المقدمــــــة
الحمد لله الذي خلق كل شئ ، وعلا على كل شئ ، وأبى إلا أن تكون مقاليد كل شئ بيده سبحانه ، رحمه منه تعالى بالخلائق ، وفي التنزيل [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ) .
الحمد لله الأول قبل الإنشاء والإيجاد ، والآخر بعد فناء كل شئ ، غافر الذنب , قابل التوب ، العزيز الجبار .
الحمد لله باسط الرزق الذي لم يجعل له حداً محدوداً بالنسبة للفرد والجماعة والأمة ، والزمان والمكان , يهب كيف يشاء ، الحمد لله الذي خلق الناس لعبادته مدة أيام الدنيا ، لتكون طريقاً ووسيلة مباركة للإقامة الدائمة في الجنة ، وهل رزق جنس من الخلائق النعيم الذي يفوز به المؤمنون من الناس في الآخرة كالملائكة المختار نعم .
الحمد لله الذي نعجز عن إنتظام عقد الشكر له سبحانه وإن اجتمع الإنس والجن ، فتفضل ورضي منا بالقليل منه ، ليعطينا الكثير.
وهل تختص هذه الكثرة بذات الشاكرين ، الجواب لا .
إنما تشمل من حولهم وذراريهم ، وهو من الجزاء والثواب الحسن من عند الله ، والذي يتصف بالإتصال وعدم الإنقطاع .
وهل من الزيادة في قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( )، المدد والعون على مواصلتنا الحمد والشكر لله سبحانه ، الجواب نعم , ليكون من المتسلسل.
الحمد لله ملئ السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، والحمد لله بقدر ما خلق كماً وكيفاً ، ومدة بقاء وأثراً.
الحمد لله والشكر لله سبحانه على نحو القطع ، والتفصيل والإجمال ، الحمد لله الذي جعل الخلائق تدرك عدم صحة التسبيح في السموات والأرض إلا له سبحانه .
الحمد لله بعدد ملائكة السماء ، وتسبيحهم وثنائهم على الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله بعدد حروف وكلمات القرآن ومعانيها ودلالاتها ، وعدد الذين تلوها ويتلونها إلى يوم القيامة .
الحمد لله الذي هدانا لشكره والثناء عليه [وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ] ( ) الحمد لله على النعم الظاهرة والباطنة والعاجلة والآجلة ، والخاصة والعامة ، فمن فضل الله عز وجل أن نعمه على أي إنسان تختلف عن النعم عند غيره من البشر كاختلاف بصمة الأصابع والعيون في آية من بديع صنع الله [الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] ( ) .
ولم يرد لفظ [أَتْقَنَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
اللهم إنا نسألك هدايتنا المستمرة إلى الحمد والثناء عليك بكرة وعشياً ، وفي النهار والليل , وساعات تقلب الشمس في السماء.
الحمد لله بعدد نجوم السماء وبعد كل واحدة منها عن الأرض ، بلحاظ طول هذه المسافة والإعجاز فيه الآية
واختص هذا الجزء وهو الثاني والأربعون بعد المائتين من تفسيري الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) والذي صدرت بخصوصه وبفضل ولطف من الله الأجزاء (206-207-208-214-215-233-240-241).
ومن أسرار عدم نسخ آيات السلم النذير في مضامينها وأحكامها لدلالة سلامتها من النسخ على بقائها غضة طرية في أحكامها ، ووجوه الهداية المستقرأة منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
فكل آية من آيات السلم علم مستقل بذاته ، وهي علم باتصالها مع الآيات الأخرى ، كما في قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] ( )، وهي إحدى الآيات التي تضمن هذا الجزء سلامتها من النسخ.
إذ تبين الآية حضور الوحي في الأوامر والنواهي النبوية ، وقال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
صحيح أن القدر المتيقن والنسخ المدعى هو الشطر الثاني والأخير من الآية إلا أن موضوع الآية متصل وجاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية وجواب الشرط محذوف ، وإنما ورد التعليل ليقوم مقام جواب الشرط بإفادة القطع بقانون من الإرادة التكوينية وهو طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم طاعة لله عز وجل .
وهل الألف واللام في (الرسول) للعهد أم الجنس ، أي هل المراد خصوص الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم تشمل الآية جميع الرسل .
المختار هو الأول بلحاظ نظم الآيات إذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )، فهذه الآية من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفضائله ، ومن الشواهد القرآنية على إكرام الله عز وجل له.
وطاعة عامة الرسل تستقرأ من دليل آخر ، لتدل الآية على أن النبي محمداً لا يأمر إلا بما هو خير وصلاح .
وبينما أوصل بعضهم الآيات المنسوخة بآية السيف إلى مائة وأربع وعشرين آية فان السيوطي قال بنسخ واحدة وعشرين آية فقط ، ونظمها في آبيات شعرية له أن الآية المنسوخة عشرون آية إذ قال (
وقد أكثر الناس في المنسوخ من عدد … وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر
وهاك تحرير أي لا مزيد لها … عشرين حررها الحذاق والكبر
آي التوجه حيث المرء كان وإن … يوصي لأهليه عند الموت محتضر
وحرمة الكل بعد النوم مع رفث … وفدية لمطيق الصوم مشتهر
وحق تقواه فيما صح في أثر … وفي الحرام قتال للألى كفروا
والاعتداد بحول مع وصيتها … وإن يدان حديث النفس والفكر
والحلف والحبس للزاني وترك أولى … كفروا شهادهم والصبر والنفر
ومنع عقد لزان أولزانية … وما على المصطفى في العقد محتظر
ودفع مهر لمن جاءت وآية نج … واه كذاك قيام الليل مستطر
وزيد آية الاستئذان من ملكت… وآية القسمة الفضلى لمن حضروا)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : (إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد، و وضعت الموازين فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)( ).
الحمد لله القوي اللطيف الذي لا تنفد خزائنه ، باسط الخيرات ، كاشف الكربات ، مجيب الدعوات ، قاضي الحاجات ، غافر الزلات ، مقيل العثرات ، سبحانك لا إله إلا أنت الملك القدوس العزيز الحكيم الذي [وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وهذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) مدرسة علمية ليكون هذا الكم والكيف وهو لطف ونعمة عظمى من عند الله عز وجل عليّ وعليكم .
ومن فضل الله أني أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح لكتبي في التفسير والفقه والأصول مع إستمراري في إعطاء البحث الخارج لفضلاء الحوزة العلمية ليومنا هذا والحمد لله .
وهو من سابغ النعم من عند الله عز وجل ، ويتضمن هذا الجزء نفياً للقول بنسخ عدد من آيات السلم والإعراض عن المنافقين والكفار بالدليل ، والتفسير والتأويل ، ولم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة من أهل البيت عليهم السلام بنسخ آيات السلم هذه ، إلا بعض أخبار ضعيفة السند في الجملة عن ابن عباس ، وبخصوص بضع آيات من آيات السلم .
الحمد لله الذي لا نسخ في القرآن إلا بآيات من عنده تعالى , فلا دليل على نسخ السنة للقرآن , وإن كانت السنة شعبة من الوحي .
ومن عظيم قدرة الله عز وجل نسبة النسخ له سبحانه , إذ قال [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] ( ) ليكون النسخ وسيلة ومناسبة للتخفيف عن المسلمين والناس جميعاَ ,مما يدل على عدم نسخ آيات السلم والصلح والموادعة بآية السيف , وسيأتي في هذا الجزء عدم ثبوت تسمية آية السيف .
وهل يدل خلو القرآن من لفظ السيف على عدم نسخ آيات السلم والصلح ، الجواب نعم , وهو آية من عند الله عز وجل , ودعوة للعلماء بعدم القول بنسخ هذه الآيات التي هي رحمة للمسلمين والناس جميعاَ .
إذ بعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت السلم المجتمعي وبسط الأمن في ربوع الأرض .
حرر في الرابع عشر من شهر ربيع الآخر 1444
9/11/2022
لا أصل لتسمية آية السيف
أختلف هل كون الاسم هو المسمى أو غيره ، والمختار والمشهور والظاهر أن الاسم غير المسمى إذ عندنا ثلاثة أطراف :
الأول : الاسم : وهو اللفظ الموضوع لخصوص معنى وتمييزه سواء كان الاسم لفظاً مفرداً أو مركباً واشتق من السمة بمعنى العلامة ، أو من السمو وهو العلو ، وفي جمع التكسير يكون أسماء.
الثاني : التسمية : وهي فعل وقصد ودلالة .
الثالث : المسمى : وهو المعنى المدلول الذي يدل عليه الاسم ، وهو موضوع التسمية ، فحينما يسمي الأب ابنه محمداً يكون الابن مسمى ، والاسم محمداً .
وقد يتعدد الاسم لكن المسمى واحد وقد يسبق الاسم المسمى أو يتأخر عنه وهو من الشواهد على أن الاسم غير المسمى لذا يجري التمييز بين المسميات بالأسماء الكثيرة ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( )، وواجب الوجود بسيط ليس مركباً.
وقيل هناك ملازمة وارتباط بين الاسم والمسمى ، إنما هي الدلالة والتعريف ، وهو من نعم الله عز وجل على الإنسان في النطق والتعلم ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، لبيان من خلافة الإنسان في الأرض قانون لا تستقيم الحياة الدنيا إلا بتعيين الأسماء لمسمياتها ، وان الإنسان قادر على ضبط الأسماء وعدم الخلط بينها وفيه منع من الفساد الذي حذرت منه الملائكة عندما أخبرهم الله بخلافة الإنسان في الأرض إذ [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل من آدم أن يعلم الملائكة الأسماء وهل فيه طمأنينة للملائكة لأهلية الإنسان للخلافة في الأرض ، وهل هو حجة في المقام ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء في اليقظة وعند الخروج في الكتائب ، وحتى في الرؤيا .
ورآي يوماً (أَنّهُ وَأَصْحَابَهُ فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ فَأُتُوا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ فَأَوّلَهُ بِأَنّ لَهُمْ الرّفْعَةَ فِي الدّنْيَا ، وَالْعَاقِبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنّ الدّينَ الّذِي قَدْ اخْتَارَهُ اللّهُ لَهُمْ قَدْ أُرْطِبَ وَطَابَ) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحض على تسمية الأبناء بأسماء حسنة ، ويتفاءل بالوجه الحسن ، وكان جبرئيل ينزل بهيئة دحية الكلبي وهو جميل الهيئة وأرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ملك الروم بعد صلح الحديبية ، وينهى عن الاسم القبيح مثل (حرب ومرة ) ( ) ، كما قام بتغيير اسماء أشخاص من الصحابة مثلا اسم حزن جد سعيد بن المسيب ، وسمّاه سهلاً ، وقيل أنه أبى (وَقَالَ ” السّهْلُ يُوطَأُ وَيُمْتَهَنُ) ( ).
وبدل أسماء مثل العاص ، وعزيز وشيطان ، والحكم وعزاب ، وحباب.
(عن نافع قال: غيَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمَ أُمّ عاصم بن عمر، وكان اسمها عاصية قال: “لا، بل أَنت جميلة”.)( ).
فهل يصح اختيار اسم لآية السيف غيره خاصة وأن هذه التسمية لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا الصحابة ولا أئمة أهل البيت ، الجواب نعم ، على أن يقتبس هذا الاسم من مضامين ذات الآية ، ونسميها مثلاً آية [فَإِذَا انسَلَخَ..] ( ).
لما هو متعارف في علوم القرآن بتسمية الآية بأول كلمة منها ،في الغالب ، وفي تفسيري هذا خصصت خاتمة الإعجاز الذاتي للآية لتسمية للآية القرآنية ، إذ أفردت بابين في تفسير كل آية هما :
الأول : الإعجاز الذاتي .
الثاني : الإعجاز الغيري .
ولم يرد لفظ [انسَلَخَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وقد ورد مرة أخرى بلفظ [فَانسَلَخَ مِنْهَا] بقوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ] ( ).
وهل يدل الجمع بين الآيتين على إرادة إنقضاء الأشهر الأربعة وإنقطاع موضوع الآية ، كما أنسلخ ومضى الذي خرج وأعرض عن الآيات والحكمة والسر الذي رزق الله ، الجواب نعم ، للدلالة على إرادة خصوص الذين بقوا على الشرك من أهل مكة ، وهم العدد القليل من أهلها .
وعن (ابن عباس في قوله [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا]( ) الآية قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم ، تعلم اسم الله الأكبر ، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه .
قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي ، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخ مما كان فيه . وفي قوله [إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ]( ).
قال : إن حمل الحكمة لم يحملها وإن ترك لم يهتد لخير ، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن طرد لهث) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام في الآية قال : أوتي بلعم الاسم الأعظم ( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومن معاني الآية أعلاه إرادة الحجة فيما ذكر في القرآن ، ومفهوم ما لم يذكر فيه مثل السيف ، فمع شدة إيذاء المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامهم بتجهيز الجيوش الكبيرة لمحاربته وبذلهم أموال وإبل التجارة في غزوهم المدينة وأطرافها فانه لم ينتقم من قريش ، بينما نزلت سورة قريش لإنذارهم من هذا البذل والإنفاق المحرم ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ) .
ومن معاني التبيان في الآية أعلاه أن عدم ذكر القرآن للفظ السيف شاهد على صيغة السلم والتي نزل فيها ، وإرادة الله عز وجل تثبيت السلم المجتمعي في الأرض .
وسميت الآية الخامسة من سورة التوبة بآية السيف ، وهي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) ومع أن الاسم غير المسمى ، والمدار على المسمى فلا دليل على إرادة القتل في هذه الآية ، وموضوع الآية لا يدل على هذه التسمية لتعدد مضامينها القدسية ، ولما قيل بأن آخرها ينسخ أولها ، وهو إرادة التوبة وإقامة الصلاة واتيان الزكاة ، وينفي سياق ونظم هذه الآية تسميتها آية السيف لأنها بين آيات تدل على تعاهد المعاهدة مع المشركين خصوصاً الذين لم يحاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، إذ كانت خاتمة الآية السابقة [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) لبيان الحسن الذاتي للتقوى ، والإمتناع عن سفك الدماء ، وعن الظلم والتعدي.
كما تدل على هذا النفي الآية التي بعدها ،وهي قوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
وجاءت الآية بعدها بالأمن للذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية بقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ..] ( ).
ويمكن القول بموضوعية نظم وسياق الآيات في تسمية الآية القرآنية إلى جانب عمومات [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وعن مقاتل قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قد عاهده أناس من المشركين وعاهد أيضاً أناساً من بني ضمرة بن بكر وكنانة خاصة ، عاهدهم عند المسجد الحرام وجعل مدتهم أربعة أشهر ، وهم الذين ذكر الله { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} يقول : ما وفوا لكم بالعهد فوفوا لهم) ( ).
قانون منع آية السيف من القتل
يجتمع في المقام المنع من القتل :
الأول : المضامين القدسية المتعددة في آية السيف ومجئ (خذوهم) (حصروهم) (اقعدوا لهم كل مرصد) بعد قوله تعالى (فاقتلوا المشركين).
ولو جاء الأمر بالقتل أعلاه بعده ومتأخراً عنها لقيل ناسخ لها ليكون المنع من القتل في هذه الآية من إعجازها نظماً وموضوعاً وحكماً .
الثاني : نفي مضامين آية السيف تسميتها بهذا الاسم .
الثالث : نظم الآيات المجاورة لآية السيف ، والتي تدل على إمهال الكافرين ، وأنهم لا يعلمون ، ومنهم من يأتي عليه الموت بينما يكون أولاده مسلمين .
الرابع : السنة النبوية ، وعدم وضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيف في المشركين إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
وقد أهدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دم أربعة يوم فتح مكة قبل نزول آية السيف ، ومنهم من لم يقتل وهم :
الأول : عكرمة بن أبي جهل ، وقد أسلم وحسن إسلامه ، وشارك في معارك الدفاع .
الثاني : عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وقد شفع له عثمان بن عفان .
الثالث : مقيس بن صبابة الذي قدم إلى المدينة من مكة ، وأظهر الإسلام وطلب دية أخيه هشام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قتل خطأ ، وهشام هذا من المسلمين ، وقد اصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت ، وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ في كتيبة بني المصطلق.
وقال مقيس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يا رسول الله جئتك مسلما وجئت أطلب دية أخى قتل خطأ فأمر له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة مرتدا) ( ).
وقال في شعر :
شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ مَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا … تُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ … تُلِمّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ
حَلَلْت بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي … وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوّلَ رَاجِعِ
ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمّلْت عَقْلَهُ … سَرَاةَ بَنِي النّجّارِ أَرْبَابِ فَارِعِ
وَقَالَ مَقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ أَيْضًا :
جَلّلْته ضَرْبَةً بَاءَتْ لَهَا وَشَلٌ … مِنْ نَاقِعِ الْجَوْفِ يَعْلُوهُ وَيَنْصَرِمُ
فَقُلْت وَالْمَوْتُ تَغْشَاهُ أَسِرّتُهُ … لَا تَأْمَنَنّ بَنِي بَكْرٍ إذْ ظَلَمُوا( ).
وقتل فحيلة بن عبد الله الليثي مقيس بن صبابة يوم الفتح وهو ابن عمه ، فقالت (أُخْتُ مِقْيَسٍ فِي قَتْلِهِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةَ رَهْطُهُ … وَفَجّعَ أَضْيَافَ الشّتَاءِ بِمِقْيَسِ
فَلِلّهِ عَيْنًا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ … إذَا النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرّسْ) ( ).
الرابع : عبد الله بن خطل : الذي قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلماً وهو من بني تيم بن غالب ، فارسله مصدقاً لجمع الصدقات ، وبعث معه رجلاً من الأنصار ، وكان مع عبد الله بن خطل مولى له يخدمه ، وهو مسلم ، فنزلوا.
وأمر عبد الله بن خطل المولى أن يذبح له تيساً فيصنع له طعاماً ، ونام عبد الله واستيقظ ولم يجد شيئاً ، إذ لم يصنع له المولى طعاماً فغضب عليه وقتله في الحال وأرتد مشركاً .
(وقتله يوم الفتح سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه)( ).
ويمكن القول بالنسخ في ذات الآية ، وكأنه من العام بنسخ المتأخر الخاص المتقدم ، إذ ورد قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، فالأخذ والإحصار كالعام الناسخ المتصل للقتل الوارد في أول الآية .
فتوى تبديل اسم (آية السيف)
وأعلن هنا تبديل اسم آية السيف إلى آية [فَإِذَا انسَلَخَ]( )، واقترح عقد مؤتمر لمنظمة إسلامية تناقش الأمر وتعلن تبديل هذا الاسم كما هو حال المجمعات اللغوية في تعريب بعض المصطلحات.
وتخالف تسمية آية السيف ما ورد في السنة القولية والفعلية والتقريرية باختيار الأسماء الحسنة ، ولعدم ثبوت موضوع السيف .
ومن الحسن في المقام لزوم تسمية الآية باسم ولفظ وارد في القرآن.
وأفتى بما يلي :
الأول : عدم جواز تسمية آية [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] بآية السيف نطقاً وكتابة وتوثيقاً .
الثاني : عقد هيئة علمية أو دولية اسلامية ندوة خاصة لتغيير اسم آية السيف والإتفاق على تسمية خاصة لها ، واعلان الأمر للمسلمين والعالم .
الثالث : تأليف كتب بخصوص هذا العلم ، وتخصيص دراسات ماجستير ودكتوراه لبيان عدم صحة تسمية الآية بآية السيف.
لا قطع في نسخ آيات السلم
يعني القطع في اصطلاح الأصول العلم واليقين ، وهو موافق للمعنى اللغوي ، وحجية المفهوم المراد منها أي الوصف الحاصل في النفس يما يقابل الظن حجية ذاتية يحكم بها العقل بما لا يقبل الجهل التشريعي اثباتاً ونفياً.
فالحجة فيه كالإثنين نصف الأربعة ، والزوجية بالنسبة للأربعة ، فجعل الحجية للقطع من تحصيل الحاصل ، ولا يجوز تفكيكها عنه لأنها من ذاتياته.
لذا قيل القطع حجة بنفسه بلا جعل وإلا لدار أو تسلسل ، كما قيل : القطع بنفسه طريق الواقع .
وقيل القطع ليس قابلاً لجعل الشارع ، وليس بتام لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
ويقسم القطع عدة تقسيمات منها يقسم إلى قسمين :
الأول : القطع الطريقي : وهو الذي يكون طريقاً ومدخلاً إلى حكم أو موضوع ذي حكم ، وهذا القطع لا يدخل شرعاً في الحكم ، ولا موضوعية له شرعاً.
فاذا ورد أن الصيام واجب وأن الزنا حرام ، فهذا القطع طريقي ، سواء بخصوص الحكم الكلي بأن صيام رمضان واجب تكليفي وأن الزنا حرام شرعاً ، أو بالموضوع الخارجي كهلال رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، أو بخصوص حرمة الزنا كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( ).
إذ يكون ملاك الحكم هو الحكم الكلي على الموضوع ، والقطع طريق إليه عند العقل .
الثاني : القطع الموضوعي : يكون مأخوذاً في الخطاب ، وله دخل في الحكم أو موضوعه كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (مضاعفة) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، كما ورد لفظ (أضعافاً) مرتين في القرآن إحداهما في الآية أعلاه ، والأخرى في قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( )، لبيان اتحاد الموضوع في الأمر والنهي ، ويكون على أقسام :
الأول : القطع المتعلق بالحكم .
الثاني : القطع الذي يخص موضوعاً ذا حكم .
الثالث : القطع الذي يتعلق بموضوع بلا حكم.
إن القول بسلامة آيات السلم من النسخ جامع للقطع الطريقي والموضوعي وهو من الآيات في كون علوم القرآن أعم من التقسيمات المعتمدة من قبل العلماء.
قانون نزول القرآن منجماً سلام وأمن
لقد نزل القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة على التوالي وتعاقب الآيات والسور ينزل بها جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ).
أن كتمان حقائق التنزيل لا يضر إلا أصحابه لأن الله عز وجل قد بينه للناس ، وصار معلوماً عندهم ، والمشيئة المطلقة لله عز وجل وحده ، قال تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
فمن ملك الله عز وجل للسماء والأرض حفظ التنزيل والكتب المنزلة من السماء في الأرض ، وجعلها قريبة من الناس بقدرته ، إذ لا يقدر على هذا الحفظ مع كتمان شطرمن أهل العلم لها إلا الله عز وجل.
ومن بيانها للناس نزولها في القرآن وتجليات ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه شاهد على بقاء آيات القرآن في أيدي الناس من غير تحريف أو تبديل أو تغيير لصيغة العموم الإستغراقي بقوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ]( ).
وهو من أسرار نزول السور القرآنية في مكة مدة ثلاث عشرة سنة بين ظهراني قوم مشركين ، ثم نزولها في عشر سنوات في المدينة بين أفراد أمة مؤمنة .
كثيرة هي الآيات التي تخبر عن نزول القرآن وتنسب هذا النزول لله عز وجل وفيه ثناء من الله عز وجل على نفسه ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
لبيان تجلي مصاديق الحق والصدق في نزول القرآن إلى يوم القيامة.
وهل تدل صيغة الإنذار لأهل مكة في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( )، الجواب نعم ، فمن معاني الإنذار تبليغ المنذرين وبقائهم أحياءً عسى أن يعملوا بمضامين الإنذار السماوي.
وهل نزول القرآن منجماً دعوة للسلم الأمن ومنع من القتال بين الناس ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ، فحتى كيفية نزوله باب للرحمة العامة ، والأمن المجتمعي ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وفي تفسير قوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]( )، قال الإمام الصادق عليه السلام (انزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة)( ).
و(عن ابن عباس قال :شهر رمضان ، والليلة المباركة ، وليلة القدر ، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي في رمضان ، نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور ، وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ، ثم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي ، وفي الحروب رسلاً رسلاً)( ).
ومعنى نزل منجماً أي مفرقاً ، مع أن المشركين أرادوا نزوله دفعة واحدة ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً]( ).
الآية الثلاثون( ) : قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]( )، قال ابن البازري : نسختها آية السيف( ).
ولم يثبت نسخ هذه الآية ، وهل هي من آيات السلم والموادعة ، الجواب نعم ، وهو شطر من آية وتمامها هو [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
وقد ورد هذا الشطر ولكن بصيغة الآية الكاملة في سورة النحل في قوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
وذكرها ابن البازري في المنسوخ وأن آية السيف نسختها أيضاً ، ولا دليل على النسخ في المقام .
وقال ابن زمنين (وكان هذا قبل أن يؤمر بقتالهم)( ).
وفي الرد عليه مسائل :
الأولى : لم ينحصر موضوع الآية بأهل مكة ونحوهم من الكفار ، إذ يشمل موضوعها الموادعة وحسن المعاشرة مع أهل الكتاب .
الثانية : لم يأت القرآن بقتال أهل الكتاب مع كثرة الآيات التي تذكرهم وهو من إعجاز القرآن ووحدة الموضوع وعدم التعارض بين آياته.
إنما هو الإحتجاج والبرهان نوع صلة بينهم ، ومما يدل على نفي الأمر بالقتال مع أهل الكتاب قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( )، والسنة النبوية في بنود الإتفاق بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويهود المدينة بعد الهجرة ، وبدايات إقامته في المدينة .
الثالثة : لم يثبت الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال بمعناه الأعم الشامل على الإبتداء به إنما القدر المتيقن هو الدفاع إذا هجم المشركون وقاموا بغزو المدينة .
الرابعة : لقد تولى وأعرض المشركون عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة ، أما بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فلم يكتفوا بالتولي والإعراض عن الرسالة وآيات القرآن وما فيها من البشارة والإنذار إنما جهزوا الجيوش وحملوا السيوف ، وعطلوا تجارتهم إلى الشام واليمن على نحو السالبة الجزئية .
ليكون من معاني قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، زجر المشركين عن الإنشغال عن التجارة بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فهذه السورة تدعوهم للإستمرار بالتجارة ، والإعراض عن قتال النبي ، وعدم تسخير إبل التجارة لحربه وقتاله.
فان قيل قد ذكر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تعرضوا لقافلة أبي سفيان وكان هذا التعرض سبباً لمعركة بدر ، والجواب لم يثبت هذا التعرض كتاباً وسنة وتأريخاً ، وقد بيناه في أجزاء سابقة.
لقد أراد الله عز وجل لقريش تعاهد نعمة التجارة التي خصهم بها والوعيد من ذهابها وحرمانهم منها بمحاربة النبوة لبيان (قانون إنقطاع النعمة العامة بمحاربة النبوة والتنزيل).
الآية الواحدة والثلاثون: قد ذكر أن آية السيف نسخت قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( )، وتمام الآية القرآنية هو [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ]( ).
ويتعلق النسخ بالإستثناء والرخصة , ولا دليل عليه والأصل عدم نسخ هذه الآية فأحكامها باقية إلى يوم القيامة .
وفي معنى هذا الإستثناء [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( )،وجوه :
الأول : التكلم باللسان خلاف الواجب الشرعي لصرف أذى المشركين مع سلامة الجنان , وثبات الإيمان .
الثاني : الكلام واللطف للمداراة ظاهراَ مع الفطنة وحفظ الإيمان باطناَ.
الثالث : المصانعة في الدنيا .
الرابع : مستلزمات الإختلاط في العمل والسكن .
واختلف هل تشمل التقية الفعل أم أنها خاصة بالقول , المختار أنها تشمل الفعل لأصالة الإطلاق , ولكن ذات الفعل مع التقية له حدود وعلى قدر الضرورة وصرف الأذى الخاص والعام .
وعن (عبد الله بن مسعود : ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان ، إلا كنت متكلماً به)( ).
الخامس : آداب الجوار , قال تعالى [وَالْجَارِ الْجُنُبِ]( ) .
السادس : صلة الرحم , كأن يكون للمسلم قريب من المشركين كما في المهاجرين .
السابع : الخوف من القادر المتسلط خشية صدور الإضرار منه .
الثامن : حال الإكراه , قال تعالى [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ).
التاسع : حال الضرورة .
العاشر : دفع الكيد والمكر والتعدي .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (عن أبيه، قال كان رسول الله صلى الله عليه واله يقول : لا إيمان لمن لا تقية له، ويقول : قال الله ” إلا أن تتقوا منهم تقاة)( ).
ولم يرد لفظ (تقاة) في القرآن إلا في آية البحث لإفادة توكيد الخشية والحيطة والحذر من المشركين .
لقد وردت الآية بصيغة الجمع والجملة الخبرية مع تقسيم الناس إلى قسمين :
الأول : المؤمنون .
الثاني : الكافرون .
وهل يفيد هذا التقسيم الحصر , الجواب لا , فإثبات الشيء لا يدل على نفيه عن غيره , وتحذر الآية المسلمين من مشركي قريش الذين يتخذون من الآلهة أصناماَ ويسعون في إرتداد المسلمين , ويحاولون منع إقامة الشعائر وأداء الصلاة والصيام , قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
ونزلت الآية أعلاه في أبي جهل إذ رمى السلا على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وهو ساجد كما عن ابن عباس( ).
لبيان أن عدم موالاة الذين كفروا إنكار لتعديهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ومنع من التمادي في إيذائه .
ليكون من خصائص آية البحث التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن المهاجرين والأنصار , وهل تنقطع التقية بعد الهجرة , الجواب لا , فهي باقية إلى يوم القيامة .
ومن أسرار استدامة السلم المجتمعي ,فهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن التقية من أسوار الأمن , وهي مانع من الفتنة واستحواذ النفس الغضبية.
وبرزخ دون إصرار الذين كفروا على التعدي وإثارة الخوف من الإيمان في نفوسهم .
ولا دليل على نسخ آية التقية فهي من إعجاز القرآن , وقانون وضابطة كلية في حفظ الشرائع السماوية وسلامة المؤمنين , وهل آية التقية من مصاديق آية الملك والقدرة المطلقة بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) أم أنها تتعارض معها بلحاظ الأرض كلها ملك لله عز وجل وهو سبحانه على كل شئ قدير.
الجواب تلزم التقية وهي من مصاديق الآية أعلاه , إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار , وأراد الله عز وجل حفظ بيضة الإيمان والأجر والثواب للمؤمنين والخزي والإثم للذين كفروا إلا الذين تابوا.
ونطرح سؤالاَ مستحدثاَ وهو هل التقية سبب لتوبة شطر من الكفار , الجواب نعم , وهو من الإعجاز بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتقدير الآية : إلا أن تتقوا منهم تقية ليتوبوا ويهتدوا , لبيان قانون تعدد منافع التقية الخاصة والعامة والتي تشمل المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاَ لبيان أن من منافع التقية أموراَ :
الأول : سلامة الدين والتنزيل من الإفتراء والإستهزاء والتعدي , قال تعالى [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الثاني : التقية حفظ لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالث : في التقية دفع للضرر ، لذا قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابع : التقية مناسبة ودعاء لإتصال وتوالي التنزيل , خاصة وأن القرآن نزل نجوماَ , إذ نزلت السور والآيات من عند الله عز وجل على نحو متعاقب مدة ثلاث وعشرين سنة , وهل من التقية شطر تلاوة القرآن في الصلاة إلى شعبتين :
الأولى : القراءة الجهرية في صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
الثانية : الصلاة الإخفاتية في صلاة الظهر والعصر , لبيان قانون وهو أن التقية نظام متكامل أعم من ان يختصر على فعل وقول المسلم , إنما يتضمن ذات التشريع التقية لنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة وغيرها.
إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في بدايات الدعوة في المسجد الحرام , كما كان يصلي في منى أيام الحج كما في رواية عفيف الكندي (قال كان العباس بن عبدالمطلب لى صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشترى العطر ويبيعه أيام الموسم فبينما أنا عند العباس بمنى.
فأتاه رجل مجتمع فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم قام يصلى.
فخرجت امرأة فتوضأت ثم قامت تصلى .
ثم خرج غلام قد راهق فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلى فقلت ويحك يا عباس ما هذا الدين.
قال هذا دين محمد بن عبد الله ابن أخي يزعم أن الله بعثه رسولا هذا ابن أخى علي بن أبي طالب قد تابعه على دينه .
وهذه امرأته خديجة قد تابعته على دينه فقال عفيف بعد ان أسلم ورسخ في الاسلام يا ليتني كنت رابعاً) ( ).
لبيان قانون ندم الذي أبطأ في دخول الإسلام ، وهذا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذي يدخل الإسلام بعد الهجرة يأسف لأنه لم يدخله قبلها ، وأن الذين دخلوا الإسلام يوم الفتح تألموا لفوات الدخول قبله ، ومنهم من أدعي أنه دخل الإسلام قبل فتح مكة .
تقسيم السور
ويمكن تسمية هذه الآيات آيات الإعراض عمن تولى ، ويمكن تقسيم سور القرآن بلحاظ أوان النزول قبل الهجرة أو بعدها إلى :
الأولى : السور المكية الخالصة .
الثانية : السور المدنية الخالصة .
الثالثة : السور المكية التي بعض آياتها مدني .
الرابعة : السور المدنية التي بعض آياتها مكي .
وفي تعدد أوان نزول آيات الإعراض هذه شاهد على إستدامة حكمها ، فان قلت يحتمل أن السور المدنية التي تذكرها وهما سورة آل عمران وسورة النساء نزلت قبل آية السيف .
الجواب نعم، ولكن هذا الإحتمال لا يدل على النسخ ، وتمام آية البحث هو [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] ( ).
قانون منهاج السلم النبوي رحمة
هل أغرى منهاج النبوة السلمي كفار قريش على إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب لا ، فليس في السلم إلا الخير ، ولا يعلم ما صرف من ضروب الكيد والمكر من الكفار بسبب السلم إلا الله عز وجل .
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه يعلمون بمضامين آية البحث قبل نزولها ، بتحليهم في مكة بالصبر والتقوى ، الجواب نعم .
ليكون من معاني آية البحث : وأن تصبروا وتتقوا كما صبرتم واتقيتم لا يضركم كيدهم شيئاً مثلما أنه لم يضركم فيما تقدم من الأيام والأشهر والسنين قبل الهجرة وبعدها .
لقد كان كيد المشركين يزداد باطراد يناسب كثرة الداخلين في الإسلام ، وتوالي آيات القرآن ، إذ أدركوا أنها لن تتوقف ، وكلها تخويف ووعيد لهم مع البشارة للذين آمنوا ، فعزموا على التخلص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو بالقتل ، كما ورد في التنزيل [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) ومن مكر الله عز وجل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، وأمر الله عز وجل له بالمعجزة .
وتحتمل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : الهجرة من الصبر ومن وجوه قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا]، أي وأن تهاجروا لا يضركم كيدهم شيئاً ، فان قلت ينخرم هذا التقدير بتجهيز المشركين الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، كما في معركة بدر وأحد والخندق .
الثاني : الهجرة من أعلى مراتب التقوى والخشية من الله والتفاني في حبه .
الثالث : تجليات الأسوة في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترغيب الصحابة بها وتحمل مخاطر وأهوال الطريق والغربة ،وهو من عمومات قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) .
الرابع : فتح باب الدعوة إلى الله في الأمصار .
وتتضمن الآية إرادة الإطلاق في نفي ضرر كيد المشركين ، وتقدير خاتمة الآية أعلاه (وأن تهاجروا لا يضركم كيدهم باعداد الجيوش وقتالكم شيئاً) مما يدل على حدوث القتال حتى مع بقاء آيات السلم سالمة عن النسخ إذ أن المشركين هم الذين كانوا يبدأون القتال ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
وقد تقدم في الجزء السادس والثمانين من هذا السِفر ، وفي تفسير هذه الآية (جاءت الآية لتحث المسلمين على الصبر والخشية من الله عز وجل، وتبين لهم الملازمة بينهما وبين صرف كيد ومكر الكفار، للإرتباط بين المقدم والتالي في الجملة الشرطية وتعلق التالي على المقدم، وتبعيته له وكأنه من العلة والمعلول، والسبب والمسبب.
ويدل على وجود مفهوم للآية الكريمة التبادر ومجئ الآية بصيغة الشرط والجزاء، نعم تتعدد مصاديق كل من الصبر والتقوى وليس من حد في كثرتها، لذا تفضل الله تعالى بالفرائض العبادية لتكون أسمى مصاديق الصبر والتقوى إذ أن المصاديق في الحق على أقسام:
الأول: مصاديق الصبر والتحمل.
الثاني: مصاديق التقوى والخشية من الله وإن لم يكن فيها موضوع للصبر.
الثالث: المعنى الجامع للصبر والتقوى)( ).
قانون ذهاب كيد المشركين
يقال كاده يكيده مكيدة , وللكيد معان متعددة بحسب القرائن والحال والمقال , فالكيد من الله عز وجل هو التدبر بحكمته وبالحق وبما ينفع الناس والذراري واستدامة الحياة الدنيا واقترانها بذكر الله عز وجل , مع الاجر والثواب في الآخرة .
قال تعالى [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *وَأَكِيدُ كَيْدًا *فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا]( ).
والكيد من المؤمنين لإرادة الصلاح والإصلاح ، ومن الكفار قصد الإضرار بالغير خفية وحيلة ودهاء وخبثاَ .
ولكن مكر وكيد الذين كفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يكن في خفية فقط إنما كان خفية وعلانية , ومنه الإستهزاء بالتنزيل والمعجزات .
ولا تصل النوبة إلى نسخ الآية , إذ جعل الله عز وجل كيد الكافرين واهناَ ليس له أثر يعتد به , قال تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ]( ) وقال تعالى [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
والكيد وإن كان ضعيفاَ فهو من الكلي المشكك , وأيهما أشد كيد الكافرين أم كيد الشيطان , المختار هو الثاني , وهو من الإعجاز في الآيتين أعلاه , إذ أن وهن الكيد ادنى رتبة من ضعيفه , ومن معاني (موهن) في الآية أعلاه أي ان فضل الله عز وجل يلاحق هذا الكيد حتى يزيله .
وهل من وهن كيد الكفار دخول طائفة منهم في الإسلام , الجواب نعم , وهل يصح أن تقول للذين دخلوا الإسلام منهم قد أوهن الله عز وجل كيدكم , الجواب لا , إنما بدخوله الإسلام أوهن الله عز وجل من بقي منهم على الكفر والضلالة .
وكذا من وهن الكفار سقوط عدد منهم في ميدان المعركة بين قتل وأسر كما في معركة بدر , ليقترن هذا الوهن بحزن وأسى في قلوب المشركين لأنهم هم الذين أصروا على القتال وبدأوا به يومئذ , وهم يعلمون إنعدام الموضوع والسبب المباشر والعلة لهذا القتال خاصة وانهم خرجوا من مكة وعددهم ألف بقصد نجدة قافلة أبي سفيان من تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها , ولم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تكن موضوعاَ في نيته الخروج إلى بدر إنما كانت كتيبته كتيبة إستطلاع .
وهل من موضوعية ودخل لواقعة بدر في الأسى والكبت الذي لحق المشركين في قوله تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الجواب نعم لأن الحسرة والخيبة التي نزلت بمشركي قريش تراكمية , ولم تقل الآيات التي تخص معركة بدر بانقلاب المشركين خائبين ولكن تدل عليه ذات آيات القرآن والسيرة النبوية والوقائع.
إذ أخبر القرآن عن هزيمة المشركين يومئذ , كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وتقدير خاتمة الآية [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) لوجوه :
الأول : لما لحقتم من الخسارة يوم معركة أحد .
الثاني : خيبة المشركين لعجزهم عن تحقيق غاياتهم الخبيثة التي خرج ثلاثة آلاف رجل من مكة وما حولها يومئذ .
الثالث : ينقلبوا خائبين بسبب تجدد حزنهم على خسارتهم في معركة بدر.
الرابع : خيبة المشركين بعجزهم عن الثأر في معركة أحد لما لحقهم يوم بدر.
وقد تقدم الكلام في الجزء الواحد والتسعين من هذا السِفر والذي اختص بتفسير الآية أعلاه من سورة آل عمران ومن أشد ضروب كيد المشركين زخفهم بجيوش عظيمة في معركة أحد والنوايا الخبيثة والمقاصد القبيحة لهجومهم هذا .
قانون تعدد وجوه كيد المشركين
لقد ابتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مكة مسقط رأسه ومحل سكناه بجوار المسجد الحرام الذي جعله الله [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] ( ) والنبي أولى الناس بهذا الأمن ، خاصة وأن دعوته تتقوم بالحجة والمعجزة والبرهان ، وهذه الأفراد الثلاثة تصدق على كل آية من آيات القرآن ، ولكن المشركين امتنعوا عن التصديق بها.
وهل هذا الإمتناع من الكيد الذي تذكره آية البحث أم أن القدر المتيقن من الكيد هو الفعل الخارجي.
المختار هو الأول لأن هذا الإمتناع أمر وجودي.
ولم يقف المشركون عنده عندما رآوا الناس يدخلون الإسلام فراداً وجماعات ، وأن آيات القرآن دخلت بيوتهم يقرأها الرجال والنساء ، وعلموا أن طائفة من ابنائهم دخلوا الإسلام ، وهم وإخوانهم يقفون في صف واحد مع عبيدهم في الصلاة كأمارة على المساواة في الحقوق والواجبات.
فتوجهت سهام المشركين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، فنعتوا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية بالسحر في قوله تعالى [وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ) وكذا نعتوا آيات القرآن كما في قوله تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
ولما عجزوا عن صدّ ومنع الناس من العناية بآيات القرآن ، والإقرار باعجازها وأنها فوق كل البشر ، وصاروا يجتهدون في نقلها وتلاوتها في المجالس والأشعار ، والتدبر في معانيها نعتوه بالإفتراء ، كما في الآية التالية للآية أعلاه [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ).
وتتضمن دعوة النبي إلى التوحيد نبذ عبادة الأوثان وذم الذين يقيمون على عبادتها واللجوء إليها ، والتوسل بها لأنها حجارة لا تغني ولا تنفع ولا تضر فاستشاط رؤساء الكفر غضباً ، وصاروا يذبون عما ورثوه من آبائهم من عبادة الأوثان والتقرب إليها زلفى.
ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منازل السلم والموادعة ، وكان يتغاضى عن أذى كفار قريش مع دعوته إليهم للإسلام .
وصحيح أن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( )، مدنية ونزلت في السنة العاشرة للهجرة في حجة الوداع في غدير خم ، إلا أن مضامينها تشمل أيام النبوة التي سبقتها ، وهل هو من الإستصحاب القهقري ، الجواب لا ، لأن ذات حكم التبليغ مصاحب لأيام النبوة .
لبيان قانون يتعلق بموضوع هذا الجزء ، فلم تكن آيات السلم وحدها غير منسوخة ، إنما سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلمية سالمة من النسخ ، وهو شاهد صدق على بقاء آيات السلم والصلح والموادعة بمنآى عن النسخ والتبديل في الموضوع والحكم .
حال المشركين يوم بدر
لقد صار جيش المشركين على أقسام :
الأول : القتل ، إذ سقط منهم سبعون قتيلاً ، ومنهم بعض رؤساء قريش :
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : أمية بن خلف .
الثالث : شيبة بن ربيعة .
الرابع : عقبة بن أبي معيط -أبو جهل- وهو قائد الجيش واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة .
الخامس : حنظلة بن أبي سفيان .
السادس : زمعة بن الأسود بن المطلب .
السابع : أبو البحتري بن هشام .
الثامن : نوفل بن خويلد بن أسد وهو أخو أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ، وكان من شياطين قريش ، قتله الإمام علي عليه السلام .
التاسع : النضر بن الحارث ، وكان حامل لواء المشركين وكان من أكثر قريش إيذاءً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وافتراء على التنزيل.
العاشر و الحادي عشر: منبه ونبيه ابنا الحجاج .
فهل قتل هؤلاء المشركين يوم بدر من مصاديق [لَنْ يَضُرُّوكُمْ]( ).
الجواب نعم سواء بهلاك هؤلاء أو بارباك المشركين بسبب فقدهم لبيان مصداق من معاني قطع الطرف في قوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ،أن أي قتل لأحد المشركين المعتدين برزخ دون إضرارهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ليكون من معاني سلامة قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ ] ( ) من النسخ تجدد وتعدد موضوعها ، ومنه قتل المشركين في ميدان المعركة ، وإخافة الذين من خلفهم ، مع توجه اللوم للمقتول والحي منهم بأنهم هم الذين أصروا على القتال ، وابتدأوا به ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال ، ولا يسعى إليه ، فعنده سلاح المعجزة ، وآيات القرآن ، والدعاء ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
لقد كان سقوط سبعين قتيلاً من قريش في معركة بدر أمراً مفاجئاً لعامة أهل مكة ، ورجال ونساء القبائل ، خاصة وأنهم خرجوا إلى بدر بقصد إنقاذ قافلة أبي سفيان ، وبعد أن جاءهم رسوله يخبرهم بنجاة القافلة ، ويأمرهم بالعودة إلى مكة فحولوا ظاهراً خروجهم إلى نزهة وسياحة ، وعزم على الإقامة ببدر ثلاث ليالِ يذبحون الإبل ، وتغني لهم القين ، ويشربون الخمر لتخافهم ، إذ قال أبو جهل (والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم فيها ونطعم من حضرنا من العرب فإنه لن يرانا أحد فيقاتلنا) ( ).
فرجعوا فارين مع سقوط سبعين قتيلاً منهم ، ليكون هذا الرجوع من مصاديق [لَنْ يَضُرُّوكُمْ]( )، اليوم وغداً ، فالآية غير منسوخة ، لأن منافعها ومصاديقها متجددة ، وهو من إعجاز الآية القرآنية .
ولو دار الأمر بين تجليات إعجاز الآية وبين نسخها فالأصل هو الأول ، لأن القول بالنسخ من غير دليل وبرهان قاطع يحول دون بيان وجوه وتجليات ضروب الإعجاز المستحدثة والمتتالية للآية ، وإن كانت هي موجودة في الواقع وإن أدعي نسخ الآية لأنه لا يرقى عن القول والإدعاء ، وهو من الشواهد بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل ، وأنه سبحانه لا يحجب فضله عن المؤمنين.
الثاني : وقوع سبعين من جيش المشركين أسرى بأيدي المسلمين ، وبعضهم من أشراف قريش مثل :
الأول : العباس بن عبد المطلب .
الثاني : عقيل بن أبي طالب .
الثالث : خالد بن هشام بن المغيرة .
الرابع : الوليد بن الوليد بن المغيرة .
الخامس : سهيل بن عمرو خطيب قريش .
السادس : عمرو بن أبي سفيان.
وهل كان أهل المدينة يعرفون بعض الأسرى عند ادخالهم المدينة ، وخروج أهلها رجالاً ونساءً لرؤيتهم .
الجواب نعم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد كان أهل يثرب يأتون المدينة للحج والعمرة .
وينزلون عند بعض أشرافها ، كما يتبادلون معهم السلع والتجارة ، إذ يشتري أهل مكة التمر منهم بينما يبيعهم أهل مكة ما يجلبونه من البضائع من الشام واليمن ، إلى جانب الإلتقاء في أسواق مكة الموسمية.
وكان رجالات قريش يخصصون لأنفسهم أماكن في مِنى مثل ما تقوم به القبائل .
الثالث : صيرورة من بقى من جيش قريش فلولاً منهزمين لم يقفوا إلا في مكة ، فانسحاب المشركين في معركة بدر يختلف عن إنسحابهم المنظم في معركة أحد ، والجامع بينهما هزيمة المشركين في نفس اليوم الذي بدأوا فيه المعركة.
معجزة زهد النبي “ص”
من معاني آيات السلم وسلامتها من النسخ دعوتها للأخلاق الحميدة من الصدق والصلاح وأداء الفرائض , وتنهى في مفهومها عن الأخلاق والمذمومة مثل الكذب والرياء والخيانة , ويأمل المشركون أن يبطر المسلمون , وينشغلوا بمباهج الدنيا ولكنهم انقطعوا إلى العبادة , وتحلوا بالصبر , واقتدوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زهده .
والنسبة بين الخلق العظيم والزهد النبوي عموم وخصوص مطلق , فالزهد فرع منه .
وهل زهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له ، الجواب نعم , وكل مصداق من مصاديق هذا الزهد معجزة مستقلة مما يستلزم تخصيص مجلد أو مجلدات عنوانها (معجزة زهد النبي “ص”) بالرجوع إلى آيات القرآن والسنة النبوية واستقراء القوانين والمسائل الخاصة بها .
وأصل زهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ويبين قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى]( ) في المقام أموراَ :
الأول : الحسن الذاتي للزهد .
الثاني : الملازمة بين النبوة والزهد .
الثالث : رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالزهد .
والنسبة بين الوحي والزهد النبوي عموم وخصوص مطلق .
الرابع : الزهد من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أدبني ربي فأحسن تأديبي.
الخامس : قانون صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شظف العيش وهل حصار قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب لثلاث سنوات مقدمة لصبر وزهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة ومجئ الغنائم إليه والخمس إليه , الجواب نعم .
و(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا ، حَتَّى قُبِضَ)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بالزهد في الطعام والإبتداء بالبسملة , والإنتهاء بلعق الأصابع .
(عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا طعم أحدكم فسقطت لقمته من يده فليمط ما رابه منها وليطعمها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق يده فإن الرجل لا يدري في أي طعامه يبارك له وإن الشيطان يرصد الناس أو الإنسان على كل شئ حتى عند مطعمه أو طعامه ولا يرفع الصفحة حتى يلعقها أو يلعقها فإن في آخر الطعام البركة) ( ).
السادس : قانون مصاحبة صفة القناعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم مفارقتها له , فهو يرضى ويقتنع بما يصل إليه.
السابع : قانون كثرة هبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكاد ما يصل إليه الإستقراء في يده حتى يهبه ويعطيه .
الثامن : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينام على حصير مصنوع من خوص النخيل , حتى أثر في جنبه , أما وسادته التي تكون تحت رأسه فحشوها ليف .
التاسع : كان النبي يلبس البُرد الغليظة , مع وجود الثياب من الكتان والقطن الناعم والحرير , وكانت تأتيه الألبسة هدايا وفي الغنائم ويهبها مرة في المجلس حال وصولها , وأخرى بعدها .
العاشر : كان الطعام الغالب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التمر والشعير , وقد يمر تمام الشهر على أهل البيت من غير ان يوقدوا ناراَ لطبخ لحم أو بعض الأطعمة التي تحتاج الطهي .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رضا أزواجه بهذه الكيفية من المعيشة مع رؤيتهن لإنفاق النبي مائتي ألف وثلاثمائة ألف في النهار على الصحابة والمحتاجين , وهو من أسرار قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
لذا ورد قوله تعالى [يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ]( ).
الحادي عشر : تمر بعض الليالي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبيت طاوياَ ليس من عشاء , ويصبح صائماَ تطوعاَ .
الثاني عشر : قد يشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجر على بطنه في النهار من الجوع , والصحابة ينظرون إليه وفيه درس أخلاقي لأجيال المسلمين , وحضّ على الزهد , وطلب السلامة بالإمتناع عن كثرة الأكل .
وقد خلق الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم من طينة آدم عليه السلام , وكان ينهى عن صوم الوصال أي صوم يومين والليلة التي بينهما , أو صوم ثلاثة أيام والليتين اللتين بينها مع أنه كان يواصل الصوم بمعجزة من عند الله عز وجل .
و(عن أبي سعيد : أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر . قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله؟
قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني)( ).
و(عن عائشة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا : إنك تواصل؟
قال : إني لست كهيئتكم ، إني يطعمني ربي ويسقيني) ( ).
وقد يكون الوصال من السحر إلى السحر , إذ ورد عن الإمام الباقر عليه السلام (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يواصل من السَّحَر إلى السَّحَر) ( ).
وهو من عمومات قوله تعالى [وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ]( ).
ومن الإعجاز في المقام تحلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الزهد مع كثرة الأموال التي تصل إليه من الذهب والفضة والأنعام والزراعات , ومن الخمس والأنفال وما خصه الله تعالى به كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
وعن (عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين عن براءة ، يقول : عن سواء) ( ).
وعنه أيضاَ في حديث أكثر تفصيلاَ (قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون ، واكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب . وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم.
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة واشتغلنا به ، فنزلت { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }( ) فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أغار في أرض العدوّ ونفل الربع ، وإذا أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويُّ المسلمين على ضعيفهم) ( ).
كانت الغنائم التي وقعت بأيدي المسلمين في معركة بدر بسبب إصرار مشركي قرش على القتال يومئذ , ثم فرارهم وتركهم الإبل والزاد والأسلحة والعروض الأخرى خاصة وأن سبعين منهم قتلوا وسبعين وقعوا في الأسر.
وذكر أن آية الأنفال نسخت بقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) وموضوع الخمس أعم من الأنفال .
قانون الملازمة بين النبوة والزهد
من زهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه الامام في الإيثار , فيعطي ويهب ولا يرد أحداً من غير أن يخشى الفقر أو الفاقة .
لقد كان زهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهداَ عملياَ على زوال الدنيا وسرعة إنقضائها .
وعن(أنس: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه.
قال: فسأله رجل إنما بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا فو الله إن محمدا ليعطى عطاء من لا يخاف الفقر) ( ).
لا يخاف الفقر ومعنى غنماَ بين جبلين أي لكثرتها تملأ ما بين جبلين.
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أعطى صفوان بن أمية غنما ملات واديا بين جبلين فقال أرى محمدا يعطى عطاء من لا يخشى الفقر)( ).
(ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي) ( ).
ويصدق على ثلاثمائة من النعم أنها ما بين جبلين , ومن معجزات زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أسخى الناس .
وعن أنس قال : كان يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسلم لشئ يعطي من الدنيا , فلا يمسي .
وقد رد على هوازن سباياهم وكان عددهم ستة آلاف ومن امتنع من الصحابة عن رد ما في يده من السبي ضمن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم التعويض والبدل , وأعطى عمه العباس من الذهب ما لم يستطع حمله , مع أن العباس كان أسيراَ بأيدي المسلمين في معركة بدر , بينما شارك الإمام علي وفاطمة عليهما السلام حال الزهد التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتصر المسلمون في ذات بدر بسيف علي عليه السلام والصحابة والملائكة .
وعن الإمام عليه السلام أنه قال : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَمَّا زَوَّجَهُ فَاطِمَةَ بَعَثَ مَعَهُ بِخَمِيلَةٍ وَوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَرَحَيَيْنِ وَسِقَاءٍ وَجَرَّتَيْنِ فَقَالَ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ عليهما السلام ذَاتَ يَوْمٍ وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى لَقَدْ اشْتَكَيْتُ صَدْرِي قَالَ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ أَبَاكِ بِسَبْيٍ فَاذْهَبِي فَاسْتَخْدِمِيهِ فَقَالَتْ وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكِ أَيْ بُنَيَّةُ قَالَتْ جِئْتُ لَأُسَلِّمَ عَلَيْكَ وَاسْتَحْيَا أَنْ تَسْأَلَهُ وَرَجَعَتْ فَقَالَ مَا فَعَلْتِ قَالَتْ اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ فَأَتَيْنَاهُ جَمِيعًا فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي وَقَالَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ فَأَخْدِمْنَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَ بُطُونُهُمْ لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ فَرَجَعَا فَأَتَاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَدْ دَخَلَا فِي قَطِيفَتِهِمَا إِذَا غَطَّتْ رُءُوسَهُمَا تَكَشَّفَتْ أَقْدَامُهُمَا وَإِذَا غَطَّيَا أَقْدَامَهُمَا تَكَشَّفَتْ رُءُوسُهُمَا فَثَارَا .
فَقَالَ مَكَانَكُمَا ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي قَالَا بَلَى فَقَالَ كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ تُسَبِّحَانِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا وَتَحْمَدَانِ عَشْرًا وَتُكَبِّرَانِ عَشْرًا وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ
قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) ( ).
لتبقى هذه التسبيحة ثروة يومية بأيدي المسلمين والمسلمات الغني والفقير , والكبير والصغير , كما يؤتي بها في التعقيب بعد الصلاة .
لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته ما أراده لنفسه من الزهد وإيثار الفاقة , والصبر على المسكنة والحاجة , ورجاء الأجر والثواب , وهل الحديث أعلاه من مصاديق حديث الثقلين الجواب نعم .
(في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ: “إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض”)( ).
ومن مصاديق الثقلين استمرار أهل البيت عليهم السلام على ذات نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الزهد والتقوى وفيه شواهد كثيرة .
ترى ما هي النسبة بين موضوع هذا الجزء وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وبين معجزة زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب إن زهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواء سلام يفيض على المسلم وغير المسلم .
وهو دعوة للأمن المجتمعي , والتآلف بين الناس , وزاجر عن السرقة والنهب والغزو بين القبائل لما فيه من القناعة والرضا بما قسم الله عز وجل , وهل يمنع هذا القانون من الوأد , الجواب نعم فمن أسباب الوأد خشية الفقر والمجاعة , قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا]( ).
وفي الزهد تأديب للمسلمين , وحض على الإقتصاد في النفقات ومنها الأكل والشرب ومستلزمات المعيشة .
والزهد ضد للإسراف , فمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسراف بنفسه وأهل البيت لتشيع مفاهيم السلم بين الناس .
قانون العفو من خصال النبي (ص)
يقال عفا يعفو فهو عفو , العفو تركك عقوبة إنسان أساء واستوجب العقوبة ويتجاوز عن إساءته .
ومن أسماء الله (العفو) الذي اقترن باسم الغفور في القرآن كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا]( )، وقال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] ( ) وقال تعالى [فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا]( ).
وصحيح أن الفعل (كان) في الآية أعلاه ينبسط على أفراد الزمان الطولية الماضي والمضارع والحاضر إلا أن معناه تذكير المسلمين والمسلمات والناس جميعاَ بأن الله عز وجل قد عفا عن أمم وأحقاب وأجيال كثيرة قبلهم .
والصلة بين النبوة والعفو هي الملازمة , وصلة الأصل والفرع , فليس من نبي إلا وقد عفا عمن آذاه , وقد يعفو الملك والسلطان ولكن مرات عفوه محدودة كما أنه لا يعفو فيما يخاف عليه من عرشه وسلطانه , ولكن النبي لا يخشى منافساَ له في النبوة فهي فضل ومرتبة سامية من الله عز وجل , وقد جعل الله تعالى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين , ليس من نبي معاصر أو مناظر من زمانه .
والعفو ترك المؤاخذة على الذنب , قال تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الإمتثال للأوامر الإلهية والتكاليف في العبادات والمعاملات , ومن إعجاز الآية أعلاه الجمع بين العفو والصفح والتسامح والرفق والرأفة , وقد تقدم أن الآية سالمة من النسخ والتبديل الموضوعي.
وآيات (قل) وآيات الإحتجاج مدرسة في العفو لما فيها من ترك الإنتقام والبطش.
وهناك شواهد كثيرة على عفو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على المعجزة وأن عفوه يفوق المتعارف , قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] ( ).
وعفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : العفو على نحو القضية الشخصية كما في عفوه عن لبيد بن الأعصم الذي سحره , ولم يخرجه من المدينة إنما قال (اما انا فقد شفاني الله وكرهت ان اثير على الناس منه شرا) ( ).
الثاني : العفو في ميدان القتال والدفاع وأسر يوم بدر أبو عزة الجمحي (فقال للنبى صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد انه ذو بنات وحاجة وليس بمكة احد يفدينى وقد عرفت حاجتى فحقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دمه واعتقه وخلى سبيله فعاهده ان لا يعين عليه ولالسان وامتدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين عفا عنه)( ) ولكنه عاد وخرج مع المشركين في معركة أحد بتحريض وإغواء وإغراء ومكر من صفوان بن أمية الجمحي , فوقع في الأسر مرة أخرى وسأل النبي أن يخلي سبيله فلم يستجب لطلبه , وقال له لا يتحدث أهل مكة انك لعبت بمحمد مرتين .
الثالث : العفو على نحو القضية النوعية ، كما في عفوه عن أهل مكة يوم الفتح في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ) ( ).
الآية الثانية والثلاثون : قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) ذكر أن هذه الآية منسوخة بآية القتال .
وقال ابن البازري (وأما آية القتال وهي قوله تعالى في سورة التوبة (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ( ) فنسخ بها ثمانية مواضع في سبع سور) ( ).
وقد يراد من آية القتال المعنى الأعم أي الآيات التي ذكرت القتال ، وقد يختلف في نسخ الآية الواحدة ، وهل هي محكمة أم نسخت بآية السيف أو آية القتال ، قال المقري (قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، هذا محكم [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )،منسوخ نسختها آية السيف وقيل بل آية القتال) ( ).
وهل الإستثناء في الآية [إِلاَّ أَذًى] استثناء متصل ، وتقديره لن يضروكم إلا ضرراَ خفيفاً لا تلحقكم به خسارة كبيرة ، أم انه استثناء منقطع كما لو كان تقدير الآية : لن يضروكم إلا أذى باللسان ، أو لن يضروكم بالهزيمة .
والخلاف صغروي ، لأن النسبة بين الضرر والأذى عموم وخصوص مطلق ، فكل ضرر هو أذى وليس العكس ، ، وأثر الأذى أسرع زوالاً من أثر الضرر .
وكأن المقام برزخ بين الإستثناء المتصل والمنقطع وهذا قسيم ثالث للإستثناء ، لأن لغة القرآن أعم من تقسيمات البلاغة واللغة والأصول والكلام ونحوها.
والأذى أدنى مراتب الضرر ، والأذى ابتلاء ، وقد يلحق الإنسان ضرر في الحالة النفسية والإجتماعية ، وقد يكون الأذى في المقام بامتناع طائفة من الناس من دخول الإسلام للتخويف والوعيد الذي يأتي من قريش .
وتمام الآية هو [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ( ) ولم يرد لفظ [يَضُرُّوكُمْ] في القرآن إلا في آية البحث وبصيغة النفي ، وهو من إعجاز القرآن ، وبشارة الأمن والسلامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وتوالي نزول القرآن وإستدامة أحكام الشريعة .
تقدير الآية
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لن يضروكم في أنفسكم .
الثاني : لن يضروكم في الدين والملة .
الثالث : لن يضروكم في أداء الفرائض ، ولا يستطيع الذين كفروا منع المسلمين من الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس .
الرابع : لا يلحقون الهزيمة بكم في المعركة .
الخامس : لا تصل أيدي المشركين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : لا يستطيع المشركون منع الناس من دخول الإسلام.
وقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] بشارة للمسلمين إلى يوم القيامة ، ودعوة سماوية للشكر لله عز وجل على نعمة دفع الضرر عنهم ، والتدبر في مصاديق هذا الدفع ، وكل فرد منها معجزة من عند الله عز وجل ، فلماذا يقال بأنها منسوخة .
الآية لطف
هذه الآية لطف من عند الله عز وجل في موضوعها وحكمها ودلالتها ، وفيها تحد للذين كفروا بأنكم تعجزون عن الإضرار بالإسلام ، فلا تصل إلى الآية يد النسخ لأنها رحمة عامة.
وهل تدل صيغة المضارع في الآية على وقوع الإضرار بالمسلمين من قبل المشركين قبل نزول الآية ، الجواب لا .
وتدل عليه الوقائع والأحداث ، ومنها عجز كفار قريش عن تحقيق فرد واحد من الأضرار التي وردت في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) فان قلت قد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً ، والجواب المراد من الإخراج في الآية أعلاه الذي أراده المشركون على وجوه :
الأول : يكون إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من كفار قريش .
الثاني : إخبار قريش لعموم أهل مكة والقبائل بأنهم حكموا باخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جوار البيت الحرام .
الثالث : تعيين كفار قريش لوقت الخروج ، والجهة التي يتوجه إليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إختيار قريش للكيفية التي يخرج بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقتل في الطريق .
الخامس : منع الرفقة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : الإستيلاء على مال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعله يخرج على فاقة .
السابع : إيعاز قريش إلى الذي يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتله أو مضايقته والإضرار به .
الثامن : الحيلولة دون بلوغ الآيات والسور القرآنية التي تنزل إلى المسلمين والمسلمات وعامة الناس ، فأراد المشركون ألا توثق وتحفظ الآية في الصدور ، ولا تكتب على اللحاف وفي الورق وعلى الأدم , وهو من مصاديق خاتمة آية البحث [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
لقد أرادت قريش وقف الذم السماوي لعبادة الأوثان والأصنام بقتل أو إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وقطع الصلة بين التنزيل والناس ، ولا يقدر على هذا القطع أحد أو جنس من الخلائق ،وهو من مصاديق آية البحث [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] وقوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ].
سلامة الآية من النسخ
من الحاجة إلى القول بعدم ثبوت نسخ هذه الآية وتجليات مفهومها ودلالتها جهات :
الأولى : مخاطبة الآية للمسلمين كأمة واحدة .
الثانية : تجدد الخطاب في الآية لكل جيل من المسلمين ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولأن آيات القرآن غضة طرية إلى يوم القيامة ، ومضامينها وأحكامها متجددة ، ومنه سلامة آية البحث من النسخ والتبديل .
الثالثة : حرمة الإقتتال بين المسلمين .
الرابعة : لزوم التعاون والتعاضد بين المسلمين لتخفيف الأذى الذي يأتي من الكفار ،قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
ومن معاني الآية أعلاه أن تفرق المسلمين سبب لإزدياد أذى المشركين لهم مجتمعين ومتفرقين ، وتقدير الآية : واعتصموا بحبل الله جميعاً يخفف عنكم أذى الذين كفروا ولا تفرقوا فيزداد إيذاؤهم لكم .
ومن مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ] ( )، منع المشركين من الإضرار بالمسلمين ، وقد تقدم في الجزء السادس والخمسين بعد المائة.
والذي اختص بتفسير الآية 169 من سورة آل عمران قانون عدم إضرار مكر ودهاء الذين نافقوا بالإسلام والمسلمين ( ).
من منافع سلامة الآية من النسخ
ومن منافع عدم نسخ آية البحث أن إختيار المسلمين طريق السلم والصلح والموادعة سبب لإمتناع الكفار عن إيذائهم والإضرار بهم ، ويكون تقدير الآية : لن يضروكم ما دمتم تتعاهدون السلم .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( )، قانون اختيار المسلمين السلم سلامة لهم من شرور إضرار وأذى الكفار ، لذا فان المصلحة تقتضي بقاء آية البحث سالمة من النسخ.
والأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.
ويدل على هذا المعنى صلح الحديبية ، فعندما تم توقف إيذاء المشركين للمسلمين ، وكان من شروطه وقف الحرب والقتال بين الطرفين عشر سنوات ، وحق كل إنسان وقبيلة دخول الإسلام بادرت خزاعة لدخول الإسلام.
فقد كان منع الناس من دخول الإسلام إضراراَ بالنبوة والصحابة من المهاجرين والأنصار .
والأذى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الضرر ، ليكون قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، بشارة ولطفاً وتخفيفاً من عند الله عز وجل ، لذا فهي ليست منسوخة .
وهل يمكن الجمع بينها وبين آيات القتال والدفاع من غير تعارض ، الجواب نعم ، لكن قتال المسلمين دفاع محض ، ومن مصاديق الجمع بينها وجوه :
الأول : سلامة المسلمين من الهزيمة في ميدان القتال .
الثاني : عجز المشركين عن تحقيق النصر في ميدان المعركة .
الثالث : معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم وقوع أفراد من المسلمين أسرى بأيدي المشركين ، بينما وقع سبعون منهم أسرى بأيدي المسلمين في معركة بدر ، والتي إختار أوانها ومكانها المشركون ،وهم الذين ابتدأوا بها ، فلاقوا الخزي في ذات اليوم وهو السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
قانون الموعظة وفق القياس الإقتراني
ويمكن القول وفق القياس الإقتراني الحملي :
الأولى : آيات الموعظة سالمة من النسخ .
الثانية : آيات السلم موعظة .
الثالثة : آيات السلم سالمة من النسخ .
وهو وفق القياس الإقتراني الشرطي :
الكبرى : إذا كانت آيات القرآن موعظة فلابد من سلامتها من النسخ .
الصغرى : آيات السلم موعظة .
النتيجة : لابد أن آيات السلم سالمة من النسخ .
وهو وفق القياس الإستثنائي الذي يصرح في إحدى مقدمتيه بنتيجته مثل آيات الموعظة إما أن تكون منسوخة أو سالمة من النسخ .
الكبرى : كلما كانت الآية للموعظة فهي سالمة من النسخ .
الصغرى : لكن آيات السلم موعظة .
النتيجة : آيات السلم سالمة من النسخ .
واستعمل القياس الإقتراني قليل ونادر ، وقد يتبعه بعض العلماء للبرهان وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم .
قانون كل آية موعظة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الموعظة ، وهي مصاحبة للإنسان من حين خلق آدم عليه السلام إذ أمره الله عز وجل وحواء أن لا يقتربا من شجرة مخصوصة ، وأن هذه الإقتراب والأكل منها سبب لصيروتهما من الظالمين ، ومن معاني الموعظة : الوصية ، وكان آدم الإمام في الوعظ لأولاده وأحفاده ، وكذا كل نبي ورسول ، ولم ينقطع وعظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس إلى يوم مغادرته الحياة الدنيا .
وهل يمكن القول بأن كل آية من القرآن موعظة ، الجواب نعم سواء في منطوقها أو مفهومها وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني .
ليكون من منافع هذه التلاوة التدبر في آيات القرآن ، وهل تكون التلاوة واعظاً للتالي لها أم أنها تختص بوعظ الغير ، الجواب هو الأول ، ويكون من معانيه أقرأ وأتعظ وعظ غيرك .
وبين موعظة الذات والغير في المقام عموم وخصوص مطلق ، إذ يتعظ التالي للقرآن من القراءة الجهرية والإخفاتية ، بينما ينتفع ويتعظ غيره من القراءة الجهرية ، وإن كان ذات الوقوف بين يدي الله عز وجل موعظة وعبرة وإعراضاً عن المشركين .
وتشمل الموعظة القرآنية كلاً من :
الأولى : آيات الأوامر .
الثانية : آيات النواهي ، وفي التنزيل [يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ] ( ).
الثالثة : آيات الجملة الخبرية مثل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة : آيات القصة .
الخامسة : آيات الموعظة ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) والموعظة : القرآن وآياته على نحو العموم الإستغراقي والعموم المجموعي والعموم البدلي .
السادسة : آيات البشارة والإنذار .
السابعة : أسرار الخلق في القرآن .
الثامنة : علوم الغيب في القرآن .
التاسعة : آيات الوعد والوعيد وذكر عالم الآخرة .
وفي الآية أعلاه قال الواقدي ({ يا أيها الناس } يعني : قريشاً { قد جاءتكم موعظة من ربكم } القرآن) ( ).
والخطاب في الآية عام لا ينحصر بقريش .
وهل يشمل الصحابة من المهاجرين والأنصار ، الجواب نعم ، وهو متجدد في كل زمان ، وهل يختص بالبالغين ، فعندما يبلغ الإنسان يتوجه الخطاب إليه أم يشمل غير البالغ .
المختار هو الثاني ، وإن كان البلوغ شرطاً وقيداً في التكليف ، ومن مصاديق الموعظة في القرآن أمور :
الأول : القرآن كلام الله .
الثاني : نزول القرآن من عند الله .
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن حال نزولها .
الرابع : المضامين القدسية الواردة في القرآن .
الخامس : أسباب نزول الآية القرآنية .
السادس : الناسخ والمنسوخ في القرآن ، وبيان بطلان نسخ آية السيف لآيات كثيرة من القرآن .
السابع : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الثامن : عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة بأحكام الآية القرآنية حال نزولها .
التاسع : تلاوة الآية القرآنية ، وصيغة الموعظة فيها من مصاديقه.
العاشر : الأجر والثواب في قراءة المسلم القرآن و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه،
لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
علم المعجزة النبوية في الآية القرآنية
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وهذه التبيان مطلوب بذاته ، ونعمة ومقدمة لنعم كثيرة ، واستنباط قواعد وقوانين مستحدثة إلى يوم القيامة .
وما استخرج من درر ولآلى القرآن ، واستقرئ من علومه إلا جزء يسير ، وهو يدعو العلماء والمحققين إلى سبر أغوار آياته ، وبيان الذخائر العلمية والبراهين التي تدل على صدق نزوله من عند الله عز وجل .
ومن علوم القرآن دلالة آياته على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأمور الحسية الخارقة التي جرت على يديه ، إلى جانب قانون القرآن معجزة عقلية إنفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ، ولابد أن القرآن يشهد ويثبت المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في معجزة الإسراء ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ) ومعجزة إنشقاق القمر ، وعن (محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه،
قال : انشقّ القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة.
وأخبرنا عبدالله قال : أخبر عمر بن الحسن الشيباني قال : حدّثنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حصين عن سعد عن عكرمة عن ابن عباس والحكم عن مجاهد عن ابن عباس ومقسم عن ابن عباس قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باثنين : شطره على السويداء، وشطره على الجندمة ) ( ).
وعن (جبير بن مطعم في قوله { وانشق القمر } قال : انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار فرقتين ، فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقال الناس : سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم .) ( ).
وعن (ابن عباس قال : انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟
فهبط جبريل ، فقال : يا محمد قل : يا أهل مكة إن تختلفوا هذه الليلة فسترون آية فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقالة جبريل ، فخرجوا ليلة أربع عشرة ، فانشق القمر نصفين نصفاً على الصفا ونصفاً على المروة ، فنظروا ثم مالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ، ثم مسحوا أعينهم ، ثم نظروا ، فقالوا : يا محمد ما هذا إلا سحر ذاهب ، فأنزل الله { اقتربت الساعة وانشق القمر } .) ( ).
ولمعرفة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت في القرآن لابد من دراسة آيات القرآن إبتداء من البسملة ثم سورة الفاتحة إلى سورة الناس ، مثلاً قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( )، وفيه بيان لإجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادة مع مقام النبوة والرياسة العامة في الناس و(عن عطاء قال : قلت لعائشة أخبرني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قالت : وأي شأنه لم يكن عجباً!
إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال : ذريني أتعبد لربي .
فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ، ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى ، ثم رفع رأسه فبكى.
فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ، ولم لا أفعل وقد أنزل علي هذه الليلة { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } إلى قوله { سبحانك فقنا عذاب النار } ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) ( ).
لبيان أن عبادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب لنزول آيات من القرآن ، وأنه يؤكد على وجوب التفكر والتدبر في هذه الآيات .
معجزات الميدان
هل الآيات النازلة بخصوص معارك الإسلام الدفاعية معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، فمثلاً قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، فهذا النصر معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دفاعه عن النبوة والتنزيل ، وفيه بيان ومصداق لفضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
وكما في الأنفال فعندما جاءت الغنائم في معركة بدر دفعة واحدة للمسلمين ، حدث خلاف بينهم في الإستحواذ عليها ، وفي قسمتها ، إذ أن طائفة إنشغلت بمطاردة المشركين ، وأخرى تحيط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للذب عنه ، بينما قامت طائفة بجمع الغنائم والإستيلاء عليها ، وأمتنعوا في بادئ الأمر باعطاء غيرهم منها ، فنزل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوزيعها على المسلمين ، ليكون الإعجاز من جهات :
الأولى : نزول الآية في درء الفتنة .
الثانية : في الحكم بالحق .
الثالثة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوزيع بالعدل معجزة له .
الرابعة : واقعة بدر وما يترشح عنها مناسبة لإنقطاع المهاجرين والأنصار إلى الشكر لله عز وجل على نعمة النصر .
وقد تقدم في الجزء الثاني والسبعين بعد المائة من هذا السِفر :
الأول : قانون إن الله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في أدائهم الفرائض والعبادات .ص171
الثاني : قانون إن الله سبحانه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في خروجهم من المدينة , وهو من مصاديق قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ]( ).ص171
الثالث : قانون إن الله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في ميدان معركة بدر , وهو من أسرار نصرهم .ص171
الرابع : قانون إن الله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في صبرهم .ص171
الخامس : قانون إن الله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في كيفية غلبتهم على الذين كفروا.ص171
السادس : قانون إن الله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في دفع كثير من المعارك .
ومن معجزات الميدان قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( )، وهل هي معجزة حسية أم عقلية ، الجواب إنها منهما معاً .
وقد تقدم قانون معجزة رمي قبضة ، الجزء 172/ 156 وقانون معجزة رمي قبضة لهزيمة جيش المشركين ) ( ).
(عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء وقال : شاهت الوجوه . فانهزمنا ، فذلك قول الله تعالى { وما رميت إذ رميت } الآية) ( ).
ومن معجزات الميدان دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة المعركة ، واثناء القتال ، واستجابة الله عز وجل له استجابة يتجلى فيها الإعجاز ، وطرق قوانين الحياة الإنسانية ، وفنون القتال ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
فان قلت قد وردت الآية أعلاه بصيغة الجمع ، الجواب جاءت السنة النبوية وأخبار الصحابة باجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وأن الله عز وجل استجاب له ، وصيغة الجمع لبيان فضل الله عز وجل على الصحابة وذكر دعائهم يومئذ إلى جانب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن عباس (حدثني عمر بن الخطاب، ، قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونَيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم .
قال: اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا، قال: فما زال يستغيث ربه [عز وجل] ويدعوه حتى سقط رداؤه)( ).
ليكون نزول ألف من الملائكة يوم بدر معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي مقدمات معركة أحد والسير إليها نزل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، لبيان ليس ثمة مسافة بين بيوت المدينة وميدان معركة أحد ، فحالما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته من عند ازواجه صار يبين لأصحابه مواضعهم من القتال ، ولم يعلم المشركون الإبتلاء الذي ينزل بهم بسبب إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإدخال الخوف والفزع في قلوب أهل البيت ، فابتلى الله المشركين بأن غزا الرعب قلوبهم عندما قاموا بغزو المدينة ، إذ قال تعالى بخصوص معركة أحد [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
لقد اجتهد المشركون بالإعداد لمعركة أحد من حين وصول فلول المنهزمين من معركة بدر ، واتفق أن رأوا أبا سفيان قد وصل بقافلته سالمة إلى مكة قبل رجوعهم إليها ، ليكون حجة عليهم في إصرارهم على القتال ، وزاجراً عن إعادة الكرة بالهجوم والقتال ، ولكن بعض رؤسائهم ممن سقط اباؤهم واخوانهم قتلى في معركة بدر مشوا بين الناس لتحريضهم على القتال وسألوا الذين عندهم أموال في قافلة أبي سفيان تسخيرها لمعركة أحد ، ومن هؤلاء الرجال :
الأول : عكرمة بن أبي جهل ، الذي قتل أبوه في معركة بدر .
الثاني : صفوان بن أمية الذي قتل أبوه وأخوه في معركة بدر .
الثالث : عبد الله بن أبي ربيعة .
وحرموا البكاء في مكة على قتلى بدر ، واصطحبوا معهم في سعيهم وطوافهم على بيوتات مكة الشعراء للحماسة والتأليب ، والإفتراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فجمعوا الجيوش وساروا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيهما أشد ظلماً من قريش لأنفسهم معركة بدر أم معركة أحد ، المختار هو الثاني ، ولما وصلوا إلى مشارف المدينة نزلوا عند جبل عينين سمي بهذا الاسم لوجود قنطرة عين عنده ، ثم سمي بعد معركة أحد جبل الرماة.
وكثيرة هي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، ولكن هذا البحث يختص بالمعجزات النبي تتجلى من الآيات القرآنية ، ومنه [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
إذ سار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قدميه متوجهاً إلى لقاء المشركين في ميدان المعركة والذين قطعوا أربعمائة وخمسين كيلو متر من مكة إلى مشارف المدينة لا لشئ إلا لمحاربة النبوة والتنزيل ، ليكون من الإعجاز في آيات معركة أحد صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشدة الأذى والجراحات التي أصابته وسلامته من القتل يومئذ بعد أن صار قريباً منه إذ كانت حجارة القوم تصله.
قراءة في حمراء الأسد( )
تذكر غزوة حمراء الأسد من بين غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن النبي لم يغز حمراء الأسد ، وليس فيها قرية أو مجمع للسكان ، ومع هذا تسمى غزوة حمراء الأسد .
وهل إنسحاب ثلاثة آلاف مقاتل من كفار قريش وأعوانهم في ذات معركة أحد من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وتبعد حمراء الأسد عن المدينة المنورة (12) كم ، كما في رواية ابن عباس أنها على ثمانية أميال من المدينة ، وقيل تبعد عشرين كيلو متر عنها ، وهي الان جزء من المدينة وصلها العمران .
وهل إتساع عمران المدينة المنورة من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبركة الهجرة ، وتسمية معركة أحد بأنها غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتم .
وتعدد تسميتها إلى أن ذات المنطقة أسمها حمراء الأسد ، وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد في اليوم السادس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة امتداداً لغزوة أحد.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن مائتين ونيفاً من أصحابه الجرحى يطاردون إلى حمراء الأسد نحو ثلاثة آلاف من المشركين الذين يحملون الأسلحة والدروع والسهام والنبال ، وعندهم مائتا فرس.
وكان قد قتل منهم في معركة أحد على قول ابن إسحاق (22) رجلاً ، وقال ابن سعد في طبقاته أنهم ثلاثة وعشرون رجلاً .
وقتل من المسلمين سبعون شهيداً ، ستة من المهاجرين منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاء عبد الله بن أبي رأس النفاق للنبي ليأذن له بالخروج معهم إلى حمراء الأسد فلم يأذن له ، وفيه تبكيت للمنافقين ، وأذن لجابر بن عبد الله الأنصاري ، وفيه معجزة غيرية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ،إذ قتل أبو جابر بن عبد الله قبل يوم معركة أحد ، ومع كثرة أخواته خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكره أن أباه منعه من الخروج إلى معركة أحد ليبقى مع أخواته.
لقد تناجى المشركون بالرجوع لاقتحام المدينة ، وحرض بعضهم بعضاً.
وفي حمراء الأسد جاء معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو على الشرك ولكنه ناصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحلف الذي بين بني هاشم وخزاعة ، فأمره أن يخيف أبا سفيان رئيس جيش المشركين يوم أحد.
لقد خرج المهاجرون والأنصار إلى حمراء الأسد مع كثرة جراحاتهم بعد يوم واحد من معركة أحد ، ومصيبتهم بفقد سبعين من أصحابه معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان هذا الخروج إلى حمراء الأسد ضرورياً لمنع المشركين من غزو المدينة مع كثرة المنافقين وأراجيفهم في المدينة بعد سقوط سبعين شهيداً أغلبهم من الأنصار ، الجواب نعم .
لبيان أن صرف المشركين عن الرجوع إلى غزو المدينة معجزة وفضل من الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
وهذا الخروج عنوان الأخوة بين الصحابة ، وهو من منافع مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركم بطلب عدوكم ، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس .
وقد جاء في الجزء الثالث والسبعين بعد المائة من هذا السِفر كل من :
الأولى : موضوع الآية هو عودة النبي وأصحابه من حمراء الأسد ، وعدم وقوع قتال فيها .
ولو وقع قتال فلا يعلم نتيجته إلا الله لقلة عدد المسلمين وكثرة جراحاتهم ، نعم يتفضل الله عز وجل بالملائكة مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهذا المدد من رشحات نزول جبرئيل من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد بالخروج خلف جيش الكفار أي حينما أمر الله عز وجل النبي وأصحابه بالخروج فانه سبحانه يضمن السلامة والغلبة والنصر للمؤمنين لذا إبتدأت آية البحث بحرف العطف الفاء [فَانْقَلَبُوا] وتمام الآية هو [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).
وذكر أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب ٍ لَمّا انْصَرَفَ يَوْمَ أُحُدٍ ، أَرَادَ الرّجُوعَ إلَى الْمَدِينَةِ ، لِيَسْتَأْصِلَ بَقِيّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ : لَا تَفْعَلُوا ، فَإِنّ الْقَوْمَ قَدْ حَرِبُوا ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قِتَالٌ غَيْرُ الّذِي كَانَ فَارْجِعُوا ، فَرَجَعُوا . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ حِينَ بَلَغَهُ أَنّهُمْ هَمّوا بِالرّجْعَةِ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبّحُوا بِهَا لَكَانُوا كَأَمْسِ الذّاهِبِ) ( ).
الثانية : القدر المتيقن من السلامة من السوء في آية السياق هو عدم وقوع القتلى والجرحى ، وشرور القتال والمطاردة والحصار ، وقد سلم المسلمون منه .
الثالثة : بيان نعمة من عند الله ، وهي إستمرار قريش بالإنسحاب إلى مكة حتى حينما علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج باصحابه لمطاردتهم ، فالأصل هو أن الجيش الكبير حينما يسمع بالجيش القليل المثقل بالجراحات قد خرج في طلبهم فانه يكرّ عليهم ويكيد لهم ، لتكون مواصلة جيش المشركين الإنسحاب إلى مكة من مصاديق النعمة والفضل اللذين تذكرهما آية السياق .
وعن ابن عباس في هذه الآية أعلاه (قال : قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب)( ).
ترى لماذا وردت آية السياق بصيغة الغائب [فَانْقَلَبُوا][ لَمْ يَمْسَسْهُمْ][ وَاتَّبَعُوا] ولم تقل (فانقلبتم) (لم يمسسكم سوء)(واتبعتم).
الجواب من جهات:
الأولى : بيان قانون وهو أن القرآن نزل لكل الأجيال ويتصف بأنه حي وحاضر في كل زمان ويبين للناس الوقائع لتكون حاضرة في الواقع الذهني والواقعي .
الثانية : بيان قانون وهو عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من حمراء الأسد فضل على كل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حمراء الأسد من غير أن يلقى قتالاً ، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما من عبد ينعم الله عليه بنعمة إلاَّ كان {الحمد} أفضل منها ( ).
الرابعة : بيان قانون في منهاج النبوة وهو خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب وعودته من غير أن يخوض قتالاً , أو يغزو قرية أو بلدة .
بحث أصولي القطع
القطع : هو اليقين والإعتقاد والجزم الذي لا يصاحبه احتمال الخلاف ، فمع إجتماع القرائن والأسباب يكون القطع حجة بين العبد وبين ربه ، ويجب العمل بهذا اليقين.
ومن إعجاز القرآن ورود اليقين ست مرات في الآيات والسور المكية ، قال تعالى [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ] [إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ] ( ) [وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ] ( ) [وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ] ( ).
وعن ابن عباس : اليقين الموت .
ومن أسرار تعدد لفظ اليقين في السور المكية الإنذار للكفار المقرون بالترغيب بالإيمان ، ودعوة لثبات الإيمان في نفوس المسلمين ، فمجئ اليقين لكل إنسان النبي والمؤمن والكتابي والكافر القطع إلى الزوجية للأربعة الأثنين نصف الأربعة ، ويمكن تسمية الدنيا (دار اليقين ).
لا يسأل لم صار الإنسان ناطقاً والحمار ناهقاً
حجته ذاتية ولا يقبل الجعل التشريعي اثباتاً ونفياً .
النسبة بين التجري والمعصية العموم والخصوص من وجه .
قانون قراءة مجمل الآية
من خصائص القرآن الترابط والتداخل في الآية القرآنية من جهات :
الأولى : الصلة والتناغم بين حروف القرآن .
الثانية : قانون تداخل المعاني بين كلمات الآية القرآنية .
الثالثة : قانون استنباط الأحكام من مجموع كلمات الآية القرآنية ، وهو لا يتعارض مع قانون استقراء الأحكام من أول الآية ، ومن أوسطها ،ومن آخرها .
وابتدأت آية البحث [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا]( )، باسم الإشارة للبعيد ، وهذا البعد دلالة إزدرائهم لإفادته في موضوع الآية القرآنية ، إذ يرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبح فعل المنافقين ، كما تقدم قبل آيتين [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
وأخبرت الآية عن علم الله عز وجل بما في قلوب المنافقين ، وهل يمكن التحقيق والتفسير ماذا في قلوب المنافقين ، الجواب نعم ، لمجئ آيات القرآن بالإخبار عن إضمار المنافقين الكفر والريب ، والحقد والمكر في النبوة والتنزيل مع أنهم يحضرون الصلاة ، ويخرجون في الكتائب ، ولكن طمعاً.
وجاء هذا الإخبار بعد أن أختتمت الآية السابقة عن حضور المنافقين بيد يدي رسول الله ، وحلفهم بأنهم يريدون الإحسان في القول والفعل والصلاح .
و(عن ابن عباس قال : كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ، ومعتب بن قشير ، ورافع بن زيد ، وبشير ، كانوا يدَّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية . فأنزل الله فيهم { ألم تَر إلى الذين يزعمون . . . } الآية .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة وفي لفظ : ورجل ممن زعم أنه مسلم فجعل اليهودي يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم ، ثم اتفقا على أن يتحاكما إلى كاهن في جهينة . فنزلت {ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا…} الآية إلى قوله {ويسلموا تسليماً}) ( ).
وكما يتصف المنافقون بالشك والريب فان الله عز وجل أمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عنهم ، والإعراض النبوي أمر عظيم لأنه شعبة من الوحي .
ويأتي بكيفية لا يعلمها إلا الله ورسوله مما يبعث الحزن والخوف في قلوب المنافقين ، ومن ورائهم من الكافرين .
ومن هذا الإعراض عدم الإقبال على المنافقين ، باللطف والبشاشة والإحسان ، مما يجعلهم منشغلين بالأذى الذي لحقهم من هذا الإعراض بدل إثارة الكيد والأراجيف في المدينة .
ومن خصائص الإعراض النبوي أن الصحابة من المهاجرين والأنصار يتبعون نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإعراض عن المنافقين ، مما يزيد وطأة الأذى والعزلة على المنافقين ، وينعدم تأثيرهم وضررهم في المدينة .
ومن إعجاز القرآن أن الإعراض ليس قطيعة وحصاراً ، فهو أدنى مرتبة من القطيعة ، لبقاء خيط صلة ، وسبيل توبة للمنافقين ، ولعدم التعارض بين الإعراض والتذكير والنصح والدعوة إلى التوبة والإنابة ، والندم والعزم على عدم العودة إلى النفاق ، كما في قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ).
ومن الآيات عدم إيكال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولية وولاية عامة للمنافقين ، ومن الإعراض قوله تعالى [وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا] ( )، ومنه الحيطة والحذر من المنافقين ، قال تعالى [هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ]( ).
وهل من موضوعية لقانون قراءة مجمل الآية في موضوع النسخ وعدمه ، الجواب نعم ، إذ تنفي مضامين آية البحث دلالة النسخ عن آية البحث ، ولم يأت لفظ [عِظْهُمْ] في القرآن إلا في آية البحث ، لبيان أن حكم المنافقين يتألف من :
الأول : الإعراض عنهم .
الثاني : الموعظة .
الثالث : التنبيه والتبكيت والتعريض بهم ، وبما يخفون في أنفسهم من الكفر والجحود ، لينزجروا وليتعظ المؤمنون .
ولا ينسخ من هذه الأمور شيئ ، وحكمها باق لأن الله عز وجل يأمر النبي محمداً بقتال أو قتل المنافقين ، فكيف تنسخ آية السيف آية البحث مع أن مضامينها تخص المنافقين .
انتفاء التعارض بين آية السيف وآية البحث
من الشواهد على عدم النسخ في المقام أن هذا التولي أمر متزلزل غير مستديم ، فقد يتولى الإنسان عن دعوة النبي محمد له للإسلام اليوم ، ولكنه يتوب في الغد ، فلا يقاتل الذي تكون توبته محتملة ، ويحمل معنى آية البحث على ظاهره الذي يفيد العلم التفصيلي باعراض وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الذي كفر .
فان قلت قد نزلت آية السيف ، والجواب هذا صحيح ، ولكن ليس من تعارض بين آية السيف وآية البحث من جهات :
الأولى : اختلاف الموضوع : فاذا تعدد الموضوع تعدد الحكم .
الثانية : الإعراض عن الذي يعزف ويتولى عن الدعوة النبوية تبكيت وتوبيخ له ، خاصة مع لحاظ أول آية البحث ، إذ يرى الذي يعرض عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمة مطيعة له .
الثالثة : نزول آيات القرآن التي تدل على حال العز والفخر التي عليها المؤمنون الذي يطيعون الله ورسوله ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ]( ).
الرابعة : عدم انحصار موضوع آية السيف بالقتل ، إذ تتضمن التضييق والتشديد على الذين كفروا إلى أن يتوبوا ، قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامسة : يكون الذي يطيع الرسول داعية إلى الله فقوله تعالى في آية البحث [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( )، داعية إلى الله ، ويقوم بتبكيت الذي أعرض عن الدعوة بالهداية والإيمان .
وهذه الطاعة من عمومات قوله تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
الناس في بداية الدعوة
وفي بدايات الدعوة في مكة كان الناس على أقسام :
الأول : الذين آمنوا وهم قلة ، ولكن في إطراد وإزدياد في العدد والإيمان والصبر ، وهذا الإزدياد المتعدد من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن وجوه الإعجاز في المقام :
أولاً : سرعة إزدياد عدد المسلمين .
ثانياً : دخول الرجال والنساء في الإسلام .
ثالثاً : تحمل المسلمين والمسلمات الأوائل أشد الأذى في جنب الله عز وجل ، وفي سورة العنكبوت وهي سورة مكية قال تعالى بخصوص البشارة بالجنة [الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
ومن معاني الصبر في المقام صدق الإيمان ، ورجاء الفوز بالنعيم الأخروي في الجنة .
رابعاً : دخول الناس من خارج مكة الإسلام في السنين الأولى للدعوة النبوية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) لبعث النبي على التوسعة في الدعوة والإجتهاد في تبليغ وفد الحاج كل عام ، وتلاوة آيات القرآن عليهم .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان عندما يبلغ الناس يسأل أولاً عن القبيلة ونسبها ، ثم يجلس إليهم في مواضعهم في مِنى أن يكتموا أمره خشية إضرار قريش به ، حتى أن وفد الأنصار كانوا يتخفون في لقائهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الأولى والثانية ، وكان تخفيهم في الثانية أكثر .
وكان العباس بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتاجر بالمال أيام الجاهلية ، ويقرضه مع فضل يأخذه من المدين زيادة على رأس المال عند العجز عن القضاء في السنة الأولى ، وممن كان يتاجر معه عفيف بن عمرو الكندي ، وهو أخو الأشعث بن قيس لأمه ، وابن عمه ، وهو غير عفيف بن معد يكرب الذي يروي عن عمر بن الخطاب ، وإن قيل إنهما واحد ، قال عفيف قدمت إلى مكة موسم الحج ونزلت على العباس بمنى ، إذ كان صديقاً له ، وبينهما تجارة ، قال زيد بن أرقم ( أول من أسلم مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، علي.
وقال عفيف الكندي: كنت أمرأً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ فقال تجاه الكعبة يصلي، ثم خرجت امرأة تصلي معه، ثم خرج غلام فقال يصلي معه.
فقلت: يا عباس ما هذا الدين ؟
فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة !
قال عفيف: ليتني كنت رابعاً) ( ).
ولم يقع ندم الذي تخلف عن دخول الإسلام عن عاطفة أو هوى بل لإنه أدرك فوات أيام وسنوات من عمره من غير صلاة وصيام وطاعة لله عز وجل ، وما يترشح عنها من الرحمة والخير والبركة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) ، ومنه إسلام وفد الأوس والخزرج ، وإبتداء سبيل الهجرة النبوية .
الثاني : الذين كفروا بالنبوة ، وهم الكثرة ، قال تعالى [وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] ( ) ومن الإعجاز في الآية أعلاه نعت الكثرة من الذين كفروا بالجهالة.
وعدم العقل ، وعدم ورود صيغة العموم في المقام شاهد على توبة طائفة منهم ، ودخولهم الإسلام ، فلم تقل الآية (ولكن كل الذين كفروا لا يعقلون) ، وقال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] ( ) .
لبيان التباين في النوايا والمقاصد من نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الحجرات ، وأن بعضهم مؤمنون .
(عن زيد بن أرقم قال : اجتمع ناس من العرب فقالوا : انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكاً نعش بجناحه ، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرته ، فجعلوا ينادونه : يا محمد فأنزل الله {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأذني ، وجعل يقول : لقد صدق الله قولك يا زيد ، لقد صدق الله قولك) ( ).
الثالث : الذي ليس لهم رأي في النبوة ، ويتطلعون إلى المزيد من البيان ، وكشف الحقائق ، وأسرار التنزيل .
الرابع : المستضعفون الذين لا يصل إليهم التبليغ ، والمغلوب على أمرهم ، قال تعالى [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً] ( ).
من موارد الجمع بين الكفار والمنافقين
من قوانين النبوة محاربة طائفة من الذين كفروا للنبي والرسول ، وهناك تناسب طردي بين سعة وكثرة تبليغ النبي لدعوته ، وبين إزدياد عدد الذين يعادونه وصيغ هذه المحاربة .
وقد امتازت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمحاربة الذين كفروا له بالسيف والرماح والنبال ، وسقط عدد من القتلى من الطرفين في الميدان ، ويوم معركة أحد لما برز أبو سعد بن أبي طلحة حامل لواء المشركين بين الصفين يدعو للمبارزة ، لم يخرج له أحد من المسلمين ، فصار يتبختر ونادى : أنا قاصم من يبارز برازاً ، ثم قال (يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم فخرج إليه علي بن أبي طالب عليه السلام فاختلفا ضربتين فضربه علي فقتله)( ).
ومن إعجاز القرآن إخباره عن قانون عدم إنحصار قتال الكفار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ، كما في قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
ومن إعجاز الآية أعلاه أنها لم تقل (وكأين من رسول ) إنما ذكرت صفة النبوة ، والنسبة بين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق ، فكل رسول هو نبي وليس العكس .
وعلى فرض شمولها للذين كفروا ، فلا دلالة على نسخ هذه الآية لكثرة آيات الإعراض عن الذين كفروا سواء في السور المكية أو المدنية ، منها قوله تعالى [وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( )الذي ورد في سورة الأنعام ( )، وسورة الحجر( ) ، وهما مكيتان ، وفي سورة النساء وهي مدنية.
وفي سورة المائدة والتي هي من آخر سور القرآن نزولاً ، قال تعالى [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
وكأن فيه ثمرة لإعراض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتصل عن الذين كفروا ، والذين نافقوا بانعدام مجئ الضرر منهم مع الإعراض ، مما يدل على أن فلسفة الإعراض لا تختص بالذين نافقوا ، إنما تشمل الذين كفروا إلى حين مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الآية الثالثة والثلاثون : قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) قال ابن البازري نسختها آية القتال ( ).
وقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات , وفي سورة آل عمران :
الآية الأولى : قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
الآية الثانية : قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الآية الثالثة : قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
ولم يأت هذا اللفظ في سورة أخرى من القرآن ، وهو من إعجاز القرآن .
والمختار أن الماتن أراد الآية الأولى أعلاه ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الجزء السادس والثمانين من هذا السِفر ، ولا دليل على نسخ الصبر أو التقوى مجتمعين ومتفرقين ، وليكون إجتماعهما معجزة في النص والدلالة والأثر ومنهاج عمل المسلمين بلحاظ أنه صراط مستقيم ومنهاج قويم ، وفيه خير الدنيا والأخرة.
ومن خصائص التحلي بالصبر والتقوى نشر ألوية السلم المجتمعي ، والتعايش بين الناس ، ونبذ الحرب والإقتتال .
ويكفي من الطرف الآخر وهم المشركون الصبر عن القتال ، ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان رهط من رؤساء قريش يدعون إليه ، حتى في صبيحة معركة بدر .
إذ قام عتبة بن ربيعة (خطيبا في الناس فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، إني أرى أقواما مستميتين لاتصلون إليهم، وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة، وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم)( ).
لبيان أن تقيد المسلمين بالصبر والتقوى سبب للنداء في صفوف جيوش المشركين للإمتناع عن القتال ، وفيه حجة عليهم ، ومناسبة لخذلانهم ، واختيار طائفة منهم التوبة والإنابة.
وإذا كان الصبر ينسخ بآية القتال عند كيد المشركين فان التقوى باقية وسالمة من النسخ ، وقوله تعالى [وَتَتَّقُوا]في الآية أي تتقوا الله.
والحق أن الصبر لا ينُسخ وهو ملازم للإيمان .
والآية بشارة الأمن الدائم من كيد المشركين ، والسلامة منه ، وعدم إضرارهم بالمسلمين ، فلا تصل النوبة إلى النسخ أو القتال .
لقد ذكرت الآية خصالاً مذمومة للمشركين هي :
الأولى : إذا جاءت للمسلمين حسنة بصيغة التنكير لبيان العموم فيها ، فتشمل مصاديق منها :
الأول : الخير والبركة .
الثاني : الرزق الكريم .
الثالث : دخول أفراد في الإسلام .
الرابع : النصر على المشركين .
الخامس : توالي تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن وإقامته الصلاة اليومية .
السادس : فضل الله عز وجل والنعم الظاهرة ، قال تعالى [فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] ( ).
السابع : التآخي والتكافل بين المسلمين .
وكما جاءت آية البحث بصيغة الخطاب للمسلمين ، فقد وردت آية أخرى بذات المضمون ، ولكنها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ] ( ).
ومن إعجاز الآية ذكرها للحسنة بصيغة المس لأن النعم والحسنات على مراتب متفاوتة ، فمن معاني [إِنْ تَمْسَسْكُمْ] أي تغيظ المشركين أي حسنة ونعمة طارئة وعرضية أو مستديمة .
إذ تأتي الحسنة بصيغة الاصابة منه [وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ] ( ) لبيان أن إصابة الحسنة أظهر من الحسنة التي تمس المسلمين للإخبار عن شدة إغاظة المشركين إذا جاءت النعمة للمسلمين ، وكل إصابة مس وليس العكس .
الآية الرابعة والثلاثون : قوله تعالى [وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] ( ) .
قال ابن البازري نسختها آية السيف( ) ، وتمام الآية هو [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] ( ) ولم يرد [وَمَنْ تَوَلَّى] في القرآن إلا في آية البحث .
وقد ورد [مَنْ تَوَلَّى] أربع مرات في القرآن :
الأولى : قوله تعالى [فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ) وهي مدنية.
الثانية : آية البحث قوله تعالى [وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ) وهي مدنية .
الثالثة : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ) وهي سورة مكية.
الرابعة : قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ]( ) وهي سورة مكية.
وكلها بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوة للإعراض عن الذين كفروا .
أقوال في نسخ الآية
ومما ذكر بخصوص نسخ هذه الآية :
الأول : عن (ابن زيد . أنه سئل عن قوله { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } قال : هذا أول ما بعثه قال : إن عليك إلا البلاغ ، ثم جاء بعد هذا يأمره بجهادهم والغلظة عليهم حتى يسلموا) ( ).
الثاني : قال القرطبي (فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله ) ( ).
الثالث : قال ابن سلامة ( من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً )نسخت بآية السيف ، وكذا قال ابن حزم( ) ، وقال (روى أبو صالح عن ابن عباس قال معناه فما أرسلناك عليهم رقيبا تؤخذ بهم.
وقال السدي وابن قتيبة (حفيظا) أي محاسبا لهم وقد ذهب قوم منهم عبد الرحمن بن زيد إلى أن هذه الآية نزلت في بداية الأمر ثم نسخت بآية السيف.
وفيه بعد لأنه إذا كان تفسيرها ما ذكرنا فأي وجه للنسخ ) ( ) أي أنه يقول بعدم نسخ الآية ،وقال في المصفى : زعم قوم أنها لا تنسخ ، وهو إستدلال لطيف لدلالة تفسير ابن عباس لها على أنها محكمة غير منسوخة( ).
الرابع : قال الكرمي (الآية منسوخة بآية السيف ) ( ) وهذه الآية من آيات الموادعة وحسن المعاشرة ، والمختار أنها محكمة وغير منسوخة .
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ). وبين آية البحث.
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، إذ جمعت الآية بين طاعة الله ورسوله ، وبين الإعراض عن الذي يمتنع عن طاعة الله ، وهذا الإعراض تأديب وزجر له ، وترغيب بالتوبة والإنابة .
وقد تقدم في الجزء السابق : قانون كل فعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له أصل في القرآن ( )، وقد تكرر في القرآن أربع مرات [مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..]( ) ومرة [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( ).
قانون وجوب طاعة الرسول
وجاءت هذه الآية بخصوص طاعة الناس للرسول ، ومن الآيات أنها لم تبدأ بالنداء للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إنما أخبرت عن قانون من الإرادة التكوينية شامل للناس جميعاً ، لأصالة الإطلاق ، ولما ورد في الآية السابقة [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً]( ).
وهل ينحصر بأيام التنزيل وبالصحابة أم يشمل أيام الحياة الدنيا ، الجواب هو الثاني .
لقد أرادت الآية الكريمة بيان قانون الملازمة بين الرسالة والطاعة ، وأن الرسول محمداً لم يكن مبلغاً فقط ، إنما هو إمام للناس في أمور الدين والدنيا ، وأن طاعته واجبة فيما يأمر وينهى , لأنه [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
لقد أحب الله عز وجل رسوله وأخبر عن حبه للذين يطيعونه من البشر ، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام ، وبيان قانون لزوم اقتران النطق بالشهادتين بالعمل بأحكام الشريعة ، وأن الإسلام فرائض وعبادات ومناسك .
ومن معاني طاعة الرسول طاعته في السراء والضراء ، وحال السلم والحرب ، وتلقي التبليغ والتكاليف بالرضا ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يردد مضامين هذه الآية على أصحابه ويذكرهم بلزوم طاعته .
و(عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال : يا هؤلاء ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا : بلى . قال : ألستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه أنه من أطاعني فقد أطاع الله؟ قالوا : بلى ، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ، وإن من طاعته طاعتك . قال : فإن من طاعة الله أن تطيعوني ، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم ، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً أجمعين)( ).
ثم ذكرت الآية الذي يعرض عن طاعة الرسول بقوله تعالى [وَمَنْ تَوَلَّى]( )، الذي قيل أنه منسوخ بآية السيف ، أي الذي يتولى يقُاتل وقد يقتل ، ولكن الآية لا تدل عليه ، ثم أن التولي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فلا يستقيم حكم القتل معهم خاصة وان التولي أدنى رتبة من الكفر ، قال تعالى [إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ]( )، فالكفر غير التولي والإعراض.
تقدير (من تولى)
بل يشملهم جميعاً باب التوبة ، ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : من تولى عن الرسول أي من تولى عنك .
الثاني : من تولى عن آيات القرآن .
الثالث : من تولى عن أحكام الشريعة .
الرابع : من تولى عن الإيمان .
الخامس : من تولى عن الفرائض العبادية .
السادس : من تولى عن الإقرار بأصول الدين .
السابع : من تولى عن أداء الصلاة والفرائض العبادية الأخرى.
الثامن : من تولى عن طاعة الرسول .
التاسع : من تولى عن ذكر الله ، وفي التنزيل [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا]( ).
العاشر : من تولى عن القرآن وآياته .
الحادس عشر : من تولى عن الآيات الكونية إذ أنها تدل على وجوب طاعة الله والرسول ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
الثاني عشر : من تولى عن الحق والتنزيل .
الثالث عشر : من تولى عن الأوامر والنواهي التي جئت بها .
الرابع عشر : من تولى عن الفلاح وثواب الآخرة ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
من معاني خاتمة الآية
إن تعدد واختلاف وتباين مراتب التولي مانع من المحاربة بالسيف والقتل ، ثم أختتمت الآية بقوله تعالى [فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( )، وفيه وجوه :
الأول : لا يحفظ الرسول أعمال الناس ، فقد وكل الله عز وجل ملائكة بحفظ وتوثيق أعمال الناس ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
الثاني : لا يحفظ ويقي الرسول الناس من المعاصي ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
الثالث : لا يمنع الرسول مجئ البلاء للذين كفروا وأعرضوا عن الذكر.
الرابع : يا أيها الرسول لا تحفظ من تولى عنك وعن رسالتك من الخيبة والخسارة.
فمن معاني الآية الإنذار والوعيد للذي كفروا ، ولبيان أن الذي يتولى عن الدعوة الرسالية يكون مكشوفاً لبطش وعذاب الله عز وجل .
و(عن عثمان ابن أبي العاص قال : قال رسول الله : في الأرض أمانان : أنا امان ، والاستغفار أمان ، وأنا مذهوب بي ويبقى أمان الاستغفار ، فعليكم بالاستغفار عند كل حدث وذنب)( ).
وتدل السنة النبوية على أن النبي محمداً لم ينتقم ممن أعرض عنه ، إنما استمر في التبليغ ، أما آية السيف وهي قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، فان القدر المتيقن منها خصوص مشركي مكة في آخر السنة التاسعة ، وأول السنة العاشرة ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
أما قوله تعالى [مَنْ تَوَلَّى] فموضوعه عام وشامل لمن أعرض عن النبوة من الناس جميعاً ، ولا يخص زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا فان الآية من آيات الموادعة واللطف الإلهي بالناس ببعث الرسل ، فليس من رسول إلا وقد أعرض عنه كثير من قومه وابناء جلدته ، فلم يقابلهم بالسيف ، إنما سلاح الأنبياء والرسل في المقام هو الصبر ، وتوالي التبليغ ومنهاج النبوة واحد.
وتقدير الآية : فمن تولى في كل مرة فما أرسلناك عليه حفيظاً.
لقد غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ولكن مضامين آية البحث باقية إلى يوم القيامة.
لفظ (حفيظ) في القرآن
ولو تنزلنا وقلنا بأن الآية منسوخة فكيف يكون تقدير [فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
الجواب إنها آية محكمة ولا تقبل النسخ وفيها تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الناس فهو لا يحاسبهم وليس رقيباً عليهم .
بلحاظ أن الناسخ في آية السيف هو القتل كأحد أفراد الآية ، وهو ضد للإعراض ، فلا يقول أحد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفيظ على الناس ، إنما الحفيظ والحافظ هو الله ، وفي التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
وقد ورد اسم (الحفيظ) في القرآن على وجوه :
الأول : صفة لله عز وجل في آيات منها [إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ]( )، مع تخصيص بانفراد الله عز وجل بأنه خير حافظ كما في الآية أعلاه .
الثاني : اللوح المحفوظ وتوثيق الأشياء بأجزائها وتفاصيلها عند الله عز وجل ، وعلم الله عز وجل بحال الإنسان حياً وميتاً ، قال تعالى [وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ]( ).
الثالث : ورود لفظ (الحفيظ) صفة للتائب الراجع إلى الله في قوله تعالى [وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ]( ).
و(عن التميمي قال : سألت ابن عباس عن الأواب الحفيظ قال حفظ ذنوبه حتى رجع عنها .
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن سعيد بن سنان في قوله [لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ]( )، قال : حفظ ذنوبه فتاب منها ذنباً ذنباً)( ).
الرابع : صفة للنبي يوسف عليه السلام كما في قوله تعالى [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]( ).
الخامس : تزكية النبي يوسف لنفسه بحضرة الملك لما فيه إصلاح الناس ، ودفع الهلاك المترتب على المجاعة القادمة حسب رؤيا الملك ، إذ قال يوسف [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ]( )، ليكون قول يوسف عليه السلام هذا نوع ضرورة نوعية عامة.
يمكن أن تقسم الضرورات التي تباح معها المحظورات بقدرها إلى أقسام بحسب اللحاظ من جهتين :
الأولى : إرادة الحكم وهو :
الأول : الضرورة الشخصية .
الثاني : ضرورة الأسرة .
الثالث : ضرورة الجماعة .
الرابع : الضرورة النوعية العامة .
الثانية : إرادة أفراد الزمان ، من وجوه :
الأول : الضرورة المستديمة .
الثاني : الضرورة الطارئة .
الثالث : الضرورة الملحة.
الخامس : المدح والثناء من الله على التائبين ، قال تعالى [هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ]( ).
وقد ورد لفظ (حفيظ) بالرفع والنصب اثنتي عشرة مرة في القرآن ، ولم يرد فيه معرفاً بالألف واللام .
وفي قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( )، بشارة وإنذار ، فهي بشارة للمؤمنين وإنذار للذين كفروا ، وبيان أن الصدود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبيح عقلاً وشرعاً ، لأن طاعة الرسول طاعة لله عز وجل وسيحاسب الله عز وجل الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن طاعته كرسول من طاعة الله.
فلا تصل النوبة إلى القتل على الجحود برسالته أيام الدعوة ، ولم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الذين قاتلوه وحاربوه ، ويمكن انشاء قانون لا قتال ضد الذين اعرضوا عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا القانون مناف لنسخ آية السيف لآيات السلم والصلح والموادعة.
قانون حفظ الله للناس
ومن وجوه سلامة هذه الآية من النسخ تعدد خطابات القرآن التي تدل على حفظ الله عز وجل للناس ، والنافية لحفظ النبي لهم ، منها آية البحث وآيات أخرى :
الأولى : [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( ).
الثانية : [قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ]( ).
الثالثة : [بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ]( ).
الرابعة : [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( ).
الخامسة : [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ]( ).
ويدل هذا التعدد على تأكيد سلامة الآية وموضوعها من النسخ.
لتبين هذه الآيات مصاديق لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ونفخ الله من ورحه في آدم عليم السلام.
وأن الله عز وجل هو القائم بأمور العباد ، وأنه سبحانه يمهل المشركين ولا أحد من الخلائق يقطع هذا الإمهال إنما [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
لتدل آيات البلاغ على عدم نسخ صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الذي يتولى ويعرض دعوته.
مسائل في سلامة الآية من النسخ
في الآية مسائل :
الأولى : من معاني قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( )، تشريف المسلمين وإكرامهم ، وخصهم الخطاب من عند الله بانهم أولياؤه ، وأن أيادي أعدائهم لن تصل إليهم بالإضرار .
الثانية : الآية لطف ومدد للمسلمين من عند الله عز وجل .
الثالثة : حصانة من عند الله وتأديب وهداية وإرشاد وإلى سبل النجاة في الدنيا والآخرة .
الرابعة : هل تختص السلامة بالصبر والتقوى بصرف كيد المشركين ، الجواب نعم ، فمنافع الصبر والتقوى أعم وهما مجتمعين ومتفرقين سلاح لأمور الدنيا والدين ، مما يدل على عصمة الآية عن النسخ لأن موضوعها لا ينحصر بدفع كيد الكافرين ، وعلى فرض أنها نسخت بآية القتال فان مكر الذين كفروا يشتد في القتال ، ويقومون بتجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتسفك الدماء .
الخامسة : كان خصائص بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف نزيف الدم ، ومنع الإقتتال والغزو بين الناس وإيقاف الوأد الذيأنقذ الله عز وجل منه الناس بآية قرآنية وبيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
السادسة : من إعجاز آية البحث بيان الكفاية بالصبر والتقوى في صرف كيد المشركين مما يجعل القتال سالبة بانتفاء الموضوع ، فليس من نقص له، مع وجود المانع وهو صبغة السلم والتبليغ بالحكمة والموعظة في منهاج نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : من خصائص القتال وانقطاعه في ميدان المعركة ، أما الصبر والتقوى فموضوعها متجدد كل يوم على نحو القضية الشخصية والعامة .
الثامنة : إرادة تنمية ملكة الصبر والتقوى عند المسلمين أزاء كيد المشركين ، وفي الأمور العامة.
وهل يشمل الصبر في الآية أداء الفرائض والعبادات والإمتناع عن المعصية ، الجواب نعم ، فلا ينحصر تقدير آية البحث وأن تصبروا على الذين كفروا .
التاسعة : من التحلي بالصبر في الواجبات والمحرمات ترغيب المشركين بدخول الإسلام ، بدل غلبة النفس الغضبية ، والمناجاة بينهم بالقتال حمية وعصبية وعن جهالة .
العاشرة : تبعث الآية المسلمين للإرتقاء في مقامات الصبر ومنازل التقوى ، مما يدل على عدم نسخها لأن مضامينها القدسية والغايات الحميدة منها حاجة للمسلمين .
الحادية عشرة : نزلت الآية بصيغة الجملة الشرطية لبيان انتفاء الجزاء عند إنعدام الشرط الذي يتعلق به الحكم ، وهو السلامة من شرور وكيد المشركين ، مما يدل على أمر وهو حتى لو قلنا بحضور آية القتال في المقام فان إستدامة الصبر والتقوى لا يتعارضان معها .
لا أصل لنزول عشر آيات في فرد واحد من المشركين
لقد اعتنى علماء الإسلام بعلم أسباب النزول ، وأسهب فيه التابعون ، وأوردوا أسباباَ كثيرة لنزول الآيات ، ولعل أكثرها لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابي وأهل البيت ، فهل تلقاه التابعي شفاهاً من الصحابة ، ولم يذكر السند ، أو نظر في الوفاق بين مضامين الآية وأسباب راجحة لنزولها , الجواب هو الثاني.
وقد يذكرون سبباً واحداً لنزول عدة آيات قرآنية ، كما في ذكر أسماء بعض المشركين وذمهم في آيات قرآنية مكية , وهو صحيح , ولكن لا دليل بنزول أكثر من عشر آيات بخصوص شخص واحد من المشركين كالنضر بن الحارث ومثلها بخصوص أبي جهل ولم يثبت , وأسباب نزول الآيات أعم من أن تنحصر بفرد واحد خاصة مع تشابه وإتحاد سنخية رؤساء الشرك .
فمثلاً قوله تعالى ({ الصم البكم الذين لا يعقلون }( ) قيل : لا يتبعون الحق , والآية أعم .
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : أنزلت في حي من أحياء العرب من بني عبد الدار , ولا دليل على هذا الحصر .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث وقومه) ( ).
و(أخرج ابن جرير عن عطاء قال : نزلت في النضر { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب }( ) . {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة }( ) و { سأل سائل بعذاب واقع }( ) قال عطاء : لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله)( ).
ونزول بضع عشرة آية في فرد واحد من المشركين قتل يوم بدر بعيد ولا دليل عليه .
وعن (ابن عباس في قوله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال : أنزلت في النضر بن الحارث . اشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه ، فنزلت) ( ).
وعن ( أبي مالك في قوله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } قال : نزلت في النضر بن الحارث ) ( ).
وعن مجاهد في قوله تعالى [ثَانِيَ عِطْفِهِ] ( )، أنزلت في النضر بن الحارث.
وعن ( السدي في قوله {سأل سائل} قال : نزلت بمكة في النضر بن الحارث) ( ) .
كما ذكرت آيات نزلت في النضر بن الحارث ونفر من كفار قريش ، منها مثلاً قوله تعالى [وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ) (وقال الكلبي ومقاتل : أنزلت في النضر بن الحرث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد.
قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وأنك رسول فأنزل اللّه عز وجل فلو نزلنا عليك كتاباً {فِى قِرْطَاسٍ} في صحيفة مكتوباً من عند الله {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} لما سبق فيهم من علمي {وَقَالُوا لَوْ أُنزِلَ عَلَيْهِ} على محمد {مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ امْرُ} أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلاّ بالوحي (والحلال) {ثُمَّ يُنظَرُونَ} الكافرون ولا يمهلون.) ( ).
وفي قوله تعالى ({أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} قال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنّهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيباً وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا : أنُسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل الله سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين {أَتَصْبِرُونَ} يعني على هذه الحال من الشدّة والفقر) ( ).
كما ذكرت عدة آيات سبب نزولها أبو جهل ( عمرو بن هشام بن المغيرة من بني مخزوم وكان (يكنى أبا الحكم فكناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل فذهبت) ( ).
قانون إبتداء المشركين بالقتال
من بديع صنع الله عز وجل إخباره عن القبح الذاتي للقتال ، وسفك الدماء من بداية خلق آدم ، وهو لا يزال في الجنة ، فحينما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا بأمرين :
الأول : فساد بعض الذرية .
الثاني : سفك الدماء ، كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فاجابهم الله عز وجل بأنه يعلم كل شئ في خاتمة آية البحث [إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ) فهو سبحانه يعلم بما يفعل الناس ، وقد جمع كفار قريش بين الأمرين أعلاه ، فافسدوا في الأرض باختيار الكفر ونصب العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسفكوا الدماء ، قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعذيب وقتل بعض أصحابه ، ومنهم من النساء كسمية بنت خياط أم عمار بن ياسر.
ليكون استمرار قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والإجتهاد في الدعوة إلى الله نوع طريق لإستئصال فساد قريش واتباعهم وأشباههم في مكة وغيرها من الأمصار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومن خصائص القتال وقوعه بين جيشين ، لذا ورد قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]، ثلاث مرت في القرآن ، مرة بخصوص معركة بدر ، كما في الآية 41 من سورة الأنفال ، ومرتين بخصوص معركة أحد ، كما في سورة آل عمران الآية 155 ، والآية 166 .
ولم يكن عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيش وهو في مكة ، ولكن بعد الهجرة حدثت معجزة وهي إجتماع الصحابة من المهاجرين والأنصار حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستعداهم للذب عنه ، والدفاع عن التنزيل ، وتوالي نزوله من عند الله الذي ينحصر بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمن القتل والإغتيال ، وكانت غاية قريش قتله ، فحدث التعارض .
ومن وجوه التعارض والتضاد عدم رضا وامتناع المشركين عن القتال إلا بارتداد المسلمين ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ) والذي يدل في مفهومه على سعيهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال.
العفو عن دعثور
لقد عفا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الذين أرادوا إغتياله وقتله .
وفي كتيبة غطفان والتي تسمى أيضاَ (ذا أمر) في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة , خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ناحية ذي أمر من نجد بعد أن بلغه أن رجلاَ منهم اسمه دعثور بن الحارث يجمع الجموع من ثعلبة يريدون غزو المدينة فسار إليهم بأربعمائة وخمسين من أصحابه .
فلما سمعت الجموع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هربوا إلى رؤوس الجبال , فلم يلاحقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما اكتفى بالنظر إليهم , وهو من العفو الفعلي الصامت , وأصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مطر , فنزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا وليس معه ثياب احتياطية , واضطجع , فحرض المشركون دعثوراَ عليه وكان جريئاَ فنزل ومعه سيف , حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاهر سيفه (من يمنعك مني اليوم)( ).
ومثل هذه الكلمات يقولها الفارس والمسلح عند الإقدام على القتل ليشتد ويجهز على خصمه .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلمة واحدة تملأ السموات والأرض (الله).
عندئذ دفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده .
وهل تشبه هذه الواقعة نجاة إبراهيم عليه السلام من النار بعد أن جمع قوم نمرود الحطب وجعلوه في وسطه مكتوف اليدين واشعلوا النار , بقوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ) .
الجواب نعم لبيان إتحاد سنخية النبوة , وأن ما عند الانبياء السابقين هو عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ السيف وقال له : من يمنعك مني .
قال دعثور في الحال , لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداَ رسول الله لما رآى من المعجزة الحسية .
ونادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القريبين منه من أصحابه وأخبرهم بالواقعة , ثم ترك دعثوراَ وشأنه الذي بادر وصعد إلى قومه في رؤوس الجبال الذين ينتظرون بطشه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم لاحظوا ما وقع بما لا يقبل الريب فصار دعثور يدعوهم إلى الإسلام .
وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن رئيس القوم الذي يجمع الناس ويحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهب أنعام وسروح أهل المدينة تحول في دقائق معدودة من العزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دعوة قومه إلى الإسلام , ونزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
و(كان جابر بن عبد الله يحدث : أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذراع فأكل منها ، وأكل رهط من أصحابه معه ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ارفعوا أيديكم وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهودية فدعاها ، فقال لها :أسممت هذه الشاة ؟ قالت اليهودية : من أخبرك ؟
قال : أخبرتني هذه في يدي للذراع قالت : نعم ، قال : فما أردت إلى ذلك؟
قالت : قلت إن كان نبيا فلن يضره ، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعاقبها ، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة ، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة) ( ).
والذي مات هو بشر بن البراء بن معرور .
الرابع : عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الذي أو نهى في إيذائه واهل بيته وأصحابه .
قانون إمتناع النبي عن الإبتداء بالقتال
لقد نزلت آية البحث بالحض على الصبر والتقوى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )، ومن معانيه عدم الإبتداء بقتال المشركين.
ومن إعجاز القرآن أن كل قانون وقاعدة وحكم فيه لا يختص بآية واحدة إنما تأتي عدة آيات تدل عليه ، وتعضد بعضها بعضاً ، ومنه قانون عدم إبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال مع المشركين لتكون سنة متجددة ودائمة عند المسلمين ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) إذ تتضمن هذه الآية الكريمة تقييد قتال المسلمين بخصوص الذين يقاتلونهم من المشركين .
وهل قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] في الآية أعلاه مانع من الإبتداء بالقتال ، الجواب لابد من دليل قرآني او نبوي يعضد هذا المعنى ، ومنه وقائع معارك الإسلام الأولى .
لقد ورد لفظ [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أربع مرات في ثلاث آيات متتاليات كلها تتعلق بموضوع وقواعد القتال إذ قال تعالى [فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] ( ) وتدل وقائع معارك الإسلام الأولى على أمور :
الأول : ابتداء المشركين بالزحف إلى القتال .
الثاني : قطع المشركين مسافة أربعمائة وخمسين كيلو متر ليصبحوا على مشارف المدينة .
الثالث : تهديد المشركين المتصل بغزو المدينة ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أو قتل أصحابه خاصة المهاجرين .
الرابع : إبتداء المشركين برمي السهام والنبال عند اللقاء ، وتقدم بعض فرسانهم وحملة الألوية منهم إلى وسط الميدان طلباً للمبارزة ليلاقيهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسلاح قولوا (لا إله إلا الله تفلحوا )، وهل يدل هذا السلاح واستعماله في أشد وأحلك الأحوال على عدم نسخ آيات السلم ، الجواب نعم .
لبيان أن قانون نفي النسخ عن آيات السلم لا يختص بمضامين ذات الآيات وإن كانت بذاتها حجة ، إنما تدل الشواهد التأريخية والوقائع على حضورها حتى في ساعات القتال ، فينقطع القتال في يوم أو بضعة أيام ولكن آيات السلم لا ينقطع نفعها ، وهي تدعو الناس جميعاً بما فيهم الذين أشركوا إلى التوبة والإيمان ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ) .
ومن مصاديق عدم نسخ قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )، منع الناس من نصرة رؤساء الشرك الذين يسعون في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ومن الشواهد عليه إضطرار قريش لعقد صلح الحديبية ، والذي يتضمن وقف القتال بين الطرفين لعشر سنوات يأمن الناس فيها .
مما يدل على عجز قريش عن جمع الجيوش وعن ابتلائهم بالنقص في الرجال والأموال ، وتفرق الأعوان ، ودخول طوائف من الناس في الإسلام ، وبينما كان عدد المسلمين الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وعددهم في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة سبعمائة ، خرج معه إلى عمرة الحديبية في السنة السادسة ألف وأربعمائة .
الآية الخامسة والثلاثون : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ] في قوله تعالى [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( )،قيل نسختها آية السيف( ).
ولم يثبت هذا القول كتاباً وسنة ، كما أنه ليس مشهوراً عند العلماء ، والمختار أن هذه الآية محكمة غير منسوخة وبعد أن أخبر ابن البازري عن نسخ الآية السابقة بآية السيف في قوله تعالى [وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
ذكر أن هذه الآية منسوخة كما قال بأن الآية 84 من هذه السورة وهي سورة النساء منسوخة أيضاً بآية السيف ولم يثبت النسخ في كل منهما ، وقد ورد قوله تعالى [فَأَعْرِضْ] خطاباً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آيات :
الأولى : [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا]( ).
الثانية : آية البحث .
الثالثة : [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ]( ).
الرابعة : [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
نعم لقد جاءت آيات بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن المشركين كما في قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
ولكن موضوع آية البحث المنافقون الذين يعيشون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة .
وابتدأت بقوله تعالى [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ] أي أنهم يعلنون بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلقي الأوامر الإلهية والرسالية بالقبول ، ولكن حينما يخرجون من عند النبي يظهرون خلاف هذا الإعلان .
و(عن ابن عباس في قوله { ويقولون طاعة…} الآية . قال : هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم [فَإِذَا بَرَزُوا]( )، من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {بيت طائفة منهم } يقول : خالفوهم إلى غير ما قالوا عنك ، فعابهم الله فقال {بيت طائفة منهم غير الذي تقول } قال : يغيرون ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
ومن معاني (يقولون طاعة) أي امرنا طاعة ونحن مطيعون ، وهل تتضمن الآية قيام المنافقين بتحريف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحذير النبي والصحابة منهم ، الجواب نعم .
ومن الآيات ذكر لفظ [بَيَّتَ] أي أن الله عز وجل يمنع قيامهم بتحريف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآية البحث وما فيها من فضحهم ، لقانون إخبار القرآن عما يبيت المنافقون من المكر مانع منه.
كما أخبر الله عز وجل عن مكرهم هذا في صحائفهم للجزاء والعقوبة عليه في الدنيا والآخرة .
ومن الإعجاز التبعيض في الآية فليس كل المنافقين يبيتون المكر والعناد والمعصية إذ قيدته الآية بالقول [بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ] لبيان قانون تعدد مراتب المنافقين ، فمنهم من يكون نفاقه ظاهراً ، وببيت السوء ومنهم من يخفي نفاقه ، ولا يظهر إلا عند الإمتحان والإبتلاء .
ثم أمر الله عز وجل النبي محمداً بالإعراض عن هؤلاء المنافقين وتركهم وعدم الإلتفات إليهم ، وبالتوكل على الله في تبليغ الرسالة والتنزيل والدعوة إلى الله وإقامة الفرائض ، وهداية الناس للإسلام ، وتثبيت الإيمان في قلوب الصحابة ، والإستعداد للدفاع ضد غزوات المشركين كما في معركة أحد والخندق وحنين ، ومعركة بدر.
الجواب لقد حدث النفاق بعد معركة بدر ، وظهور النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الآية السادسة والثلاثون : وقوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ]( ).
قال ابن البازري نسختها آية السيف ، وتمام الآية هو [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا]( ).
ولكن موضوع الآية يتعلق بالمنافقين، وهم الذين أظهروا الإسلام ، ولكنهم يخفون الكفر والريب في نفوسهم ، فذكرت آية البحث سوء ما في قلوبهم .
والآيات التي قبلها والتي تدل على إرادة المنافقين وليس الكافرين هي [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا] ( ).
وعندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة لن يكن هناك منافقون ، وكذا في السنة الأولى من الهجرة ، إنما ابتدأ النفاق بعد نصر المسلمين في معركة بدر .
ترى ما هي الصلة بين قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ..]( ) وآية البحث ، الجواب من جهات :
الأولى : زوال حال الذل والضعف والقلة عن المؤمنين .
الثانية : إثارة ضغائن الحسد على المسلمين عند الكفار .
الثالثة : اقتران الدعوة إلى الإسلام بأداء الفرائض العبادية من الصلاة العلنية، والصوم والزكاة ، قال تعالى [وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى..] ( ).
الرابعة : إنكشاف التباين بين الإيمان والكفر لحضور مبادئ الإيمان وأفعاله العبادية على نحو يومي في المدينة .
الخامسة : كراهية المنافقين للدفاع ، فمن أسباب ظهور النفاق إنذارات ووعيد كفار قريش بأنهم سيغزون المدينة ويستبيحونها ، وكان الفارق كبيراَ بين كثرة وقوة وعدة وخيل المشركين ، وبين قلة عدد المسلمين وعدتهم.
ولم يعلموا أن الآية أعلاه تدفع تخويف وإنذار قريش وأرباب النفاق مجتمعين ومتفرقين من وجوه :
الأولى : إخبار الآية عن نصر المسلمين .
الثاني : نسبة النصر إلى الله عز وجل ، وشواهد حضور الملائكة المعركة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة في المقام ، لتكون آية (ببدر) ( )، معجزة مستقلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمكن تأسيس باب اسمه (معجزات النبي (ص) في آيات القرآن ).
الثالث : مجئ النصر خلاف القواعد القتالية ، وحال الحرب والقتال ، ولم تقل الآية ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم قلة ) لوجود آيات تدل على نصر العدد القليل على الكثير باذن الله ، كما في قوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( )، ولبيان تعدد وتكرار الشواهد في نصر الجماعة والجيش قليل العدد على كثير العدد مع تقييده بأنه باذن الله ، وجاءت الآية في نصر طالوت وجنوده المؤمنين على الجبار جالوت وجنوده .
لتبين آية (ببدر) إختصاص النصر فيها بالمسلمين، فهم لم يكونوا قلة فقط ، إنما كانوا مستضعفين من وجوه :
أولاً : قلة عدد الصحابة في ميدان المعركة ، إذ كانوا أقل من ثلث عدد جيش المشركين .
ثانياً : النقص في الخيل في المعركة ، فلم تكن عند المسلمين يوم بدر إلا فرس واحدة ، وقيل اثنتين .
بينما كان عدد الخيل عند المشركين في ميدان المعركة مائة إلى جانب سبعمائة بعير ، وصار عدد منها غنائم .
ثالثاً : قلة أسلحة المسلمين ، وضعف السيوف التي في أيديهم خاصة وأنهم لم يخرجوا من المدينة للقتال أو الغزو ، إنما خرجوا في سرية استطلاع ، وهل كان البدريون جميعاً يحملون السيوف ، الجواب لا ، وهو من مصاديق [ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ..]( ).
قانون تناقص المنافقين
ينفي موضوع الآية وهم المنافقون احتمال طرو نسخ آية السيف لمضامينها ، وأنه ليس من حرب مع المنافقين وليس من قتل لهم ، فلم يقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي منافق إلى أن غادر الحياة الدنيا ، وهو من معجزاته والشواهد اليومية على صدق نبوته.
ويحتمل عدد المنافقين وجوهاً :
الأول : إزدياد عدد المنافقين مع تقادم الأيام .
الثاني : بقاء عدد المنافقين ثابتاً .
الثالث : النقص المستمر في عدد المنافقين .
والصحيح هو الأخير .
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأعراض عنهم ، كما وردت آيات عديدة تدعوهم للتوبة ، وتستثني من العقوبة الذين يتوبون منهم ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وقد تقدم في الجزاء الواحد والسبعين بعد المائة قوانين خاصة بذم المنافقين منها :
الأول : قانون كل آية قرآنية تنقص عدد المنافقين سواء في نزولها أو تلاوتها .ص240
الثاني : قانون الآية القرآنية واقية من نماء واتساع النفاق.ص240
الثالث : قانون الآية القرآنية تضيق النفاق.ص240
الرابع : قانون كل آية قرآنية دعوة للتوبة من النفاق والرياء.ص240
الخامس : قانون الآية القرآنية برزخ دون ظهور مفاهيم النفاق .ص240
السادس : قانون تفضح الآية القرآنية المنافقين في أشخاصهم وأفعالهم ، لتكون واقية للمسلمين من شرورهم .ص240
السابع : قانون أن المنافقين ليسوا أولياء للمسجد الحرام وان نطقوا بالشهادتين.ص240
ترى ما هي أسباب وعلة تناقص عدد المنافقين ، الجواب من وجوه :
الأول : توالي نزول آيات القرآن والدلالة الذاتية على نزولها من عند الله عز وجل , ومنه قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
فتعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب والحكمة للمسلمين وسيلة للتنزه عن النفاق , وواقية منه .
الثاني : نزول الآيات التي تذم المنافقين , وتبين قبح النفاق ذاتاَ وأثراَ.
الثالث : السنة النبوية في التحذير والإنذار من النفاق وبيانه لأضراره.
الرابع : الإنذارات القرآنية من النفاق منها إنذارات عاجلة يتعلق موضوعها بالحياة والدنيا , قال تعالى [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ]( ).
الخامس : إدراك المنافقين لقبح إخفاء الكفر مع إظهارهم الإسلام , فمع تقادم الأيام تتجلى لهم قوانين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاجتهم إلى التحلي بالإيمان وأنه زين لأهله , وأن النفاق شين .
السادس : حضور المنافقين الصلاة اليومية وانصاتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطبه واستماعهم لأقواله.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفاذ كلماته إلى القلوب وقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يكشف للمنافقين جانباَ مما يخفون ويذم سوء فعلهم , قال تعالى [وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا] ( ).
ولم يرد لفظ [بَلِيغًا] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وقد ذم الله المنافقين وتخاذلهم في الميدان كما في معركة أحد مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يدافعون عنهم وعن أهليهم إلى جانب دفاعهم عن الإسلام , قال تعالى [يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ : مُعْتِبٌ الَّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ”لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قَتَلْنَا هَاهُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ : ” وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ” إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ”.)( ).
و(عن ابن جريج قال : إن المنافقين قالوالعبدالله بن أبي وكان سيد المنافقين في أنفسهم قتل اليوم بنو الخزرج .
فقال : وهل لنا من الأمر شيء؟
أما والله { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل }( )
وقال { لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل( )}) ( ).
ولكن المشهور والمختار أن قول عبد الله بن أبي هذا حدث في كتيبة بني المصطلق .
وكان النفاق ينجم ويظهر في كل شدة وأذى يتعرض له المسلمون , ومنه حصار الخندق إذ قال (معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط)( ).
وقال أوس بن قيصر أحد بني حارثة بن حارث :
يا رسول الله إن بيوتنا عورة أي معرضة للسراق والهجوم من قبل المشركين لأنها خارج المدينة , لإرادتهم الإستئذان من الإقامة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف الخندق خشية مداهمة جيوش المشركين واقتحامهم الخندق وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأذن لهم كلما جاءه واحد منهم ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الليالي إلا نحو ثلاثمائة ونزل قوله تعالى [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ), والضمير (هم) في فريق منهم يعود للمنافقين إذ تقدم في الآية السابقة للآية أعلاه [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
قوله تعالى [َتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( )، أن المنافقين ظنوا أن محمداَ وأصحابه يستأصلون .
السابع : حداثة دخول طائفة من الناس الإسلام , ومنهم المؤلفة قلوبهم ، الذين خصهم الله بسهم من الزكاة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
الثامن : من أسباب تناقص عدد المنافقين ثبات المهاجرين والأنصار في مقامات الإيمان , وعدم إصغائهم إلى المنافقين والمنافقات .
التاسع : أداء الصلاة تنزه عن النفاق فمع توالي أداء المنافقين الصلاة تطهر القلوب من النفاق , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
التورية حرب على النفاق
أحياناَ يعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العزم على الخروج مع طائفة من أصحابه من المدينة بقصد الدفاع ولكنه لا يخبر عن الجهة التي يتوجهون إليها فينفصل الجيش عن المدينة وهم لا يعلمون أين يتوجهون لينقطع خبرهم عن المنافقين , ويتعذر إفشاء أسرار الكتائب , وفيه مسائل :
الأولى : الضبط ودقة النظام في كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : طاعة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إكثارهم من السؤال .
الثالثة : معرفة الصحابة بأن هذه التورية من الوحي , وهي خير محض.
الرابعة : منع سفك الدماء , إذ يباغت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المشركين فيتفرقون , قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) لتكون تورية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للجهة والمقصد الذي ينطلقون إليه مانعاَ من الإقتتال ومن سفك الدماء , من علم الله كما أخبر الله عز وجل الملائكة .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )،لبيان إعجاز من الإرادة التكوينية بقانون إنطباق الحدث والواقعة على مصاديق في أصل الخلقة وفي البعثة النبوية الشريفة , لبيان علم الله عز وجل بالوقائع قبل حدوثها , وأنه سبحانه أراد نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسلم والأمن المجتمعي من حين خلق آدم , فلا تصل النوبة إلى نسخ آيات السلم .
وهل التورية في جهة المقصد من مصاديق السلم في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم , وفيه شواهد عديدة بأن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم يريد صرف القتال , وتعطيل عمل العيون في المدينة وفي الجادة العامة , ومنع المنافقين من الحسد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في عودتهم سالمين من الخروج من المدينة , فقد تكون موضوعية التورية في الخروج من المدينة خفية وسراَ خاصة بعد ورود أنباء عن تحشيد المشركين لغزو المدينة وأطرافها .
والحسد مصاحب للإنسان في الحياة الدنيا , وأول من حسد من الناس هابيل بن آدم إذ حسد أخاه قابيل .
وعن(ابن عمر قال : إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً ، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، وأنهما أُمِرَا أن يُقَرِّبَا قرباناً وأن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه ، وإن صاحب الحرث قرب شر حرثه الكردن والزوان غير طيبة بها نفسه ، وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم ولم يقبل قربان صاحب الحرث ، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه ، وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكنه منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه)( ).
قانون التباين بين الإعراض والقتل
من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة العامة للناس جميعاَ , والتي تتجلى في التنزيل والسنة النبوية , وهل منها الإعراض عن المنافقين , الجواب نعم لتعدد منافعه , ومنها :
الأولى : منع الضرر الذي يأتي من المنافقين .
الثانية : تحذير المؤمنين من المنافقين .
الثالثة : إنذار الناس من الإنصات للمنافقين في أراجيفهم في المدينة .
الرابعة : منع تمدد النفاق وخروجه إلى خارج المدينة .
الخامسة : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعرفة ما في نفوس المنافقين من الكفر والشك والريب , فبينما يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه من المهاجرين والأنصار , فهو يعرض عن الذين نافقوا .
السادسة : الإعراض عن المنافقين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والإعراض عن المنافقين من وجوه :
الأول : إنه رحمة بالمنافقين ، وطريق إلى توبتهم .
الثاني : إدراك المنافقين لقبح سرائرهم وموضوعية الإعراض عنهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إنه رحمة بالصحابة ، لمنع التداخل والإختلاط مع المنافقين .
الرابع : قانون عصمة المهاجرين والأنصار من النفاق .
الخامس : الإعراض عن المنافقين ترغيب للناس في الإسلام .
السادس : قطع دابر الأراجيف والريب في المدينة ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
قانون لم يقتل النبي (ص) منافقاً
موضوع الآية هم المنافقون ، وهناك مسائل :
الأولى : ليس من حرب بالسيف من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضد المنافقين .
الثانية : امتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل أي منافق مع علمه بأنه منافق خبيث يسعى في بث الريب والشك ، وفي كتيبة بني المصطلق من خزاعة والتي تسمى أيضاً (المريسيع) في شهر شعبان من السنة السادسة للهجرة والذي سار لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما بلغه أن رئيسهم الحارث بن أبي ضرار يجمع الجيوش لغزو المدينة سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم باربعمائة وخمسين من أصحابه والتقاهم عند ماء لهم فتفرقوا على رؤوس الجبال ولم يلاحقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وبينما المسلمون على الماء أقبل جهجاه بن مسعود بفرسه وهو من غفار وأجير عند عمر بن الخطاب فازدحم جهجاه مع سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء ، وحدثت بينهما مشادة كلامية وتشابك بالأيدي ، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار.
وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين .
(فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ} ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ)( ).
فبلغ قوله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نقله إليه زيد بن أرقم الذي كان ممن سمعه ، فقال عمر بن الخطاب : مر به عماد بن بشر فليقتله.
فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلمته الخالدة (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها)( ).
وفي الإنقلاب من كتيبة تبوك في السنة التاسعة للهجرة همّ جماعة من المنافقين الفتك برسول الله واغتياله بمزاحمة ناقته في موضع مخصوص عند عقبة في الطريق ليطرح منها ، فأخبره الله عز وجل بالأمر ، فأمر الصحابة بالمسيرفي الوادي ، وهو يصعد على تلك العقبة ليقطع عن هؤلاء المنافقين خطة اغتياله ولكنهم سلكوا معه العقبة متلثمين ظناً منهم أنه لا يعلم بمكرهم.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متوكلاً على الله بسكينة تملأ قلبه فلم يطلب عدداً كثيرا من أصحابه المقربين ليرافقوه ، ولم يأمر برصد المنافقين ، ويفضح خطتهم إنما أمر (عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم)( ).
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرف حذيفة غضب النبي فرجع إليهم ليمنع وصولهم إلا ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه محجن – عصا ذات رأس معكوف- فلما رأوه يستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه.
ظنوا أن أمرهم انكشف وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر حذيفة بما اضمروه من المكر والكيد ، فانسحبوا بسرعة وخالطوا الناس وعاد حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره هو وعمار بن ياسر بالإسراع حتى يقطعوا العقبة .
والعقبة مكان مرتفع ، والطريق الصعب بين الجبال ، والمقصود الأول ، ومنه العقبة التي في منى حيث رمي الحجاج للجمرات ، ومنه بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة قبل الهجرة.
الآية السابعة والثلاثون : قوله تعالى [لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ] ذكر أنها منسوخة بآية السيف ، ولم يثبت هذا النسخ موضوعاً وحكماً ، والأصل أن الآية محكمة ، وتمام الآية هو [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]( ).
وقد ورد عن خالد بن معدان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي فإليّ وحدي)( ).
ومعنى وحرض المؤمنين : أي عظهم( ).
وعن البراء : لما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (قال لأصحابه : قد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا).
وتبين الآية قانوناً وهو أن الله عز وجل هو الذي ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمدده وملائكته وصالح المؤمنين والقرآن يفسر بعضه بعضا ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، ليكون من معاني قوله تعالى [لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ] وجوه :
الأول : الآية وعد من عند الله ، وهل هذا الوعد خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، لقانون شمول النعمة الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم المسلمين ، إلا أن يدل الدليل على الخلاف .
الثاني : التخفيف عن المسلمين والمسلمات .
الثالث : من معاني الآية تحقيق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام .
وفي موضوع الآية وأسباب نزولها ما ذكره الثعلبي بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لما التقى هو وأبو سفيان بن حرب يوم أُحد وكان من هربهم ما كان ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد قال الناس : اخرجوا إلى العدو، فكرهوا ذلك كراهه شديدة أو بعضهم ، فأنزل الله تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ]( )، أي لاتدع جهاد العدو وإنصاف المستضعفين من المؤمنين ولو وحدك)( ).
ولم يثبت هذا المعنى ومناسبته في أسباب النزول .
الرابع : لا يلزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخلف غيره عن القتال.
الخامس : المراد من القتال هو الدفاع كما في معركة بدر ، أحد ، الخندق ، حنين .
السادس : إرادة زجر المشركين عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال سبيل لنصره وغلبته على الذين كفروا .
السابع : بيان قانون في النبوة وهو أن النبي لا يكلفه الله في الدفاع إلا عن نفسه وحده ، مع تحريض المؤمنين على الدفاع وليكون من معاني قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) ( )، أن الأنبياء لم يكلفوا إلا أنفسهم وأن أصحابهم بادروا إلى الدفاع رجاء الأجر والثواب ، فرزقهم الله مرتبة الربيين.
لزوم تبديل اسم آية السيف
المدار في آيات القرآن على المسمى والاسم غيره ، والمضامين القدسية للآية والأوامر والنواهي التي فيها وأكثر آيات القرآن ليس لها اسم ، ومنها ما تعرف بأول كلمة منها ، ولابد من تغيير اسم آية السيف لوجوه :
الأول : لم يرد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو عن الصحابة أو عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تسمية الآية بآية السيف.
الثاني : خلو القرآن من لفظ السيف ، فكيف تسمى آية منه باسم لم يكن موجوداً في القرآن .
الثالث : كان هذه التسمية دعوة للقتل بينما مضامين الآية محصورة في أشهر حرم أربعة وبخصوص أهل الحرم .
الرابع : جاءت مضامين الآية بالمنع عن القتل فبعد الوعيد بقتل المشركين [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).جاء الأمر بأخذهم واحصارهم ورصدهم ومنعهم من إثارة الفتن.
الخامس : إختيار اسم الآية وهو القاعدة الكلية بذكر أول كلمة أو كلمات منها ، فيقال آية (فاذا انسلخ) ولم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بتسمية هذه الآية بآية السيف ، وتستصحب هذا الحال وتمنع من تسميتها بآية السيف .
السادس : الأثر المترتب على التسمية ، إذ تبعث تسمية آية السيف على القتال من غير حاجة إليه ، وهذه التسمية دخيلة على الآية وعلى القرآن كله .
السابع : المنع من تسمية الآية بآية السيف من التفقه في الدين وتسمية الآيات بأسمائها المرافقة لمضامينها القدسية .
الثامن : يمكن تأسيس قاعدة كلية وهي لو دار الأمر في تسمية الآية بين معاني القتال والقتل ، وبين ما يوافق عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فالصحيح هو الثاني .
التاسع : تسمية السورة التي فيها آية السيف بسورة التوبة ، والنسبة بينها وبين لفظ السيف التضاد لتأسيس قاعدة وهي موضوعية اسم السورة في تسمية عدد من آياتها.
وهل يمكن القول بانبساط اسم السورة وموضوعها على آية [فَإِذَا انسَلَخَ] بما يمنع من تسميتها بآية السيف ، الجواب نعم .
العاشر : يدل منهاج النبوة على تثبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلم المجتمعي وبسط الأمن في المدن وبين القبائل ، وهو من معجزاته الحسية المتجددة فبعد أن كان العرب يغير بعضهم على بعض ، ويقتتلون على [حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ]( )، والعصبية والثأر ، صاروا أخوة متحابين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ليعيش في كنف الأمن الرسالي المسلم والكتابي والكافر .
الحادي عشر : جاءت آيات القرآن بقتال خصوص الذين يقاتلون المسلمين ويهجمون عليهم وأن يكون هذا القتال في سبيل الله ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، ويتصف المشركون بعد فتح مكة بأمور :
أولاً : قلة عدد المشركين .
ثانياً : التناقص اليومي لعددهم .
ثالثاً : امتناع المشركين عن التجاهر بالكفر ، وقد كسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح ثلاثمائة وستين صنماً كانت منصوبة في البيت الحرام .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( )، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ( ).
وهل هذ العمل النبوي أضعف الشرك في مكة وجعل عدد المشركين يتناقص بسرعة ، الجواب نعم .
رابعاً : من الناس يومئذ من يدخل الإيمان قلبه دفعة ، ومنهم على نحو التدريج لذا أمهلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغادر إلى الرفيق الأعلى ولم يقتل مشركاً لشركه مما يدل على عدم صحة تسمية آية السيف ولزوم تبديلها .
وعلى فرض بقاء عدد من المشركين في مكة بعد نزول آية السيف وإلى حين وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل دخلوا بعدها الإسلام ، الجواب نعم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ، وبيان أن آية السيف ليست للقتل والإبادة.
الثاني عشر : تسمية آية السيف ليست موضوعية ولا تتغشى مضامين الآية ، فأكثر هذه المضامين ضد للسيف ومانع منه ، كما أن خاتمة الآية نوع بشارة بتوبة وهداية مشركي مكة وتجلت بتوبة وهداية مشركي مكة وتخلية سبيلهم وهو الذي حصل والحمد لله ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثالث عشر : مجئ الآية التالية لآية السيف بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باجارة المشرك وايصاله إلى بلاده بأمان بعد أن يسمع كلام الله ، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
(وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان الرجل يجيء إذا سمع كلام الله وأقرَّ به وأسلم . فذاك الذي دعي إليه ، وإن أنكر ولم يقر به فرد إلى مأمنه ، ثم نسخ ذلك فقال وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً( ).
ولا أصل لهذا القول ولا ملازمة بين الآيتين في الموضوع أو الحكم إذ قيدت الآية أعلاه قتال المسلمين إذا قاتلهم المشركون مجتمعين.
أما آية السيف فتتعلق بالأفراد في الجملة ودخول أكثر الناس ومنهم المشركون في الإسلام والظاهر أن الآية أعلاه وتمامها [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( )، نزلت قبل آية الإستجارة أعلاه ، ومن شرائط النسخ تآخر وتباطئ الناسخ عن زمان المنسوخ.
وكان الأولى بالسيوطي ترك قول ابن أبي عروبة أعلاه.
طبقات التابعين
وسعيد بن أبي عروبة مهران مولى بني عدي بصري من الطبقة السادسة من التابعين ، وإن اختلف في عدد طبقات التابعين منهم من ثلاثاً وأربعاً ومنهم من أوصلها إلى خمس عشرة طبقة ، كما عن الحاكم.
وأخر التابعين من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة ، ومن لقي عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة ، ومن لقي السائب بن يزيد من أهل المدينة .
والمراد بالطبقة الجماعة المتقاربون في السن ، الذين اشتركوا في الأخذ من الشيوخ .
معنى [أَذِلَّةٌ]
من وجوه تقدير أذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ، وجوه :
الأول : أذلة في ميدان المعركة .
الثاني : أذلة خارج ميدان المعركة .
الثالث : أذلة على المؤمنين ، إذ ورد لفظ [أَذِلَّةٌ] أربع مرات في القرآن ، منها قوله تعالى [أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ) ، وجاءت الآية أعلاه بخصوص المؤمنين في جيل لاحق .
ولكن هل تشمل الآية أهل بدر ، الجواب نعم ، فاثبات شي لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، كما أن الوقائع تشهد على صدق إنطباق الآية على البدريين ودفاعهم وجهادهم في سبيل الله ، وانفرادهم بمرتبة الذب عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أول معركة للإسلام والتي جاءت مباغتة لهم ، كما يظهر في استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بقتال القوم.
وحينما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخبر زحف جيوش قريش ، وهو قريب من بدر قال لأصحابه (أشيروا عليّ) وصار يعيد هذا القول كلما سمع رأياً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) ، وحال القتال من أشد ضروب الأمر الذي تذكره الآية أعلاه .
(فقال أبو بكر : يا رسول اله أنا أعلم الناس بمسافة الأرض أخبرنا عدي بن أبي الزغباء أن العير كانت بوادي كذا وكذا فكانا وإياهم فرسخان إلى بدر .
ثم قال : أشيروا علي.
فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك فتأهب لذلك أهبته وأعدد له عدته
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أشيروا علي ؟
فقال المقداد بن عمرو : إنا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ( ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون
فقال رسول الله : أشيروا علي ؟
فلما رأى سعد بن معاذ كثرة استشارة النبي أصحابه فيشيرون فيرجع إلى المشورة ظن سعد أنه يستنطق الأنصار شفقا أن لا يتفقوا معه على ما يريد من أمره .
فقال سعد بن معاذ لعلك يا رسول الله تخشى أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك ولا يرونها حقا عليهم إلا بأن يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم : يا رسول الله فاظعن حيث شئت وخذ من أموالنا ما شئت ثم أعطنا ما شئت وما أخذته منا أحب إلينا مما تركت وما ائتمرت من أمر فأمرنا بأمرك فيه تبع فوالله لو سرت حتى تبلغ البركة من ذي يمن لسرنا معك
فلما قال ذلك سعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سيروا على اسم الله فإني قد رأيت مصارع القوم فعمد لبدر) ( ).
الرابع : أذلة بالعناء والتعب في الطريق ، فكان كل ثلاثة أو أربعة من الصحابة يعتقبون ويتناوبون على ركوب بعير واحد .
وكان زميلاً النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ركوب البعير الإمام علي عليه السلام ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة ، وكان النبي يأبى أن يبقى على ظهر البعير إذ اسنتهت نوبة ركوبه في الطريق .
وكانت أكثر هذه الإبل من النواضح في المدينة التي تسقي الزرع ، أي أنها مجهدة ، وغير معتادة على قطع المسافات وطول مدة حمل الناس على ظهورها .
بينما اختار كفار قريش الإبل الجيدة ذات النحر الواسع والشعر المجعد ، والتي ليست من العوامل ، والتي تجر الأثقال ، وليس من زراعة عند قريش في مكة ، فلا نواضح عندهم ، وتسمى الإبل التي تحمل عليها الأثقال والمؤن (الحمولة) قال تعالى [وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا] ( ).
وعندما قرر أمية بن خلف القعود وعدم الخروج مع قريش إلى بدر وكان شيخاً بديناً ثقيلاً ، أتاه (عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ بِمِجْمَرَةِ يَحْمِلُهَا ، فِيهَا نَارٌ وَمِجْمَرٌ حَتّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا أَبَا عَلِيّ اسْتَجْمِرْ فَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ النّسَاءِ .
قَالَ قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ مَا جِئْت بِهِ) ( ).
و(قال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعيرٍ في الوادي. فابتاعوا له جملاً بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن يساف.) ( ).
وكان أمية قد تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن مال إلى الإسلام ، وكان يعذب بلالاً بأن يخرجه إلى رمضاء مكة عند الظهيرة ، فيضجعه على ظهره ويأمر بجعل الصخرة الكبيرة على صدره ، ويقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد .
الخامس : أذلة بضعف الأبدان وقلة الزاد ، والمتع في الطريق إلى بدر.
السادس : أذلة بين جموع الكافرين ، فلا تنحصر صفة (أذلة ) بخصوص واقعة بدر لأصالة الإطلاق ، ولدلالة الواقع والشواهد على قلة عدد المسلمين بالنسبة لكثرة المشركين ، ومدنهم وقراهم ، وليس للمسلمين إلا ثغر المدينة .
لقد ورد لفظ [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ] أربع مرات في القرآن ، وهي حسب ترتيب السور :
الأولى : آية البحث ، وهي الثالثة والستون من سورة النساء ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا] ( ).
الثانية : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ] ( ) في ذم الذين كفروا والمنافقين ، والإعراض عنهم عند استهزائهم بالآيات ، قال تعالى [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ] ( ).
الرابعة : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ] ( )، في ذم المشركين وبطلان عملهم .
ولم يأت اقتران الموعظة مع الإعراض في المقام إلا في آية البحث ، كما ورد لفظ [وَأَعْرَضَ] في القرآن ثلاث مرات في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن المشركين والمنافقين ، قال تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) لبيان أن هذا الإعراض أمر وجودي ، وأنه نوع فصل ومقدمة للتبليغ والإجتهاد في طاعة الله ، والعمل بالوحي والتنزيل .
لذا فان الإعراض في هذه الآيات سالم من النسخ ، وهو حكم باق ومتجدد ، إذ أنه يشمل المسلمين والمسلمات ، لذا ورد الإعراض بصيغة الجمع بقوله تعالى [سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
ومن إعجاز الآية وعصمتها من النسخ اقتران الإعراض بالموعظة والنصح والهداية إلى سواء السبيل .
سرعة العمل بالناسخ
يختص هذا الجزء من سِفر التفسير بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهل النسخ في الآيات من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وكذا عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالناسخ حال نزوله ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ولكن ليس بكثرة النسخ التي قال بها عدد من المفسرين .
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آيات القرآن شهادة عمله وسنته القولية والفعلية على عدم نسخ آيات كثيرة من آيات السلم والموادعة والصلح ، إذ استمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نهج السلم حتى وافاه الأجل ، وهو من الدلائل على عدم نسخ هذه الآيات.
فمثلاً حينما نزل نسخ وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام استدار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رجالاً ونساءً (وأخرج ابن سعد عن محمد بن عبد الله بن جحش قال صلّيت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصرفت القبلة إلى البيت ونحن في صلاة الظهر ، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنا فاستدرنا معه) ( ).
و(عن عمارة بن أوس الأنصاري قال : صلينا إحدى صلاتي العشي ، فقام رجل على باب المسجد ونحن في الصلاة ، فنادى أن الصلاة قد وجبت نحو الكعبة ، فحوّل أو انحرف أمامنا نحو الكعبة والنساء والصبيان .
وأخرج ابن أبي شيبة والبزار عن أنس بن مالك قال : جاءنا منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن القبلة قد حوّلت إلى بيت الله الحرام ، وقد صلى الإِمام ركعتين فاستداروا ، فصلوا الركعتين الباقيتين نحو الكعبة) ( ).
وهل يتعدد هذا المسجد أم هو مسجد واحد ، المختار هو الثاني.
وعن الإمام جعفر الصادق قال (إن بني عبد الاشهل أتوهم وهم قد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة،
فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة، وصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين، فلذلك سمى مسجدهم مسجد القبلتين، وهو بالمدينة قريبا من بئر رومة) ( ).
وفي قوله تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ..] ( ) أن القبلة حولت إلى المسجد الحرام في شهر رجب بعد زوال الشمس قبل معركة بدر بشهرين.
وعن (مجاهد وغيره : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد بني سلمة، وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب، وحوّل الرّجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين)( ).
وعندما نزل تحريم الخمر بادر الصحابة إلى الإمتناع عنها ، ممن كان يشربها (عن بريدة قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر جلاء ، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر }( ) إلى قوله { منتهون } فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا) ( ).
(عن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا أهل المدينة إن الله يعرض عن الخمر تعريضاً لا أدري لعله سينزل فيها أمر ، ثم قام فقال : يا أهل المدينة إن الله قد أنزل إليَّ تحريم الخمر ، فمن كتب منكم هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربها ) ( ).
وهذا الإخبار من الوحي ، وهو مقدمة نبوية لتهيئة الأذهان لحرمة الخمر.
ومن إعجاز القرآن بيانه لحال ما قبل الوجوب أو التحريم لمنع الجهالة والغرر و(عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته ، فيقول : صنع بي هذا أخي فلان ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، والله لو كان بي رؤوفاً ما صنع بي هذا ، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر ، وفلان قتل يوم أحد ، فأنزل الله هذه الآية { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا })( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً] ( ) .
و(عن الإمام عليّ عليه السلام قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } ( ))( ).
إذ نسخت الآية التالية للنجوى الصدقات ، وفي الآية قال ابن عباس (وذلك أنّ الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكثروا،
حتى شقّوا عليه وأحفوه بالمسألة فأدبّهم الله سبحانه وفطّنهم عن ذلك بهذه الآية، وأمرهم أن لا يناجوه حتى يقدّموا صدقة) ( ).
ففرضت (صدقة المناجاة) وهذا الإصطلاح مستحدث هنا ، ثم نسخت ولم يعمل بها إلا الإمام علي عليه السلام ، لتدل آية النجوى على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله ، وأن مناجاته محادثة مع الوحي تستحق الصدقة ، وقال تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ]( ) لبيان الملازمة بين السنة النبوية وبين الإستقامة.
وهل إنفرد الإمام علي عليه السلام بالعمل بآية النجوى قبل نسخها من مصاديق حديث الثقلين ، المختار نعم.
علم الناسخ والمنسوخ
النسخ لغة هو المحو والإزالة ، يقال الليل نسخ النهار ، أما في الإصطلاح فهو رفع حكم شرعي سابق بحكم شرعي لاحق لفظاً أو حكماً ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وقال تعالى [فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
ويأتي النسخ والإستنساخ بمعنى النقل والتحويل ، ومنه تحول ما في الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى ، ومنه تناسخ المواريث والأحقاب والدهور ، وقال تعالى [وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] ( ) أي فيما بقي من الألواح التي كتبها الله لموسى ، وأخذها موسى عليه السلام بعد أن القاها وكسر بعضها .
والإجماع على وقوع النسخ في الشريعة ، نعم من المتأخرين من قال بعدم وقوعه ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ حاجة فقهية وشرعية لمعرفة أحكام الحلال والحرام ، وتعيين الواجب ، وتحقيق العلم التفصيلي وليس الإجمالي وحده .
وقد يعرف بواسطته مدة العمل بالآية المنسوخة قبل رفع حكمها.
ودخل الإمام علي عليه السلام (يوما مسجد الجامع بالكوفة، فرأى فيه رجلا يعرف بعبد الرحمن بن داب، وكان صاحبا لأبي موسى الأشعري وقد تحلق عليه الناس يسألونه، وهو يخلط الأمر بالنهي، والإباحة بالحظر، فقال له علي عليه السلام : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟
قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، أبو من أنت؟
فقال: أبو يحيى، فقال له علي عليه السلام: أنت أبو اعرفوني.
وأخذ أذنه ففتلها، فقال: لا تقصن في مسجدنا بعد) ( ).
وقال (حذيفة إنما يفتي الناس أحد ثلاثة رجل قد علم ناسخ القرآن من منسوخه وأمير لا يجد من ذلك بدا (أو أحمق متكلف)( ).
وعن (ابن عباس في قوله {يؤتي الحكمة من يشاء }( ) قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله) ( ).
أقسام النسخ
ولفظ النسخ جامع لأمور :
الأول : الإزالة .
الثاني : النقل .
الثالث : المشترك بين الإزالة والنقل .
وقد استعمل في اللغة في الإزالة وفي النقل ويحتمل الإختلاف في معنى النسخ في المقام أمرين :
الأول : انه خلاف لفظي ليس له أثر في الفروع .
الثاني : إنه خلاف معنوي ، وتظهر الثمرة فيه بمسألة جواز النسخ بلا بدل على القول بأن النسخ حقيقة في الإزالة ، مجاز في النقل .
وجاء القرآن على وجوه :
الأول : النسخ بلا بدل في قوله تعالى [فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثاني : نسخ الكتاب واستنساخ الكتاب ، قال تعالى [هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الثالث : النسخ بمعناه الشرعي ، وهو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي لاحق ، لولاه لبقي الحكم السابق ثابتاً ، كما في آية النجوى ورفع الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قوله تعالى [أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
والمراد من الخطاب والحكم الشرعي أي ليس العقلي فلا نسخ بطريق عقلي .
وقيل المراد من الخطاب يشمل المنطوق ومفهوم الموافقة ، ومفهوم المخالفة ولفظ الحكم فلم يتحقق النسخ بالأمر والنهي إنما يشمل الأحكام التكليفية الخمسة .
ومن معاني النسخ أن الله عز وجل يعلم بأن الحكم المنسوخ له مدة معلومة سواء حصل عندها حكم آخر أو لم يحصل .
وذكر من أقسام النسخ نسخ التلاوة دون الحكم إذ ورد (عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنا، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الإعتراف، وقد قرأتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده)( ).
وفي نسخها أمور :
الأول : عدم قرآنيتها .
الثاني : لا تجوز قراءتها في الصلاة .
الثالث : عدم تحريم قراءتها على الجنب .
الرابع : يجوز مسها ، وحملها من غير وضوء.
قانون قيود القتال محكمة ومشددة
لقد نزل القرآن بقتال المسلمين لخصوص الذين يقاتلونهم ويعتدون عليهم كما في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
والقيود الواردة في الآية أعلاه محكمة غير منسوخة إلى يوم القيامة وهي :
الأول : الأمر العرضي بالقتال ، فيدل قوله تعالى [قَاتِلُوا] على أن الأصل العام هو عدم القتال ، وأن القتال أمر طارئ مع دلالة آيات القرآن على بغض المسلمين لقتال المشركين ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( )، ونعت القتال بأنه كره بشارة عدم استدامته.
ومن إعجاز القرآن أن موارد (كتب عليكم) على المسلمين في القرآن كلها عرضية ليست مستديمة ، وعددها أربعة وهي :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ووردت (كتب عليكم) مرة بخصوص بني إسرائيل ، وكل هذه الآيات في سورة البقرة.
لتأتي سورة المائدة وهي من أواخر آيات القرآن نزولاً ليس فيها قتال وقتل ، إنما بيان للأحكام وابتدأت بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ]( ).
الثاني : تقييد القتال بأنه في سبيل الله ، وخالص لوجه سبحانه ، لاتخالطه شائبة الطمع في غنائم أو إرادة الثأر وغلبة النفس الغضبية أو الحمية والعصبية.
الثالث : تخصيص القتال بالمشركين الذين يقاتلون المسلمين ، ويجهزون الجيوش لمحاربتهم ، وتقدير الآية في الواقع العملي على جهات :
الأولى : قاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم في معركة بدر .
الثانية : قاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم في معركة أحد .
الثالثة : استعدوا لقتال المشركين الذين هجموا في معركة الأحزاب .
الرابعة : قاتلوا المشركين الذين باغتوكم بالهجوم في معركة حنين.
الخامسة : قاتلوا المشركين الذين غزوا أنعام وسروح المدينة ، كما في جيش أبي سفيان ، فلما رجعت فلول المشركين من معركة بدر ، نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء ، أي لا يجامع زوجته ، حتى يغزو رسول الله.
فخرج في مائتي راكب يريد أطراف المدينة ، وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم الذي سقاه الخمر ، وأخبره عن حال المنعة والكثرة التي صار عليها المسلمون ، وتحليهم بالتقوى واقبالهم على الفرائض ، وتفانيهم في الذب عن رسول الله .
فلما أصبح أبو سفيان (قَطَعَ أَصْوَارًا مِنْ النّخْلِ الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ ثُمّ كَرّ رَاجِعًا ، وَنَذِرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ فَبَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ ، وَفَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَطَرَحَ الْكُفّارُ سَوِيقًا كَثِيرًا مِنْ أَزْوَادِهِمْ يَتَخَفّفُونَ بِهِ فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَسُمّيَتْ غَزْوَةَ السّوِيقِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ)( ).
الرابع : تدل الآية في مفهومها على عدم الإغارة على مدن المشركين ، وعدم ملاحقة الفارين منهم في ميدان المعركة إلى قراهم ومدنهم .
الخامس : في الآية دعوة لأصناف الكفار ، ولأهل الكتاب ، وعامة الناس بعدم قتال المسلمين .
السادس : هذه الآية من آيات السلم ، وهي محكمة ، ليكون من إعجاز القرآن أن آية القتال تتضمن الدعوة إلى السلم وتعاهده.
السابع : بعد ابتداء الآية بالقتال الدفاعي جاءت بالنهي عن التعدي بقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] أي قبل وأثناء ، وبعد القتال .
الثامن : بيان قانون التضاد بين الإيمان والتعدي ، لأن الغاية جذب الناس إلى الهدى والإيمان ، ويبعث التعدي النفرة في النفوس.
التاسع : بيان قانون من الإرادة التكوينية ومصاحب للحياة الدنيا وهو [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
ومن سبل تعاهد المسلمين لهذا القانون إجتنابهم القتال ومقدماته خشية الوقوع في التعدي.
دلالة السنة الفعلية على عدم نسخ آيات السلم
يتعلق موضوع النسخ أو عدمه بالسنة القولية بشواهد متعددة ، إذ تنسخ السنة بالسنة بالعلم بالمتقدم والمتأخر من الحديث مثل ما ورد عن بريدة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني كنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي بعد ثلاث وعن النبيذ إلا في سقاء وعن زيارة القبور فكلوا من لحوم الاضاحي ما بدا لكم وتزودوا وادخروا ومن أراد زيارة القبور فإنها تذكره الآخرة واشربوا واتقوا كل مسكر)( ).
فيدل الحديث أعلاه على الأمر بزيارة القبور ، وهو أمر إباحة وجواز .
أو أن يذكر الراوي ما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكون المنسوخ معلوم الصدور قبل سماع الناسخ ، مثلاً سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في صلح الحديبية ، وسمعته يقول يوم فتح مكة وبينهما عامان .
عن جابر بن عبد الله قال (كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) ( ).
ولكن للسنة الفعلية موضوعية في :
الأول : بيان وتفسير آيات القرآن .
الثاني : الكشف عن سلامة آيات القرآن من النسخ .
والمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن لقاعدة عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحكام آيات القرآن إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى.
لتؤكد السنة الفعلية عدم نسخ آية السيف لآيات السلم والموادعة والصلح ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعاهد السلم والموادعة مع أهل الكتاب ، وحتى مع الكفار ، ولم يضع فيهم السيف ، قال الطحاوي (حدثنا علي بن عبد الرحمن قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر قال : حد الله عز وجل للذين عاهدوا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا ، وحد لمن ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسين ليلة) ( ).
وعلي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة بن نشيط مولى جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، توفى بمصر سنة 272 هجرية ،وعبد الله بن صالح الجهني مولاهم المصري ، كاتب الليث بن سعد على الغلات والأموال ، وله مناكير .
(وقال أبو الفضل الشعراني: ما رأيت عبد الله بن صالح إلا يحدث أو ينسخ ، وضعفه آخرون)( ).
توفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين( ).
(وقال أحمد بن حنبل: كان أول أمره متماسكا، ثم فسد بآخره)( ).
(وقال سعيد بن منصور: كلمني يحيى بن معين قال : أحب أن تمسك عن عبدالله ابن صالح، فقلت: لا أمسك عنه، وأنا أعلم الناس به، إنما كان كاتبا للضياع)( ).
(قال صالح جزرة: كان ابن معين يوثقه، وهو عندي يكذب في الحديث.
وقال النسائي: ليس بثقة، ويحيى بن بكير أحب إلينا منه.
وقال ابن المدينى: لا أروى عنه شيئا.
وقال ابن حبان.
كان في نفسه صدوقا، إنما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له، فسمعت ابن خزيمة يقول: كان له جار كان بينه وبينه عداوة، كان يضع الحديث على شيخ أبى صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبدالله ويرميه في داره بين كتبه، فيتوهم عبدالله أنه خطه فيحدث به)( ).
والمختار أن عبد الله بن صالح ضعيف ، لذا فحديث ابن عباس أعلاه ضعيف السند ، ولم يرد عن الصحابة وأئمة أهل البيت عليهم السلام تسمية آية [فَإِذَا انسَلَخَ] بآية السيف.
وهو من مصاديق حديث الثقلين و(في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ : إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض)( ).
ومن دلالة السنة الفعلية على عدم نسخ آية السيف لآيات السلم والصلح والموادعة صلح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع نصارى نجران في السنة العاشرة للهجرة ، ونزل قوله تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] ( ).
بينما نزلت سورة براءة في السنة التاسعة للهجرة ، وقيل (آية السيف هي قوله تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ) ( ).
ولكن آية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] ( ).
وينقسم النسخ إلى قسمين :
الأول : النسخ إلى بدل كما في استقبال البيت الحرام نسخ استقبال بيت المقدس.
الثاني : النسخ إلى غير بدل كما في آية النجوى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) ، ونزل بعدها الآية [ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
الآية الثامنة والثلاثون : قوله تعالى [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ]( )، قيل نسختها آية السيف ( ).
وتمام الآية هو [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً] ( ) وجاءت الآية تنبيهاً للمسلمين إذ افترقوا فرقتين ، فحينما رجع عبد الله بن أبي بن أبي سلول مع ثلاثمائة من أصحابه من وسط الطريق إلى معركة أحد اختلف المسلمون في صفتهم هل هم مسلمون أم كفار .
(عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم فرقتين . فرقة تقول نقتلهم ، وفرقة تقول . لا . فأنزل الله {فما لكم في المنافقين فئتين . . . } الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنها طيبة ، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة) ( ).
وذكرت وجوه أخرى في أسباب نزول هذه الآية .
ومن إعجاز الآية الذي ينفي عنها النسخ ورود منطوقها بخصوص المنافقين [مَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ] والمنافق لا يقُتل ولا يوضع فيه السيف ، إذ انه ينطق الشهادتين ، فظاهره يحقن دمه ، ولكن باطنه على الكفر أو ليس الكفر إنما على الشك والريبة ، وانتظار هجوم المشركين على المدينة ، وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً]( ).
ومن المنافقين من كان يشمت بالمسلمين إن نزلت بهم مصيبة ، قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا]( ).
وذكر الآية المصيبة بصيغة المس ، أي أدنى وأقل حسنة ونعمة تأتي للمسلمين تسيء المنافقين وتضرهم ، لبيان خلو قلوب المنافقين من الرحمة والمودة للمؤمنين ، ، ويأتي الرد والتلقين من عند الله[قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
وهل كان توالي النعم على المسلمين سبب لتوبة طائفة منهم ، الجواب نعم .
وتبين الآية عدم إختلاف وانشقاق المسلمين إلى طائفتين بسبب المنافقين ، وهذه الآية من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا…] ( ).
وهذه الآية من الآيات التي تعددت فيها أسباب النزول ، وذكر الماوردي خمسة وجوه فيه ( ) منها أن الآية نزلت (في ناس من قريش، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فأسلموا فأقاموا بها ثم ندموا على ذلك وأرادوا الرجعة، فقال بعضهم لبعض : كيف نخرج .
قالوا : نخرج كهيئة البدو فإن فطن بنا قلنا : خرجنا نتنزّه، وإن غفل عنّا مضينا، فخرجوا بهيئة المتنزهين، حتى باعدوا من المدينة.
ثم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، ولكنا (اجتوينا) المدينة،
واشتقنا إلى أرضنا. ثم إنّهم خرجوا في تجارة لهم، على الشام،
فبلغ ذلك المسلمين، فقال بعضهم : ما يمنعنا أن نخرج إلى هؤلاء الذين رغبوا عن ديننا، وتركوا هجرتنا، وظاهروا على عدوّنا، فنقتلهم ونأخذ مالهم وقالت طائفة منهم : كيف تقتلون قوماً على دينكم، إن لم يذروا ديارهم، وكان هذا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساكت لاينهى واحداً من الفريقين، حتى نزلت هذه الآية والآيات بعدها ، فبين الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شأنهم)( ).
ويتعلق موضوع الآية بالمنافقين ، وآية السيف لا تشملهم موضوعاً وحكماً ، ولا يعلم الناس ما في التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في منع قتل المنافقين.
إذ تبين آية البحث إختلاف وإنقسام المسلمين إلى فريقين بخصوص رأي يخص المنافقين إذا وضع فيهم السيف خاصة أنهم من أهل المدينة وأقارب وإخوان الأنصار ، ويقفون معهم في الصلاة اليومية الخمسة ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منع قتل بعض المنافقين .
ولو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل أفراد من المنافقين فهل تحدث فتنة بين المسلمين ، الجواب نعم ، لذا اكتفت آية البحث بالنهي عن الإختلاف بخصوص المنافقين ، وتضمنت ذمهم وتبكيتهم ، وأن الله عز وجل هو الذي أركسهم ، أي البسهم الذل والهوان والصغار.
ومن وجوه ذلهم هذا توالي النعم وأسباب العز للمؤمنين ، إن كل يوم يطل على الصحابة ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم سالم معافى تتوالى عليه آيات القرآن في نزولها نعمة عظمى عليهم رجالاً ونساء ً ، وعلى نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي .
وبينت الآية أن ما لحقهم من البلاء بسبب قبح فعلهم أي أن المنافقين لم يكتفوا باخفاء الكفر إنما أظهروا العداء للنبوة والتنزيل بالقول والفعل بدليل قوله تعالى [وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا] ( ).
آية (مَا نَنسَخْ)
قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )، وقد ذكرت في الجزء الثامن عشر من هذا السِفر قبل خمس وعشرين سنة في قوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا] ( )،(أي بأفضل من تلك الآية في النفع وبيان الأحكام ونوع الإمتثال وبما يؤدي إلى صلاح النفوس ، والتمكين من أداء الفرائض بتخفيف وتيسير وما يؤدي إلى مراتب الكمال.
وفي الآية نكتة وهي أن الموضوع لا يترك من غير حكم وبيان، واللطف في النسخ مركب من الأفضلية في أثر الآية، ومن عدم ترك الموضوع بلا بيان.
والتفضيل لا يتعلق بماهية الآية لإشتراك الآيات بكونها كلام الله ولكن متعلقه إنتفاع الناس منها موضوعاً وكماً وكيفاً، أي أن النسخ خير لكم وللناس جميعاً ولتثبيت أركان الإسلام ودوام وإستمرار أحكامه، فالتفضيل هنا يحمل على الإطلاق في متعلقه إلا مع وجود ما يدل على التقييد وهو مفقود في المقام.
والآية وثيقة قرآنية تفيد القطع ، وعدم اللبس بأن النسخ من عند الله تعالى.) ( ).
وهل هي مانع من القول بأن السنة النبوية تنسخ القرآن ، الجواب نعم ، خاصة وأن القرآن قطعي الصدور ، وقطعي الدلالة.
التفسير بالتقدير
ويمكن تقدير قوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا] ( ) على وجوه :
الأول : نأت بخير منها للذين آمنوا .
الثاني : نأت بخير منها في العبادات والمعاملات .
الثالث : نأت بخير منها في الأجر والثواب .
الرابع : نأت بخير منها في التخفيف عنكم ، وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
الخامس : نأت بخير منها في البعث على فعل الصالحات .
السادس : نأت بخير منها في منع الفرقة والخصومة والإختلاف .
السابع : نأت بخير منها في تثبيت المؤمنين في منازل الإيمان .
الثامن : نأت بخير منها في دعوة الناس للإيمان .
التاسع : نأت بخير منها لأجيال المسلمين .
العاشر : نأت بخير منها للناس جميعاً ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
الحادي عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] تقريب الناس إلى اللطف الإلهي .
الثاني عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] في إبتعاد الناس عن المعاصي .
الثالث عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] للدار الآخرة .
الرابع عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] في تثبيت الأقدام في مقامات الإيمان .
الخامس عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السادس عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] في تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا .
السابع عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] في الترغيب بالتلاوة .
الثامن عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] في زجر المشركين عن التعدي على حرمات الإسلام .
التاسع عشر : [خَيْرٍ مِنْهَا] للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وتبليغه الناس الرسالة.
العشرون : [خَيْرٍ مِنْهَا] في إعانتكم على حفظ آيات القرآن وتلاوتها في الصلاة .
قد يتساءل بعضهم لم النسخ في القرآن ، وإلى الآن تجد من ينكره في القرآن.
فجاءت آية البحث لتبين أن النسخ في آيات القرآن خير محض ، ونعمة عظمى تستلزم منا الشكر له سبحانه ، وتعيين مواقع النسخ وأسبابه ، وعدم القول به من غير علم.
ومن هذا القول إدعاء نسخ آية السيف لمائة وأربعة وعشرين آية من آيات السلم والمصالحة والموادعة ، وقد ذكرت في الجزء الثامن عشر من هذا السِفر (يمكن تأسيس قاعدة كلية، وهي لو دار الأمر في الإخبار القرآني بين عالم الإمكان وعالم الوقوع، فالأرجح هو الثاني) ( ).
وقوله تعالى [أَوْ نُنسِهَا]على المعنى اللغوي ، أي نتركها ، وهو غير النسيان عند الإنسان ، وهو غياب الصورة عن المدركة ، وأستدل المعتزلة بهذه الآية [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] على خلق القرآن وتآخر الناسخ عن المنسوخ ، ودلالته على حدوثه وعدم قدمه .
والقديم هو الذي لا أول لوجوده ويعبر عنه بالأزلي ولا آخر لدوامه وهو الله تعالى .
وقد يتعلق بالنزول من اللوح المحفوظ أو من السماء الدنيا ، وليس من أصل إيجاد القرآن الذي هو كلام الله .
والله عز وجل لا ينسى موضوعاً ، ولا يتركه فلابد أن تأتي آية أحسن من المنسوخة أو مثلها .
والنسخ غير التخصيص الذي يعني في الإصطلاح خروج بعض أفراد العام أو بعض أنواعه من تحت حكم العام أو محموله .
ويدل النسخ على أن حكم الآية المنسوخة مؤقت ، وليس بمستديم ، وأن كان في الظاهر يفيد الثبوت ، إذ أن النص اللاحق حاكم عليه ، وكاشف عن ملاك الأمر.
وهل من صلة بين آية النسخ هذه وآية [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) المختار أن النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، وأن النسخ جزء وفرع من مضامين آية المحو والإثبات أعلاه .
وهل يدل النسخ على زوال المصلحة في الآية المنسوخة ، الجواب لا ، وهو من أسرار بقاء الآية المنسوخة في القرآن ، وتجلي مضامينها القدسية ، واستنباط المسائل والقوانين منها ، نعم الناسخ يكون أكثر نفعاً في النشأتين ، ووجود الناسخ والمنسوخ في القرآن من إعجازه ، ودليل على أهلية المسلمين للتفقه في الدين .
أما النسبة بين النسخ وتفصيل العام ، وتقييد المطلق فهي التباين ، فكل منها ليس من النسخ موضوعاً أو حكماً ، وإن اعتمده بعض المتقدمين لإرادة المعنى الأعم من النسخ ، إذ أطلقوا النسخ على تخصيص العام ، وتقييد المطلق ، ولكن معنى النسخ استقر على التبديل ورفع حكم شرعي بخطاب بحكم شرعي آخر ، وهو الذي يدل عليه مضمون آية البحث [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ..].
وهل هناك تعارض بين الناسخ والمنسوخ في القرآن ، الجواب لا ، وهو من إعجازه ودليل على أهلية المسلمين للتفقه في الدين .
فالطرف المستبدل مرجوح ، والبدل هو الراجح ، والنسخ علم من علوم القرآن ، ويتصف كل فرد منها بالكمال .
وهل يحتمل العمل بالمنسوخ في زمان لاحق أو مكان مخصوص ، ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وبصورة مؤقتة ، الجواب نعم ، كما لو دخل قوم في الإسلام وعملوا بالأحكام الشرعية على نحو التدرج ، وليس دفعة واحدة ، وكما في الصلاة لأي جهة عند الجهل بالقبلة ، وعدم تعيينها ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
و(عن أبي البختري قال : دخل علي بن أبي طالب المسجد فإذا رجل يخوّف فقال : ما هذا.
فقالوا : رجل يذكر الناس .
فقال : ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟
فقال : لا .
قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه .
وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ والمنسوخ والبيهقي في سننه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : مر علي بن أبي طالب عليه السلام برجل يقص فقال : أعرفت الناسخ والمنسوخ؟
قال : لا .
قال : هلكت وأهلكت .
وأخرج النحاس والطبراني عن الضحاك بن مزاحم قال : مر ابن عباس بقاص يقص فركله برجله وقال : أتدري الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا . قال : هلكت وأهلكت .
وأخرج الدارمي في مسنده والنحاس عن حذيفة قال : إنما يفتي الناس أحد ثلاثة : رجل يعلم ناسخ القرآن من منسوخه وذلك عمر ، ورجل قاض لا يجد من القضاء بداً ، ورجل أحمق متكلف ، فلست بالرجلين الماضيين ، فأكره أن أكون الثالث) ( ).
وفي قوله تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( )، قال ابن عباس (لما أنزل القرآن آمنوا به فكان هدى فلما تبين الناسخ من المنسوخ زادهم هدى) ( ).
والناسخ في الحقيقة هو الله عز وجل ، ولكن يطلق اللفظ على الحكم اللاحق والناسخ تجوزاً .
وتدل آية البحث على وقوع النسخ في القرآن والشواهد تدل عليه فقول الإمام علي عليه السلام : أتعرف الناسخ من المنسوخ أي من آيات القرآن ، وقال ابو مسلم : المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، كالسبت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب.
وقيل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ إلى سائر الكتب ، كما يقال : نسخت الكتاب ، وهو بعيد وخلاف ظاهر الآية ودلالتها .
وقول قتادة : المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ ) ( ).
وليس بتام لأن علم الناسخ والمنسوخ غير علم المحكم والمتشابه .
وسئل الإمام الصادق عليه السلام (عن الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه قال: الناسخ: الثابت والمنسوخ: ما مضى، والمحكم: ما يعمل به،والمتشابه: الذي يشبه بعضه بعضا) ( ).
قانون كيد المشركين ضلالة وخسارة
من إعجاز آية البحث بيانها لقانون عدم اكتفاء المشركين بالحسد والغيظ لتوالي النعم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إنما يتجه المشركون نحو الكيد ، وأشهروا الهجوم بجيوش عظيمة على المدينة لقتال وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
والكيد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، قوة وضعفاً ، وأشهرها القتال وطلب المبارزة في الميدان ، وهو الذي أظهره المشركون ليكون من معاني ذكر (كيدهم) في آية البحث وجوه:
الأول : إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من شرور وكيد المشركين .
الثاني : زجر المشركين على الإستمرار بالكيد والمكر وتصعيد هذا المكر كماً وكيفاً .
الثالث : دعوة الناس للحيطة والحذر من اتباع المشركين في كيدهم ، وعدم الإنجرار خلفهم في محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : عدم اختصاص كيد المشركين بحال الحرب والقتال ، إنما هو متصل في حال الحرب والسلم ، لذا لابد أن يكون كل من الصبر والتقوى ملكة يومية حاضرة عند المسلمين ، قال تعالى [فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]( ).
الخامس : من كيد المشركين سعيهم في منع الناس من دخول الإسلام.
السادس : جعل المسلمين في حال يقظة وحذر يومي من كيد المشركين ، ومن خصائص الصبر والتقوى كشف هذا الكيد والتصدي له ولأسبابه.
السابع : يبعث كيد المشركين المسلمين على التآخي والتكافل والتوادد وهو من مصاديق الصبر والتقوى في مقابلة كيد المشركين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فالأخوة الإيمانية من معاني الصبر والتقوى في تلقي كيد المشركين.
لذا فان نظم آية البحث عطفها على آية نداء الإيمان في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( )، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ان تمسسكم حسنة تسوءهم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أن تصيبكم سيئة يفرحوا بها .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا ان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن الله بما تعملون محيط.
نفي السنة النبوية لتسمية آية السيف
و(عن ابن عباس في قوله {براءة من الله ورسوله…}( ) الآية . قال : حدَّ الله للذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاؤوا ، وحد أجل من ليس له عهد انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ الحرم خمسين ليلة ، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإِسلام ونقض ما سمى لهم من العهد والميثاق ، وإن ذهب الشرط الأوّل {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام}( )، يعني أهل مكة)( ).
وهذا الحديث ضعيف سنداً بعبد الله بن صالح كما سيأتي في هذا الجزء ، وهو ليس بحجة تامة من جهات :
الأولى : الآية التالية لآية السيف التي تبين وجوب إجارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن استجاره من المشركين متحداً كان أو متعدداً بان يسمعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلام الله ، ويدعوه إلى الإسلام بلطف ثم يوصله إلى مكان آمن لا يخشى فيه القتل بسبب الكفر ، ولا يكُره فيه على دخول الإسلام .
وأختتمت الآية بأسباب الرفق بالمشركين بقوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وتدل هذه الخاتمة في مفهومها على أن اسماعهم لآيات القرآن وإطلاعهم على مبادئ وأحكام الإسلام مناسبة لدخولهم الإسلام ، ونزع رداء الجهل والوثنية عنهم ، لبيان أن من مضامين الآية إمهال الذين كفروا ليس إمهالاً مجرداً بل مقترناً بالدعوة الجادة إلى الإسلام وتدل على عدم قتلهم لعمومات حديث الرفع.
الثانية : القدر المتيقن من موضوع الآية أهل مكة ومن حولها ، فهي من عمومات قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) لبيان تعدد صيغ الإنذار منها البدل من المشركين وإمهالهم ، وترك الذين لم ينقصوا المشركين شيئاً ، ولم يغدروا بهم ، ولم ينقضوا عهدهم ، وجاء في هذا الجزء بيان وتفسير لمضامين السلم في قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( ).
الثالثة : دلالة السنة النبوية القولية والفعلية على عدم وضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيف على المشركين إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
وهل سنة النبي هذه حجة في المقام ، الجواب نعم ، ويمكن تأسيس قانون وهو إذا تعارضت سنخية هذه السنة مع حديث يروى عن ابن عباس لم يثبت سنده أو حتى على فرض سنده فان السنة النبوية مقدمة .
وتمنع سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تسمية هذه الآية بآية السيف فهي آية إنذار محدود زماناً ومكاناً واشخاصاً ، وأغلبهم دخلوا الإسلام قبل وبعد حجة الوداع ، قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الرابعة : الآية خاصة بالمشركين من أهل مكة ، وليس فيها ما يدل عل فرض قتالهم على المسلمين .
ولا تشمل أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس ، بل لا تشمل غير أهل مكة وأطرافها ،في أشهر أربعة مخصوصة .
وهل تشمل الآية رجال القبائل التي أعانت مشركي مكة في قتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المختار نعم، لإرادة حصانة الإسلام والمسلمين من هجمات المشركين ، فمثلاً بعد فتح مكة يتبادر إلى الذهن وقف المشركين قتالهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولكن ثقيفاً وهوازن ساروا بنحو عشرين ألف لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حنين التي صار القتل فيها قريباً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهجوم المشركين المباغت وأحكامهم خطة الهجوم لولا المدد والعون من عند الله عز وجل من جهات:
الأول : إنزال السكينة على الرسول ، وثباته في موضعه ، ودعوته أصحابه للثبات ، ورجوع من إنهزم ، قال جابر بن عبد الله (قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ . قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ .
وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ ، أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ) ( ).
الثاني : فضل الله في إكرام الصحابة بانزال السكينة عليهم .
الثالث : نزول ملائكة وجنود من السماء لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهزيمة الذين كفروا ، كما في قوله تعالى [ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) .
ولم يرد لفظ [كَثْرَتُكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه قال ابن إسحاق (وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكّةَ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ حِينَ فَصَلَ مِنْ مَكّةَ إلَى حُنَيْنٍ ، وَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ اللّهِ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّة قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَهَا ) ( ).
لبيان عدم موضوعية الكثرة لولا فضل الله عز وجل والمدد من عنده سبحانه .
ليتقابل كثرة من المسلمين ، وكثرة من المشركين الذين استعدوا للمعركة عاماً كاملاً ، أي أنهم يخططون لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل فتح مكة ، ولابد أن يكون من ضمن هذا التخطيط الإغارة على المدينة ، لذا فان نزول آية السيف حاجة لإخافة وزجر الذين يصرون على الهجوم على المدينة ، وهي من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ولا تعني آية السيف قتال المشركين عند انتهاء الأشهر الحرم من كل سنة إلى قيام الساعة ، إنما موضوعها خاص بأهل مكة ولا يختص بالقتل والقتال ، إنما يقدم الإنذار والحصر والإعراض [وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( )، وموضوع الآية أهل الحرم فقط وحلفائهم في الحرب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين يقولون بأنهم أولياء البيت ، ومع هذا يقيمون على الشرك والضلالة.
الأشهر الحرم في الآية
قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الأول : إرادة الأشهر الأربعة وهي رجب فرد ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ثلاثة سرد ، وهي متتابعة ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
الثاني : أربعة أشهر من يوم النحر من السنة التاسعة قبل حجة الوداع بسنة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة للهجرة .
هذا بالنسبة للذي له مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد ، أما الذي ليس له عهد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأجله خمسون ليلة من يوم النحر من السنة التاسعة إلى آخر شهر محرم من السنة العاشرة .
واراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحج في السنة التاسعة للهجرة (فقال : إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلمّا سار دعا صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام فقال : اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذّن بذلك في الناس إذا اجتمعوا.
فخرج علي ح على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجدعاء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه فرجع أبا بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : يارسول الله بأبي أنت وأمي أنزل بشأني شيء؟
قال : لا ، ولكن لا يبلّغ عني غيري أو رجل مني ) ( ).
وقوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ] ( ) كأنه من عطف العام على الخاص ، ومنه [إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي] ( ) فالنسك العبادة والنسبة بينهما وبين الصلاة عموم وخصوص مطلق .
قوانين الجزء الواحد والأربعين بعد المائتين
يتعلق موضوع هذا الجزء بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وتضمن نفي النسخ عن الآيات 139 -283-190-159-115-217 من سورة البقرة وغيرها.
ووردت فيه قوانين متعددة منها ماتم شرحه وبيانه ، ومنها ما ورد ذكره بالاسم فقط وهي :
الأول : قانون وجوب تعاهد الناس للسلم والأمن في ملك الله.ص6
الثاني : قانون وجوب الخشية العامة والخاصة من الله عز وجل.ص6
الثالث : قانون كل فعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له أصل في القرآن.ص15
الرابع : قانون شفاعة السورة لصاحبها يوم القيامة.ص15
الخامس : قانون تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل البيت والصحابة آيات وسور القرآن والترغيب بحفظها .ص15
السادس : قانون اقتباس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأحكام من آيات القرآن مع الشواهد.ص15
السابع : قانون السنة الدفاعية مقدمة للسلم.ص26
الثامن : قانون المنافع المتجددة للسنة الدفاعية.ص29
التاسع : قانون الوحي في القصة القرآنية ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).ص32
العاشر : قانون سلامة المعجزة من المعارضة.ص33
الحادي عشر : قانون اختصاص النبوة بالمعجزة.ص34
الثاني عشر : قانون المعجزة شاهد سماوي على صدق نبوة النبي ، ورسالة الرسول .ص34
الثالث عشر : قانون دفع المعجزة الضرر عن النبي وعن أصحابه واتباعه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).ص34
الرابع عشر : قانون المعجزة من عند الله عز وجل ، فلا يقدر ملك مقرب ولا نبي مرسل على استحداث معجزة.ص34
الخامس عشر : قانون مصاحبة المعجزة لأول وجود للإنسان وقبل أن يهبط إلى الأرض إذ كان آدم عليه السلام نبياً رسولاً مكث في الجنة برهة من الزمن هو وحواء ، ومكث آدم وزوجته في الجنة هذا معجزة له.ص35
السادس عشر : قانون جذب المعجزة الناس للإيمان سواء كانت حسية أو عقلية.ص35
السابع عشر : قانون المعجزة فرع قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).ص35
الثامن عشر : قانون المعجزة إشغال للمشركين بأنفسهم .ص35
التاسع عشر : قانون تجدد المعجزة العقلية في كل زمان بينما ينحصر وقوع المعجزة الحسية في أوانها مثل التهام عصا موسى عليه السلام لعصي سحرة فرعون ، ومثل ناقة صالح.ص37
العشرون : قانون كل نبي له معجزة حسية بما فيهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه انفرد بالمعجزة العقلية.ص37
الواحد والعشرون : قانون إنقطاع المعجزة الحسية بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وبقاء المعجزة العقلية إلى يوم القيامة.ص37
الثاني والعشرون : قانون تعدد معاني اللفظ القرآني.43
الثالث والعشرون : قانون الإنفراد بالمعجزة العقلية معجزة مستقلة.ص47
الرابع والعشرون : قانون التلاوة حفظ للقرآن.ص48
الخامس والعشرون : قانون بقاء وتجدد رسالة خاتم النبيين إلى يوم القيامة.ص48
السادس والعشرون : قانون خاتم النبيين شاهد صدق على النبوات السابقة، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا] ( ).ص49
السابع والعشرون : قانون الحاجة إلى المعجزة العقلية لخاتم الأنبياء لإنقطاع النبوة برسالته.ص49
الثامن والعشرون : قانون المعجزة الحسية فرع المعجزة العقلية.ص49
التاسع والعشرون : قانون استقراء المعجزة الحسية من الحديث النبوي.ص52
الثلاثون : قانون بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة ويصعب إحصاؤها , لأن علم تفرع المعجزات الحسية عن آيات القرآن مفتوح بابه إلى يوم القيامة.ص52
الواحد والثلاثون : (قانون ترغيب الآية القرآنية بالغوص في علومها).ص52
الثاني والثلاثون : قانون السنة النبوية مرآة للقرآن.ص53
الثالث والثلاثون : قانون حضور الخلافة في الآخرة.ص53
الرابع والثلاثون : قانون تأسيس العلوم في القرآن ، ومنها علم المنطق والأصول.ص59
الخامس والثلاثون : قانون سلامة القرآن من الزيادة والنقصان.ص64
السادس والثلاثون : قانون آيات (قل) دعوة للسلم ، وتغليب لغة الحوار والإحتجاج الذي يقترن به الأمن طوعاً وانطباقاً.ص69
السابع والثلاثون : قانون ملازمة الهداية للناس في كل زمان بالتنزيل وهو من رحمة الله عز وجل ، ومن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).ص71
الثامن والثلاثون : قانون آيات القرآن فرقان , وفصل وفيصل وتفصيل بين الحق والباطل .ص72
التاسع والثلاثون : قانون آية الأهلة سلام.ص73
الأربعون : قانون الدنيا دار الرحمة ، فهناك نعمة عظيمة من الطبيعي الكلي وهو التنزيل الذي ينتفع منه الناس جميعاً ، البر والفاجر ، والمسلم والكتابي ، والكافر .ص74
الواحد والأربعون : قانون الإستعانة.ص77
الثاني والأربعون : قانون آيات السلم أكثر بكثير من التي تتضمن لفظ السلم كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).ص77
الثالث والأربعون : قانون في جملة خبرية وهو أن الله مع الصابرين.ص78
الرابع والأربعون : قانون الإستعانة بالصلاة.ص80
الخامس والأربعون : قانون الإستعانة بالله وحده ، قال تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).ص80
السادس والأربعون : قانون التوسل ، ونزل القرآن بالإستعانة بالصبر والإستعانة بالصلاة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).ص80
السابع والأربعون : قانون العبادات سبيل قضاء الحوائج .ص81
الثامن والأربعون : قانون الدنيا دار الإستعانة بالله .ص81
التاسع والأربعون : قانون الصبر على السلم.ص82
الخمسون : قانون الإستعانة بالصبر في الحديبية.ص85
الواحد والخمسون : قانون الطمأنينة بجوار البيت الحرام ، إذ صار الصحابة على بعد عشرين كيلو متر منه ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا( ).ص86
الثاني والخمسون : قانون أولوية السلم في منهاج النبوة .ص86
الثالث والخمسون : قانون تنمية ملكة السلم والصلح عند المسلمين.ص86
الرابع والخمسون : قانون تفسير السنة النبوية العملي لآيات القرآن .ص86
الخامس والخمسون : قانون نسخ النبوة لأعراف الجاهلية المذمومة ، وبناء صرح قيّم النبوة القائمة على السلم والصلح والموادعة والعفو والرأفة والمحبة ، بما يفيد استدامة طاعة الله ، وحال السلم والتسامح.ص94
السادس والخمسون : قانون وقاعدة كلية بأن السنة تنسخ القرآن ، وأحاديث العرض بخلافه.ص94
السابع والخمسون : قانون جواز النسخ.ص100
الثامن والخمسون : قانون السنة النبوية شاهد على استدامة أحكام آيات السلم والصلح والموادعة إلى يوم القيامة.ص110
التاسع والخمسون : قانون وجوب التدبر في آيات القرآن ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).ص111
الستون : قانون الأصل عدم نسخ الآية القرآنية.ص113
الواحد والستون : قانون في الحياة اليومية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).ص114
الثاني والستون : قانون تأكيد الآية المدنية للآية المكية التي نزلت قبل الهجرة.ص134
الثالث والستون : قانون الإحتجاج في ميدان القتال سلم.ص134
الرابع والستون : قانون ثبات الصحابة على الإيمان ، وعدم التهاون أو التهادن مع المشركين.ص136
الخامس والستون : قانون امتناع الإرتداد عن المسلمين ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن أسباب دخول أفواج من الناس في الإسلام ، ومنهم رؤساء ووجهاء قومه.ص136
السادس والستون : قانون الإحتجاج صرف عن القتال.ص136
السابع والستون : قانون البرهان أمضى من الجدال.ص138
الثامن والستون : قانون منافع ذم الشرك.ص139
التاسع والستون : قانون التناسب الطردي الشهري في دخول الناس الإسلام.ص143
السبعون : قانون أسواق مكة مناسبة للدعوة السلمية.ص146
الواحد والسبعون : قانون سبق السلم والدعوة السماوية إلى السلام والأمن لبعثة النبي ومصاحبته لها واستدامته إلى يوم القيامة , وهو من الشواهد على عدم نسخ آيات السلم.ص147
الثاني والسبعون : قانون الملازمة بين الإرتداد والكفر وبين دخول النار.ص152
الثالث والسبعون : قانون حرمة التعدي لقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا].ص155
الرابع والسبعون : قانون بغض الله عز وجل للمعتدين مجتمعين ومتفرقين لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).ص156
الخامس والسبعون : قانون تأكيد كون الآية محكمة مع غياب الدليل على نسخها له منافع كثيرة ، وفيه تجديد لمعاني البشارة والإنذار فيها.ص156
السادس والسبعون : قانون وهو ملك الله عز وجل أعم من أن تحيط به عقول البشر بلحاظ الجهات الأربعة وإطلاقها.ص168
السابع والسبعون : قانون وهو لو دار الأمر بين العموم والخصوص في الآية القرآنية ، فالأصل هو العموم.ص170
الثامن والسبعون : قانون لو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في الآية القرآنية فالأصل هو الإطلاق .ص170
التاسع والسبعون : قانون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، تعاهد حج بيت الله الحرام.ص171
الثمانون : قانون من الإرادة التكوينية ثابت إلى يوم القيامة ، وهو من أسباب صرف البلاء عن أهل الأرض.ص179
الواحد والثمانون : قانون [لاَ تَعْتَدُوا] مطلق.ص182
الثاني والثمانون : قانون سالم من المتشابه والنسخ وضروب التقييد ، وهو من إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).ص182
الثالث والثمانون : قانون [لاَ تَعْتَدُوا] على أنفسكم وغيركم .ص182
الرابع والثمانون : قانون [لاَ تَعْتَدُوا] فيعتدى عليكم .ص182
الخامس والثمانون : قانون [لاَ تَعْتَدُوا] للغنى بالحجة والبرهان والمعجزة الحسية والعقلية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.ص182
السادس والثمانون : قانون [لاَ تَعْتَدُوا]قبل الهجرة وبعدها .ص182
السابع والثمانون : قانون [لاَ تَعْتَدُوا]قبل صلح الحديبية وبعده .ص182
الثامن والثمانون : قانون [لاَ تَعْتَدُوا]قبل فتح مكة وبعده .ص182
التاسع والثمانون : قانون التداخل الموضوعي والحكمي بين قوله تعالى [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] ( ) و[لاَ تَعْتَدُوا].ص183
التسعون : قانون الملازمة بين تقوى الله و[لاَ تَعْتَدُوا].ص183
الواحد والتسعون : قانون الجامع لآيات القرآن نفي لنسخ آيات السلم.ص183
الثاني والتسعون : قانون ذات آيات القرآن على نحو العموم المجموعي والإستغراقي على هذه السلامة.ص183
الثالث والتسعون : قانون قول مستحدث هنا يفتح آفاقاً من العلم.ص183
الرابع والتسعون : قانون من الإرادة التكوينية ، وهو الملازمة بين التنزيل والنبوة ، فليس من تنزيل إلا على نبي.ص184
الخامس والتسعون : قانون الخلافة في الأرض.ص186
السادس والتسعون : قانون تعاهد المسلمين لمصاديق الخلافة .ص186
السابع والتسعون : قانون من الشواهد على استدامة بقاء الإسلام الديانة الثابتة إلى يوم القيامة لما فيها من حفظ النسل والعرض والمال للناس جميعاً : قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).ص186
الثامن والتسعون : قانون عدم الإعتداء.ص186
التاسع والتسعون : قانون موافقة العقل والطبع الإنساني ، ونفرة النفوس من الاعتداء سواء كان على نحو القضية الشخصية أو النوعية.ص186
المائة : قانون مصاحب للرسالات السماوية ، وليس مقيداً بشرط أو حال دون أخرى.ص186
الواحد بعد المائة : قانون عام مصاحب للحياة الدنيا وهو بغض الله عز وجل للذين يعتدون على الناس ، لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.ص187
الثاني بعد المائة : (قانون انتفاء النفع من الإرهاب والعنف والتعدي على الناس ، وإلحاق الضرر بأنفسهم وأموالهم) ( ).ص187
الثالث بعد المائة : قانون الأصل عدم النسخ ، وهذا التبادر من الفطرة والفقاهة وتجلي منافع هذه الأوامر والنواهي في الواقع العملي.ص189
الرابع بعد المائة : قانون عدم الإعتداء في ميدان القتال .ص190
الخامس بعد المائة : قانون عدم الإعتداء في حال السلم ليتعاهد المسلمون والناس حال السلم ، ويكون مناسبة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.ص190
السادس بعد المائة : قانون عدم الإعتداء في المعاملات لإشاعة العدل والإنصات إلى آيات التنزيل وأقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي شعبة من الوحي .ص190
السابع بعد المائة : قانون عدم الإعتداء عند إنتهاء القتال ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).ص190
الثامن بعد المائة : قانون عدم إعتداء المسلمين بعضهم على بعض .ص190
التاسع بعد المائة : قانون خلود إعجاز القرآن.ص191
العاشر بعد المائة : قانون فرض الدفاع لدفع وهم إرادة الإطلاق في فرض القتال.ص192
الحادي عشر بعد المائة : قانون بغض الله للمعتدين.ص194
الثاني عشر بعد المائة : قانون التنزيل يوم معركة بدر لإرادة السلم حتى في ساعة القتال ، والإخبار بأن القتال عرض زائل لأن التنزيل عنوان السلم والأمن المجتمعي.ص198
الثالث عشر بعد المائة : قانون سعي النبي للسلم حتى في الميدان.ص198
الرابع عشر بعد المائة : قانون نهي النبي ص أصحابه عن الإبتداء بالقتال أو رمي النبال أو طلب المبارزة.ص200
الخامس عشر بعد المائة : قانون هل آية (وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ) غير منسوخة.ص206
السادس عشر بعد المائة : قانون لو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد وبين النسخ يقدم الأول ، وفيه سعة ومندوحة ورحمة ، قال تعالى [قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا]( ).ص208
السابع عشر بعد المائة : قانون الهجرة حاجة.ص212
الثامن عشر بعد المائة : القانون الثابت المستديم ليشمل التبكيت والذم للذين كفروا ، وصيغة التنبيه والتحذير إلى المسلمين ، وفيه دعوة سماوية لإصلاح المجتمعات ، وتهذيب النفوس.ص218
التاسع عشر بعد المائة : قانون إخوة الإيمان في الدنيا والآخرة.ص219
العشرون بعد المائة : قانون استدامة إخوة الإيمان وإن تباين وتعدد المكان والوطن.ص222
الواحد والعشرون بعد المائة : قانون إفاضات الإخوة الإيمانية على الأخوة النسبية.ص224
الثاني والعشرون بعد المائة : قانون الملازمة بين الإيمان والرأفة بالناس ، قال تعالى [وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ).ص224
الثالث والعشرون بعد المائة : قانون إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة وبال على المشركين .ص230
الرابع والعشرون بعد المائة : قانون بيعة العقبة معجزة.ص231
الخامس والعشرون بعد المائة : قانون ولاية قريش للبيت.ص234
السادس والعشرون بعد المائة : قانون آية القتال سلام دائم.ص237
السابع والعشرون بعد المائة : قانون آيات القتال بمعنى الدفاع المحض.ص240
الثامن والعشرون بعد المائة : قانون قيام المشركين بابتداء القتال في كل من معركة بدر ، أحد ، الخندق ، حنين .ص241
التاسع والعشرون بعد المائة : (قانون الصدّ عن البيت فتنة)ص243
الثلاثون بعد المائة : قانون النسبة بين الفتنة وابتداء القتال عموم وخصوص مطلق.ص247
الواحد والثلاثون بعد المائة : قانون عموم التبليغ والدعوة.ص252
الثاني والثلاثون بعد المائة : قانون دعوة الأفراد والجماعات إلى الإسلام بآيات القرآن والحجة والبرهان ، وليس الإرهاب.ص253
الثالث والثلاثون بعد المائة : قانون الوصول إلى الرجال والنساء في القرى والأرياف والبوادي ، وإسماعهم آيات القرآن .ص253
الرابع والثلاثون بعد المائة : قانون إمتناع المانع بين الناس وبين النبوة والتنزيل ، وهو من المساعي النبوية الحميدة( ).ص254
الخامس والثلاثون بعد المائة : قانون كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإستطلاع واستكشاف ما حول المدينة( ).ص254
السادس والثلاثون بعد المائة : قانون دعوة الناس للإيمان إذ تميل النفوس بالفطرة للوحي ، وتنفر مما هو ضده من الكفر والفسوق والظلم( ).ص254
السابع والثلاثون بعد المائة : قانون إبتداء سلسلة انتصارات النبوة والتنزيل قبل معركة بدر( ).ص254
الثامن والثلاثون بعد المائة : قانون كل آية من السور المكية والسور المدنية التي نزلت قبل صلح الحديبية وبعده لها موضوعية ، ونفع حسن ، وهو من أسرار بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله عز وجل ثلاث عشرة سنة في مكة قبل الهجرة( ).ص254
التاسع والثلاثون بعد المائة : قانون انفراد دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإقتران بالترغيب والشأن العظيم والفوز في النشأتين( ).ص254
الأربعون بعد المائة : قانون السنة التدوينية فرع آية التبليغ.ص255
الواحد والأربعون بعد المائة : قانون كل نبي له معجزة حسية ، وانفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معها بالمعجزة العقلية .ص271
الثاني والأربعون بعد المائة : قانون توارث التنزيل من أيام هبوط آدم عليه السلام من الجنة إلى يوم القيامة.ص277
الثالث والأربعون بعد المائة : قانون المعجزة واقية من الإفتراء على الله.ص277
الرابع والأربعون بعد المائة : قانون فرض الزكاة رحمة عامة.ص296
الخامس والأربعون بعد المائة : قانون التكافل الإجتماعي بين المؤمنين في كل الأزمنة.ص296
السادس والأربعون بعد المائة : قانون اليسر والتسهيل في دفع الزكاة .ص298
السابع والأربعون بعد المائة : قانون البركة والعوض على دفع الزكاة.ص298
الثامن والأربعون بعد المائة : قانون تذكير القرآن لبني اسرائيل بميثاق الله عليهم باقامة الصلاة ، واتيان الزكاة في القرآن شاهد على كون القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).ص298
التاسع والأربعون بعد المائة : قانون تجديد الملل السماوية بالقرآن بالتذكير بأحكامها ، ولزوم عدم نسيانها أو الإعراض عنها .ص298
الخمسون بعد المائة : قانون المنافع الآنية لنزول الآية القرآنية.ص298
الواحد والخمسون بعد المائة : قانون فقاهة المسلمين بالمبادرة للعمل بالآية القرآنية.ص299
الثاني والخمسون بعد المائة : قوانين النسخ تأخر نزول الناسخ عن زمان المنسوخ ، لذا جاء الناسخ في سورة المائدة لأنها من آخر سور القرآن نزولاً.ص113
الثالث والخمسون بعد المائة : قوانين متعددة في كلمة واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [لاَ تَعْتَدُوا].ص182
الرابع والخمسون بعد المائة : (القوانين في القرآن إلهية تفيد الإنبساط والملائمة لكل الأزمنة والبلدان).ص186
الخامس والخمسون بعد المائة : قوانين الآخرة تختلف عن الحياة الدنيا ، مع التباين في ماهية الحياة بقصدها في الدنيا ، والخلود في الآخرة ، قال تعالى [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ).ص219
السادس والخمسون بعد المائة : قوانين الدعوة.ص253
شرائط النسخ
من شرائط النسخ :
الأول : كل من الناسخ والمنسوخ حكم شرعي ، فلا موضوعية لأمور في المقام كأصالة البراءة والإشتغال .
الثاني : تأخر زمان الناسخ على المنسوخ ، فيأتي الناسخ عن المنسوخ ، وهو في الغالب منفصل ، فبخصوص القبلة صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة ستة عشر شهراً قبل أن ينزل نسخ القبلة و(عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وكان يحب أن يصلي نحو الكعبة ، فكان يرفع رأسه إلى السماء ، فأنزل الله [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ…]( ) الآية ، فوجه نحو الكعبة ، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( ).
وقيد التراخي لبيان إذا كان تبديل الحكم متصلاً لا يسمى نسخاً كما لو كان من باب الإستثناء والتخصيص ، وسيأتي الفرق النسخ والتخصيص.
الثالث : المختار أن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن وهو من معاني قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الرابع : تعلق النسخ بالأحكام الشرعية ، فلا نسخ في الأخبار والقصص كما في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )، فيدل لفظ الأحسن على سلامة قصص القرآن من النسخ لأنها أحسن القصص .
الخامس : ينسخ القرآن السنة ، وتنسخ السنة بالسنة أيضاً .
السادس : يأتي الناسخ بعد التمكن من فعل المنسوخ في الواقع كما في آية النجوى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]( )، ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وما كانت إلا ساعة يعني آية النجوى)( ).
ولم يرد لفظ (فقدموا) إلا في الآية أعلاه .
فتحقق العمل بالآية ولو على نحو القضية الشخصية ثم نسخت الآية ، ومن الشواهد على قرب النسخ وعدم العمل بها إلا من الإمام علي عليه السلام مجئ الآية الناسخة بعدها مباشرة في ترتيب القرآن [أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (نجواكم) في القرآن إلا مرتين في الآيتين أعلاه ، ليغادر المنسوخ ، ويبقى الناسخ وهو جواز مناجاة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الإطلاق الزماني وفي المسجد والكتائب والمجلس من غير تقديم صدقة.
وهل تبعث نسخ الآية الصحابة على الإكثار من مناجاة الرسول ، الجواب نعم ، وهو من الشواهد على صدق نبوته ، وعدم استيائه من كثرة السؤال والمناجاة لأنه يجيب بالوحي ويدل الحديث أعلاه.
و(عن مجاهد قال : نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقدموا صدقة فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب ، فإنه قد قدم ديناراً فتصدق به ، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال ، ثم نزلت الرخصة)( ).
على أن من المناجاة السؤال المتعدد إذ سأل الإمام علي عليه السلام النبي محمداً عن عشر خصال .
تورية جهة المقصد في (من يطع الرسول)
من معاني تورية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج عدم إخباره عن الجهة التي يخرج إليها كيلا يستعد المشركون لقتاله ، لأنه كان يكتفي في تفريق جموعهم ، ومنعهم من القيام بغزو المدينة ، كما في كتيبة بني المصطلق .
إذ اكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفريقهم ، ليعودوا اليها ويدخلوا الإسلام وهو من الشواهد على ما نذهب إليه بأن التولي عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر عرضي زائل يقطع بالتوبة والإنابة ، كما أنه من جهة الكم والعدد في تنازل مطرد.
ففي كل يوم ينقص عدد الذي يعرضون عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتوبة والإنابة أو الهلاك ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ومن الآيات في المقام استجابة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال بيان الجهة التي يتوجهون إليها ، وحال التورية فيها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] ( )، لأن كلاً من البيان والتورية النبوية من الوحي ، وفيها نفع عظيم فلا يكون إختيار أحدهما إلا لما فيه المصلحة ودفع المفسدة والإقتتال.
وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأن طائفة من الناس تعيث في الأرض فساداً ، وطائفة تسفك الدماء لتجري على الأرض التي هي ملك طلق لله عز وجل ، أي أن الملائكة لم يحتجوا ولكنهم سألوا استدامة تنزيه ملك الله من الفساد ، ومن تلويثها يجريان الدم فيها للإطلاق الموضوعي والحكمي في قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.
لقد أراد الملائكة معرفة النسبة بين الخلافة وبين الفساد والقتل ، إذ تبادر إلى أذهانهم أن الخلافة في الأرض عصمة منها ، خاصة وأن الملائكة أنفسهم لم ينالوا مرتبة الخلافة في واحدة من السموات أو جزء منها ، ولا في الأرض ، فجاء الرد من عند الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله شدة عقاب القاتل ، عن الإمام الباقر عليه السلام (قال: أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف ابني آدم فيفصل بينهما، ثم الذين يلونهم من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد، ثم الناس بعد ذلك فيأتي المقتول قاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلني، فيقول أنت قتلته ؟ فلا يستطيع أن يكتم الله حديثا)( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام أمره إلى النبي محمد بالإعراض عن المنافقين وعدم قتلهم ، ومنه تورية الجهة التي يتوجه إليها النبي في خروجه في الكتائب لمنع سفك الدماء.
الآية التاسعة والثلاثون : قوله تعالى [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ] ( )، قيل نسختها آية السيف ، وتمام الآية هو [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا]( )، وهذه الآية في المنافقين ، وذكر أنهم (أسد وغطفان ، كانوا إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : آمنا بك وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا : آمنا بالعقرب والخنفساء . يقول : إنهم لم يريدوا بذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما أرادوا به الاستهزاء.
وقال مجاهد : هم ناس من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون بالأوثان ، ويريدون أن يأمنوا ها هنا وها هنا)( ).
و(عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ]( )، قَالَ : حَيّاً كَانُوا بِتِهَامَةَ ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّا لا نُقَاتِلُكَ وَلا نُقَاتِلُ قَوْمَنَا فَأَرَادُوا أَنْ يَأْمَنُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فَأَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ، ثنا شَبَابَةُ، ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ [يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ]( )، أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْلِمُونَ رِيَاءً، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَيَرْتَكِسُونَ فِي الأَوْثَانِ ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ هُنَا وَهَا هُنَا، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ إِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوا وَيُصْلِحُوا)( ).
وتنفي الآية البرزخية بين الإيمان والكفر بين الميل إلى المؤمنين ، والميل إلى الكافرين وإن كانوا قومهم .
وهذه الآية في صنف خاص من المنافقين غير منافقي المدينة ، إذ أرادوا الجمع بين الأمان من قومهم الكفار والأمان من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
والمدار ليس على الأمان إنما على الإيمان ، فالذي يدخل الإيمان قلبه لا يخشى قومه الكافرين ، وقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأوائل أشد الأذى من قومهم قريش فثبتوا على الإيمان ، وإيذاء أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ثابت كتاباً وسنة ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
والظاهر أن الآية تجمع بين طائفة من المنافقين وطائفة من الكافرين ، وإن حكم المنافقين الإعراض عنهم وجهادهم بالموعظة والأجر.
أما الكفار فقد ذكرت الآية سبل السلامة من قتالهم من وجوه :
الأول : إعتزال المؤمنين .
الثاني : إلقاء السلم للمسلمين ، وإن كان إسلامهم ظاهرياً .
الثالث : كف أيديهم عن المسلمين.
قانون فوائد صلح الحديبية أكثر من أن يحصيها الناس
قد ذكر هذا العنوان في الجزء الثالث والعشرين بعد المائتين من هذا التفسير ، هو عنوان مستحدث ويتعلق بأمور :
الأول : منافع صلح الحديبية .
الثاني : إحصاء هذه المنافع .
الثالث : عجز الناس عن إحصاء منافع الصلح .
ويدل كل فرد من الأمور أعلاه واستقراءها بالتحقيق على أن صلح الحديبية معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : معجزة من السنة القولية .
الثانية : معجزة من السنة الفعلية .
الثالثة : معجزة من السنة الدفاعية .
الرابعة : معجزة في علم الإجتماع والسياسة والإقتصاد .
الخامسة : معجزة في الإمامة ، ومناسبة الوحي النبوي للإمامة العامة للناس في أمور الدين والدنيا .
وهل تختص منافع صلح الحديبية بأيام النبوة ، الجواب لا ، فالمختار أن فوائد صلح الحديبية متجددة إلى يوم القيامة ، ومن المعجزات التأريخية أن العلماء في كل زمان يستقرأون منه آيات وبراهين تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن إختياره الصلح .
وهناك مسألة وهي هل يتم هذا الصلح من دون الوحي والتنزيل ، المختار لا ، فقد قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنازلات متعددة للمشركين ، وهو لم يحصل لولا الوحي ، لذا لم يحتج الصحابة عليه ، فرضوا بما فعله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعلمهم بأنه [َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
ومن تعضيد القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام نزوله بتسمية هذا الصلح فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
و(عن قتادة، عن أنس، قال : لمّا رجعنا من غزوة الحديبية،
قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله تعالى عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} الآية كلّها.
فقال رسول الله : لقد نزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً) ( ).
أن تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية الصلح على الدنيا وما فيها شاهد قطعي على حمله للواء السلم ، وقصد تحقيق الأمن المجتمعي العام .
لقد أزاح التنزيل والسنة النبوية الحزن والكآبة عن الصحابة بسبب عودتهم إلى المدينة من غير أداء مناسك العمرة , ومن منافع صلح الحديبية :
الأول : التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من شدة وطأة القتال ، وهو من عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ) .
الثاني : الصلح مناسبة لبيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأحكام الحلال والحرام .
الثالث : الصلح مقدمة لحفظ المسلمين والمسلمات آيات وسور القرآن والتدبر في معانيها .
الرابع : وقف القتل في الصحابة .
الخامس : منع القتل في المشركين ، خاصة وأن هذا القتل يؤدي بهم إلى النار ، وهذا المنع من مصاديق العموم في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس : إنطلاق قوافل التجارة إلى الشام ، واليمن ، وغيرها من الأمصار .
وحينما يفد تجار قريش إلى الشام يعلم أهلها أنهم لم يصلوا لولا صلحهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لبيان صيرورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال عز ورفعة ومنعة .
لتكون مضامين سورة قريش وتجارة قريش معلقة على الصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل من فوائد صلح الحديبية إزدهار تجارة قريش ، الجواب نعم ، لأن هذه التجارة مذكورة في القرآن ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ).
السابع :تهيئة مقدمات دخول الناس الإسلام ، فقد كان كثير من القبائل تخشى قريشاً وسطوتها ، فتمتنع عن دخول الإسلام ، وكذا بخصوص الأفراد ، وحالما تم الصلح بادرت خزاعة إلى دخول الإسلام .
الثامن : صلح الحديبية مقدمة لأداء المسلمين العمرة في السنة التالية بسلامة وأمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) .
التاسع : صلح الحديبية مقدمة لفتح مكة وخلوها من الأصنام والأوثان ، وابتداء دخول المسلمين إليها في كل عام من غير أذن أو صدّ من قبل المشركين، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
العاشر : صلح الحديبية بداية لإستئصال النفاق ، وحرب عليه من غير خسارة بالأرواح ، ولقد امتنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل أي منافق ، ليأتي صلح الحديبية لإصلاحهم وتهذيب النفوس ،ومنع الإفتراء ، وبث الأراجيف في المدينة .
ومن الآيات أن المنافقين قالوا ستجهز قريش بخيلها وأسلحتها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأنهم خرجوا عزلاً من السلاح والعدة إلا سلاح الراكب ، السيوف في أغمادها ، وكانت عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابة سالمين فضحاً وخزياً للمنافقين ، وهل هذا الخزي من مصاديق الفتح المبين في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( )، الجواب نعم.
الحادي عشر : صلح الحديبية شاهد على حب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فصرف عنهم القتال ، ليكون من معاني قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( )، مقيداً وليس مطلقاً ، إذ انقطع بصلح الحديبية ، ويدل صلح الحديبية على سلامة آيات السلم من النسخ .
الثاني عشر : تعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في صلح الحديبية ، وكل معجزة دعوة للسلم ، وشاهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة .
الثالث عشر : رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بافتتاح الكتاب بـ(باسمك اللهم) وترك الأولى بسم الله الرحمن الرحيم.
فحينما طلب سهيل بن عمرو رئيس وفد قريش كتابة كتاب بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعا الإمام علي عليه السلام وقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
لتكون المبادرة في أول الكتاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب (باسمك اللهم) كما كنت تكتب.
فقال المسلمون : والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب (باسمك اللهم).
ثم قال : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله .
فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب : محمد بن عبد الله .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني أكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
قال الزهري وذلك لقوله : لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)( ).
فقد اكتفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكر اسمه في الكتاب لإمضاء الصلح مع المشركين لما فيه من نفع عام للمسليمن والناس جميعاً ، وهل انتفع أهل الكتاب من صلح الحديبية ، الجواب نعم ، منه إزدهار التجارة مع الشام والأمن العام في الطرق والجادة العامة، والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع عشر : جواز واستحباب مشاورة المرأة ، والأخذ بمشورتها ، كما في حديث أم سلمة يوم الحديبية ، قال الزهري (فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات .
فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما)( ).
الخامس عشر : استنباط أحكام شرعية من صلح الحديبية منها فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام أو الصدقة ، قال تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( )، وهو حكم تنتفع منه أجيال المسلمين إلى يوم القيامة.
وفي الآية أعلاه ورد (عن كعب بن عجرة قال كنا : مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون ، وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على وجهي ، فمر بي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال : أيؤذيك هوام رأسك؟
قلت : نعم .
فأمرني أن أحلق قال : ونزلت هذه الآية [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ]( ).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صم ثلاثة أيام ، أو تصدق بفرق بين ستة ، أو انسك مما تيسر)( ).
السادس عشر : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في الحديبية نبع الماء ببركته بعد أن نفد ماء الصحابة ، وصاروا في حرج شديد ، إذ وجدوا في الحديبية بئراً فيها ماء قليل فما زالوا ينزحون منه حتى انقطع فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العطش حينئذ انتزع سهماً من كنانته وأمرهم أن يجعلوه فيه ، وإذا وعاء يجري ويفور فشربوا منه .
السابع عشر : الفأل ، والتفاؤل بالأسماء ، فعندما جاء سهيل بن عمرو ورآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مقبلا قال قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل) ( ).
وعندما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء بقي ثلاثة أيام في مكة (فجاءه سهيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة فقال يا محمد أخرج عنا اليوم آخر شرطك) ( ).
وقد كان سهيل بن عمرو من أسرى معركة بدر وأسلم يوم الفتح ، وعندما انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وأرتدت طوائف ، وقف سهيل بن عمرو وهو لسان وخطيب قريش ، وخطب في الناس في مكة ، وثبتهم على الإسلام .
وأختلف في وفاته ، والأظهر أنه مات في طاعون عمواس في الشام في السنة الثامنة عشرة للهجرة (639م).
وعمواس اسم قرية قريبة من بيت المقدس ، ابتدأ الطاعون منها بسبب كثرة القتلى وعدم دفن كثير من قتلى البيزنطيين ، ثم انتشر في بلاد الشام واستمر لمدة شهر مات فيه نحو خمسة وعشرين ألف من المسلمين منهم أبو عبيدة الجراح ومعاذ بن جبل وابنه عبد الرحمن ، وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ، والفضل بن العباس بن عبد المطلب ، وسهيل بن عمرو وأبو جندل بن سهيل.
وقيل أصاب الطاعون أيضاً مدينة البصرة ومات فيها ناس كثير ، وسميت هذه السنة عام الرمادة لحدوث المجاعة في المدينة المنورة .
وعن (عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه)( ).
وتجلت منافع هذا القانون النبوي في أيام الأوبئة في هذا الزمان مثلما حصل الإبتلاء العالمي بجائحة كورونا قبل سنتين .
وقى الله عز وجل المسلمين وأهل الأرض جميعاً الأوبئة والأمراض ومقدمات الأسقام ، قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
آيات الدعوة إلى السلم
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار إمتحان واختبار وابتلاء وفيها طريق من طريق الخير الذي يقود إلى دار السلام والأمن في الآخرة قال تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) وطريق الشر فيه الخسران المبين .
وقد بيّن الله عز وجل المائز بين الطريقين وسبل الفلاح من جهات :
الأول : رزق الله عز وجل الإنسان العقل , وهو رسول باطني.
الثاني : بعث الأنبياء والرسل والمعجزات التي جاءوا بها ليكون مقدمة ونوع طريق للهداية .
ومن لطف الله عز وجل بالناس أن آدم عليه السلام أبو البشر ، وأول من هبط إلى الأرض كان نبياَ رسولاَ .
الثالث : التنزيل , لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالكتب السماوية , وهل نزل على آدم شئ منها , الجواب نعم .
وفي حديث أبي ذر (قلت : يا رسول الله كم الأنبياء .
قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم .
قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء قلت : أكان آدم نبياً .
قال : نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده ، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك. قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب .
قال : مائة وأربع كتب،منها على آدم عشر صحف،وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوح،وهو إدريس ثلاثين صحيفة،وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف،والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان) ( ).
الرابع : الآيات الكونية , كالشمس والقمر , والحركة اليومية لكل منهما .
ومن إعجاز القرآن تعدد تذكيره بالآيات الكونية وجذب الناس للعناية بها , منها قوله تعالى [ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا] ( ).
ودعا الله الناس للتدبر في خلق الطيور وتحليقها في السماء , قال تعالى [أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ) وتبين آيات من عالم الحيوان والطيور المهاجرة , بديع صنع الله .
ومنها ما تطير عشرة آلاف كيلو متر من غير توقف وتتكيف مع درجات الحرارة العالية.
ففي كل عام تهاجر ملايين الطيور آلاف الكيلو مترات إلى الشمال وإلى الجنوب حسب فصول السنة لتعود إلى مواطنها بخريطة مغناطيسية بنظام دقيق لتعيين الموقع أشبه بنظام (GPS) الذي هو نظام ملاحة عبر الأقمار الصناعية ويسمى (نظام التموضع العالمي) وكأنهم أخذوه من عالم الطيور المهاجرة.
ومن الطيور ما تعتمد حاسة الشم في تعيين المواقع .
الخامس : آيات ولادة الإنسان وأيام عمره في الدنيا ، والصحة والسقم ثم مغادرته لها بالموت قهراَ وانطباقاَ , مع تباين الآجال بين الناس إذ يأتي للصغير وللكبير لبيان موعظة لكل إنسان بأن الموت قريب منك في كل يوم من أيام حياتك ولا يصرفه إلى الدعاء والإيمان , ومن ينصرف عنه الموت فإن أيامه مقدمة للثواب والجزاء في الآخرة , قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه] ( ).
وقد سمّى الله عز وجل الجنة دار السلام بقوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
ويدل على إرادة عالم الآخرة والجنة قوله تعالى [لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ) ولم يرد لفظ دار السلام في القرآن إلا في هاتين الآيتين , سميت به لوجوه :
الأول : هي دار الله عز وجل , ومن أسمائه سبحانه السلام ، قال تعالى [السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
الثاني : سلامة أهل الجنة من الآفات والمرض والألم والمصائب , والزلازل والفيضانات ونحوها .
الثالث : نجاة الإنسان في الجنة من إغواء الشيطان , قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ]( ) مطلقاَ .
الرابع : دار السلام لمجئ السلام لهم من عند الله عز وجل كما في التنزيل [سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ] ( ) وكذلك سلام الملائكة ، قال تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] ( ).
السادس : سلامة من القتل والجرح في ميدان المعركة أو في الحياة اليومية العامة , فليس من إنسان إلا وهو يخشى على نفسه يوماَ من القتل , وتنتفي هذه الخشية في الجنة لهذا أراد الله عز وجل ببعثة الأنبياء أن تكون الحياة الدنيا مرآة للآخرة .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) حذف المفعول به ، فلم تقل الآية والله يدعو الذين آمنوا خاصة إلى دار السلام ، لبيان أن دعوة الله عز وجل للناس جميعاَ .
سبل الدعوة إلى دار السلام
ليس من حصر لوجوه دعوة الله عز وجل إلى الجنة والخلود في النعيم فهي بالملايين في المقام وجوه :
الأول : الأوامر والنواهي الإلهية .
الثاني : الطلب والتحريض .
الثالث : الآيات التي تذكر بوجوب السعي إلى الدار الآخرة , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا] ( ).
الرابع : عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن معاني عموم الدعوة من أن الله عز وجل يدعو إلى الجنة في كل زمان ومكان , وهذه الدعوة من حين خلق أبينا آدم وهي مستمرة إلى يوم القيامة.
الخامس : هل آيات السلم وكونها محكمة من دعوة الله عز وجل إلى دار السلام ، الجواب نعم .
السادس : كل آية من التنزيل دعوة إلى دار السلام .
السابع : السنة النبوية القولية والفعلية من دعوة الله عز وجل إلى دار السلام قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثامن : اللطف الإلهي اليومي بتقريب الناس لفعل الطاعات .
التاسع : إبعاد الناس عن المعاصي , وكم من معصية يهم بها العبد فيصرفه عنها الله عز وجل ، والعبد لا يعلم بالقوة الغيبية التي دفعته , وهل ينكشف له الأمر يوم القيامة , الجواب نعم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
العاشر : الدعوة هي الطلب والتحريض , ولكنها في المقام اللطف والمدد والتقريب إلى دار السلام .
وهل يمكن القول أن دعوة الله عز وجل لكل إنسان إلى دار السلام هي غير دعوته لغيره.
الجواب نعم كاختلاف الناس في بصمات الأصابع والعين , الجواب نعم , وهو من الإعجاز في خلق الإنسان , لذا خاطب الله عز وجل النبي محمداَ في آية النسخ [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الحادي عشر : من الدعوة إلى الجنة ضروب ومصاديق محو السيئات ، واثبات العمل الصالح عند الفرد والجماعة والأمة وأهل الأرض قاطبة في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثاني عشر : من معاني الآية أن الله عز وجل يدعو إلى عمل الجنة وهو المروي عن ابن عباس ({والله يدعوا إلى دار السلام}( ) يقول يدعو إلى عمل الجنة ، والله السلام والجنة داره) ( ).
الثالث عشر : فتح باب العفو والمغفرة من عند الله للناس جميعاً ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
الرابع عشر : إمهال الله عز وجل للعباد .
الخامس عشر : تجدد الآيات الكونية كل ساعة وضروب الإبتلاء التي تدعو إلى اللجوء إلى الله .
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه (تلا { والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }( ) فقال : حدثني جابر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال إني رأيت في المنام كان جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه : ضرب له مثلاً فقال : اسمع سمعت أذناك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ، ثم بنى فيها بيتاً ، ثم جعل فيها مأدبة.
ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم فيها مأدبة ، فالله هو الملك ، والدار الإِسلام ، والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول.
فمن أجابك دخل الإِسلام ، ومن دخل الإِسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها) ( ).
الآية الأربعون : قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ]( )، قال ابن البازري نسختها آية السيف ، ولا دليل عليه ، إنما الآية رخصة وتخفيف عن المسلمين وغيرهم ، وفيه حفظ للعهود والمواثيق ، فان الذين يدخلون في قوم بينكم وبينهم عهد وأمان فليس لكن أخذهم باسر أو قتلهم ، لأن الميثاق شامل لهم ، وهم داخلون في الصلح.
وكانت العهود مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : عهود انقضى أجلها .
الثاني : عهود لم ينقض أجلها ، كما في صلح الحديبية الذي مدته عشر سنوات على القول المشهور والمختار ، وإن قيل مدته أربع سنوات ، وسنتان.
الثالث : عهود مستديمة ليس لها أجل محدود إلا أن تنقض عرضاً كما في عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة .
و(عن ابن عباس في قوله [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ]( ) قال : نسختها براءة فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ( ).
بين الزكاة والخمس
من رسالتنا العملية (الحجة ) الجزء الثاني ص 235 ( )رقم الإيداع في بغداد 235 لسنة 2001 أي قبل واحدة وعشرين سنة .
في تعلق الزكاة والخمس في العين خمس صور:
الأولى: تعلق الزكاة دون الخمس، كما في النصاب من الغلات ( الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والغنم ، والماعز ، والبقر ، والجاموس ، والذهب والفضة المسكوكين ) والذي يصرف قبل رأس السنة الشرعية ومقدار النصاب (847) كغم .
الثانية: شمولها بالخمس دون الزكاة، كما في المال الذي هو اقل من النصاب ولكنه يبقى الى ما بعد رأس سنته الشرعية، وكذا ما زاد على المؤونة من الأعيان غير الزكوية.
الثالثة: قد تتعلق الزكاة والخمس بالعين معاً، كما في تحقق النصاب وبقائه أو عوضه من المال زائداً على المؤونة عند رأس سنة المكلف الشرعية.
الرابعة: عدم تعلق الزكاة والخمس في العين، كما لو كان عنده من الأعيان الزكوية اقل من النصاب وانفقه في مؤونة سنته ولم يبق منه شيء عند رأس السنة.
الخامسة: ما تعلقت به الزكاة من النصـاب ولكن عند رأس السنة لم يبق زائداً عن المـؤونة الا شــطر منه فيتعلق الخمس بهذا الباقي دون الذي انفقه ، وليس في مال القاصر زكاة ، وبه قال الحنفية ، وأن تكون الأنعام سائحة في المرعى .
اذا اشترى عيناً للتكسـب بها فزادت قيمتها السوقية ولم يبعها غفلة او طلباً للزيادة ثم رجعــت قيمتها الى رأس مالها او اقـل قبل تمام السنة لم يضمن خمس تلك الزيـــادة على الأقوى لأن الخمس فــرع تحقـــق الفائدة في الخارج ولقاعــدة نفي الحــرج في الدين ، ولعدم ابتناء الحكم على الدقة العقلية.
تقسيم النص والظاهر والمجمل مقدمة لعلوم
النص لغة الرفع ، يقال رفعت العروس على المنصة .
والنص هو اللفظ الذي يفيد معناه بنفسه من غير احتمال غيره ليخرج الظاهر ، ويخرج المجمل .
قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ] ( )وقال تعالى [فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ]( ) والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] ( ).
ومن ثمرة هذه البحث لا فرق بين النص والظاهر في المدلول الفعلي لهما ، وتفيد دلالة كل واحد منهما القطع ، أما إذا تعارض النص والظاهر ، فيقدم النص ، والأظهر برزخ بين النص والظاهر.
هل مجمل القرآن مثل مجمل اللغة في كم وكيف الحاجة إلى معرفة المعنى المراد من بين عدة معان , الجواب لا , فمجمل القرآن أعم ويشمل علم الكلام والفقه واللغة.
وآيات السلم نص جلي منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، وقوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
والعمل بالظاهر واجب إلا مع الدليل الذي يصرفه عن الظاهر ، وقسمت الكلام تقسيماً تفصيلياً مستحدثاً إلى :
الأول : النص : وهو الكلام الذي يفيد القطع والجزم ولا يشترك مع معناه المخصوص معنى آخر على نحو الظاهر أو المجمل .
الثاني : الأظهر ، الكتابة وهو الأرجح والأولى في الظهور .
الثالث : الظاهر الذي يرقى إلى مرتبة النص بالقرينة مثل خطاب الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد إلحاق الأمة به مثل (قل) إلا أنه يدل دليل على إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : المؤول وهو المرجوح الذي صار راجحاً بالقرينة.
الخامس : المرجوح .
السادس : المجمل.
السابع : المجمل ثابت التعدد بتعدد معاني اللفظ من غير تعارض بينها ، وهو من أسرار إحاطة اللامحدود من اللحاظ والجهة كما في قوله تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( )، والصلاة فرض عبادي من أيام أبينا آدم ، وهي عمود الدين [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ).
ولكن شرائطها وأجزاءها تختلف في الشرائع ، إلى أن تمت في الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
وفي حديث طويل عن حنان بن سدير عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]( ) (يقول: على الملك احتوى) ( ).
وذكر حنان بن سدير في اسناد متعدد في كتب السنة وفي الكتب الرجالية ذكره ابن حبان في كتابه الثقات 8/219 بقوله (حنان بن سدير الصيرفي يروى عن عمرو بن قيس الملائي روى عنه محمد بن الجنيد العابد)( ).
قال الدارقطني : حنان بن سدير بن كليب بن صهيب الصيرفي الكوفي : من شيوخ الشيعة.
وقال ابن حجر العسقلاني : وبفتح الحاء المهملة : حنان بن سدير الصيرفي شيعي ( ).
وقال أبو بكر أحمد بن هارون البرديجي (المتوفى 351 )هجرية : حنان بن سدير الصيرفي يروي عن أبيه كوفي( ) ، ولم يذكر صفة التشيع مع أنه قريب من زمانهم .
مثال على النص والظاهر والمجمل ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ] ( ).
فالذي أنزل من النص وهو القرآن ، أما الليلة المباركة فهي من المجمل وهي مرددة بين ليلة القدر وليلة النصف من شعبان وغيرها ، ولكن جاءت آية أخرى بينت أن المقصود هو ليلة القدر ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]( ).
ونطرح مسألة هل مجمل القرآن في مقابل المبين مثل المجمل اللغوي في الحاجة إلى القرينة في الكم والكيف ، لمعرفة المعنى المطلوب من بين عدة معان أم أن مجمل القرآن أسهل وأيسر .
الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( )، إذ تبين مجمل القرآن وجوه :
الأول : تفسير القرآن بالقرآن .
الثاني : السنة النبوية بيان للقرآن .
الثالث : حديث الصحابي والمعصوم عليه السلام .
الرابع : اللغة العربية , قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) .
الخامس : أسباب النزول .
السادس : علم التفسير والتأويل ، وهو باب مفتوح للعلماء إلى يوم القيامة .
وعن ابن مسكان عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث قال [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ] يعني القرآن في ليلة مباركة وهي ليلة القدر ، أنزل الله القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة ، ثم نزل من البيت المعمور على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طول عشرين سنة .
ويمكن الجمع بين الآيتين : أنا أنزلناه في ليلة مباركة هي ليلة القدر الجواب نعم لبيان البركة في هذه الليلة ، وعليه النصوص الكثيرة ، وقد خصها الله عز وجل بسورة كاملة في القرآن .
ومن الظاهر كلمة الوضوء في الحديث التي تكون في الوضوء للصلاة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام (بسم الله اللهم إني أسألك تمام الوضوء، وتمام الصلاة، وتمام رضوانك، وتمام مغفرتك ” فهذا زكاة الوضوء) ( ).
قوانين مستحدثة في قبح النفاق
قد تقدم في الجزء السادس والسبعين بعد المائة عدة قوانين في ذم قبح النفاق ، والنهي عنه منها :
الأول : قانون الصبر واقية من النفاق .ص9
الثاني : قانون الصبر علاج للنفاق .ص9
الثالث : قانون الصبر كاشف للمنافقين والمنافقات .ص9
الرابع : قانون الصبر حرز من ضرر المنافقين .ص9
الخامس : قانون الصبر سلاح المؤمنين في دفع شرور المنافقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) .ص10
السادس : قانون كل آية قرآنية دعوة للتنزه عن النفاق .ص10
السابع : قانون كل آية قرآنية واقية من النفاق .ص10
الثامن : قانون كل آية من القرآن دعوة للتوبة من النفاق.ص10
التاسع : قانون كل آية مدرسة في التقوى ، وبرزخ دون النفاق ، ليكون من معاني المخرج في قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ) السلامة من درن النفاق , والتوقي المتجدد منه.ص10
العاشر : قانون نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] حرب على النفاق.ص10
الحادي عشر : قانون شمول المنافقين والمنافقات بنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة لهم للصلاح.ص10
الثاني عشر : قانون كل كلمة من القرآن تندب إلى الفضيلة.12
الثالث عشر : قانون كل كلمة من القرآن سفينة نجاة ، ومن العروة الوثقى ، قال تعالى[وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).ص12
الرابع عشر : قانون دعوة الآية القرآنية لأداء الواجبات وإجتناب المعاصي والمحرمات .ص12
الخامس عشر : قانون الآية القرآنية مدد وعون للمسلمين لصرف أذى وشرور الذين كفروا والمنافقين .ص12
السادس عشر :قانون شمول المنافقين والمنافقات بنداء الإيمان ، وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة ، ص136.
قانون تعدد أوامر السلم في آية السيف
يتبادر إلى الذهن من تسمية سورة السيف أن الآية كلها آية قتل وسفك الدماء ، وعرض على السيف ، ولكن لم يرد لفظ (سيف) فيها ولا في القرآن كله .
وصحيح ان الآية ابتدأت بالأمر بقتل المشركين ، ولكنها عادت بأمر الله عز وجل بأخذهم وحبسهم ، والتضييق عليهم ، وكأن اللاحق ينفي الأول.
ويفيد الجمع بين مضامين الآية عدم التعجيل في قتل المشركين من أهل مكة مع الإذن فيه ، إنما هناك وجوه أخرى تضمنتها الآية وهي :
الأول : أخذ المشركين أسرى ، ويسمى الأسير : أخيذاً .
الثاني : قوله تعالى [وَاحْصُرُوهُمْ] ( ) أي احبسوهم .
الثالث : قوله تعالى [وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ]، أي ضيقوا عليهم كل ممر وطريق ، فلا ينتشروا في البلاد ، ويفتنون الناس بالكفر ومفاهيم الضلالة .
الرابع : قوله تعالى [فَإِنْ تَابُوا]، أي عن الشرك والضلالة ، وأمنوا بالله ورسوله ، فلو كانوا قد قتلوا كيف يأمر الله بتركهم عند توبتهم.
وتدل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صبره على المشركين حتى بعد نزول الآية خاصة وأنهم لم يعودوا جيشاً يقاتل المسلمين بعد نزولها.
تسمية مسجد القبلتين سلام
توالي نزول آيات القرآن في المدينة ، وجاء بعض رؤساء اليهود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسؤال والإحتجاج ، وطلب البيان ، وعقد معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاهدة وعقد وئام ، فكانت مناسبة لتوالي نزول آيات القرآن ، وإقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة في المسجد النبوي ، ومساجد المدينة الأخرى .
لقد نزل تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بقوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ) في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة أي قبل معركة بدر بشهرين ، وكان في المدينة عدة مساجد ،ولم يمض على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها إلا ستة عشر شهراً.
وأستدار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نحو الكعبة بوجوههم ومقاديم أبدانهم إلى المسجد الحرام ، وبينما يصلي بنو سلمة في مسجدهم في قبا نادى منادي من خلفهم أن القبلة قد تحولت إلى المسجد الحرام ، فاستجابوا واستداروا نحوه في ذات اليوم الذي تحول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبلته ، وتوالي ترميم وتجديد المسجد وسقفه على مر الأزمنة ، وتبلغ مساحته في هذا الزمان نحو أربعة آلاف متر ، وله قبتان وبناؤه باللون الأبيض ، وفي داخله قبلتان ، قبلة المسجد الأقصى وقبلة المسجد الحرام .
وقال أحدهم (حججت مع أبي في زمان بني أُمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبا وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا : يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدّم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن عليّ) ( ).
ويسمى هذا المسجد :
الأول : مسجد بني سلمة .
الثاني : مسجد قُباء .
الثالث : مسجد القبلتين .
وفي رواية عن مجاهد وغيره (نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد بني سلمة، وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب، وحوّل الرّجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين)( ) عند صلاة الظهر .
وتدل تسمية هذا المسجد (مسجد القبلتين) على سرعة استجابة الصحابة للنسخ النازل من عند الله ، وهو من مصاديق وقوع النسخ في القرآن ، وأن قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )، دليل على وقوع النسخ وليس على احتماله فقط.
وهل تدل سرعة الإستجابة هذه على سلامة آيات السلم من النسخ ، الجواب نعم ، فلو كان لبان ولورد حديث النسخ في النصوص ، وهو معدوم كما أن السنة النبوية الفعلية تدل على قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
حديث من بلغ
من مصاديق الرحمة والمندوحة والسعة في الثواب آيات القرآن التي تبعث على العمل الصالح وتتضمن الوعد الكريم بالثواب العظيم ومنها السنة النبوية وأحاديث (من بلغ).
وورد (عن أبي رجاء عن يحيى بن أبي كثير عن سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من بلغه عن الله شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانا به ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك)( ).
وفي سند الحديث أبو رجاء ، ورمي بالكذب وقال يحيى بن معين : كذاب ، وقال السخاوي في المقاصد الحسنة : لا يعرف ، وهناك فرق بين رميه بالكذب الذي يدل على تعيينه وتشخيصه وبين القول بأنه لا يعرف .
وقال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من بلغه عن الله عز وجل أو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة كان منى أو لم يكن فعمل بها رجاء ثوابها ، أعطاه الله عزوجل ثوابها)( ).
ولا دليل على عدم الصحة الذي يذهب إليه ، وابن الجوزي عبد الرحمن بن أبي الحسن القرشي التيمي (510-597) هجرية ، وقيل يعود نسبه إلى محمد بن أبي بكر ، ولد وتوفى في بغداد ، توفى أبوه وعمره ثلاث سنوات ، ولكن ترك له ثروة استعان بها في طلب العلم.
سمي بابن الجوزي لوجود شجرة جوز في داره ببلدة واسط في أيام الخليفة الناصر ، عّين ابن يونس الحنبلي في ولايته ابن الجوزي في منصب الوزارة ، ولما وصل ابن القصاب إلى الولاية لاحق من له صلة بابن يونس الحنبلي ، فنفى ابن الجوزي ، وبقي في المطمورة خمس سنين.
وقيل فيه تجهم قولي ، كما عن الرازي ، ومرة يقدم النفي وأخرى الإثبات أي في الصفات.
واعتذر له عن كثرة أخطائه في كتبه ، لكثرتها ، إذ كان له نحو ثلاثمائة كتاب .
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من بلغه عن الله فضيلة فلم يصدق بها لم تنله) ( ).
(عن الحارث بن الحجاج بن أبي الحجاج ، عن أبي معمر ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أدى الفريضة وعلم الناس الخير كان فضله على المجاهد العابد ، كفضلي على أدناكم رجلا ، ومن بلغه عن الله فضل فأخذ بذلك الفضل الذي بلغه أعطاه الله ما بلغه وإن كان الذي حدثه كاذبا.
قال أبو عمر : هذا الحديث ضعيف لأن أبا معمر عباد بن عبد الصمد انفرد به وهو متروك الحديث ، وأهل العلم بجماعتهم يتساهلون في الفضائل فيروونها عن كل وإنما يتشددون في أحاديث الأحكام)( ).
عن انس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من بلغه عن الله فضل فأخذ بذلك الفضل الذي بلغه ، أعطاه الله ما بلغه و إن كان الذي حدثه كاذبا).
وقيل هذا الحديث لا يثبت :
الأول : لوجوب التثبت .
الثاني : الإحتياط في قبول الأخبار .
الثالث : يؤدي هذا الحديث الى فعل شئ لم يثبت وهو باب للبدعة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)( ).
ولكن ليس الأمر مما مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل يفيد أن بلوغ الحديث الذي يكون مناسباً للقرآن والسنة ، وعدم خروجه عنها مثل خبر ثواب قراءة سورة من القرآن لم يثبت ، وصار المسلم يكثر من قراءتها طمُعاً بالثواب .
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال (من بلغه شئ من الثواب على شئ من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلى الله عليه واله لم يقله)( ).
عن أحمد بن النضر عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه السلام قال (من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شئ من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي كان له ذلك الثواب وإن كان النبي لم يقله).
ومحمد بن مروان وقع في تفسير القمي وهو مشترك بين جماعة إنما يعرف المقصود بلحاظ الراوي عنه والمروي عنه ، وما يفيد تعيين زمانه ، والمختار أنه محمد بن مروان الذهلي البصري الذي له كتاب رواه ابن سماعة.
ومن خصائص حديث (من بلغ) عدم استمرار المسلم العمل به إذا اكتشف أنه لا أصل له ، وتشمله قاعدة التسامح بأدلة السنن في الأجر والثواب.
وهل يدخل القول بنسخ آيات السلم والموادعة بآية السيف في حديث (من بلغ) ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى : لم يرد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نسخ آيات السلم لا في السنة القولية ولا الفعلية .
الثانية : ليس من أجر وثواب بالقول بنسخ آيات السلم ، بل الثواب بخلافه .
الثالثة : القول بنسخ آيات السلم مستحدث في أيام من بعض التابعين وتابعي التابعين.
من علم التفسير
التفسير : لغة البيان والكشف ، وهو في الإصطلاح علم كيفية فهم وتوضيح ألفاظ وأحكام القرآن ، وهو مصاحب لنزول آيات القرآن وليس ما حصر لوجوه وأفراد علم التفسير منها :
الأول : تفسير القرآن بالقرآن .
الثاني : التفسير بالمأثور .
الثالث : التفسير الموضوعي .
الرابع : موضوعية نظم الآيات في تفسير الآية محل البحث بلحاظ الآيات المجاورة لها ، مما سبقها وما تأخر عليها كما يتجلى في تفسيرنا ، إذ صدرت الأجزاء التالية بخصوصه :
- الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
- الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
- الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
- الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
- الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
وقد صدر لنا الجزء السابع والثلاثون بعد المائتين من هذا السِفر في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران وهي [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الخامس : التفسير العلمي .
السادس : التفسير اللغوي .
السابع : التفسير العقلي .
الثامن : التفسير الإشاري.
قال تعالى [فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ]( ).
[وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ]( )، [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ]( )، بقوة ومشيئة ظاهرة
وعن الإمام الصادق عليه السلام : في قول الله عز وجل [يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ] ( )، فقال : اليد في كلام العرب: القوة والنعمة( ).
ومن إعجاز القرآن أن المجمل فيه قد يقصد منه عدة معان ولا يصار إلى أحدها إلا مع القرينة ، بينما مجمل القرآن يشمل عدة معان ، وقد يصار إلى أحداها أو إلى المتعدد وهو على وجوه ، وهذه مسألة مستحدثة في علم الأصول :
الأول : ما يدل عليه القرآن والذي يفسر نفسه بنفسه .
الثاني : ما تدل عليه السنة النبوية .
الثالث : ما يتبين باللغة العربية ، ويعلم به العرب والناس بادراكهم .
الرابع : ما يكتشف من تقادم الأيام ومنها [وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، ومن معانيه :
الأول : لموسعون في السماء .
الثاني : لموسعون قادرون عن ابن عباس( )، ولكن معنى الآية أعم إذ أنها إخبار عن حدوث التوسعة .
الثالث : في الرزق والمطر .
الرابع : خلق سماء مثلها .
وتدل الأكتشافات الحديثة على التوسعة المستحدثة في الكون والأفلاك والأجرام السماوية.
وهناك مسائل في علوم القرآن تتعلق بالمقام :
المسألة الأولى : هل قرب آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها من التجري بقوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية هو الأكل من الشجرة ، وأكثر المفسرون من ذكر الإختلاف في جنس الشجرة ، وهل هي التين أو العنب أو الحنطة .
و(عن ابن عباس قال : الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة . وفي لفظ البر)( ).
وعنه في رواية أخرى أنها : الكرم( ).
وفي رواية عن الإمام علي عليه السلام (هي شجرة الكافور)( )، وعن الإمام الرضا عليه السلام معنى أعم.
ومن معاني الا تقربا : في المقام أي لا تقرباها بأكل ، لأن الإباحة فيه وقعت( ).
والمختار حمل اللفظ القرآني على ظاهره إلا مع القرينة الصارفة إلى المؤول ، إنما ينهى الله عز وجل آدم وحواء من الإقتراب من ذات الشجرة لأن هذا الإقتراب قد يكون مقدمة للأكل من الشجرة ، وهو من إكرام الله عز وجل لآدم وحواء بأن حذرهم مما قد يكون مقدمة لفعل المعصية وليس هو مقدمة لها على نحو القطع.
وهل ذات القرب إلى الشجرة ظلم للذات للنهي عنه أم أن الظلم يتحقق بالأكل من الشجرة .
المختار هو الثاني ، وأن النهي عن القرب من الشجرة نهي إرشادي ومنع من الوقوع بالحرام ، وللهداية والمخرج من الشبهات والفتنة والضلالة.
و(عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)( ).
وتبين الآية أن الإقتراب من الشجرة قد يفضي إلى الحرام ، ولكن ليس على نحو القطع وأن الظلم يتعلق بالأكل من الشجرة .
وتقدير الآية : ولا تقربا هذه الشجرة فقد يكون هذا الإقتراب مقدمة للأكل منها فتكونا من الظالمين .
ولو سأل آدم وحواء الله عز وجل عندما نهاهما عن الأكل من الشجرة أن يحول بينهما وبين الإقتراب من الشجرة والأكل منها فهل يستجيب الله عز وجل لهما ، الجواب نعم .
فان قلت إنما خلف الله عز وجل آد ليكون [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلابد من هبوطهما إلى الأرض بعد الأكل منها.
الجواب ليس من حصر لوجوه الأختبار والإبتلاء من عند الله لآدم وحواء حتى يهبط إلى الأرض وقد يهبطا من غير ذنب أو معصية أو ظلم للذات وإن اختلف الموضوع ويكون هذا الهبوط سمواً ورفعة.
والمختار أن الإقتراب من الشجرة ليس من التجري الذي يعني قصد إرتكاب المعصية فيما هو ليس بمعصية كالإصرار على شرب مائع بقصد أنه خمر محرم بينما هو ماء مباح .
المسألة الثانية : ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، واتمد لفظ (الهم) وصدوره من امرأة العزيز ومن يوسف عليه السلام ، فهل موضوعه متحد أم متعدد.
المشهور والمختار هو التعدد ، وأن همّ يوسف غير همّ امرأة العزيز ، فقد همت بالفاحشة ، وهمّ بها ليضربها أو يقتلها إن أجبرته على الفاحشة فصرف الله عز وجل عنه السوء يعني القتل ، والفحشاء يعني الزنا ، كما ورد في الخبر عن الإمام الرضا عليه السلام( ).
فهم امرأة العزيز بيوسف حرام وهي تعلم بأنه حرام ومع هذا أقدمت عليه ولكنه لم يتحقق لم يصب الواقع ، وهو من التجري على الحرام الوافعي مما يدل على تنزه النبي عنه.
و(عن ابن عباس : أنه سئل عن هم يوسف عليه السلام ، ما بلغ؟ قال : حل الهميان – يعني السراويل – وجلس منها مجلس الخاتن ، فصيح به يا يوسف ، لا تكن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب في قوله {ولقد همت به وهم بها} قال : طمعت فيه وطمع فيها ، وكان من الطمع أن هم بحل التكة ، فقامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت ، فسترته بثوب أبيض بينها وبينه ، فقال : أي شيء تصنعي؟! فقالت : استحي من الهي أن يراني على هذه الصورة . فقال يوسف عليه السلام : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ، ولا استحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ، ثم قال : لا تنالينها مني أبداً . وهو البرهان الذي رأى)( ).
ولم يثبت هذا الحديث عن الإمام علي عليه السلام .
وهل هذا الهمّ من قبل امرأة العزيز من التجري ، الجواب لا ، إنما هو أشد من التجري لأنها تهّم وتقدم على فعل الفاحشة الحرام مع علمها بأنها حرام وهي في الواقع حرام ، وليس في الواقع أمراً مباحاً.
فحتى عند المشركين يحرم زنا ذات البعل ، وهو من القوانين التكوينية في خلق الإنسان ، وخلافته في الأرض .
التعجل في قطع القطّاع
القطع : صفة نفسية ولكن ليس كما قيل بأنه مثل السرور والحزن والحب والبغض( ).
إنما هو أسمى مرتبة منها لأنه يتعلق بالإعتقاد ، كما أن القطع كاشف عن متعلقه ، ونوع طريق إليه .
كما لو قطعت بأن هذا الإناء فيه خلّ ويكون الإناء مقطوعاً به فهناك أطراف :
الأول : القاطع .
الثاني : القطع .
الثالث : موضوع القطع به .
الرابع : حكم القطع .
الخامس : المقطوع به .
ولا ملازمة بين القطع والواقع ، فقد يكون القطع موافقاً للواقع أو يكون خاطئاً أو يتم عن جهل ، كما في الإشتباه برؤية الهلال وقطع الناظر بوجود الهلال وليس من هلال.
ومنه قطع القطّاع الذي ليس بحجة ، والمراد منه هو القطع من أسباب وطرف ، لا تكون سبباً للقطع عند متعارف الناس ، مثل الذي يقطع بهطول الأمطار مع كل غيوم في السماء .
وإن كان قطعه عن ذكاء وفطنة ، وسعة إطلاع وفراسة ومعرفة بالمقدمات وهذا القطاع لو خالف الواقع لا يحكم بمعذريته .
كما في عدم حجية الخبر في الأمور الحسية إذا لم يستند إلى الحس مثلاً ادعى ان الليلة أو الشهر معتمداً على حساب عنده بينما يقول الله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ), والقدر المتيقن من قطع القطّاع من يكثر القطع منه.
قال تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ]( )، ويمكن تقسيم القطع إلى قسمين :
الأول : قطع القاطع : وهو الذي يحصل على نحو متعارف وبما يليق حدوثه وحصوله .
الثاني : قطع القطّاع : وهو الذي يكثر من القطع وبنحو غير متعارف ولا ينبغي حدوثه ، وقيل القطّاع سريع القطع لا كثيره .
قطع القطاع : وهو الذي يسرع ويكثر من القطع دون أسباب موضوعية وقيل هو الذي ليستند إلى العلم ، والأول أعم وأصح .
والقدر المتيقن من هذا القطع هو الذي لا يورث القطع واليقين عند العقلاء ، فيقع من الذي لا يفرق بين البرهان والمغالطة ، وبين المنطوق والمفهوم ، وبين الدليل والخطابة .
وسببه أمور منها التعجل ، والعاطفة ، وقلة المعرفة ، ولا ملازمة بين قطع القطاع وبين كثرة القطع وإن كان معنى القطّاع كثرة القطع ، إنما المراد أن الأسباب التي يستدل بها القطّاع لا تنهض للحجة والقطع عند العقلاء.
وهل هي كالشبهة البدوية ، الجواب لا ، إنما هو أعلى مرتبة وصحيح أن حجية القطع ذاتية إلا أن قطع القطاع ليس بحجة ، لتخلف المقدمات فهو يظن أن قطعه دائماً مطابق للواقع .
وهل ينفي هذا القطع عن صاحبه العقوبة ، الجواب لا ، لأن الإمتناع يسوء الإختيار لا ينافي الإختيار ، وهو ليس من العجز عن الإمتثال للتكليف فمثلاً هو يتعجل بدعوى الأهلة ، وقطع بأن هلال شوال قد أطل وغداً الأول منه فيفطر ، مع أنه لم تقم عنده بينة على رؤية الهلال ولم يكن شهر شوال في الواقع قد حلّ فيجب عليه حينئذ القضاء ، وكذا بالنسبة لمن يحدد جهة القبلة من غير دليل ثم يظهر خلافه فهل عليه الإعادة ، المختار لا ، للنص ولقوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
وهل قطع القطاع من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )، الجواب لا ، فليس من فسق في المقام إنما يظن القاطع أن قوله وفعله موافق للواقع من غير برهان ، إذ أن العلة التامة لفعل هي وجود المقتضي وفقد المانع.
وهل يلزم القطاع الكف عن القطع والإمتناع عن التعرض لأسباب القطع للتباين بين شطر من مقطوعاته وبين الواقع ، الجواب لا ، إنما يجتهد في التعلم والتخلص من العجلة والمقدمات الفاسدة ، وحال الإرباك والميل الزائد الذي عنده ، ولا يلزم اتباعه في قطعه لإفتقاره إلى البينة والبرهان ، وهناك باب اسمه (وجوب التعلم).
وهل القول بأن آية السيف نسخت (124) آية من آيات السلم والموادعة من قطع القاطع الذي يعتمد الدليل والبرهان ، أم من قطع القطّاع الذي يتعجل بالأمر ويقلد ويحاكي قول غيره من تدبر ، المختار هو الثاني .
ومن معاني حق الطاعة الإمتثال للتكاليف والأموال والنواهي الإلهية ويشمل أيضاً فعل ما يوجوب سقوط التكليف فهو حرام والإتيان بما لم يقصد ، وما قصد لم يؤت به.
يقسم القطع والجزم إلى :
الأول : القطع التفصيلي :
الثاني : القطع الإجمالي ويسمى أحياناً العلم الاجمالي ، وهو العلم بوجود طرف موافق للواقع والتكليف بين أطراف متعددة يجهل أيها الموافق للواقع ، كما لو علم المكلف بوجوب الصلاة تماماً لعدم قطع المسافة الشرعية أو قصراً لقطعها وهي ثمانية فراسخ امتدادية ذهاباً أو أياباً أو ملفقة أربعة فراسخ ذهاباً وأربعة فراسخ إياباً .
فالجامع هو الصلاة وهو جامع ماهوي ، وقد يكون الجامع انتزاعياً مثل العلم بنجاسة الإناء أو الثوب ، فهذا الجامع متنزع من النظر إلى الإناء او الثوب ، وتسمى أطراف الجامع لإحتمال انطباق الجامع عليه ، لتخرج الأفراد التي لا ينطبق عليه العلم الإجمالي مثل القلنسوة والفراش ونحوه ، فيكون الجامع معلوماً على نحو التفصيل .
والفرسخ ثلاثة أميال فتكون المسافة 44 كيلو متر ونصفها 22 كم ، وتكون منجزية العلم الإجمالي على مرتبتين :
الأولى : مرحلة المنع من المخالفة يترك كلا الصلاتين صلاة التمام وصلاة القصر .
الثانية : مرحلة المنع من المخالفة الإحتمالية ، ولكي تحصل الموافقة القطعية ، يجمع بين الصلاتين.
وكذا إذا علم المكلف إجمالاً بوجوب إحدى صلاتين الظهر أو الجمعة ، فيكون العلم الإجمالي حجة لأنه طريق القطع التفصيلي عند الجمع بين الصلاتين ، ولا يصح شرعاً مخالفة العلم الإجمالي ، فهذه المعصية قبيحة عقلاً .
والنسبة بين القطع التفصيلي والإجمالي عموم وخصوص من وجه ، والعلم والقطع التفصيلي متعلق بالواقع وموافق له.
أما مادة الإفتراق فان القطع أو العلم التفصيلي خال من التردد والغموض ، فهو فرد موافق للواقع منطبق على الجامع كالصلاة ، أما في العلم الإجمالي ، ففيه الترديد والتشويش وإحتمال موافقة أحد أفراده الواقع .
هل دعوى نسخ آيات السلم من القطع التفصيلي أو الإجمالي ، الجواب إنه ليس من القطع التفصيلي أو الإجمالي إنما هو دعوى لا أصل لها كتاباً وسنة.
وضرب السيد الصدر قدس مثلاً للتقريب بشخصين ينظران إلى جسم أحدهما قريب منه ، فتكون الصورة واضحة عنده ، وهو القطع التفصيلي والجسم المرئي وهو الجامع متشخصاً عنده ، والصورة المدركة ، أما البعيد عن هذا الجسم فانه يرى هذا الجسم أيضاً إلا أنه لبعده لا يشخص هوية هذا الجسم.
وهل هو إنسان أو حيوان أو شجرة.
وهو القطع أو العلم الإجمالي فمتعلق التفصيلي والإجمالي في الواقع واحد ، فالعلم التفصيلي يكون في الجامع ومنطقه الواقعي كالجسم المرئي في المثل أعلاه.
وهل يمكن تحول العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي ، الجواب نعم ، عند طرو القرينة أو الأمارة أو الدليل فيكون الإنحلال أي زوال العلم الإجمالي واصبح العلم تفصيلياً مثلاً كان عنده إناءان أحدهما فيه ماء والآخر خمر وكان ظلاماً وعندما انكشف الظلام واستضاء المكان علم بالذي فيه الماء وأنه يصلح لوضوئه فانحل العلم الإجمالي وتحول إلى تفصيلي لأن أحد طرفي العلم الإجمالي خرج عنه.
وجئت بمثل يتصف بأمرين :
أولاً : يجمع بين العلم التفصيلي والإجمالي .
ثانياً : انحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي في ذات الموضوع ، وهو (اختبار قياس فحص البصر).
وهي لوحة بيضاء تعلق على الجدار باحجام واتجاه في فتحتها متباينة بقياس طبي دقيق يقف منها الذي يتم اختباره على مسافة.
وتسمى (لوحة الفحص) أو مخططات العين إذ يقوم طبيب العيون بقياس حدة البصر ، فمنهم من يرى فتحة كل هذه الحروف حتى الصغيرة وجهة الفتحة للأعلى أو الأسفل أو اليمين أو اليسار.
وهذا من العلم التفصيلي ومنهم من يرى الحروف الكبيرة وفتحتها فقط دون الصغيرة التي تحتمل عنده الفتحة إلى عدة جهات ، وهو العلم الاجمالي .
فيدرك الطبيب حاجته إلى نظارات طبية ليتحول علمه الاجمالي إلى علم تفصيلي برؤية الحروف الصغيرة وفتحتها بما يوافق الواقع.
ومثل خروج أحد الطرفين عن العلم الأجمالي مثلاً علم إجمالاً عليه صلاة الظهر أو الجمعة ، ولما فحص تبين أنه لا تجب عليه الجمعة لعدم إجتماع شرائطها ، فيتحول العلم إلى تفصيلي ويسمى الإنحلال الحكمي.
والمراد من الجامع هو الكلي المعلوم الذي يقبل الإنطباق على أي فرد من أطرافه مثل الصلاة ، فلا يعلم المكلف هل تجب عليه صلاة الظهر أو الجمعة ، فالجامع هو صلاة مخصوصة.
لذا فان الجامع المعلوم تفصيلاً أقل من أطراف العلم الاجمالي ، ويتعلق الإجمال بتعيين الجامع ، فنحن نقطع بتوجه التكليف لفرد من صلاتين ، ولكن نجهل استقراره وتعيينه.
لذا فان العلم الإجمالي يتألف من أمرين :
الأول : العلم بالجامع وهذا العلم تفصيلي .
الثاني : الجهل في انطباق الجامع على أحد أطراف العلم الإجمالي ، وهذا الجهل من موارد العلم الإجمالي ، مع القطع واليقين بالتكليف.
وهل القول بأن آية السيف نسخت مائة وأربعة وعشرين آية أو مائة آية فقط من آيات السلم والموادعة والصلح من العلم القطع التفصيلي أو الإجمالي خاصة مع كثرة وروده في كتب التفسير ، الجواب إنه ليس من أي من قسمي القطع إنما هو ظن يزول بالتحقيق والرجوع إلى آيات القرآن والسنة النبوية.
سلامة الموعظة من النسخ
لقد ذكر في ناسخ القرآن ومنسوخه آيات عديدة في نسخ الإستثناء والتقييد والشرط ولا يلزم الوقوف عندها ، لأن معنى النسخ عند المتقدمين عام ومنه مثلاً قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ]( )، قال نسخ عمومها مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
أما قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ]( )، فلا دليل على نسخها.
وقال ابن سلامة : (هذا مقدم ومؤخر ، معناه: فعظهم وأعرض، كان هذا في بدء الإسلام، ثم صار الوعظ والإعراض منسوخا بآية السيف)( ).
وصحيح أن في الآية تقديماً وتأخيراً إلا أنه لا يمنع من حمل الآية على ظاهرها ، من جهات :
الأولى : ذات الإعراض النبوي موعظة .
الثانية : مع الإعراض تكون الموعظة في وقتها المناسب .
الثالثة : نزول آيات القرآن وبيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتفسيرها موعظة .
الرابعة : إرادة موعظة الصحابة للمشركين ، فلا نسخ في الوعظ ولا في الإعراض .
وكثيرة هي الآيات التي أمرت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن المشركين والجاهلين ولم يقل أحد بنسخها ، منها :
الأولى : [وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا]( ).
الثانية : [وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، وقال ابن عباس نسخة قوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ]( )، والآية أعلاه بخصوص الأشهر الأربعة من سنة واحدة دون غيرها ليبقى الإعراض حكماً عاماً لا ينسخه الخاص .
الثالثة : [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
ليدل الجمع بين هذه الآيات على بقاء حكم الأعراض عن المشركين وأنه يقترن بالموعظة ، وهذا الإقتران من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ونزل قوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ]( )، ولم يقل أحد بنسخ هذه الآية ، مع أنها مكية لبيان وجوب جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ودعوته إلى الله عز وجل ، وكفاية الله له.
ونزل حكم الإعراض إلى الأنبياء السابقين تخفيفاً وبعد إقامة الحجة ، منه في يوسف عليه السلام [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ]( ).
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً بالإعراض عن المشركين ، لأنهم أعرضوا عن الذكر ، قال تعالى [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى]( ) .
ومن أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الذكر) وهو الذي يذكر بالله ، وقال تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ) لبيان قانون وهو تعدد آيات الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالموعظة والآيات التي تأمره بالإعراض عن المشركين.
ويمكن القول بأن كل آية من القرآن موعظة مما يدل على عدم طرو النسخ على موعظة القرآن ، ولا تختص مواعظ القرآن بالمسلمين والمسلمات ، إنما هي أدلة وخطابات وبراهين متوجهة إلى الناس جميعاً ، وهل هو من الشواهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة ، الجواب نعم ، فلا تعطل المواعظ التي في آية السلم بطرو النسخ ، بل تبقى سالمة في موضوعها وأحكامها ، وفيه وجوه :
الأول : قانون آيات السلم موعظة متجددة .
الثاني : دعوة آيات السلم الناس إلى التدبر والإتعاظ بأسرار الحياة الدنيا ، والتنعم بخيراتها ، وما الحروب إلا برزخ دون هذا التنعم ، وزهوق للأرواح ، ويتم للاطفال ، وصيرورة جيش من الأرامل .
الثالث : قانون آيات السلم رحمة دائمة من عند الله ، وشاهد على اللطف الإلهي بالناس جميعاً .
قانون التقية حفظ
التقية واقية وحفظ للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , وأمن من القتل والإضرار بهم , وهل التقية من مصاديق [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ) الجواب نعم .
ويمكن تأسيس علم خاص من علوم القرآن وهو علم آيات الحفظ في القرآن , وهي على أقسام :
الأول : آيات حفظ القرآن أمس واليوم وغداَ , قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثاني : القرآن واقية من الوقوع في الهلكة .
الثالث : بعث القرآن المسلمين للدفاع وعدم القعود .
الرابع : آيات حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي على شعب :
الأولى : آيات حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة النبوية بدلالة آيات القرآن , وهل هو من الإستصحاب القهقري الجواب إنه من البيان والتوثيق الإلهي.
وذكر فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمً]( ).
الثانية : حفظ النبي أيام الدعوة في مكة قبل الهجرة , قال تعالى [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ] ( ).
لقد بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو الناس بصفة النبوة بين ظهراني قوم مشركين يكيدون به , ويحرضون عليه , ولكنه كان يعمل بالتقية والتي ملاكها الصبر والتحمل .
الثالثة : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت في سني الحصار الثلاثة .
فاذا استحضرنا كون الصبيين من بني هاشم غذاؤهما تمرة واحدة , ويسعد الذي تكون النواة من نصيبه ويتجلى الأذى الشديد النازل بهم علماَ أن بني هاشم مؤمنهم وكافرهم عملوا بالتقية بتأديب من القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء أبي لهب الذي كان مع المشركين في حربهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدخل مع بني هاشم في حصارهم في شعب أبي طالب.
الرابعة : حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجعل الهجرة وسيلة لنجاته قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الخامسة : آيات حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة وسلامته من طلب قريش , إذ جعلوا لمن يأتي به حياَ أو ميتاَ مائة ناقة , فخرجت جماعات في طلبه لولا أن نجاه الله بمعجزة الغار , قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
السادسة : سلامة وحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما بعد الهجرة , لقد عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنوات من عمره الشريف في المدينة بعد الهجرة يبلغ كلام الله عز وجل وأحكام الحلال والحرام وبعد هجوم المشركين المتكرر على المدينة لا لشئ لأن أهلها آووا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فانتقم الله عز وجل منهم كما في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السابعة : وقاية وحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال المتكرر وهو في المدينة , فمن مكر كفار قريش تجهيزهم الجيوش لغزو المدينة , ووقوع القتال والمبارزة المتعددة في أطرافها كما في معركة أحد , ومعركة الخندق .
الثامنة : عندما عجزت قريش عن قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ورأوا إزدياد عدد الذين يدخلون الإسلام بعد الهجرة وبعد كل معركة من معارك الإسلام إبتداءَ بمعركة بدر إتجهت إلى حبك الخطط لإغتياله.
قانون التقية تخفيف
هل تشمل التقية المودة ، الجواب لا ، لأن المودة كيفية نفسانية ، فلابد أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، إنما تتعلق بالمصانعة ، وهي فرع حسن الخلق الذي يتصف به المؤمنون، ولإستدامة السلم المجتمعي ، وتنشيط التجارات والصناعات ، وعدم العزوف عن الصلات مع أهل الكتاب والكفار.
فان قلت إنا قيدت الآية التقية بالجار والمجرور (منهم ) ولم تكن مطلقة ، والجواب تشمل التقية الفعل وموضوعه ، وما يترشح عنه ونتائجه ، وهل تشمل التقية ذوي القربى ، الجواب نعم ، ولو دار الأمر في التقية بين القول والعمل يقدم القول ولا تصل النوبة إلى العمل ، نعم قيدت التقية باللسان فقط دون الفعل .
وعن ابن عباس ({ إلا أن تتقوا منهم تقاة }( ) قال { التقاة } التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإِيمان ، ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له) ( ).
وظاهر كلام ابن عباس أن حكم التقية باق وليست هي منسوخة ، ترى ما هي نسبة الخوف الذي تكون معه التقية ، الجواب إن الخوف من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ونزلت الآية بصيغة الإطلاق لبيان الرخصة في العمل بالتقية مع أدنى مراتب الخوف ، وعدم الإرجاء لحين اشتداد الخوف .
وهل تشمل التقية الحذر والحيطة ، ويكون تقدير الآية : إلا أن تحذروا من الكفار ، الجواب نعم .
ولا يختص هذا الحذر بالنفس بل يشمل الغير والمال والعرض والحالة الإجتماعية ، والسلم المجتمعي ، والأمن العام . فمن التقية ما تكون نوعية وعامة .
وتنفع التقية أهل الكتاب والكفار ، الجواب نعم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، فيعمل المسلم بالتقية وينتفع هو والآخرون.
لقد أراد المشركون فتنة الصحابة الأوائل في دينهم ، وحملهم على الإرتداد بالإضرار والتعذيب الجسدي ، فتفضل الله عز وجل وأنزل آية التقية لغلق الباب .
وأخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسيرين ، فقال للأول تشهد أن محمداً رسول الله ، قال نعم ، قال أتشهد أني رسول الله.
قال نعم فتركه لأن مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ، ودعا الآخر فقال ، أتشهد أن محمداً رسول الله .
قال نعم ، قال أتشهد أني رسول الله ؟ قال إني أصم ثلاثاً ، فقدمه وضرب عنقه (فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله فقال: أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه)( ).
تقية عمار
يبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التقية حكماً عاماً في التخفيف عن المؤمنين .
ولقد تعرض الصحابة الأوائل إلى أشد الأذى من كفار قريش ، وقتل بعضهم ، ولما قتل أبي جهل سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ، وقتلوا أباه ، عمل عمار بالتقية فاعطاهم من لسانه بأنه ذكر آلهتهم بخير ، وسبّ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم هاجر وفزع مما فعل ، ولجأ إلى النبي محمد مستجيراً شاكياً فساله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قلبه هل هو مطمئن بالإيمان قال نعم ، فقال له : إن عادوا فعد .
(عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي .
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة فأخذهم أبو جهل والمشركون ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . . وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك ، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً ، وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟
قال : لا .
قال : وأنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}( ))( ).
قانون الإعجاز في معركة بدر
وهناك مسائل :
الأولى : هل هذا العدد من الأسرى وكثرتهم من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : هل شارك الملائكة في وقوع الأسرى بأيدي المسلمين .
الثالثة : هل كان الصحابة يتوقعون وقوع سبعين أسيراً بأيديهم في بضع ساعات من صبيحة يوم بدر .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، لأن وقوع سبعين أسيراً من مجموع جيش ثلاث أضعاف الذين أسروهم معجزة ، ولم ينحصر تفوق جيش المشركين بالعدد إنما يشمل العدة والخيل والأسلحة والإبل ومعرفة فنون القتال .
وأما الثانية فقد شارك الملائكة في وقوع المشركين بالأسر ، وهو رحمة بهم ودعوة لهم للتوبة والإنابة ، وليروا حسن سمت المسلمين ، والأنظمة الإجتماعية في المدينة ، وسنن التقوى الظاهرة على أهلها ، ولينقلوا إلى أهل مكة أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشطر من آيات القرآن ، ومنها التي تدل على حضور الملائكة واقعة بدر ، كما في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
وإن كانت انباء مشاركة الملائكة في معركة بدر وصلت إلى أهل مكة مع فلول الفارين من الميدان.
و(قال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مسلتقياً،
فنظر إليه فإذا هو قد حُطم وشُق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين)( ).
وأما المسألة الثالثة فالمختار أن المسلمين كانوا يرجون وقوع المشركين بالأسر لبشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم بخسارة القوم ، وسقوط قتلى من رؤسائهم ، فبعد أن استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في الدفاع ولقاء القوم وأظهروا التأييد والعزم على المواجهة والدفاع ، (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سيروا على اسم الله فإني قد رأيت مصارع القوم فعمد لبدر) ( ).
ومن مصاديق عدم نسخ [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) أن هذه الآية وعد وعهد من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين بأن الله عز وجل يصرف عنهم الضرر .
وجاء الجزء الثاني والسبعون من هذا السِفر خاصاً بتفسير هذه الآية والآية التي بعدها ،وفيه مع قلة كلمات آية [لَنْ يَضُرُّوكُمْ] فانها تتضمن بشارات أكثر من عدد كلماتها منها :
الأولى : تعدد وجوه انتفاء الضرر، لان الآية انحلالية فليس من ضرر على الإسلام ولا على المسلمين أمة وافراداً، وفي الآية اشارة الى عصمة القرآن من التحريف والتغيير لشمول السلامة من الضرر في المبادئ والاحكام ، وعصمة المسلمين من إثارة الكفار والفاسقين الريب والشبهات.
الثانية : إنتفاء الضرر مطلقاً شامل للمسلمين وأحكامهم، اما الأذى فجاء على نحو النكرة، مما يعني انحصار مواضيعه، وهذا الإنحصار أمر اضافي لقلته وعدم ترتب الأثر الفادح عليه، فقد يصيب الأذى بعض الأفراد والجماعات من المسلمين، ويبقى عامة المسلمين في أمن وحرز من أذى الكفار والفاسقين، وهو بشارة إضافية أخرى.
الثالثة : مجئ الإخبار عن قتال الكفار للمسلمين على نحو الشرط بدلالة[إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ]، والإجماع على احتساب (إِنْ) حرف شرط جازم ، وجملة شرطها لا محل لها من الاعراب ، واختلف فيه على قولين:
الأول: لانها جزء الشرط والجزء لا محل له.
الثاني: لانها ابتداء الشرط، والابتداء لا محل له.
ويفيد مجئ الآية بصيغة الشرط تعليق عزم الكفار على مقاتلة المسلمين على أسباب ومقدمات ، وفيه دعوة لمنع تحصيل هذه الأسباب والمقدمات( ).
ومما يدل على عدم نسخ آية البحث وجوه تقديرها ومنها :
الأول : يعدكم الله لن يضروكم إلا أذى ، ووعد الله باق إلى يوم القيامة .
الثاني : يشد الله عز وجل عضدكم فلن يضروكم إلا أذى .
الثالث : لن يضروكم أمس واليوم وغداً إلا أذى .
الرابع : لن يضروكم إلا أذى فاجتهدوا في طاعة الله .
الخامس : لن يضروكم إلا اذى لأن الله [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) .
مما يدل على أن آية القتال لم تنسخ آية البحث ، فآية البحث رحمة مزجاة من عند الله ، ونعمة متجددة على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، وشاهد على رحمة الله عز وجل بالمسلمين وسلامتهم من دنو الضرر إليهم ، ودفع أذى المشركين عنهم .
وهل في الآية شاهد على توالي نزول القرآن بسلامة النبي من القتل ، الجواب نعم ، لأن قتله ضرر جسيم على المسلمين والناس جميعاً .
السادس : لن يضروكم فلا تصل أيديهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
آية التحذير
لقد تضمنت الآية التحذير بقوله تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] ( ).
و(عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة : أن هاجروا فإنا لا نرى أنكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم ، فكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية) ( ).
والآية أعم في موضوعها وأحكامها باقية إلى يوم القيامة ، ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر في أيام التخفيف هل طرأ عليها النسخ أم لا ، الجواب هو الأول ، فآيات التخفيف رحمة ، وهي سالمة من النسخ ، وليس من إزالة لحكمها إلا مع الدليل ، ولا دليل في المقام على نسخ آية التقية ، وقول أحد العلماء من التابعين أو تابعي التابعين ليس بحجة من جهات :
الأولى : هذا القول خلاف ظاهر الآية القرآنية ، وظواهر القرآن حجة .
الثانية : سبق الإجماع لهذا القول وتأخر عليه .
الثالثة : دلالة شواهد الآيات والسنة النبوية على عدم النسخ .
وتبين الآية سنخية الإطلاق في التقية ، وعدم اختصاصها بالمداراة والمصانعة ، إذ تشمل الولاية والتأييد والإعانة بقوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ..] ( ).
ومنه العمل وتسخير الذات لخدمة الناس في أمور الدنيا والمصالح العامة ، وهل كانت وزارة يوسف عليه السلام لملك مصر الكافر من التقية التي تذكرها آية البحث ، أم أن القدر المتيقن من التقية في الشريعة الإسلامية ، المختار هو الأول ، وأن يوسف عليه السلام عمل بالتقية فهو الذي سأل الوزارة بخطابه إلى ملك مصر [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ] ( ) .
جاءت إلى في القرآن للعاقل وغير العاقل في قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ]( ).
أما على فجاءت للعاقل وغير العاقل, ومنه قوله تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ] ( ), وقال تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ]( ).
وقد تضمنت آية استخدام (على) للعاقل ولغير العاقل في قوله تعالى [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ] ( ).
لبيان أن منافع التقية للذات والغير والناس جميعاً , فلو امتنع يوسف عليه السلام عن تولي الوزارة لأنه نبي ، ولا يصح عمله تحت أمرة الملك الكافر ، وبين أناس وثنيين لأصابت المجاعة أهل مصر وغيرهم ، ومن معاني الغير في المقام بعث يعقوب النبي عليه السلام أبناءه للميرة من مصر.
لتكون التقية والعمل تحت أمرة الكافر استدامة للإيمان ، وجذب لقلوب الناس للإسلام ، إذ ذكر أن ملك مصر أيام يوسف عليه السلام هو (الوليد بن الريان)( ).
وظاهر التوراة أن الملك هو الذي اختار يوسف للوزارة لما أوّل له رؤياه بمعجزة .
وفي سفر التكوين:
(41: 37 فحسن الكلام في عيني فرعون و في عيون جميع عبيده
41: 38 فقال فرعون لعبيده هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله
41: 39 ثم قال فرعون ليوسف بعدما اعلمك الله كل هذا ليس بصير و حكيم مثلك
41: 40 انت تكون على بيتي و على فمك يقبل جميع شعبي الا ان الكرسي اكون فيه اعظم منك
41: 41 ثم قال فرعون ليوسف انظر قد جعلتك على كل ارض مصر
41: 42 و خلع فرعون خاتمه من يده و جعله في يد يوسف و البسه ثياب بوص و وضع طوق ذهب في عنقه
41: 43 و اركبه في مركبته الثانية و نادوا امامه اركعوا و جعله على كل ارض مصر
41: 44 و قال فرعون ليوسف انا فرعون فبدونك لا يرفع انسان يده و لا رجله في كل ارض مصر
41: 45 و دعا فرعون اسم يوسف صفنات فعنيح و اعطاه اسنات بنت فوطي فارع كاهن اون زوجة فخرج يوسف على ارض مصر
41: 46 و كان يوسف ابن ثلاثين سنة لما وقف قدام فرعون ملك مصر فخرج يوسف من لدن فرعون و اجتاز في كل ارض مصر)( ).
ولم يثبت هذا الإطلاق في الحكم الذي وهبه الملك ليوسف ، إنما جعله وزيراً فيما يخص الزراعة والميرة ، وهو الذي ورد في القرآن ، لبيان الإعجاز القرآني في السرد التأريخي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
وقد ورد ذكر فرعون موسى عليه السلام في القرآن بلفظ [فِرْعَوْنَ] في نحو ستين آية من القرآن ، بينما ورد ذكر فرعون يوسف عليه السلام بصفة [الْمَلِكُ] وزمان يوسف متقدم على موسى عليه السلام ، فهل من معانيه أن طول حكم الملوك ووراثتهم السلطنة المطلقة يؤدي إلى الطغيان ، الجواب نعم .
وقد ذكر فرعون موسى في القرآن نحو (76) مرة عدا لفظ [آلِ فِرْعَوْنَ] و[امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ] و[قَوْمَ فِرْعَوْنَ] في سور متعددة بينما اختصت سورة يوسف عليه السلام بقصة يوسف فهي جامعة اقتصاد وعقيدة وأخلاق وسياسة وإجتماع .
وهل في قصة موسى عليه السلام مع فرعون من تقية ، الجواب نعم ، فمع إجتهاد موسى عليه السلام بدعوته إلى الله وإخباره أنه رسول الله ، ومجيئه بالآيات الباهرات ، فقد عمل بالتقية بأمر من الله ، كما ورد في التنزيل [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] ( ).
وقد تولى يوسف عليه السلام ، الوزارة ،وهل اشترط ملك مصر على أهل بيته والوزراء عدم التدخل في أمر ووزارة يوسف عليه السلام ، ام أن يوسف استعمل معهم التقية والمداراة ، الجواب لم يثبت هذا الشرط ، ولكنه ظاهر من تخويف يوسف عليه السلام ، وهو لا يتعارض مع عمل يوسف عليه السلام معهم جميعاً بالتقية والمداراة .
ورد عن سفيان بن سعيد( ) (قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام – وكان والله صادقا
كما سمي يقول: يا سفيان عليك بالتقية فإنها سنة إبراهيم الخليل عليه السلام، وإن الله عزوجل قال لموسى وهارون عليهما السلام [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]( )، يقول الله عزوجل : كنياه وقولا له: يا أبا مصعب، وإن رسول الله كان إذا أراد سفرا ورى بغيره) ( ).
ومن خصائص التقية موافقتها للفطرة الإنسانية ، وإجتهاد الإنسان لصرف الأذى والضرر عن نفسه ومتعلقيه ، ومنها التورية والمداراة والملاطفة وحسن العشرة والمخالطة ، أما الأمانة والوفاء بالعهد فهو أمر ثابت خارج عن التقية ، ولابد من التقيد به ، وعدم الغدر أو الخيانة .
وهل التقية لطف ، الجواب هي لطف من عند الله بالمسلمين وعامة الناس ، وبرزخ دون الفتن والإقتتال .
وعلى تقدير نسخ الآية كيف تكون قراءتها ، الجواب لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ حتى إذا اتقيتم منهم تقاة ويحذركم الله نفسه .
فتأتي خاتمة الآية بالتحذير من الله مانعة للقول بنسخ الآية ، ولقوله تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] ( )معان:
الأول : تحذير المؤمنين من سخط الله الذي يترتب على موالاة الكفار ، وفي التنزيل [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( )، والنفس والذات معنى واحد ، دلالة الشأن والوجود والحضور .
الثاني : تحذير المؤمنين من التعدي في ولاية الكافرين أكثر من الواجب، والقدر المتيقن الذي يجزي ويكفي مع التقية .
الثالث : التحذير من ترك التقية لما يترتب عليه من الأذى والضرر الخاص والعام ، لذا جاءت الآية بصيغة التحذير وليس الإنذار أو الوعيد .
ومن إعجاز اللفظ القرآني بخصوص لفظ [يُحَذِّرُكُمْ] مسائل :
الأولى : ورود هذا اللفظ مرتين في القرآن .
الثانية : كل منهما بصيغة التحذير من الله عز وجل [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] ( ) والتحذير التنبيه والتذكير ، ومرتبة في التخويف وإقامة الحجة .
الثالثة : المجاورة بين الآيتين وهما الآية 28 ، والآية 30 من سورة آل عمران .
الرابعة : دلالة الإختلاف في موضوع الآيتين ،ووجوه الإلتقاء بينهما ، وموضوع آية البحث الحياة الدنيا ، وموضوع الأخرى عالم الآخرة وما فيها من الحساب لقوله تعالى [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( ) .
الخامسة : نسبة العموم والخصوص من وجه في خاتمي الآيتين .
السادسة : تكرار التحذير في ذات الآيات المتجاورة.
مسائل في الإحتجاج
وفي الآية مسائل :
الأولى : عطف الآية على الآية السابقة لها بالفاء ، لإفادة عدم تأخر إحتجاج أهل الكتاب والكفار ، وجدالهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل باخباره النبي محمداً بالمغيبات ، وتوالي مجئ الناس للإحتجاج والجدال .
الثالثة : دلالة بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مقامه وعزه، وقدرته على التبليغ.
الرابعة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال والقتل ، سواء في ميدان المعركة أو خارجها .
الخامسة : تثبيت إيمان المسلمين عند كثرة أهل الإحتجاج والجدال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يأتي من يجادل النبي محمداً لغرض زرع الشك والريب في نفوس أصحابه خاصة حديثي الإيمان ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
السادسة : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتخاذ الجدال والإحتجاج وسيلة لتثبيت قلوب أصحابه على الهدى والإيمان ولجذب الناس للإسلام ، وكم من شخص جاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج فدخل الإسلام عندما رأى الآيات والبراهين.
السابعة : بيان حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للوحي ساعة الإحتجاج ، وبعث السكينة في قلوب المسلمين بظهور حجته عند الإحتجاج لأنها شعبة من الوحي ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
و(عن انس قال كنا نهينا ان نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ وكان يعجبنا ان يأتيه الرجل من اهل البادية فيسأله ونحن نسمع فاتاه رجل منهم فقال يا محمد اتانا رسولك فزعم انك تزعم ان الله ارسلك قال صدق فمن خلق السماء قال الله .
قال فمن خلق الارض قال الله.
قال فمن نصب هذه الجبال قال الله.
قال فمن جعل فيها هذه المنافع قال الله .
قال فبالذى خلق السماء والارض ونصب الجبال وجعل فيها هذه المنافع آلله ارسلك قال نعم.
قال وزعم رسولك ان علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال صدق قال فبالذى ارسلك آلله امرك بهذا قال نعم.
قال وزعم رسولك ان علينا صدقة في أموالنا.
قال صدق قال فبالذى ارسلك آلله امرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك ان علينا صوم شهر في سنتنا قال صدق قال فبالذى ارسلك آلله امرك بهذا قال نعم.
قال وزعم رسولك ان علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق قال فبالذى ارسلك آلله امرك بهذا قال نعم.
قال والذى بعثك بالحق لا ازيد عليهن ولا انقص منهن فلما مضى قال لئن صدق ليدخلن الجنة)( ).
فاذا كان الصحابة ينتفعون من أسئلة أهل البوادي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجابته لهم ، فمن باب الأولوية انتفاعهم من جدال واحتجاج أهل الكتاب ورده عليهم .
الثامنة : هل من موضوعية لنزول الآية أو السورة القرآنية في الإحتجاج ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : إذا نزلت آية على النبي محمد يأتي بعض أهل الكتاب أو الكفار لجدال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصها ، وهو من الدلائل على حفظ آيات القرآن من الضياع أو الزيادة أو النقصان ، ولا يختص هذا الجدال بما بعد الهجرة النبوية بل كان يقع في مكة ومن قبل جماعات من رؤساء قريش .
و(عن ابن عباس قال : لما نزلت [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ]( )، شق ذلك على أهل مكة . وقالوا : شتم الآلهة . فقال ابن الزبعرى : أنا أخصم لكم محمداً ، ادعوه لي فدعي . فقال : يا محمد ، هذا شيء لآلهتنا خاصة؟ أم لكل عبد من دون الله؟
قال : بل لكل من عبد من دون الله فقال ابن الزبعرى : خصمت . ورب هذه البنية ، يعني الكعبة ، ألست تزعم يا محمد ، أن عيسى عبد صالح ، وأن عزيراً عبد صالح ، وأن الملائكة صالحون .
قال : بلى . قال : فهذه النصارى تعبد عيسى . وهذه اليهود . تعبد عزيراً ، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة ، فضج أهل مكة وفرحوا ، فنزلت [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى]( )، عزير وعيسى والملائكة [أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ] ( )، ونزلت [وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ]( )، قال : وهو الصحيح)( ).
وورد عن ابن عباس (نزلت هذه الآية [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ]( )، ثم نسختها [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( ) يعني عيسى ومن كان معه)( ).
وليس من نسخ إلا على المعنى عند المتقدمين بافادة معنى الإستثناء في الآية .
وعن كتاب كنز الفوائد( ): جاء في الحديث أن قوما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله فقالوا له: ألست رسول الله ؟ قال: لهم بلى .
قالوا له: وهذا القرآن الذي أتيت به كلام الله ؟ قال: نعم .
قالوا: فأخبرني عن قوله تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ]( )، إذا كان معبودهم معهم في النار فقد عبدوا المسيح، أفتقول: إنه في النار .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله سبحانه أنزل القرآن علي بكلام العرب والمتعارف في لغتها أن (ما) لما لا يعقل و (من) لمن يعقل، و (الذي) يصلح لهما جميعا، فإن كنتم من العرب فأنتم تعلمون هذا ، قال الله تعالى[إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ] يريد الاصنام التي عبدوها وهي لا تعقل .
والمسيح عليه السلام لا يدخل في جملتها، فإنه يعقل ، ولو كان قال: (انكم ومن تعبدون) لدخل المسيح في الجملة، فقال القوم: صدقت يا رسول الله( ).
الثاني : دلالة احتجاج أهل الكتاب والمشركين ، وإجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم على صدق نبوته .
الثالث : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الآية القرآنية مادة للإحتجاج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
التاسعة : تبين الآية اللجوء إلى التوحيد عند الإحتجاج لأنه سور الموجبة الكلية الشامل للناس جميعاً ، باختصار وقطع الجدال ، وجعل خاتمته [فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي]( )، وفيه دعوة للسلم والموادعة ونبذ الخصومة .
إن قطع الجدال بكلمة التوحيد رحمة من عند الله عز وجل ، وبرزخ دون استمرار الخصومة ، فالأصل التقاء الناس في هذه الكلمة .
العاشرة : من إعجاز الآية إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمته مثلما يخبر عن نفسه بقول [وَمَنْ اتَّبَعَنِي] وفيه تزكية للمسلمين والمسلمات وشهادة من الله ورسوله على تقيدهم بسنن التوحيد وإخلاص العبودية لله عز وجل .
وهل تدل الآية أعلاه على حرمة تكفير المسلمين الذين ينطقون بالشهادتين ويؤدون الصلوات الخمس ، الجواب نعم.
الحادية عشرة : بيان قانون كلمة التوحيد حصن من الضرر والقتال ، فالجدال بين الأطراف المتباينة سواء في العقيدة أو المصالح قد يتطور إلى خصومة شرعية ثم اقتتال سواء على نحو القضية الشخصية أو النوعية ، فلّقن الله عز وجل النبي محمداً الرد الذي يمنع من صيرورة الجدال مقدمة للقتال ، وهذا المنع من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على سلامة آيات السلم من النسخ والتبديل .
الثانية عشرة : مما تفضل الله عز وجل به على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من علم الغيب إخباره بأن أجيال المسلمين تتبعه في الإنقطاع إلى الله ، ويتضمن هذا الإخبار وجوهاً:
الأول : بعث السكينة في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة .
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصبر ، وتحمل الأذى الذي يأتي من المشركين .
الثالث : ثبات أجيال المسلمين على الإيمان دعوة لهم للسلم ، ومنع من التطرف والعنف .
الرابع : بعث اليأس والخيبة في قلوب المشركين من إرتداد المسلمين ، قال تعالى [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ] ( ).
الخامس : تأكيد وجود أمة مؤمنة تسلم وجهها لله عز وجل في كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
السادس : دعوة أجيال المسلمين للإجتهاد في طاعة الله ، والإقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : لزوم توثيق الصحابة وأهل البيت وعامة المسلمين لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدلالة آية البحث على وجوب إتباعها .
الثالثة عشرة : تكرار لفظ أحكام في الآية مرتين ، الأولى الإخبار العلني العام بانقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الله عز وجل ، والثانية الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أهل الكتاب والكفار إلى التوحيد والإسلام ، ونبذ الخصومة والقتال .
لبيان مميزات التبليغ النبوي بعدم الإكتفاء بالحديث عن إسلام الصحابة وأهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما يشمل دعوة الناس جميعاً للإسلام ، وصيغة العموم في قوله تعالى [أَأَسْلَمْتُمْ]من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الرابعة عشرة :لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله بين ظهراني مجتمع كفار وهم مشركو مكة ، فهدى الله عز وجل طائفة إلى الإسلام ، ثم يهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليس معه من سلاح إلا آيات القرآن ، وما فيها من الإحتجاج فرعي صبغة الإعجاز .
وفيه نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الأذى الشديد الذي لاقاه من المشركين ،قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وهل يبعث احتجاج النبي العام الفزع والغيظ في قلوب المشركين ، الجواب نعم ، فبعد أن كانوا يفرضون عليه الحصار الفكري والإجتماعي ، وهو غير حصارهم لبني هاشم في شعب أبي طالب ، صارت آيات الوعيد تصل إليهم.
الخامسة عشرة : بيان الملازمة بين الإسلام والهداية ، وقيام البرهان على وجوب الإيمان بالله عز وجل ، والنبوة ، واليوم الآخر .
السادسة عشرة : من معاني آية البحث دفع الشبهات عن الإسلام بالحجة والبرهان ، مما يدل على إستغناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن السيف .
وهل يمكن القول بقانون كل آية إحتجاج من عند الله أو بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين هي من آيات السلم ، الجواب نعم ، مع التسالم بأن هذه الآيات محكمة وهي سالمة من النسخ .
السابعة عشرة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان مصاديق التسليم لله عز وجل ، وذكره لمبادئ الإسلام ، وأخرج الحاكم في صحيحه عن (بهز بن حكيم عن أبيه عن جده( ) قال : أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا نبي الله إني أسألك بوجه الله بم بعثك ربنا؟
قال : بالإسلام . . . قلت : وما آيته؟
قال : أن تقول {أسلمت وجهي لله} وتخليت ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة . كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران ، لا يقبل الله من مسلم أشرك بعدما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين إلى المسلمين ، ما لي آخذ بحجزكم عن النار .
ألا إن ربي داعيّ ، ألا وإنه سائلي هل بلغت عبادي؟
وإني قائل : رب قد أبلغتهم ، فليبلغ شاهدكم غائبكم .
ثم أنه تدعون مقدمة أفواهكم بالفدام ، ثم أوّل ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه .
قلت : يا رسول الله هذا ديننا؟
قال : هذا دينكم وأينما تحسن يَكْفِكَ) ( ).
الثامنة عشرة : هل المراد من قوله تعالى [فَإِنْ أَسْلَمُوا] دخول الإسلام أم المعنى الأعم ، وهو تسليم الوجه لله عز وجل .
المختار هو الفرد الجامع أي تسليم الوجوه إلى الله ، وثبات الإيمان ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وقد ورد لفظ [فَقَدْ اهْتَدَوا] مرتين في القرآن ، المرة الثانية في قوله تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا..] ( ).
وقال الثعلبي ({فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا} : فقرأ رسول اللَّه {صلى الله عليه وآله وسلم} هذه الآية.
فقال أهل الكتاب : أسلمنا.
فقال للنصارى : أتشهدون أنَّ عيسى كلمة من اللَّه وعبدهُ ورسوله) ( ).
نعم هناك تفصيل فان إسلام الأميين ومشركي قريش وجوههم إلى الله هو دخولهم الإسلام ، وتصديقهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجزية من أهل الكتاب ، ولم يقبلها من المشركين .
التاسعة عشرة : في قوله تعالى [فَقَدْ اهْتَدَوا]، تقدير على وجوه:
الأول : فقد اهتدوا إلى الخير وسبل الصلاح .
الثاني : فقد اهتدوا إلى الفلاح .
الثالث : فقد اهتدوا بنيل مرتبة الهداية ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
العشرون : لم تجعل الآية برزخاً بين الهداية والتولي والإعراض عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا]لتتضمن الآية الحكم الإلهي ، والأمر السماوي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند تولي المشركين قبول الدعوة بقوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ( ).
لتأكيد صبغة السلم في الرسالة الخاتمة ، وعدم اتخاذ العنف والسيف عقوبة أو طريقاً لإكراه المشركين على الإيمان ، مع التسليم بوجوبه عليهم لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
وتفيد كلمة [إنما ] الحصر أي ليس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا البلاغ قبل وبعد توليهم .
الواحدة والعشرون : هل لفظ البلاغ خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه يشمل أمته ، المختار هو الثاني.
وتقدير الآية : ليس على الرسول وأمته إلا البلاغ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي]( ).
ومما يدل على كون الآية محكمة ، وعدم نسخها تكرار حصر وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ حتى في آخر سور القرآن نزولاً ، إذ ورد في سورة المائدة [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) وقوله تعالى [مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ] ( ).
والمشهور خلو سورة المائدة من المنسوخ ، وقيل بنسخ تسع آيات منها ، ولم يثبت خاصة وأنه ذكر بنسخ بعضها بالإستثناء .
الثانية والعشرون : نزلت بعض الآيات عامة في بيان حصر وظائف الرسل بالبلاغ ، كما في قوله تعالى [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) ، و هل ينفي هذا العموم نسخ آيات التبليغ ، والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإكتفاء بالتبليغ.
الجواب نعم ، وهل يمكن الإستثناء والقول فهل على الرسل إلا البلاغ المبين إلا الرسول محمد فعليه بالسيف ، الجواب لا ، لأصالة الإطلاق ، وعدم وجود مخصص أو دليل على الإستثناء حتى على قول المتقدمين بجعل الإستثناء نسخاً .
الثالثة والعشرون : بيان التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله ، وعدم وجوب اللحاق بالذين أعرضوا عن الدعوة ، مع بقاء تكرار التبليغ والبشارة والإنذار ، فتولي وإعراض الكفار لا يمنع من توالي دعوتهم إلى الإيمان ، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة اليومية ، ويمكن القول بقانون كل آية قرآنية بلاغ ، وفي صفة القرآن قال تعالى [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
الرابعة والعشرون :عدم الملازمة بين الإحتجاج والتبليغ ، إذ ينقطع الإحتجاج ، ولكن التبليغ يستمر ، وليس من حصر لوجوه التبليغ ، لذا قال تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]( ).
ومن معانيه توالي واتصال التبليغ حتى بعد إعراض أهل الجدال ، وعدم إنتفاعهم منه ، وامتناعهم عن اختيارهم الهداية ، فان البلاغ مستمر ، سواء العام لينتفع منه هؤلاء كعامة الناس ، أو البلاغ الخاص بخصوصهم ، وقسما البلاغ هذان من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ) .
الخامسة والعشرون : من إعجاز آية البحث أنها تأديب وإرشاد للمسلمين بهدايتهم إلى سبل التبليغ , وإتخاذ آيات القرآن والإحتجاج أنه وسيلة وسلاح في الدعوة إلى الله عز وجل ومحاربة الشرك , وبيان قانون وهو بقاء المشركين على شركهم لن يضر المؤمنين ، قال تعالى [وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا]( ) .
السادسة والعشرون : من إعجاز آية البحث دلالة خاتمتها على السلم وأن الله عز وجل يحب للناس الأمن المجتمعي والعيش بسلام , لقوله تعالى [وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ) فهو سبحانه يعلم بأهل الإيمان , ويعلم بنصب المشركين الأصنام في البيت الحرام.
وفي الآية إخبار عن الثواب العظيم بالقيام بالدعوة والتبليغ وفق صيغ السلم والتنزه عن العنف والبطش والإرهاب .
النسبة بين البلاغ والإحتجاج
ترى ما هي النسبة بين البلاغ والإحتجاج ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالبلاغ أعم ، ولا يتحقق الإحتجاج إلا بقصد الطرفين في الغالب ، أما البلاغ فيأتي من طرف واحد وهو المبُلغ .
واجتهد الأنبياء في التبليغ لقانون الملازمة بين النبوة والتبليغ ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثرهم في التبليغ، وهو الذي يتجلى بأمور:
الأول : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في البيت الحرام طيلة أيام السنة من أيام البعثة الأولى .
الثاني : إقتران تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على أذى قريش وإفترائهم .
الثالث : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقريب والبعيد للإسلام ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
الرابع : توالي نزول آيات القرآن وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والتفسير .
الخامس : طواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل في أماكنها في موسم أيام مِنى .
السادس: دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسواق مكة الدائمية والموسمية ، وهو ينادي قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
وهل هذا النداء من البلاغ العام أم الخاص .
الجواب إنه من الأول ، ومن البلاغ الخاص في المقام جلوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجماعات والأفراد من القبائل يدعوهم إلى الإسلام ، ويتلو عليهم القرآن ويسألهم أن يكتموا أمره خشية بطش كفار قريش .
ومن معاني هذا السؤال وجوه :
الأول : إنه من مقدمات البلاغ .
الثاني : إنه بلاغ .
الثالث : إنه من لوازم البلاغ فهذا السؤال يبين قبح فعل قريش ومحاربتهم النبوة من أجل إقامتهم على الكفر وعبادة الأوثان .
من دلالات إبتداء الآية بالإحتجاج والأمر (فقل) ومجئ ذات الأمر بعد الإحتجاج وعدم إنتفاع مشركي قريش من البلاغ شاهد على تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التبليغ في السراء والضراء وإخباره الناس بأنه لا يطلب القتال ولا يسعى إليه , لأن الحجة والبراهين التي عنده والآيات الكونية كافية لإقناع الناس لدخول الإسلام , وهو الذي تحقق على نحو التتابع والتعاقب حتى جاء صلح الحديبية , فبادرت قبائل وأفراد كثيرون لدخول الإسلام.
وكان هذا الصلح وما ترشح عنه مقدمة لفتح مكة من غير قتال يذكر , وهو من مصاديق تسمية صلح الحديبية [فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وتبين الآية موضوعية القول والإخبار النبوي في إصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس وإزاحة الباطل ومفاهيم الشرك عن الأرض .
قانون إحصاء آيات الأحكام في القرآن
آيات الأحكام اصطلاح يتعلق بالآيات القرآنية التي تتضمن الأوامر والنواهي والأمور الفقهية وأصول التشريع وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية وفي عددها أقوال :
الأول : إنها خمسمائة آية ، وبه قال مقاتل بن سلمان ، والغزالي ، وفخر الدين الرازي ، وقطب الدين الراوندي .
الثاني : مائتا آية .
الثالث : مائة وخمسون آية .
الرابع : لا دليل على الحصر بخمسمائة آية ، ودعوى الحصر بلحاظ ظاهر الآيات .
والمختار أن الآيات التي تستقرأ وتستنبط منها الأحكام أكثر من خمسمائة آية .
ويمكن إحصاء وتتبع آيات القرآن آية آية من قبل هيئة من العلماء لمعرفة آيات الأحكام ، كما يمكن تقسيمها إلى :
الأول : آيات الأحكام بالنص والتي تتضمن الأمر والنهي ، مثل [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، ومثل [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
الثاني : آيات الأحكام حسب الظاهر .
الثالث : آيات الأحكام بالمؤول وهو المرجوح الذي صار كالظاهر لوجود قرينة .
ويمكن تقسيمها تقسيماً آخر بحسب الأحكام التكليفية وهو :
الأول : آيات الأوامر .
الثاني : آيات النواهي .
الثالث : آيات الندب والإستحباب .
الرابع : آيات الإباحة .
الخامس : الآيات التي تفيد الحكم بالكراهة.
بحث أصولي : النص والظاهر والمجمل
يقسم الكلام إلى نص وظاهر ومجمل ، وإلى حقيقة ومجاز تقسيمات إستقرائية ، وقد تجتمع هذه الأقسام الخمسة مع التباين بينها في كلمة وآية قرآنية واحدة ، لتعدد معاني اللفظ القرآني .
وهو من أسرار إحاطة كلماته المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث ، وقد يجتمع باللفظ القرآني الواحد الظاهر مع النص أو الأظهر .
وقيل أن المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، وبين المجمل والمأول هو المتشابه .
قالوا المرجوح مأول وليس بتام ، إنما إذا صار بالقرينة والأمارة راجحاً فيصبح مأولاً .
والظن النوعي هو الملاك في حجية الظهور عند العقلاء .
ولا فرق بين النص والظاهر في المدلول الفعلي لهما ، وتكون دلالة كل واحد منهما القطع .
أما إذا جاء النص بخلاف الظاهر ، فحينئذ لا تبقى موضوعية للظاهر ويسقط عن الدلالة .
ويشترك النص والظاهر في الكشف عن قصد ومراد المتكلم ، والفرق بينهما إفادة القطع من النص ، بينما يفيد الظاهر الظن المعتبر لإحتمال خلافه.
فيدخل في الظاهر إحتمال عدم صدور الكلام لبيان المراد الجدي من الظاهر ، لسبب عقلائي مثل الخوف أو التقية ، والمداراة ، أو غير عقلائي وغفلة المتكلم عن مقتضى ظهور كلامه مع أنه لم يقصده .
وروى الكليني (عن العباس بن معروف ، عن علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام: اختلف أصحابنا في رواياتهم عن الصادق عليه السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلّهما إلا على الأرض ، فأعلمني ، كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك ؟
فوقّع عليه السلام : موسّع عليك بأيّة عملت)( ).
وهو من النص والظاهر ، النص في جواز صلاة الصبح في المحمل حال السفر ، أما الثانية فظاهره في عدم جواز صلاة الصبح في المحمل ، فيمكن الجمع بين الروايتين أن الصلاة على الأرض أولى مع الإمكان وقاعدة نفي الحرج لذا قال الإمام عليه السلام بالتخيير (موسّع عليك بأيّة عملت) والمؤول لغة من الأول وهو الرجوع والعودة .
أما في الإصطلاح فهو حمل اللفظ على المعنى المرجوح ليخرج النص والظاهر ، فلا يحتمل النص إلا معنى واحداً ، وأما الظاهر فلانه المعنى الظاهر .
والمؤول على قسمين :
الأول : صحيح مقبول ، وهو الذي دل عليه دليل صحيح ، وأستشهد في علم الأصول بقوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ] ( ) فالمراد أسأل أهل القرية لأن القرية لا تسئل ، أما المختار فان الآية تشمل الحكم الظاهر بطلب ابناء يعقوب من أبيهم أن يسأل ذات القرية وحيطانها وأشجارها لأنه نبي قد يسأل الجمادات فتجيبه بفضل ولطف من عند الله .
الثاني : مؤول فاسد مردود ، مما ليس عليه دليل صحيح كتأويل المعطلة [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( )ومثل [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]( ).
سئل الصادق عليه السلام عن قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]( )، قال (بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش، بائن من خلقه، من غير أن يكون العرش حاملا له، ولا أن يكون العرش حاويا له، ولا أن العرش محتاز له، ولكنا نقول: هو حامل العرش، وممسك العرش، ونقول من ذلك ما قال: (وسع كرسيه السموات والارض) فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته، ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي ) ( ).
والعمل بالظاهر واجب إلا مع الدليل الذي يصرفه إلى المؤول ، ومن المؤول [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ] ( ) فليس للإنسان جناح فيحمل على بر الوالدين والخضوع لهما ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى[فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا] ( ).
ومن المؤول [وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ] ( ) مع قيام الأمارة على الحكم لا يبقى موضوع للأصول يكون كل واحد منهما قطعي الصدور ، وظني الصدور ، أو أحدهما يكون قطعياً والآخر ظنياً ، لإتحادهما في الحجية .
ولا يلزم الرجوع إلى الأصول العملية من البراءة والإشتغال والتخيير .
ومن الظاهر قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ] ( ).
فيحتمل الطهر هنا وجوهاً :
الأول :إنقطاع الحيض ، ومعنى طهرت أي من الدم والحيض ، لأن معنى يطهرن بالتخفيف إنقطاع الدم عنهن.
وقال الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة لا يجوز وطئ الحائض حتى تغتسل ، وقال الحنابلة نصف دينار هو كفارة وطئ الحائض ، قيل هو من مفردات المذهب ، وقال الحنفية والشافعية باستحباب التصدق بدينار إن كان الجماع في أول الحيض ونصفه إن كان في آخره .
وقال الإمامية بالتصديق بدينار إذا كان الوطئ في أول الحيض ، ونصف دينار إذا كان في وسط الحيض ، وربع دينار في آخره وقد ذكرته في رسالتي العملية (الحجة) ( ).
الثاني : تطهرن أي غسلن محل الدم ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( ).
الثالث : غسل الرأس والبدن ، وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة .
الرابع : الوضوء .
الخامس : التيمم مع فقدان الماء.
أيضاً [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ] ( ) و[فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ] ( ) كل منهما جاءت السنة النبوية وقول المعصوم ببيانه .
والإجماع على جواز الإستمتاع بما فوق الأزار ، وأختلف فيما بين السرة والركبة من دون الجماع .
وقيل اليهود كانوا لم يؤاكلوا الحائض ولم يجامعوها .
ولما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال اصنعوا كل شئ إلا النكاح ، وقيل أستثنى بعض الحنابلة من به شبق ويخشى الوقوع في الحرام ، فله أن يجامع زوجته وهي حائض .
ووافق الحنابلة الإمامية باستمتاع الزوجين بما دون الفرج مطلقاً سواء بحائل أو بغير حائل .
[وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ] ( ) مجمل .
ومن القواعد عدم الإجتهاد في موضع النص أي القرآن والسنة ، لأن القرآن والسنة هما المصدر الأول والثاني للتشريع .
واللفظ جنس يشمل النص والظاهر والمجمل .
فالنص هو اللفظ الذي يفيد معناه بنفسه من غير احتمال غيره ليخرج الظاهر الذي يفيد معنى بنفسه ولكنه قد يفيد معنى آخر وإن كان ضعيفاً ، إذ أن النص لا يتعدد فيه المعنى .
ويخرج المجمل لأنه يحتمل عدة معان لا يفيد أحدها إلا مع القرينة وانضمام غيره له .
[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
فجمعت الآية أعلاه بين أمر (فاعتزلوا) ونهي (ولا تقربوهن) وكل منهما مجمل ، كما أن قوله (هو أذى) مجمل لأن الأذى من الكلي المشكك ومن النص [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ) وقوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
وكذا (يسألونك) فالسؤال نص ، ولكن الذين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجمل مردد بين الصحابة واليهود والمشركين ، والظاهر هم الصحابة للقرينة [فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ] ( )، بصيغة الخطاب وقد ورد لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة ، لبيان أن هذه الآية جمعت بين النص والظاهر والمجمل .
إفادة في كل من :
الأول : الحلية .
الثاني : البيع عقد بين طرفين .
الثالث : الحرمة .
الرابع : الربا وهو أخذ الزيادة الربوية .
الخامس : نفي التماثل.
الأمارة كل شئ يثبت متعلقه ولا يبلغ درجة القطع واليقين مثل خبر الواحد ، الظاهر .
والأصل العملي لا يثبت متعلقه بأحكام شرعية ، وهي مرجع المكلف عند عدم العلم بالحكم الواقعي ، وعدم وجود أمارات معتبرة .
ويقدم الإستصحاب على باقي الأصول .
والمشهور حجية مثبتات الأمارات دون مثبتات الأصول .
لا بأس بتأليف مجلد بعنوان :
الأول : علم الأصول في القرآن .
الثاني : علم الأصول في السنة النبوية .
قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] وكل من الحلية والبيع والحرمة والربا من النص.
وكل بيع هو حلال إلا ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم ، وكذا من الظاهر [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ]( ).
(وما طاب) يحتمل إرادة ما لذّ لكم أو ما اشتهيتم ، أو ما حلّ لكم ، لكن ورد بدليل آخر أن المراد من طاب موضوعية الإختيار فيما أحل لكم و حكم الظاهر والأظهر مصطلح في الفقه يطلق على أرجح الإحتمالين أو الروايتين أو الوجهين .
والأظهر مرتبة أعلى من الظاهر ، ويقال في الفتوى على الأظهر ، على الأقوى.
إذا وقع التعارض بين الإجمال والتخصيص يقدم التخصيص لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص , ولا حجة للمجمل حتى يتبين .
لقد حرم الله عز وجل أربعة عشر صنفاَ من النساء , سبعة من جهة النسب وهن : الأمهات والبنات والاخوات والعمات والخالات , وبنات الأخ وبنات الأخت .
وسبعة من غير جهة النسب وهن :
الأول : الأمهات من الرضاعة .
الثاني : الأخوات من الرضاعة .
الثالث : أمهات النساء .
الرابع : بنات النساء بشرط الدخول في الأمهات .
الخامس : أزواج الأبناء .
السادس : ازواج الآباء
السابع : الجمع بين الأختين .
قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وحرمة نكاح زوجة الأب وردت في الآية السابقة قال تعالى [وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً] ( ).
وقال صاحب الكفاية (أن إثبات الإجمال والبيان لا يكاد يكون بالبرهان ), أي أنه من الوجدانيات , ولكن يجوز اتخاذ البرهان طريقاَ لإستقراء الظاهر , وكذا تفسير القرآن بالقرائن , و(البهيمة كل ذات أربع قوائم من ذوات البر والماء والجمع بهائم)( ).
ولكن قيدها في الآية بان المراد بهيمة الأنعام على نحو الخصوص ليخرج الحيوان الوحشي وغيره , وسئل أحد العلماء هل يؤكل القرد قال : ليس من بهيمة الأنعام .
وفي قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة إلا بطهور) يكون الإجمال بالترديد بين أمرين :
الأول : إرادة الكمال .
الثاني : المقصود تعلق صحة الصلاة بشرط الطهارة .
وتحتمل سلامة آيات السلم من النسخ وجوهاً :
الأول : إنها من النص .
الثاني : إنها من الظاهر .
الثالث : إنها من المجمل .
المختار هو الأول ، فلا دليل على احتمال نسخها أو ثبوت عدم نسخها لا يتم إلا بعد التحقيق واسقاط الوجوه المجتملة في نسخها.
قضاء العبادات عن الميت
من مصاديق ورود حرف الجر للظرفية (في) في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بسط سلطان الإنسان على ما في باطن الأرض من المعادن كما هو ظاهر بوضوح في هذا الزمان ومنه الصلة بين الأحياء الذين على ظهر الأرض والأموات الذين تحت الثرى .
وقد ورد لفظ (الثرى) مرة واحد في القرآن في قوله تعالى [لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى]( )، ومن وجوه الصلة دعاء الأحياء للأموات , والصدقة نيابة عنهم , وأداء ما فاتهم من العبادات والكفارات ومنها آثار العمل الصالح الذي خلفه الميت وراءه مما فيه نفع عام .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (” إِذَا مَاتَ الإِنسانُ انقطع عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاِتٍ : إِلاَّ مِنْ صَدَقَةَ جَارِيَةٍ ، أَوْ علْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) ( ).
واختلف في قضاء الولد الأكبر للصلاة الفائتة ، والصيام عن أبيه على وجوه :
الأول : ليس من صلاة قضاء على الولد الأكبر لقوله تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى] ( ).
الثاني : يقضي الولد الأكبر من الذكران ما فات عن أبيه من الصلاة التي فاتته عن مرض وعذر دون التي تركها عمداً فلا تقضى عنه ، وإليه ذهب السيد المرتضى .
الثالث : تقضى عنه حجة الإسلام وعليه النص والإجماع والصيام ببدنه .
ويجوز الإستئجار في المقام لأنه واجب غيري بالعرض ، وليس واجباً عينياً .
الرابع : يقضي الولد الأكبر ما فات أباه من الصلاة والصيام والحج سواء فاته عن عذر أم عمداً .
وهو المختار لقاعدة الإشتغال ، ورجاء المطلوبية ، وللحديث النبوي أعلاه ، وعمومات بر الوالدين ، ولأن الصلاة والفرائض العبادية خير محض .
الصبر سلام في الدنيا والآخرة
لقد جعل الله سبحانه كل إنسان كائناً مستقلاً ، وجاء التنزيل والنبوة ببيان قانون تحمل الإنسان لمسؤوليات عمله ، وحضور هذا العمل معه في الآخرة باحصاء دقيق وتام من عند الله ، قال تعالى [وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
وتضمن التنزيل البعث على الصبر ، وتأكيد قانون تقوم الإيمان بالصبر ، بل أن استدامة الحياة الدنيا لا تكون إلا بالصبر الخاص والعام، أي صبر الأفراد وصبر القبائل والملوك والأمم.
وهل يمكن القول بقانون لا تستديم الحياة ولم تصل إلى أيامنا هذه إلا بالصبر ، الجواب نعم ، وهو من بديع خلق الله عز وجل للإنسان ، ويكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، ونفخ فيه من روحه ليتخذ الصبر منهاجاً.
ومن الآيات في خلق آدم أنه عاش هو وحواء برهة من الوقت في الجنة ، ونعيمها ، وخالط الملائكة أشرف صاحب من الخلائق ليهبط إلى الأرض ، ونكدها وتعبها ، ولم يكن في الجنة لهما عدو إلا إبليس ، لقانون إنتفاء العداوة في السماء ، وقانون إنقطاع أهل السموات من الملائكة لطاعة الله إنقطاعاً تاماً ، بينما كانت عداوة إبليس حاضرة لآدم وحواء حالما هبطا إلى الأرض .
لأصالة الإطلاق في قوله تعالى [فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى] ( )، ولان الدنيا دار امتحان وابتلاء .
وتدل آيات القرآن على معرفة إبليس وهو في الجنة بأن آدم ستكون له ذرية وأبناء ، كما في التنزيل [قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) وهذه المعرفة من تعليم الله عز وجل الأسماء لآدم وتعليمه الملائكة بها ، وكان إبليس ساعتئذ مع الملائكة .
قانون تعقب الإخراج للقتل سلام
من إعجاز القرآن مجئ الأمر في آية السيف باخراج المشركين من الديار بعد الأمر بقتلهم , فكيف يخرج أو يُخرج الذي يُقتل , فلابد من وجود نكتة عقائدية في هذا الأوامر وترغيبها ، من جهات :
الأولى : هذا القانون من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثانية : إرادة التخويف والوعيد في القتل .
الثالثة : قتل طائفة من المشركين ، وإخرج الباقين من مكة ، وتنزيههما من الشرك ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة : بناء دولة الإسلام والسلام ، للملازمة بينهما .
الخامسة : إخراج المشركين من مكة تأديب لهم، ودعوة لهم للإيمان ، بينما كان إخراجهم للمسلمين ظلماً وسبباً في زيادة الإيمان ، ودخول الناس في الإسلام .
لقد ورد في آية البحث [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( ) ومن معاني الآية إرادة التفكيك في الآية , فمن المشركين من يُقتل في سوح المعارك , أما الذي في داخل مكة فهو مهدد بالطرد منها.
ويختص هذا الطرد بخصوص الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة , وهو من معاني مع إطلاقها إذ أن الأصل هو اتحاد موضوع الضمير (هم) في (اقتلوهم) و (اخرجوهم) .
ومعنى (ثقفتموهم) أي أدركتموهم ووجدتموهم كمعتدين , وهو من معاني اختتام الآية السابقة [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) لإفادة المراد من (اقتلوهم) أي دافعوا وقاتلوهم لأنهم معتدون.
والقرآن يفسر بعضه بعضاَ ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ).
من معاني [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) الخطاب إلى المسلمين بعدم قتال الذين لم يقاتلوهم من المشركين ومن أهل الكتاب , فيجب أن ينحصر الأمر بقتال الذين يقاتلونهم ولا يقتلوا النساء أو الصبيان أو الشيوخ أو أهل النسك والعبادة وبه جاءت السنة النبوية ، إذ تضمنت الآية الأمر الصريح إلى المسلمين (ولا تعتدوا) .
كما استثنى الأمر بقتال المشركين الذين لهم حلف وعهد مع حلفاء المسلمين كخزاعة أو يهود المدينة , إذ قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ]( ) أي الأمن والسلامة بالواسطة ، فحتى وإن لم يكن لهم حلف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فأن لهم حلفاً مع حلفاء المسلمين لإرادة نشر الإسلام والسلم والموادعة والتآلف ونبذ القتال .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وقوع إخراج المسلمين للمشركين من مكة إلا أنه لابد من مصداق وامتثال للآية القرآنية , وهو الذي حصل يوم فتح مكة إذ فرّ بعض رؤساء المشركين مثل عكرمة بن ابي جهل , وأبو هبيرة , كما فرت قينة لعبد الله بن حنظل كانت تغني بهجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أن (قينتا ابن خطل فرتنا وقريبة فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأخرى فأمنها فعاشت مدة ثم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما سارة فاستؤمن لها أيضا فأمنها عليه السلام فعاشت إلى أن أوطأها رجل فرسا بالابطح في زمن عمر فماتت)( ).
ثم أسلم عكرمة كما تحقق مسمى الطرد بفرار كفار قريش إلى رؤوس الجبال يوم فتح مكة , وصاروا ينظرون ماذا يقع فاظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسامح النبوة المعجز , وعفى عن الجميع باستثناء بعض أفراد ممن آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
و(عن سعد قال : لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين) ( ).
ليس بسبب افترائهم وهجائهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وشتمهم لأعراض المسلمين وحده , بل كانوا سبباَ في تحشيد الجيوش ونفر المشركين , وقتل عدد من المسلمين.
ولجأ أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لجأ يوم الفتح إلى عثمان بن عفان لأنه أخوه من الرضاعة فاخفاه , وبعد أن هدأ الطلب جاء به شفيعاَ إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاستأمن له وطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبل بيعته فصمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قليلاَ ثم قبل مبايعته .
أما عكرمة فإنه قاد جيشاَ صغيراَ يوم فتح مكة لمقاتلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أكثر أهلها يومئذ مسلمون إلى جانب مجئ عشرة آلاف من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يستطع عكرمة وأصحابه الثبات في الميدان بل انهزموا خائبين فخرج عكرمة من مكة وركب البحر من جدة , وعن سعد بن أبي وقاص قال (وأما عكرمة فركب البحر فاصابتهم عاصفة فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً .
فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الاخلاص ما ينجني في البر غيره ، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه إن آتى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوّاً كريماً . قال : فجاء فأسلم) ( ).
وحتى هؤلاء النفر القلة عفا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثرهم بالشفاعة والإجارة ونحوها.
عفو النبي (ص) عن ابن أبي سرح
لقد عفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح مع شدة إيذائه للنبي وإفترائه على التنزيل.
كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة وصار أحد الذين يكتبون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوحي.
ولكنه رجع إلى مكة وافترى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرضاء لكفار مكة وادعى أنه إذا أملى عليه النبي (سميعاَ عليماَ) فأنه يكتب (عليماَ حكيماَ) وإذا قال (عليماَ حكيماَ) كتب (سميعاً عليماَ) .
ولا أصل لدعواه هذه فهو كافر كذاب وإن تلاقفت كتب التفسير كلامه على نحو التسليم والتصديق بأنه كان يحرف هذه الكلمات , فمثلاَ (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحيَ إلي ولم يوح إليه شيء}( ).
قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي ، أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أملى عليه (سميعاً عليماً) كتب (عليماً حكيماً) وإذا قال (عليماً حكيماً) كتب (سميعاً عليماً) فشك وكفر وقال : إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إليّ)( ).
ولكن لم يثبت هذا التحريف , وعلى فرض ثبوته فإنه لا يفيد إدعاء تلقي الوحي لأنه محصور بتبديل بعض الأسماء الحسنى في خواتيم الآية عند عبد الله بن سعد وحده من بين كتاب الوحي , كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحفظ هذه الخواتيم كما أنزلت , ويتلوها في الصلاة ويحفظها الصحابة ويتلونها في صلاتهم , لبيان أن طريق التحريف مغلق وبائس , ولكن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذب في إدعائه لقاء طلب ود وهبات كفار قريش .
وعلى فرض قيامه بالتحريف فإن كشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم له سبب لفراره إلى مكة , ثم أن جبرئيل كان يعارض النبي كل سنة بالقرآن فيتم ضبط خواتيم الآيات .
لقد أخرج المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين إلى المدينة وطائفة منهم إلى الحبشة , واستولوا على أموالهم وديارهم وأملاكهم.
وعندما تم فتح مكة لم يستول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ملك أحد , بل لم يسترد داره ولكنه ورثه من آبائه .
ولم يخرج إلا نفر بعدد أصابع اليد من مكة وليعود أكثرهم إليها فيما بعد من غير فترة طويلة .
ترى ما هي النسبة بين إحكام آيات السلم وبين عفو النبي عن عبد الله بن سعد بن أبي سرح وغيره.
فرار هبيرة من دون حاجة للفرار
كان الذين يهجون النبي والصحابة أضعاف عدد الذين طلبهم يوم فتح مكة ويدل على كثرتهم قوله تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ] ( )، ونزوله في مكة قبل الهجرة.
وفي الآية (قيل : هم شعراء قريش : عبد الله بن الزبعري ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، ومسافع بن عبد مناف ، وأبو عزة الجمحيّ . ومن ثقيف : أمية ابن أبي الصلت . قالوا : نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه ، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم) ( ).
وفرّ هبيرة بن أبي وهب المخزومي يوم فتح مكة إلى نجران , ومات هناك كافراَ .
وكان هبيرة زوج أم هاني بنت أبي طالب أخت الإمام علي عليه السلام وقد استجار بها اثنان من أبناء عمه يوم الفتح هما (الحرث بن هشام وزهير بن أبى أمية وقيل أحدهما جعدة بن هبيرة فأجارتهما فأراد على قتلهما فدخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلى الضحى فذكرت ذلك له فأمضى جوارها وقال قد أجرنا من أجرتِ وامنا من أمنتِ) ( ).
فمن باب الأولوية أنها تجير زوجها , وتشفع له عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أنه غير مطلوب من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وبينما كان يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشعره وهو يعلم ان هذا الهجاء لم يطلب لذاته , إنما هو وسيلة لصد الناس عن دخول الإسلام , وتأليبهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صار يبعث الأشعار من نجران إلى أم هانئ وهي في المدينة يخاطبها برقة وندامة ، ويذكر عتابها له ، منه :
(أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ أَتَاك سُؤَالُهَا … كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
وَقَدْ أَرَقّتْ فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ … بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ خَيَالُهَا
وَعَاذِلَةٍ هَبّتْ بِلَيْلِ تَلُومُنِي … وَتَعْذِلُنِي بِاللّيْلِ ضَلّ ضَلَالُهَا
وَتَزْعُمُ أَنّي إنْ أَطَعْت عَشِيرَتِي … سَأَرْدَى . وَهَلْ يُرْدِينِ إلّا زِيَالُهَا
فَإِنّي لَمِنْ قَرْمٍ إذَا جَدّ جَدّهُمْ … عَلَى أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي … إذَا كَانَ مِنْ تَحْتِ الْعَوَالِي مَجَالُهَا
وَصَارَتْ بِأَيْدِيهَا السّيُوفُ كَأَنّهَا … مَخَارِيقُ وِلْدَانٍ وَمِنْهَا ظِلَالُهَا
وَإِنّي لَأَقْلَى الْحَاسِدِينَ وَفِعْلَهُمْ … عَلَى اللّهِ رِزْقِي نَفْسُهَا وَعِيَالُهَا
وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ … لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
فَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ … وَعَطَفَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةِ … مُلَمْلَمَةٍ غَبْرَاءَ يَبْسٍ بِلَالُهَا)( ).
ولأن وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين إلى المدينة إخوة لهم من الأنصار أووهم وأكرموهم وتقاسموا معهم أموالهم فان الذي فرّ من مكة يوم الفتح كافراً عاش في ذل وهوان وفقر وغربة وخيبة ، وهذا التباين الجلي من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان يوم فتح مكة يوم عفو عام ، وغبطة وبداية لأمن مجتمعي دائم ، وأدرك الناس صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باكرامه للبيت الحرام ، وإمتناعه عن سفك الدماء فيه ، وأصابت الندامة من هرب من مكة من الكفار ، لأن اقارنه الذين بقوا فيها لم يروا إلا الصفح والعفو .
وكانت الأخبار تصله بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عفا عمن هو أشد منه في عدائه للإسلام ، وأنهم أصلحوا أنفسهم وأحسنوا إسلامهم.
ومنهم من جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس سرية أو اعطاه أمرة ورياسة إلى جانب اغداقه على المؤلفة قلوبهم ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم يوم معركة حنين وأكثرهم من قريش ممن أسلم يوم الفتح ، إذ اعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل واحد منهم مائة ناقة .
و(عن يحيى بن أبي كثير قال : المؤلفة قلوبهم : من بني هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن بني أسد حكيم بن حزام ، ومن بني عامر سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ، ومن بني جمح صفوان بن أمية ، ومن بني سهم عدي بن قيس ، ومن ثقيف العلاء بن حارثة أو حارثة ، ومن بني فزارة عينية بن حصن ، ومن بني تميم الأقرع بن حابس ، ومن بني نصر مالك بن عوف ، ومن بني سليم العباس بن مرداس . أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل رجل منهم مائة ناقة مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى ، فإنه أعطى كل واحد منهما خمسين)( ).
قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، ولم ينحصر إعطاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم بخصوص معركة حنين .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : بعث علي بن أبي طالب عليه السلام من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذهيبة فيها تربتها ، فقسمها بين أربعة من المؤلفة : الأقرع بن حايس الحنظلي ، وعلقمة بن علاثة العامري ، وعينية بن بدر الفزاري ، وزيد الخيل الطائي .
فقالت قريش والأنصار : أيقسم بين صناديد أهل نجد ويدعنا؟
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنما أتالفهم)( ).
و(عن ابن عباس في قوله {والمؤلفة قلوبهم} قال : هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أسلموا ، وكان يرضخ لهم من الصدقات ، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً قالوا : هذا دين صالح ، وإن كان غير ذلك ، عابوه وتركوه)( ).
النسبة بين الصبر والصيام
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الصبر والتحمل وتلقي الأذى ، وهل هو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما احتجوا على خلافة الإنسان في الأرض ، الجواب نعم.
فذات الخلافة امتحان وإبتلاء وسلسلة من الإختبارات اليومية ، وضروب الصراع بين العقل والنفس الشهوية ، بين الصبر والجزع ، والموت يزحف كل يوم على الإنسان ، وجعل الله عز وجل مقدماته من دبيب الشيب في الرأس على نحو تدريجي ثم المرض ووهن البدن.
وتفضل الله عز وجل ورزق الأنبياء والمؤمنين من أتباعهم وعامة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة فريضة الصيام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وتعني الكتابة هنا الفرض والوجوب ، مما يدل على أن الصيام واجب على الأنبياء السابقين واتباعهم ، وتدل عليه لغة الإطلاق في قوله تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )، وعدم تقييد الآية بخصوص الأنبياء.
وهل تدل آية الصيام هذه على عدم ثبوت صيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطوعاً بعض آيام السنة حتى نزلت فريضة الصيام الجواب لا.
والمختار أن النسبة بين الصبر والصيام هو العموم والخصوص المطلق ، فمع أن الصيام فريضة عبادية فانه فرع الصبر ، لذا يسمى شهر رمضان شهر الصبر.
والصبر ملكة يحتاجها الإنسان كل ساعة من ساعات حياته سواء بالأمور الإعتيادية أو الأحوال الطارئة والمفاجئة .
ويجتمع الصبر والصيام في دعوة المسلمين إلى سبل السلم ، وبناء المجتمعات وفق قواعد الأمن العام للحاجة لهذه القواعد في إقامة الفرائض العبادية وحسن المعاملة ، وطيب العشرة.
وهل قواعد الأمن من مصاديق الرحمة العامة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب نعم ، فهذه الرحمة توليدية وهي كالشجرة ذات الأغصان الكثيرة التي تصل إلى كل بلدة وقرية.
ولم ترد الإستعانة بالصبر والصلاة والتي وردت مرتين في القرآن إحداهما آية البحث ، والأخرى قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) ولا أحد يستطيع القول أن الإستعانة بالصبر والصلاة من الشرك لأن الله عز وجل هو الذي أمر بها ولأنها استعانة فعلية ، وفرد من أفراد العبادة لله عز وجل ، ولبيان السعة في أحكام الشريعة ، وحرمة نعت الذي ينطق بالشهادتين بالكفر ولغة التكفير .
وكلا آيتي الإستعانة بالصبر أعلاه من سورة البقرة وهي أول السور التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، وفيه إخبار وإنذار عن شدة ما يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المشركين ، وغزواتهم المتكررة ، على المدينة وأطرافها ، ولزوم تحلي المسلمين بالصبر والإنقطاع إلى الصلاة ، وفيه دليل على عدم قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغزو المشركين ، وعلى إرادته السلم والصلح ، والموادعة مع الناس .
بين الصبر والسلم
النسبة بين الصبر والسلم هي العموم والخصوص المطلق على المختار ، فالسلم فرع الصبر ، لذا فان آيات السلم محكمة غير منسوخة.
أما النسبة بين الصبر والقتال فهو التضاد من جهات :
الأولى : من الصبر حبس النفس عن الخصومة وأسباب الإقتتال.
الثانية : الصبر على الأذى والظلم من الطرف الآخر ، سواء كانوا من أهل الكتاب أو الكفار .
الثالثة : إجتناب الفتنة ومقدمات القتال ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
الرابعة : الصبر في تعاهد السلم والتقيد بشروطه ، و(عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق) ( ).
الخامسة : الصبر على نقض الطرف الآخر بعض الشروط ، وعدم التقيد بها حسب المصلحة والمنفعة العامة ، وعندما نقضت قريش شروط صلح الحديبية توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة من أجل نشر واستدامة السلم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي بيانه .
وقد تعددت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية ضد الإرهاب سواء التي تخص التنزيل أو السنة النبوية القولية والفعلية.
ومن مصاديق السلم الصبر عن القتال بدفعه وصرف مقدماته ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) ومن مفاهيمه وجوه:
الأول :لا تقاتلوا الذين يقاتلونكم من الكفار .
الثاني : لا تقاتلوا الذين يتوعدونكم بالتهديد، وقد كانت قريش تبعث رسائل التهديد إلى كل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار ، أما تهديد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين بالقتل والأسر والوثاق ، وأما الأنصار فبتخريب دورهم ونهب أموالهم ، وقتل أو أسر طائفة منهم.
وهل من السلم صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا التهديد والتعدي والذي يأتي شفوياً وعبر الرسائل الخطية ، وبعث الرسل ، والإعلان أمام وفد الحاج في موسم الحج.
الجواب نعم ، ليس هذا فقط بل إن الله عز وجل يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالدعوة إلى السلم في هذه الحال أيضاً للإطلاق الزماني والمكاني في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
الثالث : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا بلغه تحشيد الجيوش للهجوم على المدينة يبعث من يتأكد من الأمر ، ولا يتعجل بالهجوم ، وإذا هجم اكتفى بتفريق الجموع.
ترى لماذا يبعث رسولاً وعيناً ، وهو الذي يعلم بالوحي حقيقة الأمر ، الجواب لتعليم القادة والأمراء وعامة المسلمين بعدم التعجل بالقتال أو أسباب الإستفزاز والهياج، ثم إذا تأكد من التحشيد للهجوم على المدينة يسير إليهم ويكتفي بتفريقهم .
ومن الإعجاز في نبوته إن هؤلاء لا يعودون للتحشيد مرة أخرى لجهات:
الأولى : بركة آيات القرآن ، ونفاذها إلى شغاف القلوب ، وهو من أسرار اتصاف السور المكية بالقصر وكثرة الإنذارات.
الثانية : بعث الخوف في قلوب المشركين ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
الثالثة : دخول طائفة من الناس الإسلام ، ومنهم أفراد في ذات الجموع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
قانون ثوابت منهاج النبوة
هناك ثوابت في منهاج النبوة منها :
الأول : قانون مجئ كل نبي بالإحتجاج، وهل احتجاج الأنبياء على الذين كفروا إلهام ووحي من عند الله ، أم أنه باجتهاد وعلم حصولي منهم ، المختار هو الأول.
وفي داود عليه السلام ورد قوله تعالى [ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ]( )، وهل من موضوعية للملك والسلطان في الإحتجاج وأثره على السامعين ، الجواب نعم ، ليكون من معاني الآية جهات :
الأولى : وشددنا ملكه ليحتج على الناس .
الثانية : وشددنا ملكه لينصت له الناس .
الثالثة : وشددنا ملكه لبيان معجزة تكون عوناً له في احتجاجه وقبول بني إسرائيل لقوله ، وتلقي أوامره بالإستجابة .
الثاني : قانون إتخاذ الأنبياء الإحتجاج سلاحاً ، وهو من الدلائل على صبغة السلم المصاحبة للنبوة ، والتي تجلت في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن خصائص نبوته أنها مرآة لسنن الأنبياء ومنها حمله للواء السلم ، وتحليه بالصبر.
الثالث : قانون بيان الأنبياء للتضاد بين الإيمان الكفر ، وبين التوحيد وعبادة وتقديس الأوثان .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد) ( ).
قانون نفي السنة النبوية لنسخ آيات السلم
الحمد لله الذي جعل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق إلا عن الوحي , ليكون قوله وفعله حجة للعلماء وعامة المسلمين , ومناسبة لإستنباط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية , فما يرد في القرآن بصيغة الإجمال تجد له بياناَ وتفسيراَ في القرآن أو في السنة النبوية.
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان السنة النبوية للقرآن بما ينفع أجيال المسلمين المتعاقبة.
فلم يستوف العلماء فرائد هذا الباب , ومنها دلالة السنة النبوية على سلامة آيات السلم من النسخ , وهو علم مستحدث هنا باستحضار الشواهد من القرآن والسنة القولية والفعلية والدفاعية التي تدل على تعاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات السلم وعمله بمضامينها ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن التشريعات الإسلامية دعوة وتثبيت للسلم المجتمعي .
وكذا حكومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وامامته للناس فهي سلم عام وأمن ، وباعث على الطمأنينة , وإحقاق للحق , ونشر للعدل .
ومن آيات السلم قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( ) .
وتلقاها الصحابة والعلماء بالتسليم ولم يقل بنسخها إلا النادر , قال الثعلبي ({ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}( ) يعني بالخلّة التي هي أحسن {السَّيِّئَةَ} أَذاهم وجفاهم يقول : أعرض عن أذاهم واصفح عنهم ، نسختها آية القتال)( ).
وقد تقدم بيان عدم نسخها في الجزء السادس بعد المائتين ( ) .
ومن معاني قانون السنة النبوية بيان للقرآن , تأكيد السنة القولية والفعلية والتقريرية والدفاعية والتدوينية لسلامة آيات السلم من النسخ .
لقد كان قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن,ومنه تعاهده لآيات السلم بالقول والعمل للدلالة على كون آيات السلم محكمة غير منسوخة.
استفتاء
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ذكر في الجزء الأخير من الآية ٢٥ من سورة النساء [فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
وقد وضع الحد للزانية المحصنة الرجم .. وهنا ذكر نصف العذاب هل هو في الاخرة ام في الدنيا واذا كان في الدنيا من يعذبها ؟ وكيف ينفذ نصف العذاب . ثم ختم الله الآية بالصبر خشية العنت اي الزنا هل متعلق بالاماء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجواب :
إذا احصن : أي إذا تزوجن ، فليس على الأمة قبل الزواج من حد جلد ، وفيه نص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تخفيفاً عنها ، والآية جملة شرطية لا يتحقق جواب الشرط إلا بتحقق الشرط وتمام الآية هو [وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
وعن القاسم بن سليمان قال سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام (فإذا احصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، قال: يعني نكاحهن، إذا أتين بفاحشة)( )، وهو المروي عن ابن عباس .
وورد نص بان إحصانها إسلامها ، أي إذا اسلمت الأمة ثم زنت تجلد خمسين جلدة وإن لم تكن قد تزوجت فلا جلد ، وفيه نص عن الإمام علي عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {فإذا أحصن} قال : إحصانها إسلامها)( ).
وليس المراد من العذاب في الآية الرجم إنما المراد من كلمة العذاب أي من الجلد وحدها خمسون جلدة لقوله تعالى [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
أما الإشكال الذي ذكرتموه فيدفع بذات الآية وان المراد بالمحصنات هن الحرات اللاتي ليس لهن زوج وعذابهن مائة جلدة.
إذ ورد في أولها [وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ]( )، أي أن الألف واللام (نصف ما على المحصنات)، يفيد العهد وليس الجنس.
وقوله تعالى [وَأَنْ تَصْبِرُوا]( )،أي عن نكاح الإماء .
ويمكن أن نستقرأ قانوناً من هذه الآية وهو إذا دار الأمر في لفظ من آية قرآنية هل المراد الإطلاق والعموم أم خصوص التقييد الوارد في ذات الآية.
فالمختار هو الثاني فهو الظاهر ، إلا أن يدل دليل أو قرينة على الخلاف.
وهل المراد من هذه الآية تأكيد حكم الجلد في الزنا لغير المحصنة ، الجواب نعم .
ولو أبدل الجلد بالسجن كما هو في بعض الأحكام الوضعية في هذا الزمان فهل يصح أم أنه اجتهاد في مقابل النص ، الجواب هو الثاني ويصح مع وجود الراجح ، ومنه القوانين النافذة في البلد.