة الإغتيال والغدر عندهم , وتحريض بعض الغلمان والعبيد عليه . الثانية : نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، وهل يمكن القول بقرب القتل منه كل يوم قبل الهجرة ، الجواب نعم ، لتكون هذه النجاة معجزة له . وهل تختص مصاديق هذه المعجزة بوجود النبي بين ظهراني المشركين في مكة ، الجواب لا ، فان قرب الموت منه مصاحب لأيام النبوة ، وحتى بعد الهجرة ، ومن الآيات التي نزلت في المدينة قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ) . الثالثة : معجزة هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة إرادة قريش قتله بخطة محكمة ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ). الرابعة : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ميدان معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين سالماً من القتل مع أن قصد المشركين في كل معركة من هذه المعارك الأربعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله الهدف الأول . الخامسة : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من محاولات الإغتيال العديدة . ويدل عليه توالي غزو المشركين للمدينة وتجاهرهم بقصد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ، وندمهم بعد المعركة على عجزهم عن قتله ، ولم يعلموا أن هذا العجز معجزة من عند الله عز وجل ، كما في معركة أحد . فعندما انسحب المشركون في ذات يوم المعركة ووصلوا إلى بعض الطريق باتجاه مكة أظهروا الندم ، واتفق أن لقى معبد الخزاعي أبا سفيان وجيشه في الروحاء عائدين من معركة أحد فسمعهم (يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل) ( ). وكان معبد هذا يومئذ مشركاً ، ولكن خزاعة سلم للنبي ، وكانوا لا يخفون عنه شيئاً ، حتى إذا ما تم صلح الحديبية بادرت خزاعة في الدخول في صلح محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبني هاشم مطلقاً ، وكان يتأسف لما لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الخسارة يوم أحد ، إذ خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما التقى به في حمراء الأسد حيث خرج النبي وطائفة من أصحابه في طلب أبي سفيان وجيشه عندما بلغ المدينة أنهم ينوون العودة لغزوها قبل لقائه بأبي سفيان (يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك) ( ). مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتعرض للمشركين في الجادة العامة , وحتى في المدينة ، ولم ينتقم لخسارته في معركة أحد من الذين لم يشاركوا في القتال منهم ، بل حتى الذين شاركوا فيها فلا انتقام منهم . وحينما رآى أبو سفيان وأصحابه معبداً قادماً من ناحية المدينة ويعلمون أنه مشرك مثلهم ولا يشّكون فيه . قال أبو سفيان عندما رآه : هذا معبد وعنده الخبر ، ما وراءك يا معبد ؟ لقد انقطع جدالهم بخصوص الكرة ثانية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والذي كان أكثر المحرضين فيه عكرمة بن أبي جهل إذ يطلب ثار أبيه الذي قُتل في معركة بدر . حينئذ أجابهم معبد بما بعث الخوف في قلوبهم إذ قال (محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط) ( ). فاصابت الدهشة أبا سفيان وأصحابه . فقال لمعبد :ويلك ما تقول ، ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في حمراء الأسد سوى مائتين ونيف من أصحابه ، وكثير منهم أثقلتهم جراحات معركة أحد التي لم يمض عليها إلا يومان أو ثلاث . فأجابه معبد من غير تردد (والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل) ( ). ليدب الخوف في قلوب المشركين ،وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) وقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ). عندئذ عرض أبو سفيان نيتهم العودة للإغارة على المدينة ، إذ قال (فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم ) ( ). ويدل هذا الكلام على عزم المشركين على الإبادة الجماعية ، وهو من أشد ضروب الإرهاب ، وأنهم لن يرضوا إلا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه . فنهاه معبد وحذره وأخبره بلحوق الخسارة بهم إن أعادوا الكرة ، ثم صار يقرأ أبياتاً من الشعر نظمها خاصة بالمناسبة : كادت تهد من الأصوات راحلتي.. إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردى بأسدٍ كرام لا تنابلةٍ … عند اللقاء ولا خرقٍ معازيل فظلت عدواً أظن الأرض مائلةً … لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حربٍ من لقائكم .. إذا تغطمطت البطحاء بالجيل إني نذيرٌ لأهل البسل ضاحيةً … لكل ذي إربةٍ منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخشٍ قنابله.وليس يوصف ما أنذرت بالقيل)( ). فامتنع أبو سفيان ورؤساء الجيش عن العودة إلى الهجوم على المدينة وتجدد القتال ، وهو من الإعجاز في خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد ، والتي تسمى غزوة حمراء الأسد مع أنه لم يقصد بلدة أو قرية ، ولا يطلب القتال ، إنما خرج إليها ليمنع القتال ، ويدرء الفتنة ، ويحول دون الإبادة الجماعية ، وهو من الشواهد على أن خروجه إلى حمراء الأسد من الوحي وبقصد السلام ومحاربة الإرهاب والنهي عنه . وتبعد حمراء الأسد عن المسجد النبوي نحو (12) كم من جهة الجنوب الغربي من المدينة، ودخلت في هذا الزمان في المخطط السكاني للمدينة ، وهذه التوسعة فيها من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التأريخية اللاحقة التي تحققت وتتحقق بعد مغادرته الحياة الدنيا . ولم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حمراء الأسد إلا ثلاثة أيام ، فقد وقعت معركة أحد يوم السبت النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد يوم الأحد . وأقام وأصحابه فيها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء . ورجع إلى المدينة ليثني الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين خرجوا معه ويوثق القرآن خروجهم مع إصابتهم بالجروح الشديدة ، قال تعالى الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌولم يرد لفظ [جَمَعُوا] [فَاخْشَوْهُمْ] في القرآن إلا في الآية اعلاه . واكتفى أبو سفيان بالتخويف والوعيد إذ مرّ عليه ركب من عبد قيس من المشركين ، فقال لهم : أين تريدون. فقال : ولم ؟ إذ كان يخشى ذهابهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدخول الإسلام . قالوا : نريد الميرة ، أي التسوق وشراء التمور من المدينة ، فأطمئن لهم ، فقال (فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه، لنستأصل بقيتهم) ( ). وعندما وصلوا إلى حمراء الأسد رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلة عددهم بينما كان جيش المشركين نحو ثلاثة آلاف رجل لم ينقص إلا بعدد قتلاهم في معركة أحد وهم اثنان وعشرون ، ومغادرة بعض الرجال لهم ، فلم تتفرق القبائل بعد باتجاه الطرق الخاصة بها إلى قراها . فأخبر الركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما قال أبو سفيان ، فلم يزدهم إلا إيماناً ، وأظهر الصبر والعزم على الثبات ، ونزل قوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ولم يبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حمراء الأسد سوى ثلاثة أيام الأثنين السابع عشر من شهر شوال ، والثلاثاء والأربعاء ، وعاد إلى المدينة لينجو أهلها من بطش المشركين . وليخلد الله عز وجل هذا الخروج إلى يوم القيامة بالثناء النازل من السماء والبشارة بالثواب العظيم لبيان أن عاقبة الصبر ومحاربة الإرهاب الفوز بحب الله ، وفي التنزيل [اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) . وهذا الثناء من الإعجاز في المقام مع بيان أسبابه واستحقاقه وفي ثلاث آيات من القرآن إذ قال تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]( ).
ولما أحتج الملائكة على جعل الإنسان في الأرض خليفة وقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علم الله عز وجل وحيه إلى رسوله الكريم بالخروج بطائفة من أصحابه إلى حمراء الأسد ، لتكون فيها سلامته وعامة أهل المدينة من المسلمين واليهود والمشركين ، وصيانة أموالهم لأن الغزاة المشركين يقومون بالنهب والسلب من غير تمييز بين الناس ، وهو من الفساد الذي صرفه الله عز وجل بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد التي هي لا يصدق عليها غزوة ، إنما هي لدفع الغزو ، وصرف القتال ، ومنع الضرر العام ، وفيها خزي للذين كفروا بين الناس ، والحيلولة دون إدعائهم النصر في معركة أحد ، فلو كانوا قدحققوا النصر فيها لما عزموا على الكرة على المدينة وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
قصص الأنبياء موعظة
يبين القرآن قانون إنصراف إرهاب الكفار ودفع أذاهم وكيدهم من وجوه متعددة منها :
الأول : قصص الأنبياء السابقين التي هي موعظة للمؤمنين والكفار وعامة الناس .
الثاني : إزدياد إيمان الذين آمنوا , قال تعالى [وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ]( ).
وهل قصص القرآن من مقدمات وأسباب السكينة التي وردت في قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( )، الجواب نعم .
وهو من اللطف الإلهي في باب الأسباب والمقدمات والتخفيف عن المؤمنين , وجعلهم يرتقون في المعارف الإلهية .
الثالث : عصمة المؤمنين من النفاق إذ يتخذون من سيرة وسنن الأنبياء أسوة وقدوة وضياء في مسالك الحياة , وضروب الإبتلاء اليومية خاصة مع اشتداد أذى الكفار على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم .
الرابع : زجر المنافقين عن الإقامة على النفاق , والسعي في إثارة الريب والشكوك , ولا يعلم إيذاء المنافقين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إلا الله عز وجل , وهو يعلم بالظاهر والنوايا , والخفايا , قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الخامس : دعوة الكفار للتوبة والإنابة , والتدبر في آيات التنزيل , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) .
وستأتي دلالة هذه الآية على حرمة الإرهاب
السادس : التصدي لجيوش المشركين , ومدافعتهم ومنعهم من تحقيق غاياتهم الخبيثة في صدّ الناس عن دخول الإسلام , وإبطال اجتهادهم في منع شعائر الله عز وجل .
السابع : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة الأذى الذي لاقاه الأنبياء وأصحابهم من المشركين ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) ( ).
اسم (كلام الله) زاجر عن الإرهاب
لقد أكرم الله عز وجل القرآن وسمّاه كلامه وهو يعلم أنه سيدخل كل بيت من بيوت المسلمين , ويجري على الألسنة ويتلى كل يوم في مكة والمدينة , ثم في مشارق الأرض ومغاربها , وهو من الإعجاز في هذه التسمية بانبساطها على أقطار الأرض وكما تحضر رحمة الله عز وجل يحضر كلامه فيكون ضياءَ وسبباَ لجلب المصلحة ونزول النعمة .
وتسمية كلام الله عز وجل دعوة للناس للعناية بالقرآن , وحض للمسلمين على العمل بأحكامه , ولبيان أن كلام الله عز وجل لا يأمر بالإرهاب أبداَ .
وقد ورد لفظ (كلام الله) ثلاث مرات في القرآن هي :
الأولى : قال تعالى [أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
لبيان موضوعية القرآن في هداية الناس سواء بالتلاوة أو الإستماع له أو الإحتجاج بآياته وتدعو الآية لتعاهد آيات القرآن , والحيطة والحذر من تحريفه سواء في الرسم أو اللفظ أو المعنى .
ومن خصائص القرآن أنه لا يدعو إلى الإرهاب أبداَ , إنما يتضمن تحريمه والنهي عنه .
الثانية : قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
تبين الآية لزوم الرفق بالناس حتى الكفار عندما يأتون للسؤال والمعرفة والتدبر أو عند اللجوء والإستجارة والإستغاثة , فلا يلاقون بالإنتقام والبطش والإرهاب .
مما يدل على حرمته ولزوم حسن المعاشرة مع الناس جميعاَ , ومن معاني الآية لزوم توفير الأمن والأمان للناس , وعدم إخافتهم.
الثالثة : قال تعالى [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
في الآية بشارة سلامة القرآن من تبديل أو تحريف كلماته وأحكامه ومعانيه , وتبين الآية الحاجة إلى الفقاهة والتعلم , ومعهما تتجلى للإنسان حقيقة القبح الذاتي للإرهاب والتنافي بينه وبين الإيمان .
وفي هذه الآيات تحذير ونهي عن تحريف معنى الآية بما يضفي نوع شرعية على العمل الإرهابي , ومن معاني قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ]( ) في الآية أعلاه وجوه :
الأول : بيان الآية القرآنية لمعناها ودلالتها , قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثاني : تفسير القرآن بعضه لبعض بما يمنع من التحريف وسوء التأويل .
الثالث : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
الرابع : مجئ السنة النبوية القولية والفعلية لكشف معاني الآية القرآنية , وبيان معالم الإيمان .
الخامس : ورود أسباب نزول لآيات القرآن .
وهل تكلف الإستدلال على العمل الإرهابي من القرآن من تحريف كلام الله عز وجل , الجواب نعم , والمراد تحريف تأويله , وسوء التفسير , وحمله على غير مقاصده السامية لأن ملاكه الرحمة والسلم والموادعة والرأفة بين الناس , ويدل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) على أن كل آية من القرآن رحمة بالناس جميعاَ.
فإن قلت قد قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين وهم شعبة من الناس .
والجواب إنما هم الذين قاتلوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهجموا على المدينة وسعوا في قتله وهو في مكة , وبعد الهجرة إلى المدينة ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال دفاع وضرورة لصرف المشركين وخططهم الخبيثة .
وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة عن جعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) سألوه أن ينزه الأرض من سفك الدماء , ومن الفساد , فكما أن السماء ملك طلق لله سبحانه فكذا الأرض , وفي التنزيل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علم الله عز وجل دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه عن ملة التوحيد وتبليغه لكتاب الله عز وجل وآياته ومن خصائصها النهي عن الفساد وعن الإرهاب .
لقد احتج الملائكة بالقول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) وهناك مسألتان :
الأولى : النسبة بين الفساد والإرهاب عموم وخصوص مطلق , فالإرهاب من فصيلة الفساد لما فيه من الأضرار العامة , وإثارة الفزع بين الناس , لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد ضد الفساد , ويمنع من الإرهاب .
الثانية : النسبة بين سفك الدماء وبين الإرهاب عموم وخصوص مطلق , فالإرهاب شعبة من سفك الدماء إلى حانب ما فيه من تلف الممتلكات ، وتعطيل الأعمال.
لبيان قانون وهو مجئ كل نبي بمحاربة الإرهاب وهو من المعجزات الحسية , ليمتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن محاربته للإرهاب مستديمة ومتجددة وباقية إلى يوم القيامة.
وتتقوم هذه المحاربة للإرهاب بكلام الله عز وجل , وآيات التنزيل والسنة النبوية , وهو من الشواهد على الحاجة إلى سلامة القرآن من التحريف , ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) ، حفظ القرآن من التحريف وسوء التأويل الذي يؤدي إلى الفساد والإرهاب وسفك الدماء .
قانون مقابلة النبي (ص) الإرهاب بالصبر والعفو
من سنن الحياة الدنيا ملاقاة الأنبياء الأذى من قومهم ، وقد يتبادر إلى الذهن أن الأصل هو تلقي الناس دعوة النبوة الصادقة بالقبول لإقترانها بالمعجزة ، وهذا صحيح ويتجلى بدخول أفراد وجماعات في الإسلام ، وإتباعهم لنبي زمانهم إلا أن بعض أهل الرياسات والسلطنة يمتنعون عن التصديق بهم ، يأبون إتباع أفراد من قومهم يأمرونهم وينهونهم ، ويستكبرون عن التدبر في المعجزات ، ولا يستجيبون لأوامر ونواهي الأنبياء من إقامة الصلاة ، وإخراج الزكاة ونحوه ، والإمتناع عن المعاصي كالزنا والسرقة والظلم ، لذا خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالقول [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( )خاصة وأنه يسمى من قبل قومه (الصادق الأمين) .
وقد تلقى أشراف قريش دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البداية بالإعراض ، وعندما توالى نزول آيات القرآن ، وتضمنت الوعد والوعيد ، الوعد بالفوز والفلاح للذين آمنوا ، والوعيد بالعذاب ونار جهنم للذين يقيمون على الكفر .
وتوالي دخول الأفراد إلى الإسلام ، ومنهم العبيد والمستضعفون ، أبى أكثر هؤلاء الأشراف أن يحاكوهم ويقلدوهم ، وارادوا منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دعوته ، وأن يجتنب سب آلهتهم والتعريض بآبائهم الذين ماتوا على عبادتها ، والتقرب والنذر لها ، ولأنهم كانوا أصحاب سطوة وقوة ومنعة اتجه الكفار نحو مزاولة الإرهاب العلني من جهات :
الأولى : إيذاء شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الإضرار ببني هاشم وحصارهم اقتصادياً وإجتماعياً ومحاربتهم نفسياً لوجوه :
الأول : دخول طائفة من بني هاشم الإسلام ، وكان أول من أسلم هو الإمام علي عليه السلام ، وخديجة أم المؤمنين ، وهي وإن كانت من بني أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بطن من قريش وهم غير قبيلة بني أسد المضرية العدنانية التي يعود نسبها إلى أسد بن خزيمة بن مدركة (عامر) إلا أنها تتبع بني هاشم ودخلت خديجة مع بني هاشم تحت الحصار ، وكانت من أسباب فك الحصار .
الثاني : بنو هاشم رهط وعشيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحملهم قريش أسباب سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآلهة وذم الذين يتزلفون إليها ولم يكن النبي هو الذي يسبها وليس من سب في المقام إنما نزل القرآن بذمها وبيان قبح الشرك والضلالة ، قال تعالى [وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا]( ).
والآية أعلاه من سورة الفرقان وهي مكية نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وهناك آيات كثيرة نزلت في ذم عبادة الأوثان فوقعت محاربة النبوة والصحابة بسببها.
ومن إعجاز نظم آيات القرآن وأوان نزولها أن سورة الفاتحة التي هي من أوائل سور القرآن نزولاً والتي تقرأ في كل ركعة من الصلاة خالية من ذم الأوثان وعبادتها ، لمنع إثارة المشركين وإرهابهم ، وإن كانت تتضمن هذا الذم في مفهومها بجلاء بكل من :
الأولى : مفهوم الوصف .
الثانية : مفهوم الشرط.
الثالثة : مفهوم الغاية .
الثالث : حياطة بني هاشم ودفاعهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وامتناعهم عن تسليمه لقريش ليقتلوه.
الثالثة : الإضرار بأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين دخلوا الإسلام .
الرابعة : تعذيب بعض الصحابة من الرجال والنساء .
الخامسة : قتل بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل سمية بنت خياط التي قتلها عن عمد أبو جهل ، فكان من أوائل الذين قتلوا في معركة بدر بعد إصراره على القتال فيها .
ومن آيات الله بالإنتقام من الذين كفروا أن عتبة بن ربيعة سعى يومئذ إلى إجتناب القتال ، فعيّره أبو جهل ورماه بالجبن والخوف من سيوف بني هاشم فقتلا معاً في المعركة .
السادس : الإصرار على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أدركت قريش أن السبيل إلى وقف الدعوة ومنع نزول آيات القرآن هو قتله ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل تعلم قريش عدم نزول القرآن على غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا مات أو قتل .
الثانية : هل كانت قريش تعلم الأذى الذي لحق الأنبياء السابقين من قومهم .
الجواب نعم ،فقد كانت قريش على صلة بالأمم الأخرى بواسطة التجارة المستمرة في أيام السنة ، وهو الذي ذكره القرآن باصطلاح الشتاء والصيف في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
ليكون من مصاديق عبادتهم لله عز وجل اللازمة التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتناع عن الإرهاب .
وهل استهزاؤهم وسخريتهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن من الإرهاب الظاهر أو الخفي ، أم ليس من الإرهاب ، الجواب إنه من الإرهاب الظاهر والعلني ، ومحاولة مقصودة لثني الناس عن دخول الإسلام وللتوطئة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف .
لقد أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلى مراتب الصبر ،وهو من معجزاته الحسية للملازمة بين النبوة، وهذه المراتب من الصبر ، فمع أن النبي يتلقى الوحي من عند الله ، وتجري المعجزة على يديه فيتطلع إلى تصديق قومه به ، ولكنهم يؤذونه أشد الأذى ، وهي حال تناقض صادم ، فان الأنبياء يلجأون إلى الله عز وجل بسؤال هداية قومهم وصلاحهم ورشادهم .
و(عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كُسرَتْ رَبَاعيتُهُ يومَ أُحدُ، وشُجَّ في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: “كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وهو يدعوهم إلى ربهم، عز وجل”.
فأنزل الله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}( ))( ).
و(قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: “إني لم أبعَثْ لَعَّانًا، وإنما بُعثْتُ رحمة) ( ).
قانون الإمتثال الفوري
من بديع صنع الله عز وجل وحضور مشيئته المطلقة في عالم أفعال البشر والملائكة والجن وجود مصاديق وشواهد للإمتثال المباشر لأوامره ونواهيه , فحالما ينزل الأمر هناك أمة تمتثل له , وهل يستمر الإمتثال أم ينقطع .
الجواب هو الأول , إذ يستمر تجدد مصاديق الإمتثال إلى يوم القيامة , وهو من الشواهد على عمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
نعم ، هذا الإمتثال من الكلي المشكك في قوته وكثرته ، ولكنه لاينقص عن الحد الذي يريده الله عز وجل للناس ومنفعتهم في النشأتين.
ومن أسباب تصدع عموم هذا النفع الإرهاب والتفجيرات وسفك الدماء مما يقتضي اجتنابه ، وهذا الإجتناب من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وبصيغة الجمع (خلائف) كما في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
لقد نزل الأمر في آية ببدر [فَاتَّقُوا اللَّهَ]( ) وهو يفيد الفورية ومبادرة المهاجرين والأنصار إلى سنن التقوى لمقام الفاء في (فَاتَّقُوا) التي تفيد الفورية والتعقيب .
لقد استقبل أهل المدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من معركة بدر بالشكر لله والإستبشار ، واعتذر منه الذين تخلفوا عن معركة بدر لأنهم لم يعلموا بأنه سيقع قتال ، ويشكر المسلمون الله عز وجل عند قراءة هذه الآية او عند استحضار واقعة بدر ، وهذا الشكر ذكر لله متجدد ومستديم.
قانون دعوة النبوة سلام
لابد من بداية وكيفية في تلقي النبي للوحي ، وهل هي من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم من المتعدد والمشكك في ذاته وكيفيته.
الجواب هو الثاني ، فلكل نبي كيفية خاصة في بداية تلقيه النبوة والوحي ، ومعرفته بارتقائه الى مرتبة النبوة ، فقد أتى الله عز وجل عيسى عليه السلام النبوة وهو في المهد إذ نطق وهو في حجر أمه ، وفي أول يوم لولادته [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
ولم يقل (ويجعلني) بصيغة المضارع ، ولم يرد لفظ (جعلني نبياً) في القرآن إلا في الآية أعلاه وبخصوص عيسى عليه السلام.
وابتدأت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما بلغ الأربعين ، بالرؤيا الصالحة ، فلا يرى رؤيا إلا تحقق مصداقها بجلاء ، وبما يجعله يدرك أن موضوع هذه الرؤى أخص من الرؤيا الصادقة التي يراها شطر من الناس ، والمختار لابد لكل إنسان من رؤية صالحة أو اكثر يراها في حياته ، سواء كان بَراً( ) أو فاجراً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( ).
والرؤية الصادقة صلة روحية بين الله عز وجل وبين الإنسان بصفة العبودية لله عز وجل لذا قدم عيسى في الآية أعلاه العبودية (إني عبد الله) لمنع الإفتتان به ، ولأن العبودية لله مقدمة على النبوة زماناً وموضوعاً ، فلا ينال أحد النبوة إلا بعد صدق العبودية لله عز وجل .
لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الرؤية الصادقة المتكررة يميل إلى الإنفراد عن الناس والتفكر في الخلق ، والتدبر بما هو عليه من الشأن ، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه أي يتعبد لبضع ليال ثم يعود إلى أهله ، وتتلقاه خديجة وتعضده بتجهيزه وتزويده بالمتاع ولم تظهر عتاباً أو لوماً إلى أن نزل عليه الوحي.
و(عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي سمعتُ نداءً وقد واللّه خشيتُ أن يكون هذا أمراً.
فقالت : معاذ اللّه، ما كان اللّه عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك، فواللّه إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث)( ).
وعن سعد بن أبي وقاص (قال كان لعلي بيت في المسجد يتحنث فيه كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
ونزل جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، ليقرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بالبسملة ، وهل تدل الآية أعلاه على أن البسملة جزء من السورة القرآنية ، الجواب نعم ، وتقديره : اقرأ كل سورة باسم ربك.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (أول ما أنزل الله عزوجل من القرآن بمكة سورة [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، وأول ما أنزل بالمدينة سورة البقرة)( ).
وهو الوارد عن ابن عباس( ).
وقيل أول سورة أنزلت من القرآن هي سورة المدثر ، والمختار أنها سورة القلم.
لبداية الإسلام بالقراءة والعلم وحسن التوكل على الله وحينما نزل جبرئيل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أنا بقارئ أي أنا أمي لا أقرأ ولا أكتب.
فهو لم يمتنع عن القراءة ولكن اخبر عن حاله فجاء الجواب من جبرئيل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، أي فان قراءتك القرآن مع الأمية معجزة لك ، وشاهد على صدق نبوتك ، وهو حرز وأمن لك.
و(عن العباس بن عبد المطلب قال : كنت يوماً في المسجد فأقبل أبو جهل فقال : إن لله عليّ إن رأيت محمداً ساجداً أن أطأ على رقبته . فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى دخلت عليه ، فأخبرته بقول أبي جهل . فخرج غضبان حتى جاء المسجد ، فعجل أن يدخل الباب فاقتحم الحائط . فقلت هذا يوم شرّ فاتزرت ثم تبعته ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، فلما بلغ شأن أبي جهل [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى] ( )، قال إنسان لأبي جهل : يا أبا الحكم هذا محمد .
فقال أبو جهل : ألا ترون ما أرى والله لقد سد أفق السماء عليّ ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد)( ).
وكان أبو جهل يسمى أبا الحكم لرجحان عقله ، ولكن عندما تصدى للرسالة والتنزيل بالتكذيب ، وتمادى في السخرية والإستهزاء وايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل.
ومن الشواهد عليه قيامه بقتل سمية بنت خياط بيده بالحربة لا لشئ إلا لأنها قالت لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وليس في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد إيذاء لأحد ، وتدرك قريش وغيرها من قبائل العرب أن البيت لم يبن إلا للصلاة والذكر والدعاء وقصد التقرب إلى الله عز وجل ، ورجاء رحمته .
ولا يختلف اثنان أن المسجد الحرام هو بيت الله ، ولم يرد في القرآن لفظ (بيت الله) إنما ورد لفظ (بيتي) ثلاث مرات ، اثنتين بخصوص البيت الحرام وهما :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
وجاءت الآية الثالثة بخصوص نوح عليه السلام كما ورد في التنزيل [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا]( ).
و(عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ)( ).
ولم يرفعوا الحديث ، وليس من دليل على هذا الإستخفاء .
ولقد أسلمت خديجة والإمام علي عليهما السلام في اليوم الثاني لنزول النبوة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتوالى دخول الصحابة رجالاً ونساءً في الإسلام ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينتفع من الشهر الحرام ومجئ القبائل لأداء مناسك الحج.
نعم كان يسأل الذي يفاتحه بدخول الإسلام أن يكتم عليه خشية أذى قريش ، وازدادت دعوته للناس علانية كماً وكيفاً سنة بعد أخرى.
وهذه الدعوة من جهات :
الأولى : عند البيت الحرام , فإذا رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شخصاَ زائراَ للبيت من خارج مكة جلس إلى جواره وأخبره بنبوته , وتلا عليه آيات من القرآن , ليرجع هذا الشخص إلى أهله بأثمن تحفة وهدية ويتلو عليهم ما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وما فيه من البشارة والإنذار.
وهذا الرجوع من أسرار قلة كلمات آيات السور المكية , وقصر هذه السور .
الثانية : في أسواق مكة في موسم الحج , إذ يتبع الحاج في منازلهم في سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز .
ومن خصائص أسواق مكة في موسم الحج وفود القبائل لها من كل صوب لأداء الحج ولأنها في أشهر حرم تعطل فيها الخصومة والثأر والإقتتال.
ومن الوثائق التأريخية إخبار بعضهم كيف أنه رآى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سوق عكاظ يدعو الناس إلى كلمة التوحيد .
وأحياناَ يستحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة بعد الهجرة أخبار الدعوة آنذاك فقد وفد قبيلة محارب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة عام حجة الوداع وهو أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يدعو الناس أيام الموسم في مكة قبل الهجرة إلى الإسلام .
ويتألف الوفد من عشرة أشخاص يمثلون من وراءهم من قومهم , وأعلنوا إسلامهم , فأقاموا أياماَ في المدينة وتولى بلال الإتيان بغدائهم وعشائهم إلى أن جلسوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الظهر إلى العصر , فعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاَ منهم , وأخذ يمدّ النظر إليه , فقال الرجل (كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ تُوهِمُنِي .
قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُك ، قَالَ الْمُحَارِبِيّ : أَيْ وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتنِي وَكَلّمْتنِي وَكَلّمْتُك بِأَقْبَحِ الْكَلَامِ وَرَدَدْتُك بِأَقْبَحِ الرّدّ بِعُكَاظٍ وَأَنْتَ تَطُوفُ عَلَى النّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” نَعَمْ.
ثُمّ قَالَ الْمُحَارِبِيّ : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كَانَ فِي أَصْحَابِي أَشَدّ عَلَيْكَ يَوْمَئِذٍ وَلَا أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنّي .
فَأَحْمَدُ اللّهَ الّذِي أَبْقَانِي حَتّى صَدّقْتُ بِك وَلَقَدْ مَاتَ أُولَئِكَ النّفَرُ الّذِينَ كَانُوا مَعِي عَلَى دِينِهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ : إنّ هَذِهِ الْقُلُوبَ بِيَدِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ .
فَقَالَ الْمُحَارِبِيّ : يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَغْفِرْ لِي مِنْ مُرَاجَعَتِي إيّاكَ)( ).
(فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ : إنّ الْإِسْلَامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْكُفْرِ ” ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى أَهْلِيهِمْ) ( ).
لبيان أن تلك المراجعة فرع الكفر , ويتفضل الله عز وجل ويغفر ما كان من الكفر وتوابعه .
وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف عن الناس , فكل من آذاه ثم تاب وأصلح ولا يستطع الوصول إليه وسؤاله المغفرة فإن الله عز وجل يغفر له .
الثالثة : تنقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين منازل القبائل في منى أيام الحج , وكان يسأل أين مسكن القبيلة الفلانية وتارة يرى مسكن فيقول مسكن أي قبيلة هذا ، فيذهب ويجلس عندهم .
ويقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمور :
الأول : عرض الإسلام على القبائل .
الثاني : الدعوة إلى كلمة التوحيد .
الثالث : سؤال التصديق بنبوته .
الرابع : تجلي المعجزات التي تدل على صدق نبوته .
الخامس : تلاوة آيات من القرآن , وهي من العجزات العقلية .
السادس : سؤال إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قراهم , وحمايته من بطش قريش , ومنعه من المشركين أن يعتدوا عليه .
السابع : إتاحة الفرصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتبليغ رسالته , فهو لا يريد إيواءه مع السكوت والقعود , وقد عرضت عليه قريش المال والزوجات , والملك ، ليكف عن الدعوة فأبى .
قانون القرآن دستور الحوار
قد وردت الإشارة إلى هذا القانون في الجزء التاسع عشر بعد المائتين ، وفي القرآن تتجلى أبهى معاني الحوار في تأريخ الإنسانية والكتب السماوية ، ويبدأ الحوار بين الله عز وجل والملائكة حين خلق آدم ، إذ أطلعهم الله عز وجل على أمره باتخاذ [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن خصائص الملائكة طاعتهم المطلقة لله عز وجل وأنهم يبادرون إلى فعل ما يؤمرون به ، ومع هذا توجهوا بالسؤال إلى الله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
لبيان حاجة الناس إلى رحمة الله ، فعلى فرض أن كلام الملائكة نوع استفهام انكاري فان الله عز وجل أرأف بالناس منهم.
كما تجد العناية في القرآن بحوار الأنبياء مع قومهم ، وفيه شاهد بعدم استعمالهم القوة والشدة والغلظة في الدعوة إلى الله عز وجل ليكونوا أسوة للمسلمين في الصلات فيما بينهم ، ومع الناس جميعاً ولزوم اتباع القوانين الوضعية المتبعة في الأمصار والبلدان المختلفة ، وهذا الإتباع من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وفي القرآن مدرسة وثقافة الحوار ، وليس من حصر للقوانين والمسائل المقتبسة من لغة الحوار في آيات وسور القرآن ، وهل يدخل في الحوار الجدال والإحتجاج والحجة والبشارة والإنذار الواردة في القرآن ، الجواب نعم .
واجتهد الأنبياء في تقديم البرهان والدليل لجذب الناس لمنازل الإيمان ولصرفهم عن المنكر والباطل ، ولمنعهم من ايذاء الأنبياء واتباعهم ، وفيه شاهد على حرمة الإرهاب لتنزه الأنبياء عنه لقوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( )، ودلالة تقوم دعوتهم بالحوار على الإستغناء عن الإرهاب ، وإدراكهم لقانون وهو أضرار الإرهاب كثيرة.
وهل هي أكثر من نفعه أم أنه خال من النفع ، الجواب هو الثاني.
فليس من نفع في الإرهاب لا على نحو القضية الشخصية ولا العامة ، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة حواره مع الناس من غير أن يغضب أو يظهر على وجهه الضجر.
وكانت مدة نبوته ثلاثاَ وعشرين سنة في كل يوم منها أمور مباركة كل فرد منها حرب على الإرهاب لأجيال المسلمين ودعوة نبوية للتنزه عنه ، منها :
الأول : الحوار .
الثاني : الإحتجاج والبرهان .
الثالث : تلاوة آيات القرآن ، قال تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
الرابع : إقامة صلاة الجماعة بالمسجد النبوي ، ومساجد المدينة بعد الهجرة النبوي خمس مرات في اليوم ، ومن الإعجاز إقامتها يومياً في المسجد النبوية عند غياب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب.
الخامس : محاربة الإرهاب ، وبيان قبحه وحرمته ولزوم الإمتناع عنه .
السادس : إبطال وإزالة الشبهات .
السابع : درء الفتنة .
ومن خصائص حوار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه طريق لدخول الناس الإسلام .
ومن رحمة الله عز وجل ومصاديق قوله تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( )، أنه يحاور الذين كفروا ويدعوهم للإسلام.
ويبشرهم إن اختاروا الإيمان وينذرهم إذا أصروا على البقاء على الكفر والظلم والتعدي .
والحوار طريق الوصول إلى الحق ، والإرشاد إلى الصواب ، وفضح الباطل والضلالة ، فجاء القرآن بالحوار لإثبات وحدانية الله ولزوم طاعته وتأكيد اليوم الآخر ، وعدم استثناء فرد واحد من الناس من الموت أو من الحساب الأخروي ، قال تعالى [ِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ).
ويحاور الله عز وجل الملائكة والأنبياء والمؤمنين والناس جميعاً ، كما يبين الحوار بين الأنبياء وأصحابهم ، وبينهم وبين الناس في نظم وسياق إعجازي بديع يبعث الشوق في النفوس على الإنصات له والتدبر في معانيه .
وهل يمكن القول بأن من إعجاز القرآن إقناع الطرف الآخر بالحوار ، الجواب نعم ، وفيه شواهد عديدة وهو دليل على وجوب نبذ الإرهاب .
قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وقد ورد لفظ (قل) في القرآن (232) مرة كلها خطاب وأمر موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربعة , وأكثر هذه الخطابات في باب الحوار والإحتجاج منها :
- قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ] ( ).
والنسبة بين إتباع الرسول وبين الإرهاب التضاد فمن يريد اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويفوز بحب الله له فليحرص على اجتناب الإرهاب والإعانة عليه من قريب أو بعيد. - قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ).
ومن إعجاز القرآن جعل اليوم الآخر وأهوال يوم القيامة حاضرة في الوجود الذهني ، وفيه صرف عن إيذاء الناس والإضرار بالممتلكات ، ومخالفة الأنظمة والقوانين ذات المصلحة العامة.
وقد يأتي الإحتجاج والحوار بلفظ (قل) من طرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده وعلى نحو متعدد كما في قوله تعالى [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] ( ).
فورد لفظ (قل) أربع مرات في هذه الآية ، لبيان تخلف المشركين عن الجدال والإحتجاج ولتأكيد نزول الإحتجاج من عند الله عز وجل على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى ينبض بالحياة يخاطب الناس كل يوم إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن على نحو الوجوب العيني في كل ركعة من الركعات السبعة عشرة اليومية ، لتكون هذه التلاوة زاجراً عن الإرهاب للقارئ والمستمع ، إذ يكون موضوع التفكر والتحقيق هو التوحيد وأن السلاح للإقناع فيه هو الإحتجاج وليس البطش وآفة الإرهاب .
ولم يرد لفظ [وَمَنْ بَلَغَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهو من إعجاز القرآن ، وتقدير الآية (ومن بلغ إلى يوم القيامة ) مما يدل على وصول آيات القرآن إلى الناس، واتصال واستمرار التبليغ إلى يوم القيامة.
ويتجلى هذا المعنى في السنة النبوية أيضاً ، ففي معركة بدر ، وحينما رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيوش قريش قد أقبلت للقتال بخيلاء وزهو وتحد ، رفع يديه وقال (اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ) ( ) .
فقد واجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعجعة السلاح بالدعاء وحتى المشركين لجأ بعض رؤسائهم إلى الدعاء ، إذ استفتح أبو جهل يوم بدر لقتال (وَاسْتَفْتَحَ أَبُو جَهْلٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ اللّهُمّ أَقْطَعْنَا لِلرّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُهُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ اللّهُمّ أَيّنَا كَانَ أَحَبّ إلَيْكَ وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْهُ الْيَوْمَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}( ))( ).
وعندما ابتدأ القتال أخزى الله المشركين بهزيمتهم لبيان رد دعائهم ، وفي التنزيل [قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
قانون احتجاجات القرآن فضح لقبح الإرهاب
يتقوم الحوار في القرآن بالإحتجاج ، والأصل في موضوع الإحتجاج هو التوحيد ، وفي علم الأصول تقسم أحكام الشريعة إلى أصول وفروع ، والمختار أن النسبة بين الحوار والإحتجاج هو العموم والخصوص المطلق ، فالحوار أعم .
والأصول المتفق عليها هي :
الأول : التوحيد .
الثاني : النبوة .
الثالث : المعاد .
ويضاف لها الإمامة ، وأصل الأصول هو التوحيد ، وتتفرع عنه النبوة والمعاد ، وفروع الدين كالصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فجاءت لغة الحوار في القرآن مرآة لهذا الإحتجاج من جهات :
الأولى : احتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : احتجاجات وجدال الأنبياء مع قومهم .
الثالثة : احتجاج وحوار الصالحين .
الرابعة : البشارة والإنذار على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر من عند الله (قل) كما تكرر خمس مرات في قوله تعالى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
وبدأت خمس آيات متتاليات بالأمر (قل) وهي [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ]( )، والآيات الأربعة التي بعدها لبيان أن الصراط المستقيم الذي يدعو إليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أداء الصلاة جماعة وفرادى والإستعداد للآخرة.
ومن الإعجاز أن كل مسلم ومسلمة يتلو سبع عشرة مرة في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، لتكون هذه التلاوة وموضوعها دعوة يومية متكررة للعصمة من الظلم والإرهاب.
ومن الحوار في القرآن ما كان بين موسى عليه السلام والخضر ، وما رزقه الله من علم لدني ، حتى قال لموسى كليم الله [وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا] ( ).
ومن خصائص لغة الحوار في القرآن السعي لطلب الحق ، والتنزه عن المشاحنة والتعصب والحدة والمغالطة ، وتظهر فيها المساواة في الجدال ، ولكن مساحة احتجاج النبي هي الأكثر ، فيقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين [وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وهل هذا الكلام من الوحي أو أرقى منه ، الجواب هو الثاني.
الحوار لواء سلام وآمن
تدل على أولوية الإحتجاج والحوار في القرآن ومنافعه العظيمة أمور :
الأول : قانون حرمة الإرهاب .
الثاني : قانون الزجر عن الإرهاب .
الثالث : قانون إنتفاء النفع من الإرهاب .
الرابع : قانون التضاد بين الحوار والإرهاب .
الخامس: قانون الإرهاب خلاف سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين .
السادس : قانون خلو منهاج الصالحين من الإرهاب والعنف ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ]( )، وهناك تناف بين عمل الصالحات والإرهاب فلابد من الإنصراف عنه.
السابع : قانون لغة البشارة والإنذار من الحوار ، وهي واقية من الإرهاب .
الثامن : غاية الحوار في القرآن طلب الحق بالإستدلال والبرهان الحسي والعقلي ، وإذ يكون الإرهاب نتوءً غريباً في جسد الإيمان فانه سرعان ما يزول.
ولكن بعد أن يخلف أضراراً مما يستلزم الإجهاز عليه لتقليص هذه الأضرار ، ولبتر وقطع أيامه .
التاسع : لغة الحوار في القرآن فضح لقبح الإرهاب .
العاشر : خلو إحتجاجات القرآن من إيذاء الخصم ، وهي دعوة للإمتناع عن العنف والبطش ضد المشركين ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
الحادي عشر : قانون كفاية الإحتجاج النبوي في تبليغ الناس وهدايتهم إلى سواء السبيل , ونزول الأمر من الله عز وجل لمخاطبة الناس جميعاً ، قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ).
الثاني عشر : قانون تقوم احتجاجات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ، فحينما يقيم الحجة على الذين كفروا لا يلزمهم بالإيمان ، إنما يترك لهم اختيار سبيل الرشاد ، وفي التنزيل [أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ]( ).
الثالث عشر : تلقي الأنبياء تكذيب قومهم بالصبر والإجتهاد بالعبادة والذكر ، ليأتي الفرج والنصر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
وتكرر تكذيب المشركين للرسل في آيات عديدة منها
الأولى : قوله تعالى [ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ].
الثانية :قال تعالى [كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الثالثة :قال تعالى [كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الرابعة :قال تعالى [كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الخامسة : قال تعالى [كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ]( ).
وجاءت آيتان بالجمع بين تكذيب أقوام في أحقاب متعددة ، قال تعالى [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ] ( ) ولم يكتف المشركون بتكذيب الأنبياء بل آذوهم وأصحابهم وسعوا في قتلهم .
ليتغير وجه التأريخ وتنبسط أسارير الأرض , وتخرج بركاتها برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتخاذ المؤمنين الحوار ولغة البرهان سبيلاً للهداية مقروناً بالإقامة والمواظبة على أداء الفرائض العبادية كالصلاة والصيام والزكاة التي هي واقية ذاتية من الإرهاب .
وإذ تبعث لغة الحوار السكينة في النفوس وتجذبها إلى الهدى فان الإرهاب مادة للنفرة والبغضاء ، وقد يكون سبباً للإمتناع عن الحجة والبرهان لبيان أن أضرار الإرهاب أعم وأخطر من حال الواقعة.
وهل لغة الحوار والإحتجاج بالبرهان من الصراط المستقيم ، الجواب نعم.
قانون خلافة الأرض منع من الإرهاب
يحتمل قوله تعالى [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وجوهاً :
الأول : خلافة الإنسان في عمارة الأرض بتفويض ورخصة وإذن من عند الله عز وجل .
الثاني : خلافة الإنسان في ذات الأرض كما في قوله تعالى [جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ]( ).
الثالث : خلافة الناس بعضهم لبعض ، وكل قرن يقوم مقام القرن السابق ، ومضامين آيات القرآن أعم من جهات :
الأولى : وردت الآية أعلاه بصيغة المفرد [خَلِيفَةً] .
الثانية : ابتداء وجود الإنسان في الأرض بصفة الخليفة ، ولا يختلف اثنان بشمول آدم عليه السلام بصفة الخليفة ، وهو لم يخلف غيره من البشر ، إلا أن يقال خلف الناس الجن ، وخلفوا فصيلة اسمها النسناس .
الثالثة : يفسر القرآن بعضه بعضاً ، وقد وردت الخلافة بصيغة المفرد وبقيد النبوة بقوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ..] ( ).
الرابعة : يبين قوله تعالى موضوع الخلافة بقوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
فلم تكن خلافة الإنسان لله عز وجل ، إنما هو خليفة في الأرض أي يتصرف فيها تصرفاً محدوداً إلى أجل معلوم عند الله عز وجل ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وتستلزم صيغة الجمع [خَلاَئِفَ] إرادة صيغة العموم الإستغراقي للناس جميعاً ،وهل فيه دلالة على كون كل إنسان ملزماً بالتنزه عن الإرهاب .
الجواب نعم ، فلا تختص حرمة الإرهاب بالفرد بل تشمل الناس جميعاً ، فمن خصائص الخليفة في الأرض أمور :
الأول : العناية بالأرض .
الثاني : عمارة الأرض بالتقوى شكراً لله عز وجل على مرتبة الخلافة .
الثالث : عدم إشاعة الفساد في الأرض ، هذا الفساد الذي حذّر منه الملائكة يوم خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل التباين والتضاد بين خلافة الأرض وبين الإرهاب ، وتكون مسؤوليات الخلافة من الكلي الطبيعي الذي يقع على كل إنسان ، ومن يخالف ويرتكب الإرهاب وترهيب وإخافة الناس والإضرار بالنفوس والأملاك يأتيه العقاب سريعاً من الله عز وجل ، وتدل عليه ذات الآية أعلاه بقوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ] ( ).
وورد في آية أخرى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ] ( ) وفي الآية توطئة لتولي أهل الإيمان الخلافة والشأن في الأرض ، ولهم دولتهم فلابد من التنزه عن إيذاء الناس ، فان الله عز وجل لا يرضى بالإضرار بهم إنما جعل الله سبحانه الحياة الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء ، ليقف الناس للحساب يوم القيامة ، وعلى المؤمنين الصبر والتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة .
والمضطر (المجهود، عن ابن عباس وقال السدّي : المضطرّ الذي لا حول له ولا قوّة) ( ).
و(عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة إلى مغيربان الشمس ، حفظها ونسيها من نسيها ، وأخبر ما هو كائن إلى يوم القيامة ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا خضرة حلوة ، وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون .
ألا فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء .
ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى ، فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً .
ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم .
ألم تروا إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه؟
فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فليلزق بالأرض .
ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب ، سريع الفيء . وشر الرجال من كان بطيء الفيء ، سريع الغضب .
فإذا كان الرجل سريع الغضب سريع الفيء فانها بها ، وإذا كان بطيء الغضب بطيء الفيء فإنها بها .
ألا وإن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب ، وشر التجار من كان سيء القضاء سيء الطلب .
فإذا كان الرجل حسن القضاء سيء الطلب فإنها بها ، وإذا كان الرجل سيء القضاء حسن الطلب فإنها بها .
ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يقول بالحق إذا علمه .
ألا إن لكل غادر لواء بقدر غدرته يوم القيامة .
ألا وإن أكبر الغدر أمير العامة .
ألا وإن أفضل الجهاد من قال كلمة الحق عند سلطان جائر .
فلما كان عند مغرب الشمس قال : ألا إن ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كمثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى) ( ).
فذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإستخلاف بخصوص الدنيا ، والمعنى واحد مع الإستخلاف في الأرض .
ليكون من معاني خلافة الإنسان في الأرض الوعد من الله عز وجل بعدم مجئ جنس آخر معهم تكون له الخلافة فيها ، ويجعل الناس اتباعاً وخدماً مستضعفين له ، وتقدير الآية (اني جاعل في الأرض خليفة الى يوم القيامة) ليس هناك من يعمر الأرض ويتصرف فيها إلا الإنسان.
وهل تقدير [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أي خليفة لي الأقرب لا ، فالخليفة يكون لمن لا يغيب ويبتعد ، والله عز وجل شاهد وحاضر غير غائب ، وهو الخليفة على الناس بلطفه ورحمته.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا ركب راحلته يكبّر ثلاثاً ثم يقول (سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا ، وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنّا إلَى رَبّنَا لَمُنْقَلِبُونَ.
ثُمّ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرّ وَالتّقْوَى ، وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى .
اللّهُمّ هَوّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا ، وَاطْوِ عَنّا بُعْدَهُ اللّهُمّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ .
وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ .
اللّهُمّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا ، وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا .
وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنّ وَزَادَ فِيهِنّ آيِبُونَ تَائِبُونَ ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ . وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ) ( ).
وهل يشترط أن يكون الخليفة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لمخلوق عنده ، ويكون الخليفة نائباً عنه ، الجواب لا.
نعم قد يأتي معنى الخلافة بين الناس جيلاً بعد جيل ، أو أمة مؤمنة بعد أمة كافرة ، كما في قول موسى لقومه[قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] ( ) ليفيد معنى الخلافة الأمانة والوديعة والإمتحان ، ومنه تعاهد الخلافة بالتقوى ، ومن سنن التقوى العصمة من الإرهاب والظلم والتعدي .
بحث اخلاقي
تتعدد أسباب وجذور ظاهرة الإرهاب التي صارت ذات صبغة عالمية ، منها الفهم الديني المغلوط ، والميل إلى الإنضمام إلى تجمع وتنظيم واسع ، وطاعة الزعيم ، والثأر والشعور بالتمييز ، واليأس من تحقيق الغايات الشخصية والقومية والطائفية بالطرق السائدة ، وقد يظهر أعضاء هذه التنظيمات أن أعمال العنف التي يرتكبون لها ما يبررها من دوافع أخلاقية ، ولكن القرآن والسنة يظهران خلافه ، ويؤكدان إنتفاء الأخلاق الحميدة في العمل الإرهابي ، ليكون القرآن مدرسة للمسلمين ولأجيال عامة الناس .
فهو الدستور الذي يحارب الإرهاب ويمنع منه ، وكل آية منه قانون في هذا الباب ، إلى جانب القوانين الوضعية التي تمنع من الإرهاب وتؤاخذ عليه منها مثلاً قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( )، ومنها آيات الجدال والموعظة والحكمة ، وأوامر القرآن للمسلمين بالتحلي بالصبر ، وسنن التقوى والخشية من الله سبحانه .
ويدل قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى محاسن الأخلاق والعادات الحميدة بأفضل الطرق والكيفيات ، وبما يخلو من الإضرار بأحد من الناس .
وذات أخلاق المسلم الحسنة دعوة للإيمان ، وبراءة من النفاق والإرهاب ، وكانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن وما يأمر به من الأخلاق الكريمة ، ليتحلى المسلمون بالخلق الحميد من الحلم والعفو والصفح والجود ، ولين الجانب ، وتلقي الأذى بالصبر ، واتخاذه جلباباً ، وليتنزه المسلمون عن الغضب ، والغلظة ، والعنف ، والقسوة .
ومن الإعجاز في السنة النبوية كثرة النصوص التي تأمر بحسن الخلق ، وتندب المسلمين إليه ، وتبين الحاجة له منها ، عن (أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقِ الله حيثما كنت ، وأتبعِ السيئة الحسنة تمحُها ، وخالقِ الناس بخلق حسن) ( ).
فجاء الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمخالفة الناس جميعاً بالأخلاق الحميدة ، وفيه نهي عن الغدر والغلبة والمباغتة بعمل إرهابي .
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خياركم أحاسنكم أخلاقاً) ( ).
أي أحسنكم أخلاقاً في البيت ، والعمل ، والسوق ومع الناس جميعاً ، والأخلاق الحميدة للمسلم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
(عن ابن عمر: قيل: يا رسول الله، أيّ المؤمنين أفضل؟
قال: “أحسنهم خلقا” .
وعن نوح بن عباد، عن ثابت، عن أنس مرفوعا: “إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة. وإنه ليبلغ بسوء خلقه دَرَك جهنم وهو عابد) ( ).
فلا يصح من الشاب الذي يتعاهد وظائفه العبادية من الصلاة والصوم ونحوها أن يلجأ إلى الإرهاب ، إنما يجب عليه تعاهد حسن الخلق مع الناس جميعاً ، ويجمع بينه وبين أداء الفرائض العبادية ، ولا يفرط بهذا الأداء بالإضرار بنفسه والناس في عمل إرهابي لا يؤدي إلا إلى الحنق والسخط من الناس والحكومات ، وهو لا يرضي الله عز وجل لأنه خلاف الأخلاق الحميدة .
(عن ابن مسعود في قوله : { أهم يقسمون رحمة ربك }( ) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ، ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من يحب ، فمن أعطاه الدين فقد أحبه) ( ).
ومن خصائص المسلم حبه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن هذا الحب الإقتداء به في سنته ، ومحاكاته عن أخلاقه الحميدة ، والإستضاءة بهديه ، وصبره على الأذى وأوامره إلى أصحابه باجتناب التعدي والظلم ، ويجمع الإرهاب بمعناه الإصطلاحي في هذا الزمان بين كل من :
الأول : الظلم للذات .
الثاني : الظلم للغير .
الثالث : التعدي.
الرابع : العزوف والإبتعاد عن الأخلاق الحميدة .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عصمة المسلمين من الإرهاب ، وأن الذي يختارونه أفراد قلائل لابد من نصحهم وارشادهم ، وتأكيد قبح الإرهاب ، وأنه خلاف الأخلاق الحميدة التي دعا إليها الكتاب والسنة .
قانون [لِتَعَارَفُوا] لا للإرهاب
لقد خلق الله عز وجل آدم وحواء في الجنة ، ثم أمرهما بالهبوط إلى الأرض بعد الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عن الأكل منها ، لبيان قانون من قوانين السماء ، وهو الذي يزل ويعصي الله عز وجل لا يبقى ساكناً في السماء ، قال تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) لبيان أن السكن في الجنة لا يكون إلا بأمر من عند الله، وليس إذناً وحده ، وأن مخالفة أوامر الله في الجنة تجعل المخالف ظالماً ، ولا يستحق البقاء في الجنة .
بينما تفضل الله عز وجل بحلمه وسعة رحمته بإمهال الناس عند إرتكابهم المعاصي في الأرض .
وهل هو من أسرار الخلافة في الأرض وقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
الجواب نعم ، إذ كانت الملائكة تظن أن السكن في الأرض مثلما هو في السماء لابد أن يكون خالياً من المعصية والذنوب ، ولكن الله عز وجل أجابهم عن علمه بما سيفعل الناس ، وذنوبهم ، وأن عمر الإنسان قصير في الحياة الدنيا ، ثم يقف بين يدي الله للحساب ، وليشترك الملائكة في عذاب الذين كفروا والظالمين الذين ارتكبوا المعاصي .
وجاء التحذير المتعدد من عند الله عز وجل إلى آدم وحواء من إبليس وسوسته ، مع بيان فضل الله عز وجل في تنعم آدم وحواء بالنعم غير المتناهية في الجنة ، فازلهما وأغواهما إبليس [فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى] ( ) ووردت كلمات في هذه الآية لم ترد في غيرها هي [فَأَكَلاَ ، فَبَدَتْ ، فَغَوَى ].
لقد كان أكل آدم وحواء من تلك الشجرة سبباً لهبوطهما إلى الأرض وانتقالهما إليها ، واتخاذها سكناً قهراً وانطباقاً لذا يدل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ] ( ) ، بنسبة جعل الناس في الأرض إليه تعالى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
ولا يعلم أسرار تنصيب الله عز وجل للإنسان خليفة في الأرض ، وإكرامه بهذه المنزلة العظيمة ، وما يترشح عنها من النعم غير المتناهية إلا هو سبحانه .
ومن الإعجاز في المقام أن النعم في الزمان والجيل اللاحق أكثر منه في الزمان والجيل السابق ، ويتجلى هذا الأمر بالشواهد والوجدان لكل أهل الزمان، ويمكن استقراؤه تأريخياً مما يلزم الشكر لله عز وجل عليه ، وكما أن النعم التي جاءت للأجيال والأمم السابقة تبقى عند الأجيال والأمم اللاحقة ، فان مضامين الكتب المنزلة السابقة وردت في القرآن .
وجاءت شريعة الإسلام متكاملة ، جامعة مانعة ، جامعة للأحكام الشرعية ، مانعة من الريب والنقص أو التخلف عن مواجهة المسائل الإبتلائية ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه مواجهة ظاهرة الإرهاب الإبتلائية ،وتجلي وضوح أحكام القرآن بحرمته ولزوم التعاون بين المسلمين والمسلمات واستئصاله والإمتناع عنه .
وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل هي أعظم من غيرها من النبوات السابقة ، الجواب نعم ، وتفضل الله عز وجل وختم بها النبوة ، لتبقى أحكامها مستقرة في الأرض ومتجددة في كل زمان ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( ) .
ومن إعجاز الآية أعلاه عدم ذكرها ختم وإنقطاع النبوة ، إنما ذكرت التبيين لبيان أن أحكام النبوة باقية في الأرض إلى يوم القيامة ، وهل من صلة بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( )، الجواب نعم .
فلم تنقطع النبوة من الأرض إلا بعد كمال الدين ، وهل منه سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان ، الجواب نعم ، إذ أن قوله تعالى [ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) خطاب موجه إلى المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة لذا فهي معطوفة على نداء الإيمان في أول آية من سورة المائدة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ] ( ).
ولم يخبر الله عز وجل المسلمين بكمال الدين إلا بعد أن بيّن لهم بأس وعجز الذين كفروا من الإضرار بهم في دينهم ، ولزوم عدم الخشية أو الخوف منهم ، وفي ذكر الآية خصوص الدين معجزة وحجه فلم تقل الآية يئس الذين كفروا من دينكم ودنياكم ، نعم عدم الخشية منهم تشمل أمور الدين والدنيا .
وجاءت آية بنهي المسلمين عن الخشية من الناس جميعاً ليشمل غير الكفار المشركين .
ولم يرد لفظ [أَكْمَلْتُ][ أَتْمَمْتُ][ رَضِيتُ][ مُتَجَانِفٍ][ لِإِثْمٍ] إلا في الآية أعلاه .
ومن معاني (لتعارفوا) يعرف بعضكم بعضاً ، وهذه المعرفة نوع مودة ورحمة ، ولا تختص بالتعارف الشخصي بل تشمل السنخية والملة والعبادات والترغيب بالإيمان ونوع العمل والمسكن .
وهل يشمل الأسماء ، الجواب نعم ، ومعرفة اسم الصاحب مستحب.
ومن مفاهيم قوله تعالى [لِتَعَارَفُوا]( )، وجوه :
الأول : لتعارفوا وليس لتختصموا أو تتقاتلوا.
الثاني : لتعارفوا فينفع بعضكم بعضاً ، وتنتشر الرأفة بينكم .
الثالث : ليقضي بعضكم حوائج بعض .
الرابع : كيلا يتخلف بعضكم عن إعانة غيره.
الخامس : لتعارفوا لا لتتفاخروا بالإنسان .
السادس : لتعارفوا فيكرم العلماء والصالحون .
السابع : لتعارفوا بالتقوى والخشية من الله لذا قالت الآية [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الثامن : لتعارفوا وليس لإرهاب بعضكم بعضاً.
واسم هذا القانون [ِتَعَارَفُوا] مقتبس من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، لبيان معجزة في خلق الناس مع أنهم جميعاً من أب وأم واحدة ليتكاثروا على المودة وأنس بعضهم ببعض بقدرة الله عز وجل .
السفارة إلى المدينة سلام وأمن
لقد تمت بيعة العقبة الأولى والثانية بمبايعة طائفة من الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوعد بالذب عنه عندما يصل إليهم بفضل ولطف من عند الله ، وفيه حرب على إرهاب الدولة والرؤساء ، إذ أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي معهم بعد بيعة العقبة لأمور :
الأول : تعليم الأنصار القرآن ، إذ كانت إقامتهم في مكة قليلة في أيام الحج ، وكانوا على حذر وحيطة يخشون قريشاً في الإتصال بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان عمر مصعب بن عمير يومئذ نحو خمس وثلاثين سنة ، ونزل عند أسعد بن زرارة ، ويسمى مصعب في المدينة يومئذ (المقرئ) .
الثاني : تفقه الأنصار في دين الله ومبادئ الإسلام .
وهل سفارة مصعب بن عمير من مصاديق آية النفر وقوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) الجواب نعم .
الثالث : تعليم الصلاة واتقانها ، وتعاهد أدائها ، وعن ابن إسحاق : كره الأنصار إمامة بعضهم لبعض للخلاف الشديد بين الأوس والخزرج ( ) .
ولا موضوعية لهذا الكره , ولم يثبت إنما كان الأنصار حديثي عهد بالإسلام ولم يصاحبوا النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم أياماَ وأسابيع , ويحضروا صلاة الجماعة معه خمس مرات في اليوم , ولم يحفظوا آيات وسور القرآن المكية فبعث معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصعباَ ليقيم الصلاة كما تلقاها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , مع الوصايا الخاصة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصعب في المقام .
وقد كان الأوس والخزرج قبل قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة يعدون العدة لتنصيب عبد الله بن أبي بن سلول ملكاً عليهم جميعاً .
لقد (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين.
وقد روى البيهقى عن ابن إسحاق قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم) ( ).
ويفيد ذيل الخبر أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث مصعب بن عمير مع الأنصار حينما رجعوا من الحج ، وبيعة العقبة الأولى ، إنما كتبوا له بعدها ، وبه قال موسى بن عقبة .
الرابع : مفاتحة وجهاء وعامة أهل المدينة بالإسلام ، فكان مصعب بن عمير يذهب إلى مجالسهم وبيوتهم ، ويدعوهم إلى الإسلام ،ومن معاني وفوائد إقامة مصعب بن عمير عند أسعد بن زرارة أنه كان يأخذ مصعباً ليطوف به في منتديات ومجالس الأوس والخزرج ، ويفاتحهم وعامة الناس بدخول الإسلام ، مما لاقى في بداية الأمر الممانعة من رؤسائهم ، ولكن الله عز وجل ألان قلوبهم وجعلهم يصغون لتلاوته القرآن، وقلوب الناس بيد الله عز وجل (عن النّواس بن سمعان سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الميزان بيد الرحمن . يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة ، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن . إذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه ، وكان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ( ).
وكان مصعب بن عمير يواصل مجالسة الذين اسلموا ، ويلتقي معهم في الصلاة ، ويخططون لجهده وجهاده في المدينة على نحو سلمي ومن غير إكراه للناس في دخول الإسلام ، إنما هو البيان وتلاوة آيات القرآن التي تتضمن البشارة والإنذار ، وفي طريقهما إلى دور بني عبد الأشهل ، دخل أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير بستاناً لبني ظفر ، فاجتمع إليهما رجال ممن أسلموا إذ يتعذر عليهم المواظبة على حضور صلاة الجماعة لأعمالهم في الزراعة والكسب ، فيأتيهم مصعب بن عمير إلى محل عملهم مما يدل على عمله الدؤوب في سبيل الله ، وهل كان يسعى للتوطئة لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقدومه على أمة مسلمة كثيرة العدد ، الجواب نعم .
فبلغ خبر قدوم أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ ، وكان هو وأسيد بن حضير سيدي بني عبد الأشهل ، وهما يومئذ على دين قومهم من الضلالة .
وكان أسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ فامتنع عن إيذائه وزجره ، ولكنه سارع إلى أسيد بن حضير ليحرضه عليهما ، وقال له (لَا أَبَا لَك ، انْطَلِقْ إلَى هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ اللّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفّهَا ضُعَفَاءَنَا ، فَازْجُرْهُمَا وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا ، فَإِنّهُ لَوْلَا أَنّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْت كَفَيْتُك ذَلِكَ هُوَ ابْنُ خَالَتِي ، وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدّمًا) ( ).
فاستشاط أسيد غضباً ، وتناول حربته وتوجه لهما للبطش بهما ، وبقي أسيد بن زرارة مع قومه جلوساً ينتظرون أنباء غزوة أسيد على عُزل من السلاح .
ولكن أسعد بن زرارة لم يخف منه حينما رآه قادماً نحوهما وبالشر ، بل جعل قدومه فرصة ومناسبة لمفاتحته بالإسلام ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفاتح رؤساء قريش ، حيث وجد منهم العتو والعناد والإستكبار ، والإقامة على الشرك ، لأن في الإسلام تقيداً بسنن التوحيد والمساواة بين الناس، ونبذ الشرك وعبادة الأصنام والإرهاب ، وحرمة الربا والزنا، والفواحش ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وعندما رآى أسعد ابن حضير قادماً نحوهما قال لمصعب هذا سيد قومه فاصدق الله فيه ، أراد أن يبذل الوسع في عرض الإسلام عليه وأقناعه .
وحينما رآى مصعب هيئة أسيد في قدومه غاضباً قال : إن يجلس أكلمه أي أن البيان والإقناع يلزم منه الصبر قليلاً والإنصات ، فوقف أسيد عليهما وشتمهما ، وقال انكما تسفهان ضعفاءنا ، وهددهما بالقتل إن لم يبتعدوا عن دور بني عبد الأشهل ، إذ قال (اعْتَزِلَانَا إنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ) ( ).
فلم يردا الشتيمة بمثلها ، إنما عرض عليه مصعب أن يجلس ويحدثه ، فان قبل حديثه وإلا فانهما يستجيبان لأمره ويبتعدان عن دور بني عبد الأشهل .
قال أسيد : أنصفت ، ثم ركز حربته في الأرض ، وجلس إليهما ليستمع لآيات ومعجزات من الدين الجديد الذي دخل المدينة بعد أن شاع أمره في مكة وعند القبائل ومدن الجزيرة ، وهو من أسرار دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى التوحيد والإسلام في موسم الحج وبلوغ هذه الدعوة إلى القرى والمدن , كما قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
فذكر له مصعب كيف أن الله عز وجل اختار النبي محمداً ليكون خاتم النبيين وأنزل عليه كلاماً يفوق كلام البشر ، هو القرآن ، الذي تشهد آياته مجتمعة ومتفرقة على صدق نبوته في بلاغتها ومضامينها وموضوعها وأحكامها ودلالاتها ، وأن الله عز وجل يظهر دينه ، وينصر رسله ، وأن الوحي مصاحب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا يغرنك جحود قريش فقد عميت بصائرهم وأبصارهم وهم إلى هلاك فستستأصل عبادة الأوثان من الجزيرة وغيرها ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن طائفة من المسلمين هاجروا إلى الحبشة وهم بأحسن حال يؤدون الصلاة.
وقد امتنع النجاشي عن إعادتهم مع وفد قريش الذي طالب بعودتهم الى مكة كالأسرى ، والنجاشي من النصارى ولولا أنه رأى الصدق في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإسلام أصحابه لما أبقاهم في بلاده يتلون القرآن ويؤدون الصلاة .
ثم تلا مصعب آيات من السور المكية على أسيد الذي كانت علامات وجهه تتغير وأساريره تنبسط لتدل على الرضا والقبول ، وقال أسعد بن زرارة ومصعب فيما بعد.
(وَاَللّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلّمَ فِي إشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ)( ).
وهو من فيوضات القرآن ، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعل عند أصحابه ثروة في الدعوة إلى الله ، تبعث الإنسان على سرعة الإيمان والهدى ، قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
لم يصر أسيد على العناد إنما قال : (مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ) ( ).
وهو يعلم أن قومه بانتظاره وهم يتبعونه في إختياره , ثم قال : كيف يصنع الذي يريد أن يدخل هذا الدين .
قالا له : تغتسل فَتَطّهّرُ وَتُطَهّرُ ثَوْبَيْك , ثم تنطق بكلمة التوحيد والتسليم بالنبوة ثم تصلي , فبادر إلى التطهر وعلماه كيفية الصلاة فصلى , لبيان أن كيفية دخول الناس الإسلام معجزة ولطف وهداية من عند الله عز وجل , سواء كانت بمقدمات وتدريجياَ أو على نحو دفعي , ومن غير أن يزاول الصحابة إرهاباَ أو تخويفاَ أو قهراَ , بل كانوا مستضعفين حين دخول أسيد الإسلام إذ جاء لهما وهو شاهر حربته ,متوعداً لهما منذراَ من العودة إلى دورهم .
ثم جاءهما سعد بن زرارة وهو كبير بني عبد الأشهل متوعداَ وطلبا منه الجلوس والإستماع ليستجيب لهما بذات الكيفية ويرجع إلى قومه ويعلن أنه لا يكلمهم رجالاَ ونساءَ حتى يدخلوا الإسلام ليتغشى أهل المدينة , إلا عدداَ من البيوت لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شيوع الإسلام من غير عنف أو تخويف أو إرهاب .
وليكون مقدمة لقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ويقيم فيها بسلام , وقد أثنى الله عز وجل على أهلها , قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
لتقام صلاة الجماعة والجمعة بأمان في المدينة لأول مرة في الإسلام ، وكانت تصلى في بيت اسعد بن زرارة ، وكان عددهم أربعين رجلاً ، إذ ورد (عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ كُنْت قَائِدَ أَبِي ، كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَكُنْتُ إذَا خَرَجْتُ بِهِ إلَى الْجُمُعَةِ فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ . قَالَ فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ إلّا صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ إنّ هَذَا بِي لَعَجْزٌ أَلّا أَسْأَلَهُ مَا لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
قَالَ فَخَرَجْت بِهِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ كَمَا كُنْت أَخْرُجُ فَلَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ .
فَقُلْت لَهُ يَا أَبَتِ مَا لَك إذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّيْت عَلَى أَبِي أُمَامَةَ .
فَقَالَ أَيْ بُنَيّ كَانَ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمِ النّبِيتِ ، مِنْ حَرّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ ، قَالَ قُلْت : وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا)( ).
فهم يؤدون الصلاة من غير خشية إرهاب واضطهاد بينما قد لا يجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في مكة أربعون من أهل البيت والصحابة في صلاة جمعة أو جماعة واحدة لبيان شدة أذى وإرهاب قريش وقيام الحجة عليهم ، مع أن المسلمين يومئذ أكثر من مائتين وكثير منهم يخفون إسلامهم .
ومنهم من يخرج إلى بطحاء مكة ليصلوا ويقرأوا القرآن ويتدارسوا فيه ، ويشد بعضهم أزر بعض ، هذا عدا الذين هاجروا إلى الحبشة في الهجرة الأولى ثم الثانية وعددهم اثنان وثمانون رجلاً وثماني عشرة امرأة.
لبيان قبح إرهاب قريش للمسلمين ، وعدم إضرارهم بالإسلام لانتشاره في بلدة أخرى وقرى متعددة وهو من عمومات قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
إكرام الله للإنسان تأديب له
لقد أكرم الله عز وجل الناس بخلق آدم وحواء وسكنهما في الجنة برهة من الزمن ثم هبوطهما إلى الأرض بعناية ولطف من عند الله ، وينحصر تحقق هذا الهبوط بقدرة الله عز وجل ، ولا يستطيع إنسان أن يهبط إلا الأرض بسلام إلا بمشيئة وأمر من الله عز وجل .
وهل قام الملائكة باعانة آدم وحواء في هذا الهبوط ، الجواب نعم ، ويستقرأ من إعانة جبرئيل وميكائيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء انتقالاً إلى بيت المقدس بركوب البُراق ثم العروج إلى السماء والهبوط منها ، ونسبة موضوع الإسراء جملة وتفصيلاً لله عز وجل ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
وتوجه الأمر من الله عز وجل إلا آدم وحواء [اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا…]( ).
ولا يقدر على تكاثر الناس وانتشارهم في الأرض إلا الله بلطف خاص وقد حدث قتل بين الأخوين قابيل وهابيل ابني آدم فلم يمنع من هذا التكاثر .
ومن الإعجاز أنه لم تفترس الحيوانات هابيل مع حداثة سكنهم الأرض ، إنما قتله أخوه .
ولو تعرض آدم للقتل أو الموت قبل الإنجاب لما كانت البشرية شعوباً وقبائل ، ولكن الله أمد في عمره ليعيش تسعمائة وستين سنة ، بعد أن منح أربعين سنة من عمره إلى النبي داود ، إذ عرضت عليه ذريته في عالم الذر ، وكان الأنبياء بين عامة النسم كالسرج المنيرة .
ورآى آدم عليه السلام داود فاعجبته هيئته فسأل عنه (من هذا؟ فقيل : نبي من ذريتك) ( ).
فقال آدم : كم عمرك ؟
فقيل ستون سنة ، قال آدم ( رب زده ، قال جرى القلم بآجال بني آدم )( ).
وكان آدم عليه السلام يعلم أن عمره ألف سنة ، فتبرع بأربعين منها لداود كي يتم مائة عام فاضيفت إلى عمر داود ، ولما أكمل آدم تسعمائة وستين سنة جاءه ملك الموت ليقبض روحه ، فاحتج آدم ببقاء أربعين سنة من عمره ،فرجع ملك الموت إلى الله عز وجل ينتظر الجواب ، فاجابه الله بأن آدم اعطاها لابنه داود فجحد آدم ، وقبض ملك الموت روحه .
ولو لم يهب آدم من عمره أربعين سنة لداود والناس في عالم الذر ، واجتهد له بالدعاء فيما بعد سواء وهو في الجنة أو عند هبوطه إلى الأرض وتؤمن له حواء فهل يبلغ مائة عامة من غير أن ينقص من عمر آدم ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )، ولأن الدعاء سلاح الأنبياء .
ومن اللطف الإلهي أهلية آدم وحواء للإنجاب وكثرته فلم يكن أحدهما عقيماً ، وقد أخبر القرآن عن عقم سارة زوج إبراهيم لولا فضل الله بولادتها لإسحاق وعمرها تسعون سنة.
وعن عقم زوجة النبي زكريا لولا استجابة الله لدعاء زكريا فولدت يحيى عن كبر ، وقتل الناس يحيى عليه السلام ، قال تعالى في الثناء عليه [وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
وعن أبي أمامة قال (قال رسول الله : أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة ، وأمنت الملائكة : رجل جعله الله ذكراً فأنث نفسه وتشبه بالنساء ، وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال ، والذي يضل الأعمى ، ورجل حصور ، ولم يجعل الله حصوراً إلا يحيى بن زكريا)( ).
وعن (جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الدعاء سلاح المؤمن ، وعماد الدين ، ونور السماوات والأرض) ( ).
وتكاثر الناس ثم تقسيمهم إلى شعوب وقبائل معجزة ونعمة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
والنسبة بين الشعوب والقبائل هو العموم والخصوص المطلق ، فالشعوب أعم ، وبعد القبائل مراتب أدنى منها ، وهي العشائر والعمائر والفصائل والأفخاذ ، وقول آخر أن الشعوب العجم والقبائل العرب ، ثم ذكر الله عز وجل علة هذا التقسيم وهو التعارف , لأن اللام في [لِتَعَارَفُوا] لام التعليل .
وابتدأت الآية بالخطاب والنداء إلى الناس جميعاً لبيان لزوم الألفة والموادعة بينهم ، وإجتناب الإرهاب والإقتتال ، فهم جميعاً إخوة من أبوين وان ابتعد النسب.
فان قلت قد قتل ابن آدم الصلبي أخاه ، فكيف بمن بعد به النسب بآلاف الأحفاد والمتعاقبين ، والجواب إنما يكون هذا القتل والظلم موعظة لبني آدم من أجل إجتنابه ، كما أن القرآن نزل لإصلاح الناس بالإمتناع عن الفساد والقتل والإرهاب ، لذا ذكرت الآية قانوناً وهو أكرم الناس هم الأتقياء .
ومن معاني التقوى في المقام التنزه عن سفك الدماء عن الفساد ، والتخريب.
(عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كلكم بنو آدم. وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان( ))( ).
ومع سمو نسب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وتعرف العرب منزلة بني هاشم وعامة قريش ، وزادهم الله رفعة بجوار البيت الحرام ، وتوليته والعناية بوفد الحاج ، فهو ينهى عن التفاخر بالأنساب ، ويبين ضرره ، وأن الناس يلتقون بالنسب المتحد ، وهو أن آدم أبوهم جميعاً ، وفيه حرب على الإرهاب ، ومانع من تنامي الأحقاد والعداوات .
ومن الإعجاز اجتماع القرآن والسنة في التذكير بوحدة النسب بين الناس جميعاً ، العربي والأوربي والفارسي والهندي والصيني وغيرهم لمنع التعدي والإرهاب والظلم.
ولم يكن عند آدم إلا زوجة واحدة ، وفيها الكفاية وكون الضرورة في الإنجاب وإصلاح الذات والذرية لأمور الدين والدنيا.
وإذا لم يكن التفاخر بالإنساب لوحدة الموضوع في تنقيح المناط فكل الناس من ظهر واحد ، فهل يصح التفاخر بأن أبا وأم البشر أقاما في الجنة مع الملائكة ، فترة وجيزة ، الجواب نعم.
وهو موضوع وحكم يزجر عن الإرهاب ، ويمنع منه لأن السكن في الجنة سلام وأمن ،وعهد للناس بوجوب التراحم فيما بينهم .
وأن أصل آدم من الطين ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ] ( ).
ولم تقل الآية أعلاه أن الله خلق آدم وحده من الطين بل جعلت خلق الناس جميعاً من الطين للحاجة إلى التذلل والتطامن والخضوع لله عز وجل.
وترك العتو والفتك من أجل أظهار التواضع بين الناس ، والإمتناع عن العنف والتطرف والإرهاب ، وابتداء الآية بالنداء العام الإستغراقي[يَاأَيُّهَا النَّاسُ] دعوة للألفة الإنسانية والإيثار ونبذ العنف والأنانية .
ثم ذكرت الآية الأخوة العامة للناس بأن يجتمعوا بالإلتقاء النسبي من أبوين.
فتجد ابناء القبيلة يتعاهدون نسبهم ، ويتصلون بالقبائل القريبة منهم في النسب ، ويلتقون معهم بالجد ، فيقولون أفراد القبيلة الفلانية أبناء عمنا ، فأرتقت آية البحث لأسمى من علم الأنساب والتعارف بين الناس ، فقال تعالى [إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى]( ) لطرد الحمية والعصبية ، ولمنع الإرهاب بسبب الدين والملة والوطن والقومية .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد على التحلي بالأخلاق الحميدة مع الناس جميعاً , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) .
و(عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وآله وسلم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبهم على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: “يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وتعظمها بآبائها.
فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. إن الله يقول {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }( ) ثم قال: “أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم)( ).
قانون المعجزات العامة
من بديع صنع الله عز وجل والمعجزات ما هو عام يتغشى الناس جميعاَ , ويبين قوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ..]( )، قانون المعجزات العام للناس جميعاً أو لأمة أو طائفة منهم ، وهي غير معجزات الأنبياء ، ولا بأس بدراسات خاصة عن المعجزات في حياة الناس العامة والخاصة ، وكل معجزة منها تزجر عن الإرهاب والظلم ، وهي من اللامحدود منها :
الأولى : خلق الله لأدم وحواء في الجنة .
الثانية : نفخ الله عز وجل من روحه في آدم .
الثالثة : سجود الملائكة لآدم عند بعث الروح فيه ، قال تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ).
الرابعة : عدم مؤاخذة الله عز وجل لآدم وحواء بالعقوبة عند أكلهما من الشجرة التي نهاهما من التقرب إليها ، قال تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ) .
ولم يرد لفظ [فَتَكُونَا مِنْ] إلا في هذه الآية وآية أخرى مشابهة ومتحدة في الموضوع معها وهي الآية التاسعة عشرة من سورة الأعراف .
الخامسة : هبوط آدم وحواء بمعجزة من عند الله ، وفازت حواء بالمعجزة مع أنها ليست نبية ، وهل نالت معجزة الهبوط بالتبعية لآدم كما ورد في التنزيل [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) الجواب لا ، إنما نالت حواء معجزة الهبوط لها بالذات وبعرض واحد مع آدم ، لذا ورد في التنزيل [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى] ( ).
والمراد من ألف الاثنين آدم وحواء ، وهو المشهور ، وهو ملحق بقوله تعالى [فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا] ( ) وقيل أدم وابليس ولكن مضمون ذات الآية أعلاه وإمكان التوبة بتلقي الهدى مانع من اشتراك إبليس بالخطاب فيها .
وجاءت آية أخرى تدل على شموله بالهبوط كما في قوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
السادسة : معجزة أصل مليارات الناس جميعاً من أب وأم واحدة ، وان انتفاء العقم عند أدم حواء معجزة أخرى ، وسلامتهما لحين كثرة الأولاد ، وعدم إضرار قتل قابيل لأخيه هابيل بالتكاثر بين الناس معجزات متعددة بمشيئة من الله ، ويدل قوله تعالى [أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] ( )،على أن أهلية الإنسان ذكراً أو أنثى للإنجاب بفضل ولطف من الله عز وجل .
السابعة : استقرار النفرة في نفوس الناس من الإرهاب .
فلا يأتي يوم على أهل الأرض وتجدهم يرضون بالإرهاب أو يميلون إليه , وهو من الإعجاز في تعاهد الله عز وجل للكيفية النفسانية للبشر .
الثامنة : من المعجزات من عند الله سوء عاقبة الظالمين ، ولحوق الضرر والخزي بهم ، وفيه تحذير وإنذار من الظلم بشعبه وأقسامه ومفاهيمه وتعدد جهة صدوره فهو قبيح سواء صدر من الفرد أو الجماعة ، ومن الرئيس أو المرؤوس ، ومن المسلم والكتابي والمشرك.
التاسعة : غاية خلق الناس وهي العبادة معجزة ، وكذا تحقق مصداقها ، ففي كل زمان ومن أيام أبينا آدم لابد من وجود أمة تعبد الله عز وجل ، وتمتثل لأوامره ، وتجتنب ما نهى عنه .
فلا تختص العبادة في المقام بأداء الفرائض ، لذا قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) فان قلت لم يرد ذكر الفرائض العبادية في الآية أعلاه .
والجواب نعم مذكورة وتتجلى بلغة الخطاب الموجه في أول الآية إلى المسلمين والمسلمات ، إذ أن الآية معطوفة على الآية التي تبدأ بنداء الإيمان ، وهي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
العاشرة : معجزة نزول الغيث وأوانه ومحل نزوله ، وأحياء الأرض ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) لبيان ترشح المعجزة عن الأخرى ، ومن أسرار الحياة الدنيا ، وخلافة الإنسان تتابع المعجزات وتفرع بعضها عن بعض .
الحادية عشرة : المعجزات الخاصة بالأفراد والجماعات في الأرزاق والأقوات ، والصحة ، والآجال ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ).
الثانية عشرة : تقسيم الناس إلى شعوب وقبائل وانشطار كل منها مع تقادم الأيام ، ومن الإعجاز وبيان مصداق لقوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أن هذا التقسيم بأمر من عند الله سبحانه .
الثالثة عشرة : بيان القرآن لعلة تقسيم الله الناس إلى شعوب وقبائل بأنه التعارف والتوادد والموادعة .
وهذا التعارف من المعجزات العامة أي التي تتغشى الناس جميعاَ أو طائفة منهم , ومنها فضل الله عز وجل على المسلمين , وعلى أهل الكتاب.
ومنها نزل الغيث من السماء وانتفاع البر والفاجر منه , والزراعات والأنعام وغيرها , قال تعالى [وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ]( ) وكل فرد من هذه المعجزات دعوة للمسلم وغير المسلم للصلاح والإستقامة ،والإمتناع عن الإرهاب .
إرهاب قريش للنبي (ص) وأصحابه
قد تقدمت الإشارة إلى هذا الباب في الجزء السادس والثلاثين بعد المائتين من هذا السٍفر .
ولم تعهد العرب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود مسجد في مدن وقرى الجزيرة غير المسجد الحرام الذي في مكة ، والذي قاموا بمحو صورة المسجدية عنه على نحو السالبة الجزئية بنصب الأوثان في الكعبة وخارجها ، وصاروا يتزلفون إليها ، وكل قبيلة لها صنم أو أصنام خاصة مع وجود أصنام عامة .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً رحمة بهم ليقيم الصلاة بمفرده في المسجد الحرام ، صلاة خالصة لله عز وجل ، وبكيفية لم تعهدها العرب من القيام والركوع والسجود ، وتلاوة آيات القرآن ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، والدعوة الفعلية إلى الله عز وجل .
لقد قام إبراهيم عليه السلام بكسر الإصنام ، قال تعالى [فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
وأنقذه الله عز وجل من النار التي القوه فيها بمعجزة حسية عظيمة ، [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ).
ومع هذه المعجزة فلم يستجب الناس إلى إبراهيم في رسالته ، فالتجأ إلى مكة ليرفع قواعد البيت الحرام توطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصلاته في المسجد الحرام .
ولم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البداية بتكسير الأصنام ، إذ أمره الله عز وجل بالصبر ، قال تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ).
وكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام خديجة زوجته ، والإمام علي عليه السلام ، لبيان نواة العالم الإسلامي ، وبدايات الإجهاز على الأصنام .
وكان هناك الصحابة يصلون خفية في شعب مكة وفي البيوت ، ويدّب نبأهم إلى قريش ويتداولونه في دار الندوة ليستشيطوا غضباً وحنقاً ، فتصدر منهم أفعال قاسية في تعذيب الصحابة وملاحقتهم داخل مكة وفي أطرافها ، والصدّ عن سبيل الله .
وهل صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام سعي لهدم وتكسير الأصنام ، الجواب نعم ، وهي رسالة عقائدية وعقلية وحسية إلى الناس ببطلان عبادة الأوثان ، ولزوم التنزه عنها ، ومقدمة لهدمها وتكسيرها إلى الأبد ، وأدرك رؤساء الشرك هذه الحقيقة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يسعون بالإجتهاد الفعلي والفقاهة إلى التغيير النوعي في المجتمعات نحو سنن التوحيد خاصة وأن آيات القرآن تترى في نزولها .
وهل يمكن القول بأن كل آية قرآنية هي حرب على الأصنام وعبادتها ، الجواب نعم ، وهي بشارة إزاحة واستئصال الأصنام من الأرض ، وينطبق عليه قانون عدم إجتماع الضدين ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية لتنقطع وإلى الأبد عبادة الأوثان والطواغيت .
واشتد أذى كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ثم أدركوا أن الحصار الاقتصادي الذي فرضوه على بني هاشم ، وقتل بعض الصحابة وإيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه وجسده، والتمادي في السخرية منه ، ونعته بالسحر والجنون لم يزد الناس إلا إدراكاً لصدق نبوته فعزموا على قتله بجوار البيت الحرام ، وكان إبراهيم عليه السلام قد استعد لليلة الإغتيال هذه بالدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادته بنحو ألفي عام بأدعية عامة لمكة وأهلها ، ومنها [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) .
وأدعية لذريته ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] ( ).
ومن الإعجاز اشتراك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بالدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) .
وعندما عينت قريش ليلة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه نزل جبرئيل في ذات الليلة ليأمره بالهجرة مما يدل على أن الهجرة تمت بسرعة وعلى نحو طارئ من غير أن يستعد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن مثل هذا الإستعداد ينفعه ، فقد يكون سبباً لإجهاز قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي ساعة من النهار أو الليل.
ليبيت الإمام علي عليه السلام في فراشه ليلة الهجرة المباركة لإيهام قريش ، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجود غير مسافر ، وليؤد الإمام علي عليه السلام إلى الناس أماناتهم التي عند النبي ، إذ كان يعرف بالأمين ، ويودع الناس أموالهم عنده حتى الكفار ، فيحفظ ودائعهم، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا…] ( ).
(عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي سمعتُ نداءً وقد واللّه خشيتُ أن يكون هذا أمراً .
فقالت : معاذ اللّه .
ما كان اللّه عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك .
فواللّه إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث) ( ).
وأبو ميسرة من التابعين ، ولم يرفع الحديث خاصة وأن فيه قولاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (خشيت أمراً )، بينما من خصائص الوحي أن الله عز وجل يجعل النبي يدرك أن ما يأتيه وحي من عند الله سبحانه .
ولعله في المقدمات أحياناً لا تتضح الصورة ، فيثبت الله قلب النبي ويؤهله لتلقي الوحي بالقبول والعمل .
وفي حديث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما نزل عليه جبرئيل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فَقَرأتُ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقَلْتُ: لَقَدْ أشْفَقْتُ عَلى نَفْسِي، فأخْبَرْتُها خَبرِي.
فَقالَتْ : أبْشِرْ، فَوَاللهِ لا يُخْزِيكَ الله أبدًا، وَوَاللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتُؤَدِّي الأمانَةَ، وَتحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ عَلى نَوَائِبِ الْحَقّ.
ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِي إلى وَرَقَةَ بنِ نَوْفَل بنِ أسَدٍ، قالَتْ: اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أخِيكَ، فَسأَلنِي، فأخْبَرْتُهُ خَبَرِي .
فَقالَ: هَذا النَّامُوسُ الَّذِي أُنزلَ عَلَى مُوسَى صَلى اللهُ عَليهِ وآله وسلَّمَ، لَيْتَنِي فِيها جَذَعٌ، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ .
قُلْتُ: أوَ مُخْرِجيَّ هُمْ؟ قال: نَعَمْ، إنَّهُ لَمْ يَجِئ رَجُلٌ قَطّ بِمَا جِئْتَ بِهِ، إلا عُودِيَ، وَلَئِنْ أدْرَكَنِي يَوْمُك أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا .
ثُمَّ كانَ أوَّل ما نزلَ عَليَّ مِنَ القُرْآنِ بَعْدَ(اقرأ) [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ *وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ]( )، و[يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ]( )، وَالضُّحى* وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى( ).
لقد تمادى كفار قريش بمسالك الإرهاب في المقام من جهات :
الأولى : نصب الأصنام في البيت الحرام ، وإرهاب الناس لعدم التعرض لها ، وللتوسل بها ، والتزلف إليها ، مع أن العرب جميعاً يدركون أن البيت الحرام محل عبادة خالص لله عز وجل وحده .
الثانية: معاداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من تبليغ رسالته .
الثالثة : الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الإعراض عن بلاغاته والآيات التي يتلوها عليهم ، قال تعالى [أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] ( ) أي يعلمه بشر سعياً من المشركين لصدّ الناس عن القرآن والتدبر في نزوله من عند الله .
ومجنون أي مختلط في أمره لا يعي ما يقول .
الرابعة : إرهاب قريش لبني هاشم ، وفرض حصار اقتصادي عليهم ، مؤمنهم وكافرهم ، لأنهم اصطفوا إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبوا أن يسلموه إلى المشركين ، ولا عبرة بالقليل النادر والشاذ كأبي لهب الذي كان يؤازر المشركين في إيذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يترك الله عز وجل أمره إنما نزلت سورة كاملة في ذمه وزوجته ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] ( ).
ومن الإعجاز الغيري لهذه السورة منع الناس من الإفتتان بتكذيب ومحاربة أبي لهب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو عمه صنو أبيه ، كما جعلت السورة أبا لهب منشغلاً بنفسه مع إنصراف رجالات قريش عنه لما لحقه من الخزي بنزول هذه السورة ، وخشيتهم أن تنزل آيات تذكرهم بأسمائهم بعد أن أدركوا أن الذين يفدون إلى مكة من رجال القبائل وأهل المدن يعودون إلى أهليهم بآيات القرآن ، وما فيها من البشارة والإنذار ، والوعد والوعيد .
وهل وصلت آيات القرآن إلى الشام واليمن متجر قريش قبل الهجرة ، الجواب نعم.
الخامسة : إرهاب قريش للصحابة الذين دخلوا الإسلام بايذائهم وضربهم والتعدي عليهم، ولو كانت يومها تفجيرات عشوائية هل تستعمل قريش هذا السلاح ضد المسلمين الذين يجتمعون للصلاة جماعة ، الأقرب نعم بتسخير بعض غلمانهم وعبيدهم .
ولو دار الأمر في تلقي شدة الأذى من وجوه :
الأول : الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إيذاء الأفراد والجماعات من الصحابة ذكوراً وأناثاً.
الثالث : أذى الصحابة الأوائل مجتمعين حتى اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإشارة على طائفة منهم بالهجرة إلى الحبشة .
المختار هو الأول باستثناء الشهداء الذين ماتوا تحت التعذيب مثل سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر .
السادسة : إرهاب قريش لعمار المسجد الحرام بتحذيرهم وإنذارهم من الجلوس إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع له .
السابعة : مزاولة قريش لسلطانهم في المال والجاه لمنع الناس من دخول الإسلام ، وهو من أشد ضروب الإرهاب .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ونصرة الله عز وجل لأنبيائه ذهاب إرهاب قريش هباء ، وعدم ترتب الأثر عليه ، وهكذا بالنسبة لكل إرهاب ، فانه نتوء وعرض زائل .
لقد كان كفار قريش أئمة الإرهاب والدعاة إليه ، ولم يكتفوا بايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله في فراشه ، بل جهزوا الجيوش لقتاله في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، ولم يعلموا أن الله عز وجل أبى أن يستمر الإرهاب فلابد أن يقطعه ، ويفضح ويخزي أهله ورواده ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
هجرة الحبشة إعراض عن إرهاب قريش
في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية كانت هجرة نفر من الصحابة إلى الحبشة بعد أن آذتهم قريش في انفسهم وأبدانهم ودينهم ، أي أن هجرتهم قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثمان سنوات ، وأعقبتها هجرة طائفة أخرى إلى الحبشة ، لبيان أن إرهاب المشركين للمسلمين سبّب بهجرة طائفة منهم ، وهو شاهد على التأريخ بأن الإسلام ضد للإرهاب ، وأن المسلمين يتحملون الأذى ، ويمتنعون عن رد الإرهاب بارهاب مواز مثله أو أقل أو أعلى منه درجة .
ومن عناد وإصرار قريش على الإرهاب داخل مكة وخارجها بعثهم وفداً برئاسة عمرو بن العاص إلى الحبشة يحملون الهدايا الجزيلة إلى النجاشي ملك الحبشة ، وبطارقته وحاشيته ، من أجل أن يُسلم لهم المسلمين المهاجرين .
فرفض النجاشي طلبهم بعد أن استمع لبعض آيات القرآن من جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، لبيان الإعجاز الغيري للقرآن ، وحسن سمت النجاشي وملوك النصارى إلى هذا الزمان بعدم طرد المسلمين من بلدانهم مما يلزم مقابلته بالشكر والتنزه عن الإرهاب مع الشكر والحمد لله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض , قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب ، وحينما رد النجاشي وفد قريش خائبين إزداد أذاهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفرضوا على بني هاشم الحصار في شعب أبي طالب لثلاث سنين ، وهو من أشد ضروب الإرهاب النفسي والإقتصادي والإجتماعي , إذ حرموا مبايعتهم والتزاوج معهم .
وكان عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم انتهى الحصار تسعاً وأربعين سنة ، وبعده باشهر مات عمه أبو طالب وله سبع وثمانون سنة .
وهل أدركت قريش قرب موت أبي طالب ففكت الحصار خشية الهياج العام عليهم ، وتحميلهم تبعات موت أبي طالب الذي له مكانة كبيرة بين أهل مكة والقبائل العربية خصوصاً تلك التي لها حلف مع بني هاشم مثل قبيلة خزاعة .
الجواب نعم ، خاصة وأن هذا الحصار ضد ومخالف لأصول وقواعد حرمة البيت الحرام وجواره ، والأشهر الحرم وتعطيل العداوات فيها ، وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ) فعبدت قريش الأصنام وأشاعوا الفساد وأرهبوا وأخافوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
وجاء حكاية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التنزيل [إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
وتحتمل هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة وجوهاَ :
الأول : إنها برأي واقتراح من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : مبادرة من الصحابة المهاجرين أنفسهم عندما علموا أن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم لا يواجه إرهاب قريش بالتحدي والمثل .
الثالث : إنها بالوحي من عند الله عز وجل .
والصحيح هو الأخير , فلم تكن هذه الهجرة إلا بأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوانها , وتعيين الجهة التي يتوجهون إليها وهي الحبشة وأسبابها , وهو [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة من أصحابه (لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ)( ).
وهل يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالملك النجاشي مطلقاَ , أم خصوص ملك الحبشة آنذاك وهو اصمحة بن أبجر ومعناه عطية , المختار هو الثاني .
إذ أن النجاشي اسم للذي يتولى الحكم في الحبشة مثل هرقل ملك الروم , وكسرى اسم لمن يلي ملك فارس أيا كان اسمه الشخصي وخاقان اسم لملك الترك , وبطليموس اسم لملك اليونان.
نعم أضاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرض صدق , لأن أهلها من النصارى , وقال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ).
والذي يفر من مستنقع الإرهاب لا يلجأ إليه وإن تقادمت الأيام.
قانون إزاحة الأصنام بالبعثة
تقدمت الإشارة إلى هذا القانون في الجزء السادس والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر ، إذ لم تعهد العرب بناء المساجد ، ولكنهم يقرون بالمسجد الحرام ، وهو سور الموجبة الكلية الجامع للعرب في صلتهم بالله عز وجل ، فيفرون اليه في موسم الحج وغيره ، واتخذت قريش جواره وتولية أموره للجاه والشأن بين العرب وخارج الجزيرة لينزل القرآن بفضحهم ونفي ولايتهم للبيت , قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فقد كانت الروم والفرس والحبشة يعلمون بأنهم مجاوروا وأولياء البيت الذي تعظمه العرب ، وكان عند الروم والحبشة الكنائس ، وعند الفرس بيت النار.
فتعظيم موضع مخصوص ليس أمراً ينفرد به العرب ، ولكن إكرام البيت الحرام والوفادة إليه أمر من عند الله عز وجل ، قال سبحانه [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
ثم طرأت ظاهرة عبادة العرب للأوثان واتخاذها زلفة ووسيلة للتقرب إلى الله عز وجل ، حتى نصبوا عدداً منها في البيت الحرام ، وكان لكل قبيلة صنم في البيت ، إلى جانب الأصنام العامة فيه ، فكان الصنم (هبل) في جوف الكعبة ، وهو مصنوع من العقيق الأحمر ، وبهيئة إنسان ، ومكسورة يده اليمنى ، فجعلت له قريش يداً من ذهب .
وعندما ضرب عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقداح بين الإبل وولده عبد الله وفاء منه بنذر إلى أن خرجت القداح على الإبل فنحرت.
لينزل القرآن بقبح إتخاذ الأصنام ، وعدم تقدير النذور إليها ، بل حض القرآن على إجتناب كثرة اليمين بالله ، وعلى حنث اليمين مع وجود الراجح في ضدها مثل صلة الرحم ، وفعل الإحسان والبر والصلاح والإصلاح ، قال تعالى وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
وكانت للعرب أصنام عديدة منتشرة في القرى والمدن والطرقات العامة فمثلاً يقع الصنم مناة على ساحل البحر بقديد بين مكة والمدينة ، ويعظمه وينذر له الأوس والخزرج والذين يسكنون بين مكة والمدينة ، ويذبحون له.
ومنهم من أطلق اسم (عبد مناة) أو زيد مناة على ابنه .
وبقيت هذه الأسماء في أنساب العرب وبطون الكتب الى هذا الزمان فيقال بني بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وزيد مناة بن تميم ، وعبد العزى بن قصي بن كلاب ، واسم أبي لهب عبد العزى( ).
وفيه دليل على ثبوت اتخاذهم الشرك سبيلاً ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( )، ورحم الله عز وجل الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنقاذ الناس من براثن الجاهلية والشرك.
وقد ذكر الله عز وجل مناة بقوله تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى]( )، أي يا أيها الذين كفروا إدعاءكم أن اللات والعزى ومناة بنات الله لا أصل له وكيف أنه قسمة جائرة لتوثيق حال الجهالة عند العرب قبل الإسلام ، وحاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والعزى من أعظم الأصنام عند قريش ، وهي ثلاث شجرات سمرات بوادي نخلة وكانوا يزورنها ، ويهدون إليها ، مع أن جوار البيت الحرام نعمة عظمى وحجة عليهم , وفيه غنى ونهي عن شد الرحال للأوثان .
وصنم (اللات) صخرة مربعة في الطائف وأصله رجل من ثقيف في الجاهلية كان يجلس على تلك الصخرة ، وكانت له غنم فيأخذ من لبن ومن زبيب الطائف ، ويصنع حيساً ويطعم الذين يمرون عليه.
وعن مجاهد (فلما مات عبدوه وقالوا : هو اللات ، وكان يقرأ اللات مشددة .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان اللات يلت السويق على الحاج فلا يشرب منه أحداً إلا سمن فعبدوه.
وأخرج الفاكهي عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي : إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً)( ).
(كان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالكٍ. وكانوا قد بنوا عليها بناءً. وكانت قريش وجميع العرب تعظمها ، وبها كانت العرب تسمى زيد اللات وتيم اللات)( ).
ومناة صنم لهذيل وخزاعة ويعبدها أهل مكة ، وصنم العزى لسليم وغطفان وخثعم.
و(عن ابن عباس قال: دخلت فاطمةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال : ما يبكيك يا بُنَيَّة .
قالت: يا أبت ، وما لي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجْر يتعاقدون باللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك.
فقال : يا بنية، ائتني بوَضُوء”. فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى المسجد. فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا فطأطؤوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم.
فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال : شاهت الوجوه . فما أصاب رجلا منهم حَصَاة من حصياته إلا قُتل يوم بدر كافرا)( ).
وكان أساف ونائلة وهبل لأهل مكة .
وأساف بهيئة الرجل على جبل الصفا قبال الحجر الأسود ، وصنم نائلة قبال الركن اليماني.
و(عن ابن عباس إسافاً ونائلة رجل من جرهم يقال له إساف بن يعلى، ونائلة بنت زيدٍ من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلوا حجاجاً، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلةً من الناس وخلوة في البيت، ففجر بها في البيت، فمسخا. فأصبحوا فوجدوهما مسخين. فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما. فعبدتهما خزاعة وقريش، ومن حج البيت بعد من العرب)( ).
لقد تعاظم أمر الأصنام ، وصار العرب يُهلّون إليها ، ويطوفون حولها ، ويقدمون لها النذور وينحرون عندها ، ويتسابقون للفوز في تقديسها وجعلوا لها سدنة وحجاباً ، واختصت بعض القبائل بهذه السدانة والحجابة ، ولو استمرت الحال لاقتتلت العرب فيما بينها على الأصنام وبسببها.
فمثلاً كان سدنة العُزّى بنخلة بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم ، وعند فتح مكة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد لهدمها ، فجاء إليها وقطع الشجرات السمرات وهدم البيت الذي عليها.
(وكانت ذو الخَلَصة لدَوس وخَثعم وبَجِيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بِتَبَالة.
وكان يقال لها: الكعبة اليمانية، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية.
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه.
قال: وكانت فَلْس لطيئ ولمن يليها بجبلي طيئ من سَلمى وأجا.
قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه، واصطفى منه سيفين: الرّسُوب والمخْذَم، فَنفَّله أياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما سيفا علي)( ).
واتخذ العرب في بيوتهم ومنتدياتهم أصناماً للبركة وطلب الأمن ، والتوسل بالقريب ، فجاء القرآن بإخبارهم بأن الله عز وجل أقرب لكل انسان ، قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
ومنهم من سمّى صنمه الخاص باسم أحد الأصنام المشهورة ، والمعظمة من قبل قومه .
فمثلاً كان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة من الخزرج يتخذ صنماً من خشب في بيته واسمه (مناة) (كما كانت الاشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه ويظهره)( ).
وكان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة وبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، وحينما رجع أصحاب العقبة إلى المدينة أظهروا الإسلام وصاروا يتلون القرآن علانية وهو من المعجزات الغيرية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبينما تحارب وتؤذي قريش الذي يتلو القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة صار القرآن في ذات الوقت يتلى علانية في المدينة يثرب وأقاموا الصلاة وفيها اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع ، وفيها الكفار والمشركون .
وقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيعة العقبة الثانية مصعب بن عمير سفيراً ويعلمهم القرآن وكيفية أداء الصلاة .
وأيهما أكثر أهمية تعلم الصلاة أم تعاهد أوانها ، الجواب هو الثاني ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على أداء الصلاة جماعة خمس مرات في اليوم , وسيأتي مزيد بيان .
حديث (أنتم الطلقاء)
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه حين أظهره الله عز وجل على المشركين عفا عنهم , ولم ينتقم منهم مع شدة أذاهم له ولأهل المدينة وأصحابه ، وقرب هذا الأذى والقرح والجروح لم تندمل بعد .
فمعركة أحد وسقوط سبعين شهيداَ من الصحابة فيها وقعت في السنة الثالثة للهجرة , ومعركة الخندق وحصارهم للمدينة لأكثر من عشرين ليلة وقعت في السنة الخامسة للهجرة , أما فتح مكة وتمكين الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين فكان في السنة الثامنة للهجرة أي بعد ثلاث سنوات من غزو المشركين المدينة في معركة الخندق .
و(عن ابن عباس قال : أخذ النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت،
وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ قال : ما تظنون؟
قالوا : نظنّ خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت،
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : (لا تثريب عليكم اليوم) ( ))( ).
أما قول (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وفسر بعضهم كصاحب الكشاف بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتق اهل مكة فلم يثبت هذا العتق لأنهم لم يقعوا في الأسر , ولأن أكثر أهل مكة حينما دخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثامنة كانوا مسلمين وصاروا بعد صلح الحديبية يظهرون إسلامهم , وإذ ورد لفظ (لا تثريب عليكم اليوم) .
عن ابن عباس والذي لم يذكر أنتم الطلقاء ، إنما ورد عن ابن إسحاق وعلى نحو الإرسال وطول مدته إذ قال : (فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ .
فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدّعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِئَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ .
إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ }( ) الْآيَةَ كُلّهَا .
ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟
قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ)( ) .
وابن إسحاق بن يسار ولد سنة (80) للهجرة وتوفى سنة (150) للهجرة (699-768)م .
ولد في المدينة , وتوفى في بغداد في خدمة الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور(95-158) للهجرة ويلقب إبن إسحاق بالمدني والقرشي والمطلبي وهو مولاهم مولى لقيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف .
وروى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام وعن الزهري وعطاء ومكحول وعن أبيه , ويلقب صاحب المغازي (وثقه ابن معين مرة وضعفه أخرى) ( ).
و(قال ياقوت: ” أخطأ في كثير من النسب الذي أورده في كتابه)( ).
قال الهيثم بن مروان(سمعت أبا مسهر يقول : سمعت شيخاً من قريش أثق به يقول: سأل المهديّ ابن علاثة : لم رددت شهادة محمد بن إسحاق بن يسار؟
قال: لأنه كان لا يرى جمعة ولا جماعة .
فلقيت عبد الله بن يعقوب فقال : سمعته من أبي مسهر، فسألت أصحاب محمد بن إسحاق، فقالوا : كان يروي حديث علي بن أبي طالب : لا جمعة إلا في مصر مع إمام عادل) ( ).
قال أحمد بن حنبل : هو حسن الحديث .
(وقال الشافعي: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق وأكثر ما عيب به التدليس مات سنة خمسين أو إحدى وخمسين ومائة) ( ).
والأرجح في قوله ( بعض أهل العلم ) أنه شخص واحد من أهل العلم , ولم يثبت هذا الحديث , وقال الزمخشري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (اذهبوا فأنتم الطلقاء ” ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئاً ، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام) ( ) .
وليس من حرب وأسر في معركة إنما كانوا داخل البيت الحرام , وقال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمان لأهل مكة قبل أن يدخلها .
وروي (عن صفوان بن يحيى واحمد بن محمد بن ابي نصر قالا: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها اهل بيته فقال: من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر فيما سقت السماء والانهار، ونصف العشر فيما كان نادرا فيما عمروه منها، وما لم يعمروه منها اخذه الامام فقبل ممن يعمره وكان للمسلمين وعلى المتقبلين في حصصهم العشر ونصف العشر وليس في أقل من خمسة أوساق شئ من الزكاة، وما اخذ بالسيف فذلك إلى الامام يقبله بالذي يراه كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر قبل سوادها وبياضها، يعني ارضها ونخلها والناس يقولون : لا تصلح قبالة الارض والنخل.
وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر، وعلى المتقبلين سوى قبالة الارض العشر ونصف العشر في حصصهم، وقال : ان اهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وان أهل مكة لما دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله عنوة وكانوا اسراء في يده فأعتقهم وقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء)( ) ذكرنا له أي الإمام الرضا عليه السلام .
وقد وردت الرواية ذاتها في نفس الصفحة والكتاب عن محمد بن أبي نصر من غير ذكر أهل مكة وأنتم الطلقاء , إذ قال (ذكرت لابي الحسن الرضا عليه السلام الخراج وما سار به أهل بيته.
فقال : العشر ونصف العشر على من اسلم تطوعا تركت ارضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر فيما عمر منها، وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين .
وليس فيما كان أقل من خمسة اوساق شئ، وما أخذ بالسيف فذلك للامام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر قبل ارضها ونخلها والناس يقولون لا تصلح قبالة الارض والنخل إذا كان البياض اكثر من السواد.
وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر)( ) وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أنتم الطلقاء فلا يعني أنهم طلقاء من الأسر , إنما صاروا عتقاء من الشرك ومنحهم حرية الحركة والضرب في الأرض , وعدم الخشية من أحد وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على سلامة كل إنسان من الإرهاب ويعطي إشارة لأصحابه بعدم جواز التعرض لأحد من أهل مكة أو غيرهم , وأنه ليس من ثأر أو إنتقام , فالإسلام عدو الإرهاب وهو الدين الذي أزاحه من الأرض .
تصديق حكماء العرب بنبوة محمد “ص”
لقد كانت أمارات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى للناس على نحو دفعي وتدريجي , وكان يسمى قبل النبوة (الصادق الأمين) .
لتكون هذه التسمية والشواهد المتكررة التي تدل عليها من صدق الحديث والتجارة وحفظ الأمانة , مقدمة لتصديق الناس برسالته , والإمنتناع عن إيذائه وإرهاب وتخويف أصحابه .
وحينما شاع نبأ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال بعض حكماء العرب إن الله عز وجل سيظهره وحضوا قومهم على إتباعه في بدايات بعثته ليكون لهم الفخر والرياسة مستقبلاَ , ومنهم رجال قريش وبعض حكماء العرب منهم أكثم بن صيفي التميمي وهو من أشهر حكماء وسادات العرب , ومن المعمرين .
وكان فارساَ شجاعاَ , يتقاضى عنده العرب ، له مراسلات مع عدد من الملوك , اشتهر بخطبه وبلاغته , وكان من ضمن الوفد الذي قدم على كسرى لما استنقص الفرس من شأن العرب ، فخطب بحضرة كسرى فابهره بفصاحته وحكمته .
وعندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أراد أكثم بن صيفي التوجه إليه والإستماع منه ، والتصديق برسالته فأبى قومه أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن أكثم بالحكمة والشعر والأدب والشجاعة .
(وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخف إليه) ( ).
فاستجاب أكثم لقومه وأمر بارسال وفد إلى المدينة للقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتألف الوفد من ابنه ، ورجلين من قومه ، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك : من أنت ؟ وما أنت ؟
وهو سؤال تتجلى الحكمة والبلاغة بين ثناياه ليرى الإجابة ودلالاتها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله” : ثم تلا عليهم هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }( ))( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي قراءته آيات مناسبة وملائمة لكل مجلس وشأن .
وتدعو هذه الآية إلى كل من :
الأول : ذم عبادة الأوثان والزجر عنها .
الثاني : حرمة الإرهاب .
الثالث : لزوم العدل والإنصاف .
الرابع : وصل ذوي القربى .
الخامس : الوعيد على البقاء على الشرك والضلالة .
السادس : التضاد بين الحكمة والكفر ، فالذي يختار الحكمة ويتحلى بها مثل أكثم بن صيفي يجب أن يبادر إلى الإيمان ولا يبقى على الشرك ، لتكون هذه الآية رسالة نبوية إلى أكثم بن صيفي خاصة لدخول الإسلام ، وكان أكثر قومه يتبعونه .
أنبهر اعضاء الوفد وقالوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أردد علينا هذا القول أي جوابه ، والآية الكريمة أعلاه فاعاده عليهم حتى حفظوه فعادوا إلى أكثم الذي يُعرف بحكمته وخطابه وأقواله منها قوله (إياكم والنميمة فأنَّها نار محرقة وأن النمام ليعمل في ساعة ما لا يعمل الساحر في شهر.
فاخذه الشاعر فقال :
أن النميمة نار ويك محرقة
فعد عنها وحارب من تعاطاها
ولذلك قيل : نار الحقد لا تخبوا.) ( ).
ترى لماذا لم يثن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أكثم بن صيفي الجواب لأنه لا زال على الكفر فلم يذمه ولم يمدحه .
وأخبر الوفد أكثم بن صيفي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرفع نسبه ، ويذكر أجداده ، وأنهم استغربوا الأمر فسألوا عن نسبه فعلموا أنه من أرفع أنساب العرب ، ثم أنه قدم ذكر عبوديته لله عز وجل قبل أن يذكر الرسالة ، ثم ذكروا له ما تلى عليه من القرآن ، وأخبروه عن حال المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها ، فتوجه أكثم إلى قومه بالخطاب العام وحضهم على دخول الإسلام ، وأتباع الحق مع بيانه لعلة هذا الدخول ، وهذا البيان من الحكمة ، إذ قال (أي قوم أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذناباً كونوا فيه أولاً ولا تكونوا فيه آخراً) ( ).
لبيان إدراك العقلاء الملازمة بين الإسلام ومكارم الأخلاق .
وقيل (وأدرك أكثم بن صيفي مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن مائة وتسعين سنه وكان يوصي قومه بإتيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسلم وكان قد كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاوبه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسر بجوابه وجمع إليه قومه فندبهم إلى إتيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان به ) ( ).
وذكر أن أكثم بن صيفي جمع مائة من قومه وخرج بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليسلم ، ولكنه مات في الطريق.
(عن عامر الشعبي قال : سألت ابن عباس عن قوله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجراً . . . }( ) الآية . قال : نزلت في أكثم بن صيفي قلت : فأين الليثي؟
قال : هذا قبل الليثي بزمان ، وهي خاصة عامة) ( ).
لقد كانت شهادات حكماء العرب بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخولهم الإسلام شاهداً على أنه دين السلام والأمن والأخلاق الحميدة ، وبه يتحقق استقرار المجتمعات ، وفيه مدد وعون لترغيب الناس في الإسلام ، وتأديب عام بإجتناب الظلم والتعدي والإرهاب ، لمنافاة كل فرد منها الإسلام ومبادئه .
حج آدم البيت نهي عن الإرهاب
لقد اثنى الله عز وجل على نفسه بأن جعل أول بيت في الأرض هو بيته ليكون سفيراَ يومياً للتوحيد , وداعية للهدى , قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) .
وليس من حصر لبركات البيت الحرام ولابد أن يقصده آدم عليه السلام أبو البشر إقراراَ بالتوحيد , ورجاء الفوز بالبركة , وتثبيتاَ لشأن البيت بين ذريته , وقد حج آدم ثلاثمائة حجة كما ورد في الحديث أعتمر سبعمائة عمرة .
و(عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أوحى الله إلى آدم حج هذا البيت قبل أن يحدث بك حدث . قال : وما يحدث علي يا رب؟ قال : ما لا تدري وهو الموت . قال : وما الموت؟
قال : سوف تذوق . قال : ومن أستخلف في أهلي؟
قال : أعرض ذلك على السموات والأرض والجبال ، فعرض على السموات فأبت ، وعرض على الأرض فأبت ، وعرض على الجبال فأبت ، وقبله ابنه قاتل أخيه ، فخرج آدم من أرض الهند حاجاً ، فما نزل منزلاً أكل فيه وشرب إلا صار عمراناً بعده ، وقرى حتى قدم مكة فاستقبلته الملائكة بالبطحاء .
فقالوا : السلام عليك يا آدم ، برّ حجك .
أما إنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبيت يومئذ ياقوتة حمراء جوفاء لها بابان ، من يطوف يرى من جوف البيت ، ومن في جوف البيت يرى من يطوف : فقضى آدم نسكه ، فأوحى الله إليه : يا آدم قضيت نسكك؟
قال : نعم ، يا رب قال : فسل حاجتك تعط .
قال : حاجتي أن تغفر لي ذنبي وذنب ولدي . قال : أما ذنبك يا آدم فقد غفرناه حين وقعت بذنبك ، وأما ذنب ولدك فمن عرفني وآمن بي وصدق رسلي وكتابي غفرنا له ذنبه)( ) .
لقد جعل الله عز وجل حج البيت الحرام عملاَ مباركاَ يلتقي فيه البشر مع الملائكة لإرادة تهذيب سلوك الناس.
وحينما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بفساد الإنسان وحدوث الحروب والإقتتال وسفك الدماء في الأرض , مما يتضاد مع عنوان وشرف الخلافة فأجابهم الله عز وجل [أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل انشاء البيت الحرام , وصيرورته محل طواف الأنبياء والصالحين , وفيه زجر عن فعل السيئات , قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
لتنمية ملكة الأخلاق الحميدة عند المسلمين , وجعلها نهجاَ متصلاَ طيلة أيام السنة , وقد نهى الله عز وجل عن الجدال في الحج قربة إلى الله تعالى , وتحلية وتخلية , تحلية للعبد في قوله وفعله , وتخلية من قول القبيح , وكذا من فعله بالنهي عن الفسوق , ليكون النهي عن الإرهاب طيلة أيام السنة من باب الأولوية .
ومن علم الله عز وجل حج آدم عليه السلام البيت الحرام وفيه دعوة منه لذريته للإنشغال بالحج وأداء الفرائض عن الظلم والإرهاب .
حج آدم توطئة لبعثة النبي محمد (ص)
هل كان حج آدم عليه السلام البيت توطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم .
وهو من الإعجاز من جهات :
الأولى : إتحاد سنخية النبوة .
الثانية : تهيئة أول نبي في الأرض مقدمات لآخر الأنبياء ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ]( ).
ولم تقل الآية أعلاه وآخر نبي إنما ذكرت النبيين لبيان الإتصال والتداخل في جهاد الأنبياء والشريعة والسنن التي جاءوا بها , وفي حديث اللبنة ورد (عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة) ( ).
الثالثة : بشارة آدم عليه السلام بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لقد فارق آدم عليه السلام الدنيا بعد أن صار عدد أولاده وأحفاده أربعين ألفاَ .
وبخصوص العلم ببشارة آدم عليه السلام هذه وجوه محتملة :
الأول : لا يعلم بشارة آدم عليه السلام ببعثة النبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا شيث بن أدم خليفته في النبوة .
و عن مجاهد : (ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين – ولدت له شيئا وتفسيره هبة الله أي خلفا من هابيل) ( ).
الثاني : يعلم البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولاد آدم الصلبيين دون الأحفاد وأبناء الأحفاد .
الثالث : يعلم البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم شطر وطائفة من أبناء وأحفاد آدم عليه السلام ، خاصة مع تفرقهم في الأرض بعد أن إزداد عددهم.
الرابع : يعلم بالبشارة كل ذرية آدم عليه السلام أيام حياته ، والمختار الوجه الأخير أعلاه لأصالة العموم , لأن هذه البشارة أمانة حرص آدم عليه السلام على إيصالها إلى ذريته لتنزيه الأرض من الشرك والظلم والإرهاب .
وأخرج ابن المنذر عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام (قال : لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه ، واشتد ندمه . فجاءه جبريل فقال : يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه؟ قال بلى يا جبريل قال : قم في مقامك الذي تناجي فيه ربّك فمجده وامدح ، فليس شيء أحب إلى الله من المدح .
قال : فأقول ماذا يا جبريل؟ قال : فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير .
ثم تبوء بخطيئتك فتقول : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي .
قال : ففعل آدم فقال الله : يا آدم من علمك هذا؟ فقال : يا رب إنك لما نفخت فيّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك .
قال : صدقت . وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك قال : فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم سرور ، لم ينصرف به عبد من عند ربه .
وكان لباس آدم النور قال الله [يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا]( )، ثياب النور قال : فجاءته الملائكة أفواجاً تهنئه يقولون : لتهنك توبة الله يا أبا محمد ( ).
وهل كان قابيل وهابيل اللذان قتل الأول الثاني منهما يعلمان بالبشارة الجواب نعم .
وتقيد واستعد لها هابيل , والعلم بالبشارة أعم من التقيد بها ونقلها إلى الأبناء والأحفاد , لذا حرص آدم عليه السلام على قيامه بهذه الرسالة بنفسه لأن فيها قوام التوحيد في الأرض , وفي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إكرام لآدم عليه السلام , إذ وردت الآيات بذكره وبيان أن الله عز وجل خلقه ونفخ فيه من روحه وأنه سكن الجنة , وجاءت السنة النبوية بتأكيد نبوة آدم عليه السلام وأنه نبي رسول .
لقد لحق قابيل الخزي إلى يوم القيامة بقتله أخيه الورع التقي ووثقت الكتب السماوية هذا الفعل لتكون فيه موعظة للمؤمنين من الملل المتعددة باجتناب الإرهاب وسفك الدماء .
هل أوصى آدم أولاده بالحج
هل أوصى آدم عليه السلام أولاده بحج البيت الحرام , الجواب نعم , وهو من وظائف النبوة , وفيه تعاهد لمنهاج السلم والأمن في الأرض .
من معاني قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، قيام آدم والأنبياء من بعده بحج البيت الحرام ، وحضّ أولادهم والمؤمنين على حجه وتعاهده وعمارته ، وتدل كثرة حج آدم البيت وأنها ثلاثمائة مرة على الوصية الفعلية على حجه والدعوة للإقتداء به إلى جانب الوصية القولية.
ويدل عليه قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، فيدخل آدم عليه السلام وأولاده ، وآدم نبي رسول ولابد أنه قان بتبليغ أولاده وأحفاده بوجوب حج البيت الحرام مع الإستطاعة وقيد الزاد والراحلة .
لتكون هذه الوصية تأسيساً للأمن واستدامة الأخوة الإيمانية وطرداً للإرهاب.
قال تعالى [وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
إذ كانوا أمة واحدة بإقامتهم على التوحيد والهدى وحج البيت ونبذ الظلم والإرهاب , ولم يخطر على بالهم مجئ أجيال من الناس يعبدون الأوثان , وتنصب بالبيت الحرام الذي حجه وطاف به آدم عليه السلام والأنبياء من بعده .
فبعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال عبادة الأوثان من الأرض إلى يوم القيامة .
وكل من هذا الإستئصال واستدامته ومصاحبته للحياة الدنيا معجزة قائمة بذاتها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص الأب مطلقاَ السعي في تأديب أبنائه , واصلاحهم وقد سعى آدم عليه السلام في المنع من الظلم والتعدي والإرهاب , ومن هذا السعي منهاج التقوى الذي يتصف به ، والذي تجلى في قول هابيل [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
و(عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت أسبوعاً ، وصلى حذاء البيت ركعتين ثم قال : اللهم أنت تعلم سري وعلانيتي فأقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما عندي فاغفر لي ذنوبي . أسألك إيماناً يباهي قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، ورضّني بقضائك .
فأوحى الله إليه : يا آدم إنك دعوتني بدعاء فاستجبت لك فيه ، ولن يدعوني به أحد من ذريتك إلا استجبت له ، وغفرت له ذنبه ، وفرجت همه وغمه ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأتته الدنيا راغمة وإن كان لا يريدها) ( ).
لقد جاهد آدم عليه السلام لمنع الإرهاب في الأرض وإن أصابه الضرر ونزلت الفاجعة بسبب الإرهاب وقتل أحد ولديه الآخر , وهو فرد نادر في تأريخ البشرية أن يقتل الأخ أخيه مع وجود أبيهما على قيد الحياة , قال تعالى [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) لبيان قانون وهو تعقب الندم للفعل الإرهابي والظلم وسفك الدماء , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) في احتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما تساءلوا عن خلافة الإنسان في الأرض مع ظهور الفساد بين الناس .
وروي عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان في مكة عندما قتل قابيل أخاه .
قال ابن عباس (أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه وملحت المياه واغبرت الأرض فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل وقيل : إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم فلما وصل إليه قال له : أين هابيل.
فقال : لا أدري كأنك وكلتني بحفظه فقال له آدم أفعلتها ، والله إنه لينادي اللهم العن أرضا شربت دم هابيل .
فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك حتى جاءه ملك فقال له : حياك الله يا آدم وبياك فقال : ما بياك ؟ قال : أضحكك) ( ).
(تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَنْ عليها … فوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌ قبيحٌ
تَغَيَّرَ كلُّ ذِي لَوْنٍ … وقَلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحْ
قال فأجيب آدم :
أبا هابيل قد قُتِلا جَمِيعاً … وصارَ الحَيُّ كالمَيِّتِ الذَّبِيحْ
وجَاءَ بِشَرِّ ما قَدْ كانَ منه … على خَوْفٍ فَجَاءَ بها تَصِيحْ) ( ).
وهل كان قابيل حينما قتل هابيل كافراَ أم فاسقاَ , المختار هو الثاني .
لبيان أن هذا القتل لم يمنع من وصية آدم لأولاده بالحج بل يدل على الحاجة إلى الوصية بالصلاة والحج والصيام والزكاة، لأن التقوى زاجر عن الفساد والفسوق وسفك الدماء ، وفي الصيام وتقدم زمانه وحكم وجوبه على أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ولم يقل آدم عليه السلام الشِعر وكذا سائر الأنبياء لبيان استقلال الوحي والتنزيل على ألسنتهم , ولكن آدم عليه السلام اشتد حزنه على هابيل ورثاه بكلمات باللغة السريانية وتوارثته الأجيال إلى أيام يعرب بن قحطان فترجم إلى العربية بصيغة الشعر .
قال ابن جريج (لم يزل بنو آدم فى نكاح الأخوات حتى مضي أربعة آباء ، فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات)( ).
وهو بعيد ولم يرفع الحديث ولا أصل له كتاباً وسنةً.
وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز تابعي (60-150) هجرية مولى أمية بن خالد الأموي ، ولد في مكة ، قال الذهبي : فيها أي سنة (150) (توفي إمام الحجاز أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي ثم المكي مولى بني أمية، عن أكثر من تسعين سنة. أخذ عن عطاء وطبقته)( ).
لقد أسس آدم عليه السلام بالقول والفعل لقانون حرمة الإرهاب والإقتتال ، ولزوم إجتناب الناس له باختياره وتعاهده لإقامة الصلاة والصيام وقطع المسافات الطويلة لحج بيت الله الحرام ليكون عملاً عبادياً ، وواقية من الظلم والتعدي والتعصب والتطرف.
وفي الثناء على النبي محمد ولزوم اقتداء المسلمين بسيرته ، قال الله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ومن البديهيات التضاد بين الخلق الحسن وبين الإرهاب ، لذا فالآية أعلاه دعوة يومية متجددة لكل مسلم ومسلمة وللناس جميعاً بالتنزه عن الإرهاب ومقدماته أو الإعانة عليه ، ويأتي حج البيت الحرام كل عام شاهداً على التضاد بينه وبين الإرهاب.
لأن الحج عبادة خالصة لوجه الله عز وجل ليس فيها إلا الذكر والتلبية والزهد الذي يتجلى في لباس الإحرام والذي لايستثنى منه أحد غنياً أو فقيراً ، ملكاً أو رئيساً أو مرؤوساً.
ومن الآيات رضاهم جميعاً بهذا اللباس لما فيه من الخشوع والخضوع لله عز وجل ، والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الناس من يحرص على غطاء الرأس بحسب العرف والتقليد في بلدته أو ما يناسب شأنه ومنزلته ، ويمتنع عن خلعه في أي حال ، ولكنه في الإحرام يخلعه طائعاً مستبشراً بفضل الله بالتوفيق لأداء مناسك الحج التي يتعارض معها الإرهاب ، وهي تزجر عنه.
وتبين منافاته للفرائض العبادية من أيام آدم والى اليوم وفي الغد القريب والبعيد ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ) وتبين الأوامر الثلاثة والنواهي الثلاثة في الآية أعلاه على قبح الإرهاب .
وما يتنافى مع العبادات والمناسك لايستديم لعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
من منافع الإيمان بالمعاد
ترى هل من نفع حاضر للعبد بإيمانه بالمعاد ، الجواب نعم فهو سبب للهداية والصلاح وزاجر عن الفساد والفسوق .
ولم يأت المعاد للإنسان دفعة واحدة , إنما تتكرر الإنذارات اليومية للإنسان التي تذكره بالمعاد منها ابتلاء بمرض وموت قريب , وإنذارات الموت لذات الشخص , والحروب والكوارث , وساعة الإحتضار , التي هي رحمة من عند الله عز وجل لمن يشاء من عباده ليتدارك نفسه بالتوبة والإنابة .
ثم تقبض روحه وينتقل إلى عالم الخلود , عالم الحساب والجزاء من غير اذن بالعمل ولا رجوع إلى الدنيا أو غيرها من مثلها , ويبدأ عالم الآخرة بمراحله المرتبة وهي :
الأولى : عالم القبر .
الثانية : ضغطة القبر .
الثالثة : الحساب الإبتدائي من منكر ونكير .
الرابعة : طول المكث في القبر , والتباين في أحوال الموتى في القبور بلحاظ سنخية الأعمال .
وفي حديث طويل عن أبي سعيد يرفعه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ ( ) مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ) ( ).
(عن أيفع بن عبد الكلاعي قال : قال رسول الله صلى الله وآله عليه وسلم : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار قال لأهل الجنة { كم لبثتم في الأرض عدد سنين }( ) قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض يوم }( ) قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين ، ثم يقول : يا أهل النار { كم لبثتم في الأرض عدد سنين } قالوا { لبثنا يوماً أو بعض يوم } فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم . ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين) ( ).
وأيفع من عبد الكلاعي تابعي صغير( ) من أهل حمص , فهو لم يسمع من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يذكر اسم الصحابي الواسطة الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي حدثه بهذا الخبر ومع هذا فمضمون هذا الخبر متواتر عند المسلمين .
قانون الإيمان بالمعاد عصمة من الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الحجة على الإنسان ، بما يقربه إلى سبل الطاعة والهداية ، منها وجوب التوحبد وعبادة الله عز وجل ، والتسليم بالمعاد واليوم الآخر ، وهو من مصاديق إخبار الله عز وجل الملائكة عند خلق آدم وإرادة جعله [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
فعندما احتجت الملائكة على هذا الخلافة لفساد شطر من الناس ، ولإقدام بعضهم على القتل وجريان الدم على الأرض أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل وقوف الناس للحساب يوم القيامة ، حيث يلقي المفسد والقاتل عن عمد الجزاء والعذاب ، نعم من علم الله عزو جل في هذه الآية فتحه لباب التوبة والمغفرة ، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
وأخبر الله عز وجل آدم وحواء بالمعاد ولزوم التهئ والإستعداد له ، قال تعالى [قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
وهل المعاد يوم القيامة من الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، الجواب نعم ، ولم يختص تعليم آدم في الجنة باسم المعاد أو اليوم الآخر إنما علّمه الله عز وجل حتمية بعث الناس من القبور وأن المعاد جسماني ، ولابد من الجزاء إما إلى الجنة أو إلى النار ، وهل علّم الملائكة آدم عليه السلام بخصوص المعاد وأوصاف الجنة والنعم التي فيها دخول الذين آمنوا وعملوا الصالحات لها ، وشدة عذاب النار التي [أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ).
الجواب نعم ، سواء على القول بأن الجنة والنار مخلوقتان أم لم يخلقا بعد ، والمشهور والمختار أنهما مخلوقتان ، وقد تقدم الكلام فيه ، ومن الشواهد الآية أعلاه.
لقد أدرك الملائكة ببعث الناس للحساب ودخول شطر منهم النار مع شدة عذابها علو ورفعة منزلة الملائكة ، من جهات :
الأول : مسكن الملائكة في السماء .
الثاني : طول أعمار الملائكة .
الثالث : إنقطاع الملائكة إلى التسبيح والتهليل والذكر انقطاعاً تاماً .
الرابع : كثرة أعداد الملائكة .
لقد اثنى الله عز وجل على المؤمنين بقوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
فجعل الله عز وجل لهم أداء الصلوات الخمس وذكر الله في ساعات من النهار والليل ذكراً دائماً لله سبحانه بلطف ومضاعفة للأجر والثواب من عنده عز وجل ، بينما الملائكة دائبون في ذكر الله لايغفلون عنه طرفة عين ، وهم معصومون من المعصية ، وفي الثناء عليهم ، قال تعالى [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته ، ما منهم ملك تقطر دمعته من عينه إلا وقعت ملكا يسبح الله ، قال : وملائكة سجود منذ خلق الله السموات لم يرفعوا رءوسهم ، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وركوع لم يرفعوا رءوسهم ، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وصفوف لم ينصرفوا عن مصافهم ، ولا ينصرفون إلى يوم القيامة)( ).
ولم يكن المعاد ينحصر ببعث الأجساد من القبور ورجوع الناس جميعاً إلى الله ومواطن يوم القيامة المتعددة بل يشمل المعاد جنس الجن ، وتبدل الحال في السموات والأرض ، قال تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ]( ).
ليكون جمع أوصال كل انسان مئات مليارات البشر من غير خلط أو تداخل بينها آية لايقدر عليها إلا الله ، قال تعالى [كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ].
ومن خصائص الحياة الدنيا أنه ليس من إنسان إلا وقد بلغه نبأ الآخرة وأن الناس مبعوثون يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
لذا جاء كل نبي بانباء المعاد وبشارة المؤمنين بالجنة ، والوعيد للكافرين بالنار وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، والتذكير بالمعاد دعوة لتهذيب النفوس وإصلاح الأعمال ، والإمتناع عن الظلم والفسوق والفجور.
وليس من عمل إرهابي إلا ويحضر يوم القيامة بهيئته ونسخته الدقيقة ، قال تعالى [فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ]( )، فيعجز فاعله عن الإجابة ويدرك سوء فعله ، وما ألحقه بنفسه وغيره من الأضرار فهو أضر نفسه في الدنيا والآخرة.
أما الذين وقع عليهم الفعل الإرهابي فقد لحقهم الضرر الفادح في الدنيا ولكن الآخرة دار القصاص وانتزاع الحسنات من الظالم.
وقد جاء القرآن والسنة النبوية بالبيان والتفصيل بما يجعل المسلم في حيطة واحتراز من الإرهاب والذي لا يجلب إلا الحسرة والندامة من ساعة وقوعه وتشتد الحسرة يوم القيامة [وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة يحاربون الإرهاب ، ويمنعون منه وقد ذكرت في الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين أن المسلم لايكون إرهابياً ، ولا يخيف ويرعب الآخر ، وقال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( )، أي عن عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم .
ومن معاني (قفوهم) احبسوهم عن السير في بعض مواطن الآخرة المتعددة للسؤال والحساب.
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به لا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلاً . ثم قرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ( ).
وقال تعالى [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
نظرية الصرفة
لا يختص إعجاز القرآن بمضامين آياته وبلاغتها وذخائرها , بل يشمل الموضوع والأحكام , واستجابة الناس لما فيه من الأوامر والنواهي , ويناقش في باب إعجاز القرآن موضوع (الصرفة) : وهي لغة صرف إنسان عن وجه يقصده ويطلبه إلى غيره , قال تعالى [ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
أما في الإصطلاح فيعني صرف همة العرب عن الإتيان بما يعارض القرآن وإن كانت هذه المعارضة أمراَ ممكناَ , وفي مقدورهم , وهم أهل وسادة اللغة .
وأول من قال به إبراهيم بن سيّار النظام ت 221 , وهو من رؤساء المعتزلة في البصرة , ولا أصل لهذا القول موضوعاَ وحكماَ ودلالة .
وقد قال به البراهمة في كتابهم (الفيدا) ومعناه (القصة المقدسة) ويقع في 800 مجلد تم تأليفه في ألف سنة , وقيل ثلاثة آلاف سنة .
ومنها شعر وضع نحو سنة 1200 ق.م .
ويتضمن الحديث عن نشأة الآلهة وأساطيرها وعالم الأكوان , وتقسيم الهنود إلى طبقات أربعة , أعلاها البراهمة الذين خلقوا من رأس الإله كريشنا .
وذكر أنهم جاءوا إلى الهند من أواسط أوربا ، وهم طبقة الكهنة والقساوسة .
واختلف القائلون بنظرية الصرفة في القرآن على وجوه :
الأول : صرف الله عز وجل العرب قهراَ وجبراَ عن الإتيان بمثل القرآن , ونسب إلى النظّام أن العرب لو توجهوا لمعارضة القرآن والإتيان بمثله لاستطاعوا , وهذا القول ونسبته تحتاج إلى دليل واثبات لأنه خلاف العقل وسنن الإيمان .
الثاني : سلب الله عز وجل عن العرب العلوم التي يحتاجون للإتيان بمعارضة القرآن , ولو توجهوا لمعارضته لعجزوا ولم يستطيعوا , وبه قال (السيد المرتضى).
الثالث :الصرفة لطف من عند الله عز وجل , وتدبير منه سبحانه يحفظ القرآن من العبث والتحريف والإضافة , ولهذا المعنى ذهب الجاحظ (159-255) هجرية , وهو معتزلي , وتلميذ إبراهيم بن سيّار البلخي المعروف بالنظّام الذي تقدم اسمه.
وسمّي الجاحظ لأن عينيه جاحظتان , وهو دميم الوجه , لا يسر الناظر , حدث عن نفسه أنه بعث إليه المتوكل لتأديب ولده , قال الجاحظ (فلما نظر إليّ استبشع منظري، وأمر لي بعشرة آلاف درهم ، وصرفني فخرجت)( ).
وكان مع كبر سنه يقف يتطاول لأخذ أحد الكتب من رفوف مكتبته وهو متكئ على عكازته , فسقطت عليه الكتب والمجدات الضخمة من الرفوف فقتلته .
الرابع : إنصراف القوم عن معارضة القرآن لعلمهم بالعجز عنها وأنها أمر متعذر .
ولا تصل النوبة إلى الصرفة في المقام لأن إعجاز القرآن ذاتي وغيري ، ومن إعجازه تسليم الناس بالعجز عن الإتيان بمثله ، ولو حاولوا لتجلى البون والفرق واضحاً , قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ) فلا أصل لنظرية الصرفة .
فكلام الله عز وجل فوق كلام البشر بمراتب غير متناهية , في منطوقه ومفهومه , ودلالته , والعلوم المستقرأة منه .
وهل تدل الآية أعلاه على إمكان تسخير الإنسان للجن مع التحذير من هذا التسخير ,المختار نعم.
وكما إنصرف وينصرف الناس عن معارضة القرآن لإقرارهم بالعجز عنها , فإن القرآن يدعو المسلم للإنصراف عن الإرهاب والإبتعاد عنه .
قانون تسمية الصلح فتحاَ
لا يقدر على هذه التسمية إلا الله عز وجل , فمن خصائص الصلح تقديم الطرفين لتنازلات , ورضاهم بعدم تحقيق الغايات , وقد تقدم قانون تسمية الصلح فتحاَ محاصرة للإرهاب( ) والمراد صلح الحديبية , قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) .
وعن (قتادة ، عن أنس ، قال : لمّا رجعنا من غزوة الحديبية ، قد حيل بيننا وبين نسكنا ، فنحن بين الحزن والكآبة ، فأنزل الله تعالى عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}( ) الآية كلّها) ( ) .
ومن خصائص الصلح وجود ممانعة له من بعض أطراف النزاع أو عدم رضاهم عليه لإدراكهم التفريط بالشروط أو التساهل والتسامح فيها , وهو الذي صدر من بعض الصحابة عند صلح الحديبية , ليكون من إعجاز القرآن نزول الآية أعلاه ، ومن منافعها وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في الدين , ومعرفة قانون [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
الثاني : تأكيد قانون لم يغزُ النبي “ص” أحداَ ( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزدياد قوة ومنعة المسلمين مع تقادم الأيام , ففي السنة الثالثة للهجرة هم أقوى وأظهر من السنة الثانية , ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، إذ وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.
وهم في السنة الرابعة مثلاَ أقوى وأعز منه في السنة الثالثة لوجوه:
الأول : ثبات دولة الإيمان والتوحيد بعد معركة أحد .
الثاني : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في معركة أحد ونجاته من محاولات الإغتيال ، ومنها ما وقع بعد معركة بدر.
كما في إتفاق عمير بن وهب مع صفوان بن أمية على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة بدر .
وكان عمير من شياطين قريش ، ويكثر من إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة قبل الهجرة ، ووقع ابنه وهب بن عمير في الأسر يوم بدر.
وقدم عمير بن وهب المدينة وأناخ براحلته على باب المسجد النبوية ودخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوشحاً بسيفه ، وأراد عمر أخذ سيفه فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة.
وقال له (اُدْنُ يَا عُمَيْرُ ، فَدَنَا ثُمّ قَالَ انْعَمُوا صَبَاحًا ، وَكَانَتْ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ بَيْنَهُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَكْرَمَنَا اللّهُ بِتَحِيّةِ خَيْرٍ مِنْ تَحِيّتِك يَا عُمَيْرُ بِالسّلَامِ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ.
فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ يَا مُحَمّدُ إنْ كُنْتُ بِهَا لَحَدِيثُ عَهْدٍ قَالَ فَمَا جَاءَ بِك يَا عُمَيْرُ.
قَالَ جِئْت لِهَذَا الْأَسِيرِ الّذِي فِي أَيْدِيكُمْ فَأَحْسِنُوا فِيهِ .
قَالَ فَمَا بَالُ السّيْفِ فِي عُنُقِك ؟ قَالَ قَبّحَهَا اللّهُ مِنْ سُيُوفٍ وَهَلْ أَغْنَتْ عَنّا شَيْئًا.
قَالَ اُصْدُقْنِي ، مَا الّذِي جِئْتَ لَهُ ؟ قَالَ مَا جِئْتُ إلّا لِذَلِك ، قَالَ بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ قُلْت : لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتّى أَقْتُلَ مُحَمّدًا.
فَتَحَمّلَ لَك صَفْوَانُ بِدَيْنِك وَعِيَالِك ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ وَاَللّهُ حَائِلٌ بَيْنَك وَبَيْنَ ذَلِكَ.
قَالَ عُمَيْرٌ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ قَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللّهِ نُكَذّبُك بِمَا كُنْت تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْك مِنْ الْوَحْيِ.
وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إلّا أَنَا وَصَفْوَانُ فَوَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ مَا أَتَاك بِهِ إلّا اللّهُ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ ثُمّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ . وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ فَفَعَلُوا)( ).
الثالث : توالي دخول الناس الإسلام مهاجرين وأنصاراً ، أي منهم القادمون إلى المدينة ، ومنهم من أهل المدينة حتى ساد الإسلام عند أهلها ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى]( )، الجواب نعم.
الرابع : توالي الضعف والوهن عند كفار قريش ، لبيان قانون وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، هو إزدياد المسلمين قوة ومنعة بدخول الرجال الإسلام ، وزيادة إيمان المسلمين.
الخامس : تفقه المسلمين في الدين ، وعلوم القرآن ، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية .
السادس : نزول آيات القرآن التي تبعث المسلمين على التوكل على الله ، وتبشرهم بالنصر والفتح والثواب العظيم في الآخرة .
السابع : موضوعية السنة النبوية في تقوية المسلمين .
الثامن : نماء الأخوة بين المسلمين ، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بعد قدومه المدينة ببضعة شهور ، وقال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
والمسلمون في السنة السادسة سنة صلح الحديبية أقوى منها في السنة الخامسة سنة معركة الخندق , ومن هذا المعنى والدلالة توافد الناس على المدينة لدخول الإسلام , وظهور الإسلام وتضاؤل الكفر بين أهلها .
وكل فرد يدخل الإسلام هو نقص في جهة الكفار وثلمة في كيانهم , وهل هو من مصاديق قوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
الجواب نعم , خاصة إذا كان الذي يدخل الإسلام من الذوات والوجهاء والرؤساء مع علمه بأن الإسلام يساوي بينه وبين عبده في الحقوق والواجبات , ليكون إسلام هؤلاء الوجهاء طواعية ، ورضاهم بهذا الحال من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لبيان لزوم بيان آلاف المعجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستقراء والإستنباط , والغوص في علوم التنزيل والسنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية والتدوينية والدفاعية , إذ كانت المعجزات تتوالى وكل آية قرآنية معجزة متعددة , وتترشح عنها المعجزات إلى جانب المعجزات الكثيرة في السنة النبوية منها نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية عندما عطش الصحابة .
و عن(حصين، عن سالم، عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مالكم ؟
قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك.
فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر: كم كنتم يومئذ ؟
قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة)( ).
ولم يكن صلح الحديبية أمراَ سهلاَ أو قريب المنال , فعندما سمعت قريش بتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة لأداء العمرة استعدوا للقتال حمية وعصبية وهم يعلمون أنهم في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة .
وكادت خيلهم تهجم على معسكر المسلمين الذي هو معسكر سلام ليس فيه سلاح سوى سلاح (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك).
و(عن عطاء قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتمراً في ذي القعدة معه المهاجرون والأنصار حتى أتى الحديبية ، فخرجت إليه قريش ، فردوه عن البيت حتى كان بينهم كلام وتنازع حتى كاد يكون بينهم قتال ، فبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وعدتهم ألف وخمسمائة تحت الشجرة ، وذلك يوم بيعة الرضوان.
فقاضاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالت قريش : نقاضيك على أن تنحر الهدي مكانه وتحلق وترجع ، حتى إذا كان العام المقبل نخلي لك مكة ثلاثة أيام ، ففعل.
فخرجوا إلى عكاظ فأقاموا فيها ثلاثة أيام واشترطوا عليه أن لا يدخلها بسلاح إلا بالسيف ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة إن خرج معه ، فنحر الهدي مكانه وحلق.
ورجع حتى إذا كان في قابل من تلك الأيام دخل مكة ، وجاء بالبدن معه ، وجاء الناس معه ، فدخل المسجد الحرام فأنزل الله عليه [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ]( )، وأنزل عليه الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ( ).
وسيأتي قانون معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية ضد للإرهاب سواء تلك التي تخص التنزيل أو السنة النبوية القولية والفعلية .
وورد في صحيحة ابن أبي عمير عن ابن سنان عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أن سبب نزول سورة الفتح هو صلح الحديبية ، إذ قال (ان سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم أن الله عزوجل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين .
فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج، فخرجوا، فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة وساقوا البدن، وساق رسول الله صلى الله عليه وآله ستة وستين بدنة وأشعرها عند إحرامه، وأحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة .
وقد ساق من ساق منهم الهدي معرات( ) مجللات( )، فلما بلغ قريش ذلك بعثوا خالد ابن الوليد في مائتي فارس كمينا ليستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله فكان يعارضه على الجبال .
فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن بلال وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس .
فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم في الصلاة لاصبناهم، فإنهم لا يقطعون صلاتهم، ولكن يجيئ لهم الآن صلاة اخرى أحب إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله بصلاة الخوف في قوله تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ] الآية( ).
لما كان في اليوم الثاني نزل رسول الله صلى الله عليه وآله الحديبية وهي على طرف الحرم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يستنفر الاعراب في طريقه معه، فلم يتبعه منهم أحد .
ويقولون: أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، إنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبدا .
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله الحديبية خرجت قريش يحلفون باللات والعزى لا يدعون محمدا يدخل مكة وفيهم عين تطرف .
فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله أني لم آت لحرب وإنما جئت لاقضي نسكي، وأنحر بدني، واخلي بينكم وبين لحماتها: فبعثوا عروة ابن مسعود الثقفي وكان عاقلا لبيبا وهو الذي أنزل الله فيه [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( ).
فلما أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله عظم ذلك .
وقال: يا محمد تركت قومك وقد ضربوا الابنية، وأخرجوا العوذ المطافيل( )، يحلفون باللات والعزى لا يدعوك تدخل حرمهم وفيهم عين تطرف، أفتريد أن تبير أهلك وقومك يا محمد .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما جئت لحرب وإنما جئت لاقضي نسكي فأنحر بدني واخلي بينكم وبين لحماتها، فقال عروة: بالله ما رأيت كاليوم أحدا صد عما صددت ، فرجع إلى قريش وأخبرهم .
فقالت قريش : والله لئن دخل محمد مكة وتسامعت به العرب لنذلن ولتجترئن علينا العرب، فبعثوا حفص بن الاحنف وسهيل بن عمرو .
فلما نظر إليهما رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ويح قريش قد نهكتهم الحرب، ألا خلوا بيني وبين العرب ؟ فإن أك صادقا فإنما أجر الملك إليهم مع النبوة، وإن أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب( )، لا يسأل اليوم امرأ من قريش خطة ليس لله فيها سخط إلا أجبتهم إليه.
قال : فوافوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: يا محمد إلى أن ننظر إلى ماذا يصير أمرك وامر العرب على أن ترجع من عامك هذا ، فإن العرب قد تسامعت بمسيرك فإن دخلت بلادنا وحرمنا استذلتنا العرب واجترأت علينا ونخلي لك البيت في القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنا .
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ذلك .
وقالوا له : وترد إلينا كل من جاءك من رجالنا، ونرد إليك كل من جاءنا من رجالك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه، ولكن على أن المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الاسلام ولا يُكرهون ولا ينكر عليهم شئ يفعلونه من شرائع الاسلام.
فقبلوا ذلك، فلما أجابهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الصلح أنكر عليه عامة أصحابه)( ).
ويدل الشرط النبوي الأخير أعلاه على أمور :
الأول : عناية واهتمام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصحابة الذين في مكة رجالاً ونساءً.
الثاني : شيوع أذى قريش للمسلمين في مكة ، وهذا الأذى من الإرهاب .
الثالث : إعطاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولوية للمسلمين في مكة ، وهل من مصاديق دعاء إبراهيم كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( )، الجواب نعم .
الرابع : تعدد شروط النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص سلامة مسلمي مكة في أنفسهم ودينهم ، إذ تضمن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه ثلاثة شروط ببضع كلمات.
الخامس : هذه الشروط دعوة لأهل مكة لدخول الإسلام ، ومقدمة لفتحها ، وحمل رؤساء قريش على قبول هذه الشروط معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن القوانين التي جعل الله عز وجل الحياة الدنيا تتصف بها عدم استدامة الإرهاب ، فلابد أن يزول بماهيته وسنخيته ، وأفراده ، ليبقى التأريخ يبين أضراره وعدم الإنتفاع منه ، قال تعالى [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا]( ).
دفاع النبي وأصحابه مقدمة لصلح الحديبية
من الإعجاز مجئ قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، ثلاث مرات بخصوص معركة بدر ومعركة أحد.
ولم يرد بخصوص معركة الخندق أو ما بعدها ، فلم يكن يوم صلح الحديبية جمع قتالي كبير للمشركين ، بينما تضاعف جمع أهل الإيمان ، لذا ورد قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ]( )، بخصوص معركة بدر ، وبصيغة الماضي (اختصموا) ولم تقل (يختصمون) لقتل المشركين الثلاثة الذين أصروا على المبارزة يومئذ وهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة.
ومن أسرار الآية أعلاه تعقب صيغة الجمع للمثنى في ذات الآية لبيان موضوع القتال ، وهو التضاد بين الإيمان والكفر معسكر ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يقاتلوا طلباً لدنيا ونحوه ، وأن المشركين كانوا في ضلال ، وأن معارك أخرى ستقع فلابد من أخذ المسلمين الحائطة ، وهو لا يتعارض مع القول بأن الاثنين أقل الجمع.
و(عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذرّ يقسم بالله قسماً : لنزلت هذه الآية في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ] ( )، إلى آخر الآية [إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]( ) إلى آخر الآية)( ).
و(عن جابر، عن عكرمة في [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ]( )، قال : هما الجنة والنار اختصمتا ، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقد قصّ الله عليك من خبرهما ما تسمع) ( ).
وهذا المعنى بعيد لغة وعقلاً ولا ينهض لمعارضة المشهور وأخبار الصحابة بنزولها بيوم بدر ، وورد اسم الإشارة بصيغة المذكر ، وكذا لفظ (خصمان).
وإذا كانت الحسرة تتغشى الذين كفروا لانفاقهم أموالهم هباء بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان زهوق أرواح رؤسائهم مثل عتبة بن ربيعة وأخيه وابنه ، وقتلهم سبب لحسرة وندامة وألم عند الكفار ، قال تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
خصائص صلح الحديبية دفع للإرهاب
ومن خصائص تسمية صلح الحديبية فتحاً تحقق النصر فيه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير قتال .
وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بأن شطراً من الناس يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى بخصوص صلح الحديبية وجوه :
الأول : تحقق السلم والأمن في الجزيرة بعد الصلح .
الثاني : عجز المشركين عن مواصلة القتال وغزو المدينة
الثالث : ركوب الديون الكبيرة مشركي قريش لتجار الشام وغيرهم ، خاصة وأنهم كانوا يقترضون بالربا .
الرابع : اختلاط المشركين بالمسلمين وسماعهم منهم ، ونفاذ الإسلام إلى قلوبهم .
الخامس : بيعة الرضوان .
السادس : ظهور الروم على الفرس ، وفرح المسلمين بظهور أهل الكتاب ، قال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ] ( ) من غير خوف من قريش وكبار المشركين. السابع : صلح الحديبية بداية لدخول الأفراد والجماعات والقبائل الإسلام . الثامن : الدلالة على أن الإسلام دين السلم والصلح والموادعة . التاسع : صلح الحديبية شاهد على صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتنزههم عن مقابلة الإرهاب بمثله. العاشر : تلاوة القرآن في مكة جهراً وعلانية بعد اضطهاد قريش للمسلمين. الحادي عشر : الدلالة على أن الإسلام دين السلم الصلح والموادعة ، وهل يدل صلح الحديبية على قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة( ) ، الجواب نعم . الثاني عشر : بعد شدة قتال المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزوهم المدينة في معركة أحد ، والخندق إلى جانب هجوم كرز وأصحابه ثم أبي سفيان وأصحابه ، وغيرهم على أطراف المدينة رضوا بالصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حال سلم وموادعة ولباس إحرام . وهل هو من بركات البيت الحرام ، وأن الصلح لم يتم إلا في أطراف الحرم ، الجواب نعم ، وهو من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ). الثالث عشر : يتجلى في صلح الحديبية قانون من جهات : الأولى : قانون التنافي بين الصلح والإرهاب . الثانية : قانون السعة والمندوحة لتحقيق الصلح . الثالثة : قانون الصلح حرز من الإرهاب . الرابعة : قانون النفع العام بالصلح وإنعدامه بالإرهاب. الخامسة : سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلح مع المشركين تأديب للمسلمين لإختيار الصلح فيما بينهم ، ومع أهل الكتاب ، وعامة الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ). معجزة تسمية الصلح فتحاَ باعث للسكينة الحمد لله الذي جعل القرآن مدرسة الأجيال , ولا تنفد علومه ومادة التأديب والإصلاح في سواء التي فيه ، منطوق وثنايا آياته , أو في مفهومها ودلالاتها , والصلة بين أول وآخر الآية( ) أو الصلة بين آيتين من آياته واستقراء المسائل منها أو الجمع بين آيتين من القرآن( ). وتميل النفوس إلى الفتح واسمه , وفيه عز ونفع , فرزقه الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين بمعجزة من جهات : الأولى : مقدمات الفتح بزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من دون سلاح نحو مكة حيث أعدائهم المشركين . الثانية : ماهية الفتح , لوقوعه بالصلح ، فليس من هجوم أو غزو أو قتال في هذا الفتح , وهو زاجر عن الإرهاب إلى يوم القيامة , لما يدل عليه من تحقيق الغايات العظيمة بالسلم والصلح مع أشد الناس على الإسلام والنبوة والتنزيل وهم كفار قريش . الثالثة : نزول آيات قرآنية بصلح الحديبية , قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ). الرابعة : صيرورة صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام , بل لم يرد في غيره من المعارك ونحوها أنها فتح لبيان أن الصلح والصبر والموادعة طريق الفلاح والنجاح . ومن الغايات الحميدة لتسمية صلح الحديبية فتحاً مسائل : الأولى : بيان قانون الإسلام دين الأمن والسلام . الثانية : تنمية حب الصلح بين الناس عند الخصومة والشقاق . الثالثة : جواز الصلح حتى مع المشركين . الرابعة : صلح الحديبية من الجزاء والشكر من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال سبحانه [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ). وتدل الآية أعلاه على أن صلح الحديبية مفتاح لتحقق غايات ومقاصد سامية كثيرة ، فالله عز وجل هو الذي فتح لرسوله ، وإذا أعطى الله سبحانه فانه يعطي بالأتم والأوفى . الخامسة : وقف دق طبول الحرب ، وأخبار زحف مشركي قريش على المدينة ، وتهديدهم ووعيدهم بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقتل شطر من المهاجرين والأنصار ، وأسر الشطر الآخر . السادسة : إمتلاء قلوب المشركين بالحنق عند صلح الحديبية لما فيه من كسر شوكتهم ، من وجوه : الأول : إضطرار قريش للصلح . الثاني : الإذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لدخول مكة في العام التالي ، وهي التي تسمى عمرة القضاء . الثالث : إخلاء قريش مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مدة ثلاثة أيام في عمرة القضاء . الرابع : عدم ممانعة قريش دخول الناس الإسلام . الخامس : صيرورة مسلمي مكة رجالاً ونساءاً يجاهرون باسلامهم وعجز كفار قريش عن الإساءة إليهم ، ليكونوا نواة ومقدمة لدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً بعد صلح الحديبية بأقل من سنتين . السادس : صيرورة الهجرة إلى المدينة علنية من غير أذى من المشركين . السابع : إزدياد قوة ومنعة الإسلام ، وزيادة إيمان المسلمين . الثامن : إصابة المنافقين باليأس والقنوط بعد أن بثوا الخوف والريب في المدينة ، قال تعالى[إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ). السابعة : حينما عاد المشركون من معركة أحد أظهروا وهم في الطريق الندامة لعدم قتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم سبي المسلمات مع أنهم كسبوا جولة في المعركة ، وجاء صلح الحديبية لييأسوا وإلى الأبد من قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ، ومن سبي المسلمات. الثامنة : صلح الحديبية دعوة للسلم المجتمعي ، ونبذ للحروب والقتال ، وهو ضد للإرهاب ، وزاجر عنه . التاسعة : ترغيب المسلمين بالصلح ، وإخبارهم بفتح الصلح لأبواب من الخير والسعادة . (وروى الحاكم عن حنظلة بن قيس أن عبد الله بن عامر بن كريز أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل عليه وعوذه فجعل يتسرع ريق النبي صلى الله عليه وسلم فقال (انه ليشفى) وكان لا يعالج أرضا الا ظهر له فيها الماء)( ). وعن (عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أبو أسيد وأبو حميد وأبي سهل بن سعد يقولون أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بئر بضاعة فتوضأ في الدلو ورده في البئر ومج في الدلو مرة أخرى وبصق فيها وشرب من مائها وكان إذا مرض المريض في عهده يقول إغسلوه من ماء بضاعة فيغسل فكأنما حل من عقال)( ). العاشرة : صلح الحديبية مناسبة لإقامة المسلمين الشعائر ، وأدائهم الفرائض العبادية من غير خوف من المشركين وهجماتهم وتعديهم ، وسعيهم في سفك الدماء ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ). من معجزات النبي صلح الحديبية وقد تكون المعجزة الواحدة متعددة في موضوعها , وذات نفع عام وفضح للمنافقين , واسقاط لما في أيدي المشركين . وتتعدد معجزات الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية وفيها دعوة لتعاهد نعمة الإيمان ، والشكر لله عز وجل على فضله على النبي والمسلمين ،ومن مصاديق الشكر التنزه عن الإرهاب ، والإمتناع عن إيذاء الناس أو إخافتهم ، ومن مصاديق الشكر في المقام إزدراء الإرهاب مثل : الأولى : تسبيح الحصى بين يديه . الثانية : شفاء المرضى بواسطة ريقه الثالثة : سلام الحجر عليه. الرابعة : تكثير الطعام بين يديه. الخامسة : كلامه مع بعض الحيوانات . السادسة : حديث الإسراء . السابعة : حنين الجذع له ، والذي كان يخطب عليه عندما صنع له منبر. وهل صلح الحديبية من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، فهو معجزة جلية وظاهرة وعامة المنافع المترشحة عنها آنية عاجلة وآجلة ، ومتجددة إلى يوم القيامة ، وهو تأسيس لأنظمة السلم المجتمعي في الأرض ،ودعوة للمؤسسات والمنظمات والأفراد بنبذ العنف والإرهاب ، وبالرجوع إلى الصلح والموادعة ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ). ووردت الآية أعلاه بصيغة الإطلاق في طرفي الصلح والخير ، وهو من الإعجاز في تقوم الحياة الدنيا بالصلح والموادعة والرأفة . وتحتمل معجزة صلح الحديبية وجوهاً : الأول : إنه معجزة حسية . الثاني : إنه معجزة عقلية بلحاظ صيرورة الصلح وما فيه من التنازل عن حق فتحاً عظيماً متصلاً في نفعه إلى يوم القيامة . الثالث : المعنى الجامع ، فصلح الحديبية معجزة حسية وعقلية . والمختار هو الأخير. ومن خصائص معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية أو الحسية أمور : الأول : عدم إنحصار موضوع المعجزة . الثاني : تعدد المنافع من المعجزة . الثالث : النفع العام من المعجزة . الرابع : تجدد النفع من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الخامس : دخول رهط من الناس في الإسلام مع كل معجزة . السادس : قانون المعجزة النبوية سلام وأمن . السابع : دعوة المسلمين والمسلمات إلى التفكر في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذها نبراساَ وحرزاَ من الإرهاب والتعدي . لقد كان في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلح الحديبية ومقدماته , ووقوع الصلح ونبوته , ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزات متعددة تفيد الصلاح والإصلاح وفضح النفاق منها ما ورد عن أبي قتادة في جريان ماء البئر قليلة لتكفي الصحابة كلهم . قانون لا يقدر على تسمية الصلح فتحاً إلا الله من إعجاز القرآن تضمنه لأسماء لم تطرأ على الأوهام ، وبيان منافعها واستدامة موضوعها ، وبقائها كنوزاً علمية تقتبس منها القوانين والمسائل وما يتعلق بالمسميات في القرآن أكثر من الأسماء في الذخائر والعلوم منها تفضل الله عز وجل بتسمية الصلح فتحاً ونصراً ، وهذه التسمية لطرف واحد من طرفي الصلح ، إذ قال تعالى بخصوص صلح الحديبية [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ). لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً وأصحابه في معركة بدر ، وقال سبحانه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، حيث سلّت السيوف وسقط القتلى من الطرفين ، وأيهما أكبر النصر أم الفتح في المقام ، المختار هو الثاني ، ومع هذا تم من غير إراقة دماء ، نعم هو نتيجة لصبر وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ضد الإرهاب والظلم وغزو قريش المتكرر للمدينة المنورة لإرادة الإبادة الجماعية للمسلمين. لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالفتح وقهر المشركين بالصلح ليشكروا الله عز وجل ببسط الأمن في الأرض ، وتحقيق مصداق الخليفة في الأرض ، ولم تقل الآية (انا فتحنا فتحاً) إنما قيدت الفتح بأنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ). وهل هو خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينقطع بوفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى ، الجواب لا ، وتقدير الآية على وجوه : الأول : إنا فتحنا لك أيام حياتك فتحاً. الثاني : إنا فتحنا لك بعد الصبر والدفاع فتحاً. الثالث : إنا فتحنا لك لاثبات صدق نبوتك. الرابع : إنا فتحنا لك ولأمتك فتحاً. الخامس : إنا فتحنا لأجيال أمتك فتحاً باقياً إلى يوم القيامة. ويكون تقدير الآية بخصوص عنوان هذا الجزء على وجوه : الأول : إنا فتحنا لك فتحاً لإستئصال الإرهاب . الثاني : إنا فتحنا لك فتحاً من غير إراقة الدماء . الثالث : إنا فتحنا لك فتحاً بالصلح ليتنزه المسلمون عن الإرهاب. الرابع : إنا فتحنا لك فتحاً ليتخذ المسلمون الصلح منهاجاً فيما بينهم ، ومع الناس كافة ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ). الخامس : إنا فتحنا لك فتحاَ بالصلح ليكون شاهداَ على صدق نبوتك . السادس : إنا فتحنا لك فتحاَ لمعجزات تتوالى بعده . السابع : إنا فتحنا لك فتحاَ يجعل المسلمين في غنى عن القتال والإرهاب . الثالث : إنا فتحنا لك فتحاَ فاعملوا لما بعده من سبل الصلاح والرشاد . ويبين قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) قانوناً وهو صلح الحديبية بداية وليس نهاية ، بداية للتبليغ العام بين الناس وتلقي دخول الناس الإسلام ، والسعي في تفقههم في الدين وسبل الصلاح والأخلاق الحميدة والسلم المجتمعي ، وتتضمن عقيدة الإسلام كلمة التوحيد وأصول الشريعة من التوحيد والنبوة والمعاد , وفروع الدين واتقانها وضبط قواعدها وأحكامها ، كالصلاة التي هي عمود الدين ، وتتضمن الأجزاء والأركان ، وترتيب أفعالها والتلاوة الواجبة . وهي حرب على الإرهاب ومانع منه لأنها انقطاع إلى الله وباعث للخشية منه , قال تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ]( ) . وتلقي الذين دخلوا الإسلام بعد صلح الحديبية الفرائض العبادية دفعة واحدة . لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وخفف عنه وعن الصحابة بأن منحهم الفتح بلطفه وإحسانه ، ومن غير قتال وغزو وفتح مدينة ، فتم صلح الحديبية في أرض جرداء على أطراف الحرم لتفتح المدن بالتوالي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . لذا جاءت كلمة [فَتْحًا] بصيغة التنكير [فَتْحًا] والنكرة في سياق الإثبات تفيد العموم ، وقيل لا تفيد النكرة هنا العموم إلا مع القرينة كما في قوله تعالى [عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ] ( ) فانها تفيد العموم بدليل قوله تعالى [هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ..] ( ) . ومن معاني مصاحبة الفتح لأيام الحياة الدنيا شكر المسلم لله عز وجل بالتقيد بسنن التقوى ، ومنها الإمتناع عن الظلم والإرهاب والإضرار العام بالناس . فمن خصائص الفعل الإرهابي أنه مع كونه محدوداَ يتعلق بشخص أو أشخاص معدودين يقع عليهم ضرر الإرهاب ، ومحدودية مكانه فان ضرره عام خاصة في زمن العولمة ، ووسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي ، والنفرة بالفطرة من الفعل الإرهابي. لتبقى تسمية الصلح فتحاً دعوة للمسلمين للصبر والرضا بفضل الله ، والعناية بالأخوة الإيمانية ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )واللطف مع الناس جميعاً والصبر على الأذى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ). قانون انحسار الإرهاب ببركة القرآن لقد جاء إبراهيم عليه السلام بزوجته هاجر وابنه إسماعيل ليقيما في مكة عند محل المسجد الحرام الذي كان شبه مهجور , وفي دعاء إبراهيم عليه السلام ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ) . لتؤكد هذه الآية أن البيت الحرام موجود قبل إبراهيم عليه السلام وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) . وتدل عليه النصوص المتعددة وأن آدم عليه السلام هو أول من حج البيت الحرام وحجه على نحو متعدد . (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن آدم أتى هذا البيت ألف أتية ، لم يركب قط فيهن من الهند على رجليه ، من ذلك ثلثمائة حجة وسبعمائة عمرة ، وأول حجة حجها آدم وهو واقف بعرفات أتاه جبريل فقال : يا آدم برّ نسكك ، أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة) ( ) . وهل بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيوائهم ونصرتهم له استجابة من الله عز وجل لدعاء إبراهيم عليه السلام [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ) الجواب نعم , وهل كان إبراهيم عليه السلام يعلم بأن نصرة الأوس والخزرج تقع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأقرب نعم ، إذ كانت بدايات هذه النصرة بالبيت الحرام حيث بيعة العقبة الأولى والثانية . لقد اختص الله عز وجل بالأكثر والأغلب من علوم الغيب ، قال تعالى [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( )، كما قال للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما احتجوا على خلافة الإنسان في الأرض للفساد والقتل بغير حق , ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) . ويلاحظ عدم احتجاج الملائكة على منصب الخلافة أو الخليفة , إنما ذكروا خصوص المفسدين في الأرض لإرادة تنزيهها والأمن العام للناس , وإنعدام الإرهاب , فالملائكة لم يرضوا بالإرهاب واشتكوا إلى الله عز وجل منه قبل وقوعه , لتكون خاتمة الآية وعداَ من الله عز وجل لإنحسار الفساد في الأرض . والنسبة بين الفساد والإرهاب العموم والخصوص المطلق , فالفساد أعم , أما النسبة بين الإرهاب وسفك الدماء فهي العموم والخصوص المطلق , ولكن الإرهاب هو الأعم . لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على وفود القبائل لحج البيت الحرام في السنة الرابعة لبعثته وما بعدها لأمور : الأول : عرض نبوته على الناس . الثاني : الدعوة إلى التوحيد , ولم تنحصر هذه الدعوة بزيارته لوفود القبائل في مساكنها بل كان ينادي في أسواق عكاظ ومجنة وذي الحجاز : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا . أي أن مجيئكم إلى مكة بسبب التوحيد ومن أجل التوحيد , فيجتمع فيه الأمر الإلهي والسبب والعلة والموضوع والنتيجة . الثالث : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينتفع من مناسبة الأشهر الحرم أيام حج البيت , وامتناع قريش قهراَ وانطباقاَ عن إيذائه , فيأتي قبائل العرب قبيلة قبيلة وإلى جانب دعوته إلى التوحيد فأنه يقول لهم (يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ وَأَبُو لَهَب ٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ) ( ) . لبيان أن السيادة والأمن في النشأتين لا تكون بالإرهاب أو التعدي على الأملاك العامة والخاصة , وإخافة الناس الآمنين . وقد تقدم ذكر أسماء القبائل التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتيهم في منى ومنهم بني عامر بن صعصعة وفزارة وغسان , وكنده وكلب وعَذرة , فلم يستجيبوا له. وهل كان لإيذاء وتكذيب أبي لهب ورؤساء قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم موضوعية في صدود هذه القبائل عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . الجواب نعم , إذ كانوا يقولون أن أسرتك وعشيرتك أعلم بك وهو يكذبون ما تقوله , وتعلنه عن نبوتك , لذا نزلت سورة كاملة في ذم أبي لهب , قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، لتكون إنذاراً وتوبيخاً له وللذين على شاكلته في محاربة النبوة. وهل ذكر أبي لهب في القرآن بصيغة الذم لأنه أكثر الناس إيذاءَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , المختار أن ذمه لوجوه : الأول : أبو لهب من أكثر الناس إيذاءَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم . الثاني : صلة قربى أبي لهب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو عمه صنو أبيه. الثالث : اشتراك أبي لهب مع كفار قريش في حصارهم لبني هاشم , بينما دخل بنو هاشم مؤمنهم وكافرهم في شعب أبي طالب في الحصار وامتنعوا عن تسليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكفار قريش ليقتلوه . الرابع : منع إفتتان الناس بجحود أبي لهب بالنبوة ، وهو عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم . الخامس : رؤية أبي لهب آيات النبوة من حين ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأم أبي لهب لبنى بنت هاجر بن خزاعة , بينما أم عبد الله أبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن مخزوم , وهي أم كل من : الأول : عبد الله بن عبد المطلب أبو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثاني : أبو طالب بن عبد المطلب . الثالث : الزبير بن عبد المطلب . الرابع : البيضاء بنت عبد المطلب . الخامس : مرة بنت عبد المطلب . السادس : عاتكة بنت عبد المطلب . السابع : أروى بنت عبد المطلب . الثامن : أميمة بنت عبد المطلب . وليس من وأد عند بني هاشم. وأبو لهب الذي اشتهر بكنيته التي كناه بها أبوه لحسن وجهه , وقيل كني أبا لهب مقدمة لما يصير إليه من لهب نار جهنم , و(اصطرع أبو طالب وأبو لهب، فصرع أبو لهب أبا طالب، وجلس على صدره، فمد النبي صلى الله عليه وسلم بذؤابة أبي لهب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ غلام. فقال له أبو لهب: أنا عمك، وهو عمك، فلم أعنته علي. فقال: لأنه أحب إلي منك. فمن يومئذٍ عادى أبو لهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واختبأ له هذا الكلام في نفسه) ( ). ونزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) ليكون الإنذار من الشرك ، ومن الظلم ، ومن الإرهاب . لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في التصدي للإرهاب وبيان حرمته , ومن الإعجاز في محاربة القرآن والسنة للإرهاب . حتى إذا ما أظهر رأسه باغواء الشيطان وجنوده من الجن والإنس واغتر به بعض الأفراد والجماعات توجه إليهم القرآن والسنة من جديد للتوبة والإنابة , وهجران الإرهاب وبيان خلوه من المنفعة أو الفائدة للذات أو الغير أو الملة , وهو الذي يدل عليه الوجدان . لقد كان هناك تناسب عكسي بين نزول القرآن والإرهاب , فكلما نزلت آية قرآنية افتضح جانب من الإرهاب , وضاقت مساحته وتخلى عنه جماعة وطائفة من الناس , وهو من أسرار نزول القرآن نجوماَ , ومن بركات القرآن عجز كفار قريش عن تحقيق غاياتهم الخبيثة من الإرهاب والغزو والظلم ، وإشاعة المنكرات وسفك دماء الأبرياء والمستضعفين ، إذ نزل القرآن لحفظهم ومنع التعدي عليهم وإرهابهم . وهل كانت آيات القرآن حاضرة بين صفوف جيوش الكفار في معركة بدر وأحد والخندق لتنذرهم وتزجرهم , المختار نعم . وهو من أسرار هزيمة المشركين في معركة بدر , وعجز ثلاثة آلاف مشرك من تحقيق النصر في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة , وهو من مصاديق قانون إنحسار الإرهاب ببركة القرآن , كما كان القرآن حاضراَ بجلاء بين صفوف المسلمين يشيد بحضورهم ،ويحثهم على الذب عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وعن القرآن . فمن بركات القرآن دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة عن آياته وسوره التي نزلت في مكة , وآياته وسوره التي نزلت في المدينة , قال تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قانون إجتهاد النبي (ص) بالدعوة من أيام البعثة الأولى يجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة والتبليغ من جهات : الأولى : التبليغ العلني في موسم الحج من السنة الرابعة للبعثة النبوية وإلى حين الهجرة إلى المدينة في السنة الثالثة عشرة منها. الثانية : الدعوة اليومية لقريش ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ). الثالثة : دعوة أهل مكة والساكنين بجوار البيت الحرام ، قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ). الرابعة : اتخاذ النبي المسجد الحرام محلاً للدعوة . لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على أداء الصلاة في المسجد الحرام بمرآى ومسمع من قريش ، وفيه مسائل : الأولى : قانون صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام دعوة إلى الإسلام . الثانية : قانون صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام من ذكر الله قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً . الثالثة : قانون صلاة النبي في المسجد الحرام حرب على عبادة الأوثان ، وذم للذين كفروا . الرابعة : إرادة النبي تغليب الحوار والإحتجاج . الخامسة : التذكير بملة إبراهيم عليه السلام ، ووجوب عبادة الله. السادسة : زجر المشركين عن الإرهاب ، ومنع أجيال المسلمين منه. ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في المسجد الحرام في بدايات الدعوة وحده بل كان الإمام علي السلام وأم المؤمنين خديجة يصليان معه صلاة جماعة أحياناً ، وكذا الصحابة الأوائل . ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريع صلاة الجماعة من أول أيام البعثة النبوية لما فيها من سبل الهدى ، وقد تقدم حديث عفيف الكندي ، وكيف انه كانت له تجارة مع العباس عبد المطلب ، وينزل في ضيافته في مكة ، فشاهد في موسم الحج في منى كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ثم قام يصلي ، وجاء خلفه الإمام علي عليه السلام وخديجة . لتكون هذه الصلاة دعوة عملية إلى الإسلام والأمن المجتمعي ، ونداء استغاثة إلى أولي الألباب لإنقاذ أنفسهم من براثن الكفر والضلالة والعتو والتعدي وقهر المستضعفين . وجاء شد العضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن حين ابتداء دعوته من جهات : الأولى : نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. الثانية : ابتداء سور القرآن بنزول قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، وهل ذكر الله كثيراً من مصاديق قوله تعالى [اقْرَأْ]، الجواب نعم . الثالثة : قصر السور المكية ، وحفظ الناس لها . الرابعة : لقد كان الإنذار والوعيد في السور المكية من ذكر الله ، وفيها ترغيب للناس بذكر الله ، وصيرورته جزء من الواقع اليومي لتمتلأ الدنيا بالبهجة وتنزل على المسلمين وعامة الناس البركة ، فتواظب أمة على الذكر وتتنزه عن الظلم فيأتي الخير والرزق الكريم للناس جميعاً ، وتصرف عنهم ضروب البلاء ، لذا فاجتناب الإرهاب باب لنزول أفراد غير متناهية من الرحمة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ). الخامسة : إسلام عدد من أهل البيت والصحابة الأوائل رجالاً ونساءً السادسة : دفاع أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياطته له ، وفدائه بنفسه وأولاده ليكون في ذَبّه عن رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأييده له نسخاً ونقضاً لقبيح فعل أبي لهب ، ومنعاً للناس للإفتتان بمحاربته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه عمه. السابعة : تحمل بني هاشم الحصار الذي فرضته قريش عليهم بسبب نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . لقد جعل الله عز وجل البيت الحرام محلاً لذكره ودعائه ، ومنه مناسك الحج فهي ذكر قولي وعملي لله عز وجل ، وفي خطاب وأمر إلى إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ). ليكون هذا المجئ والزحف العام سلاماً ودعوة للأمن العام ، ومقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليرى رجالات قريش ميل الناس في موسم الحج إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانصاتهم له. فيتعظوا ويجتنبوا إيذاءه وأهل بيته وأصحابه ، ويدل نداء إبراهيم بالحج ومجئ الناس من الأماكن القريبة والبعيدة إلى مكة على إرادة الله استتباب الأمن في الأرض والمقرون بالذكر ، وبعث النبي محمد لتحقيق السلم المجتمعي العام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ). لبيان أن النبي محمداً الإمام في محاربة الإرهاب والزجر عنه ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ). وأدركت قريش عجزها عن صدّ ومنع الناس عنه ، خاصة أن الحج يقع في أشهر منها شهر ذي القعدة وذي الحجة وهما من الأشهر الحرم ، فلا يستطيعون الإضرار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فساروا إلى أبي طالب ليحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ترك الدعوة ، وهذا المسير مكرر ، وممن مشى إلى أبي طالب ليثني النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن دعوته عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان صخر بن حرب ، وأبو البختري ، والأسود بن عبد المطلب وأبو جهل ، واسمه عمرو بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، والعاص بن وائل بن سعيد ، فقالوا (يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه . فقال لهم أبو طالب قولا رقيقاً، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه) ( ). بحث أصولي: أقسام الخبر من جهة الصدق والكذب وينقسم الخبر من جهة المتن إلى أقسام : القسم الأول : خبر مقطوع بصدقه . ومنه الخبر الذي يفيد العلم واليقين , ويمتنع دبيب الكذب إليه , ويترشح العلم عن الضرورة أو الإستدلال والنظر ومنها : الأول : البديهيات والمتسالم عليها عقلاَ ونظراَ مثل الاثنين نصف الأربعة , ومثل الملازمة بين طلوع الشمس والنهار , وبين إطلالة الهلال وبداية الشهر القمري كما في قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ). الثاني : الخبر الذي يدرك بالإستدلال مثل الكبرى كل ممكن محتاج الصغرى الإنسان ممكن , النتيجة الإنسان محتاج . الثالث : ملازمة الصدق للخبر مثل نزول القرآن من عند الله عز وجل. الرابع : قانون الخبر الصادر عن رسول الله صدق لإخباره عن الله عز وجل , ولعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
الخامس : خبر الطائفة والجمع الكثير عن صفة خاصة أو طارئة يتصفون بها فلابد في قولهم صدق , كقول كل فرد من الجماعة أنا فقير .
أو بيان طائفة لأمور وأحكام الشريعة كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
لتدل الآية أعلاه على أن المراد من الطائفة ليس الفرد الواحد كي يستدل بها على حجية خبر الواحد لأنه لفظ الطائفة قد يراد منه لغة الفرد الواحد , إنما يراد في الآية الجماعة كي يحفظوا الأحكام ويمتنعوا عن التحريف أو التغيير فيها .
السادس : الخبر الذي تتفق عليه الأمة فهو من الإجماع الذي يكون حجة .
السابع : الخبر المتواتر الذي يرويه جماعة عن جماعة , وبما يدل على عدم تواطئهم على الكذب سواء كان النداء لفظياً كحديث المنزلة , أو معنوياَ كحديث الإسراء .
الثامن : الخبر المحفوف بالقرائن التي نشهد له بالصدق , وتمنع من نعته بالكذب .
القسم الثاني : الخبر المردد بين الصدق والكذب فلا يمكن القطع بصدقه , ولا بكذبه , وهو على أقسام :
الأول : الذي يترجح فيه طرف الصدق سواء من جهة رجال السند أو المتن والموضوع .
الثاني : الذي يترجح فيه طرف الكذب كخبر الفاسق ويدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) على عدم الملازمة بين خبر الفاسق والكذب , فليس كل ما يخبر به الفاسق كذباَ وزوراَ , لذا أمرت الآية أعلاه بالتبين عندما يأتي الخارج عن طاعة الله عز وجل بالخبر وعدم طرحه من رأس .
الثالث : الخبر الذي يتساوى فيه طرف الصدق والكذب , وتقع مباحث علم الأصول في القسم الأول أعلاه كخبر العدل والثقة ونحوه وهو المسمى خبر الواحد , أو خبر الآحاد , وجعلت فيه شروط من جهات :
الأولى : شروط خاصة بالراوي .
الثانية : شروط بذات المتن .
الثالثة : ألفاظ الخبر .
القسم الثالث : الخبر المقطوع بكذبه وعدم صحته , وهو ساقط ولا يأخذ به العقلاء ويرد من جهة المتن , ولا تصل النوبة إلى السنة ومناقشته مما يكون خلاف الضرورة أو الفعل أو الحس والوجدان , ومنه مثلاَ مدعي النبوة كذباَ وهو على قسمين :
الأول : مدعي النبوة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن غير معجزة تدل على صدق دعواه .
الثاني : مدعي النبوة بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو خاتم النبيين قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
ولم يرد لفظ (خاتم) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وقد اجتهد علماء الإسلام لإسقاط الخبر الموضوع والذي يتعارض مع الكتاب والسنة , وما يكون من الكذب .
وقيل تدل الآية على أن الأصل في مجهول الحال عدم العدالة فلا يؤخذ بشهادته أو روايته .
ولا دليل على استقراء هذا المعنى من آية البحث إنما جاءت بمفهوم الشرط وخصوص الذي ثبت فسقه وخروجه عن الطاعة .
وهل تدل الآية على إرادة خصوص المتجاهر في الفسق لأن هذا التجاهر يكشف حاله , المختار الآية أعم .
إنما يتعلق الجهر بالفسق بخصوص جواز الغيبة للمتجاهر بالفسق , والمختار أنه ليس غيبة لأن الله عز وجل نهى عن الغيبة مطلقاَ قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( ) فلابد من اختيار اسم وعنوان آخر له .
ففي الآية تأديب واصلاح للمسلمين وتنمية للأخلاق الحميدة , وإجتناب فعل السيئات لأنه قبيح بذاته ويجلب الأذى لصاحبه فيجعله منبوذاَ لا تصدق الجماعة بقوله , ولا تقبل شهادته .
لقد أراد الوليد بن عقبة إيذاء بني المصطلق لعداوة سابقة معهم قال ابن جزى : (إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا سببها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ زكاتهم فروى أنه كان معاديا لهم فأراد إذايتهم فرجع من بعض طريقه فكذب عليهم وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنهم قد منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم بغزوهم ونظر في ذلك فورد وفدهم منكرين لذلك.
وروي أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له فرآهم على بعد ففزع منهم وظن بهم الشر فانصرف فقال ما قال وروى أنه بلغه أنهم قالوا لا نعطيه صدقة ولا نطيعه فانصرف وقال ما قال فالفاسق المشار اليه في الآية هو الوليد بن عقبة ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفساق حتى صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران ثم قال لهم أزيدكم إن شئتم) ( ).
من معاني الآية عدم تصديق وإتباع الخبر الذي يؤجج العواطف ، ويثير المساعر ، ويحرك أسباب الفتنة النائمة ، أو الذي يوجه فتنة مستحدثة في الوطن وبين أفراد الشعب أو الملة الواحدة ، سواء كان الخبر حقيقة وصدقاً أو كذباً لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
لابد من الإحتراز من نقل الأخبار التي تحض على الإرهاب ، أو التي تزين صورته ، وتتجاهل ضرره ويجب الإعراض عن أهل الشغب والنفاق والغوغاء لأن الإسلام دين السلام والأمن والتراحم.
واستدل على حجية خبر الواحد بآية السؤال [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ولكن القدر المتيقن منها تحصيل العلم ويأتي التعبد بالجواب الصادر من أهل الذكر وليس من الراوي والناقل للخبر أو الفتوى فقد لا يرقى الراوي إلى مرتبة أهل الذكر.
والأمر بسؤال أهل الذكر دليل على حرمة الإرهاب لأنهم ينهون عنه.
ولا بأس من قراءة آيات القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس والنظر في الآيات التي تدل على حجية خبر الواحد أو على خلافه.
ومن الآيات التي تدل على حجيته قوله تعالى [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ]( )، فقبل موسى عليه السلام التحذير ، وخرج إلى أرض مدين ، وكان فيه نجاته من قوم فرعون.
مساجد المدينة دعوة لنبذ الإرهاب
قد تقدمت الإشارة إلى هذا القانون في الجزء السادس والثلاثين بعد المائتين , والمساجد التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في المدينة المنورة معجزة حسية خالدة ظاهرة للأجيال , ويحتمل وجوهاَ :
الأول : إنشاء المسجد النبوي معجزة .
الثاني : كل مسجد في المدينة المنورة أيام النبوة معجزة .
الثالث : مساجد المدينة المنورة مجتمعة معجزة واحدة .
الرابع : المسجد النبوي معجزة مستقلة , والمساجد الأخرى معجزة أخرى .
الخامس : المساجد التي انشئت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومسجده معجزة , وما أنشئ بعد الهجرة النبوية ليس بمعجزة .
والمختار هو الثاني أعلاه , نعم معجزة بناء المسجد النبوي آية خالدة إلى يوم القيامة , ولكن هناك مساجد صغيرة في المدينة سبقت انشائه , وأول مسجد بني في الأرض هو المسجد الحرام ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) ثم المسجد الأقصى .
و(عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟
قال : المسجد الحرام .
قلت : ثم أي؟
قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما؟
قال : أربعون سنة) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التباين في مساحة وبناء المساجد ، فقد ينشأ المسجد على أرض صغيرة أو كبيرة ، وقد يبنى من القصب أو الطوب أو الطابوق ، وقد يكون بلا سقف أو سقفه من الجريد وجذوع النخل ، ليس له جدران عالية ، وقناديل ، وهي خالية من ذوي اللباس الخاص ، وهيئة الوقار ،وما يبعث الهيبة في النفوس .
وكان مسجد الرسول في بدايته بطول (35)م , وعرض (30)م , لتكون مساحته (1050)م وكان إرتفاعه (2,5)م .
ومثلاَ كان سور مسجد الكوفة من القصب بني سنة 17 للهجرة (638) م وإن كان موجوداً بالأصل من قبل الأنبياء السابقين ، وأنشئ مسجد البصرة سنة 14 هجرية -635 م مسقفاً بالقصب على عمد من جذوع النخل ، ويحيط به خندق .
إنما كان بناء المساجد بسيطاً ، وتحدد القبلة فيه ، وليقع أثرها في النفوس ، وتكون محلاَ للتذكير بالله عز وجل ، ولزوم عبادته بالصلاة والفرائض الأخرى ، قال تعالى [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
وإنشاء المدينة المنورة قديم ، إذ انشئت قبل الهجرة النبوية بنحو 1500 سنة ، وكانت تعرف باسم يثرب ، وورد هذا الاسم مرة واحدة في القرآن حكاية عن المنافقين اثناء حصار ومعركة الخندق ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ) .
إذ ورد نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تسميتها يثرب ، وقال ان اسمها (طيبة ) .
وكانت المدينة مثل مكة تقريباً بعيدة عن سلطان الدول العظمى آنذاك مثل دولة الروم وفارس ، ويمتهن أكثر أهلها الزراعة ، خاصة أشجار النخيل ، وتصدر المدينة التمور إلى مكة والمدن القريبة ، وانشئت فيها عدة أسواق مثل سوق الحرف ، وسوق زبالة ، وسوق واد بطحان ، كما أنشأ فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة سوق المناخة ، وهو سوق المدينة (عن عطاء بن يسار قال: لما أَراد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أَن يجعل للمدينة سُوقًا أَتى سوقَ بني قَيْنُقَاع، ثم جاء سوق المدينة فضربه برجله وقال: “هذا سوقكم، فلا يُضيَق، ولا يؤخذ فيه خَرَاج) ( ) .
وفي المدينة صناعات يدوية متعددة مثل السيوف ، والفؤوس ، والقدور ، والحلي الذهبية والفضية يدير عدداَ منها اليهود .
وقد سادت في المدينة حروب متقطعة بين الأوس والخزرج لنحو مائة وعشرين سنة آخرها حرب بُعاث قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنوات .
لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة للنجاة من إرهاب وبطش كفار قريش , ففتح الله عز وجل له أبواب الدعوة .
بعد أن كان صابراً على أذاهم وسعيهم في منعه وأصحابه من الصلاة في المسجد الحرام ، مع أنه لم يبن وترفع قواعده إلا للصلاة ، وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ) وقال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
والمشهور أن مسجد قُباء أول مسجد بني في المدينة المنورة , لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بناه وصلى فيه أول دخوله لأطراف المدينة , وقيل هو أول مسجد لعامة المسلمين في المدينة .
ولكن ورد (عن جابر قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا النبي صلى الله عليه وسلم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة)( ).
وحتى مسجد قُباء ذكر أن الصحابة الأنصار والمهاجرين الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بنوه .
والمشهور والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي بنى مسجد قُباء , وكان أول عمل له عند دخوله المدينة لبيان أن الهجرة عمل عبادي خالص لوجه الله .
و(عن الشموس بنت النعمان قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره أي يميله وأنظر إلى بياض التراب على بطنه وسرّته .
فيأتي الرجل من أصحابه فيقول بأبي وأمي يا رسول الله أكفيك فيقول لأخذ مثله حتى أسسه ويقول إنّ جبريل عليه السلام هو يؤمّ الكعبة قالت فكان يقال إنه أقوم مسجد قبلة قلت لعل هذا في بناء غير الأوّل بعد تحويل القبلة ، فقد روى أبن شبة إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لما ورد قباء صلى بهم في مسجد قباء إلى بيت المقدس .
ثم روى إنه صلى الله عليه وآله وسلم بنى مسجد قباء وقدم القبلة إلى موضعها اليوم وقال جبريل يؤمّ بي البيت وأنّ أبن رواحة كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء. أفلح من يعالج المساجدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المساجدا فقال عبد الله. يقرأ القرآن قائما وقاعدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقاعدا) ( ).
ويقع مسجد قُباء عند بني عمرو بن عوف في أطراف المدينة من جهة مكة حيث قدم عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته .
وجاء الأنصار يسلمون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولبث عندهم بضع عشرة ليلة بنى فيها مسجد قُباء وصلى فيه قبل أن يتوجه إلى مركز المدينة ويبني مسجده .
وأصل اسم قُباء أنه بئر وسميت القرية باسمه وفيها مساكن بني عمرو بن عوف , ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من المدينة المنورة , وتم بناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له في أول أيام السنة الأولى للهجرة النبوية الموافق سنة 622م .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : اختلف رجلان رجل من بني خدرة ، وفي لفظ : تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى .
فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال العمري : هو مسجد قباء . فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال هو هذا المسجد ، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال : في ذلك خير كثير ، يعني مسجد قباء) ( ).
لقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة بلواء السلم ورايات الذكر ومواضع العبادة , وهي رسالة إلى أهل ذلك الزمان , وكل زمان إلى يوم القيامة أن الإسلام دين الذكر والسلم الذي يتبرأ من الإرهاب , ويبتعد عنه .
وسيبقى بناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للمساجد في المدينة شاهداَ على الملازمة بين بنائها وعمارتها بالصلاة وبين التقوى والخشية من الله عز وجل , وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : بناء المساجد تقوى .
الصغرى : الإرهاب ضد التقوى .
النتيجة : الإرهاب ضد بناء المساجد .
التقى الجمعان
لقد ورد لفظ [الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) أربع مرات في القرآن كلها في لقاء قتال بين أهل الإيمان والمشركين ، وهي :
الآية الأولى : قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) والآية خاصة بمعركة بدر التي وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وفيه قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ) .
لبيان إعجاز قرآني وهو تفسير ماهية الجمعين ، والتضاد بينهما في العقيدة والمبدأ ، فوقع القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين الكفار ، فنصر الله عز وجل نبيه ، وقال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
والمختار أن المقصود بالخطاب نصركم هو أن الله عز وجل نصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وقد تقدم تفسير [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] بالتقدير( ).
لقد زحفت جيوش قريش صبيحة يوم بدر من جهة (الْعَقَنْقَلِ – وَهُوَ الْكَثِيبُ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ إلَى الْوَادِي) ( ).
فلما رآهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يخف ولم يرتجف منهم ، ولم يندب أصحابه للقاء في الحال ، إنما توجه إلى سلاح الدعاء ، وهو من الشواهد على صدق نبوته ، ومن معجزاته لأن الدعاء سلاح الأنبياء .
وقد يقال كل مؤمن يدعو الله ، والجواب هذا صحيح ، ولكن دعاء النبي بالسراء والضراء ، وعند الرخاء والشدة ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ,,] ( ) الجواب نعم .
وفيه دعوة لأجيال المسلمين بالصبر على الأذى ، وعدم ترتب فعل على الغضب والغبن ، ولزوم نبذ العنف والإرهاب ، قال تعالى [وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
والنسبة بين الذكر الذي تذكره الآية أعلاه والدعاء هي العموم والخصوص المطلق ، إذ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ) ( ).
أي اللهم أهلِك المشركين هذا الصباح ، لبيان موضوعية مضامين هذه الآية في تحقيق النصر والغلبة على الذين كفروا.
لقد تفاخر بعض الصحابة عند إنكسار كفار قريش ، فقائل يقول : قتلت , قائل : أَسرت ، فنزل قوله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ] ( )،لبيان أن الدعاء والذكر يجلب النصر الفعلي من عند الله سبحانه .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام يوم بدر (أعطني قبضة من حصباء الوادي ، فرمى بها في وجوههم وقال : شاهت الوجوه ” فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه ، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم) ( ).
لبيان سوء عاقبة الإرهاب بأن لحق الخزي والخيبة والخسارة مشركي قريش.
الآية الثانية : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ) .
نزلت هذه الآية الكريمة بخصوص معركة أحد , وترك طائفة من الصحابة مواقعهم ، وصيرورة جماعة منهم بحال الفزع عندما جاءت خيل المشركين من الخلف ، وكانت برئاسة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ، ومن إعجاز القرآن ورود العفو عنهم من الله في ذات الآية الكريمة .
وعن (كليب ابن وائل قال : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدراً؟
قال : لا .
قال : أكان شهد بيعة الرضوان؟
قال : لا .
قال : أفكان من الذين تولّوا يوم التقى الجمعان؟
قال : نعم .
فقيل له : إن هذا يرى أنك قد عبته .
فقال : عليّ به .
أمّا بدر فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ضرب له بسهمه،
وأما بيعة الرضوان فقد بايع (له) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من يد عثمان .
وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان (فإن الله قال [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ]( ) فاذهب فاجهد عليّ جهدك)( ).
ويوم التقاء الجمعين في هذه الآية هو معركة أحد ، وهي غير معركة بدر واللقاء فيها لبيان تعدد القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين ، وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً لدراسة وجوه الإلتقاء والإفتراق بين المعركتين ، ومن وجوه الإلتقاء بلحاظ قانون هذا الجزء أمور :
الأول : المشركون هم المعتدون في المعركتين.
الثاني : قطع المشركين المسافات الطويلة للقتال والتعدي وسفك الدماء.
ففي معركة بدر قطعوا ثلاثمائة كيلو متر من مكة إلى ميدان المعركة ، وأما في معركة أحد فالحجة عليهم أظهر وأبين ، إذ زحف ثلاثة آلاف منهم بأسلحتهم ومؤنهم أربعمائة وخمسين كيلو متر ليطلوا على المدينة المنورة يريدون غزوها واقتحامها فخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بألف من الصحابة انخزل منهم ثلاثمائة في الطريق الى المعركة مع أن طوله (5) كم فقط بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول ، إذ نادى (أطاعهم وعصاني والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ، فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال)( ).
وقصده من أطاعهم أي استمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الذين ألحوا بالخروج للقتال خاصة أولئك الذين فاتهم حضور معركة بدر من الأنصار .
وكان رأي عبد الله بن أبي سلول البقاء في المدينة لقتالهم واتخذ من هذه المسألة ذريعة باطلة للإنسحاب.
وعندما زحف المشركون في معركة الخندق حفر المسلمون الخندق ، ولم يكونوا قد تهيأوا له في معركة أحد ، كما أن المنافقين إنسحبوا من المرابطة داخل الخندق بحجة انكشاف بيوتهم ونحوها مع إثارتهم الهلع والفزع والخوف في المدينة ، كما قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
ليكون من معاني تقدير قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] بخصوص معركة أحد (يوم التقى الجمعان مع إنخزال وغدر المنافقين) ومع هذا لم ينتقم أو يبطش بهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل لم يدع إلى اعتزالهم وهو من معاني الرحمة العامة في نبوته ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر وتحمل الأذى ، وعدم اللجزء إلى العنف ، إنما هو الدعاء والتقوى.
فلم يسخط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عبد الله بن أبي سلول ، وكان لا يرده في مسألة ، وحينما حاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني قينقاع من اليهود لنقضهم العهد ، ونزولهم على حكمه وكانوا حلفاء للخزرج وعبد الله بن أبي سلول من رؤساء الخزرج جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يهبهم له فوهبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم له وكان عددهم (ثلاثمائة واربع وأربعمائة) ( ).
لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل يهود المدينة وأنه يعفو عنهم ويهبهم حتى لرأس النفاق مع أن الأنصار لم يعودوا يكرمونه لشدة إيذائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي نزل في ذمه قوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
لبيان أن النبي محمداً لم يقتل اليهود ، ولم يسب نساءهم إنما كان في حال دفاع ضد المشركين الذين لم يكتفوا بلقاء الجمعين في معركة بدر وأحد ورجوعهم بالخزي والخيبة في كل منهما إنما زحف عشرة آلاف منهم في معركة الخندق ، ولم يكتفوا بالنزول على بعد (5) كم من المدينة بل بادروا للهجوم ، عليها وغزوها واستباحتها لولا أن فاجأهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر الخندق بمشورة من سلمان الفارسي في معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادته السلم ونبذ العنف وصرف أسباب ومقدمات القتال.
الآية الثالثة : قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ والآية بخصوص معركة أحد أيضاً ، والتي كانت خسارة المسلمين فيها أكثر من أي معركة أخرى ، إذ فقدوا سبعين شهيداً مع كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه.
ويدل عليه قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( )، لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا مع كثرة جراحاتهم في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف جيش المشركين بعد أن بلغهم خبر عزمهم على العودة للإغارة على المدينة( ).
ومع مجئ الآية أعلاه في بيان دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فانها أظهرت التضاد بين القرآن والإرهاب بأن قيدت الأجر العظيم في النشأتين بأمرين وهما :
الأول : الإحسان وورد لفظ (احسنوا) بصيغة الإطلاق في موضوعه وجهة مطلقة وتقدير الآية : واحسنوا الى الناس جميعاً ، ولا يخفى على أحد التباين والتضاد بين الإحسان والإرهاب فهذه الآية تدل على حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية ضد أي طائفة أو جماعة أو أفراد وباسقاط الثأر والإنتقام.
الثاني : التقوى والخشية من الله عز وجل ، ومنها الرأفة بالعباد واجتناب سفك الدماء والتفجيرات وحينما توعد قابيل أخاه هابيل بالقتل تمسك هابيل بالتقوى ليفارق الدنيا بها ذخيرة وحرزاً ، وفي التنزيل [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
وهل اذن الله بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( )، سبب أو علة لما أصاب المسلمين ، الجواب لا ، إنما تخبر الآية عن كرامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند الله ، وأنه سبحانه لا يرضى أن يصيبهم شئ إلا بعد إذن منه ، ولبيان نكتة عقائدية وهي أن للمصيبة التي تنزل بالمؤمنين حداً محدوداً لا تتجازوه ، كما يسمونه في هذا الزمان بالخط الأحمر ، وإن كان قياساً مع الفارق ، فالآية بشارة عدم تعدي المصيبة أكثر مما وقع .
وفيه دعوة للمسلمين للصبر عند المصيبة والتحلي بالحكمة ، وعدم الهلع والمبادرة إلى الإنتقام والإرهاب.
ومن الآيات في المقام عدم وقوع خسارة كبيرة للمسلمين في معركة الخندق التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة مع أن جيش المشركين فيها أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في معركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة .
ترى ما هي النسبة بين هذه الآية والآية الأخرى المتقدمة [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) الجواب هو العموم والخصوص المطلق.
ففرار وتولي طائفة من الصحابة من ميدان المعركة جزء من المصيبة التي تعرض لها المسلمون ، وهو مقدمة لها ، وفيها إنذار للصحابة بأن هزيمة وفرار طائفة منكم سبب لخسارة جسيمة تصيب الجيش ، وخطر يهدد حياة وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستدامة التنزيل ، فلابد من الإتعاظ والإعتبار في المعارك اللاحقة .
ومن أهم الغايات الحميدة لهذا الإتعاظ سيادة السلم والأمن ، وتوقف حال الإقتتال وسفك الدماء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لتدنيسها بالفساد من قبل طائفة من الناس وسفكم الدماء.
لتأتي معركة حنين ومع مباغتة هوازن وثقيف للمسلمين يومئذ فانهم لم يفروا ، ومن انسحب منهم سرعان ما عاد إلى ميدان المعركة ، وأحاط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقاتل بين يديه ، وهل ينفع الذكر في المقام ، الجواب نعم من وجوه:
الأول : قانون ذكر الله والمواظبة عليه واقية من الفرار ، ومانع من إغراء العدو ومواصلته الإرهاب والقتل.
الثاني : قانون الملازمة بين ذكر الله وحسن التوكل عليه وكل منهما حصن من الإرهاب والظلم والتعدي وكذا بالنسبة للجمع بينهما.
الثالث : ذكرت آية البحث حالات المؤمنين وليس فيها الفرار والهزيمة ، فقد ذكرت القيام والقعود والإستلقاء ، والصبر في الميدان من مصاديق قوله تعالى [قِيَامًا] ( )، ومنه صلاة الخوف والمطاردة.
الرابع : ذكر الله على كل حال مناسبة للصبر وتحمل الأذى في سبيل الله ، لبيان قانون ذكر الله برزخ دون الإرهاب فالذي يواظب على ذكر الله عز وجل يجتنب الإرهاب والإضرار بالناس وأموالهم ، وبالممتلكات العامة ، ويعلم أن الله عز وجل يفعل ما يريد [بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الخامس : من ذكر الله في آية البحث الدعاء وسؤال النصر على مشركي قريش ، ورجاء فضل الله بتعجيل النصر ، ويتسالم المسلمون على قانون في الدعاء غنى عن الإرهاب شدة الأذى الذي لاقاه الأنبياء فقد لجأوا إلى سلاح الدعاء ، ويدل في مفهومه على حرمة الإرهاب وكأنه من الأمر بالشئ نهي عن ضده.
ومن الإعجاز في آيات معركة أحد خلوها من ذكر هزيمة للمسلمين في المعركة .
فقد ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من أهل بيته وأصحابه في وسط الميدان ، واضطر ثلاثة آلاف مشرك للإنسحاب في يوم المعركة بعد أن قذف الله في قلوبهم الرعب ، وقتل منهم اثنان وعشرون ، وأدركوا أن هذا الرعب سبب لوقوع المزيد من القتل في صفوفهم ، إن استمروا بالقتال ، قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
لبيان كفاية الله عز وجل للمؤمنين بفضله ولطفه واحسانه وهو الذي يذب عنهم ويصرف عنهم البلاء ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، لذا فان اللجوء إلى الإرهاب خلاف تلقي فضل الله وكفايته بالشكر والصبر والتقوى.
الآية الرابعة: قوله تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] ( ) إذ ورد لفظ [الْجَمْعَانِ] ولم ترد معه كلمة [الْتَقَى]فلم يلتق موسى وأصحابه مع جيش فرعون الذين هم مليون فرد ، فلا طاقة لهم بهذا الجيش العرمرم.
وفي الجمع بين هذه الآيات بيان لجهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله بملاقاة المشركين بالسيوف وكما كان جيش فرعون مدججاً بالسلاح , وبنو إسرائيل شبه عزل فكذا كان مشركو قريش في أسلحتهم الكثيرة ومؤنهم وليس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا مسمى السيوف .
ولكن موسى وأصحابه لم يلتقوا في ساحة الميدان مع فرعون وجنوده , بينما أصر المشركون على قتال وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وموضوع الآية أعلاه خروج موسى وأصحابه من مصر وإصرار فرعون وجنوده على اللحاق بهم ، ولم يرد لفظ [مُدْرَكُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه , ومن غرور وطغيان فرعون وقوله [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( )عدم إدراك حقيقة وهي خروج موسى عليه السلام وبني إسرائيل بأمر من الله عز وجل [وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى] ( ).
وهل تفيد الآية أعلاه إخبار الله عز وجل لموسى عليه السلام من أول خروجه من مصر بأنهم سيصلون إلى البحر الأحمر وأنهم سيعبرونه بمعجزة ، أم أن قوله تعالى [فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ] ( ) كان عند وصول موسى وقومه إلى البحر الأحمر وأول الإخبار عن المعجزة ، المختار هو الأول ، وفي التنزيل حكاية عن موسى [قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي] ( ) وهو لا يتعارض مع مجئ الأمر من الله لموسى بأن يضرب البحر بعصاه ساعة الوصول إلى البحر .
لقد أشار أدلاء فرعون عليه بأن لا يعبر البحر إنما سحره موسى ، ويكون السحر بمقدار عبورهم ، وأشاروا على فرعون أن يذهب من مكان يضيق فيه البحر وإن كان بعيداَ ، ولكنه أصر على العبور ساعتئذ ثم استدراج جبرئيل عليه السلام له نكاية به ، وانتقاماً منه لإدعائه الربوبية في الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الرد على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) مع أن طائفة من الناس يفسدون في الأرض ، وقد يقتل الرجل أخاه بغير حق .
كما في ولدي آدم ، ليبعث الله عز وجل الأنبياء بالتعاقب لإصلاح الأرض وتعاهد السلم المجتمعي فيها ، وقال تعالى في الثناء على المسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن مصاديق التفضيل أعلاه الإحسان للناس جميعا ، وإشاعة مفاهيم الرحمة والموادعة في الأرض ، والتنزه عن الإرهاب والتفجيرات ، وتركهم البطش والعنف الذي تنفر منه نفوس الناس ، فهذه النفرة من الفطرة ، وأسرار نفخ الله من روحه في آدم ، وفي التنزيل [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
ومن أشد الفساد دعوة فرعون أنه رب الناس ، وإتباع قومه لهذه الدعوى الزائفة ، فلا يأتي العذاب والبلاء العام بدعوة وإدعاء شخص ،وإن كان هو الملك ، إنما يأتي عند إنقياد الأمة للزور والبهتان والشرك الجلي ، وفي التنزيل [وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ]( ).
لبيان لزوم سعي المؤمنين بالإصلاح في الأرض سواء في بلاد المسلمين أو غيرهم ، للحسن الذاتي للإصلاح وأنه خير محض وضد للإرهاب ، ومانع منه فلابد من تنزه كل مسلم ومسلمة عن الإرهاب والتفجيرات والإغتيال وسفك الدماء.
فمن علم الله عز وجل أن ذات الملائكة نزلوا إلى الأرض ليستدرجوا فرعون وجيشه ، وينظروا إلى هلاكهم ، وإلى نجاة النبي الرسول موسى عليه السلام وأصحابه بمعجزة من عند الله ، لا يقدر عليها الخليفة في الأرض بمفرده .
لبيان قانون وهو المعجزة فرع الخلافة الخاصة في الأرض ، ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، وتلقى مشركو قريش وحلفاؤهم رسالته بالتكذيب وسلّ السيوف ، فلابد أن ينزل الملائكة لنصرته ، وينظروا إلى هلاك طائفة من المشركين ، وهزيمة الباقين ، ثم توبة أكثرهم ودخولهم الإسلام ، وهذه التوبة من مصاديق رد الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ولبيان قانون طريق الإرهاب شائك ولابد من تركه وهجرانه واللجوء إلى الله بانابة وتوبة نصوح ، وقد أمر الله عز وجل النبي محمداً أن يبادر الناس إلى الإستغفار والتوبة مع الوعد بالسعادة والرزق الكريم كما ورد في قوله تعالى [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ]( ).
ومن خصائص آيات الذكر إخبارها عن قانون وهو ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لله عز وجل عندما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] في معركة بدر وأحد والخندق وحنين وغيرها من الكتائب والسرايا .
ومواظبتهم على الذكر في حال الرخاء والشدة ليؤسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة الذكر ومصاحبته للسلم في حياته اليومية وفي المنتديات والمجالس وفيه حرز وواقية من الإرهاب وتنزه عن سفك الدماء.
إذ ورد ذكر [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] في القرآن بخصوص معركة بدر ، وأحد لبيان شمول موضوعه لمعارك الإسلام الأخرى لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
ولبيان شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قومه ، ودنو القتل منه في كل معركة ، حتى أن سهام وحجارة القوم وصلت إليه في معركة أحد ، وسالت الدماء من وجنته ، وكسرت الرباعية من أسنانه ، وهو لا ينقطع عن الذكر والدعاء والإستغفار وسؤال الهداية لقومه وفيه دعوة لأجيال المسلمين بالصبر على الأذى ، وعدم اللجوء إلى التعدي ومنه الإرهاب .
علم مصاديق وحدة المسلمين في كل آية من القرآن
مع أن عدد آيات القرآن محدود وهي (6236) آية فان العلوم التي تنبثق وتقتبس وتترشح عنها لا متناهية ، وهو من إعجاز القرآن والشواهد على أنه كتاب منزل من عند الله عز وجل ، ولا بأس بتأليف هيئات علمية متعددة لإستنباط العلوم والقوانين من آيات القرآن ، ولا تنقطع هذه الهيئات فهي متجددة في كل زمان.
وهل هو من مصاديق النفر لطلب العلم كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو جعل النفر وبذل الوسع لطلب العلم واستقراء العلوم والمسائل من كنوز القرآن مستمراً ومتصلاً لأن هذه العلوم من اللامتناهي وخزائن القرآن لاتنفد أبداً.
وهل يساعد هذا الإستقراء في نشر ألوية السلام والأمن ، وتنزيه الأرض من الإرهاب ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
وليكون هذا النفر عنواناً لوحدة المسلمين ، وبعيداً عن الطائفية والولاء للمذهب وطارداً للإرهاب ليكون تحقيق واستنباط واستقراء هذه الآيات مناراً وضياءً للأجيال ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
فمن خصائص وإعجاز القرآن اكتشاف علوم منه في كل يوم ، إلى جانب موافقته للمستحدث من العلوم والإكتشافات ، وموضوعيته وحضور آياته ، بما يتضمن النفع الأمثل والأعم من هذه الإكتشافات ، وهو من عمومات قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) ونشر ألوية السلم في الأرض .
ويمكن تقسيم مصاديق وحدة المسلمين في الآية القرآنية إلى أقسام:
الأول : المصاديق الثابتة في كل آية ، ومنه مسائل :
الأولى : تسليم كل مسلم ومسلمة بنزول الآية القرآنية من عند الله عز وجل .
الثانية : إقرار المسلمين والمسلمات بسلامة الآية القرآنية من التحريف ، وخلوها من الزيادة ،وعصمتها من النقصان ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
الثالثة: تلاوة كل مسلم ومسلمة الآية والسورة القرآنية في الصلاة.
الرابعة : استماع المسلمين لآيات القرآن باصغاء وتدبر ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الخامسة : سعي وجهاد المسلمين للحفاظ على الآية القرآنية ، وتعاهدها وتوارثها كما أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : إتخاذ المسلمين الآية القرآنية إماماً ومنهاجاً ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
السابعة : الإقرار بأصول وفروع الدين .
الثامنة : عمل المسلمين والمسلمات بمضامين الآية القرآنية ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، عمل المسلمين في كل زمان بالكتاب النازل من عند الله ، فلابد من أمة تعمل بالتوراة وأخرى بالإنجيل ، وعمل ويعمل المسلمون بأحكام القرآن .
فمن معاني العبادة في الآية أعلاه هداية الناس للعمل بأحكام التنزيل ويتنافى الإرهاب مع العبادة التي أرادها الله عز وجل للناس لذا تجد نفرة الناس عامة من الإرهاب .
ولأن العبادة علة خلق الناس فلابد أن يزول المنافي لها ، ولا يستمر في الأرض ، قال تعالى [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ]( ).
وفي الآية أعلاه تحد ووعيد للظالمين ، وبعث للسكينة في نفوس المؤمنين والناس جميعاً ولزوم الإتعاظ والعبرة من الأمم السالفة ، ومن آيات القرآن ، وما فيها من البشارة والإنذار والأمر بالموادعة ، والسلم والنهي عن العنف والإرهاب والظلم.
التاسعة : الرجوع إلى الآية القرآنية عند الإختلاف وأسباب الخصومة ، قال تعالى [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ]( )، وهل الإرهاب مما يتنازع فيه المسلمون ، الجواب لا ، لدلالة الكتاب والسنة على حرمته ، والمنع منه.
العاشرة : الصدور عن آيات القرآن في العبادات والمعاملات والأحكام ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) وعن عبد الله (بن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن) ( ).
الحادية عشرة : التقيد بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتباع نهجه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
الثانية عشرة : التقاء المسلمين في علم التفسير ، والإجماع على موضوعية التأويل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمبين وأسباب النزول وعدم اختصاص موضوع الآية بها وأن المدار على عموم المعنى.
الثالثة عشرة : وحدة المسلمين في الإمتثال للفرائض والواجبات العبادية وفق ما جاء به القرآن والسنة ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلى) ( ) وقال (لتأخُذوا عني مناسككم) ( ).
وفيه دعوة نبوية للإستقامة والصلاح والإبتعاد عن الإرهاب.
الثاني : المصاديق الخاصة بآيات من القرآن ، فمن خصائص آيات القرآن أن النسبة بين معانيها عموم وخصوص من وجه ، فتلتقي آيات القرآن بوجوه إعجازية كثيرة .
وتأتي كل آية منه بمعاني ودلالات خاصة ، ومنها وظيفة الآية القرآنية في إصلاح المجتمعات ، ونبذ الخصومة ، والحض على التنزه عن الإرهاب والظلم والتعدي .
ولابد من إجتهاد العلماء في هذا الباب المستحدث لإستنباط الأدلة والشواهد التي تبين موضوعية الآية القرآنية في الواقع اليومي للمسلمين ، وبما فيه تآخيهم وصلاحهم ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
الثالث : يلتقي المسلمون والمسلمات بقول ( بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة وخارجها ، وعند الإبتداء بأمر ذي بال ، ومثلاً قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) يلتقي فيه المسلمون من جهات :
الأولى : نطق كل مسلم بالحمد والثناء على الله .
الثانية : التسليم الأستقرائي العام من المسلمين والمسلمات بأن [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) من القرآن ، وهي الآية الثانية من سورة الفاتحة ،كما ورد في خمس آيات أخرى من القرآن ، ولكن كشطر من آية وليس آية مستقلة إلا في سورة الصافات باضافة حرف العطف الواو [وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : الحمد لله من الذكر الكثير الذي أمر الله سبحانه به ، وليس من مسلم أو مسلمة إلا ويصدق عليه أنه يذكر الله كثيراً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالمواظبة والمداومة على ذكره تعالى سواء بالصلاة أو تلاوة القرآن أو التسبيح والتهليل للإمتناع عن اتيان القبيح ، وولوج السيئة والحرام ، وإرتكاب الظلم ، وفعل الإرهاب.
قانون التأني الذاتي والغيري عن الإرهاب
يدل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) على جعل نفوس الناس تميل إلى العدل وتحرص على نشر شآبيب الرحمة والتعاون والنفرة من الظلم والتعدي , وهو من المؤهلات الضرورية لنيل مرتبة الخلافة لذا تفضل الله عز وجل ونفخ من روحه في آدم عليه السلام لبعث الحياة فيه , وجعله وحواء يسكنان الجنة .
وقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعث الأنبياء على نحو التعاقب والتوالي وتصحبهم المعجزة والوحي إلى أن نزل القرآن ضامناَ لأحكام الشريعة , ولتبدأ كل سورة منه بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) التي هي دعوة للسلم والأمن , ولواء سماوي لنشر معاني المودة والألفة بين الناس .
ولا يعلم منافع وجود البسملة في أول سورة من القرآن في اصلاح النفوس ونبذ القتال وسفك الدماء إلا الله عز وجل , بعيداَ عن إنشغال طائفة من المفسرين هل البسملة جزء من كل سورة عدا التوبة ، أم أنها جزء من سورة الفاتحة وحدها , أم جاءت للفصل بين السور .
والمختار أنها جزء من كل سورة من القرآن عدا سورة التوبة .
وورودها في المصحف في أول كل سورة عدا التوبة , متواتر خطي يفيد القطع بجزئيتها من السورة إلا أن يرد دليل قطعي على الخلاف , إنما القول بأنها للفصل وحده ظني , والقطعي مقدم على الظني , إلى جانب النصوص العديدة التي تفيد أنها جزء من السورة , ولا يرقى حديث عن أنس بن مالك لمعارضتها .
ونزل القرآن بأداء الفرائض العبادية وهي حصانة للإنسان من فعل السيئات , ودعوة للغير للإتعاظ , كما نزل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
ومن المعروف والصلاح والعدل والإنصاف , ومن المنكر الإرهاب والظلم والتعدي لبيان قانون وهو عدم إكتفاء المسلم بالإحتراز من الإرهاب ومجاهدة النفس إنما يسعى لمنع غيره من الإرهاب والظلم , وإخافة الناس وإراقة الدماء .
ومن خصائص القرآن تعضيد آيات القرآن بعضها لبعض من جهات :
الأولى : وحدة الموضوع .
الثانية : بيان الحكم وعلته .
الثالثة : سلامة الآية القرآنية من التحريف .
الرابعة : إتحاد المقاصد والغايات السامية .
الخامسة : شهادة الآية القرآنية لأختها على نزولها من عند الله عز وجل .
السادسة : تعضيد الآية للآية الأخرى في هداية الناس إلى الصلاح ونبذ العنف والتطرف والغلو .
إذ تبعث آيات القرآن المسلمين والمسلمات على التأني بأنفسهم من الإرهاب حتى إذا جاء بصورة فردية نادرة تبرأوا منه ، واعلنوا انكارهم له .
هل الجنة والنار مخلوقتان الآن
لقد اختلف علماء الإسلام هل الجنة والنار مخلوقتان الآن.
أم يخلقان فيما بعد لعدم الحاجة لهما الآن ، وأنهما لا يخلقان إلا يوم القيامة ، وبه قالت طائفة من المعتزلة والخوارج .
والمشهور والمختار أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وقد ذكر كل فريق أدلته .
ولا يصح الإنشغال كثيراً بوجوه إختلاف لا أصل لها ، وبما يضر بالتدبر في الموضوع والحكم والدلالة فالأهم هو التدبر في نعيم الجنة والسعي إليه ، وأذى النار والإمتناع عن أسباب الدخول إليها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
فقول بعضهم أن وجودهما الآن عبث لأنهما للجزاء تجرأ ولعل فيه إنشغالاً للمسلمين عن تصور التضاد والتناقض بين الجنة والنار ، وقد وردت آيات عديدة تدل على وجودهما ، فورد لفظ [أُعِدَّتْ] مثلاً أربع مرات ، وكلها تتعلق بخلق الجنة والنار وهي :
الأولى : قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثانية : قال تعالى [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
الثالثة : قال تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ) ( ).
الرابعة : قال تعالى [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ) ( ).
وقيل صيغة الماضي في الآيات أعلاه تأكيد وجودهما في المستقبل ، ولكنه خلاف الظاهر والنصوص ، فقد ثبت في حديث الإسراء أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دخل الجنة ، ففي حديث ابن عباس (وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام .
وعن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ففرض الله على أمتي خمسين صلاة فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال : ما فرض الله على أمتك ؟
قلت : فرض خمسين صلاة
قال : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال : راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك
فراجعت ربي فقال : هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك
قلت : قد استحيت من ربي
ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيتها ألوان لا أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها مسك) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عليهم السلام (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وبطانها من ظاهرها، يسكنها من امتي من أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام) ( ).
وبلحاظ موضوع آية البحث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لما اسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة وربما أمسكوا، فقلت لهم: ما لكم ربما بنيتم وربما أمسكتم ؟ فقالوا: حتى تجيئنا النفقة، فقلت لهم: وما نفقتكم ؟
فقالوا: قول المؤمن في الدنيا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال: بنينا، وإذا أمسك أمسكنا) ( ).
لبيان أن قول [سُبْحَانَكَ] الوارد في آية البحث طريق إلى دخول الجنة ، وذخيرة لبناء قصر فيها ، وكذا بالنسبة لمطلق الذكر في قوله تعالى في أول قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ] ( ) والذكر الكثير واقية من الإرهاب وقبحه .
ومن إعجاز القرآن عدم وقوفه كثيراً عند خلق الجنة والنار ، إنما أكدت آياته لزوم السعي وبذل الوسع للفوز بالجنة ، ومجاهدة النفس للنجاة من النار وشدة حرها ، ومن إعجازه جعل الجنة والنار حاضرتين في الوجود الذهني للمسلم ، ولهدايته وحرصه على الإستقامة والتنزه عن الظلم.
ومن إعجاز آية البحث مجيؤها بالوقاية والتوقي من نار جهنم ، وبيان الملازمة بين عظيم صنع الله وبين يوم الحساب ، والجنة عنوان جامع للنعيم في الآخرة .
والإجماع على المعاد والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب ثم الجزاء الذي ينحصر بجهتين ، إما إلى الجنة ، وإما الى النار ، مما يملي على المسلمين والناس جميعاً السعي اليومي الجاد لدخول الجنة ، والإمتناع عن مقدمات دخول النار ، ومنها التعدي والظلم وإخافة عامة الناس في الأرض التي هي ملك طلق لله عز وجل.
ولا يرضى الله سبحانه عن إرهاب عباده إنما خلقهم للإمتحان والإختبار والجزاء وهو سبحانه [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
ومن الآيات التي تجمع بين ذكر الجنة والنار قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ.
وهذا الجمع من إعجاز القرآن لما فيه من وجوب النجاة من النار ولهيبها ، وعدم كفاية هذه النجاة والإمتناع عن المعاصي والظلم والإرهاب بل لابد لدخول الجنة من أداء الفرائض العبادية ، والتحلي بالتقوى والصبر ، قال تعالى [وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ).
آيات الناس زاجر عن الإرهاب
لقد ورد لفظ الناس (240) مرة في القرآن ، وورد مكرراً في الآية أعلاه وكل من الآيات التالية :
الأولى : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
لبيان النعم العظيمة على الناس مجتمعين ومتفرقين , مؤمنين وكفاراَ , فليس من حصر لفضل الله عز وجل على أي إنسان على نحو القضية الشخصية , وكذا ما يناله من النعم النوعية العامة , وفيه حجة لإجتناب الإرهاب من وجوه :
الأول : من شكر العبد لله عز وجل على فضله العظيم التنزه عن الإرهاب .
الثاني : مادام الله عز وجل له فضل على كل إنسان فلابد من إجتناب الاضرار بالذي يتغشاه فضل الله عز وجل .
الثالث : الخشية من العقاب الإلهي بسبب التعدي على أهل فضله وإحسانه ومواطن ومحال هذا الفضل , قال تعالى [وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ]( ).
في الإرهاب في هذا الزمان قتل وسفك دماء فجاءت الآية أعلاه إنذاراً تغليظاَ وتذكيراً بأهوال يوم القيامة , وشدة وقوف الذي يقتل فرداَ واحداَ فكأنه قتل الناس جميعاَ , ومن الناس المؤمنون والصالحون .
ثم ذكرت الآية الضد من القتل والإرهاب , وهو قانون إنقاذ فرد واحد ذكراَ أم أنثى إنما هو إنقاذ للناس جميعاَ برهم وفاجرهم , وحسابهم على الله عز وجل , لبيان الإثم على الإرهاب , والأجر والثواب على إعانة الناس , ودفع الأذى والضرر عنهم .
وهل بذل الإنسان الوسع لصرف أحدهم عن الإرهاب من إحياء النفس الذي تذكره الآية ، الجواب نعم , قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
والإرهاب من الظلم ، ونزل القرآن وجاءت السنة النبوية ببيان قبحه , والنهي عنه , ويدل الوجدان والوقائع على أن الإرهاب ظلم للنفس والغير .
وتبين الآية وجوب إجتهاد المسلم والناس جميعاً في التفقه في الدين ، والتنزه عن الظلم الذي هو ظلمات في النشأتين.
الرابعة : قوله تعالى [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
وفيه شاهد على استدامة مبادئ التوحيد في الأرض وتناميها حتى بين مجتمعات الكفر والشرك , وليس من حصر لوجوه وأسباب تثبيت كلمة التوحيد في الأرض وعامة الأمصار , إذ تتوالى نعم الله عز وجل على الناس , وكل نعمة تذكرهم بوجوب عبادة الله عز وجل , ويحتاج الناس إلى مفاهيم التوحيد لإستدامة الرزق بل ودوام الحياة .
والتوحيد أصل الأصول , والتقيد بمفاهيمه إنشغال مبارك وإنصراف عن الإرهاب والظلم والتعدي .
الخامسة : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا]( ).
إبتدأت الآية بإكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص , قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لَكَ] وهل تلحق به الأمة ، الجواب نعم .
ومن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاع الناس جميعاَ مما قال له الله عز وجل ومنه إصلاح أحوالهم , ويدفع عنهم الضرر , وينجيهم من الكيد والمكر والإرهاب .
وفي الآية بشارة الأمن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله عز وجل يصرف عنه أذى المشركين , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
و(عن ابن عباس في قوله [وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس]( ) قال : هي رؤيا عين ، أريها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، وليست برؤيا منام) ( ).
وإخبار الله عز وجل عن إحاطته بالناس شاهد على علمه بكل ما يفعلون وأن مقاليد الأمور بيده سبحانه [وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
ففي الآية بيان للزوم إحتناب الإرهاب وعدم الحاجة إليه , وهل إحاطة الله عز وجل بالناس رحمة أم إحاطة إنتقام ، الجواب هو الأول .
ولا تتعارض معها الإنذارات من الله عز وجل , سواء كانت آيات تنزيل أو فعلية وشواهد حسية , قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا]( ).
و(عن قتادة في قوله : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً }( ) قال : إن الله يخوّف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون ، أو يذكرون ، أو يرجعون . ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال : يا أيها الناس ، إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه) ( ).
السادسة : قوله تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا]( ).
تبين الآية إعجاز القرآن , وتضمنه العلوم المختلفة وما يحتاجه الإنسان من أحكام الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود والبراهين والحجج الجلية , والأدلة الواضحة التي تؤكد وجوب عبادة الناس لله عز وجل ، وذكره لأنباء عالم الآخرة .
وهل في القرآن بيان لقبح الإرهاب , ولزوم عدم اللجوء إليه , الجواب نعم , إذ وردت الآيات بذم الظلم التعدي وسوء عاقبتهما , والإرهاب فرد من كل منهما وهو من مصاديق [مِنْ كُلِّ مَثَلٍ] في الآية أعلاه.
السابعة : قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ]( ).
تبين الآية أن الإيمان سور الموجبة الكلية في العقيدة والقول والعمل , ومنه الصبر على الأذى والتعدي , وعدم مقابلته بالمثل .
لقد تمادى مشركو قريش بالإرهاب والطغيان فأظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصبر مع استمراره بالدعوة إلى الله عز وجل , وعدم الإفتتان بالذين كفروا وأموالهم وما عرضوه عليه , فلابد للمؤمنين من الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصبره ، والإمتناع عن الإرهاب الإبتدائي والإرهاب الذي هو رد وثأر وظن.
الثامنة : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
تبين الآية المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسؤوليات الجسام التي حملها في رسالته , بأن أرسله الله عز وجل لجميع الناس العربي والأعجمي , والأبيض والأسود , والذكر والأنثى , وقيل من معاني كافة للناس أي تكفهم وتزجرهم.
ووردت لغة العموم في تبليغ الرسالة ودعوة الناس للإسلام في آيات منها [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ) ومنها قوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
ومن إعجاز الآية بيان موضوع رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي من وجهين :
الأول : البشارة .
الثاني : الإنذار .
فاستجابت أمة من الناس لدعوته منهم المسلمون وتوجه لهم الخطاب بإقامة الصلاة والفرائض العبادية الأخرى , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مع وجوب الإبتعاد والتنزه عن الإرهاب , فهو ليس من البشارة ولا الإنذار بل هو ضد لهما .
التاسعة : قوله تعالى [لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
تبين الآية بديع صنع الله عز وجل , وتدعو الناس للتدبر في المخلوقات وعظمتها , وأن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس , والذي يقدر على الكبير يقدر على الصغير بالأولوية .
وهل في هذه الآية إحتجاج ودعوة للناس للتدبر عند صناعة الإنسان الآلي , أو منه ولادة الإنسان من البويضة وتلقيحها , الجواب نعم , فالآية تمنع من الإفتتان بالصناعات الهائلة في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة إذ يعجز الناس عن خلق مثل السموات ولكن الله عز وجل , خلقها بالكاف والنون ، وهو لا يتعارض مع خلقها في ستة أيام ، فكل جزء منها بمشيئة الله وأمره في قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وفي التنزيل [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
إن التدبر في خلق السموات والأرض سبيل للخضوع والخشوع لله عز وجل والإنشغال بذكره والخشية منه , ومن يخاف الله عز وجل بالغيب يمتنع عن الظلم والعنف والتعدي والإرهاب , ويدرك أن الله عز وجل قادر على إصلاح المجتمعات , وتنزيه الأرض من الفساد , إنما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار وامتحان , ويبعث التدبر في خلق السموات والأرض على التطامن والمسكنة وإدراك الحاجة إلى رحمة الله عز وجل , والإمتناع عن الإرهاب والبطش بالآخرين .
وتمنع الآية الإنسان من الغرور , والدول من الحروب والإقتتال وتدعو إلى الصلح والمودة بين الناس ، والتذكير بأن السموات والأرض ملك لله عز وجل وهو الذي يمسكها فيلزم شكره تعالى على هذه النعم .
ومن هذا الشكر الإمتناع عن الإضرار بالناس وممتلكاتهم , وعن إخافتهم وبث الرعب والفزع بين الناس بغير حصر , فلا يفرق الإرهاب بين مؤمن وكافر , ولا قريب وبعيد ، فيجب الإمتناع والإحتراز منه .
العاشرة : قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
[لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] أي العدل والإنصاف والأمانة ، ترى ما هي النسبة بين العدل والإرهاب ، الجواب هو التنافي والتضاد ، لذا فان الإرهاب خلاف الغايات الحميدة من بعثة الأنبياء والرسل.
وفيه دعوة لأجيال المسلمين والناس جميعاً للتنزه عن الإرهاب خاصة وأن الأنبياء جاءوا بشرائع مختلفة وما من أمة من الموحدين إلا وتتبع رسولاً ، وليس من رسول إلا وجاء بحرمة الإرهاب والمنع والتبرأ منه .
ومن نعم الله عز وجل الحديد وصناعاته في الحرب والسلم واتخاذه زينة ، قال تعالى [وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ]( ).
وتدعو هذه الآيات المسلم للتنعم والإنتفاع من النعم في الحياة الدنيا ، وترك الناس يتمتعون بها ، ولا يلقي بنفسه بالتهلكة باقدامه على فعل إرهابي يضر الناس أيضاً وينشر الخوف بغير حق.
تبين الآية قانون مصاحبة المعجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , فما من نبي إلا وقد جاء بالمعجزة التي تدل على صدق دعواه النبوة , ليتعقبها قبول الناس ما يأتي به من العبادات والأحكام ، والبشارة والإنذار , وذكرت الآية علة إرسال الرسل .
وهي التقوى وإصلاح المجتمعات ، وامتناع الأفراد عن إرباد النظم العامة ، والأعراف السائدة.
قانون الناس عيال الله( )
من خصائص الخلق حاجتهم المستمرة إلى الله عز وجل , فليس من مخلوق إلا وهو محتاج في وجوده واستدامته ورزقه إلى الله عز وجل , وهو سبحانه ينعم على الناس والخلائق بغير حساب .
ويريد الله عز وجل من الناس الرحمة والرأفة فيما بينهم .
وورد عن (يوسف بن عطية ، حدثنا ثابت ، عن أنس ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق عيال الله ، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)( ).
والحديث ضعيف سنداَ بيوسف بن عطية وهو الصفار ضعفه أبو حاتم والدارقطني , وقال أبو داود : ليس لشئ .
وقال البخاري : منكر الحديث .
وقال ابن حجر العسقلاني : ( هو ضعيف جداَ) ( ).
ولا تخلو هذه النعوت من قسوة.
ومن خصائص الحياة الدنيا جعل الله عز وجل لها دار الرحمة والعفو والإمهال من عند الله عز وجل على الناس جميعاَ .
قال تعالى [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ( ) وليس من إنسان إلا وينال من رحمة الله عز وجل وعفوه وستره كل يوم في فيض متصل , وترغيب بالتوبة والإنابة ، لذا يتعارض الإرهاب مع مضامين وعمومات الآية أعلاه.
ترى ما هي النسبة بين الآية أعلاه وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب هو العموم والخصوص المطلق , إذ كتب الله عز وجل الرحمة على نفسه للخلائق كلها , وقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها , وما رسالته إلا فرع هذه الرحمة .
ومن لم يتبع النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم باجتناب الإرهاب والتنزه عنه فإن الله عز وجل يخيب سعيه , ويبطل كيده , ويجعله يندم على فعله كما أن الله عز وجل يقطع ويستأصل الإرهاب جملةَ وتفصيلاَ , قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
ومن معاني رحمة الله عز وجل بالخلق وأنهم عياله أنه سبحانه لا يرضى بالظلم والجور والتعدي والإضرار بالآخرين , فيأتي البلاء على الظالم ولو بعد حين .
قال تعالى [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] ( ) فيتحقق الثبات في منازل الهدى والإيمان .
والقول الثابت الإقامة على التوحيد والتسليم بالنبوة والمعاد لحين مغادرة الحياة الدنيا ومفارقة الروح الجسد .
و(عن ابن عباس { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( ).
قال : المخاطبة في القبر : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك)( ).
ويثبت الإيمان في الأرض بالتقوى ، والصبر ، والعكوف على أداء الفرائض , وليس بالإضرار بالآخرين وما يبعث النفرة في النفوس من ذات الفعل الإرهابي , ولوم كثير من الناس الطائفة التي ينتمي إليها صاحب هذا الفعل وهي بريئة منه .
فقد ثبت بالحس الوجداني ان وقوع الفعل الإرهابي على نحو القضية الشخصية , وإن صدر من جماعة وتنظيم.
ويدعو حديث الناس عيال الله عز وجل الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى التراحم والتوادد وإلى التحلي بالأخلاق الحميدة , والمعاملة الشرعية الصحيحة مع الناس , بعيداَ عن الظلم والتغابن والتحاسد .
فمن باب الأولوية القطعية التنزه عن الإرهاب وسفك دماء الأبرياء , وسيبقى الإسلام دين الرحمة لعامة الناس , ودين الخشية من الله عز وجل في التعامل مع عام الخلق على إختلاف المذاهب والملل .
لذا جاءت آيات القرآن بالثناء على المحسنين وفعل الإحسان مطلقاَ , قال تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
كما ورد الحديث عن الأسود بن عبد الله بن مسعود قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الخلق عيال الله فاحب الناس إلى الله من احسن إلى عياله) ( ).
(والعيال : جمع عيَّل) ( ).
والعيال : الكَل والثقل ، قال تعالى [وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ] ( ) ،وألف الحافظ أحمد بن حرب النيسابوري توفى سنة 234 هجرية كتاباً اسمه (عيال الله) ارتحل لطلب العلم ، وسمع من سفيان بن عيينة ، وابن أبي فديك وغيرهما .
قال ابن حجر (له مناكير ولم يترك وكان يقال أنه من الأبدال صحبه بن كرام وله ترجمة طويلة في تاريخ نيسابور للحاكم عاش ثمان وخمسين سنة وتوفي سنة أربع وثلاثين ومائتين أخذ عنه بن سفيان راوي صحيح مسلم)( ).
ومن لطف الله حبه للناس ، وهذا الحب فرع الخلق ومنصب الخلافة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وفيه دلالة على لزوم إكرام الإنسان لأخيه الإنسان أو لا أقل الإمتناع عن إيذائه والإضرار به من وجوه :
الأول : كف أذى الفرد الواحد عن الآخر .
الثاني : كف أذى الجماعة عن الفرد .
الثالث : كف أذى الجماعة عن الجماعة .
الرابع : كف أذى الفرد عن الجماعة .
الخامس : كف أذى السلطة عن الفرد والجماعة .
السادس: كف أذى الطائفة وأهل ملة عن الأخرى .
قانون السلام جامع بين آيات نداء الإيمان
قد تقدمت الإشارة إلى هذا القانون في الجزء الثالث والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر المبارك ، وآيات نداء الإيمان هي الآيات التي تبدأ بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إذ تتضمن الإكرام من عند الله للمسلمين من جهات :
الأولى : الشهادة لهم بالهدى والإيمان .
الثانية : تفضل الله عز وجل بتوجيه الأوامر والنواهي إلى المسلمين.
الثالثة : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمته.
الرابعة : بيان قانون وهو التنافي بين الإيمان والإرهاب وإلى يوم القيامة ، بلحاظ تجدد نداء الإيمان كل يوم ، وفيه شاهد بوجود أمة من المؤمنين في كل زمان .
ومن آيات نداء الإيمان التي تدعو إلى السلم ونبذ الإرهاب:
الآية الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) من إعجاز هذه الآية الأمر العام للمسلمين باتخاذ سلاح يومي لمواجهة المسائل الإبتلائية والفتن العامة والخاصة من وجوه :
الأول : سلاح الصبر .
الثاني : سلاة الصلاة .
الثالث : الجمع بين الصبر والصلاة .
والنسبة بين الصبر والصلاة عموم وخصوص مطلق ، فالصبر أعم ، ويدل كل فرد من هذه الوجوه الثلاثة في مصداقه العملي وفي مفهومه على حرمة الإرهاب ، وعدم إمكان نفاذه لفعل المسلم .
ثم بينّ الله قانوناً يتغشى الحياة الدنيا والآخرة ، وهو حب الله للصابرين ، ويتنافى الإرهاب مع الصبر ، مما يدل على أن إختيار طريقه حجب للذات عن الفوز بمراتب حب الله عز وجل للعبد ، وتدعو الآية إلى منع النفس الغضبية والشهوية من التغلب على الإنسان في قوله أو فعله ، ثم جاءت الآية التي بعدها التي تدل على لزوم الرضا بقضاء الله ، والثناء على الله لمقامات الشهداء ، وعدم الثأر والإنتقام منهم بأعمال بعيدة عن الصبر ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ).
لقد سقط عدد من الشهداء في معارك الإسلام ، ففي معركة بدر فقد المسلمون أربعة عشر من الصحابة .
وفي معركة أحد سقط سبعون شهيداً إلى جانب سبعين شهيداً في سرية بئر معونة ، ويقال لهم القراء ، ولم يخرجوا لقتال إنما للتبليغ وغيرها من الوقائع في تعدي وإرهاب قريش وقتلهم للمسلمين غدراً ومكراً وتعدياً .
فيجب أن لا يقابل الإرهاب بمثله .
إنما يتحلى المسلمون بالصبر وذكر الله عز وجل ورجاء الفرج من عنده ، ففي الأمر الألهي بالصبر والصلاة وعد كريم ، وزجر عن الإنتقام والبطش والإرهاب ، وهذا الأمر والزجر من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومن معاني الجمع بين الصبر والصلاة في الآية التحلي بالتقوى في أمور الحياة الدنيا وملازمة العبادات وأداؤها في أوقاتها ، وفيه قهر للإرهاب وتبرء منه ، وقد تقدمت الإشارة إلى قانون ملازمة الصبر للمسلم عصمة من الإرهاب ، وسيأتي بيانه إن شاء الله .
الآية الثانية : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] ( ) ابتدأت هذه الآية بالثناء على المسلمين والمسلمات ثم ذكرت أمرين من عند الله وهما :
الأول : الأكل من الطيبات ، وبيان أنها من رزق الله لهم .
الثاني : الشكر لله عز وجل على هذا الرزق وهو الهداية والإيمان ، مع بيان وجوب شكر العباد لله عز وجل ، ليكون هذا الشكر سبباً لإستدامة النعم .
ترى ما هي النسبة بين الشكر لله والإرهاب ، الجواب هو التضاد والتنافي ، فمن الشكر لله عز وجل التحلي بالتقوى والصلاح ، وإجتناب إيذاء الناس أو الإضرار بهم في أبدانهم وحياتهم ، ومصالحهم العامة والخاصة .
ومن إعجاز القرآن مجئ آية تدل على هذا التضاد في ذات الموضوع ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ] ( )، لتؤكد هذه الآيات مجتمعة حرمة الإرهاب بمفهومه في هذا الزمان ، إذ أن النسبة بين التعدي وبينه عموم وخصوص مطلق ، لقانون الإرهاب تعد على الذات والغير .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم }( ) وقال { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }( ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنَّى يستجاب لذلك) ( ).
(وأخرج ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز . أنه قال يوماً : إني أكلت حمصاً وعدساً فنفخني .
فقال له بعض القوم : إن الله يقول في كتابه { كلوا من طيبات ما رزقناكم }( ) فقال عمر ، هيهات ذهبت به إلى غير مذهبه ، إنما يريد به طيب الكسب ولا يريد به طيب الطعام ) ( ).
ولكن الآية أعم وتشمل الطيبات من الطعام ، وهو الأصل في موضوع الآية ،لبيان لزوم التفات المسلم إلى النعم في الأكل والشرب ، وشكر الله عز وجل عليها ، وعدم الذهاب إلى الإرهاب والتعدي.
الآية الثالثة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( ) لبيان وجوب الإنفاق في سبيل الله ، ومنه الزكاة ، ولا يجوز دفع الردئ منها ، وتشمل الآية الإنفاق والصدقة المستحبة أيضاً من الرزق الحلال ، ومن الطيب من الطعام والحبوب والثمار والتجارات ، وهل يدخل النقد والأوراق النقدية في هذا الزمان في الآية ، الجواب نعم , لما لها من قوة شرائية وإمكان تصرف الفقير بها لقضاء حوائجه.
(عن ابن عباس قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . } الآية .
وأخرج ابن جرير عن عبيدة السلماني قال : سألت علي بن أبي طالب عن قول الله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم . . . ( )الآية .
فقال : نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة ، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء . فقال الله { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }( ) يقول : ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له) ( ).
وهل الأخلاق الحميدة والقول الحسن من الإنفاق المحمود ، الجواب نعم (وقال أسامة بن شَرِيك: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءته الأعراب من كل مكان، فقالوا: يا رسول الله، ما خير ما أعطي الإنسان؟
قال: “حسن الخلق”)( ).
الآية الرابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
من إعجاز القرآن مدرسة [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] وتدعو كل آية منها إلى تعاهد سنن التقوى ، وتحول دون فعل السيئات وإرتكاب الآثام والظلم ، والتعدي والإرهاب .
ومن الإعجاز أن لفظ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] ورد خمس مرات في القرآن ، كله في سورة البقرة التي هي سورة مدنية , وسيأتي البيان والتفصيل .
وقد ثبت في الفلسفة عدم إجتماع الضدين , وبين ما كتب الله عز وجل على المسلمين وبين الإرهاب منافرة ومعاندة وتضاد , والكتابة هنا الوجوب واللزوم , ولم يوجب الله عز وجل على الناس عامة وعلى المسلمين خاصة إلا ما هو خير محض , ونفع للذات والغير في الدارين , ومنه فريضة الصيام .
وقد أوجبها الله عز وجل على الأنبياء السابقين , وعلى الموحدين قبل الإسلام ليكون مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسهيلاَ للمسلمين في أداء الصيام والفرائض الأخرى , وحرباَ على الشرك وعبادة الأوثان .
وفي الصيام تنزه عن الغل والحقد والحسد والكذب والغيبة , وهل في الصيام حرب على النفاق الذي ابتدأ بالظهور في السنة الثانية للهجرة بعد نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر , وهي ذات السنة التي فرض الله عز وجل فيها الصيام على المسلمين والمسلمات , الجواب نعم .
ليكون الصيام من مصاديق جند الله عز وجل , قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) والصيام واقية من الفتن وصارف لها , ولا يعلم ما اندفع ومحي منها بصيام المسلمين والمسلمات وشهر رمضان كأمة متحدة في الفعل العبادي إلا الله عز وجل .
وهل في الصيام حصانة من الإرهاب , الجواب نعم , وهو مانع من الإعانة عليه , وتهيئة مقدماته , فالصيام أمن من الإرهاب والإقدام على سفك الدماء والتفجيرات .
و(عن عبيدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الصيام جنة ما لم يخرقها .
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصيام جنة ما لم يخرقها . قيل وبم يخرقها؟ قال : بكذب أو غيبة)( ).
وإذا كان الكذب أو الغيبة في قضية عين شخصية ينخرم معها قانون وقاية الصيام لصاحبه من النار , فمن باب الأولوية أن الإرهاب مانع من الفوز بثواب الصيام .
وتقدير الآية بخصوص موضوع هذا الجزء على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام عصمة من الإرهاب .
الثاني : كتب عليكم الصيام للتقيد بسنن التقوى .
الثالث : كتب عليكم الصيام للأمن من ضده في القول والفعل والسمع .
الآية الخامسة : من معاني السلام في آيات النداء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، وفي هذا الدخول احتراز من الإرهاب ، وابتعاد عنه .
لقد جعل الله عز وجل الأرض دار خلافة الإنسان وسخّر النعم للناس جميعاً برهم وفاجرهم ، ومن معاني [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، عدم رضا الله عز وجل باخافة وإفزاع الناس بالإضرار البدني والمادي بأفراد منهم بعمل إرهابي مقصود .
ولكن الضرر النفسي يتغشى الناس جميعاً القريب والبعيد ، مما يلزم العصمة من الفعل الإرهابي.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إبتداؤها بالثناء على المسلمين والشهادة لهم من الله عز وجل بالإيمان , وهل تحضر هذه الشهادة في الآخرة , الجواب نعم , ليكون قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من أعظم النعم على المسلمين .
ومن معاني هذه الثناء والشهادة أهلية المسلمين للتقيد بالأمر والنهي الواردين في ذات الآية , وحتى الفرد القليل النادر الذي يخرج عن مضامين هذه الآية يجب أن يعود إلى رشده ويمتنع عن الإضرار بالناس , ومن أقبح ضروب هذا الإضرار الإرهاب والتفجيرات والإغتيالات .
وفي الآية بيان لعدم الوقوف عند النطق بالشهادتين بل لابد من أداء الفرائض العبادية كالصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، والخمس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدخول في السلم والقواعد العامة للأمن والسلم المجتمعي ، وتعاهد حقوق الإنسان ، والتقيد بالقوانين التي تنظم الصلات بين أفراد المجتمع بما يستديم معه الإستقرار .
وعن ابن عباس [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] ( ) يعني الطاعة .
وقال قتادة أيضاً الموادعة( ).
(عن ابن عباس { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } كذا قرأها بالنصب يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإِيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد ولا تدعوا منها شيئاً ، وحسبكم بالإِيمان بالتوراة وما فيها) ( ).
ومن إعجاز الآية تعقب النهي للأمر ، فبعد أن أمر الله في الآية بدخول جميع المسلمين في السلم والتقيد بالضوابط والسنن العامة في التعايش المجتمعي ، والأخوة الإنسانية ، ومفاهيم التراحم نهى الله عز وجل عن إتباع خطوات الشيطان التي هي نقيض السنن الحميدة أعلاه ، ومنها السلم المجتمعي ، وإشاعة معاني الرأفة .
وهل الإرهاب والتفجيرات العشوائية وقتل الأبرياء من خطوات الشيطان ، الجواب نعم ، لبيان إعجاز القرآن في تنزيه المسلمين عن الزلل ، قال تعالى [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
الآية السادسة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( )، والإرهاب حرام كتاباً وسنة ، ومن طاعة الله عز وجل ورسوله الإمتناع عن الإرهاب ، والمسلمون والمسلمات على هذا الإمتناع فهم مطيعون لله ورسوله باجتناب الإرهاب ، ولا عبرة بالقليل النادر الذين يجب أن يبادروا إلى التوبة والإنابة والصدور عن القرآن الذي يحرم في منطوقه ومفهومه الإرهاب .
(وعن أبي إمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : في حجة الوداع : وهو على (الجدعاء) يعني ناقته فدعا في الركاب يتطاول.
قال : ليسمع الناس فقال : ألا تسمعون، يطول بها صوته فقال قائل من طوائف الناس : ما تعهد إلينا يا رسول الله.
فقال : إعبدوا ربكم وصلّوا خَمْسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا أُولي الأمر تدخلوا جنة ربكم)( ).
فطريق الجنة التقوى وأداء الفرائض ، و(عن ابن عباس في قوله { وأولي الأمر منكم } يعني أهل الفقه والدين ، وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم ، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، فأوجب الله طاعتهم على العباد .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله في قوله [وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ]( )، قال : أولي الفقه وأولي الخير)( ).
وينهى الفقهاء وأهل الخير عن الإرهاب.
ومن مفاهيم الآية النهي عن طاعة الذين يأمرون بالإرهاب ويحرضون على التعدي والتخريب حتى وان كان هذا التحريف باسم الدين لمنافاته للدين والكتاب والسنة .
الآية السابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( )، في الآية تأديب وتعليم وإرشاد للمسلمين عندما يخرجون في سفر أو سرية أو تجارة بأن يمتنعوا عن ايذاء الناس والإضرار بالمصالح والأمن العام .
ومن إعجاز هذه الآية بعث السكينة في نفوس الناس على اختلاف مشاربهم من المسلمين في حلهم وترحالهم ولا ينحصر موضوعها بمن يسلم على المسلمين وحرمة إيذائه بل يشمل التبين وعدم التعجل والإضرار بالناس والممتلكات.
والنسبة بين التبين في الآية وبين إجتناب إيذاء من يلقي السلام عموم وخصوص مطلق ، إذ أن التبين أعم.
ومن أظهر أسباب نزول هذه الآية ما ورد عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم الحرث بن ربعي أبو قتادة ، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي .
فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم ، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له ، معه متيع له وقطب من لبن .
فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام ، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه ، فقتله وأخذ بعيره ومتاعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا.
ولم يرد لفظ (فتبينوا) في القرآن إلا ثلاث مرات ، مرتين في هذه الآية ومرة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )، لبيان وجوب التبين وعدم الإقدام على فعل فيه أذى أو ضرر للناس ، سواء كان عاماً أو خاصاً ، وتنهى الآية عن العجلة في الحكم والفعل.
وجاء زمان العولمة ووسائط النقل السريعة جواً وبراً ، ليتغشى السفر أقطار الأرض ويستطيع المسلم زيارة الأمصار كلها سواء كان من أهل المشرق أو المغرب أو يقيم فيه مما يلزمه التحلي بالأخلاق الحميدة والتبين وإجتناب سوء الظن بالناس ، والتحريض على العنف وإشاعة التطرف ولغة التكفير .
وهل يشترط بالسلام في قوله تعالى [أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ]( )، تحية الإسلام وقوله (السلام عليكم) الجواب لا، فيجزي في المقام التحية مطلقاً ، قال تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا]( ).
ومع النهي الوارد في آية البحث فانما تتضمن البشارة والوعد الكريم [فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ] ( ).
ومن معانيه أن الغايات الحميدة والمقاصد السامية لا تُنال بالإرهاب والظلم والتعدي ، إنما تأتي بالتقوى وبفضل من الله عز وجل .
وتذّكر الآية المسلمين بحال الضعف والإستضعاف التي كانوا عليها ليكون من شكرهم لله عز وجل على نعمة العز والأمن التنزه عن الإرهاب وإخافة الناس وإشاعة الكدورة في المجتمعات بسبب سفك الدماء والقتل العشوائي.
وتدعو الآية المسلم أن يكون سفيراً للقرآن والسنة في حال السفر أو الإقامة في البلاد غير الإسلامية وحتى في البلاد الإسلامية أيضاً للتعارض والتضاد بين حسن السمت والإرهاب.
وقد ذكرت آية البحث علة نعت الذي يسلم على المسلمين في السفر [يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا] ( ).
ومع ذم هذا الإبتغاء لسوء مقدمته فان الأصل هو ابتغاء الآخرة ، كما قال تعالى [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ]( ) ، ولا تطلب بالإرهاب وإثارة الفزع والرعب بين عامة الناس .
فان الإرهاب ليس فيه إبتغاء لا للدنيا ولا للآخرة ، ليكون النهي عنه وفق أحكام هذه الآية من باب الأولوية القطعية.
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( )، فهو سبحانه يعلم النوايا والمقاصد ، وعالم الأقوال والأفعال والحجة التي تبعث على الصبر في لزوم ترك الإرهاب.
ومن معاني خاتمة الآية الإنذار من قتل المؤمن وغير المؤمن بغير حق، لذا فانها زجر عن الإرهاب ، ومنع من إشاعته أو لصقه بالإسلام وهو منه برئ بدليل آيات القرآن والسنة النبوية.
وسيأتي مزيد بيان في (قانون السلام جامع بين آيات نداء الإيمان) جزء لاحق إن شاء الله .
قانون قتل الأولاد من الإرهاب
يمكن تتبع الموارد التي نزل القرآن بالنهي عن القتل فيها (لبيان قانون دلالة التنزيل على حرمة إشاعة القتل) ومنها النهي عن قتل الأولاد ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا]( ).
لبيان قبح وأد البنات سواء خشية السبي واحتمال حصول الفقر المدقع لأن الله عز وجل هو الرزاق ذو القوة المتين ، كما نزل قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( ).
و(عن ابن عباس [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ] قال : خشية الفقر)( ).
وورد مثله عن قتادة.
والمختار أن النسبة بين الآيتين أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فقوله تعالى أعلاه ، أي حدوث الولادة أيام الفقر والقحط والفاقة وحبس السماء مطرها ، وقلة العشب.
والفقر الخاص عند بعض الأسر بالعجز عن توفير قوت الزوجين اليومي وحدوث غزوات واقتتال بين القبائل ، ورجحان كفة الغزاة وخشية وقوع البنات في السبي وما يلحقه من الذل ، ولم يعلموا أن في الوأد ذل الدنيا والآخرة.
أما قوله تعالى [خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ] فهو أعم ويشمل احتمال ورجحان حدوث الفقر والفاقة ومعارك وغزو بين القبائل لوجود ثأر ونحوه وحدوث فاقة وفقر .
ووردت الآيتان بصيغة النهي العام للمسلمين وعامة الناس ، وبالمنع من قتل الأولاد مطلقاً من الذكور والإناث لبيان أن موضوع الآيتين أعم من وأد البنات لأن القرآن لم ينزل لزمان دون زمان ، أو قوم وأمة دون غيرها.
وتشمل الآيتان النهي عن قتل الأولاد ذكوراً وإناثاً ، ومنه وأد البنات الذي وردت حرمته والوعيد عليه بقوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
ولا تنحصر حرمة قتل الأولاد بأشخاصهم وكونهم صبيان أبرياء انما يشمل دخولهم الإسلام مع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد وصلاحهم ، وانتفاع الآباء والأمهات منهم كما في قوله تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وهل اقترنت حرمة الوأد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن البركات نزلت معه أم أنه عام وسابق للبعثة ولاحق لها ، الجواب هو الثاني.
ومن إعجاز نظم الآيات مجئ النهي عن قتل النفس التي حرم الله بعد آية [خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ]( )[ مِنْ إِمْلاَقٍ]( ).
لبيان قانون وهو وقف القتل وسفك الدماء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء داخل الأسرة الواحدة أو مع الناس جميعاً ليدخل بينها حرمة قتل ذوي القربى أو عقوق الوالدين فقد قرن الله عز وجل الإحسان إليهما بطاعته ، قال تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ( ).
وهل قيام الابن بالإرهاب وسفك الدماء يتعارض مع الإحسان للوالدين ، الجواب نعم ، فهو إيذاء لهما وعقوق بها كانا على قيد الحياة أو لا .
وقد ورد النهي بلفظ (لا تقتلوا) في القرآن في الآيات :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( )، ترى ما هي النسبة بين قتل الأنفس والأولاد ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فتدخل حرمة الوأد في دلالات الآية أعلاه .
الثانية : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]( ).
الثالثة والرابعة : قوله تعالى[قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ]( ).
السادسة :قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا]( ).
السابعة : قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا]( ) ، وتدل هذه الآية على حرمة الإرهاب والتفجيرات ، وقصر حبلها ، وتمكن وسلطان أولياء الدم فيها ، وسيأتي البيان بجزء لاحق إن شاء الله .
قانون هدم الأصنام حرب على الإرهاب
قد تقدمت الإشارة إلى هذا القانون في الجزء الواحد والعشرون بعد المائتين من هذا التفسير المبارك .
لقد كان البيت الحرام ولم تكن هناك أصنام , وتعاهد العرب البيت الحرام بالحج والتطهير وذكر الله عز وجل إذ ورث إسماعيل وذريته دين التوحيد عن إبراهيم عليهما السلام .
ومن الإعجاز أن إسماعيل عليه السلام كان نبياَ رسولاَ أيضاَ , لتثبيت سنن التوحيد في الأرض وبيان أحكام الحلال والحرام حتى بعد إنتقال إبراهيم عليه السلام إلى الرفيق الأعلى .
وقد وردت نصوص نبوية متعددة في تعيين وذم الذي أدخل عبادة الأوثان في مكة وسوء عاقبته وخلوده في المنام .
و(عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أول من سيب السوائب ، وعبد الأصنام ، أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار)( ).
و(عن أبي سعيد الخدري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر ، فاستأخر عن قبلته ، وأعرض بوجهه ، وتعوَّذ بالله ، ثم دنا من قبلته حتى رأيناه يتناول بيده ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا : يا نبي الله ، لقد صنعت اليوم في صلاتك شيئاً ما كنت تصنعه.
قال : نعم ، عرضت عليَّ في مقامي هذا الجنة والنار ، فرأيت في النار ما لا يعلمه إلا الله ، ورأيت فيها الحميرية صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ، ولم تسقها ، ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض حتى ماتت في رباطها ، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ، وهو الذي سيَّب السوائب ، وبحر البحيرة ، ونصب الأوثان وغيَّر دين إسماعيل ، ورأيت فيها عمران الغفاري معه محجنه الذي كان يسرق به الحاج .
قال : وسمى لي الرابع فنسيته . ورأيت الجنة فلم أر مثل ما فيها ، فتناولت منها قطفاً لأريكموه فحيل بيني وبينه ، فقال رجل من القوم : كيف تكون الحبة منه؟
قال : كأعظم دلو فرته أمك قط . قال محمد بن إسحاق : فسألت عن الرابع فقال : هو صاحب ثنيتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نزعهما) ( ).
ثم جاءت كل قبيلة بصنم خاص نصبته في البيت الحرام , يجتمعون عنده , ويقدسونه , وكأنهم يحجون إليه .
ونزل القرآن بذمهم وإنذارهم , وإخبارهم عن سوء عاقبة الأمم التي عبدت الأوثان , قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ] ( ).
وفيه وعيد لكفار قريش وأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأتي على أوثانهم على نحو القطع والحتم , هو الذي أدركته قريش بخبرتها وشواهد التنزيل , فسارعت في سباق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنعه من الإستمرار بالدعوة مع الوعيد والتهديد , وهو من الإرهاب الظاهر والقبيح في موضوعه وغاياته .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن تكون الأرض وما عليها ملكاَ خالصاَ له سبحانه , ولابد من عبادته فيها , فدبّ الشرك إلى بيته الحرام , قال تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود]( ).
ويتنافى وجود الأصنام في البيت الحرام مع الطهارة موضوعاَ , ثم تعقبتها آية الإنذار إلى قريش بقوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ]( ).
ومن الظلم الإرهاب فيأخذ الله عز وجل بالبلاء والعذاب الجماعات والأفراد الذين يمتهنون الإرهاب وتخويف عامة الناس , ويدخلون الرعب إلى البيوت والمنتديات , ومن أشهر أنواع الظلم عبادة الأوثان ونصبها في البيت الحرام .
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع (القرى) للإشارة إلى مكة وما حولها لإختيار أهل مكة والقرى والمدن القريبة منها عبادة الأوثان , ليكون من معاني قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ولم يكن عمرو بن لحيّ الخزاعي الذي أدخل عبادة الأوثان في مكة من عامة الناس بل كان سيد مكة يومئذ , وذا شأن وجاه , ولم تزح عبادة الأوثان عبادة الله عز وجل في مكة وما حولها , فكان هناك أناس موحدون على حنيفية إبراهيم عليه السلام , كما كان اليهود والنصارى يدخلون مكة للتجارة ونحوها .
وهل كان هؤلاء الأفراد يبينون لقريش قبح عبادة الأوثان , المختار نعم , وكانوا ينقلون البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة , ولابد أن تقضي هذه البعثة على عبادة الأوثان لعدم إجتماع الضدين , ولغلبة الحق على الباطل , والتوحيد على الوثنية .
وصحيح أن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم لم يهدم الأصنام في بدايات البعثة وقبل الهجرة إلا أنه والقرآن كان يدعو إلى هدمها , ويبين ضررها , وخلود الذي يعبدها في النار , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
وكان هذا البيان من أسباب دخول طائفة من الناس الإسلام , فصحيح أن قريشاَ حاربوا النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن دعوته وجدت آذاناَ صاغية , وأناساَ سخّروا عقولهم للتدبر في آيات القرآن , وحقيقة بطلان الأصنام .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب نعم .
فمن مصاديق الآية أعلاه بعثة النفرة في نفوس الناس من عبادرة الأوثان , وهي عرض زائل حتى إذا ما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة في عام الفتح كان أكثر أهلها مسلمين .
قانون قبح الإستدراج إلى الإرهاب
الأصل هو التنافي بين الفطرة الإنسانية والإرهاب ، فيمتلك كل انسان موانع من الإرهاب واللجوء إليه وهذه الموانع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ولكن كل فرد منها كاف لمعرفة قبح الإرهاب والأضرار المترتبة عليه ، وكيفية الإحتراز منه ، وفي التنزيل [فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
ويقال (استدرجه أي خدعه وأدناه) ( ).
و(يقال: امتنع فلان من كذا وكذا حتى أتاه فلان فاستدرجه أي خدعه حتى حمله على أن دَرَجَ في ذلك)( ).
لبيان قبح الإستدراج إلى فعل السيئات والمنكر والقبيح مطلقاً ومنه الإرهاب ، فلا يصح إغواء الشاب بالإنجرار إلى الإرهاب وتزيين صورته له ، وحمله على الإتيان بالفعل الإرهابي ، ولابد للأنظمة والمؤسسات الإصلاحية والثقافية والتربوية الإجتهاد بتأديب الشباب بالنصح والإرشاد والفقاهة والتعليم وفرص العمل للعزوف عن الإرهاب ، وإجتناب الغواية والغاوين به.
ويتبرأ الشيطان من أتباعه كما ورد في التنزيل [وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
وهل المراد من الشيطان خصوص ابليس ، الجواب لا ، قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
ويحرم استدراج الشاب إلى العمل الإرهابي بمفهومه في هذا الزمان لأنه ضرر محض عليه وعلى الناس ، وفيه مجلبة للشر على العائلة وأهل الملة .
ومن الفطرة نفرة الإنسان من صيرورته سبباً في نشر الرعب بين الناس وسفك الدماء من غير أن يحقق أي غاية يسعى إليها.
ولقد سعى كفار قريش لإخافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وقتل طائفة منهم وأسر أخرى فأخزاهم الله عز وجل وقذف في قلوبهم الرعب فصاروا عاجزين عن بلوغ مقاصدهم الخبيثة ، وجاء هذا القذف سريعاً ودفعة واحدة بدليل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وهل يعود الإرهاب بالرعب على صاحبه ، الجواب نعم ، لمخالفته العقل والوجدان والنظام العام ، قال تعالى [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
لقد جاء الأمر بقول الأحسن وهو أفضل من الكلام الحسن ، ليدل باللأولوية القطعية على لزوم إجتناب إرهاب وإخافة الناس بالقول ، وأشد منه ما كان الإرهاب بالفعل والتعدي والظلم العام والخاص .
ومن خصائص الإرهاب في زمن العولمة ترتب الأذى العام على الفعل الإرهابي المحدود في مكانه وزمانه ، وحشد الناس كافة ضد فاعله والجهة التي ينتمي إليها ، مع إدراكهم لبراءتها من فعله.
لذا فمن إعجاز القرآن إعلانه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة نهيه عن الإرهاب ، وحرمة الصاقه بأهل الإيمان ، مع بيانه للتضاد بينه وبين الإرهاب ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
لقد أسس القرآن لمعالم الإيمان في الأرض وهي في تضاد مع إرهاب كفار قريش ، وإخافتهم الناس وسعيهم في استدراج القبائل لإعانتهم في حربهم ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهو استدراج للإرهاب فلم يلاقوا إلا الخزي والخسارة لبيان موعظة حسية للأجيال وهي سوء عاقبة الإرهاب لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
قانون التضاد بين القصاص والإرهاب
من معاني الرحمة العامة في القرآن نهي النبي عن القتل مطلقاً إلا عند الضرورة ، وهذه الضرورة مقيدة ومحددة كما في حال الدفاع عند هجوم وغزو المشركين للمدينة ، وليس القتل على نحو التعيين ، مع النهي عن التعدي.
ومن ابشع ضروب التعدي القتل والتفجيرات ، إذ حض الله على الصبر ، واللجوء إلى الدفاع عند الحاجة ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
كما ورد بخصوص القصاص من الذي يقتل غيره عمداً وهو من التعدي الذي تذكره الآية أعلاه ، فقال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها ذكرت القصاص وليس تنفيذه على نحو القطع ، لوجود مرتبة بين الحكم بالقصاص وبين تنفيذه وقد يقع فيه صلح أو تخفيف أو قبول دية أو عفو كما في قوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
لبيان القتل بسبب الإرهاب والتفجيرات ليس من شرائع الإسلام ، وقد نزل القرآن بالنهي عنه .
قانون آيات (قل) دليل على التضاد بين القرآن والإرهاب
من حب الله عز وجل للناس ، وتجدد مفاهيم خلافتهم في الأرض نزول القرآن وكثرة ما فيه من الأوامر الإلهية الموجهة إلى النبي محمد وأكثرها بصيغة (قل) أي أنها لا تنحصر بهذا اللفظ مثل [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
وتتعدد الأوامر في الآية أعلاه من وجوه :
الأول : فادع أي ادع إلى التوحيد والإسلام وعبادة الله وحده ، ويدل عليه قوله تعالى [َادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثاني : استقم .
الثالث : كما أمرت ، لبيان أن النبي محمداً عبد لله عز وجل أكرمه الله عز وجل بالنبوة والوحي ، وأنه مأمور بتبليغ الرسالة كاملة ، ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الرابع : قل أمرني الله لا اتبع أهواءهم.
الخامس : قل آمنت .
والنسبة بين لفظ أُمرت الأول والثاني في الآية أعلاه العموم والخصوص المطلق ، فأمرت الأول شامل للعبادات والمعاملات والأحكام ، أما الثاني فيختص بالحكم بالعدل بين الناس مع إقترانه بالتذكير بوجوب عبادة الله عز وجل وحده لبيان المائز في حكم وفصل النبي وعلماء الشريعة بين الناس ، مع أنهم مأمورون بالحكم بالعدل مع تذكير أطراف الخصومة والنزاع بسنن التوحيد ، وما يريده الله عز وجل من العباد وتلتقي طاعة الله واجتناب معصيته بالتنزه عن الإرهاب.
السادس : الإيمان بنزول القرآن وكل كتاب سماوي من عند الله.
وفي خطاب للمسلمين والمسلمات كافة ، قال تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
السابع : قل امرت لا عدل بين الناس .
الثامن : قل الله ربنا وربكم .
التاسع : قل لنا اعمالنا ولكم أعمالكم.
العاشر : قل لاحجة ولا خصومة بيننا وبينكم .
الحادي عشر : قل الله يجمع بيننا .
الثاني عشر : قل إلى الله المصير .
ويتضمن كل فرد من هذه الأوامر الدعوة إلى الصلاح ونبذ الفساد والعنف والإضرار العام بالناس على اختلاف عقائدهم ودينهم.
كما وردت أوامر من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغ متعددة منها مثلا [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ]( ).
وقد يأتي أمر جامع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
لقد ورد لفظ (قل) في القرآن (332) مرة كلها موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أربعة منها.
وجاء مقترنا بالواو (وقل) إحدى وعشرين مرة ، ومقترناً بالفاء (فقل) ثماني عشرة مرة .
وقد تعين الجهة التي يتوجه لها قول النبي مثل [قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ]( ).
وقد يأتي القول قانوناً عاماً موجهاً للناس جميعاً منه [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( ).
وقد ورد بهذا المعنى لفظ (قل) ست مرات في الآية أعلاه والآيات الأخيرة من سورة الملك.
وقد يأتي لفظ (قل) مطلقاً من غير تعيين جهة يتوجه إليها مثل [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]( ).
وكثير من لفظ (قل) موجه إلى الكفار لاقامة الحجة عليهم قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.
ومن خصائص لفظ (قل) دلالته على تقديم لغة الإحتجاج وأنها الأحسن والأنفع في الصلاح ، ودفع الفساد [قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
ولقد كان إبراهيم عليه السلام رجل سلم ، تحمل أشد الأذى بالصبر ، واختار الهجرة المتعددة للإعراض عن القوم الكافرين من غير أن يحاربهم أو ينتقم منهم .
وتتضمن الآية أعلاه الإقتداء بسيرته ، مع التذكير بنجاته من القوم الظالمين ، وجعل النبوة في ذريته ، فليس في ترك الإرهاب والظلم إلا البركة والصلاح والنفع القريب والذي يأتي في قادم الأيام.
ويخبر القرآن بأن كل ما في السموات والأرض هو لله عز وجل وأنه سبحانه هو الرحيم بالخلائق مما يلزم الإمتناع عن الإضرار بالناس وإشاعة الخوف في ملك الله عز وجل وأن الحساب والجزاء يوم القيامة.
قال تعالى [قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( )، وتؤكد آيات القرآن على اتباع ملة إبراهيم ، ومنها الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعلان إتباعه لها ، قال تعالى [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
لبيان التباين بين كل من الصراط المستقيم والدين القيم وملة إبراهيم والحنيفية من جهة والإرهاب من جهة أخرى ، خاصة وأن ملة إبراهيم جلية ومعروفة عند الأمم وهي اتخاذه التوحيد والصبر منهاجاً وعدم قيامه برد الإرهاب والبطش بمثله ، لم يقتل ولم يسفك دماً واختار الهجرة والإعراض عن القوم الكافرين وثباته على مبادئ التوحيد.
وجاءت الآيات بمواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الأذى الذي يلاقون من المشركين [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( )، فلا تدعو هذه الآية إلى تعريض الذات والغير إلى التهلكة إنما تتضمن الإخبار بأن ما يأتي قهراً أو انطباقاً بسبب بطش المشركين فانه مما كتبه الله عز وجل على المؤمنين وفيه الأجر والثواب.
فالآية أعلاه من آيات الصبر والرضا بقضاء الله وقدره ، قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
لبيان حرمة الإرهاب حتى مع المشركين وقيل نُسخت هذه الآية ، والأصل عدم النسخ ، لأن احتمال الأذى والصبر عليه مندوب.
إنما يعتني المؤمن بدينه واصلاح نفسه لأمور الدين والدنيا ويقابل الناس بالإحسان والصفح والعفو عند تلقي الأذى.
لتكون هذه المقابلة دعوة للهداية والإيمان ، قال تعالى [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( )، وليس بعد صبر المؤمنين إلا الأجر والثواب والفوز ، وقال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، وفيه حضّ للمؤمنين على الغبطة والسعادة لما عندهم من النعم العظيمة وترك إيذاء الغير .
وفي الآية أعلاه ورد عن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ] قال : فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلهم من أهله)( ).
لبيان لزوم الصدور عن القرآن الذي يدعو إلى السلم المجتمعي ، وينهى عن الإرهاب ويبين أضراره العامة.
وهل تدل الآية على لزوم تعاهد العمل بالقرآن بالإمتناع عن إثارة واستفزاز الدول الكبرى ونفرة شعوب عديدة ، الجواب نعم ، وهو من أحكام الصبر والتقية مجتمعين ومتفرقين .
وتنزه الآية أعلاه المسلمين من الحسد في أمور الدنيا وجمع الأموال ، وعلو الشأن في الدولة والمجتمع لبيان أن كنز الإيمان هو ثروة ونعمة عظمى تمنع المسلمين من الإغترار بالغير أو الإضرار به.
و(عن ابن عباس [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ] قال : النبي صلى الله عليه وسلم [وَبِرَحْمَتِهِ] قال : علي بن أبي طالب.
وأخرج أبو القاسم بن بشران في أماليه عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من هداه الله للإِسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، من عرض الدنيا من الأموال)( ).
ومع كثرة الآيات التي ورد فيها الأمر إلى النبي محمد (قل) فليس فيها ما يستقرأ معه جواز الإرهاب ، أو الحض عليه أو الإخبار عن كونه أمراً مباحاً ، إنما هو أمر حرام كتاباً وسنة.
وستبقى آيات (قل) منار هدى للمسلمين والمسلمات وطريق صلاح واستقامة ، ومادة لإقتباس الدروس والمواعظ منها .
وفي سورة يوسف وردت خطابات متعددة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، لبيان التضاد بين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لله عز وجل وبين العمل الإرهابي والتفجيرات وسفك الدماء .
وتدل الآية أعلاه وآيات أخرى من سورة يوسف على عدم اختصاص هذه السورة بقصة يوسف عليه السلام ، وعلى قانون حضور رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أي قصة من قصص الأنبياء وهو من مصاديق تفضيله .
وهل هذا التفضيل دعوة للمسلمين للشكر لله ، الجواب نعم ، ومن وجوه الشكر الصبر والخلق الحميد وإشاعة الأمن في المجتمعات كافة ، وبعث الطمأنينة من المؤمن لتنزهه عن الغدر.
لقد تقدمت الإشارة في الجزء الثلاثين بعد المائتين إلى هذا القانون بعنوان الأمر (قل) زاجر عن الإرهاب) لما فيه من تثبيت معاني الرحمة والتراحم في الأرض ، إذ أن الأمر (قل) فرع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وبيان مصاديق هذه الرحمة في أمور الدين والدنيا ولغة الإحتجاج التي هي ضد للإرهاب إذ أن أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على الذين كفروا في آيات كثيرة شاهد على لزوم الإستغناء عن الإرهاب ، وحرمة الذهاب إليه ، وبيان قانون وهو خلو الإرهاب والظلم من النفع.
إنما نزلت الأوامر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليأمر المسلمين بأداء الفرائض والإنفاق في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استعداداً لليوم الآخر ، قال تعالى [قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ]( )، وليس في الآية أعلاه إلا ما هو ضد للإرهاب ، ونفرة منه.
وقد تأتي الأوامر الإلهية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير لفظ (قل) ولكنها تفيد ذات المعنى والدلالة وكأنه من الأشباه والنظائر كما في قوله تعالى [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ * وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ]( ).
والنسبة بين لفظ (عبادي) في الآية أعلاه والآية المتقدمة من سورة إبراهيم عموم وخصوص مطلق ، فالآية أعلاه هي الأعم لعدم التقييد بصفة الإيمان ، فتشمل الناس جميعاً ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر على الناس رجاء التوبة والإنابة ، ولأن الله عز وجل هو الغفور وهو الرحيم.
وقد يأتي الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (بشّر) أو (أنذر) أو (يبشر) كما في قوله تعالى [وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( )، لبيان التنافي بين طريق الفوز بالأجر والثواب وبين الإرهاب والتعدي والظلم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين اصلاح المسلمين للأمن ووراثة الأرض بالتقوى والصبر وحسن السمت مع الناس جميعاً.
قانون الملازمة بين الإرهاب والخوف
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار السلم والأمن والإحسان المتبادل بين الناس بما يبعث السكينة في النفوس فتكون مقدمة لذكر الله والتدبر في الخلائق ، واتخاذ هذا التدبر وسيلة لتثبيت الإيمان في النفوس ، قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار]( ).
ولكن جماعة قليلة أو طائفة تختار أسباب الفزع وبث الرعب بين الناس وايقاع قتلى وجرحى ، وإحداث تخريب وفساد ، فيضج الناس منهم ، ويستهجنون هذا الفعل ، ثم لا يقفون عند حد الإستهجان لتحدث المواجهة مع الإرهاب بالرجال والسلاح والمال ثم المحاكم والسجون ، وما فيها من الذل والقهر والشماتة والخسارة من الطرفين بالأرواح ، وضياع الأموال العامة بالإنفاق الكثير على أمر طارئ على أنظمة وحياة الشعوب مع جامع مشترك بين الطرفين وعامة الناس وهو الخوف .
لبيان الضرر الفادح للإرهاب بدبيب الخوف إلى قلب القريب والبعيد ، والصديق والعدو ، وذات الذي يتصف بالفعل الإرهابي ، وتكثر الإشاعات التي تبعث على زيادة الخوف والإنشغال بالإرهاب وآثاره وأضراره ، إنما يريد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تبقى دار الألفة والغبطة والسعادة والهدى .
لذا ترى البشارة مقدمة على الإنذار في دعوة الأنبياء ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، فاشترطت الآية أعلاه للنجاة في النشأتين أمرين :
الأول : الإيمان .
الثاني : الإصلاح.
والإرهاب تخريب وهو ضد للإصلاح والأمان العام والخاص ، مما يدل على أن الذي يتخذ الإرهاب منهاجاً وطريقاً يحجب عن نفسه نعمة الأمن ، ويصاب بالخوف والندامة والحزن في الدنيا والآخرة.
وهل تدل الآية أعلاه على قانون هذا البحث وهو الملازمة بين الخوف والإرهاب حتى في عالم الآخرة ، الجواب نعم.
مما يستلزم من الشباب المسلم وغيرهم من أهل الكتاب وأهل الملل كافة الإبتعاد عن الإرهاب فكراً وعقيدةً وقولاً لأضراره الخاصة والعامة ، وعدم ترتب النفع عليه سواء بالواقع المنظور أو البعيد ، وفي الدنيا أو الآخرة ، إنما هو مجلبة للخوف والفزع والذل والإستضعاف ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
ومن الشكر لله عز وجل على نعمة الأمن والطمأنينة للذات والأسرة والناس جميعاً ترك الإرهاب .
وقيل نزلت الآية أعلاه بأهل مكة لعنادهم وكفرهم وجحودهم بالنبوة ، وموضوعها أعم بما هو سابق للإسلام وما هو لاحق لبعثة النبي محمد باستعارة الاذاقة ووصف اللباس كناية عن السوء والأذى والعقوبة التي تلحقهم مما يلزم التنزه عن الإرهاب ، وتأديب الأبناء والناشئة باجتنابه والإبتعاد عنه فهو ضرر محض ، وفي التنزيل [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
مبارزة (بدر) قهر للإرهاب
لقد وقعت معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية ، وهي أول معركة تقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين مشركي قريش من جهة أخرى .
وتدل آيات القرآن والسنة النبوية والشواهد التأريخية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد القتال ولم يطلب لمعان السيوف وسفك الدماء ، لبيان تحقق مصداق لإحتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل عن جعل الإنسان خليفة في الأرض ورد الله عز وجل عليهم كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فاظهر المشركون الفساد في الأرض بعبادة الأوثان وإشاعة المعاصي والرذائل ثم سعوا في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلوه أحد خياراتهم ، كما ورد في التنزيل [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وليس من فعل أشد جرماً من قتل النبي الذي إختاره الله عز وجل من بين البشر لتبليغ رسالته وأنزل عليه الوحي وكانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة طلب المشركين قتله في فراشه رحمة بالناس وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
إذ تدخل نجاته من القتل في مصاديق هذه الرحمة ، وهل كان فيها رحمة بالكفار ، الجواب نعم .
فلم يبوءوا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ، ولأن الهجرة طريق ومناسبة لهدايتهم .
وقد دخل شطر منهم الإسلام ، ومنهم بعض رؤساء الشرك ممن كانوا يقودون الجيوش لمحاربته ، إلا من مات أو قتل على الكفر ، ومنهم المشركون الذين قتلوا في معركة بدر.
لقد خرج نحو ألف من أهل مكة مدججين بالسلام بذريعة إنقاذ قافلة أبي سفيان ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعترضون سبيلها ، والتي تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع قادمة من الشام.
وهل من الصدفة والإتفاق أن أغلب أهل مكة لهم أموال وتجارات في هذه القافلة خاصة ، وأنها تصل مكة في موعد قريب من موسم الحج الذي تفد فيه العرب من كل صوب إلى مكة ، وتعمر فيها أسواقها الموسمية مثل سوق عكاظ وذي المجنة وذي المجاز إلى جانب أسواقها الدائمية.
المختار لا ، وقد يكون نوع مكيدة وخطة خبيثة لبعث الناس على النفير عندما يصلهم إخبار أبي سفيان رئيس القافلة بأنها تتعرض لهجوم وشيك خاصة وأن من رجالات القافلة عمرو بن العاص ذي الكيد والمكر الذي رأس وفداً من قريش إلى الحبشة فسألوا النجاشي تسليم أهل البيت والصحابة الذين هاجروا إليها.
ولكن النجاشي استدعى الصحابة وسمع منهم آيات من سورة مريم وسور أخرى فامتنع عن تسليمهم .
وعن عبد الله بن مسعود (قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن ثمانون رجلاً ومعنا جعفر بن أبي طالب ، وبعثت قريش عمارة ، وعمرو بن العاص ، ومعهما هدية إلى النجاشي .
فلما دخلا عليه سجدا له وبعثا إليه بالهدية ، وقالا : إن ناساً من قومنا رغبوا عن ديننا وقد نزلوا أرضك .
فبعث إليهم حتى دخلوا عليه فلم يسجدوا له .
فقالوا : ما لكم لم تسجدوا للملك ، فقال جعفر : إن الله بعث إلينا نبيه فأمرنا أن لا نسجد إلا لله .
فقال عمرو بن العاص : إنهم يخالفونك في عيسى وأمه . قال : فما يقولون في عيسى وأمه .
قالوا : نقول كما قال الله : هو روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسسها بشر.
فتناول النجاشي عوداً فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذه .
مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده ، فأنا أشهد أنه نبي ، ولوددت أني عنده فأحمل نعليه ، فانزلوا حيث شئتم من أرضي)( ).
وفي قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( )، ورد عن ابن عباس أنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبي طالب، وابن مسعود وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم)( ).
وساق قريباً من الخبر أعلاه ، وموضوع الآية أعم وهو متجدد وشاهد على حرمة الإرهاب والتفجيرات في بلاد النصارى.
وهل من صلة بين خيبة قريش وعجزها عن إعادة الصحابة المهاجرين إلى الحبشة ، وبين معركة بدر وإصرارهم على القتال فيها.
المختار نعم ، فقد أدركت قريش قانون اتساع الإسلام كل أسبوع ، وكل شهر ، ودخول الناس فيها طوعاً وأنه يزحف على سلطانهم في مكة ، ويسقط هيبتهم وشأنهم بين القبائل وعند ملك الروم والحبشة وفارس ما داموا مقيمين على الكفر والضلالة ، ويزجرهم عن المعاصي ، ويمنعهم من الزنا والربا.
وحينما وصل رسول أبي سفيان وهو ضمضم بن عمرو يندب قريشاً خرجوا سراعاً لنجدة قافلته خاصة وأنه لم يكن مع القافلة سوى ثلاثين أو أربعين رجلاً.
ثم علموا في الطريق بوساطة رسول من أبي سفيان بسلامة القافلة وفيه دعوة لقريش للرجوع والإمتناع عن مواصلة السير ، وفيه حجة عليهم وزجر عن معركة بدر ، فهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
نعم رجع إلى مكة نفر وجماعة من وسط الطريق إلى بدر لثبوت سلامة القافلة ، وانتفاء سبب الإستمرار بالمسير ، وهل اكتشفوا أن المسير ورسالة أبي سفيان لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكر وأنه ليس من صحة لخبر تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الجواب لابد من دليل أو أمارة أو قرينة ، نعم لا يدل قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
على نية المسلمين الإستحواذ على القافلة ، لأن الود كيفية نفسانية.
مقارنة بين كسر إبراهيم الإصنام وإزاحة النبي محمد (ص) لها من الأرض
لقد وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثمائة وستين صنماَ , فقام بتكسيرها وتهشيمها (قال ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً ، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول [جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون ، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد)( ).
ومن معاني الحق في الآية , القرآن والإسلام , لبيان أن حبل الضلالة والفتنة قصير , وأن فتح مكة غلق لباب جامع للضلالة والإرهاب , ليكون من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قضاؤه على عبادة الأوثان إلى يوم القيامة .
لقد قام إبراهيم عليه السلام بتكسير الأصنام في بلدته مدينة نمرود وقيل تقع في العراق على ضفاف دجلة جنوب الموصل بثلاثين كيلو متر , إذ قال [وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] ( ).
وأرادوا قتله بأبشع أنواع القتل بالحرق بالنار واشترك أهل المدينة جميعاَ بجمع الحطب لهذه النار أي أن تكسيره للأصنام محدود مكاناَ وزماناَ , وتناجى المشركون لصناعة غيرها , لبيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام من وجوه :
الأول : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته.
الثاني : نزول آيات القرآن التي تبين القبح الذاتي للأصنام ، وتذم عبادتها ، والتقرب والتزلف إليها ، وبطلان إتخاذها وسائط إلى الله ، قال تعالى [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]( ).
الثالث : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم السرايا إلى الأوثان التي حول الكعبة فكسرت كلها دفعة واحدة إلى جانب الأصنام التي ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكسرها.
الرابع : نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (بِمَكّةَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدَعْ فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ)( )، والقيت مهشمة في الطرقات.
الخامس : لقد قضى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأصنام في عموم جزيرة العرب ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : إنحسار وإنقطاع عبادة الأصنام في الأرض إلى يوم القيامة ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرايا من أصحابه لهدم أصنام معينة في أنحاء الجزيرة ، ولو رأوا في طريقهم صنماً آخر فهل يكسرونه ، الجواب نعم .
الثامن : تفقه الناس ببطلان عبادة الأصنام أو إتخاذها وسائط تقربهم إلى الله عز وجل .
التاسع : تكسير الأصنام كلها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
العاشر : محو عبادة الأوثان إزاحة للإرهاب.
الحادي عشر : تكسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام المنصوبة في البيت الحرام والتي تكون فتنة لأهلها والوافدين إليها من المدن والقرى ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثاني عشر : كثرة الأصنام التي كسّرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي يوم واحد كسرت ثلاثمائة وستين صنماً في البيت الحرام وحده.
الثالث عشر : اشتراك الصحابة في كسر الأصنام ، فقد قام إبراهيم عليه السلام بكسر الأصنام بمفرده.
الرابع عشر : تكسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأصنام علانية ، بينما قام إبراهيم بكسرها خفية وفي غيبتهم ، إذ كان لهم عيد يجتمعون فيه خارج المدينة.
وقالوا لإبراهيم ألا تخرج معنا فترى بعض الوقائع عن ديننا ، فقال : اني سقيم ، وكا قد توعدهم قبلها [وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ]( )، فسمعه بعضهم .
ترى لماذا لم يهدم الأصنام بحضورهم ، الجواب يجهزون عليه ويقتلونه في الحال وان كان الله عز وجل قادر على أن ينجيه بآية من عنده سبحانه وإرادة إطلاع أهل البلدة دفعة على كسرها عند عودتهم .
ولما خرجوا ولم يبق إلا الضعفة وكبار السن فجاء إبراهيم من أهله بطعام وصار يقربه إلى الألهة ويطلب منهم أن يأكلوا ، كما ورد في قوله تعالى [فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ]( )، بلحاظ أن الإله يجب أن يكون افضل من الذي يولهه ويعبده فلابد أن يكون متكلماً ويفعل ما يدل على أنه حي وكذ بالنسبة للملائكة ، ولكن الآلهة كانت جمادات ، عملوها ونحتوها بأيديهم.
الخامس عشر : ترك إبراهيم صنماً كبيراً في بهو واسع للحجة عليهم ليسألوه عن كسر الأصنام المجاورة له بينما كسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل الأصنام.
السادس عشر : لقد عاد المشركون إلى البلدة وغضبوا لكسر الأصنام وتوعدوا من كسرها [قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا]( )، فاشاروا إلى إبراهيم عليه السلام بصفة فتى [سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ]( )، بينما كسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأصنام والناس صاروا يعلمون أنه نبي رسول من عند الله.
السابع عشر : ليس من ضرر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما كسّر الألهة.
الثامن عشر : قانون لم ولن تصنع أصنام في الجزيرة بعد أن كسرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه.
التاسع عشر : ليس من معارضة أو احتجاج على كسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم .
العشرون : لقد زاول المشركون أيام نمرود أشد ضروب الإرهاب على إبراهيم عندما كسر الأصنام ، بينما كسرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال الإرهاب .
الواحد والعشرون : من معاني كسر الأصنام لزوم عدم اتباع الغواة وأهل الضلالة والتطرف والعناد.
الثاني والعشرون : كسر الأصنام أمر بسيط ظاهر ، لبيان أن مفاهيم الشريعة ظاهرة وواضحة .
الثالث والعشرون : كسر الأصنام دعوة للصدور عن القرآن والسنة ودعوتهما للسلم وإشاعة الأمن بين الناس ، وليس عن رؤساء التكفير والعنف الذين يدعون بالدلالة التضمنية أو الإلتزامية والمفهوم إلى الفتك والبطش.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدد : 1156/22
التاريخ : 5/6/2022
توصية المرجعية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نبارك لكم جهودكم وجهادكم في إنشاء دور للمؤمنين ذوي الفاقة ، ونرجو ملاحظة ما يلي :
الأول : جعل التبرع والمساهمة الشهرية على شعبتين :
الأولى : حد أعلى وهو الثابت عندكم .
الثانية : استحداث حد أدنى خمسة آلاف دينار مع جواز النقل والإنتقال بينهما لقوس صعود أو نزول , وكل على خير وللإستدامة ، وقاعدة نفي الحرج.
الثاني : بناء مجمعات صغيرة ولو من خمسة دور للتخفيف في الجهد والكلفة والوقت ، وليتجلى العمل بوضوح وللمندوحة في الوقت كي تنتزعَ وقتاً للتدريس لقاعدة تقديم الأهم على المهم لأهل العلم والفضيلة ، وقد أنشأ شرطي من الحلة مجمعاً من (25) دار للفقراء بمشروع ألف دينار فقط , ولا بأس بالبناء العمودي المحدود.
ولو كان عندكم فراغ لبعثنا لكم الجزء الخامس والثلاثين بعد المائتين من تفسيرنا للقرآن ويقع بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب) والجزء السادس والثلاثين بعد المائتين ويختص بتفسير الآية (191) من سورة آل عمران في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، ونطبع أجزاءه المتتالية على نفقتنا الخاصة والحمد لله , وهو من أفضل موارد الخمس والزكاة .
الثالث : ونذّكر سماحتكم أنه في سنة (2001) أردت عقد دورة فقهية وأصولية في النجف الأشرف لوكلاء المرجعية في المحافظات ، وفاجأنا رجال الأمن صبيحة يوم الإفتتاح بلزوم الحصول على الموافقة , وقال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]، وإذا تهيئت مستلزمات الدورة تقام إن شاء الله خاصة مع الحاجة إليها ، والنفع الخاص والعام منها.
الرابع : ولو تبرع فرد بسهمين كل واحد خمسة آلاف فهل له ذات الأجر لمن تبرع بعشرة آلاف في الشهر الواحد لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، أم له أجر أكثر لإفادة زيادة المباني زيادة في المعاني ، أم بحسب القصد واللحاظ والحال ، والمختار كل له أجر وثواب مضاعف ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ].
الخامس : التوسعة في موضوع الإنفاق من طرفكم بما يشمل الحاجات الآنية الطارئة مثل الغذاء والدواء ، للأولوية أحياناً , وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين .