معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 243

المقدمــــــة
الحمد لله دائم النعم واسع العطايا باسط الرزق للمؤمن والكافر ، جميل الصنع خفي اللطف ، الحليم الذي لا يعجل ،والوهاب الذي لا تنفد خزائنه، ميسر كل عسير ، جابر كل كسير ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]( ).
الحمد لله مؤمن كل خائف ، مغني كل فقير ، مشد عضد كل ضعيف ، جاعل الفرج قريباً من الإنسان ، ومن حيث يعلم أو لا يعلم ، الرحيم بعباده كافة ، فلا يرضى بارهابهم وترويعهم بغير حق أو سلطان مبين.
وليس من حق في إخافة الناس جميعاً مع تباين مذاهبهم ، وتحصل هذه الإخافة العامة المذمومة من الفعل الإرهابي المتحد والمتعدد فيجب إجتنابه.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لا شريك له في ربوبيته ليس له شبيه في ذاته وأفعاله الذي جعل كلامه فوق كلام البشر بمراتب لا يعلم كثرتها إلا هو سبحانه فقال [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ) .
الحمد لله عظيم السلطان ، دائم الإحسان ، يعطي من سأله ومن لم يسأله ، وينتفع من عطائه للعبد القريب والبعيد ، والموجود والمعدوم ممن سبق ومن لم يولد بعد .
فيتخذ المؤمن النعمة لإنتفاع الأموات بالأجر والثواب ، ولصلاح الأبناء ، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إِذَا مَاتَ الإِنسانُ انقطع عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاِتٍ : إِلاَّ مِنْ صَدَقَةَ جَارِيَةٍ ، أَوْ علْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)( ).
والمراد من الدعاء في الحديث أعلاه المعنى الأعم فيشمل الإستغفار وقضاء ما فات الأب والأم من الفرائض العبادية كالصلاة والصوم والحج ،وإهداء الصدقة وقضاء الدين ، وتلاوة القرآن وإهداء ثوابها ، وصلة رحم الوالدين .
ولا يستقل أو يحتقر الميت أي هدية يتُحف بها سواء من الولد أو غيره ، وتلك التي تهدى له خاصة كقراءة الفاتحة أو التي تهدى للمتعدد من الموتى ولسكنة المقبرة ، فيقرأ الذي يمر عليها سورة الفاتحة فيوزع ثوابها عليهم ، وإن كانوا بعشرات الملايين كما في مقبرة النجف الأشرف بجوار مرقد الإمام علي عليه السلام ، واكتب هذه السطور على بُعد أمتار منها واعجل في كل من :
الأول : التدريس .
الثاني : الكتابة في أحسن كتاب مؤلف في تأريخ الإسلام على المختار بفضل ولطف من عند الله .
الثالث : تعجيل الخطى إلى هذه المقبرة كل يوم طوعاً وقهراً وانطباقاً ، فنسألكم الدعاء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ العَبْدَ الدَّرَجَةَ ، فَيقُولُ : أَيْ رَبِّ ، إِنَّى لي هَذِهِ الدَّرَجَةُ ، فَيقالُ : باسْتِغْفَارَ وَلَدِكَ لَكَ)( ).
وهل في الحديث دعوة لتهذيب الشباب أفعالهم ، وإجتناب الإضرار بالناس ، الجواب نعم.
لبيان المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق الإنسان أزاء نفسه ، وأسرته ومجتمعه ، والأموات والأحياء ومن لم يولدوا من الأبناء.
وما الإمتناع عن الإرهاب والتطرف إلا أحد هذه المسؤوليات للدلالة على القبح الذاتي للإرهاب وضرره العام للناس.
وهل يتأذى أهل القبور من الإرهاب والتفجيرات العشوائية ، أم ينحصر هذا الأذى بالأحياء.
الجواب هو الأول .
وهل يضر الإرهاب الأجيال اللاحقة ، الجواب نعم ، لذا لابد من استئصاله بالحكمة والهداية والتفقه والتثقيف والتعاون الدولي والأسري ، وإعداد أجيال تنفر نفوسهم من الإرهاب وتدرك قانون خلو الإرهاب من النفع الخاص أو العام .
وهذا الجزء هو الثالث والأربعون بعد المائتين من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ويقع بقانون التضاد بين القرآن والإرهاب ، إذ تتضمن كل آية من القرآن في منطوقها أو مفهومها أو دلالتها حرمة الإرهاب ، ومنافاته للقوانين المترشحة عن قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن فضل الله عز وجل صدرت فـي ذات هذا القانون الأجزاء:
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .
الحادي عشر : الجزء الخامس والثلاثون بعد المائتين .
الثاني عشر : الجزء السادس والثلاثون بعد المائتين .
الثالث عشر : الجزء الثامن والثلاثون بعد المائتين .
وسيأتي في هذا الجزء قانون فضل الله زاجر عن الإرهاب .
الرابع عشر : آخرها هذا الجزء الذي بين يديك وهو الثالث والأربعون بعد المائتين من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) .
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ما بينهما ،وجعل كل بقعة منها وعاء ومحلاً لعبادته وذكره ، وكأن الأرض كلها مسجد يذكر فيها اسمه، وتتجلى يوم القيامة مواضع وبقاع الأرض التي ذكر الله فيها بالتسبيح والحمد والتهليل أو الصلاة لبيان مصداق لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، والآية أعلاه إنحلالية وتقديرها بصيغة المفرد : وما خلقت أي فرد من الجن أو الإنس.
والنسبة هي التضاد بين العبادة وبين الإرهاب ، والتفجيرات العشوائية ، وقتل الأبرياء والإجهاز عليهم في الأماكن العامة ووسائط النقل العام والخاص .
ولم تختص الآية أعلاه وحرمة الإرهاب بالمسلمين إنما تشمل الناس جميعاً .
فيحرم صدور الإرهاب من أي إنسان ، وهل يدرك الإنسان في قرارة نفسه هذه الحرمة ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في خلق الإنسان وقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
اللهم لك الحمد حمداً كثيراً متصلاً أبلغ به رضاك ، وأرقى به إلى مراتب الشاكرين ، ويصير سبباً لمضاعفة فضلك وإحسانك وأنت القائل [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) .
الحمد لله في السراء والضراء والذي تفضل ومحى وصرف عنا من البلاء والأذى والضرر ما لا يعلمه إلا هو سبحانه ، ويتعلق هذا الصرف بالمنفرد والجماعة والأمة ، وجنس البشرية عامة .
وهو من مصاديق شآبيب الرحمة في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهل يمحو الله عز وجل ضروباً من الإرهاب ، الجواب نعم ، وهل ما محاه الله منها أكثر أم أقل مما وقع في الأرض ، الجواب هو الأول ، وليس من حصر لوجوه هذه الصرف ، إذ يبدأ من عزوف الإنسان عن الإرهاب ثم إمتناعه عن التنفيذ ، والأسباب الخارجية في إستئصال الإرهاب ومنها القوانين التي تحرم الإرهاب ، وسبل تنفيذها ، وعمل الأسرة والمؤسسات الدينية والسياسية ، والكتاب والمنتديات والوسائل الثقافية في بيان حرمة وقبح الإرهاب ، وكيف إنه ضرر محض خال من النفع والفائدة .
لقد أحب الله الإنسان ورزقه مرتبة الخلافة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) سواء كانت هذه الخلافة خاصة بالأنبياء أو عامة لبني آدم أو أنها تتألف من مصاديق متعددة جامعة للاثنين فانها واقية من الإرهاب ، وأذا أظهر رأسه فسرعان ما يزول فهو فتنة من الشيطان ، وإغواء النفس الغضبية ، وان حاول بعضهم الباسه لباساً روحياً ، ولا يكون الإرهابي شهيداً إنما يقف بين يدي الله للحساب ليؤاخذ على إضراره بالناس وإزهاقه النفوس البريئة .
سبحان الله رب العرش العظيم سبحانك إلا إله إلا أنت رب السموات السبع والأرضين السبع الحليم الكريم ، تعاليت وقطعت دابر الجبارين والمتكبرين ، فليس من أثر لفرعون ونمرود ، وأهلكت المستهزئين بالنبوة والتنزيل ، وأنت المنعم بقولك [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ *الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
ليكون من معاني الجمع بين الآيتين الإنتقام من المشركين الذين استهزئوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يأتهم البلاء للإستهزاء بالنبوة وحده ، إنما لصدوره عن منازل الشرك والضلالة .
و(عن الضحاك عن ابن عباس ، أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمداً كاهن ، يخبر بما يكون قبل أن يكون ، وقال أبو جهل : محمد ساحر؛ يفرق بين الأب والابن .
وقال عقبة بن أبي معيط : محمد مجنون ، يهذي في جنونه . وقال أبي بن خلف : محمد كذاب .
فأنزل الله {انا كفيناك المستهزئين}( ) فهلكوا قبل بدر) ( ).
لتكون الآية أعلاه وموضوعها من مقدمات معركة بدر ، وأن من هذه المقدمات ما هو تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسهيل لنصره يومئذ ، إذ هلك رؤساء الشرك يوم بدر بما تلبسوا وأقاموا عليه من وجوه :
الأول : الإقامة على الكفر وعبادة الأوثان .
الثاني : إنكار النبوة والتنزيل .
الثالث : الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونعته بأنه ساحر وأنه مجنون ، ويظهر التضاد بين قولهم وفعلهم كما ورد في التنزيل [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] ( ).
الرابع : الإصرار على القتال ، والإبتداء به.
ترى ما هي النسبة بين الإستهزاء بالنبوة وبين الإرهاب ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فهذا الإرهاب فرع له ، وإن حاول بعضهم إلباسه لباساً دينياً ، إذ يتعارض الإيمان والإرهاب ، وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً رحمة وداعياً للرأفة بالناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
اللهم إني اسألك موجبات وأسباب ومقدمات رحمتك وعزائم وطرق مغفرتك ، والغنيمة من كل بر بطاعتك ، والسلامة من كل إثم ، والتنزه عن الذنوب والحوم حولها ،والفوز بالجنة والنجاة من النار ، قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ.
الحمد لله الذي يزيد عليّ النعم مع كثرة وتكرار تقصيري في الشكر عليها .
الحمد لله على ما غاب عن خاطري من النعم والفضائل اليومية الجزيلة.
الحمد لله على الهداية إلى شكره والثناء عليه ، ومن التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الحمد لله الملك العزيز الجبار الذي علا فقهر ، وملك وقدر فعفا وغفر ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
الحمد لله الذي لا يقدر على إحصاء معشار الأشياء غيره ، وقد أحصى سبحانه كل شئ على نحو العلم التفصيلي ومن أسمائه تعالى (العليم) (العالم) (العلام).
اللهم لك الحمد في الأولى ، ولك الحمد والثناء والتضرع في الآخرة.
الحمد لله الذي أمر بحصر الرهبة منه تعالى بقوله [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، لتكون هذه الرهبة زاجراً عن الإرهاب.
لبيان عدم إنحصار التضاد بين القرآن مجتمعاً وبين الإرهاب ، إنما يقع التضاد بين الإرهاب وكل آية من القرآن سواء في منطوقها أو مفهومها.
وعن أبي البختري في حديث الأعرابي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين كونوا معلمين ولا تكونوا معاندين أرشدوا الرجل قال ثم جاء من الغد فقال اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد غيرنا قال ففعلوا به مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين كونوا معلمين ولا تكونوا معاندين أرشدوا الرجل)( ).
ويتجلى التضاد بين الإرهاب وسنن الهداية ، وليس فيه تعليم أو إرشاد ، إنما هو ضلالة وعناد.
ومن سبل محاربة الإرهاب الإبعاد والإبتعاد عن بطانة السوء والتي تحرض على العنف ، وفي التنزيل [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).
والمراد الإبعاد إعانة الشاب على إجتناب رفقة السوء وأهل التطرف ، أما الإبتعاد فهو اختيار الشاب نفسه إجتناب صحبة الأشرار والذين يحرضون على الإرهاب والعنف ولو باسم الدين والعقيدة.
لقد قام منهاج النبوة على التسامح ، وضمن التنزيل ثقافة التعايش وأرسى قواعدها إلى يوم القيامة ، ولا عبرة بالقليل النادر من مظاهر العنف والتطرف والإرهاب ، وإن لبست رداءً دينياً فهي بعيدة عن السنة النبوية التي هي رحمة عامة وخير محض .
ويتضمن هذا الجزء بياناً مختصراً لقوله تعالى [وَاسْتَرْهَبُوهُمْ] وكيف أن الله عز وجل لا يرضى على إخافة الناس ، وإن كانوا كافرين ، وعدم الرضا هذا من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ليدل بالأولوية القطعية على حرمة الإرهاب الذي هو إخافة واقعية للناس ، وليس تخيلية فقط ، ويعم الإرهاب الناس في إخافتهم لهم على مدار أيام السنة ، والله عز وجل لا يرضى بهذا .
وهل يختص قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، بالقدر المتيقن من السنة القولية وحدها ، أم يشمل السنة الفعلية أيضاً.
وتقدير الآية : وما يفعل عن الهوى.
المختار هو الثاني ، ومن باب الأولوية لأن عالم الفعل أظهر وأبين من عالم القول .
وهل يمكن اختصاص الآية أعلاه بآيات القرآن ، الجواب لا ، لأن النسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم ، ولا يختص الوحي بمصاحبة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإشارة إليه بتعيين الفعل ، إذ أن سبل صيغ الوحي للأنبياء لا يعلم كثرتها إلا الله عز وجل ، ولبيان أن منافع الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستمرة إلى يوم القيامة .
قال تعالى [وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن إتخاذه سبل السلامة الفكرية والفعلية من الإرهاب .
وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية بالتنزه عنه ، والتبرأ منه ليكون من معاني قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، بالعصمة والتوقي من الإرهاب .
حرر في الخامس من شهر جمادى الأولى 1444
30/11/2022

تعريف الإرهاب
الإرهاب : لغة الإخافة والإفزاع والترويع .
يقال (رهب : رَهِبْتُ الشَّيءَ أَرْهَبُهُ رَهَباً ورَهْبةً، أي: خفته. وأَرْهَبْت فلانا)( ).
(والرَّهْبَاءُ: اسْمٌ من الرَّهَب. والإرْهَابُ: الرَّدُّ، أرْهِبْ عنكَ الإبلَ: أي رُدَّها. والرُّهْبَانُ: الرَّهْبَةُ، والرَّهَبُوْتُ مِثْلُه، ويقولون: رُهْبَاكَ خَيْرٌ من رُغْبَاك)( ).
وليس من تعيين وحصر لتعريف الإرهاب ، والإختلاف فيه صغروي لوضوح موضوع الإرهاب للناس ، ومن وجوه تعريفه :
الأول : العمل القائم على تخويف الناس بالعنف الذي يتضمن انتهاك الحقوق .
الثاني : العمل الإجرامي المقترن بالعنف ونشر الرعب .
الثالث : الإتيان بظلم وتعد بغية تحقيق هدف معين .
الرابع : إسقاط الضحابا والخسائر بالعنف غير المشروع شرعاً وعقلاً وقانوناً .
الخامس : أعمال عنف لجذب الإنتباه ، والتعبير عن الغضب والسخط.
السادس : بث الرعب في النفوس عامة بظلم شخصي ، وواقعة عنف .
وقد يأتي بالفعل الإرهابي فرد واحد ، أو جماعة وفئة بدوافع سياسية أو عقائدية يكون ضررها عاماً ، وهي خالية من النفع .
لقد نزل القرآن باكرام الإنسان ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( )، وبينت آياته أن الإسلام دين التراحم والرأفة بين الناس للإخبار ومنذ أيام التنزيل عن حرمة الإرهاب والنهي عن قتل الإنسان نفسه أو قتل غيره .
ومع تعاهد حق الحياة لكل إنسان يأتي الرزق الكريم ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ).
والعمل الإرهابي على شعب :
الأولى : الذين يقتل نفسه وغيره .
الثانية : الذي يقوم بقتل الآخرين .
الثالثة : الإضرار بالمال العام والخاص .
ففي الإرهاب تلف للممتلكات ، مما يبعث النفرة العامة من الجهة التي تقف وراء الإرهاب.
ومن إعجاز القرآن ورود مادة (رهب) فيه لمنع الإرهاب ، لأنها تدل على الخشية من الله وما يترشح عنها من الرقة وسيادة مفاهيم الرفق في الأرض ، ولين الجانب والترغيب بالعبادة ، وبعث النفرة من العنف والإقتتال والقتل والتطرف.
لقد أسس القرآن مدرسة الحوار بين المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً فهو الكتاب السماوي الذي يثبت الحوار والإحتجاج ، ويدعو للجوء إلى البرهان ، وكلها مصاديق تزجر عن الإرهاب والفتك والبطش.
مادة رهب في القرآن
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
ومن معاني هذه الآية بيان وقراءة مستحدثات الأمور وفق آيات وأحكام القرآن ، فما أن أخرج الإرهاب رأسه حتى كانت آيات القرآن حاضرة لكشف قبحه ، والنهي عنه ، وبيان تضاده مع الإسلام عقيدة وأحكاماً ، وكيف أنه طريق مغلق لا يوصل صاحبه إلى النعيم الأخروي ، وإن زُين له سوء عمله من قبل النفس الغضبية والشهوية أو من قبل الآخرين ، ولا يختص استقراء حرمة الإرهاب من القرآن بالآيات التي تتضمن مادة ولفظ (رهب) إنما تشمل آيات كثيرة من القرآن نأتي على بيان بعضها إن شاء الله .
ومن إعجاز القرآن حصره الرهبة من الله عز وجل وحده لتكون فرع التوحيد ، إذ ورد قوله تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، و[فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، والرهبة مخافة مع تحرز واضطراب .
(والإرْهَابُ بالكَسْرِ ؛ الإِزعاجُ والإِخَافَةُ تقُولُ : ويَقْشَعِرُّ الإِهَابُ إذَا وَقَعَ مِنْهُ الإِرْهَابُ والإِرْهَابُ أَيْضاً : قَدْعُ الإِبِلِ عن الحَوْضِ وذِيَادُهَا وقد أَرهب وهو مجازٌ ومن المَجَازِ أَيضاً قَوْلُهُمْ : لَمْ أَرْهبْ بك أَي لَم أَسْتَرِبْ)( ).

قانون خلو القرآن من لفظ الإرهاب
تبين آيات الرهبة مجتمعة ومتفرقة خلو اللفظ القرآني ودلالاته من معنى الإرهاب ، بالإصطلاح المعهود هذه الأيام ، وإن اتفق اشتقاقه من مادة (رهب) إذ أن المدار على الفعل والمسمى ، وليس على اللفظ والاسم.
وصحيح أنه لم يقع الإتفاق التام بين الدول والعلماء واساتذة القانون والعلوم السياسية ، والمؤسسات الأمنية في العالم على تعريف واحد للإرهاب ، ولكنه ليس من إختلاف في الرؤية والمصالح ، إنما هو ظاهر للجميع بمنهاج التعدي العام وسفك الدماء والتفجيرات .
وفي تعريف الأمم المتحدة للإرهاب هو ( تلك الأعمال التي تعرض للخطر أرواحاً بشرية ، أو الأموال العامة أو الخاصة بالترويج والإيذاء والإفساد من غير وجه حق .
ومن إعجاز القرآن التأريخي رؤية الوقائع والأحداث اللاحقة لأيام التنزيل في مضامين وثنايا آياته بجلاء سواء كانت هذه الوقائع ذات نفع أو ضرر ، ليتخذ المسلمون آياته إماماً وضياءً ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم والليلة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وليس في القرآن ذكر للفظ الإرهاب ولكن عرض ذات الفعل وتعريفاته في هذا الزمان على آيات القرآن يترشح عنه التسليم بقبح الإرهاب ولزوم محاصرته بالعلم والفقاهة والتثقيف والتوعية والإرشاد والإصلاح والتفقه في علوم القرآن والزجر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
قانون التضاد بين الرهبة والإرهاب
من أسرار الآية القرآنية أنها تتضمن الثناء على الله ، والتأديب والإصلاح للناس ، والبشارة والإنذار ، ومنه الآيات التي تدل في منطوقها أو مفهومها على الرهبة من الله عز وجل ، ومن التعارض والتضاد بينها وبين الإرهاب وجوه :
الأول : نزول الأمر من عند الله بالرهبة والخوف منه ، بينما الإرهاب ترويع ليس له أسباب عقلائية أو شرعية .
الثاني : قانون الرهبة من الله زاجر عن الإرهاب وبيان لقبحه.
الثالث : قانون النفع العام والخاص من الرهبة من الله ، والضرر العام والخاص من الإرهاب .
الرابع : وجوب الرهبة من الله وقانون حرمة الإرهاب .
الخامس : الرهبة من الله ضياء ينير سبل الهداية ، والإرهاب ظلام في الدنيا وظلمات في الآخرة .
السادس : جاء الأنبياء بالرهبة من الله والزجر عن الإرهاب .
السابع : استدامة الحياة الدنيا بالرهبة من الله ، أما الإرهاب فهو تعد على قوانين الحياة العامة.
الثامن : حاجة الناس إلى الرهبة من الله في السر والعلانية ، أما الإرهاب فهو ظلم للذات والغير .
التاسع : تتجلى الرهبة من الله بحسن السمت والسيرة والسلامة من التعدي على الغير ، أما الإرهاب فهو عنف وترويع .
و(عن ابن عباس : قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : ( إن الله عز و جل ناجى موسى بمئة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع موسى صلى الله عليه وآله وسلم كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عز و جل .
وكان فيما ناجاه به أن قال : ياموسى إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي .
قال موسى : يارب البرية كلها ويا مالك يوم الدين ويا ذا الجلال والأكرام ماذا أعددت لهم ؟ وماذا جزيتهم .
قال : أما الزهاد في الدنيا فإني أبيحهم جنتي يتبوأون منها حيث شاوؤا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب ونقشته إلا الورعين فإني أستحييهم وأجلهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب وأما البكاؤون من خشيتي فأولئك لهم الرفيع الأعلى لا يشاركون فيه)( ).
العاشر : الأجر والثواب في الرهبة من الله ، والإثم بالعمل الإرهابي.
قوانين في الرهبة من الله
من أسرار اللغة العربية إتحاد أصل كلمة (رهب) ولكن القرآن نزل بالمعنى المتباين لما هو خير محض وهو الرهبة من الله ، وما هو شر وضرر وهو الإرهاب.
وقد تقدم ذكر قوانين متعددة بخصوص الرهبة من الله عز وجل في الجزء التاسع والسبعين بعد المائة من هذا السِفر منها :
الأول : قانون التوحيد الذي يتغشى السموات والأرض ، والأمر من الله وبصيغة الخطاب للسامع بقوله [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] للمبالغة في الترهيب.ص8
الثاني : قانون رهبة الناس جميعاً من الله والخوف منه سبحانه.ص8
الثالث : قانون خشية ورهبة الناس من الله في الحياة الدنيا.ص8
الرابع : قانون رهبة الناس من الله يوم القيامة .ص9
الخامس : قانون عدم جواز إرهاب الفرد والجماعة والدولة للناس.ص9
السادس : قانون الله وحده وهو المرهوب منه ، ولا يصح أن يكون الإنسان مرهَباً بالفتح ، ومرُهبِاً لغيره.ص9
السابع : قانون أداء الصلاة واقية من الإرهاب .ص31
الثامن : قانون موضوعية العبادات في الحصانة من الإرهاب.ص31
التاسع : قانون التفكر بالآيات الكونية وبدائع السموات والأرض حرز من الإرهاب .ص31
العاشر : قانون السنة النبوية شاهد على تنزه الإسلام عن الإرهاب .ص32
الحادي عشر : قانون النصوص النبوية التي تنهى عن الإرهاب.ص32
الثاني عشر : قانون محاربة الإرهاب بالسنة النبوية .ص32
الثالث عشر : قانون عدم رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ترويع الآمنين .ص32
قانون نهي القرآن عن الإرهاب
ومن إعجاز القرآن دعوته لنبذ الإرهاب والبراءة منه ، من وجوه :
الأول : منع القرآن من إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام.
الثاني : فضح الإرهاب وبيان قبحه الذاتي .
الثالث : دلالة آيات الرأفة والرحمة والتراحم بين الناس على حرمة الإرهاب .
الرابع : دعوة القرآن إلى السلم والصلح والأخوة الإنسانية والإيمانية واقية من الإرهاب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وهل قتل الناس بالإرهاب والتفجيرات العشوائية من إتباع خطوات الشيطان الذي حذرت منه آيات السلم هذه ، الجواب نعم ، ليكون من إعجاز القرآن النقض والإبرام ، والأمر والنهي في الموضوع المتحد في آية واحدة بما فيه النفع العام للبشرية جمعاء .
الخامس : دعوة القرآن لإقامة أنظمة العدل والمساواة ، والعقاب للمعتدي حسب درجة عدوانه وإضراره بالناس .
السادس : وجوب قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السابع : الوعيد بالعذاب الأليم في الآخرة على الظلم في الدنيا ، والنسبة بين الظلم والإرهاب هي العموم والخصوص المطلق .
الثامن : تثبيت القرآن للخشية من الله في قلوب المسلمين والمسلمات ، وهي حرز من الإرهاب أمس واليوم وغداً.
التاسع : تعدد الآيات التي تأمر بحفظ العهود والمواثيق وتلحق بها الأنظمة الوضعية في ضبط النظام والقانون وحقوق المواطنة ، وتنهي عن الغدر والخيانة ، منها قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا]( )، منها [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( ).
قراءة حاضرة في إرهاب قريش
لقد استقبل كبراء قريش دعوة النبي للإسلام بالجحود والقسوة والعنف والإرهاب مع الضغط الإجتماعي لإيقاف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان أبو جهل وأبو سفيان وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وغيرهم من رؤساء قريش يعلمون بتعذر وقوف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعوة ، المختار نعم .
فما يقوم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي والتنزيل ، وكانت لقريش خبرة في تأريخ النبوة والتمييز بينها وبين الدعوة للإصلاح ، أو اتخاذه وسيلة للأمرة والسلطنة ، ومع هذا عرضوا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المال والنساء والرياسة بشرط قطع الدعوة إلى الإسلام ، ولكن هذه الدعوة تكليف وأن الله عز وجل سيظهر الإسلام.
ورأت قريش كيف أن أبا طالب يحنو على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويذب عنه ، ويمنعهم منه ، ولا يمنعه من تبليغ الرسالة بين أهل البيت ، وعموم أهل مكة ، والوافدين إليها .
ولو منع أبو طالب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعوة فهل يمتنع ، الجواب لا ، إذ يفتح الله عز وجل أبواباً وآفاقاً للدعوة أكثر نفعاً من أبي طالب أو مثله ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ولم يكن أبو طالب وحده يساند النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إنما كان بنو عبد المطلب وبنو المطلب مؤيدين له.
وقد تحملوا حصار قريش وشدته ، المؤمن والكافر منهم ، ولم يسلموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، ولم يوجهوا له لوماً على اتساع دعوته وشتمه للإصنام ، وبيانه لقبح عبادتها ، إذ لم يأت هذا البيان بالسنة النبوية وحدها ، إنما جاء بالتنزيل وصيغ الإعجاز فيه .
ومنه قوله تعالى [إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( )، وصحيح أن موضوع هذه الآية يتعلق بقوم إبراهيم عليه السلام واحتجاجه عليهم إلا أنه يشمل كفار قريش لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وملة الكفر واحدة ، لذا نزلت هذه الآية في مكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
ولأن قريشاً أهل تجارة ، ويحبون جمع المال أخبرهم القرآن بأن الرزق من عند الله ، وأنه مصاحب للإيمان إذ تضمنت الآية الأمر المتعدد بكل من :
الأول : سؤال الرزق من عند الله .
الثاني : نبذ عبادة الأوثان ، ولزوم عدم رجاء شئ منها .
الثالث : وجوب عبادة الله باقامة الصلاة اليومية وأداء الفرائض العبادية الأخرى .
الرابع : الشكر لله عز وجل ، وهل من مصاديق الشكر في المقام شكر الله عز وجل على نعمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن بين ظهراني قريش أنفسهم .
الجواب نعم ، ليكون الشكر على جهات :
الأولى : الشكر العام على رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة النبوات ، قال تعالى [وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
الثالثة : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العرب ، وفي مكة التي هي [أُمَّ الْقُرَى]( ).
الرابعة : توالي المعجزات العقلية والحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبيلة قريش بالذات ، وقد أكرمهم الله عز وجل بتخصيص سورة من القرآن خاصة بهم واسمها سورة قريش ، ولم يرد لفظ قريش في القرآن إلا في هذه السورة ، ولمرة واحدة فقط.
ولكن موضوع السورة كله بخصوصها وهي سورة مكية لإنذارهم من إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومن حمله على الهجرة مضطراً ، وإن هاجر فيجب أن يكفوا عن محاربته وقتاله ، وهي درس وعبرة للناس إلى يوم القيامة بلزوم ترك الإرهاب والعنف .
وهل كانت هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة وإمتناع النجاشي عن تسليمهم لوفد قريش إنذاراً لهم بلزوم التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذا هاجر فيجب إجتناب قتاله ، الجواب نعم .
ولكن رؤساء الكفر لم يتعظوا ، ومن وسائل القضاء على الإرهاب الإتعاظ والتدبر ، وبعث الناس على التفكر بسوء عاقبته وانعدام الغاية الحميدة منه وإن توهم أربابه الإنتقام والثأر والبطش بالعنف والتطرف والغدر .
لقد كان رؤساء قريش في عتو وغرور ، ولم يدركوا صنعهم وعجزهم عن محاربة المشيئة الإلهية بالتغيير والإصلاح ، لبيان قانون وهو عجز الإرهاب في كل زمان عن تحقيق غاياته ، إنما هو ضرر محض .
قانون التضاد بين الإيمان والإرهاب
وهناك تضاد بين الإيمان والخيانة ، إذ يخشى المؤمن الله عز وجل بالغيب ، ويعلم أن الملائكة تحصي وتوثق أعماله ، فيستحي من لقاء الله في الآخرة ببقع سوداء من الغدر والخيانة والإرهاب .
ويمكن القول بقانون لا دين ولا وطن للإرهاب ، فهو تراكم غشاوة ، ومفاهيم خاطئة من الحقد والكراهية والضغائن التي لا أصل أو موضوع يترشح عنها ، وهو عنف ووحشية خالية من الشفقة والرحمة التي أمر الله عز وجل بها بين الناس .
ويبعث الإرهاب ردود فعل متباينة منها النفرة من المذهب والجهة والملة التي ينتسب إليها الإرهابي وما تدل عليه بياناته ، ومنها ما يلصق بالإسلام بغير حق ، مما يسبب الضرر العام للمسلمين مع أن الكتاب والسنة النبوية وأحكام الإسلام تحرم الإرهاب بصيغته المتعارفة في هذه الزمان ، فلابد من إشاعة قيم المودة والسلام بين الناس ، وتعزيز مفاهيم المواطنة ، وتحصين المجتمعات من العنصرية والكراهية بين أفرادها.
ولا يصح مؤاخذة المسلمين أو مبادئ الإسلام عن فعل شخصي منفرد أو متعدد من الإرهاب ، وتمنع سيرة المسلمين السلمية وإخلاصهم وتفانيهم لأوطانهم في الشرق والغرب من إلصاق الإرهاب بهم .
فلا يتحمل وزره إلا الذي فعله وهو موقوف بين يدي الله يوم القيامة على فعله الإرهابي ، وعلى إضراره بالسلم المجتمعي ، وما جلبه للمسلمين من الأذى والضرر بسبب هذا الإلصاق.
ومن مصاديق براءة الإسلام في المقام قانون تعارض أهداف الإرهاب مع مبادئ وأحكام الإسلام ، وسيرة المسلمين العامة النقية التي يفوح منها عطر التقوى ، ونكهة السلام والصفح والرفق والعفو ، قال تعالى في خطاب عام لأجيال المسلمين [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا]( )، ويتعارض الإرهاب مع كل من :
الأول : العفو .
الثاني : الصفح .
الثالث : إجتماع العفو والصفح.
ولابد من العناية الفائقة بتربية الأبناء ، وتحصينهم من المنزلقات ورفقاء السوء ، وآفة المخدرات ومواقع الأنترنيت التي تبث السموم وتحض على الإرهاب وتشيع الفاحشة والفسوق ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
و(عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإِمام يسأل عن الناس ، والرجل يسأل عن أهله ، والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده.
وأخرج ابن حبان وأبو نعيم عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)( ).
قانون الإرهاب مصادرة للحقوق
تتداخل أعمال الناس في الحياة الدنيا ، ويؤثر بعضهم ببعض ، قال تعالى [لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا]( ).
ومن خصائص الحياة الدنيا حب التملك والخصوصية عند الأفراد والجماعات ، وجاء القرآن والكتب السماوية السابقة بالفصل والحكم بين الناس في الحقوق ، ومنع الظلم والتحدي فيه ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( )، وقال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
فلابد من الحكم بالعدل في الأموال والدماء والحقوق على البر والفاجر ، والقريب والبعيد ، وقد بيّن الله عز وجل أحكام الحلال والحرام في القرآن ، وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية.
ومن مصاديق موضوعية حقوق الناس في النشأتين ما ورد (عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين.
وأخرج أحمد عن عبد الله بن جحش : أن رجلاً قال : يا رسول الله ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال : الجنة . فلما ولى قال : إلا الدين سارني به جبريل آنفاً)( ).
ومن الإعجاز في الحياة الدنيا أن مليارات البشر هم من أبوين من آدم وحواء وعليه اتفاق المليين ، وما كانت تتم هذه الكثرة والتكاثر لولا معجزة أخرى من عند الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
من الحقوق التي كفلها الإسلام أمور :
الأول : حق الحياة .
الثاني : حق الحرية من غير معصية .
الثالث : حق المساواة .
الرابع : حق الكرامة الإنسانية .
الخامس : حق التعليم .
السادس : حق المكاسب والعمل .
السابع : حق التملك والتصرف في الملك .
الثامن : حق الأمن والأمان .
التاسع : حق الرأي .
العاشر : حق الإختيار وعدم الإكراه.
ويتعارض الإرهاب مع كثير من هذه الحقوق لذا فهو محرم ذاتاً وعرضاً ، وأظهرها معارضته لحق الحياة ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ).
والمراد من لفظ الحق في الآية الأسباب التي توجب القتل كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
فمن لا يعتدي على غيره بالقتل وسفك الدماء فهو في مأمن في حياته ، والإرهاب إزهاق للأرواح ، فلا يجوز شرعاً وعقلاً.
وقد يكون القتل ظلماً لذات المقتول على نحو الحصر ، أما الإرهاب فانه ظلم للمجتمعات سواء وقع فيه قتل أو لا .
ومن معاني حق الأمن طمأنينة الناس على أنفسهم وأهليهم في بيوتهم ، وفي المساجد ودور العبادة مطلقاً وفي المنتديات ، ويجعل الإرهاب هذا الأمن متزلزلاً غير ثابت ، وينفذ معه الخوف إلى النفوس وفي مدن بعيدة عن المدينة التي يقع فيها العمل الإرهابي ، وانما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولم يرض أن يفزع الناس في بيوتهم فلم يغادر إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن استتب الأمن في مدن الجزيرة وفي القرى والجادة العامة .
لقد كانت قريش تقدم الرشاوى والقروض والمداراة للقبائل التي في طريق قوافل التجارة إلى الشام واليمن ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( )، فصارت القوافل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجري بأمن وسلام ، وتضاعف عدداً وكماً واشتغل أهل المدينة في التجارة .
و(عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدم دِحية بن خليفة يبيع سلعة له ، فما بقي في المسجد أحد إلا نفر ، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم ، فأنزل الله وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الحقوق وهي مصاحبة للواجبات بل ذات الحقوق تستلزم الواجبات إذ يلزم حفظ حقوق الناس وعدم التعدي عليها.
فمن واجب الإنسان أن يحافظ على حقوق الغير مجتمعين ومتفرقين ، وعلى الحق العام ، ولكن الإرهاب تعد على كل هذه الحقوق ليشمل هذا التعدي وجوهاً :
الأول : جهة صدور الإرهاب فردية .
الثاني : صدور الإرهاب من المتعدد .
الثالث : توجه الإرهاب إلى جهة شخصية .
الرابع : توجه الإرهاب إلى الجماعة .
الخامس : قانون توجه الإرهاب إلى الصالح العام ، وكيان الدولة .
وكل هذه الأفراد محرمة ومخالفة لرسالة الحقوق التي جاء بها القرآن والسنة .
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن الناس مسلطون على أموالهم) ( ).
وورد الحديث بصفة العموم والإطلاق فكل إنسان مسلط على ماله له حق التصرف فيه سواء كان مسلماً أو كتابياً أو كافراً ، لا يحق لأحد منعه من مزاولة سلطانه على ماله وملكه .
والإرهاب ظلم وتعد على الناس وعلى أموالهم ، وإضرار عام ، وخلاف قاعدة السلطنة لذا يجب أن يتنزه المسلم عن الإرهاب جملة وتفصيلاً ، ومقدمات وأسباباً، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
هل الإرهاب من كبائر أم صغائر الذنوب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء ، يداهم الإبتلاء الإنسان قهراً إن لم يأته طوعاً واختياراً إذ تتقوم الحياة الدنيا بالأوامر والنواهي ، وجاءت ببيانها الكتب السماوية والأنبياء ، ومعصيتها ذنب وإثم ، وتقسم الذنوب تقسيماً استقرائياً إلى قسمين :
الأول : كبائر الذنوب ، والتي تقترن بالوعيد واللعنة والعذاب الأليم ، وأكثرها قبحاً الشرك بالله ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، استئصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشرك في الجزيرة ، وتحمله الأذى وسقوط عدد من أهل بيته وأصحابه شهداء في طريق التوحيد.
فلم يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشهداء ليخرج في أمته من يقوم بالإرهاب وإخافة الناس في الطرقات والبيوت ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ).
ومن الكبائر عقوق الوالدين ، وهل في الإرهاب مثل هذا العقوق أم أن القدر المتيقن منه هو ظلم الناس الآخرين ، ووقوع فعل الإرهاب على الناس الغرباء ، الجواب هو الأول ، ففي العمل الإرهابي ايذاء للوالدين .
لتكون حرمة الإرهاب وكونه من الكبائر بالذات والعرض .
الثاني : صغائر الذنوب ، وهي اللمم وما لا يوعد عليه دخول النار ، واللعنة الدائمة والعذاب الأليم .
ويمكن القول بقانون كل ذنب ليس من الكبائر فهو من الصغائر ، وأيهما أكثر ، المختار أن صغائر الذنوب أكثر نعم يكون الذنب الصغير من الكبائر مع الإصرار عليه .
و(عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس صغير بصغير مع الإصرار ، وليست كبيرة بكبيرة مع الاستغفار ، طوبى لمن وجدني كان له يوم القيامة استغفار كثير)( ).
وفي نسخ أخرى : لمن وجد في صحيفته بدل من وجدني .
والإصرار على الذنب الصغير معصية ، قال تعالى [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
و(قال النبي صلى الله عليه وآله: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الاصرار)( ).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكبائر وحض على إجتنابها ، وتركها ، وأخبر بأنها موبقات أي مهلكات تهلك صاحبها في الدنيا وتستلزم الإقامة في النار .
وعن (رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجْتَنبوا السَّبْعَ الموبقات” قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: “الشِّرْكُ بالله، والسِّحْر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحْفِ، وقَذْفُ المحصنات المؤمنات الغافلات)( ).
ويدخل الإرهاب في قتل النفس التي حرم الله ، لذا فهو حرام ومن الكبائر.
و(من طريق سعيد بن جبير : أن رجلاً سأل ابن عباس كم الكبائر؟ سبع هي ، قال : قال إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار)( ).
ويتضمن الإرهاب عدة كبائر منها :
الأول : الكذب على الله ورسوله .
الثاني : الكبر والخيلاء والعجب .
الثالث : قطع الطريق وإخافة الناس .
الرابع : قتل الإرهابي نفسه ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ).
الخامس : الخيانة والغيلة .
السادس : الغدر وعدم الوفاء بالعهود العامة والخاصة ، وواجبات المواطنة.
السابع : إيذاء عامة الناس .
الثامن : البطش بالناس .
التاسع : الإضرار بالممتلكات الخاصة والعامة .
العاشر : إرهاق ميزانية الدولة وبيت المال بالتسبيب بزيادة رجال الأمن وتشديد الحراسات وشراء الأسلحة الخاصة بمواجهة الإرهاب.
الحادي عشر : التعاون على الظلم والعدوان ، قال تعالى [وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وتجب التوبة من الذنوب كبائرها وصغائرها توبة نصوحاً صادقة بالإقلاع عنها ، وعدم الرجوع إلى فعلها .
وهل من التوبة نصح الآخرين بالإبتعاد عنها ، الجواب هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وفي الذين يعيثون في الأرض فساداً والحكم بقتلهم ورد الإستثناء بقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وإذا كان ذنب مبلغ الدَين والقرض لا يغفر إلا بوفاء الدين من قبل المدين أو غيره إلا الذي غادر الدنيا وهو معسر .
فان الإرهاب والتفجيرات والإضرار بالناس أشد في باب الحق الخاص الذي لا يسقط من مسألة القرض التي تمت طوعاً ، مما يدل على شدة الحساب والعذاب الأليم على الإرهاب والأضرار المتفرعة عنه .
ولا يختص العقاب على الإرهاب بفاعله بل يشمل المخططين له ، والساعين فيه ، والذين أغروا ودعوا بغرور فاعله.
ومن فضل الله أنه جعل الدنيا دار التوبة والإنابة والعفو وليس أرأف من الله عز وجل بالناس .
و(عن أبي أيوب قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل لكم إلى ما يمحو الله تعالى به الذنوب ويعظم به الأجر؟ فقلنا : نعم يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . قال : وهو قول الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( )، فذلكم هو الرباط في المساجد.
وأخرج ابن جرير وابن حبان عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ قلنا : بلى يا رسول الله . قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط)( ).
وهناك تضاد بين الإرهاب والرباط، فليس في الرباط قصد الإضرار والتعدي وهو حرب على الظلم ومانع منه ، أما الإرهاب فهو ظلم وسبب للتعدي والإرهاب الموازي ، وقد يحارب الإرهابي بشخصه وجماعته دولة فيلقى الضرر ولو بعد حين ، ويجلب الضرر على طائفته ومذهبه وإن كانت بريئة من فعله ، والإرهاب والسعي في مسالكه كبيرة ومعصية من الكبائر تتنافى مع الإيمان.
قانون حق الجوار ضد للإرهاب
لقد جاء القرآن والسنة النبوية بحق الجوار ، والتأكيد على موضوعيته في الحياة اليومية ، ولا يعلم مدى الإنتفاع العام من بيان هذا الحق إلا الله عز وجل فتنزل آية قرآنية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتصلح أحوال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة من موضوع معين أو مواضيع متعددة ، بالذات والعرض كحق الجوار الذي هو إصلاح إجتماعي.
وهو من مكارم الأخلاق وحرز من الظلم والتعدي ، ولم يذكر لفظ الجار إلا في آية واحدة ، وعلى نحو مكرر ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا]( ).
والجار ذو القربى : أي الذي تربطك معه صلة قرابة .
أما الجار الجنب : فهو الذي ينتمي إلى قوم أو مذهب أو صلة أو قبيلة أخرى ، لبيان أن الآية جامعة مانعة ، جامعة لكل الجيران ، مانعة من خروج بعضهم .
و(عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه .
وأخرج أحمد من طريق أبي العالية : عن رجل من الأنصار قال : خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه ، فظننت أن لهما حاجة . فلما انصرف قلت : يا رسول الله لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام . قال : أوقد رأيته .
قلت : نعم . قال : أتدري من هو؟ قلت : لا . قال : ذاك جبريل ، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، ثم قال : أما أنك لو سلمت رد عليك السلام)( ).
وهل يكون من تقدير الحديث وصية جبرئيل لكل مسلم إلى يوم القيامة في جاره القريب والبعيد بالنسب والملة ، الجواب نعم ، ومن مصاديق هذه الوصية الأمن وحرمة إيذاء الجار.
والإرهاب بالقول والفعل إضرار أشد من الأذى.
واختلف في تعيين الجار على وجوه :
الأول : الجار الملاصق في السكن .
الثاني : الملاصق والمقابل .
الثالث : أهل الزقاق غير النافذ .
الرابع : الذي يصلي معك في مسجد المحلة ، وكل أهل مسجد جيران.
الخامس : أهل الحي الصغير .
السادس : أهل البلدة لقوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
السابع : الرجوع إلى العرف في تعيين الجوار .
الثامن : الجار إلى سبعة دور من الجهات الأربعة .
التاسع : أربعون داراً ، وهو المختار ، إلا أنه ما يمنع من التعدد والتوسعة في الجوار بحسب العرف.
وعن (محمد بن أبى بكر المقدمى قال حدثتنا دلال بنت أبى المدل قالت حدثتنا الصهباء عن عائشة رضى الله عنها قالت يارسول الله ما حق أو قال ما حد الجوار قال اربعون داراً)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: حريم المسجد أربعون ذراعا والجوار أربعون دارا من أربعة جوانبها)( ).
العاشر : ليس له حد ، وبه قال مالك .
الحادي عشر : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد ، فيلتقي الجيران بالجامع المشترك وهو سماع إقامة الصلاة .
الثاني عشر : الجوار أربعون ذراعاً ، إذ ورد (عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : حق الجار أربعون ذراعًا هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا، يمينًا وشمالا، وقدامًا وخلفًا)( ).
قانون الجوار أمن وسلم
من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أمران :
الأول : حق الجوار في الإسلام .
الثاني : الإطلاق في حق الجوار ، فلا يختص بالمسلم دون غيره.
و(عن أنس ، أن رجلا فارسيا كان جارا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت مرقته أطيب شيء ريحا ، فصنع طعاما ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأومأ إليه أن تعال ، وعائشة إلى جنبه.
فقال صلى الله عليه وسلم : وهذه معي وأشار إلى عائشة ، فقال : لا ، قال : ثم أشار إليه.
فقال : وهذه معي قال : لا ، ثم أشار إليه الثالثة ، فقال : وهذه معي وأشار إلى عائشة ، قال : نعم)( ).
لقد جعل الله عز وجل ورسوله للجار حقاً ، وفي أدائه الأجر والثواب .
والجوار مراتب الأقرب فالأقرب ، (قالت عائشة : يا رسول الله إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ، قال إلى أقربهما منك باباً)( ).
و(روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسم فقال : إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلى جوار أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد : ألا أن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام : من سمع النداء فهو جار وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد وقالت فرقة : من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار)( ).
وحرمة الإرهاب مطلقة ضد القريب والبعيد ، ولكنها ضد الجار أشد وأكثر قبحاً وضلالة.
ومن الإعجاز في بيان الشرعية لحق الجوار تنمية ملكة السكينة في النفوس والإمتناع عن العنف بأدنى مراتبه ، وعن الغضب والسخط .
لقد أراد الله عز وجل تأديب المسلمين بالتحلي بالصبر على أذى الجار ليكون هذا الصبر سلماً ، وأمناً ، وواقية من العنف والإرهاب والإضرار بالناس ، إذ تجمع بين الناس الأخوة الإنسانية ، وتتداخل حقوق المواطنة وحق الجوار.
وقد يكون مقصد الإرهاب ذات الجار فتكون العقوبة أشد على فاعله ، وهو سبب لبعث النفرة في النفوس من أسباب وعلل هذا الفعل الإجرامي ، والإرهاب كله قبيح وحرام إلا أنه ضد الجار أشد قبحاً وضرراً على الذات والغير .
لقد أراد الله عز وجل للمسلم تعاهد حسن الجوار ليكون علماً مستقلاً ، وقانوناً متجدداً للأمن من الإرهاب ومن الظلم والتعدي ، فالذي يحسن معاملة جاره ويتحمل أذاه يحسن معاملة غيره من الناس ، وتكون الدنيا في عينيه بهيجة تزدان بالإحسان للناس القريب والبعيد ومن حقوق الجوار في السكن :
الأول : كف الأذى عنه .
الثاني : احتمال الأذى الذي يصدر عنه .
الثالث : الإحسان إلى الجار ، والمسارعة في قضاء حاجته ، ومواساته.
الرابع : التراحم والتآلف والتكافل بين الجيران.
وقد يمتنع الإنسان عن إيذاء جاره ، ولكنه يؤذي القاصي والبعيد منه ، وهو فعل محرم للنهي عن ايذاء الناس والإضرار بهم وبمصالحهم وأموالهم.
وهل قانون حق الجوار من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، إذ أن منافعه أكثر من أن تحصى ، ومنها التسامح والتوادد والتكافل والتعاون ، والإمتناع عن إيذاء الجار بالقول أو الفعل ولزوم تحمل الأذى الصادر منه .
لقد أسس الإسلام حق الجوار للزجر عن الإرهاب والمنع منه ، ترى ما هي النسبة بين حق المواطنة وحق الجوار.
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فحق المواطنة أعم وأوسع ويجب على الفرد إكرام إخوته في الوطن ومن أي ملة كانت ، ولزوم الإمتناع عن إرهابهم.
الحكم الشرعي للإرهاب
الحمد لله الذي جعل أحكام الشريعة متكاملة تشمل أمور الحياة والأحداث ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فتستنبط الأحكام للوقائع من الآية القرآنية والسنة النبوية .
ولم تكن ظاهرة الإرهاب خافية على أحد ، وهي متجددة باثارة فعل إرهابي هنا أو هناك .
وتأتي عالمية الإعلام لإيصال خبره إلى أهل المشرق والمغرب ، وحكم الإرهاب في الشريعة الإسلامية هو التحريم فيحرم مزاولة الإرهاب وإن اختلف في تعريفه ولكن معناه ظاهر ، ومن أسباب تحريمه :
الأول : إنه فساد في الأرض وقد أنذرت الملائكة منه يوم خلق الله عز وجل آدم ليكون [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع (قالوا) مما يدل على اتفاق الملائكة على هذا القول وعدم صدوره من عدد قليل منهم .
لقد أراد الملائكة استئصال الإرهاب والمنع منه ، وعدم إخافة عامة الناس فجاء الرد من عند الله عز وجل بالإستجابة في المقام بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
لبيان قانون وهو حرمة الإرهاب من قبل أن يهبط آدم إلى الأرض ، وفيه حجة على الناس ، وأتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولى الناس بالتقيد بهذا الحكم .
ولتكون آيات الأخوة والمودة وإشاعة الإحسان حجة عليهم وحضّ لهم للتعاون في محاربة الإرهاب والمنع منه في الأرض.
الثاني : قانون تضاد الإرهاب مع مفاهيم الرحمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، إذ تستنبط من الآية أعلاه قوانين ومسائل متعددة في حرمة الإرهاب .
الثالث : قانون الإرهاب ترويع للآمنين من المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً ، وما بعث الله عز وجل النبي محمداً إلا لإشاعة الأمن في الأرض بدليل قضائه على الغزو بين القبائل .
الرابع : قانون الإرهاب ظلم ، وقد جاءت السنة النبوية بحرمة الظلم والتعدي .
الخامس : قانون الإرهاب تخلف عن مبادئ الإسلام.
السادس : قانون في الإرهاب فرقة وشقاق .
قانون عالمية الرسالة سلام دائم
لقد بدأت عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من سطوعها من مكة على نحو التعيين السماوي التي وصفها الله عز وجل بأنها [أُمَّ الْقُرَى]( )، ومن مصاديق هذه التسمية الواقعية مجئ أفراد القبائل وأهل المدن إلى مكة لأداء الحج أو العمرة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقصدهم في محال سكناهم أيام الحج في مِنى وفي أسواق مكة .
جاءت الهجرة النبوية وبناء المساجد في المدينة المنورة تأسيساً لإنشاء المساجد في عموم الأرض ، وليس لها من وظيفة إلا إقامة الصلاة ، وذكر الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ).
لقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال وفي معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ويمكن القول بقانون لا تنزل الملائكة إلا لمحاربة الإرهاب واستئصاله ، إذ كان كفار قريش يزاولون الإرهاب العلني الصريح على نحو القضية الشخصية بقيام بعض الرؤساء بتعذيب الغلمان والأبناء والعبيد وعامة الذين دخلوا الإسلام .
أو على نحو القضية العامة بتجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما حدث بعد الهجرة ، فوقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة باصرار من المشركين على القتال يومئذ .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فمن الشواهد القرآنية التي تعضد آية [كَافَّةً لِلنَّاسِ] قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
لتدل الآيتان مجتمعتين ومتفرقتين على حرمة الإرهاب ضد أي إنسان ، فهذه الرسالة لا تنقطع بل تصاحب الإنسان في كل أيام حياته ، إذ تتوجه إليه آيات القرآن بوجوب عبادة الله عز وجل وعمل الصالحات ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليكون من مصاديقه تقدير الآية أعلاه وجوه :
الأول : إني رسول الله إليكم جميعاً بالبشارة برحمة الله ومغفرته .
الثاني : إني رسول الله إليكم بشهادة لا إله الا الله.
الثالث : إني رسول الله إليكم جميعاً للمؤاخاة تحت لواء الرسالة.
الرابع : إني رسول الله إليكم جميعاً لأن الله عز وجل يحبكم ، ويريد لكم الهداية والرشاد .
ومن أبهى مصاديق هذا الحب اختيار الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وعلى أي وجه من وجوه ومعاني هذه الخلافة وهل هي لآدم خاصة أم للأنبياء أم لعامة الناس فان المؤمنين لهم الشأن والمنزلة العظيمة فيها ، فيجب أن يشكروا الله عز وجل بالتنزه عن الإرهاب فكراً وقولاً وفعلاً.
وقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ومن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرفق والرأفة بالناس جميعاً .
ولم يرد لفظ (يحبب) في القرآن إلا في آية البحث فضلاً عن (يحببكم).
الخامس : إني رسول الله إليكم لأقودكم إلى الجنة واللبث الدائم في النعيم.
السادس : إني رسول الله إليكم لأحرم الإرهاب بين الناس .
إذ يشترك الناس كافة بتلقي دعوة النبي محمد ، وهذا التلقي عنوان للسلم المجتمعي.
وهل في قوله تعالى [فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( )، دلالة على حرمة الإرهاب ، الجواب نعم ,
إذ تفيد (انما) الحصر ، وحصر وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ حجة ودعوة للمسلمين لعدم التعدي ، إنما يتقيدون بأداء الوظائف العبادية.
ومن إعجاز آية [كَافَّةً لِلنَّاسِ] بيانها لوظائف النبوة بالبشارة والإنذار العام الموجه إلى الناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهل الذي يقوم بالإرهاب والتفجيرات العشوائية من مصاديق خاتمة الآية أعلاه ، الجواب نعم ، فمتى ما بلغ الإنسان مراتب العلم فانه يدرك ماهية الرسالة وهي البشارة والإنذار فانه يتنزه عن الإرهاب ومقدماته.
وهل في خاتمة الآية دعوة إلى الصفح وإمهال الناس ، الجواب نعم ، فمن معاني الجمع بين أول وآخر الآية الكريمة استدامة وتوالي وتجدد البشارة والإنذار ، ومنها تلاوة آيات القرآن.
فمن إعجاز القرآن أن كل آية منه إما بشارة أو إنذار في منطوقها أو مفهومها .
وتدعو آية (كافة للناس) إلى التسامح ، وتناهض الكراهية والتفرقة لأنها سور جامع في الدعوة السماوية ، وفيها حضّ على العدل والمساواة بين الناس على اختلاف بلدانهم ، وهي حرب على الفقر لما فيها من معاني العيش المشترك والتكافل وبناء صرح الإسلام واقترانه بالسلام ، وتعزيز الحوار الهادف ، واجتناب الصراعات والنزاعات ، والفتن.
لقانون كل عمل إرهابي هو فتنة يجلب الضرر للذات والغير .
قانون دلالة التنزيل والسنة على حرمة إشاعة القتل
قد تقدم ذكر هذا العنوان في الجزء السابع والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر والذي اختص بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
ومن إعجاز القرآن إخباره عن النهي عن القتل وسفك الدماء قبل أن يهبط آدم إلى الأرض ، ليكون هذا النهي وصية الملائكة للناس تلك الوصية الواجب العمل بها لمعرفة الملائكة بقبح القتل ، وسوء عاقبته.
لقد أحب الله عز وجل الناس وجعلهم خلفاء في الأرض فلا يصح التعدي على الحرمات وسفك الدم بالباطل ، وأخبر القرآن عن الضرر الفادح في القتل بقوله تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ]( ).
وسقوط الأبرياء في الإرهاب والتفجيرات من القتل بغير نفس ولا فساد ليتحمل فاعل الإرهاب أشد الآثام.
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)( ).
وقد يترآى للإنسان أن القتل وسفك الدم في العمل الإرهابي من عمومات سبيل الله وليس بصحيح ، إذ أن الله يحرم القتل إلا بالحق مثل القصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وحتى القصاص يسبقه إمكان العفو والترغيب فيه والأجر على العفو كما في قوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
ومن خصائص الإرهاب أنه توليدي فالفعل الواحد منه إغواء مع قبحه وضرره على الذات والغير ، لذا فهو قتل وغشاوة وتحريض على القتل لتكون حرمته مركبة ومتعددة ، وجاء النص بالذم وسوء العاقبة على القتل مطلقاً سواء قتل المسلم أو غيره.
و(عن عبد الله بن عباس أنه سأله سائل فقال : يا أبا العباس هل للقاتل توبة ، فقال له ابن عباس كالمعتجب من مسألته : ماذا تقول ، مرتين أو ثلاثا.
ثم قال ابن عباس : ويحك أنى له توبة ، سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا يقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار)( ).
و(عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام ، وما من عبد يقتل نفساً معاهدة إلا حرم الله عليه الجنة ورائحتها أن يجدها.
وهل يلحق الجوار والمواطنة وما كفله الدستور بالمعاهد المذكور في الخبر أعلاه ، المختار نعم .
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن ماجه والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)( ).
وتدخل المواطنة ومواثيقها في هذه الأحاديث ، لسنخية الأخوة والصلة الوثيقة بين أهل البلد والوطن الواحد الذين تحكمهم قوانين ومواثيق وعهود خاصة .
وسفك الدماء ومقدماته نقيض السلم المجتمعي والأمن العام الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة اليومية للناس على إختلاف مللهم ، ولا يهنأ الإنسان بطعام أو شراب مع فقد الأمن.
وعن (رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل وفي رواية : يرفع العلم ويثبت الجهل أو قال ويظهر الجهل)( ).
ترى ما هي النسبة بين الجهل والإرهاب ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالعمل الإرهابي فرع الجهل ، وهو خال من المصلحة الخاصة أو العامة ، وبعيد عن الفقاهة .
حرمة القتل في الكتاب والسنة
من الإعجاز في خلق الإنسان تشريع حرمة القتل والفساد من حين خلق آدم عليه السلام لقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
وبعث الله عز وجل الأنبياء بالإصلاح والإنذار عن القتل وسفك الدماء ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، إذ تشترط الآية أعلاه نجاة العبد في النشأتين بالإيمان والإصلاح بقوله تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ] ومن الإيمان التسليم بحرمة سفك الدماء ، ويجب إجتناب الإرهاب لأنه ضد الإصلاح .
وتوالت الكتب السماوية في نزولها وهي تحرم القتل مطلقاً ، وهو الذي تجلى في القرآن الذي جعله الله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فقال تعالى [وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا]( )، وقال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى]( )، أي بسبب قتلهم ، إذ يفيد حرف الجر في الآية السببية.
وورد عن عبد الله بن عمرو في حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلاته صلاة الكسوف أنه قال (عرضت علي الجنة حتى لو مددت يدي تناولت من قطوفها وعرضت علي النار فجعلت انفخ خشية أن يغشاكم حرها ورأيت فيها سارق بدنتى رسول الله ورأيت فيها أخا بنى رعد سارق الحجيج فإذا فطن له قال هذا عمل المحجن.
ورأيت فيها امرأة طويلة سوداء تعذب في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الارض حتى ماتت.
وإن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا انكسفت إحداهما أو قال فعل إحداهما شيئا من ذلك فاسعوا إلى ذكر الله)( ).
وهل يدل هذا الحديث على حرمة الإرهاب وحجز الرهائن وإيذائهم ، الجواب نعم ، ومن باب الأولوية القطعية من التي عذبت هرة.
و(في مناهي النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه نهى أن يحرق شئ من الحيوان بالنار، ونهى عن قتل النحل)( ).
وقال تعالى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ ، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ ، وَلاَ يَخْذُلُهُ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ : عِرْضُهُ ، وَمَالُهُ ، وَدَمُهُ ، التَّقْوَى ههنا ، بِحَسْبِ امرىء مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع (كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم)( ).
ويأتي الفعل الإرهابي على النفوس والممتلكات الخاصة والعامة , ويكون سبباَ لترويع الناس وإثارة الرعب والفزع بينهم , وهو نوع تعد على الحرمات , وعلى ملك الله عز وجل للأرض وما عليها , قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
قانون الآية القرآنية سكينة
تفيد آية البحث بعث السكينة في النفوس من جهات :
الأولى : حصر رهبة وخوف الناس من الله عز وجل .
الثانية : اللطف من عند الله عز وجل بتقريب الناس للرهبة منه سبحانه ، فيجذبهم بالسراء ، ويأخذهم بالضراء للهداية والخوف والخشية منه .
الثالثة : الآيات الكونية الثابتة والعرضية التي تدعو الناس إلى الخشية من الله تعالى وحده ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا]( ).
الرابعة : نفرة النفوس من الذي يرهب الناس ، ويسئ إليهم بطغيان ، حتى لو خاف الناس وخشوا إرهابه فانه إلى زوال وهلاك ، فمن سنن الحياة الدنيا إنقطاع الرهبة إلا من عند الله عز وجل.
الخامسة : بعثة الأنبياء بالفرائض العبادية والتي يبعث أداؤها السكينة في النفس ، ويكون مانعاً من الإرهاب .
وهل يختص الإنتفاع من الفرائض بالذين يقومون بأدائها ، الجواب لا ، وهو من أسرار صلاة الجماعة واستحبابها المؤكد ، وقيل بوجوبها .
ومن أسرار تلاوة المسلم القرآن في الصلاة الجهرية ، وأداء الصيام والإمساك عن الأكل والشرب في طاعة الله ، صيرورة الإمتناع والإمساك عن الإرهاب والإضرار بالأمن العام من باب الأولوية القطعية ، والتعدي على الحرمات.
وتبين آية البحث الملازمة بين أمور :
الأول : قانون التنزه عن الشرك جملة وتفصيلاً.
الثاني : قانون الإقرار بالوحدانية والإلوهية المطلقة لله عز وجل.
الثالث : الرهبة والخشية من الله عز وجل .
لبيان الملازمة بين التوحيد والخشية من الله علانية وسراً ، وتبعث هذه الملازمة على الرفق بالناس ، والإبتعداد عن الإرهاب ، والإمتناع عن الإضرار بالحقوق العامة ، والتنزه عن الغدر والغيلة والخيانة .
وهل يأتي الفعل الإرهابي بصفة الغدر والخيانة ، الجواب نعم ، وهو مما يتنافى مع مبادئ الإسلام وسنن الإيمان وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ]( ).
السادسة : مجئ الرزق الكريم مع الرهبة من الله عز وجل ، وهل هذه الرهبة من مصاديق العبادة ، الجواب نعم ، فمع أنها كيفية نفسانية ولكنها تتضمن معاني الخشوع لله عز وجل والإستعداد لتلقي الأوامر والنواهي الإلهية بالإمتثال ، ومن مصاديق الإمتثال قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، فلا يجوز جلب الضرر للنفس ، ولا الإضرار بالناس ، ومن خصائص الإرهاب أنه فرد جامع للإضرار بالنفس والناس.
لذا اختتمت آية البحث بوجوب الخشية والرهبة من الله عز وجل ، ومنها الإنزجار عن الفعل الإرهابي وإجتناب مقدماته .
وتتجلى نسبة العموم والخصوص المطلق بين كل من :
الأول : المعنى الإصطلاحي واللغوي للفظ القرآني وهو الطمأنينة ، فالإصطلاح أعم .
الثاني : الدلالة القرآنية والمعنى اللغوي للفظ القرآني .
الثالث : الأستعمال السياقي للفظ القرآني ومعناه اللغوي .
فصحيح أن القرآن نزل عربياً باللغة العربية [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
إلا أن معاني اللفظ القرآني أوسع وأعظم من معناه في المعاجم اللغوية والشعر العربي ، وهو من الشواهد على إنصياع العرب لبلاغة القرآن .
ليبعث اللفظ القرآني في رسمه وتلاوته وتفسيره السكينة في النفوس بما يحجبها عن الهم بالإرهاب والظلم والتعدي .
قانون حرمة الرضا بالإرهاب
من أبجديات الشرائع السماوية عدم القول بحلية ما حرّم الله عز وجل ، والذي يحل ما حرم الله عز وجل ينتفي عنده إنكار المنكرات ، وهل يلزم التفقه في الدين للوقاية منه.
الجواب نعم مع أنه ظاهر للعقول ، وصحيح أن الفرح بالمعصية لا يخرج الإنسان من الإسلام إلا أن هذا الفرح بذاته محرم.
و(عن العُرْس -يعني ابن عَميرة-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شَهِدَها فكَرِهَها – وقال مرة : فأنكرها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فَرَضِيَها كان كمن شهدها)( ).
وجاءت وسائل الإعلام الحديثة وبلوغ أخبار وقائع المشرق إلى المغرب وبالعكس في ساعة الحدوث ، ليكون الناس كالشاهدين عليها ، وإذا وقع فعل إرهابي فلابد من إنكاره باللسان والبيان أو بالقلب ، إذ ورد (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)( ).
ولا يصح الفرح أو الرضا بالتفجيرات العشوائية ، وسفك دماء الأبرياء كما لا يصح تمني الفعل الإرهابي ، ووقوعه في بقعة من عموم الأرض أو في المنتديات العامة ووسائط النقل الجوية أو البرية.
ولا تجوز الرغبة بانتشار وشيوع الإرهاب إتباعاً لهوى النفس ، ولنقص الإيمان ، وإرادة الفتنة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ويلزم الرضا بمشيئة الله عز وجل ، وقبول أحكام الشريعة فان قلت قد يكون الإنسان في ضيق وشدة وسخط فهل يصح له تمني المعصية والضرر بالغير ، الجواب لا ، إنما عليه الصبر ، ورجاء الأمن والسلامة للناس ، والسعي في مسالك الخشية من الله ، والنهي عن الفعل الإرهابي ، ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المقام من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا]( ).
و(عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقاباً من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم)( ).
ومن خصائص الحياة الدنيا أن الذي يرضى بالمعصية ، ويساعد في رضاه الظاهري عليها يبتلى بالأذى ، وقد يأتيه العقاب العاجل ، وفي قصة ناقة النبي صالح قال تعالى [فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ]( )، فقد عقرها واحد منهم ، ولكن العذاب تغشاهم.
وعن ابن عباس (وعاقرها رجل نساج يقال له قدار بن سالف)( ).
مما يلزم المسلمين والمسلمات استهجان الفعل الإرهابي في أي بقعة أو بلد كان وقوعه ، لبيان براءة الإسلام منه ، وتأكيد إعراض المسلمين عن مفاهيم الإرهاب ، وأنه ضلالة يتنزهون عن الدعوة أو الحض عليه .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)( ).
ترى لماذا يرضى بعضهم بالفعل الإرهابي ، أو يتمنى وقوعه ، الجواب إنه من نقص الإيمان ، وقلة الفقاهة في الدين ، وغلبة النفس الغضبية وإرادة الإنتقام بأي كيفية .
ولا يضر الراضي بالفعل الإرهابي إلا نفسه ، فمن إعجاز نبوة محمد تجلي أحكام الحلال والحرام ، وعدم إمكان التداخل أو الخلط بينها ، وتدل أحكام الحلال على براءتها من الإرهاب ، وأحكام الحرام على أنه فرد منها.
قانون التضاد بين السنة النبوية والإرهاب
الحمد لله الذي جعل السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع ، فهي شعبة من الوحي ، وقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان أحكام الحلال والحرام ، وتفسير آيات القرآن ، وجذب الناس لمنازل الإيمان ، وتنحيتهم عن الحرام والأخلاق المذمومة والغزو والإقتتال فيما بينهم.
وهل ورد في السنة ما يخص الإرهاب أم أنه مفهوم مستحدث ، ومن المسائل الإبتلائية في هذا الزمان ، الجواب هو الأول ، فالإرهاب حرب على النبوة والإنسانية .
لقد تصدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعنف والإرهاب بمفهومه المعاصر بأن دعا إلى السلم والتراحم والعفو وإلى تغليب لغة الحوار ، والإكتفاء بالإحتجاج وإقامة البرهان.
لقد جرت عدة محاولات من المشركين لقتل وإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقترنت بتهديد منهم متصل.
وتدعو السنة النبوية إلى الإعتدال والعقلانية والتعايش السلمي ، وتشيع الأمن ، وتبعث على السكينة وتمنع من تنغيص حياة الناس.
ويتصف منهاج النبوة بالسماحة ، وإعانة الناس في معايشهم ، وجعل السكينة تتغشاهم في البيت والسوق والطرق العامة ، وعن (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)( ).
وورد هذا الحديث مطلقاً من غير تقييد بسلامة خصوص المسلمين وإن ورد حديث فيه لإمكان الجمع بينهما ، ويتضمن هذا الحديث النهي الصريح عن الإرهاب.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)( ).
لبيان الوظائف العامة للمؤمن وأنه لا يكتفي باجتناب إيذاء الناس بالقول أو الفعل ، بل إن الناس تأمنه على حياتهم وحياة أبنائهم وعلى أموالهم وأعراضهم.
فيجب تعاهد مراتب الأمانة التي ورثها المسلمون من السيرة الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي جاء بها القرآن ، ولرجاء الأجر والثواب يوم القيامة.
النص بين القطعي والظني
تنقسم النصوص الشرعية والأدلة السمعية من الكتاب والسنة النبوية ، وقول الأئمة المعصومين إلى اقسام :
الأول : قطعي الصدور والدلالة ، وقد يقال الثبوت أو الورود بدل الصدور ، وهو أعلاها رتبة.
الثاني : قطعي الصدور ظني الدلالة مثل قوله تعالى [بِرُءُوسِكُمْ]( )، مثل الباء للإلصاق أو زائدة فيمسح الرأس كله أم أنها للتبعيض فيمسح بعضه وهو الوارد عن الإمام الباقر عليه السلام.
ومثل [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ]( )، فقوله تعالى [أَقِيمُوا الصَّلاَةَ] نص قطعي الصدور والثبوت ، أما بالنسبة للدلالة فيفهم منه وجوب إقامة الصلاة ، فتكون دلالته قطعية لاخلاف فيها.
الثالث : ظني الصدور قطعي الدلالة ، مثل من أدرك الإمام وهو في الركعة الأخيرة فقد أدرك فضل الجماعة.
فهو قطعي الدلالة ولكنه ليس قطعي الصدور فلم يأت بحديث متواتر يقطع بأن الإمام عليه السلام قد قاله ، فهو حديث آحاد.
الرابع : ظني الصدور ظني الدلالة مثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (البيعان بالخيار ما لم يفترقا ، فاذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما)( ).
أما واهن الصدور فلا دلالة له فليس من الأدلة السمعية ويراد من الصدور نسبة النص إلى مصدره ووصوله إلينا ويقال أيضاً الثبوت .
أما الدلالة فهو المعنى المستقرأ والحكم المستنبط من النص ، والذي يدل عليه النص سواء الكتاب أو السنة.
لذا يمكن أن نضيف قسيماً خامساً وهو قطعي الصدور ظني الدلالة الذي صار بالنص اللاحق قطعي الدلالة أيضاً.
والقرآن نص ثابت فهو كلام الله الذي [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ]( )، وصدوره يقيني بكل آياته وكلماته وحروفه ، وكذا السنة النبوية وأحاديث المعصوم المتواترة .
أما ظني الصدور فيختص بخبر الآحاد والمرسل والمنقطع .
وينقسم النص من حيث الدلالة والحكم المستنبط إلى قسمين :
الأول : قطعي الدلالة وهو النص الذي لا يحتمل إلا حكماً واحداً كالنصوص التي تدل على وجوب الصلاة وأنها خمس مرات في اليوم وعدد الركعات ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
ومنه صيام شهر رمضان وهو الشهر التاسع من الأشهر القمرية ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وقال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثاني : ظني الدلالة : وهو الذي يحتمل الحكم وغيره بلحاظ القرينة والبيان.
ويمكن القول : أن القرآن قطعي الصدور قطعي الدلالة إلا كلمات منه ظنية الدلالة ورد بيانها بآيات أخرى وبالسنة ، وهل يمكن احصاء الكلمات التي تفيد الظن ، الجواب نعم ، قال تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
وينفرد القرآن بأنه قطعي الصدور على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والإفرادي بكل آية وكلمة منه .
أما السنة النبوية فمنها ما هو قطعي الصدور ، ومنها ما هو ظني الصدور ، وكل واحد منهما قد يكون قطعي الدلالة ، وقد يكون ظني الدلالة .
ولا يقع الإجتهاد فيما هو قطعي الصدور والدلالة إنما يجب العمل به وفق الأحكام التكليفية الخمسة .
وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة بثبوت صدور القرآن من عنده تعالى .
ولا اجتهاد في الضروريات أما إذا كانت الواقعة يتعلق بها حكم ظني الصدور والدلالة أو أحدهما ظني فيكون فيها الإجتهاد ، فمثلاً ورد خبر ظني الصدور ظني الدلالة كالخبر الضعيف في اسناده ودلالته.
ويدل الكتاب والسنة بالدلالة القطعية على لزوم تحلي المسلم بالأخلاق الحميدة فقط .
آيات مادة رهب
لقد وردت مادة (رهب) ومشتقاتها في اثنتي عشرة آية من آيات القرآن وهي :
الآية الأولى : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
الآية الثانية : قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الآية الثالثة : قوله تعالى [قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ]( ).
الآية الرابعة : قوله تعالى [وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ]( ).
الآية الخامسة : قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الآية السادسة : قوله تعالى [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
الآية السابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
الآية الثامنة : قوله تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
الآية التاسعة : قوله تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
الآية العاشرة : قوله تعالى [اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ]( ).
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى [لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى [ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ]( ).
الآية الأولى : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
يتوجه الخطاب في آية البحث بالأصل إلى ذرية النبي يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل وكان في المدينة من اليهود طوائف :
الأولى : بنو النضير .
الثانية : بنو قريظة .
الثالثة : بنو قينقاع .
لكن مضامين الآية لا تنحصر بهم فهي عامة , ومتجددة كل يوم , ومن أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن خمس مرات في اليوم سماع يهود المدينة لهذه الآية وتذكيرهم بمضامينها , قال تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] ( ).
وهل يصح تقدير الآية (قل يا بني إسرائيل) في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و(قولوا يا بني إسرائيل) في خطاب للمسلمين والمسلمات) الجواب نعم .
وإسرائيل هو النبي يعقوب وهو ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)) ( ).
وهذه المنزلة وتوالي النبوة في بني إسرائيل من نعم الله عليهم , ومن مصاديق آية البحث لبيان تعدد مصاديق النعم التي تفضل الله عز وجل بها على بني إسرائيل.
وهل من موضوعية لهذا التوارث في النبوة في حياة يهود المدينة ولزوم تلقيهم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق , الجواب نعم .
وفي قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه دعوة للمسلمين للرفق باليهود , والتذكير بآبائهم من الأنبياء والرسل ويمكن القول أن أكثر أمة بعث الله عز وجل فيها أنبياء هم بنو إسرائيل لبيان عظيم فضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل .
ومن إعجاز القرآن توثيقه لخطابات الله عز وجل للأنبياء والأمم السابقة من الموحدين وغيرهم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
لقد ورد النداء [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ] في القرآن ست مرات ، وهو نداء إكرام وتنبيه وإنذار.
وهل اختص برسالة موسى عليه السلام ، وأنه جاء بواسطة التوراة وحدها ، الجواب لا ، لتعدد أنبياء بني إسرائيل ، ولنزوله في القرآن ، وخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين لهم بتلاوة ذات الآيات.
وقد ذكرتُ في تفسير هذه الآية المباركة وفي الجزء السادس والعشرين من هذا السِفر وفي باب من غايات الآية مسائل منها :
الأولى : الأمر للمسلمين بذكر الله عز وجل.
الثانية : يفيد عطف الذكر على الآية السابقة بأن ذكر الله نوع شكر له سبحانه على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهراني العرب والمسلمين وتعليم المسلمين الكتاب والحكمة، والشكر بذاته عمل صالح، وتترشح عنه الصالحات.
الثالثة : جعل المسلمين في حرز من السيئات، إذ أن ذكر الله حصن ومنعة.
الرابعة : حث المسلمين على الإستغفار لأنه من مصاديق الذكر.
الخامسة : تجلي طريق الفوز برحمة الله، وهذا الطريق ذكر الله لقوله تعالى[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ].
السادسة: بيان فوز المسلمين بمرتبة ذكر الله عز وجل، وهذا الذكر متصل إلى يوم القيامة، وملازم لذكرهم له سبحانه في الصلاة، وتلاوة القرآن، والفرائض البدنية كالصيام والحج لأنه نوع ذكر وطاعة وإمتثال لأوامر الله عز وجل .
وصحيح أن آية البحث خطاب لبني إسرائيل إلا أنها دعوة للمسلمين والمسلمات بذكر نعم الله عز وجل عليهم ، ومنها نعمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، وبيانه لأحكام الشريعة ، وضبطه لآداب السلوك ومنها حرمة الإرهاب .
وهل يمكن تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، الجواب نعم ، ويتجلى ذكر النعم باللسان والجوارح ، ومنه الإمتناع عن الإرهاب وعن تأييده أو تهيئة مقدماته.
قانون اتحاد الرهبة
تضمنت آية البحث الأمر المقرون بالوعد [َأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ]( )، فلابد أن يتقيد بنو إسرائيل بمعالم الإيمان ، ويعملوا بالسنن التي جاء بها الأنبياء ، والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم اختتمت الآية بالأمر المطلق وهو (وإياي فارهبون) وورد حرف العطف لبيان الملازمة بين أمور :
الأول : ذكر بني إسرائيل لنعم الله عليهم على كل حال .
وهل هذا الذكر تفصيلي أم إجمالي ، الجواب كلاهما صحيح ، ويرضى الله عز وجل بالقليل والمسمى ، إلا ان تعداد النعم على بني إسرائيل مناسبة للخشوع المتصل .
الثاني : الوفاء بعهد الله عز وجل .
الثالث : الخشية والرهبة من عند الله عز وجل .
ومن خصائص الرهبة والخشية من الله الإمتناع عن الإرهاب والظلم والتعدي .
ويمكن القول بقانون لا يجتمع الإرهاب مع الرهبة من الله مطلقاً ، إذ تنبسط الرهبة من الله على الجوارح والأركان ، وتمنع الإنسان من الظلم والتعدي .
ليكون من إعجاز القرآن أن ورود مادة رهب فيه زاجر عن الإرهاب ، ومانع منه .
وتنمي آية البحث ملكة الخشية والرهبة من الله في نفوس المسلمين ، فصحيح أن الخطاب في الآية لبني إسرائيل ، ولكن موضوعها أعم ، ومن مصاديق الإرتقاء الفقهي عند المسلمين تلقيهم خطابات القرآن للأمم الأخرى بذات المرتبة في تلقي الخطابات الموجهة إليهم من باب الأولوية.
ليكون من وجوه تقدير الآية (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون).
فتحرم الآية الكريمة على كل مسلم ومسلمة الإرهاب والإضرار بالناس ، فمن رهبة الله إكرام الناس وإجتناب الفساد وسفك الدماء.
وتبين الآية إتحاد الرهبة وجهتها وأن المسلم لا يخشى إلا الله ، ومن الأسباب الي تدفع بعضهم إلى الإرهاب إتخاذه بلغة ووسيلة لتحقيق غايات واهمة ، والخشية من حدوث الضد من هذه الغايات والرغائب.
فاختتمت الآية بنفي الرهبة التي تبعث على الإرهاب إنما الرهبة واحدة وهي الرهبة والخوف والخشية من عند الله التي تبعث على التقوى والسعي في منازل السلم والأمن ، لذا اختتمت الآية التالية بقوله تعالى [وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]( ).
ليكون الجمع بين الرهبة من الله ، والخشية منه وتقواه في السر والعلانية الإمتناع عن إيذاء الناس ، وعن نشر الخوف والفزع بينهم.
ومن خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ ميراث الأنبياء بسنته ونهج أمته في الصالحات ، فيرهب المسلمون والمسلمات مجتمعين ومتفرقين الله عز وجل .
ومن مصاديق هذه الرهبة إدراك حرمة الإرهاب بمفهومه الإصطلاحي في هذا الزمان .
وتبين الآية مدرسة الرهبة من الله ، وخصائصها وكيف أنها حرز من الإرهاب إذ تبعث الآية المسلم على الإنشغال بنفسه ، وتحضه على الدعاء والإستغفار ، ومراقبة أقواله وأفعاله كيلا تخرج عن الخشية من الله .
الآية الثانية : قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( )،
يتوجه الخطاب (لتجدن) إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد هذا اللفظ (لتجدن) في القرآن إلا في الآية أعلاه مرتين ، ويتعلق موضوعه بالمودة والعداوة وهي مرتبة نفسية قد تترشح عنها الأفعال كما في قيام المشركين بتجهيز الجيوش في معركة بدر وأحد والخندق ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وتبعث الآية المسلمين على الحيطة والحذر من الحسد والبغي ومن إيصال الضرر إليهم من المشركين ومن أناس ذكرتهم الآية بقوله تعالى [أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً].
وتضمنت الآية الثناء على النصارى وغيرهم ، إذ يدل قوله تعالى [َلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً] مما يدل على وجود أمم متعددة مع النصارى تحمل الود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ويمتنعون عن قتالهم أو نصرة الذين يقاتلونهم .
مما يبعث المسلمين على التدبر واللطف في معرفة أحوال الناس وعدم إيذائهم ، والنصارى هم اتباع السيد المسيح عليه السلام .
ومن إعجازالآية دلالات آية المباهلة ورضا نصارى نجران بدفع الجزية السنوية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتناع عن محاربته.
ولما نزل قوله تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المباهلة والمناظرة في الدعاء فاقبل في الصباح (مشتملا على الحسن والحسين في خَمِيل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة.
فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا، فكنا أول العرب طعن في عينيه ورد عليه أمره، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة، وإنا لأدنى العرب منهم جوارا، ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعَنَّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شَعْر ولا ظُفُر إلا هلك.
فقال له صاحباه: يا أبا مريم، فما الرأي.
فقال : أرى أن أحكمه ، فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا.
فقالا له: أنت وذاك.
قال: فلقي شرحبيلُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك.
فقال: وما هو ، فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لَعَلَّ وَرَاءكَ أحَدًا يَثْرِبُ عَلْيكَ؟” فقال شرحبيل: سل صاحبي. فسألهما فقالا ما يرد الوادي ولا يَصْدرُ إلا عن رأي شرحبيل.
فَرَجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يلاعنهم، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب :
(بِسْم الله الرحمنِ الرَّحِيم، هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ النَّبِي رَسُولُ اللهِ لِنَجْرَانَ إنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمَهُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَودَاءَ وَرَقِيقٍ فَاضِلٍ عَلَيْهِمْ، وتَرْك ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ، عَلَى أَلْفَي حُلَّةٍ، فِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ، وفِي كُلِّ صَفَرٍ ألْفُ حُلَّةٍ” وذكر تمام الشروط)( ).
وهل رضا وفد نصارى نجران بهذه الشروط من حسن مودتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب نعم ، وهل من مصاديق لهذه المودة في هذا الزمان ، الجواب نعم .
مما يستلزم حرمة الإرهاب والتعدي على النصارى وغيرهم من أهل الأرض وقال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ]( ).
لقد ذكرت الآية مادة (رهب) بلفظ رهباناً ، أي عباد منقطعون إلى العبادة في الصوامع ، لا تشغلهم الدنيا ، ولا يقصدون الإضرار بأحد من الناس ، إلى جانب كونهم (قديسين ) أي علماء ليجتمع عندهم العلم والزهد بما يؤدي إلى رقة القلب والسلامة من الإستكبار ، ومن الغلظة والقسوة والشدة.
ويتصف النصارى مع الرهبنة بعدم الإستكبار على الناس ، وعن الإستماع لآيات التنزيل.
سمت النجاشي
ومن إعجاز القرآن مجئ الآية التالية بالثناء على النصارى [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] ( ) والدلالة على إقرارهم بصدق نزول القرآن ، وقد حدث مصداق للآية في النجاشي عندما تلا عليه جعفر الطيار آيات من القرآن ، وكان سبباً لإمتناعه عن تسليم الصحابة المهاجرين إلى وفد قريش .
ولما وقعت معركة بدر وخسرها المشركون ولحقتهم هزيمة نكراء وسقط قتلى سبعون من صناديد قريش اجتمعوا في مكة ، وقال (إن ثأركم بأرض الحبشة فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) ( ) محملين بالهدايا إلى النجاشي وحاشيته وأساقفته فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكر قريش ، والخطر الذي يهدد مهاجري الحبشة.
فبعث عمرو بن أمية الصخري بكتاب إلى النجاشي يسأله الإمتناع عن تسليم المهاجرين إلى المشركين ، وكان النجاشي يتصف بالعدل.
وهل من صلة بين العدل والميل لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإيواء المسلمين ، الجواب نعم ، فأرسل النجاشي على جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأرسل إلى الرهبان والقسيسين وجمعهم ثم أمر أثناء الجدال والإحتجاج جعفراً أن يقرأ القرآن ، فقرأ سورة [كهيعص] ( ).
فقام الأساقفة وعيونهم تفيض من الدمع فانزل الله آية البحث والآية التي بعدها (وفي السيرة فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال جعفر :
نعم فقال له النجاشي : اقرأه علي قال : فقرأ {كهيعص}.
فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم فقال النجاشي : هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا) ( ).
وهل رهبنة النصارى زاجر عن التعدي عليهم ، الجواب نعم ، وإن كان الرهبان طائفة قليلة منهم ، إلا أنهم يظهرون الجانب العبادي والنسك والزهد الذي عليه النصارى .
لقد بعثت قريش إلى النجاشي مرتين :
الأولى : بعد هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة .
الثانية : بعد واقعة بدر .
وكان عمرو بن العاص رسول قريش في المرتين ، وكان معه في إحداهما عمارة بن الوليد ، وفي الأخرى عبد الله بن أبي ربيعة المخزوميان( ) .
وعمارة بن الوليد هو الذي عرضت قريش على أبي طالب أن يأخذه ويتخذه ولداً مقابل تسليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم الذي خالف دين آبائهم، وكان الوليد جميلاً وسيماً .
وحينما خرج إلى الحبشة ، كانت زوجة عمر بن العاص معه (وعمارة كان شابا حسنا، فاصطحبا في السفينة، وكأن عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص، فألقى عمرا في البحر ليهلكه، فسبح حتى رجع إليها، فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك.
فحقد عمرو عليه.
فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي، فوشى به عمرو، فأمر به النجاشي فسُحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش.
وقد ذكر الاموى قصته مطولة جدا، وأنه عاش إلى زمن عمر بن الخطاب، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه، فجعل يقول: أرسلني أرسلني وإلا مت.
فلما لم يرسله مات من ساعته) ( ).
ثناء القرآن على عيسى (ع)
وقد ذكر الرسول عيسى باسمه في القرآن خمساً وعشرين مرة .
وهل ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن أربع مرات فقط عند المقارنة بذكر أسماء الأنبياء في القرآن ، الجواب لا ، فمن موارد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن لفظ (قل) التي وردت خطاباً له (328) مرة ، وتقديرها على وجوه :
الأول : قل يا رسول الله .
الثاني : قل يا نبي الله .
الثالث : قل يا محمد .
الرابع : قل يا محمد .
ويجوز جمع الخطابات الموجهة في القرآن إلى الأنبياء متفرقين ومجتمعين ، ولا تصل بمجموعها إلى عدد خطابات الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كانت ولادة عيسى عليه السلام معجزة ، إذ حملت به مريم وهي عذراء ، وتم توثيق المعجزة ، وسلامته وأمه من القتل والرجم ، واتصف عيسى عليه السلام بالمعجزات منها إحياء عدد من الموتى وإبراء الأعمى من الولادة والأبرص باذن الله.
لتكون هذه المعجزات سبيل هداية ، وباعثاً على التقوى ، والإمتناع عن الإضرار بالناس والممتلكات ، وقد جرى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شفاء للمرضى والجرحى.
فلا يصح الإقدام على قتل الناس وإصابتهم بجراحات بارهاب لا أصل له.
وفي التنزيل [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وورد لفظ [الأَكْمَهَ] في القرآن مرتين كلاهما بخصوص معجزة عيسى عليه السلام ، وهل يدل على أنها معجزة له دون الأنبياء ، الجواب لا ، فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره خاصة مع إتحاد سنخية النبوة.
ويمكن أن نؤسس قانوناً وهو أن أعطاء الله بالأوفى والأتم لا يختص بذات الموضوع والجهة إنما يشمل التعدد والتوالي ، والتكرار في الجهة والفضل واللطف الإلهي .
وهل من صلة بين معجزات عيسى عليه السلام وبين إتخاذ بعض العباد من النصارى الرهبنة والزهد ، الجواب نعم ، فقد كانت سيرته في الزهد حجة .
وقيل (أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يقول : اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ، ولا أملك نفع ما أرجو ، وأصبح الأمر بيد غيري ، وأصبحت مرتهنا بعملي ، فلا فقير أفقر مني ، اللهم لا تشمت بي عدوي ، ولا تسؤ بي صديقي ، ولا تجعل مصيبتي في ديني ، ولا تسلط علي من لا يرحمني) ( ).
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترغيب الناس بالدعاء ، وإتخاذه بلغة ووسيلة للفوز في عالم لآخرة .
وهل ينفع الدعاء في صرف الإرهاب وأثره ، الجواب نعم ، وهل تكون الإستجابة لخصوص هذا الغرض ، الجواب لا .
إذ يتفضل الله عز وجل بالعطاء والهبات فيما سأله العبد وما لم يسأله ، وفيه وجوه :
الأول : يسأل العبد الله عز وجل فينتفع من دعائه .
الثاني : يسأل العبد الله عز وجل لنفسه فينتفع غيره من أهله الأقربين.
الثالث : يأتي الفضل الإلهي للعبد بدعاء غيره وهو من الإعجاز في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
و(عَنْ أَبِي سَلَّامٍ قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ فِي مَسْجِدِ حِمْصَ فَقَالُوا هَذَا خَادِمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ حَدِّثْنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و وآله َسَلَّمَ لَا يَتَدَاوَلُهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ الرِّجَالُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و وآله َسَلَّمَ مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ) والحديث ضعيف سنداً
للتنكير في (مر رجل) وأنه خادم رسول الله من غير ذكر اسمه ، ولم يعرف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعدد الخدم عنده ، إنما كان أنس بن مالك يقوم بقضاء بعض حاجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشخصية ، وأكثرها كان يقوم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ، وهو من معجزاته وعن (ابن عمر فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه حين يمسي وحين يصبح.
اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عورتي وآمن روعاتي.
اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ومن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن اغتال من تحتي) ( ).
وهل تجتمع الرهبة والإرهاب ، الجواب لا فهما من المتضادين .
وفُسر (أن أغتال) بانه الخسف ، والمختار أعم ويشمل الإغتيال والقتل غيلة من القريب والأدنى والمنافق .
من وصايا الآية في مفهومها
لقد ابتدأت الآية بقوله تعالى [لَتَجِدَنَّ] بحرف اللام الذي قيل هي لام القسم وواقعة في جواب قسم مقدر أو محذوف ، والمختار عدم وجود قسم في الآية حقيقة أو مقدراً ، إنما هي لام التوكيد ، لما في الآية من البيان والتحدي الجامع بين التحذير والإنذار بقوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً] الذي يدل على تعدد أعداد المسلمين ، والتباين في مراتب عداوتهم ، ولزوم الحيطة والحذر والتحلي بالصبر .
وجاءت الآية بالمواساة بمودة النصارى وغيرهم للمسلمين وينقص عدد الأعداء بدخول المشركين الإسلام.
والتخفيف والبشارة بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
مع تكرار لفظ (الذين آمنوا) أي المسلمون والمسلمات الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتلقي هذه التسمية عليهم عهداً بلزوم الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسالك السلم والتعايش مع أهل الكتاب والصبر على الأذى.
ترى لماذا قالت الآية [أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً] الجواب للدلالة على اتساع الإسلام في المشرق والمغرب ، وهناك ملل وشعوب ستكون لها مودة مع المسلمين أيضاً ، مما يحرم على المسلمين الإرهاب في الأمصار المختلفة.
فيجب الصبر على الأذى ، ومقابلة المودة بمثلها ، وتختلط الشعوب والأجناس في بلدانها ويكون الذين يودون المسلمين هم الأكثر ، ويتجلى بوضوح في كثرة أمم النصارى ، وهذا الإختلاط مانع من الإرهاب ، وبيان لضرره ، وأنه خلاف الجزاء الحسن الذي أوصى به الإسلام.
ويلتقي المسلمون والنصارى بالتواضع إذ أن الإستكبار أشبه بالداء ، ويؤدي إلى الوهن والإرباك في النسيج الإجتماعي.
ونزلت آيات في ذم التكبر وبيان قبحه وضرره في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ]( ).
وقال تعالى في ذم المشركين [ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ]( )، وقال تعالى [وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ]( )، وذكرت الآية أعلاه الناس على نحو العموم الإستغراقي مما يدل بالأولوية القطعية على حرمة التفجيرات والإرهاب والعنف ضد أي فرد أو أهل ملة منهم.
قانون بيان القرآن لحرمة الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل القرآن بياناً ووثيقة سماوية تبين تأريخ الأديان والأمم والجامع بينها ، والنافع لها ، ليلجأ إليه الناس في استيفاء الأخبار ، ويحترزوا من التحريف والخرافة والأساطير ، ويجتنبوا الظلم والطغيان والإرهاب ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه أنها مع قلة كلماتها فقد تفضل الله عز وجل علينا بصدور الأجزاء (101-102-103-104-105) من هذا السِفر في تفسيرها وتأويلها ، وكل كلمة منها تدل على حرمة الإرهاب من جهات :
الأولى : بيان القرآن لحرمة الإرهاب بالنص والظاهر والمفهوم .
الثانية : توجه القرآن للناس جميعاً بالزجر عن الإرهاب والإخبار عن حرمته ولزوم التعاون لإجتنابه .
الثالثة : تأكيد قانون القرآن هدىً.
الرابعة : قانون التعارض بين الهدى والإرهاب .
الخامسة : قانون كل آية من القرآن موعظة وإصلاح ، ودعوة لنبذ الإرهاب .
السادسة : قانون وجوب التقوى والخوف والرهبة من الله عز وجل ، وهي حصانة وحرز من الإرهاب ، قال تعالى [قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
قانون توثيق القرآن للملل
لقد ذكر القرآن فضل الله سبحانه في خلق آدم أبي البشر في الجنة ومعه حواء وهبوطهما إلى الأرض لتبدأ خلافة الإنسان في الأرض وهي سور جامع من الموجبة الكلية لكل أهل الأرض في هذا الزمان وما قبله ، وما بعده.
وقد شرّف الله عز وجل الناس بالنبوة ، ومن الإعجاز أن عدد الأنبياء قليل إلى مجموع الناس ، إذ أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي في مقابل المليارات من الناس ، ولكن عددهم هذا كاف للتبليغ وثبوت الدعوة إلى التوحيد في الأرض بمعجزة اختتام النبوات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن جامعاً للأحكام وفيه بيان لتأريخ الملل وقصص الأنبياء والأمم ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين أحسن القصص وبين الإرهاب ، الجواب هو التنافي والتضاد ، ليكون من إعجاز القرآن قانون تبرأ قصص وأمثلة القرآن من الإرهاب ، وقانون كل قصة فيه تنهى عن الإرهاب وتبين قبحه.
و(عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأنبياء أخوات لعلات ، أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى بن مريم)( ).
والمراد اتحاد سنخية الإيمان والبعثة والوحي من الله عز وجل وإن اختلفت الشرائع ، ولبيان أن حرمة الإرهاب جامع بين الأنبياء والرسل ، فليس من نبي إلا وجاء بحرمته ، وصبر على أذى المشركين ، ولبيان (قانون التنافي بين الصبر والإرهاب) والرهبانية من الرهبة والرهب .
وهي المخافة مع تحرز وخشية وخوف ظاهر على الجوارح من الله عز وجل ، وتبتل وإنقطاع إليه سبحانه ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ]( ).
جمع الآية للملل دعوة للسلم المجتمعي
لقد جمعت آية البحث بين كل من :
الأول : المسلمون .
الثاني : النصارى .
الثالث : اليهود .
الرابع : المشركون .
وموضوع الآية هو العداوة والمودة ، لبيان أن وظيفة المسلم هي الرفق والمودة والإمتناع عن الإرهاب واخافة الناس ، وإجتنابه الإستكبار لخاتمة الآية بقوله تعالى [وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
ترى ما هي الصلة بين الإرهاب والإستكبار ، المختار العموم والخصوص من وجه ، فاختيار الإرهاب لا يخلو من الإستكبار وإن ظن صاحبه أنه مستضعف ، إنما هو يستكبر عن الحق ويمتنع عن لغة الإحتجاج والجدال ، وعن الصبر وتحمل الأذى في مرضاة الله عز وجل ، والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(وعن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد ولقد أتت علي ثلاثون ما بين ليلة ويوم وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه أبط بلال)( )( ).
وتلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى الشديد بالصبر ، وعندما تم فتح مكة لم يبطش أو ينتقم من أحد إنما خاطب كفار قريش برفق وانشغل بالشكر لله عز وجل وتلاوة القرآن ووقف على باب الكعبة وقال : لا إله إلا الله عز وجل وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
ومن الإعجاز في جمع آية البحث للملل الدعوة للسلم والتعايش ، وإشاعة مفاهيم الرأفة والرحمة ، وأخبرت الآية عن وجود قسيسين ورهبان بصفة الزهد والروحانية عند النصارى للدلالة على إكرامهم وانصاتهم لهم ، وهو الظاهر في تعاقب الأزمنة إلا ما قلّ وندر بسبب أحوال وأسباب خاصة ، وفيه زجر ومنع من الإرهاب مع أهل الملل ، ومع الناطقين بالشهادتين.
قانون قهر إرهاب المشركين
من الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حمله للواء التوحيد برايات السلم في القول والفعل ، ومن مصاديق قوله تعالى [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( )، كفاية الوحي في التبليغ وهداية الناس ، ولا تنحصر هذه الكفاية بأيام التنزيل بل هي باقية ومتجددة إلى يوم القيامة ، وفيه إخبار للمسلمين وغيرهم بحرمة الإرهاب ، وعدم الحاجة إليه ، وأنه ضرر ومخالف لقواعد التبليغ .
ومن رايات السلم في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خروجه مهاجراً من مكة مبتعداً عن إرهاب قريش .
وعندما جهزوا الجيوش لقتاله صرف الله عز وجل شرورهم ، وبانت هزيمتهم على نحو التكرار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وفي نسبة هزيمة الأحزاب لله عز وجل مسائل :
الأولى : إقرار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحدانية ، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل .
الثانية : تسليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعبوديته لله عز وجل وأن ما تم من الظفر هو لطف من عند الله عز وجل .
الثالثة : قبح فعل الأحزاب سواء في معركة بدر أو معركة أحد أو معركة الخندق ، أو في إصرارهم على الكفر ومفاهيم الضلالة .
الرابعة : تحقق النصر التام على المشركين واستئصال الشرك من الجزيرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الخامسة : تأديب الصحابة بقانون فتح مكة فضل من الله عز وجل ، وليس بجهودهم وجهادهم وإن كان الله عز وجل يكتبه لهم ، ويثيبهم عليه في الدنيا والآخرة ، ومن مصاديق قانون قهر إرهاب المشركين فضل الله بأن دخل مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب كما نزل بخصوص معركة بدر قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
لقد كان فتح مكة في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة وبعد أن وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب الكعبة (قالَ : يا أهلَ مكةَ ما ترونَ أني فاعلٌ بكُم ، قالُوا : خيراً أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ)( ).
فقال كلمته الخالدة : اذهبوا فانتم الطلقاء .
لبيان أن السنة النبوية ضد الإرهاب ، ومانع منه وأن النبي يقابل أعداءه بالرأفة والرحمة فتكون النتيجة ميلهم إلى الإسلام ، إذ بايع أهل مكة في ذات اليوم النبي محمداً على الإسلام ، ولا يضر فيه وجود [الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( ).
من وصايا الآية في مفهومها
هل من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقابلة مودة النصارى للمسلمين بالرأفة والرحمة ، الجواب نعم .
فيجب تعاهدها بالإمتناع عن الإرهاب وعن اخافة النصارى وغيرهم في ديارهم وبلدانهم وفي أرجاء الأرض كلها ، خاصة وأن السنة النبوية خالية من الإرهاب وتزجر عنه .
وتتضمن آية [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً]( )، في مفهومها وصايا متعددة للمسلمين منها :
الأولى : الشكر لله عز وجل على وجود أمم تود المسلمين خاصة وأن هذه المودة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن سمت المسلمين .
الثانية : تبعث المودة على لذيذ العيش ، والصلات الحسنة .
الثالثة : هذه المودة ابتداءً وأثراً ، فهي من رشحات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، إذ رآى النصارى وغيرهم من أهل الأرض انقطاع المسلمين للعبادة ، وتفيدهم بسنن التقوى ، وتنزهم عن الإرهاب لتعارضه مع التقوى .
الرابعة : لزوم عصمة المسلمين من الإضرار بالمصالح العامة للناس وحياتهم اليومية ، إذ يجمع المسلم وغيره من أهل الملل الجوار والموادعة والمواطنة .
الخامسة : حسن التواضع والإبتعاد عن الإستكبار .
السادسة : إعجاز القرآن في الإخبار عن أحوال الناس ، والحالة العامة لكل طائفة تأديب وتعليم للمسلمين .
السابعة : الحيطة والحذر من أهل الحسد والعناد .
الثامنة : قانون النسك يرقق القلب ، ويطرد عنه الغلظة والجفاء ، قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ) ( ).
التاسعة : البشارة بأن النصارى لا يقاتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فلا يظاهرون مشركي قريش ونحوهم ولا يمدونهم بالسلاح والمال في قتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالقتال غير مشروع في دين النصارى ، ولأنهم يودون المسلمين ، ويتصفون بالرأفة والرقة (وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر)( ).
العاشرة : موضوعية بشارة عيسى عليه السلام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مودة النصارى للمسلمين.
الحادية عشرة : توثيق إيذاء وتعذيب كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وإيواء وحفظ النجاشي للمسلمين والمسلمات الذين وفدوا عليه ، والنجاشي اسم الملك مثل قيصر وكسرى واسم النجاشي : أصحمة وهو باللغة الحبشية عطية ، تولى الحكم وعمره تسع سنوات بعد موت عمه بصاعقه ، اتصفت أيامه بالعدل . وفي أسباب نزول قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( )، قال (جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة : نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أضحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبرئيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أُخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم)( ).
الثانية عشرة : لزوم شكر المسلمين للأمم التي تودهم ، لعمومات قوله تعالى [هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ]( )، ويتجلى هذا الشكر بمصاديق أخلاقية واجتماعية وعرفية باعانتهم ، وصدق صحبتهم ومعاشرتهم ، والوفاء لهم ، والإمتناع عن الغدر بهم في مساكنهم ودور العبادة ووسائط النقل والأماكن العامة.
قانون بشارة عيسى بالنبي محمد (ص) حرب على الإرهاب
لقد وردت على لسان عيسى عليه السلام البشارة العامة بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
إذ تتضمن هذه الآية بشارة عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الناس جميعاً للتصديق برسالته، وإخباره بأن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سيأتي بالمعجزات التي تدل على صدق نبوته، لقطع الطريق أمام الذي يدعي النبوة ، وموضوع هذه البشارة ، وهل بشارة عيسى في الآية أعلاه من مصاديق النعمة الواردة في آية البحث [اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ).
الجواب نعم ، والنعم في المقام من جهات :
الأولى : بعثة الرسول عيسى عليه السلام نعمة على بني إسرائيل .
الثانية : كون عيسى عليه السلام من بني إسرائيل ، عن طريق أمه لأنه ليس له أب نعمة أخرى .
وفي كيفية وعلة حمل مريم وجهان :
الأول : نفخ جبرئيل في درعها وكمّها فحملت ، وقال أمية (فأهوى لها بالنفخ في جيب درعها … فألقت سويّ الخلق ليس بتوأم
الثاني : أنه ما كان إلا أن حملت فولدته ، قاله ابن عباس)( ).
والمراد من روحنا جبرئيل عليه السلام لأنه روحاني وتشريف له ، وإخبار عن قربه من الله عز وجل ويأمره بالأهم عند الناس لذا قام جبرئيل بالنزول بآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن حفص بن غياث قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام يتخلل بساتين الكوفة فانتهى إلى نخلة فتوضأ عندها ثم ركع وسجد، فأحصيت في سجوده خمسمائة تسبيحة، ثم استند إلى النخلة فدعا بدعوات ثم قال: يا حفص إنها والله النخلة التي قال الله جل ذكره لمريم وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا( ).
الثالثة : تكليم عيسى عليه السلام بني إسرائيل وهو في المهد، ليكون مقدمة لتصديقه في بشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا]( ).
وقد كلمهم عندما أصبح كهلاً ببشارة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل انتفع الناس من بشارة عيسى هذه.
الجواب نعم ، وهذا الإنتفاع أمس واليوم وغداً ، وقبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها ، ودخلت طوائف من الناس في الإسلام بالجمع بين البشارة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وامتنعت طوائف عن قتاله ، وعن نصرة قريش في هجومهم على المدينة في معركة أحد ، والخندق وحنين.
وهل من موضوعية لبشارة عيسى عليه السلام في نصر المسلمين في معركة بدر ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، الجواب نعم .
لقد كانت تلك البشارة مدداً متصلاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مدد حاضر في كل زمان ، لبيان معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعضيد الأنبياء السابقين له بالبشارة تبعث الناس للتصديق برسالته .
ولم يختص الإنتفاع من هذه البشارة ببني إسرائيل إنما انتفع منها الناس جميعاً من جهات :
الأولى : استقراء البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإنجيل .
الثانية : توثيق القرآن للبشارة .
الثالثة : تلاوة المسلمين لآية البشارة هذه كل يوم .
الرابعة : دعوة بشارة عيسى المسلمين إلى التقوى والصلاح.
الخامسة : وجوب شكر الله عز وجل على نعمة البشارة ، ومن مصاديق هذا الشكر الإمتناع عن الإرهاب.
وبشارة عيسى عليه السلام هذه واقية من الإرهاب ، وزاجر للمسلم عن الإرهاب أزاء النصارى وغيرهم .
إذ تتضمن إتحاد سنخية النبوة ، وسعي عيسى وتلاميذه ومن تبعه بالإجتهاد في تثبيت البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمودة الدائمة للمسلمين التي يجب أن تقابل بمثلها ، قال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ]( ).
من منافع بشارة عيسى عليه السلام
من منافع هذه البشارة والتي هي من الوحي الذي أوحاه الله إلى عيسى عليه السلام منع الناس من استقبال رسالة النبي محمد بالعناد وبالإرهاب ومن الشواهد الإعجازية على هذا المنع إجتناب اليهود والنصارى محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو إعانة قريش في قتالها وحربها على النبي محمد.
ومن الآيات ومادة الإبتلاء أيام البعثة النبوية وجود دول عظمى تحيط بالجزيرة العربية وهي :
الأولى : دولة الروم في الشام .
الثانية : دولة فارس وملك كسرى في الشرق.
الثالثة : دولة الحبشة وملك النجاشي .
وليس بين الأولى والثانية وبين الجزيرة العربية حدود أو بحار أو حواجز ، كما أن الروم والحبشة دولتان للنصارى ، وهذا الإنتشار السريع للنصرانية ، وصيرورتهم دولاً حاكمة معجزة لعيسى عليه السلام ببضع مئات من السنين بعد اضطهاده وأمه وهو جزء من بشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتيسير لمصاديقها في الواقع العملي.
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نحو ألف من المشركين في معركة بدر ، ولو تدخلت الدول الكبرى لصالحهم فهل يختلف الميزان والأثر ، الجواب لا ، إذ أبى الله عز وجل إلا أن يظهر الإسلام .
وهل قام أبو سفيان وغيره بتحريض ملك الروم هرقل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلما أوفدت قريش وفداّ للنجاشي لتسليم المهاجرين من المسلمين .
المختار نعم ، لقد سعى مشركو قريش وغيرهم في تحريض قيصر وبعض قبائل النصارى خاصة في جنوب الشام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبشارة عيسى عليه السلام منع استجابتهم لهذا التحريض وإنشغالهم عنه , وعجزهم عن نصرة المشركين وإن همّوا بها , إذ أن طبيعة الصحراء العربية وعدم وجود مراعي وأعلاف في الطريق لخيل وإبل الجيش , وقلة ماء الآبار في الطريق برزخ دون بلوغهم قلب الجزيرة في المدينة ومكة .
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأى عيسى ابن مريم رجلا سرق ، فقال عيسى : أسرقت ، قال : كلا والذي لا إله إلا هو ، فقال عيسى : آمنت بالله ، وكذبت عيني)( ).
أي تلقى عيسى اليمين بالتصديق ، وغلب السمع على رؤية البصر لاحتمال عدم وقوع السرقة ، لإرادة تأديب الناس على مبادئ التوحيد ومعرفة نفعها وأثرها ، وإدراك موضوعية وقدسية اليمين بالله صدقاً أو كذباً.
لقد رسم عيسى عليه السلام لهذا السارق طريق التوبة والإنابة ، فالسرقة على فرض حدوثها قضية في واقعة ، أما الإيمان فهو عقيدة راسخة في القلب والوجدان ، وتظهر آثارها طوعاً وقهراً على الجوارح والأركان بحسن السيرة والسلوك .
ومنه الإمتناع عن الإرهاب والظلم والتعدي ، للتضاد بين الإيمان والإرهاب .
معجزة تدفق الماء
لقد حدثت مسألة إبتلائية في توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية لأداء العمرة وزيارة البيت الحرام في السنة السادسة للهجرة , وحينما وصل آخر أصحابه إلى الموضع على مشارف الحرم لم يجدوا ماءَ كافياَ , وسرعان ما جفت البئر التي في الحديبية والمسلمون سيبقون عشرين ليلة في الموضع وعددهم ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة لتحضر المعجزة .
و(عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – قَالَ عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَالنَّبِىُّ – صلى الله عليه وآله وسلم – بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ ، فَقَالَ مَا لَكُمْ.
قَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلاَ نَشْرَبُ إِلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا . قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا ، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً)( ).
وعندما توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في السنة التاسعة للهجرة وهي آخر كتيبة له عطش المسلمون , وكان عددهم ثلاثين ألفاَ , فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتوجه بالدعاء وسؤال الإستسقاء (فأرسل سبحانه سحابة فأمطرت) ( ).
ولو سارت الجيوش من الشام لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكانت المعجزة سبباَ لتعثر مسيرهم ولردهم بخييبة .
وهو من عمومات قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ), ( ).
ونبين هنا مسألة مستحدثة في مضامين الآية أعلاه وهي أن الإنقلاب بخيبة أعم من أن ينحصر بموضوع الآية وهو مشركو قريش في معركة أحد .
وهو من الإعجاز في مجئ الآية بصيغة المضارع والجمع الذي تدل عليه واو الجماعة , خاصة مع الترديد والتعدد في الآية بين القطع وهو الهلاك وبين الكبت ثم الخيبة والخسران.
ويكون من تقدير الآية على وجوه :
الأول : ليقطع طرفاَ من الذين كفروا يوم أحد ، وينقلب الذين يمكرون غزو المدينة خائبين .
الثاني : ليقطع طرفاَ من الذين كفروا أو يكبتهم وينقلب الذين كفروا في كل مرة خائبين .
الثالث : ليقطع طرفاَ من الذين كفروا أو يكبتهم لإنقلابهم خائبين , والخيبة كيفية نفسانية تترشح عن حال الحسرة والخسارة التي يلقاها المشركون في هجومهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ].
قانون ذكر النعمة واجب
لم يرد لفظ (اذْكُرُوا نِعْمَتِي) في القرآن إلا ثلاث مرات في آيات متجاورة موجهة إلى بني إسرائيل في الآيات التالية مع اختلاف في مضمون الآيات للتباين في الموضوع والدلالة والغايات الحميدة والآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ويحتمل المطلوب من ذكر نعمة الله في المقام وجوهاَ :
الأول : ذكر النعمة بالذات والأصالة .
الثاني : اتخاذ ذكر النعمة وسيلة وبلغة للإيمان والعمل الصالح .
الثالث : ذكر نعم الله عز وجل واقية من فعل المعاصي .
الرابع : ذكر بني إسرائيل لنعمة الله عز وجل عليهم زاجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : لزوم الشكر لله عز وجل على النعم .
السادس : دعوة العرب وغيرهم إلى التدبر في نعم الله عز وجل على بني إسرائيل .
وليس من أمة أو أفراد إلا وقد أنعم الله عز وجل عليهم نعماَ كثيرة ومتوالية .
الآية الثالثة : قوله تعالى [قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ]( ).
وهذه الآية الكريمة من سورة الأعراف وتتعلق بقصة موسى عليه السلام ونزوله لساحة الصراع والإحتجاج والبرهان مع أرباب السحر أيام فرعون.
إذ ورد لفظ (استرهبوهم) في هذه الآية وهي من اكثر الألفاظ قرباً إلى الإرهاب ، ولكنها تختص بالكيفية النفسانية ، وبعث الخوف والفزع في قلوب الناس بالخداع البصري ، وليس بالآلة الجارحة وسفك الدماء.
ولم يرد لفظ (استرهب) أو (استرهبوهم) إلا في آية البحث ولم يكن عند العرب أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذا السحر ، إذ كانوا مجتمع عمل وتجارة ومكاسب وعادات قبلية ، وللبيت الحرام موضوعية في صرفهم عن الأوهام وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ولا يميلون للتخيلات مع وجود السحر ولكن على نحو القضية الشخصية وحياة الأفراد أما بالنسبة لفرعون فقد كان السحر جزء من النظام والمحافظة عليه وبسط سلطان فرعون وإخافة الناس بالسحر .
و(عن السدي قال: قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون! فألقوا حبالهم وعصيهم وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم رجل إلا معه حبل وعصا)( ).
وهذا العدد مبالغ فيه ، ولم يرفع السدي الحديث .
و(عن ابن إسحاق قال: صفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه. وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمعَ، وفرعونُ في مجلسه مع أشراف مملكته)( ).
ومن البيان والعلم التفصيلي في آية البحث ذكرها لما ألقاه السحرة وهو على شعبتين :
الأولى : الحبال .
الثانية : العصي .
لتقبل على موسى عليه السلام بحركة ذاتية وانبساط وتقلص وكأنها تريد أن تأخذه وهي لا تقدر على الوصول إليه لقصر المسافة التي تتحرك فيها .
لقد خطفوا بصر موسى عليه السلام.
وهل كان موسى يحضر هذه الأعياد وأعمال السحرة تلك من قبل، الأقرب لا ، فلقد جمعهم فرعون لمباغتة موسى عليه السلام ، وجعله ينشغل بالسحر عن المعجزة التي بيده ، وكثيراً ما تضيع الحقوق بسبب خلط الأوراق والإرباك واللحن .
ولكن الله عز وجل قطع على موسى الخشية والرهبة من هذه العصي والسحر ، فامره أن يلقي عصاه.
وهذا الأمر معجزة مستقلة بذاتها وبيان لحاجة النهي للأمر والنهي من عند الله عز وجل في حال الشدة والرخاء .
لقد كان إلقاء موسى عصاه رحمة بالحاضرين جميعاً لمنع إفتتانهم بالسحرة ، ورحمة بفرعون نفسه وبذات السحرة لفضح الخداع في السحر ،وبيان التضاد بين المعجزة والسحر .
لقد أراد الله عز وجل للمعجزة أن تكون واقية من الإرهاب ، ومن استرهاب ونشر الخوف بين الناس بما يشغلهم عن ذكر الله عز وجل ، الذي أراد أن تكون الرهبة منه وحده كما في قوله تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ) .
لقد استخدم السحرة الزئبق ووضعوه في العصي بعد جعلها مجوفة ليسخن الزئبق تحت حرارة الشمس وتتحرك العصي وكأنها تسعى وتقفز وتمشي .
وهل شمل قوله تعالى [سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ] ( ) موسى عليه السلام أم أنه خارج بالتخصيص، الجواب هو الأول ، قال تعالى [يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الإرهاب واسترهاب السحرة.
الجواب هو التباين ، إذ سعى السحرة لنشر الخوف من سحرهم بين الجموع الحاضرة من غير الإضرار بهم.
أما الإرهاب فهو إضرار خاص وعام في آن واحد ، فيقع للفرد والجماعة ولكن الناس جميعاً يتأذون منه ، ويخافون على أنفسهم وأولادهم وأموالهم.
وهو أمر يتنافى مع العدل والإحسان الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته إلى الناس.
وتدل الآية على عدم رضا الله عز وجل على السحرة في إرهابهم الناس بغير حق في ساعة محدودة ويوم عيد خاص بآل فرعون وإن كانوا كفاراً ، مما يدل بالأولوية القطعية على حرمة الإرهاب وتخويف الناس من مختلف المذاهب والملل ، ولا تنحصر حرمة التخويف بالإرهاب بساعة محدودة بل يشمل الليل والنهار ، وأيام السنة كلها.
ومع كثرة ورود مادة [سِحْرٍ] في القرآن إلا أنه لم ترد صفة [عَظِيمٍ] للسحر إلا في آية البحث مما يدل على أن السحر على مراتب متفاوتة إذ تضمنت الآية مع قلة كلماتها أموراً :
الأول : إلقاء السحرة عصيهم وحبالهم.
الثاني : خداع البصر ، وإيهام الناس جميعاً بأثر السحر .
الثالث : استرهاب وإخافة الناس .
الرابع : المجئ بسحر عظيم .
ومن قوة وأثر السحر أن الجموع الغفيرة من الناس الحاضرين مع فرعون وجنوده لم يلتفتوا إلى الخداع والحيلة في هذا السحر.
بينما يدرك الناس الفعل الإرهابي وتنفر نفوسهم منه لوضوح سنخيته.
ومن معجزات موسى عليه السلام توبة السحرة ودخولهم الإسلام ، وإعلانهم الإستعداد للقتل لما رأوا من الآيات الباهرات ، ولا أحد يظن أن النصر لموسى يأتي بواسطة آلة أعدائه وهم السحرة ، لبيان قانون وهو هداية أعداء النبي للإسلام بالمعجزة .
تقدير [أَلْقُوا]
ومن معاني قول موسى عليه السلام [قَالَ أَلْقُوا]( )، وجوه :
الأول : القوا لتصبحوا مسلمين .
الثاني : القوا ليخزي الله عز وجل فرعون .
الثالث : القوا ليتعظ الناس .
الرابع : القوا ليكون هذا الإلقاء نهاية لسلطان السحر .
الخامس : القوا لينقذني وأخي الله عز وجل من بطش فرعون .
السادس : القوا لتأسيس مفاهيم التوحيد في مصر .
السابع : القوا ليكون هذا الإلقاء بشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودخول أهل مصر الإسلام.
الثامن : القوا ليميز الناس بين المعجزة والسحر .
التاسع : القوا لتنقطع ربوبية فرعون ويخزه الله عز وجل بين الملأ.
العاشر : القوا كيلا تلقوا أنتم أو غيركم بعدها .
الحادي عشر : القوا كيلا يتبعكم الناس بالسحر ، وفي التنزيل [لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ]( )، أي غالبين لموسى ، ولكنهم صاروا غالبين على الكفر ومفاهيم الشرك والضلالة ، ليكون اتباعهم في دخول الإسلام من باب الأولوية القطعية .
الثاني عشر : القوا توطئة لإسلام أهل مصر .
ترى من القائل (موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) الجواب إنه موسى عليه السلام اختار يوم عيد لهم ووقت الضحى لتتجلى المعجزة ويبطل السحر ، وهو أبعد عن الريبة والشك وكان موسى قد تربى في بيت فرعون ، ويعلم بأوقاتهم وأعيادهم .
(وقال ابن زيد : وكان اجتماعهم للميقات بالإسكندرية)( ).
وتبين الآية أن استرهاب الناس لا أصل له ، وأن قوله تعالى [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، هو الرهبة الحقيقية الصادقة التي فيها خير الدنيا والآخرة.
لقد أنقذ الله عز وجل بني اسرائيل من رهبة فرعون وسحرته ليشكروا الله عز وجل ويخشوه بالغيب .
وقد عصم الله عز وجل المسلمين من شرور كفار قريش وعبادة الأوثان والإرهاب فيجب أن يشكروه بالإمتناع عن إرهاب الناس ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ولا تنحصر العصمة من الناس بخصوص موضوع الآية وبيعة الغدير بل هي مستمرة إلى يوم القيامة لأصالة الإطلاق ، ولأن المدار على عموم المعنى وليس سبب أو موضوع النزول.
لذا نزلت هذه الآية في سورة المائدة وهي من أواخر سور القرآن نزولاً ، وجاءت بصيغة الفعل المضارع [يَعْصِمُكَ] لإخراج إفتراء كفار قريش عليه عندما كان في مكة قبل الهجرة ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل تشمل العصمة في هذه الآية القرآن أم تختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : هل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من ضرر الإرهاب وإن إلصق شطر منه بالإسلام .
إما الأولى ، فالجواب نعم ، للملازمة بين النبوة والتنزيل .
وأما الثانية فالجواب نعم ، لأصالة الإطلاق الموضوعي في العصمة لقانون عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تعدد المواضيع.
وعن ابن عباس قال (إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا.
قال: ما تقولون في هذا الرجل؟
فقال بعضهم: ساحر.
وقال بعضهم ليس بساحر.
وقال بعضهم: كاهن.
وقال بعضهم: ليس بكاهن.
وقال بعضهم: شاعر.
وقال بعضهم ليس بشاعر.
وقال بعضهم: بل سحر يُؤثر.
فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه، وتَدَثَّر، فأنزل الله يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ( ).
لقد استرهب السحرة الناس ليكون من مفاهيم الآية : يا أيها الذين آمنوا لا ترهبوهم ، إنما هي الحجة والبرهان والقول الحسن ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( )، لبيان التضاد بين هذه الآية وبين الإرهاب الذي هو فعل ضار ، وعمل خلاف أحكام الشريعة.
قانون السحر تثبيت زائف للملك
لقد أدرك الإنسان من القدم قصوره عن الإحاطة بعلوم الغيب القريبة والبعيدة ، ويقطع الموت حياة الإنسان قهراً فيزداد خوف الأحياء إلى جانب كثرة الأهوال وصراع الإنسان مع الحيوانات المفترسة واضطراره إلى الإجتماع ، ولم يكن الإنسان يفكر بالإرهاب والبطش إنما كان منشغلاً بلقمة العيش واستدامة الحياة البدائية.
لبيان أن الإرهاب ظاهرة مستحدثة لا أصل لها في حياة الشعوب والمجتمعات ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
وأكثر الناس من التعاويذ والرسوم رجاء الوقاية من الشياطين ودعوى تسخير الأرواح ولجأوا إلى السحر ، فبرع الناس في السحر وأعانهم الشياطين.
ومن المجتمعات التي أولت السحر عناية خاصة المصريون القدماء ، ويدل عليه قوله تعالى [وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ]( ).
وكأن السحر قوة خفية خارقة ، فاتخذ فرعون السحر والسحرة لتثبيت حكمه ، ودعواه بالربوبية المطلقة.
ويكاد يكون المعنى اللغوي والإصطلاحي للسحر واحداً وهو أمر يتخيل خلاف الواقع والحقيقة ، ويخفى سببه إلا بالتدبر والتدقيق ، بظهور الحق ويحرم تعلم السحر والعمل به.
وكان السحرة علماء بالكيمياء ، أطباء ، فلاسفة ، يطلعون على أسرار الطبيعة وما يسمى الميتافيزيقيا ، وسبق السحر شيوع الكتابة ، ولكن صارت له مدارس وكهنة وطقوس وتراتيل خاصة.
وقد لا يعرف الزمن الأول الذي نشأ وتأسس فيه السحر ، ولكنه مجموعة معارف لجأ إليها الناس في بلدانهم وقراهم ، قال تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
وهو لا يمنع من تبادل الخبرات فيه ، كما لو اقتبس سحرة اليونان من سحرة مصر ، إذ ذاع صيت سحرة مصر في البلدان ودخل السحر الحياة اليومية للإنسان في مصر ابتداء من أكواخ الفقراء والصيادين إلى قصور الملوك.
واتخذوا السحر والتمائم والتماثيل والحروف المبهمة لكل من :
الأول : الدفاع الخاص والعام .
الثاني : شرور الشياطين.
الثالث : صرف نوائب الدهر .
الرابع : فيضان النيل ، وإن نسبه المصريون القدماء إلى دموع المعبودة إزيس وبكائها على زوجها أزوريس وأنه تنزل نقطة يوم 11 من شهر بنونة الموافق 18 يوليو وهو شهر تموز ، فتكون سبباً وبداية لفيضان النيل.
ليكون الإسلام حاجة للأمم ، وإدراك أن مياه النيل نعمة عظيمة من عند الله ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
الخامس : شفاء الأمراض .
السادس : للعداوة وإيذاء الخصم والعدو باستخدام الدمى ، ووخزها بالأبر وتآمر السحرة بسحرهم على الملك رمسيس الثالث ، ولكنه اكتشف أمرهم ، وذكرت قصص كثيرة عن السحر والسحرة جعلت الناس يقبلون عليه ، ويصدقون بأثره ولا أصل لهذه القصص لأن السحر لا يرقى عن منازل الخيال والإيهام.
فمثلاً ذكر أن كاهناً مصريا اكتشف خيانة زوجته مع شاب ، فصنع تمساحاً صغيراً من الشمع ، وانتظر حتى نزل الشاب إلى المسبح ليغتسل فألقى الكاهن تمساح الشمع وقرأ عليه تعويذته الخاصة ، فانقلب التمساح إلى تمساح مفترس ففتك بالعاشق ، ولا أصل له ، ولكنه من مصاديق قوله تعالى [َاسْتَرْهَبُوهُمْ]( ).
لبيان أن حال الرهبة من السحر عند المصريين القدماء وغيرهم أعم من أن ينحصر بقضية في واقعة ، فأشرقت شمس الإسلام على بلاد النيل لإزاحة هذه الرهبة سواء من السحر أو الملوك الطواغيت.
فيجب أن يتعاهد المسلمون نعمة إزاحة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استرهاب الناس بالسحر ، وأن لا يستحدث إرهاب لإخافة وترويع الناس.
إذ يحرم الإسلام إرهاب وإخافة الناس وإن كان هذا الإرهاب قليلاً لقانون حرب الإسلام على السحر حرب على الإرهاب ، ومنع منه ، ونهي للمسلمين عن إرهاب وإخافة الناس ، إذ أنه يتعارض مع التسامح والرفق ونشر شآبيب الإحسان الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : إخراج الأرواح الشريرة بالتوسل بالآلهة وتمجيدها .
السابع : الطلاسم والأحجبة والتعاويذ وتحتوي الكتب والوثائق كثيراً من هذه التعاويذ .
خبر آية الله الشيخ علي الغروي
لقد ذكر لي الأستاذ آية الله الشيخ علي الغروي قبل ثلاثين سنة أنه جاءهم إلى مدينة تبريز ساحر من الهند واجتمع الناس ، وأخذ يقوم ببعض الأعمال السحرية ولكن أحد الجالسين كان يعارضه بترانيم خاصة فيسقط ما في يده ، فأنذره الساحر من غير أن يعرف شخصه.
ولكنه لم يمتنع ، وأنذره مرة أخرى ، ولم يكف ، فأخرج الساحر سكيناً صغيرة ، ومفردة خيار فقطع الخيارة فطار رأس أحد الحاضرين أي الذي كان يعارضه ، فهجم الناس على الساحر وأرادوا قتله ، فقال مهلاً سأعيده إلى الحياة وأرجع رأسه إلى بدنه.
وأخذ يقرأ بعض الترانيم والطلاسم فطار ولم يرجع رأسه.
فسألت سماحة الشيخ الغروي : هل كنت حاضراً ، قال : لا ، والأصل عدمه ، وهو من التراث الشعبي المبالغ فيه ، والذي فيه ترويج لفن السحر من دون قصد.
وذكر أن ابن الملك خوفو صاحب الهرم الأكبر أرسل على الساحر (جدي) الذي يبلغ من العمر مائة عام.
وسأله الملك هل حقاً أنك تقطع رأس إنسان وتعيدها له مرة أخرى ، أجاب الساحر : نعم .
فطلب الملك منه أن يفعل بأحد الأشخاص فأبى ، قال : لا أفعل ذلك في إنسان.
وقال الملك : سوف أحضر لك سجينا ، قال : إن السجين إنسان.
فاحضرت له وزة فسحرها وطارت رقبتها في السماء واصيب الحاضرون بالدهشة ، لأنه لم تصلها سكين ، ثم أعاد رقبة الوزة مرة أخرى لتجري أمامهم .
ولا أصل لهذه القصة ، وهي من خرافات السحر التي أبطلها الله عز وجل في القرآن بقصة موسى وفرعون وكيف أن أقصى ما عندهم من العلم إرهاب الناس بما يشبه الوهم والتخيل .
لذا ترى عدم انتشار السحر ، خاصة مع إرتقاء الشعوب بالعلم ، وهل يطرد هذا العلم الإرهاب ، الجواب نعم.
قانون إبطال القرآن للسحر
من إعجاز القرآن إصلاحه لمنظمة العلم العام والعرف السائد بين الناس ليكون مقدمة لتلقي أحكام الشريعة بالتسليم والقبول ، وسلامة الأذهان من الضد والنقيض لها كالسحر والأوهام والأساطير وهل الإرهاب من هذا الضد أيضاً.
الجواب نعم ، وإن اختلف موضوعه لإرادة عامة المعاند سواء كان قديماً أو حديثاً ، وأمراً وجودياً أو عدمياً ، ونقيضاً والذي يسمى الضد العام ، أو ضداً منطقياً ويسمى بالضد الخاص.
لقد كان إبطال القرآن السحر وأثره معجزة غيرية للقرآن وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انتفعت منها وتنتفع الأجيال المتعاقبة ، وحررت آيات القرآن العقل الإنساني من الأوهام وآثار التخيل .
وجاءت السنة النبوية بحرمة السحر من وجوه :
الأول : تعلم السحر .
الثاني : تعليم السحر .
الثالث : مزاولة السحر .
والإجماع على حرمة السحر والإستعانة بالسحرة والعرافين ، قال تعالى [وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى]( ).
واختلف في تكفير الساحر ، وقال أبو حنيفة بتكفيره .
وقال المالكية بكفر الساحر إن تضمن سحره الكفر أو يكون فيه تفريق بين المرء وزوجه .
وقال الشافعية بأنه السحر حرام ولا يكفر الساحر إلا بشروط.
وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام (المنجم ملعون ، والكاهن ملعون ، والساحر ملعون والمغنية ملعونة)( ).
وليس في الخبر ما يدل على التكفير .
وهل يتضمن الإرهاب معنى السحر والإغواء ، الجواب نعم ، بابرازه وكأنه عمل ايماني ، وفعل جهادي مما يستلزم تفقه المسلمين في الدين وإزاحة الأوهام التي تؤدي إلى الإرهاب الذي يتصف بأنه بغيض وذو شؤم وضرر.

قانون (اقرأ) نبذ للإرهاب
من إعجاز القرآن ورود وتكرار مادة (اقرأ) فيه على نحو متعدد وشامل لأيام الحياة الدنيا والآخرة منها [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( )، واذا كان الإنسان أمياً في الحياة الدنيا فانه يقرأ كتابه بنفسه في الآخرة ، قال تعالى [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
والمراد من القراءة في القرآن التعلم والتعليم وهو من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل لأن البعث على القراءة نوع تحد ، ولا ينقطع هذا البعث فهو مستمر إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم .
ومن الإعجاز في ترتيب نزول آيات وسور القرآن أن أول آية أنزلت على النبي محمد تأمره بالقراءة إذ قال تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، لبيان أن الإسلام دين العلم والتعلم وهو ضد للإرهاب ، الذي هو حرب على التعلم وإعاقة له ، وصدّ للناس عن التفقه في الدين ، ومعرفة الوجوه المشرقة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القائمة على التراحم والتسامح والعفو والتكافل.
وقيدت الآية القراءة بأنها باسم الله لإرادة العلم النافع والهادف وما فيه تثبيت معالم التوحيد.
ومن إعجاز القرآن الآيات التي تخص موضوع العلم والتعلم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وسميت السورة (اقرأ) وكذا كان اسمها أيام الصحابة والأئمة عليهم السلام ، وفي أكثر التفاسير سورة العلق ، لورود لفظ (علق) فيها .
و(عن الزهري قال : أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت : أوّل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب (الله) إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبد (في) الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها، حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء.
قال : فجاءه الملك وقال : اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت له : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقاري، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربّك الذي خلق،
حتى بلغ، ما لم يعلم.
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني)( ).
و(عن ابن عباس قال : أول سورة نزلت على محمد اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ( ).
ومثله عن أبي موسى الأشعري .
و(عن الإمام الرضا عن أبيه عليهما السلام قال: أول سورة نزلت بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك ” وآخر سورة نزلت ” إذا جاء نصر الله والفتح)( ).
فكانت السورة تسمى (أقرأ) لأنها أول كلمة من السورة ولإدراك الصحابة وأهل البيت موضوعية القراءة والإرتقاء في العلوم في الرسالة الخاتمة ليصاحب العلم الإيمان إلى يوم القيامة ، ولبيان أن الإرهاب مناف للعلم فهو غريب عن جسد وروح الإسلام.
قانون التعليم حصن من الإرهاب
لقد اضافت الآية الخطاب إلى الله عز وجل بصفة الربوبية بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، لبيان ابتداء حياة جديدة في الجزيرة تتقوم بالتوحيد ويحمل لواءه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو الناس إليه ، ولم يلبث أن صار عدد المسلمين يزداد بالأسبوع والشهر ثم باليوم وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن للإرهاب موضوع في هذه الزيادة وفيه زجر عنه إلى يوم القيامة.
ويكون تقدير الآية : اقرأ باسم ربكم.
ثم ذكرت الآية أن الله عز وجل هو الخالق للإنسان من قطعة من الدم في آية من بديع صنعه .
ولا أحد يستطيع الخلق إلا الله ، ولا يستحق العبادة غيره سبحانه وتفتح هذه الآية باب العلم والتلاوة والحجة مما يدل بالدلالة الإلتزامية على تحريم أول آية نزلت من القرآن الإرهاب.
ثم ذكرت السورة خلق الله عز وجل للإنسان وأنه سبحانه [عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( )، لتأكيد قانون كفاية البيان في الدعوة إلى الله عز وجل ، والوقاية من الضرر الذي يأتي من الكفار وغيرهم.
لقد اثنى الله عز وجل على نفسه بأنه علم الإنسان البيان والإفصاح عما عنده من الرأي والمعتقد وفي الفؤاد ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ]( ).
و(عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة ، منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسع وتسعون ليوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)( ).
ويدعو هذا الحديث وموضوعه إلى قيام المسلمين وغيرهم بالتراحم والتوادد لأصالة العموم ، فلم يقل النبي (يتراحم بها المسلمون) إنما قال (يتراحم بها الخلق) والمسلم أولى من غيره للقيام برحمة غيره والإحسان إليه ، والعفو عنه.
لقد كان هبوط جبرئيل بكلمة (أقرأ) عيداً للإنسانية ، وبداية توالي نزول الوحي وآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليكون هذا العيد مناسبة للتآلف بين الناس ونبذ الإرهاب والظلم والتعدي.
ولا دين للإرهاب ، وليس من مذهب يؤيده ، وهو ضد للمذاهب ، ولا يجلب لمن ينتمي إليه إلا الشر والغدر في النشأتين .
واستدل بهذه الآية بأن الله عز وجل علم آدم اللغات كلها (وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية)( )، وهو بعيد عقلاً وواقعاً.
إنما المراد من الإنسان في الآية اسم جنس وإرادة عموم الناس فتفضل الله عز وجل وعلم الإنسان لغة التخاطب وأحكام الحلال والحرام والخير والشر ، والصحيح والقبيح من الأفعال .
فيدرك عامة الناس أن الإرهاب قبيح بالذات والأثر وأن آدم والأنبياء لم يأتوا إلا لمحاربة الإرهاب واستئصاله ومنعه ، ويكون من مصاديق قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، أنهم قاتلوا ضد الإرهاب كما قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضد الإرهاب .
وانقطع الوحي بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ولكن علومه باقية إلى يوم القيامة ، وهي زاجر عن الشرك والإرهاب.
وكثيرة هي آيات القراءة في القرآن ، وكل آية منها تنهى عن الإرهاب ، وتبين عدم الحاجة إليه ، وأنه خلاف الواجب الشرعي .
آيات [أقرأ]
الأولى : قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، لبيان جذب الشاب المسلم إلى الإنصات إلى القرآن وإدراك قبح الإرهاب والإنصراف عنه.
الثانية : قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ).
السادسة : قوله تعالى [حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً]( ).
السابعة : قوله تعالى [فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ]( ).
كما وردت مادة قرأ بخصوص عالم الآخرة منها :
الأولى : قوله تعالى [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً]( ).
ويلاحظ أن سورة العلق التي هي أول سور القرآن نزولاً ، وسورة الإسراء من أكثر السور التي وردت فيها مادة (اقرأ) وكلاهما مكيتان لبيان أن الإسلام بني على القراءة وطلب العلم ، وهو من الشواهد على حرمة الإرهاب ولزوم إجتنابه.
الآية الرابعة : قوله تعالى [وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ]( ).
لم يرد لفظ : سكت ، الغضب ، نسختها ، يرهبون ، في القرآن إلا في آية البحث مع قلة كلماتها .
ومن الآيات التي تضمنت مادة رهب الآية أعلاه .
وهذه الآية من سورة الأعراف ، وتتضمن هي والآيات المجاورة لها معجزات متعددة لموسى عليه السلام .
لقد جاء موسى عليه السلام للموعد الذي وعده الله ، فكلمه الله تعالى وفاز بمرتبة الكليم ، قال تعالى [وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ] ( ) لبيان أن نعمة تكليم الله لآدم في الجنة لم تنقطع في الأرض ، وبشخوص الأنبياء .
روي عن ابن عباس (صام موسى أربعين يوماً فلمّا ألقى الألواح فتكسّرت صام مثلها فردّت عليه وأُعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر (ولم يفقد منها شيئاً) {هُدًى وَرَحْمَةً})( ).
سؤال موسى الرؤية
كلام الله عز وجل مع موسى في قوله تعالى [وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وحي من غير واسطة ملك .
وأمره الله عز وجل ونهاه ، فطمع موسى بالرؤيا من الله عز وجل أن يراه ، فلم يغضب الله عز وجل من سؤال موسى عليه السلام.
ولكن أجابه [لَنْ تَرَانِي]( ) لإفادة التأبيد في عدم الرؤية ، ويحتمل إمتناع الرؤية هذا ضيقاً وسعة وجوهاً :
الأول : تعذر الرؤيا في ذات الموعد.
الثاني : إمتناع رؤية موسى لله عز وجل في الحياة الدنيا ، ويشمل الناس أيضاً .
الثالث : تعذر رؤية موسى عليه السلام لله عز وجل في الحياة الدنيا والآخرة .
وهل كان سؤال موسى عن موعدة أو أمارة استنبطها من الوحي بأنه سوف يرى الله ، ولم يعلم تعذر هذه الرؤية في الدنيا ، أو يكون في الآخرة ما يشبه الرؤية وليس برؤية الله عز وجل .
وعلى فرض تعذر الرؤية في الآخرة أيضاً ، فهل يسأل أهل الجنة الرؤية ، ولو سألوها فهل يأتيهم الجواب بالنظر إلى تجليات وقع نور من نور الله على موجودات الجنة ، الجواب نعم ، كما في قوله تعالى [فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ].
ليجعل الله عز وجل عند أهل الجنة القدرة والقوة لرؤية أثر هذا النور الذي تعذرت عنهم رؤيته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
والمختار أن نور الله غير الله ، وهو آية عظمى ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ]( ).
وقال الأشاعرة باثبات الرؤية واستدلوا بأدلة سمعية فقد قال أبو الحسن الأشعري (وندين بأن الله يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
ونقول : إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة كما قال سبحانه [كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ] ( )، وإن موسى صلى الله عليه و سلم سأل الله عز و جل الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا)( ).
ولكن الآية أعلاه من سورة المطففين تتضمن الحجب عما هو أعم من الرؤية ، إذ تشمل الحجب عن رحمة الله ، وعن الشفاعة وعن الدعاء والتزكية ، ولم يرد لفظ (محجوبون) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وقال الثعلبي (وقال أكثر المفسرين : عن رؤيته .
قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته)( ).
والمختار وجود مرتبة للمؤمنين في الآخرة هي عدم الحجب ، يحرم منها الكافرون ، ولا صلة لها بمسألة الرؤية.
و(عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فلما تجلى ربه للجبل طارت لعظمته ستة أجبل ، فوقعن بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى ، ووقع بمكة ثور ، وثبير ، وحراء) ( ).
قانون استحالة رؤية الله
لقد سألت طائفة من بني إسرائيل موسى عليه السلام أن يروا الله عز وجل جهرة وبوضوح لا لبس فيه ، وهو أمر متعذر لتخلف عقول وأوهام وحواس الناس عن تحمل الرؤية ، ولأن الله عز وجل ليس بجسم ولا في جهة ، وقد تفضل وجعل آياته ظاهرة في كل شئ .
كما سألوا موسى عليه السلام أن يصف لهم كلام الله سبحانه إذ ورد عن جابر قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه ، فقال له موسى : يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به.
قال : يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ، ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : يا موسى صف لنا كلام الرحمن .
فقال : لا تستطيعونه ، ألم تروا إلى أصوات الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه ، فذاك قريب منه وليس به)( ).
وفي تحذير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين من الدجال ، ذكر قانوناً من الإرادة التكوينية وهو استحالة رؤية الله في الدنيا إذ قال (تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ)( ).
وفي حديث المعراج قال بعض العلماء أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رآى ربه ، ولا أصل لهذا القول ، وإن نسب إلى ابن عباس.
إذ ورد أنه قال (قد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه عز وجل)( ).
ولكن ورد في حديث آخر عنه في تفسير قوله تعالى [مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى] ( ) [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى] ( ) قال : رأى محمد ربه بقلبه مرتين( ).
مما يحتمل معه حصر وتقييد مطلق الرؤية في الحديث الأول أعلاه على الرؤية القلبية.
ولم يرد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه رآى ربه في المعراج أما الآيات [عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]( ) [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى]( )، فالضمير فيها يعود لجبرئيل لبيان رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل في هيئته في السماء ، مع أنه رآه في الأرض وعند نزوله بالوحي مرات عديدة ، وكان يراه أحياناً بصورة دِحية الكلبي.
و(عن ابن مسعود [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى]( )، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته عند السدرة له ستمائة جناح؛ جناح منها سد الأفق يتناثر من أجنحته التهاويل والدر والياقوت ما لا يعلمه إلا الله)( ).
و(عن مسروق قال : كنت متكئاً عند عائشة فقالت عائشة : ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية . قلت : وما هن؟ قالت : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)( ).
سؤال بني إسرائيل الرؤية
لما أخبر موسى عليه السلام بني إسرائيل أنه كلّم الله عز وجل ، قالوا [لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً] ( ) وأراد موسى عليه السلام صرفهم عن هذا السؤال ، إذ أخبرهم أن هذا السؤال ممتنع ذاتاً فقد أحاط الله عز وجل بكل شئ قدرة وسلطاناً .
ولكنهم أبوا وأصروا على ذات السؤال ، فأمره الله عز وجل أن يختار سبعين من أخيارهم وخرجوا مع موسى ، فلما برزوا أخذتهم الرجفة فقالوا (يا موسى ردنا . فقال لهم موسى : ليس لي من الأمر شيء سألتم شيئاً فجاءكم فماتوا جميعاً ، قيل : يا موسى ارجع .
قال : رب إلى أين الرجعة .
{قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا}( ))( ).
فبعثهم الله عز وجل قال تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وذهبت مسألتهم ، وهل من صلة بين سؤال أخيار بني إسرائيل الرؤية ، وبين سؤال موسى عليه السلام ذات المسألة ، وأي منهما متقدم زماناً على الأخر.
المختار أن سؤال موسى عليه السلام هو المتقدم إذ اتعظ من المسألة ، وأراد من قومه العزوف عنها .
ترى لماذا أهلكم الله عندما سألوا الرؤية كما في قوله تعالى [فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ]( )، وهي نار نزلت من السماء فاماتتهم.
ولم تنزل الصاعقة على موسى عندما سأل الله الرؤية مع اتحاد المسألة ، الجواب يتجلى التباين في مصدر وجهة السؤال ، إذ أن موسى نبي رسول أذن الله عز وجل بالسؤال ، وهذا السؤال جزء من تكليم الله عز وجل له ، ولأنه أراد التفقه والبيان لبني اسرائيل.
لقد أراد الله عز وجل للناس إتباع الأنبياء في أداء الفرائض العبادية ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي هذا الإتباع سلامة وعصمة من الإرهاب والعنف والتطرف.
إن عجز الناس عن رؤية الله عز وجل من أسباب الرهبة والخوف والخشية منه سبحانه، فبيده مقاليد الأمور ، وهو الذي يحيي ويميت .
فالجبل بركائزه ومادته الحجرية أقوى كثيراً من الإنسان، ومع هذا حينما خرج له من نور الله بقدر عقدة من الخنصر صار دكاً أي مدكوكاً مستوياً بالأرض وصار كالرمل .
(عن ثابت عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قرأ هذه الآية فقال : هكذا، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر)( ).
و(اسم الجبل زبير ) عن ابن عباس( ) وفي أرض مدين.
وفي قوله تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] ( )، فيه وجوه :
الأول : رؤية نور الله .
الثاني : رؤية ثواب الله ونعيم الجنة ، ففي الآية حذف .
الثالث : إنتظار رحمة وثواب الله، كما في قوله تعالى [فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ] ( ).
قال السدي (لما كلم الله موسى غاص الخبيث إبليس في الأرض حتى خرج بين قدمي موسى، فوسوس إليه: أن يكلمك شيطان فعند ذلك سأل موسى الرؤية) ( ).
ولم يرفع السدي الحديث، وهو بعيد ، وكان موسى عليه السلام في مقام رفعة تحيط به الملائكة ، ومعه جبرئيل ، فلا يجرء ولا يقدر إبليس من الوصول إليه ، وعندما أراد موسى عليه السلام الذهاب للقاء الله أخبر قومه بأنه يبقى عند جبل الطور ثلاثين يوماً ليأتي لهم بأحكام الشريعة في الألواح فلما أمره الله أن يستأنف صيام عشرة أيام استبطأه بنو إسرائيل وظنوا أنه قد مات فعبدت طائفة منهم العجل .
وكما صعد موسى عليه السلام على الجبل وتلقته الملائكة ، فقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء ، وبلغ به سدرة المنتهى ،وليس خصوص جبل من جبال الأرض ، قال تعالى [مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى] ( ).
وعن أنس (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } قال : ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة) ( ).
وهذا الحديث من إعجاز الوحي لما فيه من التقريب والتداخل بين القول برؤية الله في الآخرة ، والقول بعدم رؤيته ، وجعل الخلاف بينهما صغروياً ، قال تعالى [لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ]( ).
وأتخذوا من حليهم هيئة العجل، وكان السامري قبض بجميع كفه قبضة من تراب وأثر فرس جبرئيل ، فقذف من هذا التراب في العجل فصار له خوار ، وقيل كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح ، ولما رجع موسى عليه السلام غضب ، وكان شديد الغضب [وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ) وأخذ بشعر أخيه هارون مع أنه نبي وأكبر منه سناً .
لقد كان عدد الألواح ثمانية ، فتكسرت منها سبعة ، وفيها خير الدنيا والآخرة لموسى ولقومه ، فلما هدأ اعتذر من هارون ، وذهب عنه الغضب ، وأنحنى إلى الأرض وجمع الألواح التي القاها وفيها المائز بين الحق والباطل ، والهداية لفعل الصالحات والأخلاق الحميدة ، وإكتناز الحسنات للآخرة .
التضاد بين [لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] والإرهاب
لقد أختتمت الآية بأن هذه الألواح هداية ورشاد للذين يخشون الله ويرهبونه بقوله تعالى [وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] ( ).
وهذه الرهبة ليس من الإرهاب بل هي ضده لبيان أن ضد الإرهاب موجود من أيام آدم وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، والنبي محمد عليهم السلام ، وفيه حجة على الناس ، ودعوة لنبذ الإرهاب والإمتناع عنه ، ترى كيف يكون التضاد بينهما ، فيه وجوه :
الأول : الرهبة كيفية نفسانية ، والإرهاب فعل وعمل.
الثاني : الرهبة من الله صلاح للذات ، والإرهاب ظلم وتعد .
الثالث : حب الله عز وجل للذين يرهبونه ويخافونه ، وبغض الله للإرهابي .
الرابع : أمر الله عز وجل بالرهبة منه بقوله تعالى في آية البحث [وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، بينما نهى الله عز وجل عن الإرهاب الذي هو إضرار بالعباد والبلاد .
الخامس : الأجر والثواب على الرهبة من الله ، والعقاب الأليم على الإرهاب .
السادس : ميل أفئدة الناس للذي يخشى ويخاف الله ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( )، وبغض الناس للإرهابي وفعله.
السابع : الرهبة من الله امتثال لأمره تعالى ، أما الإرهاب فهو معصية .
الثامن : نزول القرآن بالرهبة من الله ، والنهي عن الإرهاب لأنه ظلم محض ، قال تعالى [إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
التاسع : مجئ الأنبياء بالرهبة من الله ، وهم الأئمة والقادة فيها ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( )، وقيامهم بالتحذير والإنذار من الإرهاب والذي لا يجلب إلا سخط الله والملائكة والناس .
العاشر : ورود مادة (ترهبون) ورهبة كما في قوله تعالى [لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ]( )، في القرآن وليس فيه كلمة إرهاب وهو فرع الظلم والتعدي المذموم المنهي عنه في آيات كثيرة من القرآن ، وفيه أمارة على أنه عرض زائل في أفراد الزمان الطولية والأحقاب المتعاقبة .
وهل كان هجوم المشركين في معركة بدر وأحد والخندق من الإرهاب ، الجواب نعم ، لبيان أن الله عز وجل أنعم على الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقى المسلمين شرور الإرهاب.
الحادي عشر : يترشح عن الرهبة من الله حال الخشوع لله عز وجل والإجتهاد في عمل الصالحات ، أما الإرهاب فتترشح عنه غلبة النفس الغضبية والنفرة العامة من الإرهاب وأسبابه ، وغاياته.
الأسفار الخمسة
الأسفار : جمع سفر ، وهو الكتاب أو الباب ، ومعنى الإصحاح الفصل لشمول السِفر على عدة إصحاحات كما مبين أدناه .
ويعني مصطلح الفقره (العبارة أو النص) لإضواء الإصحاح على فقران عديدة وقد يشار إلى هذه المصطلحات بالرموز ، فيقال : تك اشارة إلى سفر التكوين.
والتوراة كلمة عبرانية وتعني الشريعة أو الناموس.
حينما رجع موسى عليه السلام من وعد الله عز وجل لمناجاته على طور سينين كانت معه الألواح وفيها ما أوحاه الله عز وجل له من الأحكام الشرعية.
وقيل هي الأسفار الخمسة التي عند اليهود وهي التوراة ، وهي:
الأول : سفر التكوين (50) إصحاحاً.
الثاني : سفر الخروج (40) إصحاحاً.
الثالث : سفر اللاويين (27) إصحاحاً)
الرابع : سفر العدد (36) إصحاحاً.
الخامس : سفر التثنية (34) إصحاحاً.
وقيل أن موسى عليه السلام كتبها بيده ، وقال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ]( ).
لقد رجع موسى عليه السلام إلى قومه مستبشراً بما رزقه وقومه الله عز وجل من العلم وبيان أحكام الحلال والحرام وطريق الهداية إلى اللبث الدائم في الجنة .
فتفاجئ موسى عليه السلام بعبادة طائفة من قومه العجل فامتلكه السخط والغضب والضجر ، والقى الألواح من يده ومسك شعر رأس أخيه النبي هارون وصار يجره إليه .
ترى كيف سكت عن موسى الغضب ، فيه وجوه :
الأول : اعتذار هارون عليه السلام ، كما في قوله تعالى [يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي]( )، إذ قال هارون لو أني قاتلت بالذين لم يعبدوا العجل الذين عبدوه من بني إسرائيل ، لقلت سفكتَ الدماء وفرقت بين بني إسرائيل ، ولم تنتظر عودتي .
ولو توجهت إليك إلى الطور بجماعة منهم لقلت فرقت بين بني إسرائيل ، وتركت عبدة العجل يتمادون في غيهم .
الثاني : توجه موسى عليه السلام للإحتجاج على السامري ليدرك بنو إسرائيل بطلان إدعائه ، وزيف إغوائه ومنع موسى عليه السلام بني إسرائيل من مكالمة أو مجالسة أو مخالطة أو مؤاكلة السامري وقيل لا يمسه أحد إلا أصابته الحمى وهو من مصاديق [لاَ مِسَاسَ]( ).
الثالث : ذات الغضب فورة وأمر عرضي لا يلبث أن يزول بذاته.
الرابع : كان غضب موسى عليه السلام في الله ولله.
الخامس : توبة بني إسرائيل ، وهل في الإلواح ذكر لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ، وترغيب لبني إسرائيل بالإسلام ، الجواب نعم.
وهل من صلة بين القاء موسى عليه السلام الألواح من يده ورميها على الأرض عند الغضب وبين نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجوماً ، وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة ، الجواب نعم .
ومن اللطف الإلهي في إتحاد وسنخية منهاج النبوة ، وسمو مرتبة القرآن حفظ المسلمين لما ينزل من الآيات وكتابتها في الجلود والعظام والألواح والورق والحجارة وسعف النحيل .
و(عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ادع لي زيداً وقل له يجيء بالكتف والدواة أو اللوح، وقال: اكتب لي (لا يَستَوي القاعِدونَ مِنَ المُؤمِنينَ) أحسبه قال: والمجاهدون في سبيل الله، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله بعيني ضرر، قال: فنزلت قبل أن يبرح (غَيرُ أُولي الضَرَرِ))( ).
و(في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال : يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي فقال الله تعالى له : تلك أمة محمد صلى الله عليه و سلم وإنما أراد بالأناجيل القرآن)( ).
لقد أكرم الله عز وجل بني إسرائيل بما في الألواح من الهدى والرحمة وقيدت الآية بأنها للذين يرهبون الله ربهم لبيان عدم إنحصار النفع العظيم من التوراة ببني إسرائيل فيشمل الذين يخشون الله بالغيب من أجيال الناس إلى يوم القيامة .
ليفوز المسلمون والمسلمات بنعمة الهداية والرحمة التي في التوراة ، ومنها وجوب الإمتناع عن الإرهاب والظلم والتعدي وما في التوراة من الأحكام هي في القرآن منطوقاً ومفهوماً لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وحرمة ومحاربة الإرهاب والزجر عنه من الجامع المشترك بين الكتب السماوية ، فليس من كتاب إلا وينهى عنه ، وقد أكرم الله عز وجل المسلمين فصاروا ورثة ملل التوحيد فهم الأسوة في التنزه من الإرهاب والإبتعاد عنه.
وقيل لما ألقى موسى عليه السلام الألواح ذهبت ستة أسباعها ، وفي نسختها أي ما نسخ منها ، وقيل : ما بقي منها .
وقال ابن عباس (صام موسى أربعين يوماً فلمّا ألقى الألواح فتكسّرت صام مثلها فردّت عليه وأُعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر (ولم يفقد منها شيئاً))( ).
لقد أختتمت الآية بقوله تعالى [هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ]( )، وإثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فالألواح نعمة عظمى على أهل الأرض ، أيام نزولها وما بعدها وإن تخلف قوم عن تعاهد الأحكام الواردة فيها فان المسلمين ورثة الأنبياء وهم الذين يتقيدون بدعوتها لإتباعهم الأنبياء ، والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وليكون من معاني خاتمة الآية أعلاه قانون الرهبة والخشية من الله سور الموجبة الكلية الجامع للمسلمين وأهل الكتاب ، ويجب أن يتجلى في الواقع اليومي بالإمتناع عن الإرهاب والقتال وسفك الدماء وعن الإضرار بالمال العام وأموال الناس.
وهل يتعلق ضرر الإرهاب بالأغنياء أكثر منه بالفقراء أم العكس أم نسبة التساوي بينهما ، المختار أن الجميع يتضررون من الإرهاب والذي يكون على كيفيات متعددة تتصف بترويع الناس ، والإضرار العام.
تقدير [لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ]
في الآية مسائل :
الأولى : يرهبون الله عز وجل ربهم ، واللام لام من أجل فالتوارة هدى ورحمة من أجل رهبتهم من الله .
الثانية : للذين هم رهبتهم من الله عز وجل أي تتعلق اللام بمصدر.
الثالثة : من شكر الله عز وجل للذين يرهبونه ويخشونه أنزل التوراة لتكون لهم هدىً ورحمة .
الرابعة : بيان قانون الملازمة بين الإيمان والرهبة من الله عز وجل ، ويبعث كل منهما على التنزه عن الإرهاب ومقدماته .
الخامسة : قانون التضاد بين الهدى والإرهاب .
السادسة : قانون التضاد بين الرحمة والإرهاب .
السابعة : قانون حرمة تلقي رحمة الله والكتب السماوية بالإرهاب.
الثامنة : قانون حاجة الناس لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتعاهد أمة من أهل الأرض الرهبة والخشية من الله.
التاسعة : قانون حب الله عز وجل للذين يرهبونه ، فتفضل عليهم بالتوراة لتكون لهم هدىّ ورحمة .
والرهبة كيفية نفسانية فأراد الله عز وجل أن يكون مبرز خارجي لها في عالم الفعل بأداء الفرائض العبادية وعمل الصالحات لبيان قانون الضياء السماوي الهادي للذين يرهبون الله عز وجل .
العاشرة : قانون التضاد بين الرهبة من الله والإرهاب .
الحادية عشرة : بنزول التوراة والتقيد بأحكامها تزول الأضغان والأحقاد.
الثانية عشرة : قانون حصانة الذين يرهبون الله من إغواء الشيطان ، والحصانة من الإرهاب.
[لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] زاجر عن الإرهاب
ترى لماذا لم تقل الآية : للذين هم يرهبون ربهم .
قيل أن اللام زائدة ، ولكن لابد من معاني متعددة لوجود هذه اللام إلى جانب كونها زائدة تفيد التوكيد ، ولام من أجل .
وهل منها (لربهم يجتنبون الإرهاب) ويبتعدون عنه ، الجواب نعم ، لقانون التباين والتضاد بين الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل وبين الإرهاب.
فالرهبة من الله عز وجل ملكة تهدي إلى سواء السبيل، وتمنع من المعصية ، فمتى ما أدرك الإنسان أن الله عز وجل يراه ويعلم بما يفعل فانه يرهبه ويخشاه .
وفي الآية دعوة للتفكر في عظيم خلق الله عز وجل ، وملكه للسموات والأرض ملك تصرف ومشيئة وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، إذ يقود هذا التفكر إلى التطامن والخشوع لله عز وجل ليترشح عنه الإمتناع عن الإضرار بالآخرين.
والنسبة بين هذا الإضرار وبين الإرهاب عموم وخصوص مطلق إذ أن الإرهاب ضرر محض للذات والغير .
وتتضمن الرهبة في الآية وجوهاً :
الأول : الرهبة والخشية من الله عز وجل .
الثاني : قانون اتخاذ الرهبة من الله صراطاً ، وفي التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثالث : اختيار القول والفعل بما يتضمن الرهبة والخشية من الله عز وجل .
الرابع : إرادة قصد القربة في عالم الفعل.
الخامس : استيلاء الرهبة من الله على نفوس المؤمنين في الليل والنهار ، وهو واقية من الإرهاب ومانع منه .
السادس : بيان قانون من يرهب الله لايرُهب الناس .
السابع : ترغيب آية البحث بالرهبة من الله عز وجل ، وبيان منافعها بأنها سبب لزيادة الهدى والرحمة من عند الله عز وجل .
ومن خصائص رهبة المؤمنين من الله جذب الناس للإيمان ، والفوز بالهداية والرحمة من عند الله عز وجل ، والتبصر في أمور الدين والدنيا ، وإدراك أن الإرهاب آفة تأكل أهلها.
الثامن : لربهم يرهبون استعداداً لعالم الآخرة ، وأهوال يوم القيامة .
لقد اجتهد النبي محمد في بيان مواطن يوم القيامة وشدة الحساب ، وحاجة الإنسان إلى العمل الصالح يومئذ وإن كان قليلاً صدر منه أو جاءه بواسطة الأبناء والصالحين .
وعن (عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء)( ).
و(عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول من يدخل الجنة من خلق الله تعالى ، فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء.
فيقول الله تعالى لمن يشاء من الملائكة : ائتوهم فحيوهم . فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم.
قال الله تعالى (إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني في الدنيا ولا يشركون بي شيئاً).
وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار))( ).
ويبين هذا الحديث في مفهومه حرمة الإرهاب ، ولزوم الصبر والإمساك عن إيذاء الناس ، فيموت المسلم وحاجته في صدره يعجز عن تحقيقها ، ولابد أنها حاجة شرعية وفي مرضاة الله.
ومن الرهبة من الله سبحانه امتناع المسلم عن السعي في قضاء حاجته خارج أحكام الشريعة ، فيثاب على صبره بدخول الجنة، وهناك تضاد بين الإرهاب والصبر .
ويحرم الإرهابي نفسه من مصاديق قوله تعالى [وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( )، وتدل آية البحث على سبق الرهبة من الله وحضورها في عالم الأفعال لتكون واقية من الخشية والرهبة من الطواغيت من غير تعارض مع أحكام التقية لأنها فرع الرهبة من الله.
ويدل قوله تعالى [وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ]( )، على مبغوضية الغضب ولزوم حبس النفس عنه ، وعدم القيام بالفعل المترشح عن الغضب كما في قوله تعالى [وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ]( ).
ويكون الغضب الذي لا أصل له ضاراً ، وفيه أذى ويسبب الندامة والحسرة بذاته وبالفعل الذي يترشح عنه .
وهل الرهبة من الله مانع من الغضب لغير الله ، الجواب نعم ، لذا فان خاتمة الآية [لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] ( )، دعوة للحلم والصبر والتأني والرضا بما قسم الله عز وجل.
قانون حرمة الإرهاب في السنة النبوية
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اقتران بداية نبوته باجتهاده في إقامة الصلاة اليومية ، وفي المسجد الحرام أمام مرآى ومسمع من قريش ، ووفود الحاج والمعتمرين لبيان ماهية دعوته ، وأنها خشوع وخضوع خالص لله عز وجل .
ولم يكن أحد يصلي معه إلا خديجة والإمام علي عليه السلام ، ويصلي عدد من الصحابة جماعة وعلى نحو فرادى وسراً ، وقد يخرجون إلى البطحاء لأداء الصلاة ، وتدارس آيات وسور القرآن التي نزلت ومعناها ودلالاتها .
لتكون هذه البداية دعوة الى السلم المجتمعي ، والتدبر في آيات الوعد والوعيد ، وحرباً على الإرهاب، والتبكيت على الفساد ، والضلالة وترويع الآمنين بالغزو والنهب والسلب .
لتتصف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها رحمة للناس جميعاً ، والإرهاب ضد للرحمة ، وعدوان على الناس والمفاهيم الإنسانية العامة ، لذا فانه يتناقض مع رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد اثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، أي مع المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً.
وهل تنقطع مضامين هذه الآية بمغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى أم أن أحكامها مستمرة ومتجددة إلى يوم القيامة ، الجواب هو الثاني .
ومنه وجوب تأسي المسلمين بمنهاج وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : نشر شآبيب الرحمة والرأفة بين الناس .
الثاني : إشاعة النبي محمد روح الحوار والإحتجاج وإقامة البرهان بين الناس .
الثالث : الحرص على الوفاء بالعهود وتعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمواثيق .
الرابع : إجتناب إكراه الناس على الدخول في الدين ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الخامس : قانون ضمان الإسلام لحقوق أهل الكتاب وعامة الناس.
التضاد بين آية الأمر بالعدل وبين الإرهاب
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، ليكون سور الموجبة الكلية.
وقوانين الآية أعلاه شاملة لأمور الدين والدنيا والوقائع والأحداث المتجددة حتى يوم القيامة ، وتنزل الآية القرآنية فتكون قانوناً سماوياً ثابتاً إلى يوم القيامة ، ورقيباً على قوانين أهل الأرض الوضعية ، ومانعاً من الزيغ والظلم والتعدي.
وليس من حصر لآيات القرآن التي تنهى عن الإرهاب في منطوقها أو مفهومها ، وهو من إعجاز القرآن وتصديه للمسائل الإبتلائية المستحدثة مع تعاقب الأجيال والأنظمة السياسية والإجتماعية بمختلف أرجاء الأرض.
ليكون من إعجاز القرآن نزوله في أرض جزيرة العرب وبيئة شبه بدائية ليحيط بشؤون الناس في كل زمان.
فتجد أجوبة المسائل في آيات القرآن ، وحضور آيات القرآن في كل زمان ومنه قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
وبلحاظ الآية أعلاه فان الإرهاب يتصف بأمور :
الأول : الإرهاب خلاف العدل الذي أمر الله عز وجل به .
الثاني : التضاد بين الإحسان والإرهاب ، ففي التلبس بالإرهاب وتهيئة مقدماته والسعي في مسالكه حجب للإحسان للذات والغير .
وتتضمن الآية أعلاه وجوب الإحسان للناس على نحو العموم الإستغراقي وعلى اختلاف مشاربهم.
وهل يختص الأمر في الآية بالمسلمين ، الجواب لا ، إنما يشمل الناس جميعاً ، ولبيان قانون وهو ما من نبي إلا وجاء بالأمر بالعدل والحكم به بين الناس ، ولم يكتف القرآن بصيغة الإطلاق بل جاء الأمر بالعدل على وجوه :
الأول : الأمر الإلهي إلى النبي محمد بقوله تعالى [وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( )، وقال تعالى [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ]( ).
الثاني : الأمر من الله عز وجل إلى المسلمين بالحكم بالعدل بين جميع الناس ، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( ).
الثالث : الثناء على أهل العدل وبيان الأجر والثواب الذي يترتب عليه ، قال تعالى [وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وقد جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضوعية للعدل والإنصاف حتى في البيعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي بيعة العقبة قبل الهجرة إلى المدينة حينما أخذ البراء بن معرور بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فقال : بايعنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أبايعكم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني وتمنعوني بما تمنعون به أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة.
فبايعوه على ذلك فقال رجل من الأنصار يقال له عباس بن عبادة بن نضلة : يا معشر الأنصار هل تدرون ما تبايعون عليه هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر فإن كنتم ترون أنكم لتوفون بما عاهدتموه عليه فهو خير الدنيا والأخرة فخذوه وإن كنتم ترون أنكم مسلموه إذا كان ذلك فالآن فدعوه فهو خزي الدنيا و الآخرة.
فقال أبو الهيثم بن التيهان : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بيننا وبين قومه رحما و إنا قاطعوها فيك فهل عسيت إن نحن بايعناك وأظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا.
فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : الدم الدم ، الهدم الهدم ، إني منكم وأنتم مني أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم)( ).
وقد وفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل المدينة في حياته فلم يغادرها ، وحتى في فتح مكة أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة ليعود إلى المدينة.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن وجود قبره في المدينة من وفائه بعهده إلى أهلها إذ صار مزاراً للمسلمين والمسلمات ومن أقطار الأرض على مدار السنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حتى يفطر ، والإِمام العادل ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ، ويفتح لها أبواب السماء)( ).
وفي الحديث تحذير وإنذار من الإرهاب الذي هو ظلم للناس .
الصلة بين الغضب والإرهاب
تبين هذه الآية حقيقة وهي أن الغضب أمر وجودي يأتي ويسكت ويغادر مما يستلزم الإستعاذة بالله من غلبة النفس الغضبية ، كما تبين الآية عدم جدوى الغضب وأنه لا يأتي بنفع وحلّ للمعضلات والمسائل الإبتلائية الطارئة.
وأن الإنسان وإن علت منزلته وشأنه بين قومه فان الغضب يمكن أن يغزوه ، فلابد من الإستعاذة بالله من الغضب .
وقال عكرمة : سكت موسى عن الغضب ، فهو من المقلوب كقولك ادخلت الأصبع في الخاتم ، وادخلت الخاتم في الأصبع ، ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره إلا مع القرينة فذات الغضب يسكن ويفارق وقد كان غضب موسى عليه السلام في الله عز وجل ولله.
و(عن جارية بن قدامة قال : قلت : يا رسول الله قل لي قولاً ينفعني واقلل لعلي أعقله قال : لا تغضب)( ).
لبيان إمكان حبس النفس عن الغضب ، وصحيح أنه أمر وجودي إلا أنه خاضع لإرادة وسلطنة الإنسان ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في منع النفس عن الغضب .
ولم يلاق الأذى الشديد من قريش إلا بالصبر والحلم ، وفيه حجة بلزوم امتناع المسلم عن الغضب والسخط والإرهاب ، ترى ما هي الصلة والنسبة بين الغضب والإرهاب ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإرهاب فرع الغضب الذي لا أصل له ، ويجب ألا يرتقي إلى صبغة الإرهاب .
إن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا تغضب) خطاب موجه إلى الأمة وأجيالها المتعاقبة ، وهو نهي تنزيهي يشمل أمور الحياة الخاصة والعامة.
ومن معانيه اقطع الغضب ، ولا تخض فيما يبعثك إليه الغضب.
وهناك تضاد بين الغضب والرفق ، ويؤدي الغضب إلى البغض والأذى وإن لم يتأذ منه صاحبه فانه يندم عليه وعلى ما ترشح عنه ، ويتمنى أن تعود الساعات فلا يغضب ، ليتحرز من الغضب ، وفي هذا التحرز جماع الخير .
و(قال سليمان بن صُرَد: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضَبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني لست بمجنون)( ).
ومن حسن الإيمان امتلاك الجوارح واللسان عند الغضب ، ومجاهدة النفس لمنع غلبة الغضب والشهوة عليها .
وكما رد الرجل أعلاه ، إني لست بمجنون ، فقد يظن ذو العمل الإرهابي أنه على حق فيما يقدم عليه ، ولابد من إعانته بكشف بطلان ظنه هذا ، ولا ينحصر صدور هذه الإعانة بجهة مخصوصة بل هي وظيفة الدولة والمدرسة والأسرة وأهل العمد ، والمؤسسات العلمية والتعليمية ، ووسائل الإعلام.
والنسبة بين الغضب والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإرهاب فرع الغضب ، وأكثر هذا الغضب لا أصل ولا موضوع له ، ويزول بالتدبر والتفكر .
وقد يستحوذ هذا الغضب على جماعة ورهط فيأتون بعمل إرهابي يؤذي الذات والغير ، ولا ينتج عند أي نفع في حينه أو فيما بعد.
نعم الله على بني إسرائيل
من مضامين الحياة الدنيا وخلافة الإنسان في الأرض عجز الناس عن إحصاء نعم الله عز وجل عليهم , قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وهل هذا العجز زاجر عن الإرهاب ، الجواب نعم.
ليأتي الأمر من عند الله عز وجل بذكر واستحضار النعمة للصلاح والشكر لله عز وجل ومن نعم الله عز وجل على بني إسرائيل :
الأولى : ما تذكره آيات النعمة على بني إسرائيل كما في التفضيل المطلق بقوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، ومن هذا التفضيل الدعوة للإسلام.
الثانية : ما ورد في آيات القرآن الأخرى ومنه [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ]( ).
الثالثة : النعم التي خص الله عز وجل بها بني إسرائيل مما ورد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : ما ورد في التوراة .
الخامسة : أخبار التأريخ والروايات مما لا يتعارض مع القرآن والسنة .
السادسة : بعثة الرسول موسى عليه السلام ، وشد عضده بنبوة أخيه هارون , وبيان نعمة الله عز وجل عليهم وعلى الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل ، ونصرة الله عز وجل.
قال تعالى في نصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] ( ).
السابعة : عبور بني إسرائيل البحر بمعجزة ضرب موسى البحر بعصاه فرأوا كيف أن الأمواج صارت تتلاطم حقيقة كالجبال , وليس مجازاَ لتخرج الأرض اليابسة من نهر النيل , وهل فيه إشارة إلى مجئ زمان ينفق فيه ماء نهر أو أنهر وتخرج بعض أرضه وقعره , المختار نعم , مما يستلزم التهيئ والتدبر والإقتصاد في الماء وإيجاد البديل المستديم.
الثامنة : نجاة بني إسرائيل من العطش في التيه بمعجزة العصا والحجر , قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ] ( ).
وكان للحجر أربعة وجوه , لكل وجه ثلاثة أعين وتعدد العين بتعدد أسباط بني إسرائيل نعمة عظمى لمنع الإختلاف والشقاق والأنانية والحرص بينهم , وإن كان الماء وافراَ وكثيراَ ويزيد عن حاجاتهم , لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
التاسعة : تقسيم بني إسرائيل اثني عشر سبطاَ , والسبط أمة كالقبيلة , وتخصيص الرزق الكريم لكل منها مع وجوب قيامهم بالتعاون في الصالحات والتكافل , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
العاشرة : نعمة التظليل بالغيوم ، وورد لفظ (ظللنا) مرتين في القرآن كل منهما في ذات موضوع بين إسرائيل وسلامتهم في الصحراء , إذ ورد [وََظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ]( ) في سورة الأعراف بصيغة الغائب بينما ورد في سورة البقرة بصيغة الخطاب [وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ]( ).
وهل في الآية بشارة قيام الإنسان بإنشاء ظل وسقف للمدينة أو القرية منعاَ لشدة حرارة الشمس , ولتكييف الهواء وعذوبة النسيم وغيره , الجواب نعم , ولكنه ليس بمعجزة إنما هو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
لقد أحب الله عز وجل بني إسرائيل ووقاهم حر الشمس ليجتهدوا في طاعته واتباع موسى عليه السلام وليأكلوا المن والسلوى بهناء , لإستحضار ذكر الآخرة , والفزع من النار وشدة حرارتها .
والغمام سحاب أبيض بارد , وكان السحاب يسير مع بني إسرائيل في منازلهم واذا توقفوا وقف فوق رؤوسهم.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (الغمام) وهو جمع غمامة , وهي السحابة لبيان سعة الغمام في طوله وعرضه وكثافته , وأنه يتعدى حدود التيه الذي يقيم أو يمشي فيه بنو إسرائيل , لبيان أن الإنسان حتى إذا اخترع مظلة للبلدة فإنها متخلفة موضوعاَ وحكماَ عن المعجزة ولكن المعجزة نوع هداية وإرشاد إليها وتذكير لهم بنعم الله عز وجل التي تأتي بالكاف والنون , سواء الخاصة أو العامة , ويذّكر هذا الغمام بنعمة الجنة ولزوم السعي إليها .
الحادية عشرة : بشارة الأنبياء برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رحمة لبني إسرائيل والناس جميعاً.
الثانية عشرة : لقد خرج بنو إسرائيل من مصر إذ كان فرعون يضطهدهم ولكن كانت هناك الزراعات والمعاش ومياه السقي .
فحينما غادر بنو إسرائيل إلى البيداء والصحراء رزقهم الله عز وجل الطيبات من غير تعب ولا عناء , إذ أنعم عليهم كما في قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى]( ).
والمن مادة صمغية تتساقط على ورق الشجر كأن طعمها العسل , و(عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “كَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ عَلَى الأَشْجَارِ، فَيَغْدُونَ إِلَيْهِ، فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ مَا شَاؤُا)( ).
أما السلوى , فهو طائر صغير لذيذ اللحم , يكون في متناول اليد من جهة سهولة الصيد , فيمسكه الإسرائيلي وينظر إذ كان سميناَ ذبحه وإلا أرسله .
ومن أسرار النعم التي جاءت لبني إسرائيل أنها تذكير بالجنة وبيان عظيم قدرة الله عز وجل فهذه النعم من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الثالثة عشرة : تفضل الله عز وجل بترغيب بني إسرائيل بالأكل من هذه الطيبات والنعم بقوله تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] ( ).
ومن الإعجاز مجئ حرف الجر (من) في الآية أعلاه الذي يفيد التبعيض وأن الذي يأكلون جزء يسير مما رزقهم الله عز وجل .
وهل الآية أعلاه خاصة بالمن والسلوى وأيام التيه أم أنها شاملة لأيام الحياة الدنيا.
الجواب هو الثاني ليبقى الفضل والزيادة كماَ وكيفاَ إلى يوم القيامة , فتدحض الآية أعلاه القول بالنقص في الغذاء عالمياَ , فهي نزلت خاصة لبني إسرائيل , ولكن موضوعها عام مما يستلزم الشكر لله عز وجل على نعمة الطييبات والوفرة والزيادة فيها .
وهو لا يتعارض مع التدبر والإقتصاد وعدم الإسراف , وورد الأمر (كلوا) في آيات عديدة من القرآن منها الخطاب العام للناس كما في قوله تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] ( ).
الرابعة عشرة : نعمة هداية بني إسرائيل إلى التوحيد , والحفاظ على الملة وإتباع الأنبياء , حتى بين قوم فرعون ورئاستهم وحكمهم لبيان التباين بين الحفاظ على ملة التوحيد في أمن وسلامة , وبين حال الإضطهاد والإستضعاف من قوم مشركين ، قال تعالى [يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ] ( ).
لقد صبر بنو إسرائيل ولم يكفروا بعقيدة التوحيد والتي كانت سبباَ لقدومهم إلى مصر , حينما تولى يوسف عليه السلام الوزارة لملك مصر .
إذ خاطب إخوته كما في التنزيل [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ (اهلكم) في القرآن إلا في الآية أعلاه , ليتكاثر ويتوالد بنو إسرائيل في مصر بمعجزة وتوفيق من عند الله عز وجل , وتكون إقامتهم في مصر مقدمة لفتح المسلمين مصر وصيرورتها دولة إسلامية يتعاهد أهلها التوحيد , ويصدقون بجميع الأنبياء , وتكون خالية وإلى يوم القيامة من الفراعنة وكفرهم وطغيانهم ومن الإرهاب , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الخامسة عشرة : كثرة الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله عز وجل لبني إسرائيل .
ومن الآيات نسبتهم في القرآن إلى نبي رسول وهو إسرائيل أي يعقوب , فذات النسب تشريف وإكرام.
وقد أشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى شرف الإنتساب إليه بأحاديث منها قوله (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) ( ).
فجعل كل منهما ثقل الخطاب لشأنهما ولبيان أهليتهما لخلافته في سبل الهداية والرشاد .
و(عن المسور بن مخرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي ، وسببي ، وصهري)( ).
ويمكن أن تذكر هذه المسألة في باب مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي ذكرتها في باب النكاح ويلزم افراد باب اسمه : مختصات النبي محمد في الآخرة.
السادسة عشرة : العفو من عند الله عز وجل على بني اسرائيل حينما عبدت طائفة منهم العجل ، حال غياب موسى عليه السلام عنهم للقاء الله .
وأخرج ابن مردويه عن كعب( ) بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله لما وعد موسى أن يكلمه ، خرج للوقت الذي وعده ، فبينما هو يناجي ربه ، إذ سمع خلفه صوتاً ، فقال إلهي إني أسمع خلفي صوتاً ، قال : لعل قومك ضلوا.
قال : إلهي ، من أضلهم؟ قال : السامري .
قال : كيف أضلهم؟ قال : صاغ لهم [عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ]( )، قال : إلهي هذا السامري صاغ لهم العجل : فمن نفخ فيه الروح حتى صار له خوار؟ قال : أنا يا موسى.
قال : فبعزتك ، ما أَضَلَّ قومي أحد غيرك . قال : صدقت . قال : يا حكيم الحكماء ، لا ينبغي حكيم أن يكون أحكم منك)( ).
والحديث ضعيف من جهة الرواية.
و(وهب بن مالك بن سواد بن جذيمة بن دارع بن عدي بن تميم الدار الداري من رهط تميم ذكره بن إسحاق فيمن قدم مع تميم الداري فأسلم)( ).
السابعة عشرة : إتصاف بني اسرائيل بأنهم على ملة التوحيد عندما بعث الله عز وجل النبي محمداً ،فلم يكونوا مثل قريش المشركين عبدة الأوثان .
الثامنة عشرة : جوار اليهود للنبي محمد في المدينة وعقده معاهدة معهم.
التاسعة عشرة : بلوغ أشخاص من بني إسرائيل درجة الحكم بين الناس ، وإدارة شؤون الحكم بعد أن كانوا مضطهدين مع آل فرعون.
العشرون : نعمة هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة يثرب وفيها طوائف من بني اسرائيل ، وهي من أعظم النعم على بني إسرائيل ، وهل هي من مصاديق [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم .
الواحدة والعشرون : نزول التوراة على موسى عليه السلام ، وعمله وبنو إسرائيل بأحكامها .
الثانية والعشرون : دخول بني إسرائيل القرية وسكن الحضر بعد وادي التيه ، والذي يقع بين مصر والشام .
الثالثة والعشرون : تفضيل بني إسرائيل على أهل زمانهم .
ومن خصائص الحياة الدنيا قانون كل نعمة رادع عن الإرهاب ، ومن الإعجاز في آية البحث اختتامها بوجوب الخشية والرهبة من الله عز وجل .
لماذا ذكر النعم
لقد أمر الله عز وجل بني إسرائيل أن يذكروا نعمه التي تفضل بها عليهم ، وهو سبحانه الغني غير المحتاج لأن يذكر الناس نعمه عليهم ، وسواء ذكروها أو لم يذكروها فانها متصلة على البر والفاجر .
وهل يختص الأمر بذكر النعم الإلهية ببني إسرائيل ، الجواب لا ، فيجب على كل إنسان أن يذكر نعمه سبحانه .
والنعمة والنعماء واحد ، وتأتي النعمة للإنسان في بدنه وعيشه وماله وولده وجاهه ، وسعة رزقه .
ومن أعظم النعم استدامة النعمة وعدم سلبها ، ولا يقدر على هذه الإستدامة إلا الله عز وجل.
وكما جاءت آية البحث بتذكير بني إسرائيل بلزوم استحضار نعمة الله ، فقد أمر الله عز وجل المسلمين بذات الذكرى بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( )، في سورة المائدة ، وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو وجوب ذكر المسلمين وأهل الكتاب لنعم الله عز وجل عليهم ، وهذا الذكر سور الموجبة الكلية الذي يجمعهم ، ويمنع من الإقتتال بينهم.
وهل هذا الذكر عمل ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : الإجتهاد في ذكر النعم .
الثانية : التعاون والتكافل في ذكر النعم .
الثالثة : الشكر لله عز وجل على النعم .
الرابعة : رجاء الزيادة في النعم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، وهل ذكر العبد والطائفة لنعم الله من الشكر له سبحانه ، الجواب نعم.
فذات الذكر شكر ، لذا فان قوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي] رحمة على بني إسرائيل والمسلمين ، لما في هذا الذكر من الإقرار بالتوحيد ، وأسباب الصلاح ، ورجاء المزيد من النعم والتذكير بعالم الآخرة.
ومن نعم الله عز وجل النبوة والتنزيل ، والإنتفاع العام والخاص من الوحي ، ومنه عهد الله الذي يأتي بالتنزيل والواجبات العبادية ، وبما يأمر أو ينهى عنه الرسول ، وفي التنزيل [إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ]( ).
إذ أنعم الله عز وجل على زيد بن حارثة بالإسلام ، وأنعم عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعتق .
ولابد من ذكر نعم الله عز وجل بما صرفه من البلاء والأذى والشرور ، فقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، أي أن الله عز وجل يصرف الضرر الذي يأتي من المشركين وغيرهم ، ويمنع وصوله إلى المسلمين ، ويجعله أذى خفيفاً.
ومن خصائص ذكر نعمة الله عز وجل التعاون للقضاء على الإرهاب ، وانتفاء مقدماته وأسبابه ، فمتى ما انشغل العبد بذكر نعم الله عليه وعلى الناس إجتنب الظلم والتعدي.
ومن خصائص الإرهاب أنه جامع للظلم والتعدي وسفك الدماء ، وقال تعالى [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( )، والنسبة بين التحديث بالنعمة وبين ذكرها عموم وخصوص مطلق ، فالتحديث بها أعم وأكثر أجراً وثواباً .
لذا توجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى أمته ، وهو واقية عامة من الإرهاب إذ ينتفع من الحديث عن النعمة المتحدث والسامع والذي ينقل إليه الحديث ، وهو باعث لاستحضار النعمة فيجب أن يشكر المسلم الله عز وجل على نعمة الهداية والنعم الخاصة في الرزق والمسكن والملبس التي يذكر بها قوله تعالى بخصوص آدم وحواء [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ]( ).
لبيان أن اللباس في الدنيا نعمة عظيمة ، وكان بنو إسرائيل في التيه ، وليس من أسواق وخياطين ، فكانت ملابسهم تطول عليهم ، ولا تتعرض للبلى لينقطع الناس إلى الرهبة من الله ، ومخافته سبحانه بالغيب فلا يصح أن ينزل الإنسان إرهابه على غيره متحداً أو متعدداً للتباين والتضاد بين الرهبة من الله وبين الإرهاب.
ليكون من إعجاز القرآن ورود مادة (رهب) فيه لتكون واقية من الإرهاب وبما يمنع من الخلاف فيه.
إذ تبين خاتمة الآية أموراً :
الأول : قانون الرهبة من الله وحده .
الثاني : قانون الرهبة من الله شاهد على التوحيد .
الثالث : قانون أمر الله عز وجل بالرهبة منه لطف عام .
الرابع : قانون وجوب الرهبة والخشية من الله.
وصحيح أن الآية خطاب إلى بني إسرائيل إلا أنها تدعو المسلمين والناس جميعاً إلى الإجتهاد في شكر الله على النعم ورجاء المزيد والنماء.
الخامس : قانون التضاد بين الرهبة من الله والإرهاب .
السادس : قانون الرهبة من الله مانع من الإرهاب .
قراءة فقهية في حرمة الإرهاب
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه ظاهرة الإرهاب المحدودة في هذا الزمان وإن شاع أمره ، فليس من أسرة أو جماعة إلا ويعلمون بالإرهاب ويخشون جانبه وبطشه ، وتنفر نفوسهم منه.
ومن صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا يواجه أحداً بما يكره ، فكيف وأن الناس يخشون الإرهاب وهم في بيوتهم ومنتدياتهم ، وفي الأسواق ووسائط النقل مما يدل على التباين والتضاد بين منهاج النبوة والإرهاب ، ويدل على هذا التضاد قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
أقسام التكاليف
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار العمل والفرائض العبادية ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
التكاليف على أقسام وهي :
الأول : الواجب ، وهو الذي أمر به الشارع على نحو الإلزام ، ويؤثم العبد على تركه من غير عذر ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( )، أي واجباً ، ومنه الزكاة ، والصيام عند حلول شهر رمضان ، وحج البيت بقيد الإستطاعة .
الثاني : المندوب أو المستحب ، وهو الذي رغّب الله العباد باتيانه ، ولم يأمر به على نحو الإلزام والحتم ، ولكن تركه لا يستلزم العقاب لأنه أدنى رتبة من الواجب ، وأيهما أكثر الواجبات أم المستحبات .
المختار هو الثاني ، وإذ تستغرق الصلوات اليومية الخمسة في مجموعها دقائق معدودة فان اليوم والليلة كله مناسبة للمندوبات والمستحبات .
ومن المستحب صلاة النافلة ، والصدقة المستحبة ، وصيام أيام البيض من الشهر غير شهر رمضان ، أي أيام الليالي البيض ، وهي يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر القمري ، والحج المستحب والعمرة المفردة .
و(عن جرير بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ، أيام البيض ، ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة) ( ).
ومنه تعلم وتعليم القرآن والتلاوة .
(عن عثمان بن عفان قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه)( ).
و(عن أبي جحيفة قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم حتى تفطر قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً؟)( ).
ويسمى المندوب أسماء أخرى هي :
الأول : المستحب .
الثاني : السنة .
الثالث : المسنون .
الرابع : النفل .
وقد يصبح المستحب واجباً إذا توقف عليه أداء الواجب ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وهل الأمر بالتنزه عن الإرهاب والنهي عنه وعن مقدماته والإعانة عليه من الواجب أم المستحب.
الجواب هو الأول بحسب الإستطاعة ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالث : المباح ، وهو الجائز الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته ، مثل الأكل والشرب ، والسفر ، وطلب الرزق ، والبيع والشراء .
وقد يأتي الحكم الثانوي للمباح فيصبح واجباً أو يكون محرماً ، كما في حرمة السفر لإرتكاب معصية ، ومنه السفر للإرهاب والتفجيرات أو للإعانة عليه فانه حرام .
الرابع : المكروه ،وهو الذي نهى عنه الشارع لا على وجه الإلزام والترك ، ويثاب تارك المكروه بقصد الإمتثال ، ولا يعاقب فاعله ،ومنه كثرة النوم ، وكثرة الأكل والشرب ، والضحك الزائد.
وقد يأتي نهي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيحمل على الكراهة ،وليس الحرمة للقرينة ، أو الجمع بين الأدلة ، مثلا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب من فم القربة ، وورد خبر أنه شرب من فم القربة (عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن جدة ، له من الأنصار يقال لها : أم كبشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها وعندها قربة معلقة فشرب من القربة وهو قائم فقطعت فم القربة تبتغي فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وهذه من الكراهة التنزيهية ، وهناك الكراهة التحريمية مثل لبس الرجل للحرير إلا في القتال.
والشرب من إناء ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال ، والدخول على سوم أو خطبة المؤمن .
وقد تفيد الكراهية التحريمية الحرمة وإن جاءت بلفظ الكراهة ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً * وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا] ( ).
الخامس : الحرام : وهو ما نهى عنه الشارع على نحو الإلزام بالترك ، ويثاب تاركه امتثالاً وعن قصد ، ويستحق فاعله العقوبة ، ومنه الزنا ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، قال تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]( ).
ويدخل الإرهاب في الأحكام التكليفية ، وهو من أفراد المحرم والمنهي عنه على نحو الإلزام ، فلابد من تركه والعزوف عنه ، ومن إعجاز القرآن كثرة الأوامر والواجبات فيه ، وتدل هذه الواجبات في مفهومها على حرمة الإرهاب ، ولزوم إبتعاد المسلم عنها .
لقد نزل القرآن بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) لذا يجب الأمر بالصلاح والتقوى والخشية من الله ، ونهي الابن والصديق والقريب ، والجار عن الإرهاب ومقدماته.
لتكون العناية والرفق بالجار والصاحب في الآية التالية إعانتهم على الإمتناع عن الإرهاب ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا] ( ).
ولم يرد لفظ [الْجَارِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ولمرتين ، وهل النهي عن الإرهاب واجب ، الجواب نعم .
فهذا النهي أمر وجودي تزداد الحاجة إليه هذا الزمان ، وهو شاهد على تفقه المسلمين في الدين ، وإرتقائهم في المعارف الإلهية.
قانون التضاد بين الرحمة والإرهاب
لقد قال الله عز وجل [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لتتجلى هذه الرحمة من وجوه كثيرة منها :
الأول : نزول القرآن وأحكامه المتكاملة .
الثاني : السن النبوية القولية .
الثالث : السنة النبوية الفعلية .
الرابع : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
الخامس : إحسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس .
السادس : إشاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمصاديق الرحمة بين الناس كافة .
ويتعارض الإرهاب مع هذه المصاديق لذا يحرم تمويله والتحريض عليه والدعاية له وارتكابه .
ولما قال الله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) فان مصاديق هذه الآية القولية والفعلية في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى من جهات الصبر والحلم ، والسماحة ، والصفح ، والعفو عن الآخرين ، والكرم الطاغي ، وتعاهد العهود والمواثيق ، وحسن المعاشرة ، ليكون أسوة للمسلمين في إجتناب الإرهاب الذي هو ضد خاص للخلق العظيم.
وتقدير الآية بلحاظ الخطاب العام للمسلمين على وجوه :
الأول : اقتدوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نشر شآبيب الرحمة والرفق والشفقة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا كونوا على خلق عظيم .
الثالث : فوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخلق العظيم بالوحي والتنزيل .
الرابع : اشكروا الله على الخلق العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الخلق العظيم التنزه عن الظلم وتحريمه ، والجهاد من أجل منعه وإزاحته من الأرض .
ومن بركات وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه:
الأول : التساوي بين الناس في الحقوق والواجبات .
الثاني : زوال الإستضعاف .
الثالث : منع سلب الأموال .
الرابع : القضاء على الغزو بين القبائل.
الخامس : حرمة وأد البنات ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) .
السادس : رفع الأوثان من البيت الحرام وإلى يوم القيامة.
الثامن : إزاحة ثقافة العنف من المجتمعات التي هي حائل دون الحوار ولغة الإحتجاج التي جاء بها القرآن فمن الخلق العظيم خارطة الطريق في قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
التاسع : توالي نزول آيات الرحمة والبعث عليها ، وتحلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمصاديقها الفعلية، إذ كانت سيرته مرآة لها لبعث المسلمين للترغيب فيها ، ويتجلى التضاد بين الرحمة والإرهاب لكل ذي عينين .
وقد وردت الأحاديث النبوية بلزوم الجماعة والإتحاد ، ومنع الفرقة والشقاق ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقرب سنته من كل مسلم ومسلمة في أجيالهم المتعاقبة توارثهم لأحاديث النبي محمد على صلاة الجماعة ، منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً)( ).
وجعل القرآن والسنة النبوية المشورة من مقدمات الفعل والإختيار الحسن ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ]( )، وليس في الإقدام على الإرهاب مشورة عامة للمسلمين ولأهل الحل والعقد وأولي الألباب ولا يترشح عن المشورة إلا النهي عنه .
إسلام عدي بن حاتم
من الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن إسلام كثير من الصحابة شاهد على صدقها ، وهناك قصص متعددة تظهر اللطف الإلهي في هدايتهم.
ومنهم ذوو شأن في قومهم ، ومتمسكون بدينهم وإذا هم ينقلبون بساعة واحدة إلى الإسلام ، ويحسن إسلامهم وأبنائهم من بعدهم.
ومنهم عدي بن حاتم الطائي الذي مات أبوه قبل الإسلام فضرب المثل للعرب في الكرم ، وليس من السهل انتزاع موضع في أمثال العرب خاصة تلك التي تتضمن المدح وقد اثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كرمه بقوله (إنه كان يحب مكارم الأخلاق).
ومن بديع صنع الله عز وجل في ترتب الأثر الحسن للكرم ، وحسن الخلق على الأبناء الشأن العظيم لأولاد حاتم الطائي ذكوراً وإناثاً في التأريخ ، وتوثيق قصة اسلامهم ، وحسن ولائهم للنبوة والتنزيل .
لقد كان عدي بن حاتم كبير قومه عند جبلي آجا وسلمى وهي منطقة حائل في هذا الزمان.
وفرض عليهم الربع من أموال قومه وغنائمهم التي يحصلون عليها وكان على دين النصرانية.
والأقرب أنه من الركوسية دين بين النصرانية والصابئة.
وعندما انتشرت أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورأى عدي بن حاتم عجز كفار قريش عن قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصبر أصحابه في معركة بدر وأحد والخندق ، ثم دخول القبائل في الإسلام ، إزداد كرهاً وحنقاً على النبي محمد وأدرك قانون قضاء دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الحقوق المنتزعة لرؤساء القبائل على قومهم ، وسلطانهم.
وعلم أن النبي محمداً يحرم الغزو بين القبائل فهذا الغزو إرهاب أشد من ذات سنخية الإرهاب الذي يقع في هذه الأيام.
لقد كان سبب حرب كثير من الرؤساء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخشية على زعاماتهم والإمتناع عن الخضوع للأوامر والنواهي الإلهية بعد أن كانوا أحراراً مستقلين فيما يفعلون من المنكرات ، والتعدي والظلم.
وكان عدي يعّد نفسه ملكاً في قومه وينتفع منه فيكره أمرة وسلطان غيره ، مع أن النبي محمداً لم يأت ملكاً إنما هو رسول يبلغ رسالة الله عز وجل التي تقود الناس إلى دار السلام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
قال عدي بن حاتم (مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنّي ، أَمَا أَنَا فَكُنْت امْرَأً شَرِيفًا ، وَكُنْت نَصْرَانِيّا ، وَكُنْت أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ فَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ وَكُنْت مَلِكًا فِي قَوْمِي ، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي . فَلَمّا سَمِعْت بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَرِهْته)( ).
وصارت سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجوب أرض جزيرة العرب يدعون الناس إلى الإسلام ، ولم يكن قوم عدي بن حاتم في حائل كلهم نصارى بل كان أكثرهم قوماً مشركين كسائر سكان الجزيرة إذ غلبت عليهم عبادة الأوثان.
لذا بعث النبي محمد في شهر ربيع الثاني من السنة التاسعة للهجرة الإمام علياَ عليه السلام في خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرساَ , ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى صنم طي (الفلس) ليهدمه .
وعندما وصلوا إلى ديار طي أغاروا على محلة آل حاتم مع الفجر , ولم يتعرضوا لأحد , إنما توجهوا إلى صنم الفلس وخربوه .
والفُلس , بضم الفاء صنم جبلي طبيعي مزين بالذهب على هيئة إنسان عملاق يقع شرقي جبل آجا ، وعلى ملتقى طرق القوافل وهو خاص بقبيلة طي , ولو كانوا على دين النصارى لما عبدوا الصنم , ووجدت السرية في الفُلس ثلاثة أسياف : رسوب ، والمخذم , وسيف يسمى اليماني , وثلاثة دروع .
وسبوا منهم وجمعوا من الماشية والأنعام .
وجعل الإمام علي عليه السلام على السبي الصحابي أبا قتادة , وعلى الأنعام عبد الله بن عتيك لحين تقسيمها , وعزل الخمس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , كما عزل آل حاتم ولم يقسمهم الإمام علي عليه السلام .
وحينما قدموا المدينة وكان في السبي سفانة ابنة حاتم الطائي , فجعلوا النساء في حضيرة في باب المسجد توضع فيها السبايا , و(كان حاتم طئ جوادا أجود العرب ويكنى أبا سفانة بابنته) ( ).
مما يدل على أن لها شأناَ وجاهاَ.
ومكانها هذا من أجل أن يمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم فيقضي حوائجهم , ويمنع من إيذاء الأسرى وهذه معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى فيها مسائل :
الأولى : عناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفائقة بالأسرى والسبايا .
الثانية : عدم حبس الأسرى إنما يجعلون في حظيرة من الجريد عند باب المسجد .
الثالثة : رؤية الأسرى والسبايا النظام الدقيق في إقامة الصلوات اليومية الخمس ووقوف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي الله عز وجل خاشعاَ خاضعاَ وهو الذي بعث السرايا لجلبهم .
الرابعة : بيان قانون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد من الأسرى والسبايا إلا قول لا إله إلا الله .
الخامسة : التعجيل بتفريق الأسرى والسبايا .
السادسة :تأديب الناس في إجتناب الغلظة والعنف مع المستضعف وعامة الناس ، ليدل على المنع من الإرهاب من باب الأولوية القطعية .
تحريض عدي بن حاتم القيصر على النبي (ص)
لقد كان سكن عدي بن حاتم الكوفة بعد تمصيرها وأيام نقل الإمام علي عليه السلام الخلافة إليها مناسبة للتابعين لتوثيق أقواله وكيفية إسلامه وأخباره عن رسول الله , وقد أمدّ الله عز وجل في عمر عدي بن حاتم فاستمع له الكثيرون .
وعن (عامر الشعبي وسماك بن حرب عن عدي بن حاتم الطائي قال قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مهاجرا إلى المدينة فلما رأيت ذلك من أمره في علوه وأنه بعث سرايا فتغير فلا يقوم لها شئ قلت لنفسي يا نفس لو أني خلفت لي أجمالا فإن أغير على النعم والغنم كان عندي ما أتحمل عليه فخلفت عندي من الإبل ما أعلم أنه يحملني إن بليت ببلوى)( ).
أي أدرك عدي أن خيل المسلمين ستصل إلى أرضهم خاصة وأنهم ينصبون صنماَ كبيراَ هو الفُلس , فارتأى أن لا تخرج كل إبله وأنعامه إلى المرعى بل يجب أن يبقى عدد من الجمال التي تصلح لحمله وعياله .
فبينما كان عدي بن حاتم جالساَ ذات يوم إذ أتاه راعي الإبل والأغنام يمسك بعصاه وليس معه الإبل أو الأغنام , فأوجس عدي أذى وبلاء , وعنه (فقلت له ما وراءك قال قد أغير على النعم فقلت ومن أغار عليها قال خيل محمد)( ).
فأدرك عدي وقوع ما يخشاه , ولم يثبت في مكانه خاصة وانه يقول بأنه نصراني , ولا يتعرض المسلمون للنصارى إنما كانت دعوتهم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا .
وقدموا لهدم الأصنام , ولكن استبق ذهن عدي إلى بلاد الشام حيث حكم قيصر وهو من النصارى ، وهل كان يطمع بنجدته ، الجواب نعم.
فقرب أجماله وحم أهله وعياله لينجو بهم وترك أخته سَفّانة لكبر سنها ولم يستمع إلى توسلها بأخذه معه , ووصل عدي إلى بلاد الشام وأدخل على قيصر وكان بأرض حمص يقول عدي (فقلت له إني رجل من العرب وأنا على دينك وهذا الرجل قد تناولنا ببلدنا فكان المفر منه إليك.
فقال لي قيصر اذهب فانزل في مكان كذا وكذا حتى نرى لك رأيا في أمره.
فنزلت بذلك الزمان فمكثت فيه حينا فإني في بعض أيام بهم وغم) ( ).
وظاهر كلامه أنه قام بالشكاية إلى قيصر باسم قومه مع أنهم كفار ، وليس من عادة الملوك التعجيل في تجهيز الجيوش العظيمة لقول رجل واحد , وان كان من أهل ملتهم .
كما كان الملوك يخشون المسير في الجزيرة لقلة الماء والكلأ وغدر العرب وانتقامهم من دخول محتل أجنبي إلى أرضهم , فمع شدة وتفاوت العداوة والغارات بينهم فانهم يتحدون في مواجهة المحتل وقيصر وحاشيته يعرفون هذا , وواقعة ذي قار بين العرب وكسرى ملك فارس شاهد قريب .
ويدل قول عدي بن حاتم (فاني في بعض أيام بهم وغم) على خيبته ويأسه من نصرة قيصر له , ولتفكيره بذهاب رئاسته لقبيلة طي , إذ دخلها الإسلام , إذ تنتقل الرئاسة طوعاً وقهراً وانطباقاً وفق عمومات قوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، ولا يؤدي الإرهاب إلى أمرة أو سلطنة.
وهل هذه الخيبة من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
أم أن القدر المتيقن من هذه الآية هو واقعة بدر وأحد , الجواب هو الأول , فقد صار عدي بن حاتم يفكر بالرجوع إلى دياره وماله وعزه وشأنه تحت لواء الإسلام , ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : تحريض المشركين وغيرهم قيصر وكسرى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : استغاثة النصارى بقيصر والمجوس وقريش بكسرى لتجهيز الجيوش ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تجاهل قيصر طلب عدي بن حاتم وغيره , وهل هذا التجاهل بآية وفضل من عند الله عز وجل ، الجواب نعم .
الرابع : بلوغ قيصر وكسرى انتصارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السريعة , وميل الناس إليه .
الخامس : تجلي منفعة للسرايا وهي ترغيب الناس في الإسلام .
السادس : عدم بلوغ قيصر وكسرى ما يدل على أن النبي محمداً يقسو على النصارى أو المجوس أو أنه ينشر الخوف والعنف في الجزيرة.
فمن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن دخوله القرى يجعل الناس يدخلون الإسلام , ولا يبقى في صدورهم غلّ وكراهية له أو للإسلام , مما يدل على أن قيصراَ إذا جهز الجيوش فإن هؤلاء الذين يريد نصرهم سيحاربونه , ولا يمثل عدي أو أبو سفيان ونحوه إلا أشخاصهم .
وقد حدث مثله عندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ودخل الناس الإسلام , فخرج أبو عامر الفاسق إلى مكة بعد أن لبس المسوح , وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة في واقعة أحد , وخرج معه إلى مكة بضعة عشر رجلاَ .
وقيل خرج معه (خمسون غلاما من الأوس)( ) وهو بعيد وعندما تجهزت قريش لمعركة أحد صار يمنيهم بأن قومه الأوس لن يتخلفوا عنه إذا دعاهم وكان يسمى الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفاسق .
وعندما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) نادى بأعلى صوته من بين الأحابيش وعبدان أهل مكة (يا معشر الاوس أنا أبو عامر.
قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق)( ).
فلم تنتفع منه قريش , ولكنه قاتل قتالاَ شديداَ , ثم صار يرمي الأوس وعامة جيش المسلمين بالحجارة .
وكان قد حفر عدة حفر في الميدان مكيدة للمسلمين ليقعوا فيها وكأنه مثل زرع الألغام في هذا الزمان (حتى سقط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة منها) ( ).
واختلف قيصر عن قريش فلم يستمع لدعوات تحريضه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام خاصة وقد ورد في كتبهم ذكر صفات نبي آخر الزمان .
وعدم الإستماع هذا من مصاديق قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
دعوة سفّانة للإسلام
لقد كان للمرأة شأن وجهد عظيم في بناء صرح الإسلام , فأول من آمنت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم امرأة وهي خديجة بنت خويلد زوجته والإمام علي عليه السلام , وأول شهيد في الإسلام هي امرأة وهي سُميّة بنت خياط أم عمار بن ياسر.
ومنهن سَفّانة بنت حاتم الطائي التي جلبت إلى المدينة سبية وشاء الله أن يكون لها شأن .
فكانت مع السبايا في حظيرة في باب المسجد ومرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فقالت: يا محمد ان رأيت أن تخلي عنا ولا تشمت بنا أحياء العرب فاني ابنة سيد قومي، وان أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويقري الضيف ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيئ)( ).
فلم يعرض عنها ويترك كلامها كسبية إنما قال (يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مؤمنا لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الاخلاق، والله تعالى يحب مكارم الاخلاق.
فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله: والله يحب مكارم الاخلاق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذى نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق)( ).
والنسبة بين حسن الخلق والفعل الإرهابي هي التضاد لذا يحرم فعله ، ويجب إجتنابه .
وفي الخبر دلالة على موضوعية وشأن ترحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأموات والأحياء , وقالت : يا رسول الله عز وجل (فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيّ مَنّ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ وَمَنْ وَافِدُك .
قَالَتْ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ . قَالَ الْفَارّ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ)( ).
ثم قال : خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق , مما يدل على أن إكرام الضيف والجود والكرم من مكارم الأخلاق .
ومن معاني خلوا عنها وجوه :
الأول : خروج سفانة من حظيرة السبايا .
(فانزلت دار رملة بنت الحارث) ( ).
الثاني : صيروة سفانة حرة غير مسبية .
الثالث : حرية سفانة ، ورفع شأنها ، وفيه ترغيب بالإسلام لها ولقومها.
الرابع : عدم مطالبة أحد من المسلمين بجعلها في فيئه .
ما يترشح عنه دعوة سفانة للإسلام , ثم كررت سفانة القول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني , هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليّ منّ الله عز وجل عليك .
وفي اليوم الثالث مرّ عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرادت الإمتناع عن مناداته ولكن كان وراءه رجل أشار عليها بتكليمه , فكلمته وذكرته بحالها , فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (قَدْ فَعَلْت ، فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِك مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتّى يُبَلّغَك إلَى بِلَادِك ، ثُمّ آذِنِينِي.
فَسَأَلْت عَنْ الرّجُلِ الّذِي أَشَارَ إلَيّ أَنْ أُكَلّمَهُ فَقِيلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ)( ).
فقيل علي وهو الذي سباكم (أما تعرفينه.
فقالت : لا والله، ما زلت مدنية طرف ثوبي على وجهي وطرف ردائي على برقعي من يوم أسرت حتى دخلت هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.) ( ).
لتكون بداية ولاء أهل هذا البيت ذي المجد والكرم للإمام علي عليه السلام , وإخلاصهم لأهل بيت النبوة .
وقدم وفد من قضاعة من الشام , قالت سفّانة (فكساني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاني نفقة وحملني وخرجت معهم حتى قدمت الشام على عدي فجعلت أقول له القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك)( ).
وأقامت سفّانة أياماَ عند عدي بن حاتم وأخبرته عن الآيات والمعجزات التي رأت في المدينة , وكانت صاحبة رأي وفطنة , وعدي يستمع إليها , وأدرك انتشار الإسلام لما فيه المنفعة العامة للناس .
وأن المصلحة الشخصية للرؤساء تنصهر فيها , وأن رئاسته لطيء ذاهبة لا محال إن لم يرجع فقد صار قومه مسلمين , وصدح الأذان خمس مرات في اليوم والليلة في جبلي آجا وسلمى وهُدم الصنم الفُلس ومزقت الثياب المطرزة بالحرير التي كانوا يلبسونه .
وقالت لعدي (أرى أن تلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
لبيان قانون وهو دخول الإسلام أكبر من الرياسة والملك الذي كان عليه عدي .
وفيه دعوة للسلم ليشكر الله عز وجل ويمتنع عن الإرهاب ولا يطمع من ورائه بأغراض وغايات وأوهام لا أصل لها ، إذ أن الضرر الذي يأتي من الإرهاب متعدد.
ونطق ووصف سفانة بصفة الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على إسلامها , لقد صار عدي بن حاتم بين أمرين إما الإسلام وإما الموت في دار الغربة , فخرج عدي بن حاتم من الشام ووصل إلى المدينة .
وفادة عدي بن حاتم إلى المدينة
لقد دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد فسلم عليه والتفت إلى عدم وجود بواب أو حراس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم وجود حجاب أو حاجب بينه وبين الغرباء .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من الرجل قال : عدي بن حاتم فانطلق به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته إكراماَ له ولم يكن قد دخل الإسلام بعد فهل يدل الخبر على طهارة أهل الكتاب ، الجواب نعم .
لقد كان عدي بن حاتم متردداً في أمر , هل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله عز وجل أم هو ملك.
وفي الطريق مع قصر المسافة بين المسجد النبوي وبيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم (امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا ؛ قَالَ عدي قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ) ( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن سنته الفعلية تطرد الشكوك من النفوس في رسالته , وعندما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيت تناول وسادة من جلد محشوة ليفاَ فقذفها إلى عدي وقال اجلس على هذه .
فقال عدي : بلى أنت اجلس عليها فأبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجلس على الأرض .
يقول عدي : (قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسياَ .
قال : بلى , قال : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع , أي تأخذ منهم الربع من الغنائم .
قلت : بلى .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فإن ذلك لا يحل لك في دينك , والركوسية دين قوم بين النصرانية والصابئة .
قال عدي (أَجَلْ وَاَللّهِ وَقَالَ وَعَرَفْت أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ)( ).
و(قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة له، وقد رَمَتْهم العرب، أتعرف الحيرة .
قلت : لم أرها، وقد سمعت بها.
قال : فوالذي نفسي بيده ، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظَّعِينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز.
قلت : كسرى بن هرمز. قال: “نعم، كسرى بن هرمز، وليُبْذَلنَّ المال حتى لا يقبله أحد.
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها) ( ).
وقد أسلم عدي بن حاتم وأسرته , وحسن إسلامه ورآى كيف أن المرأة تخرج من الحيرة وتصل إلى البيت الحرام تطوف به لا يتعرض لها أحد , وكيف فتحت قصور بابل للمسلمين وكان ينتظر مجئ اليوم الذي لا يأخذ أحد المال لوفرته وكثرته وحدثت علامات له في هذا الزمان , ويكون أيام الإمام المهدي ونزول عيسى عليهم السلام في آخر الزمان .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن حاتم على صدقات قومه لتدور الأيام ويسكن عدي بن حاتم الكوفة ويكون من أهلها .
وكنية عدي أبا طريف نزل الكوفة , اصيبت عينه يوم الجمل , كما قاتل تحت لواء الإمام على عليه السلام في معركة صفين , ومات سنة سبع وستين للهجرة (بالكوفة زمن المختار ويقال إنه بلغ عشرين ومائة سنة له رواية نحو من عشرين حديثا) ( ) وقيل توفى بقرقيسياء.
لقد بشّر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن حاتم ومن ورائه الأمة بقضاء الإسلام على الإرهاب وبسيادة الأمن والأمان في الطرقات العامة .
مما يدل على تثبيته في المدن من باب الأولوية القطعية , والملازمة بين الفتوحات الإسلامية وبين الأمن وتثبيت السلم المجتمعي واقترانه بالتقوى , وفيه حجة على كل مسلم ومسلمة بنبذ الإرهاب .
ودعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة ووفرة المال في هذه الأزمنة , وإخراج الأرض كنوزها من النفط والغاز وغيره , في أرض الجزيرة والعراق وإيران بما يفوق غيرها من البلدان .
وهو رزق كريم جاء بصدق الإيمان ومحاربة الإرهاب والعزوف عنه .
سياحة في أجزاء هذا التفسير
ويتضمن هذا السِفر الخالد وجوهاً :
الأول : تفسير آيات القرآن ابتداءً من آيات سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة آل عمران ، وقد صدر الجزء السادس والثلاثون بعد المائتين منه في تفسير الآية 191 من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
كما تضمن مصاديق أخرى من التفسير وهي :
الثاني : دراسات قرآنية : وصدر فيها: الجزء الخامس ، الجزء السادس .
الثالث : مفاهيم قرآنية : وصدر بخصوصه الجزء التاسع عشر والجزء العشرون من هذا السِفر .
الرابع : الصلة بين آية وآية قرآنية أخرى ، أو شطر آية بشطر من آية أخرى ، ومن هذه الأجزاء :

  • الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
  • الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
  • الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
    الخامس : الأجزاء الخاصة بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) وهي :
    (164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196—204-212-216-221-229).
    السادس : الأجزاء الخاصة بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وقد وقد ذكرت الأجزاء الخاصة بهذا القانون في المقدمة ، وعددها أربعة عشر جزءً.
    السابع : الأجزاء الخاصة بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وصدرت بخصوصه تسعة أجزاء هي:
    (205-206-207-214-215-233-240-241-242)
    وآخرها الجزء السابق وهو الثاني والأربعون بعد المائتين .
    الثامن : أجزاء (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) وصدرت بخصوصه الأجزاء :
    (222-223-224-227-230) .
    التاسع : تفسير بعض آيات القرآن بأكثر من جزء من جهات :
    الأولى : تفسير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، في أربعة أجزاء هي :
    (89-90-91-92).
    الثانية : تفسير قوله تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، بثلاثة أجزاء هي :
    (96-97-98).
    الثالثة : تفسير قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، في خمسة أجزاء هي :
    (101-102-103-104-105).
    الرابعة : تفسير نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في ستة أجزاء ، وهي الأجزاء :
    (131-132-134-137-138-139).
    العاشر : إحصاء قوانين هذا السِفر في الأجزاء :
    أولاً : الجزء الثاني والخمسون ويتعلق باحصاء القوانين في الأجزاء (1-51) ويتضمن نحو ألفي قانون ..
    ثانياً : الجزء الثاني والثلاثون بعد المائة ويتعلق باحصاء القوانين في الأجزاء (54-131) ويتضمن نحو ألف وثمانمائة قانوناً.
    ثالثاً : الجزء الواحد والستون بعد المائة ويتعلق باحصاء القوانين في الأجزاء (132-160) ويتضمن نحو ألفين وسبعمائة قانون.
    رابعاً : الجزء الثاني والتسعون بعد المائة ويتعلق باحصاء القوانين في الجزء (162-181) .
    خامساً : الجزء الثامن والعشرون بعد المائتين ويتعلق باحصاء القوانين في الجزء (182-227).
    الحادي عشر : فهارس أجزاء التفسير في الجزء :
    (53-202-229) .
    دلالة آية [كَافَّةً لِلنَّاسِ] على حرمة الإرهاب
    من فضل الله عز وجل على الناس مصاحبة النبوة لهم في أيام الحياة الدنيا ، ولم يهبط آدم إلى الأرض إلا وهو نبي من عند الله .
    لقد انفرد بمرتبة الخلافة في زمانه على الوجوه المتعددة للخلافة وهي:
    الأولى : القضية الشخصية ، وخلافة آدم بالخصوص .
    الثانية : خلافة الأنبياء في الأرض كما في قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ]( ).
    الثالثة : خلافة جنس الإنسان مطلقاً في الأرض .
    ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
    وقد جاءت آيات عديدة تبين بعثة الأنبياء إلى قومهم بآيات حسية منها قوله تعالى [وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ).
    ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء بعثته رسولاً إلى الناس جميعاً ، كما في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
    ولبيان الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا تستطيع الخلائق وان اجتمعت أن تجعل بعثته في بقعة محدودة من أرض الجزيرة فهي رسالة سماوية إلى سكان الدول العظمى في زمانه كبلاد فارس والروم والحبشة ، ثم إلى أهل المشرق والمغرب في كل زمان.
    فلم يقف الأمر بالإخبار السماوي عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما يشمل وجوهاً منها :
    الأول : تعضيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل .
    الثاني : حضور جبرئيل عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أوقات كثيرة .
    الثالث : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدة ثلاث عشرة سنة من التبليغ في مكة قبل الهجرة مع شدة عداوة كفار قريش له ، وإدراكهم أنه سيأتي على سلطانهم ، ويزيح الأوثان التي يعبدون وكثرة مكرهم وكيدهم.
    وهل في آية البحث مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحض له ولأهل البيت والصحابة الأوائل على الصبر ، الجواب نعم.
    الرابع : تعيين أوان الهجرة بمعجزة ونزول جبرئيل ليأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل في ذات الليلة التي أراد فيها المشركون قتله ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
    إخفاء سارة كتاب حاطب
    العدو : اسم جنس يطلق على المفرد والجماعة , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] ( ).
    والمراد في الآية كفار قريش ، ونزلت الآية أعلاه في حاطب بن أبي بلتعة إذ أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى مكة عام الحديبية فاتخذ التورية وأخبر انه يريد الخروج إلى خيبر وشاع الأمر , ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عدداَ من كبار أصحابه ممن يلزم تهيؤهم وتدبيرهم للأمر بأنه خارج إلى مكة .
    فقام حاطب بن أبي بلتعة بالكتابة إلى جماعة من قريش في مكة يحذرهم واتفق أن جاءت سارة وهي مولاة لبني هاشم من مكة إلى المدينة , وهي مغنية ونائحة حسب المناسبة والحال .
    (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمسلمة جئت – أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل إسلامها وتوبتها .
    قالت : لا.
    قال : أمهاجرة جئت .
    قالت : لا.
    قال : فما جاء بك.
    قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : فأين أنت من شباب مكة)( ).
    قالت ما طلب في شئ بعد وقعة بدر).
    أي أن قريشاً تركوا الغناء ومجالس الأنس بعد الواقعة وصاروا يستعدون لمعركة أحد .
    ومع انها أخبرت ببقائها على الكفر فإن النبي محمداَ لم يطردها , ولم يعرض عنها , إنما حث بني عبد المطلب وبني المطلب على كسوتها وإعطائها نفقة .
    فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى وأعطاها عشرة دنانير , وفي رواية مقاتل عشرة دراهم.
    والأول أصح لأنه وارد عن ابن عباس وهو صحابي , ولأهمية التستر على الأمر وإخفائه , وكساها برداَ , وسلمها الكتاب وفيه (من حاطب بن أبي بلتعة الى أهل مكة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريدكم فخذوا حذركم).
    فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل.
    فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً وعمّار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مريد وكانوا كلهم فرساناً ، وقال لهم : أنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب الى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها)( ).
    وأدركوها في ذات الموضع فسألوها عن الكتاب فأنكرته وحلفت بالله ليس معها كتاب , وفتشوا متاعها فلم يجدوا شيئاَ ، وهموا بالرجوع .
    ولكن الإمام علي عليه السلام قال : والله ما كذبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه (وقال : أخرجي الكتاب وإلاّ والله لا جرّدنّك ولأضربنّ عنقك. فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها قد خبأتها في شعرها)( ).
    فخلوا سبيلها ولم يحجزوها ولم يخشوا نقلها رسالة شفوية لأنها تجهل مضامين الرسالة.
    وهل كان حاطب يخشى منها إيصال موضوع الرسالة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم لأنها مولاة لهم ، الجواب نعم .
    بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوب مكة , فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب .
    فاعترف بأنه صادر منه واعتذر بأنه يخشى على أهله الذين بقوا في مكة , وعدم وجود عشيرة عنده بين كفار قريش , وأن كتابي لا ينفعهم لأن أمر الله عز وجل ماض بهم , وكان حاطب بن أبي بلتعة بدرياَ , فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) سبق العفو منه , وكان يقبل العذر , ولا يقف عنده , لذا نزل قوله تعالى [وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) .
    والمراد من (هُوَ أُذُنٌ) أي يقبل الإعتذار , ويصدق القول وإذا حلفوا له قبل قولهم ويمينهم .
    و(يقولون) في الآية أعلاه حكاية عن المنافقين لإرادتهم الإقامة على النفاق والتعدي .
    و(عن السدي قال : اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ، وجحش بن حمير ، ووديعة بن ثابت ، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنهى بعضهم بعضاً وقالوا : أنا نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بكم ، وقال بعضهم : إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا . فنزل {ومنهم الذين يؤذون النبي}( ) الآية)( ).
    لقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل ليكون ضياء ينير درب المسلمين ، ويكشف زيف دعوى المنافقين وقول الكافرين .
    الآية الخامسة : قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
    يتوجه الخطاب في آية (واعدوا) أعلاه إلى المسلمين , وتقديرها : (يا أيها الذين آمنوا أعدوا للذين يحاربونكم من الكفار) بدليل مضامين الآية السابقة [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ]( ) والآية التالية.
    إذ تتضمن هذه الآية البشارة بوهن وضعف وابتلاء الذين كفروا بأنفسهم , وانقطاع هجومهم على المدينة , وهو الذي حصل في الواقع , فبعد أن كان جيش المشركين في تصاعد في غزواتهم توقفوا وعجزوا .
    لقد خرجوا من مكة إلى بدر بنحو ألف من الرجال وأعدوا لهذا الخروج على عجل في ثلاثة أيام , وعندما خسروا المعركة وانهزموا من الميدان بمعجزة من عند الله عز وجل تجلت بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
    واستعدوا لمعركة أحد سنة كاملة , لإرادة بعث للخوف في قلوب الصحابة خاصة مع كثرة رسائل التهديد التي تصل من قريش لولا فضل الله عز وجل في الربط على قلوبهم من جهات :
    الأولى : توالي نزول آيات القرآن .
    الثانية : حضور النصر في بدر وإدراك أنه من عند الله عز وجل.
    الثالثة : إقامة الصلاة اليومية وما فيها من السكينة .
    الرابعة : فتح باب الدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
    الخامسة : شوق المسلمين الذين فاتهم الخروج إلى بدر للقاء المشركين , وحبهم الشهادة في سبيل الله .
    السادسة : من خصائص تعاقب الأيام على الإيمان تثبيته في النفوس , وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن مصاديق رسوخ الإيمان في النفوس النفرة من الإرهاب ، لقانون ظهور الإيمان على عالم الجوارح بالرفق والتراحم ، والإمتناع عن العنف والإضرار بالناس.
    السابعة : توالي دخول الناس في الإسلام ليشكر المسلمون الله على هذه النعمة واستدامتها وحرمة الإرتداد ، ويتجلى الشكر بمد يد السلم والأمان لكل الناس ، والإمتناع عما يخيفهم أو يقضّ مضاجعهم.
    قانون الخيبة المتكررة للمشركين
    لم ينل المشركون في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ما يرجون من الغايات , حتى أنهم همّوا من وسط طريق العودة إلى مكة بالرجوع للإغارة على المدينة .
    و(عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم . بئسما صنعتم ارجعوا .
    فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد؛ أو بئر أبي عنبة ، شك سفيان فقال المشركون : نرجع قابل . فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت تعد غزوة . فأنزل الله {الذين استجابوا لله والرسول . . . }( ) الآية.
    وقد كان أبو سفيان قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا) ( ).
    ثم جاءت الأحزاب في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة لتزحف قريش وحلفاؤها بعشرة آلاف رجل لإستباحة المدينة وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    ويوثق القرآن حال الشدة والمحنة التي صار عليها المسلمون وعلو صوت النفاق , إذ قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
    ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن صرف شرور الكفار في كل معركة من معارك الإسلام معجزة تختلف عن الأخرى من جهات متعددة , وهو من فضل الله عز وجل وعظيم قدرته وسلطانه.
    وحاصر المشركون المدينة نحو عشرين ليلة , إذ عجزوا عن إجتياز الخندق الذي حفره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حول المدينة وقد اقتحمه عدد من فرسانهم .
    فكان النزال التاريخي بين عمرو بن ود العامري فارس مضر وبين الإمام علي عليه السلام باصرار وتحد من الأول للمسلمين , ثم تمادى وصار يعيرهم من داخل الخندق على امتناع المهاجرين والأنصار من منازلته , ليبرز له الإمام علي عليه السلام ويصرعه وينهزم أصحابه إلى خارج الخندق ، وينزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
    لتكون هذه المنازلة مقدمة وبداية لإنسحاب جيوش المشركين .
    وهل منازلة الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري من (وأعدوا لهم) الجواب نعم .
    لبيان أن معنى (من قوة) في الآية اعم من الرماية ، إذ تشمل التمرين على المبارزة ونحوها ، وعلى بذل الوسع في سوح الدفاع ، مع التقوى بعدم الظلم أو التعدي أو الإرهاب .
    أوان نزول [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]
    هذه الآية من سورة الأنفال وهي سورة مدنية ، نزلت بعد معركة بدر ، لذا تسمى سورة بدر ، كما تسمى سورة الفرقان لقوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
    والسورة مدنية بدرية ، وعن الحسن البصري وعطاء وعكرمة أنها مدنية ليس فيها مكي.
    وقال (ابن عباس : هي مدنية إلا سبع آيات من قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ): إلى آخر السبع آيات)( ).
    ولم تنزل السورة كلها دفعة واحدة ، فهناك آيات تنزل بحسب الوقائع والأحداث والذي يسمى أسباب النزول .
    وهل تبعث آية (وأعدوا لهم) الحماس في نفوس الصحابة للدفاع والتعاون فيه ، الجواب نعم.
    وهل (وأعدوا لهم) مطلوب لذاته أم لغيره , الجواب تدل آية البحث على إرادة الثاني لإرهاب وإخافة أعداء الله عز وجل من المشركين .
    وهذه الآية هي الوحيدة التي تذكر فيها مادة (رهب) خطاباَ للمسلمين , وليس فيها قتال ولا قتل وسفك دماء إنما هي مانع من القتل والقتال .
    القدر المتيقن من [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]
    لقد ذكرت آية البحث الذين يقصد المسلمون إخافتهم بتهيئة السلاح والعدة , من دون الهجوم عليهم وهم :
    الأول : أعداء الله , ولم يرد لفظ (عدو الله) في القرآن إلا في آية البحث نعم , ورد لفظ (أعداء الله) مرتين في القرآن في ذم الذين كفروا , قال تعالى [وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ] ( ).
    والمراد الكفار المشركون الذين جحدوا بالتوحيد والنبوات من الأولين والآخرين بحبس الأول حتى يلحق به الآخر فيساقون إلى النار .
    الثاني : أعداء المسلمين الذين يجهزون الجيوش لمحاربتهم وقتالهم , فقد قام كفار قريش بالمسير بجيوش عظيمة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة , ومعركة أحد في السنة الثالثة للهجرة.
    وزحف عشرة آلاف مقاتل نحو المدينة وحصارها في معركة الاحزاب , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
    وهل يدخل المنافقون في أعداء المسلمين , في هذه الآية ، المختار لا ، وكذا أهل الكتاب كما لا يدخل فيهم الكفار الذين لم ولن يقاتلوا المسلمين ولم يساعدوا على قتالهم.
    لبيان حصر وجهة الدفاع للمسلمين والإستعداد والترقب والحيطة , وإذ قالت آية البحث بالإعداد والتهيئ فإنها تمنع من الهجوم والغزو , لتبقى آية البحث داعية وإلى يوم القيامة إلى السلم والعزوف عن القتال .
    و(عن أبي الدرداء رفع الحديث قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً . ثم تلا { وما كان ربك نسيا}( ))( ).
    ترى ما هي النسبة بين عدو الله وعدوكم , الجواب هو العموم والخصوص المطلق , فأعداء الله أعم , وبعث الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال عداوة الله من الأرض , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
    ولو دار الأمر أن هذه الفئة أو الفرد عدو لله أو لا , فالأصل البراءة من هذه العداوة ، وفيه دعوة لنبذ الإرهاب ، والإمتناع عنه أزاء الناس جميعاَ .
    وعلى فرض أن طائفة تجمع بين عداوة الله وعداوتها للمسلمين فإن آية البحث لا تأمر بمحاربتهم ولا إتخاذ الإرهاب وسيلة ضدهم إنما تدعو إلى استعداد المسلمين والتهيئ للدفاع , وقد ينشغل العدو بغير موضوع عداوته , وقد يصرف الله عز وجل شروره وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
    الثالث : قوله تعالى [وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ] ( )، أي من غيرهم ومنهم على صلة وترتيب معهم واختلف فيهم على جهات :
    الأولى : المنافقون .
    الثانية : هم فارس .
    الثالثة : بنو قريظة , لأنهم بين ظهراني المسلمين.
    والمدار أن المسلمين لايعلمون بهم , ولكنهم إذا رأوا أسلحة وخيل وتمرين المسلمين يمتنعو عن قتالهم والعدوان عليهم لبيان قانون آية (واعدوا لهم) مانع من الإرهاب ، والظلم والتعدي.
    الرابعة : كفار الجن.
    ويمكن أن نضيف جهات أخرى .
    الخامسة : هم كفار العرب ممن لم يدخل في معركة مع المسلمين إلى أن تم فتح مكة فكانت واقعة حنين , هذا على فرض نزول آية البحث قبل فتح مكة , وهو المختار .
    السادسة : الكفار الذين لم يعزموا على قتال المسلمين , ولكن عندما يبلغهم ضعف المسلمين وقلة أسلحتهم يطمعون فيهم , فأراد الله عز وجل التخفيف عن المسلمين وغيرهم , بانزجار الناس عن آلهتم بالإغارة على المدينة .
    السابعة : الذين تقوم قريش وغيرها بتحريضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , فهؤلاء لا يعلمهم المسلمون لأنهم لم يفكروا بعد بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ولكن الله عز وجل يعلمهم فأراد الله عز وجل قطع الطريق عليهم بزيادة حيطة المسلمين , وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمنع مقدمات القتال من وجوه:
    الأول : بقاء شطر من المشركين على الحياد ، وعدم الهمّ بقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الثاني : منع كفار قريش وحلفائهم من زيادة قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كماً وزماناً فلا يضيقون المدة بين كل معركتين.
    الثالث : بعث اليأس والقنوط والخيبة في نفوس المشركين وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
    الرابع : إمتناع شطر من المشركين عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة لتدبرهم وغيرهم في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الخامس : إبطال الكيد والمكر وفيه بيان للطف الإلهي في مكر الله عز وجل في قوله تعالى [يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
    فيمكر المشركون للهجوم على المسلمين , وتحريض القوى العظمى عليهم , فيمكر الله عز وجل بحض المسلمين على التهيئ بالسلاح والعتاد فيكف هؤلاء عن القتال.
    وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل للتنزه عن الإرهاب ومقدماته .
    وهل هذا الإجتناب من مكر الله عز وجل أيضاَ ، الجواب نعم لما أرشد المسلمين إليه من الأخلاق الحميدة والصبر.
    خاتمة آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]
    واختتمت الآية بقوله تعالى [وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ليتبادر من الآية بيان فضل الصدق والإنفاق في سبيل الله , ومضاعفة الأجر والثواب في الآخرة.
    والمعنى أعم وتشمل الآية الحياة الدنيا والآخرة , بصرف إرهاب المشركين عن المسلمين في الدنيا , ليكون من باب شكر المسلمين لله عز وجل إجتناب الإرهاب وترويع الناس .
    و(عن ابن عبَّاس ، عن رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عن ربِّه تبارَكَ وتعالى ، قال : إِنَّ اللَّهَ تعالى كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئَاتِ ، ثمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، وإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا ، كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ…الحديثَ)( ).
    وتدعو خاتمة الآية إلى عدم الخشية من الإنفاق في سبيل الله , وعدم إرجاء هذا الإنفاق , لأن مشركي مكة يسارعون في المكر والسعي للهجوم على المدينة.
    وإنفاق المؤمنين قليل من المال على سبل الإحتراز سبب لمنع مجئ الظلم من الذين كفروا , وغزوهم المدينة , وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    فمن مصاديق سلامة المسلمين من وقوع الظلم عليهم نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والإغتيال ، وهو من أسباب وعمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( ).
    و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِأَنْ لا يُصَدَّقَ إِلا عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ، حَتَّى نَزَلَتْ [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ] ( )، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ مِنْ كُلِّ دَيْنٍ)( ).
    وورد قوله تعالى [وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( )، مرتين في القرآن كلاهما للترغيب في الإنفاق في سبيل الله إحداهما في خاتمة آية البحث ، والأخرى في قوله تعالى [لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
    وخاتمة آية البحث وعد من عند الله ، وإخبار عن صرف شرور الذين كفروا ، ومنعهم من ظلم الذين آمنوا ، وبادروا إلى دخول الإسلام ليصاحب هذا الوعد المسلمين ، ولبيان قبح الظلم ابتداء أو أثراً.
    وأن الله عز وجل أكرم المسلمين بسلامتهم ووقايتهم من ظلم غيرهم لهم ، فمن الشكر لله عز وجل التنزه عن ظلم الناس وعن ترويعهم ، والبطش بهم ، والإنذار من مطلق التعدي عليهم.
    والنسبة بين الظلم والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالظلم أعم.
    تقدير (وأعدوا لهم)
    فيه وجوه :
    الأول : يا أيها الذين آمنوا أعدوا لمشركي قريش وحلفائهم .
    الثاني : وأعدوا لغزو المشركين .
    الثالث : وأعدوا لسرايا المشركين التي تهجم على أطراف وسروح المدينة .
    الرابع : وأعدوا لهم حقناَ للدماء .
    الخامس : وأعدوا لهم قطعاَ للظلم في الجزيرة .
    السادس : وأعدوا للمشركين المعتدين .
    السابع : وأعدوا للذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
    الثامن : وأعدوا للدفاع عن المدينة وأهلها .
    التاسع : وأعدوا على نحو الوجوب والأصالة ، الوجوب في الأمر الإلهي ، والأصالة بتولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإعداد والتهيئ للدفاع ومباشرتهم له.
    العاشر : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة كي يتم صلح الحديبية.
    الحادي عشر : وأعدوا للمشركين ما استطعتم من قوة كيلا يقع قتال بينكم وبينهم .
    الثاني عشر : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة لأغراض الدفاع المحض.
    الثالث عشر : وأعدوا للمشركين المعتدين وليس لغيرهم , قال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
    الرابع عشر : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة يحميكم الله عز وجل .
    الخامس عشر : يا أيها النبي أعد لهم ما استطعتم من قوة .
    فصحيح أن صيغة الخطاب في الآية هي الجمع ، ولكن هناك خصوصية في توجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماَ وقائداَ ويكون من مصاديق الآية وجوه تتعلق بالوحي .
    السادس عشر : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة بالإستجابة لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
    السابع عشر : وأعدوا لهم لا للغزو والهجوم , إنما لإخافة المشركين.
    الثامن عشر : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تخفيفاَ عنكم لصرف القتال والقتل .
    لتكون هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ]( ).
    التاسع عشر : وأعدوا لهم قدر الإستطاعة من غير حرج أو ضرر عليكم .
    فمن إعجاز الآية ورود التقييد فيها (ما استطعتم) لمنع الإنفاق على الخيل والسلاح وعدة القتال بما يقتطع من المعاش ، والإنفاق اليومي على العيال .
    العشرون : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة وبخصوص معنى القوة في الآية الكريمة , قال (عقبة بن عامر على المنبر يقول : قال الله عز وجل :(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر : قال الله عز وجل :(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ثلاثا) ( ).
    ليكون في تقديم القوة في الآية لطف وتخفيف من عند الله عز وجل , وحض على التمرين والإستعداد للقتال .
    وفي تقديم القوة على الخيل في الآية دعوة لعدم التسابق في شراء الخيل والسيوف وعدة القتال .
    وورد لفظ (من قوة) مرتين في القرآن , إذ ورد في سورة الطارق [فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ] ( ).
    لبيان التخلية بين الكافر والحساب يوم القيامة , وليس من قوة يومئذ تصد عنه العذاب , ويمتنع بها وليس من ناصر أو شفيع له .
    وهل من صلة بين الآيتين , الجواب نعم , فصحيح أن موضوع الآية أعلاه هو يوم القيامة إلا أنها تتضمن الإشارة إلى تخلف المشركين عن امتلاك القوة لغزو المدينة وإلحاق الخسارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , لذا ورد قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
    تقدير (ترهبون)
    اختتمت الآية بالترغيب بالإنفاق في سبيل الله عز وجل , ومن معاني الصلة بين أول وآخر الآية دعوة الآية للإنفاق وشراء الخيل وليس القتال وسفك الدماء , وليكون من مفاهيم الآية وجوه :
    الأول : ترهبون عدو الله وعدوكم فلا تصل أيديهم إليكم .
    الثاني : ترهبون عدو الله بالإنفاق في سبيله .
    الثالث : ترهبون عدو الله حرباَ على الإرهاب .
    الرابع : ترهبون عدو الله وعدوكم رحمة بهم .
    الخامس : ترهبون عدو الله لإزاحة الإرهاب من الأرض .
    السادس : لا ترهبوا باعداد السلاح إلا أعداء الله وأعداءكم .
    السابع : ترهبون عدو الله وعدوكم وأنتم في مكانكم لا تغادرون المدينة .
    الثامن : ترهبون عدو الله وعدوكم من غير فعل إرهابي من الطرفين .
    التاسع : ترهبون عدو الله وعدوكم وانتم في مكانكم وليس لكم إرهاب الناس والقيام بعمل إرهابي.
    العاشر : أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ولا تتعدوا لغيرها .
    و(عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله حد حدوداً فلا تعتدوها ، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها)( ).
    والحديث مقطوع فلم يسمع مكحول من أبي ثعلبة , ومنهم من أوقف الحديث على أبي ثعلبة , والمختار والمشهور رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الظاهر من لغة الحديث وصبغة الوحي فيه .
    ترى لماذا قيدت الآية إعداد القوة بقوله تعالى (وأعدوا لهم) الجواب من جهات :
    الأولى : الإنفاق على السلاح قدر الحاجة إليه .
    الثانية : إذا امتنع المشركون عن قتال المسلمين فلا حاجة لهذا الإعداد , وتدل عليه الآية التالية بقوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
    فمع السلم تنتفي الحاجة إلى إعداد القوة والسلاح والخيل لإنتفاء المعلول بانتفاء علته , وليتوجه المسلمون للتفقه في الدين , والإعمار والزراعة .
    الضمير (هم) في [وَأَعِدُّوا لَهُمْ]
    ويحتمل الضمير (هم) في (وأعدوا لهم) وجوهاَ :
    الأول : إرادة أعداء الله .
    الثاني : أعداء المسلمين .
    الثالث : الذين يجمعون بين عداوتهم لله وعداوتهم للمسلمين.
    الرابع : إخافة الذين من خلفهم لأصالة الجمع والتعدد .
    الخامس : المقصود خصوص الذين يقاتلون المسلمين.
    والمختار بلحاظ الآية السابقة وابتداء آية البحث بحرف العطف الواو أن الإعداد للذين كفروا من المشركين الذين يحاربون الإسلام.
    ليكون موضوعه أعم بتخويف غيرهم , فهذا الإعداد للإحتراز , ولكنه يفيد تخويف الكفار الآخرين .
    ومن الإعجاز في نظم الآيات مجئ الآية التالية لآية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ] بالبشارة بتحقق السلام والأمن المجتمعي بفضل ولطف من عند الله ، لبيان موضوعية إعداد القوة وتخويف الذين كفروا من الهجوم على المدينة لبناء صرح السلام ، ووقف الهجوم على المدينة وغزوها.
    ولم تقل الآية التالية (واجنح لها) بل جاءت بحرف الفاء [فَاجْنَحْ لَهَا] لافادة مقابلة الرغبة بالسلم من قبل الذين كفروا بمثلها لبيان قانون الحسن الذاتي للسلم ، وإشاعته في الأرض .
    ولبيان موضوعية ونفع إعداد المسلمين القوة والسلاح وإكثارهم من الخيل في ميل المشركين إلى السلم والموادعة من غير أن يقع قتال بين الطرفين وتجلى هذا الميل في رضا رؤساء قريش بصلح الحديبية بعد هجومهم على المدينة في الأحزاب بنحو سنة.
    نعم جاءت الآية التالية بصيغة الجملة الشرطية (وان جنحوا) لرجحان ميلهم للسلم ولزوم جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين التهيئ للدفاع وقبول الصلح والسلم حتى مع إزدياد عدد وقوة المسلمين.
    ولم تقل الآية (فان جنحوا) لبيان إبطائهم باختيار السلم ، مما يلزم المسلمين الإعداد والتهيئ والصبر ولكن حالما يميلون إلى السلم يقابلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بمثله.
    ومن الإعجاز في الصلة بين آية (وأعدوا) وبين الآية التالية بيان قانون إعداد السلاح والإحتراز والمرابطة سبيل للسلم والأمن المجتمعي .
    ولم يرد لفظ (جنحوا) (للسلم) (اجنح) (فاجنح) إلا في الآية أعلاه ، ويمكن تسميتها آية (الجنح للسلم).
    فلم يبعث الله عز وجل نبياً إلا بلواء السلم ، والنسبة بين الصبر والسلم عموم وخصوص مطلق ، فالصبر أعم والرضا بميل المشركين إلى السلم على ظاهر قولهم وفعلم ، ولا يلزم التنقيب عن صدق النوايا ، وتفيد مضامين هذه الآيات الجمع بين إعداد التهيئ للدفاع وبين قبول السلم.
    وهذا الجمع زاجر عن الإرهاب والغلو والغرور .
    آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ] ومعركة أحد
    لقد تضمنت آية البحث الأمر للمسلمين باعداد القوة واظهرها الرماية والتمرين للإستعداد للدفاع المحض في معركة أحد والخندق , وعندما زحفت قريش على المدينة المنورة بثلاثة آلاف رجل في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
    اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسين من الرماة لحماية ظهور المسلمين ، وهذا الإختيار من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
    ومن الشواهد الفعلية على قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ).
    لحاجة المسلمين يومئذ للرماة إذ جاءت خيالة المشركين برئاسة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل من خلف جيش المسلمين , فكان الرماة لهم من على جبل عينين بالمرصاد .
    ولا يزال الجبل يحمل اسم (جبل الرماة) واتخذه وفد الحاج والمعتمرون مزاراَ .
    ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جبير على الرماة الخمسين وهو من الأوس (فأمره أن ينضح المشركين بالنبل، لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم)( ).
    لقد أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراَ خاصاَ وعاماَ مع اتحاد الموضوع إذ أوصى عبد الله بن جبير وأوصى الرماة , وأمرهم (أَنْ يَلْزَمُوا مَرْكَزَهُمْ وَأَلّا يُفَارِقُوهُ وَلَوْ رَأَى الطّيْرَ تَتَخَطّفُ الْعَسْكَر)( ).
    ولكن عندما لاحت بشارة النصر , وسقط لواء المشركين أرضاَ بعد قتل حملته واحداَ بعد الآخر , وهمّوا بالفرار وقامت النسوة التي جاءوا بهن من مكة لضرب الدفوف وتشجيع المقاتلين بركوب الإبل هروباً فترك أغلب الرماة مواضعهم للغبطة بالنصر ولجمع الغنائم فحذرهم عبد الله بن جبير وذكّرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء الذي يفيد الوجوب .
    ولكنهم أولوه بحال اشتداد القتال ، عندئذ زحفت خيل المشركين من الخلف وعددها مائتا فرس فرماهم عبد الله بن جبير وثمانية من الرماة بقوا معه حتى إذا وصلتهم الخيل قتلوهم ثم جاءوا للمسلمين من خلفهم فكانت الخسارة وسقط سبعون شهيداَ وأغلبهم من الأنصار من غير أن يُهزم المسلمون.
    لبيان أن قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ) في ميدان الدفاع واقية من الخسارة وحرز من شماتة المنافقين .
    وهل فيه ترغيب للناس في الإسلام , الجواب نعم , لذا رزق الله عز وجل النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه النصر في معركة بدر وسلامته من الهزيمة في معركة أحد .
    وهل قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] زاجر عن الإرهاب ، الجواب نعم ، لأنه نوع وقاية واحتراز وحيطة وحذر ، وليس فيه هجوم أو غزو أو قتل .
    ومن إعجاز القرآن عدم ورود لفظ (سيف) فيه ، لذا فسرت القوة في الآية أعلاه بالرماية ، وهي لا تحتاج إلى المال الكثير لامكان التعلم بالأقل من الرماح والنبال ، والميسر في اقتنائها لطرد الغفلة ، ولبعث الخوف في قلوب المشركين فلا يزحفون ويغزون المدينة المنورة.
    قانون الصبر في (وأعدوا لهم)
    الصبر لغة هو الكف والتجلد , وهو نفيض الجزع , ويتبادر إلى الذهن الصبر على المكاره وعند المصائب والشدائد , ولكن الصبر أعم , منه الصبر في طاعة الله عز وجل , وقد يجتمع الأمران كما في مواجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لكفار قريش في ميادين القتال.
    ونزل القرآن بآيات عديدة تخص الصبر والصابرين منها :
    الأولى : آيات الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر منها خطاب الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلحق به الأمة كما في قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] ( ).
    الثانية : آيات تدعو المسلمين للصبر كما في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
    الثالثة : بيان آيات القرآن لفضل الصبر وحسنه الذاتي , وأنه مطلوب لغيره , ومنه قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
    الرابعة : آيات جزاء الصبر في سبيل الله , منها قوله تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
    الخامسة : آيات البشارة على الصبر , وإدراك منافعه العاجلة لتكون مقدمة ومرآة لمنافعه الأخروية منها قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ).
    السادسة : آيات الفوز بالمغفرة واللبث الدائم في النعيم جزاء على الصبر في طاعة الله عز وجل , قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ] ( ).
    وتتجلى موضوعية قصد القربة في الصبر الذي يترتب عليه الثواب بقوله تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] ( ).
    ويختار المؤمن الصبر وفيه النفع العظيم , وهل يختار الصبرُ نفسه الإنسان الجواب نعم , إذ أن الصبر أمر وجودي , وهو منقاد لأمر الله عز وجل.
    وكما يصرف الله عز وجل السوء عن المؤمن والولي , وقد صرفه عن النبي يوسف عليه السلام بقوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
    فكذا يبعث الله عز وجل الصبر للمؤمن ولمن يشاء الله عز وجل ,فيمنعه من الجزع والهلع .
    ومن الصبر هداية الله عز وجل للمسلمين بالإعداد للمشركين القوة والخيل وفق الإستطاعة , فذات قيد الإستطاعة صبر وتحمل ، وعدم مسارعة في الإحتراز في طرف وكيفية الدفاع .
    وهل منها رصد العدو ومتابعة أخباره , وبث العيون لمعرفة سعيه العدواني , الجواب نعم , ومنها دسّ الذين يقعدون العدو وينشرون في صفوفه الخوف والإرباك والخشية من مهاجمته للمدينة .
    ومن معاني الصبر في (وأعدوا لهم) إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن الهجوم على المشركين بإتمام الإستعداد , ووجود المقتضى وفق المانع , فهؤلاء قوم مشركون يتحينون الفرص لمباغتة المسلمين بالهجوم وإيقاع القتل والجرحى فيهم.
    ومع هذا وقفت الآية عند إرهاب المشركين فقط دون الهجوم عليهم , وهو من أسمى معاني الصبر , والتسامح والموادعة والإعراض .
    وإذا كانت آية (وأعدوا لهم) من آيات الكف والإعراض فهل نسختها آية السيف.
    الجواب لا , إذ لم يلتفت المفسرون لكونها من آيات الكف والإعراض والعزوف عن الذين كفروا , بلحاظ أن موضوعها ليس إعداد الجيوش وخروج السرايا إنما هو بقاء المؤمنين في بلدتهم مع أخذ الحائطة الفعلية .
    وقد تقدم في الجزء العاشر بعد المائتين بخصوص هذه الآية : ليس في الآية إرهاب ولا تهديد ولا عنف ولا وعيد ( ).
    الدعوة النبوية مانع من الإرهاب
    لقد ابتدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة على وجوه :
    الأول : إظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النسك والعبادة ومعاني التوحيد .
    الثاني : الدعوة على نحو القضية الشخصية , باتصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأفراد ودعوتهم للإسلام .
    الثالث : دعوة ذوي القربى على نحو الإنفراد والإجتماع .
    و(عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، منهم العشرة يأكلون المسنة ، ويشربون العس.
    وأمر علياً برجل شاة صنعها لهم ثم قربها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ منها بضعة فاكل منها ، ثم تتبع بها جوانب القصعة.
    ثم قال ادنوا بسم الله. فدنا القوم عشرة . . عشرة . فأكلوا حتى صدروا.
    ثم دعا بقعب من لبن فجرع جرعة فناولهم فقال : اشربوا بسم الله .
    فشربوا حتى رووا عن آخرهم ، فقطع كلامهم رجل فقال لهم : ما سحركم مثل هذا الرجل ، فاسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فلم يتكلم .) ( ).
    و(عن ابن عباس قال : ما كان أبو لهب إلا من كفار قريش ، ما هو حتى خرج من الشعب حين تمالأت قريش حتى حصرونا في الشعب وظاهرهم ، فلما خرج أبو لهب من الشعب وظاهرهم ، فلما خرج أبو لهب من الشعب لقي هنداً بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه ، فقال : يا ابنت عتبة هل نصرت اللات والعزى؟
    قالت : نعم فجزاك الله خيراً يا أبا عتبة . قال : إن محمداً يعدنا أشياء لا نراها كائنة ، يزعم أنها كائنة بعد الموت ، فما ذاك وصنع في يدي ، ثم نفخ في يديه ثم قال : تباً لكما ما أرى فيكما شيئاً مما يقول محمد ، فنزلت {تبت يدا أبي لهب}( ).
    قال ابن عباس : فحصرنا في الشعب ثلاث سنين ، وقطعوا عنا الميرة حتى إن الرجل ليخرج منا بالنفقة فما يبايع حتى يرجع حتى هلك فينا من هلك .) ( ).
    وانقطع حصار قريش في السنة العاشرة للبعثة , وهي ذات السنة التي ولد فيها ابن عباس إذ أنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وكانت وفاته سنة 68 للهجرة في الطائف.
    وأرسله الإمام علي عليه السلام إلى ستة آلاف من الحرورية ليحاوروهم ويحتج عليهم , فرجع منهم آلفان .
    وولاه الإمام علي عليه السلام على البصرة سنة 36-39 للهجرة, وكف بصره في آخر عمره.
    وروى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو (1660) حديثاَ وله في صحيح البخاري 110 أحاديث , وفي صحيح مسلم بن الحجاج 49 حديثاَ.
    وكانت له حلقة درس ومجلس في المسجد النبوي يأتيه الناس من الأمصار ليأخذوا منه .
    الرابع : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإسلام في موسم الحج , والذي يوافق الأشهر الحرام فتمسك قريش عن الإضرار به بمرآى من الناس , وهذا لا يعني عدم تلقيه الأذى الشخصي من عمه أبي لهب وغيره .
    الخامس : لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وفد الأوس والخزرج من أهل يثرب في العقبة في مِنى , لتكون بعدها بيعة العقبة الأولى , وبيعة العقبة الثانية
    ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جمعه بين الدعوة إلى الله عز وجل وإجتناب إثارة كفار قريش , وقد يصبر عن أفراد من الدعوة لهذا الغرض , مع أنهم ظالمون باختيارهم الشرك وصدودهم عن الدعوة , قال تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
    ومن ظلم قريش مواجهة الدعوة إلى التوحيد بالعنف والإرهاب وتعذيب المسلمين الأوائل , لبيان قانون إمتناع المسلمين من التشبه بالكفار في الإرهاب .
    لقد جاء الإسلام ونزل القرآن لإستئصال الإرهاب من الأرض , والنسبة بينه وبين الظلم عموم وخصوص مطلق , فالظلم أعم .
    نعم الإرهاب ظلم للذات والمذهب والملة والناس جميعاَ , فلابد من إجتنابه
    قانون عدم ترتب القتال على آية (وأعدوا لهم)
    لقد تضمنت آية (وأعدوا لهم) أمراَ موجهاَ للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالإعداد والتهئ للقاء المشركين بالتمرين والرماية , وكثرة الخيل , وربطها في سبيل الله عز وجل .
    لقد جاءت قريش في معركة أحد بمائتين من الخيل لم تركب ظهورها فهي تقاد وتعلف في الطريق بين مكة والمدينة .
    لتكون مهيأة للهجوم والإغارة , وقد نجحوا في الإنتفاع منها بسبب ترك الرماة المسلمين لمواضعهم مع نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الترك .
    فعندما بقي عدد من الرماة أغارت هذه الخيل من خلف جيش المسلمين , وقتلوا الرماة ، وصاروا يفتكون بالمسلمين من خلفهم فأراد الله عز وجل للمسلمين أخذ الحيطة , ومنع مباغتة المشركين لهم .
    وتبين وقائع معركة أحد والخندق , وقيام المشركين بالغزو واختيارهم لمكانه وزمانه , وكثرة خيلهم في كل منها حاجة المسلمين للدفاع , والتهئ لصد المشركين , وهذا التهيئ وإعداد ما يستطيعون من القوة والسلاح والرجال رحمة من وجوه :
    الأول : إنه رحمة بالمسلمين أنفسهم , وتخفيف عنهم .
    الثاني : فيه رحمة لعامة أهل المدينة من المؤمنين والمنافقين واليهود , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
    لقد كان بعض المنافقين ينتظر هجوم المشركين , وقتلهم للمهاجرين والأنصار فرآى كيف أن الصحابة يستعدون للدفاع بأمر من عند الله عز وجل ، فخاب ظن المنافقين ، وفي التنزيل [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
    الثالث : طرد الغفلة عن المسلمين , وبيان قانون لطف الله عز وجل بهم , وخيبة المشركين في مكرهم وظلمهم باستعداد المسلمين العام له والتهيئ للدفاع , قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ]( ).
    الرابع : إنه رحمة بالمشركين أنفسهم بكفهم عن الهجوم والغزو , وهو مناسبة لتدبرهم في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الخامس : إعداد المسلمين القوة ووسائل الدفاع منع للقتال في الجزيرة , والقتال أذى وشر وسفك للدماء ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ).
    فمن صيغ كره القتال إجتنابه بالإعداد والتهيئ للقاء المشركين , وعدم طمعهم بالمسلمين أو رميهم بالضعف وقلة التمرين أو الإفتقار للخبرة .
    لقد بينت الآية السابقة عتو وغرور المشركين , واستخفافهم بقدرات المسلمين القتالية وأسلحتهم والنقص في خيلهم وإبلهم , إذ قال تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ] ( ).
    لبيان أنهم لا يفلتون من العقاب ، ولا يستطيعون التمادي في الغي وكثرة الهجوم على المسلمين , ومن إسقاط ما في أيدي المشركين بتأهيل آية البحث للمسلمين في أمور الرمي والدفاع.
    وهل كانت شجاعة الإمام علي عليه السلام النادرة في معارك الإسلام الأولى وصرعه فرسان قريش تحريضاً للصحابة على الرمي والقتال والعمل بمضامين آية البحث , الجواب نعم .
    وهو لا يتعارض مع المدد الإلهي الذي رزقه الله عز وجل الإمام علي عليه السلام ومنه واقعة الباب في خيبر في شهر جمادي الأولى من السنة السابعة للهجرة .
    و(عن الإمام الباقر عليه السلام عن جابر، أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها، وإنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا) ( ).
    وعن (جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دفع الراية لعلي يوم خيبر أسرع فجعلوا يقولون له: ارفق حتى انتهى إلى الحصن فاجتذب بابه فألقاه على الأرض ثم اجتمع عليه سبعون رجلا حتى أعادوه)( ).
    وهل هو من مصاديق آية البحث , الجواب نعم فهو من عمومات (القوة) في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
    أسماء مستحدثة لآية (واعدوا)
    تقدير آية البحث على وجوه :
    الأول : وأعدوا للذين كفروا الذين يقاتلوكم .
    بعطف آية البحث بالواو على الآية السابقة .
    الثاني : وأعدوا لهم ولا تقعدوا .
    الثالث : وأعدوا واطردوا الغفلة عنكم .
    الرابع : وأعدوا للمشركين كي ينزجروا .
    الخامس : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله عز وجل لصيرورتكم بحال الإعداد للتهيئ والدفاع للدلالة قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ( ).
    ويدل إمكان الإعداد على وجود مقدمات وأسباب والمندوحة في الوقت والمحل من غير تضييق من الكفار على المسلمين .
    وذكرت الآية إخافة أعداء الله عز وجل وأعداءكم ليخرج أهل الكتاب والمشركون الذين لم يقاتلوا المسلمين , فيمتنع المسلمون حتى عن إخافتهم بالسلاح.
    فكلما إزداد المسلمون قوة فإن الناس في مأمن وعدم خشية من هذه القوة لأنها احتراز من المشركين الذين يغزون المدينة.
    وهي دعوة للناس لعدم جعل خوفهم من كفار قريش مانعاً من دخولهم الإسلام.
    لذا فآية البحث تحرم الإبتداء بالقتال , وتمنع من إخافة الناس الآمنين .
    ويمكن أن نستحدث أسماء لآية البحث :
    الأول : آية منع مقدمات القتال .
    الثاني : آيات الحيطة والإحتراز .
    الثالث : آية طرد الغفلة عن الميدان .
    الرابع : آية الوقاية من سل السيوف .
    الخامس : آية الأهلية لإعداد القوة.
    السادس : آية الرباط ولم يرد لفظ (رباط) في القرآن إلا في آية البحث .
    السابع : آية واعدوا لهم .
    ومن الإعجاز في آية البحث جمعها بين التهيئ للدفاع والرباط وبين البعث على الإنفاق ، لقوله تعالى في ذات آية محل البحث [وَمَا تُنفِقُوا].
    وقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في آية واحدة بقوله تعالى [لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
    الصلة بين (أعدوا) وصلح الحديبية
    ليس في آية (وأعدوا لهم) أمر بالقتال , أو تخطيط وسعي له , ولا ترقى مضامينها إلى الدفاع , إنما هي آية سلام وصبر وإقامة في المدينة .
    ليكون من إعجاز القرآن ورود كلمة (ترهبون) لتكون لواء أمن وسلام , ومنع من القتال .
    وهل في امتثال المسلمين لمضامين آية (وأعدوا) من رهبتهم وخشيتهم من الله عز وجل , الجواب نعم .
    وهو مادة لإستدامة هذه الرهبة من الله عز وجل من جهات :
    الأولى : إعداد القوة والسلاح طاعة لله عز وجل .
    الثانية : الإدراك العام عند المسلمين بأن الله عز وجل يريد لهم خير الدنيا والآخرة ، ورحمته حاضرة معهم .
    الثالثة : استدامة أداء المسلمين الفرائض العبادية باعداد القوة لملاقاة المشركين .
    الرابعة : لما أمر الله عز وجل المسلمين باعداد القوة والسلاح فإنه سبحانه ضمن لهم تحقيق هذا الإعداد.
    الخامسة : من تقدير (ترهبون به) ترهبون به عدو الله عز وجل وقد نزل من الله عز وجل , وتذكرونهم بأهوال يوم القيامة , فتكون الباء في (ترهبون به) للسببية .
    فالرهبة ليست من القوة والسلاح , إنما هي من الله عز وجل , وتكون وسيلة ودعوة لدخول الإسلام , وهجران الإرهاب والإقتتال .
    لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
    وإن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يجذبون الناس إلى الرهبة من عند الله عز وجل , وفيه تأكيد للآيات التي حضت على الرهبة من الله عز وجل , كما في قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )، وقوله تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ).
    الآية السادسة : قوله تعالى [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
    تذكر هذه الآية مادة (رهب) بلفظ رهبانهم ، والمراد علماء أهل الكتاب ، وجاءت الآية بصيغة الماضي [اتَّخَذُوا] وكثيرة هي الخلافات التي حدثت عبر التأريخ في الكنيسة ومنزلة الرهبان بين الناس .
    وقد تقدم الثناء على النصارى وعلمائهم بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
    ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الرهبان وإن بالغ أقوام من النصارى فيهم بأن استمعوا لهم بالحق والباطل فانهم يبقون يتحلون بصفة التواضع ، وعدم التكبر .
    وتتضمن الآية الذم للذين اتخذوا الرهبان والسيد المسيح أرباباً ولم يأت السيد المسيح إلا بالتوحيد ، ووجوب عبادة الله وحده.
    وقد نطق وهو في المهد [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( )، إن أدنى تفكر من المليين يهدي إلى التوحيد ، وكذا أدنى تفكر من أي انسان يقود إلى حرمة الإرهاب ، ووجوب الإمساك عن الإضرار بواسطته بالناس على نحو التعيين او العشوائية.
    ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبركات هذه الآيات حصانة المسلمين من عبادة الأئمة ، أو العلماء ، أو الإنصياع للذي يأمر بالحرام وينهى عن الحلال.
    ومن إعجاز القرآن في المقام بيان خصال المنافقين بأنهم يأمرون بخلاف ما يجب عليهم وعلى الناس الحذر والإعراض عنهم ، ومن هذه السجايا القبيحة ، قال تعالى في ذم المنافقين [يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( )، وفيه دعوة لكل مسلم بالتفقه في الدين ، والفصل والتمييز بين الحق والباطل ، والحلال والحرام .
    ليتجلى له قانون حرمة الإرهاب ، والنهي عن الإنصات لمن يأمر به أو يدعو إليه وإن كان بلباس الدين والشأن والجاه .
    وكأن الآية تدعو لعرض ما يقوله هؤلاء العلماء فان وافق التوحيد والسنن التي جاء بها الأنبياء يؤخذ بها وإلا فلا يصح الإنقياد التام للرهبان فيما يقولون.
    ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، بيان القرآن والسنة لما يجب على المسلمين وأهل الكتاب والناس عمله من الصالحات .
    ولا يصح خلط العمل الصالح بعمل سيئ قال تعالى [وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
    لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضح القول الفاسد ، والفعل المذموم ، ونهى عن إتباع الذي لا يأمر بما أمر الله عز وجل به وإن حفظ آيات التنزيل وأظهر الزهد ، فلابد من أخذ الحائطة والإبتعاد عن الذي يدعو إلى العنف والتطرف والبطش بالناس ، والذي يرمي هذه الطائفة وتلك بالتكفير لأسباب واهية ، ثم يرتب هو أو غيره ممن ينصت له عملاً إرهابياً على هذا القول ، وهو من الفتنة المنهي عنها ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
    ولو تعارض العمل بالقرآن والسنة مع قول من يدعي العلم ، فلابد من العمل بالقرآن والسنة وليس فيه الا الصلاح والرشاد والأمن للناس جميعاً.
    ولأن الآية من آيات التوحيد فقد أختتمت بكلمات من التوحيد من جهات :
    الأولى : (ليعبدوا إلهاً واحداً) لبيان ذكر التوحيد مع وجوب عبادة الله وحده .
    وهل من عبادة الله عز وجل العزوف والإبتعاد عن الإرهاب وترويع الناس ، الجواب نعم .
    الثانية : قوله تعالى [لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] وهي شهادة التوحيد التي تتضمن أمرين متلازمين :
    الأول : النفي المحض في قول لا إله ، فلا يستحق التأهيل والتعظيم والعبادة إلا الله عز وجل .
    الثاني : الإثبات والقطع الجازم (إلا الله) لنفي كل ما يُعبد من دون الله .
    فلا تنفي الآية الإلوهية إلا فيما يخص الشريك والند والطواغيت الذي يدعون الربوبية مثل فرعون والأوثان فقوله تعالى (إلا الله) خارج أصلاً من المستثنى منه ومن حكمه .
    فلا يدخل الله عز وجل في المنفى حتى يلزم استثناؤه منه ، لتكون كلمة التوحيد دعوة للخشية والرهبة من الله عز وجل وحده ، والتنزه عن إرتكاب السيئات والمعاصي ، وعن التعدي على حقوق الناس بالإرهاب والظلم .
    ومن معاني التوحيد إنحصار ملكية السموات والأرض لله عز وجل فلا يشاركه أحد في ملكه ، وهو المتوحد فيه ، وفي التصرف والمشيئة المطلقة في عالم الأكوان ، وفي التنزيل [قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا]( ).
    الثالثة : كلمة التقديس (سبحانه) التي ينفرد بها الله عز وجل ويملي تقديس المسلم لله عز وجل إمتلاء النفس بحبه وعشقه ، وكراهة الإضرار بأحد من خلقه.
    الآية السابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
    ورد ذكر مادة رهب في الآية أعلاه بقوله [الرُّهْبَانِ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث.
    والرهبان : جمع راهب ، أي أنه يرهب ويخاف الله ، واستعمل في نُساك النصارى ، ومن حبسوا أنفسهم في السواري والصوامع.
    لذا ورد الذم في قوله تعالى [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا]( )، مع إخبار القرآن الإعجازي عن تحلي أتباع عيسى عليه السلام بالرأفة والرحمة للناس عامة ، قال تعالى [ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ]( ).
    أما الأحبار فهم من علماء اليهود ، لبيان حرمة الإضرار بهم ، وهو من المصاديق والهيئات التي نهى الله عز وجل عن التعدي عليهم بقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أصحابه باجتناب الإضرار بهم او بالنساء أو الصبيان أو الشيخ الكبير.
    و(عن عائشة قالت : دخلت امرأة عثمان بن مظعون واسمها خولة بنت حكيم عليَّ ، وهي باذة الهيئة فسألتها ما شأنك؟ فقالت : زوجي يقوم الليل ويصوم النهار ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا عثمان ، إن الرهبانية لم تكتب علينا ، أما لك فيَّ أسوة؟ فوالله إن أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده لأنا.
    وأخرج عبد الرزاق عن أبي قلابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من : تبتل فليس منا)( ).
    وهل من أسرار هذا التبعيض الإحتجاج على صكوك الغفران ، الجواب لقد ظهرت صكوك الغفران في القرن السادس عشر الميلادي ، وذكر أن اختراعها في القرن الحادي عشر الميلادي في الحرب الصليبية.
    ولا مانع من إخبار القرآن عن وقائع لم تقع بعد وهو من مصاديق إحاطته بالوقائع والأحداث.
    وهل تتضمن خاتمة آية البحث النهي عن الإرهاب ، الجواب نعم ، إذ تدعو في مفهومها إلى الإنفاق في سبيل الله ، وفيه حض على إلتفات المسلم لواجباته الشرعية ، ومنها الزكاة والصدقة وإعانة الفقراء والمحتاجين.
    ومن مساوئ الإرهاب نزول ضرره على الغني والفقير ، والكبير والصغير ، والرجل والمرأة ، فيأتي الإنذار من حبس الحقوق لبعث المسلمين وغيرهم على المبادرة إلى مساعدة المعوزين.
    ولم يرد لفظ [يَكْنِزُونَ]( )، في القرآن إلا في آية البحث .
    والمراد من الذهب والفضة الأموال والعقارات وغيرها ، ويفيد الجمع بين مضامين آية البحث الإنذار من إتخاذ المقام الروحي والسياسي للإستحواذ على الأموال العامة أو الخاصة.
    وذكرت الآية (في سبيل الله) مرتين :
    الأولى : الصدّ عن سبيل الله ، ومنع الناس من الإسلام والتدبر في معجزات النبوة والتنزيل .
    الثانية : كثرة الأموال عند بعضهم ، وامتناعه عن إخراج الحقوق الشرعية كالزكاة والخمس مع الوعيد بالعذاب الأليم على هذا الإمتناع وأيهما أشد ضرراً الصد عن سبيل الله ، أو الإمتناع عن الإنفاق في سبيل الله ، المختار هو الأول .
    وهل يجتمع الأمران في سلوك بعضهم ، الجواب نعم .
    فجاءت الآية للإنذار وإرادة الإصلاح ، ومن منافع الإنفاق في سبيل الله الحرب على الفقر والمجاعة.
    وهل يكون الفقر سبباً عقلائياً للإرهاب.
    الجواب لا ، وإن أكثر الناس من ذكرِهِ ، للإطلاق في حرمة الإرهاب والزجر عنه للزوم إجتنابه في كل الأحوال ، كما أنه لا يحل مسألة الفقر والفاقة بل يزيد فيها ، فهو مجلبة للفقر والفاقة والسخط العام .
    إنما جاء القرآن بالبعث على الأخلاق الحميدة ، ومنها الصبر ، والإنفاق في سبيل الله ، وعلى المنع من أفكار الضلالة والإلحاد التي تضر المجتمعات.
    لقد كانت قريش أرباب تجارة وأموال ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
    فجاءت هذه الآية وهي مدنية للإخبار عن وجوب إخراجهم الزكاة من أموالهم بقصد القربة إلى الله عز وجل ، وأن العذاب الشديد ينتظر الذي يحبس حق الله في أمواله ، قال تعالى [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( ).
    معنى الراهب
    الراهب هو الخائف من الرهبة ، والمراد أنه خائف من الله عز وجل.
    (والرَّهْبانِيّةُ: مصدرُ الرّاهب، والتَّرَهُبُ: التَّعَبُّدُ في صَوْمَعةٍ، والجميع: الرَّهبان)( ).
    لبيان قانون وهو اتحاد سنخية المؤمنين في كل زمان بالرهبة والخشية من الله عز وجل من غير أن يتعارض مع آية ذم أكل بعض الأحبار والرهبان لأموال الناس بالباطل .
    وتنهى الآية عن أكل المال بالباطل ، وما يسببه من الأذى للناس فمن شرائط النسك قصد القربة ، وإخلاص الطاعة لله عز وجل .
    وورد لفظ الرهبان في القرآن ثلاث مرات وهي :
    الأولى : قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
    الثانية : قوله تعالى [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
    الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
    وقال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
    ترى ما هي النسبة بين الرهبة والخشية من الله ، المختار أنه العموم والخصوص المطلق ، والرهبة أعم وأشهر وأكثر إيقاعاً وحضوراً في النفس.
    والرهبان اسم من الرهبة ، والمدار على المسمى ولكن الاسم مرآة بخصال وسجايا ظاهرة.
    فالمراد من تسمية الرهبان هو رهبتهم وخشيتهم من الله عز وجل وإنخزاطهم في سلك العبادة والرياسة الدينية للناس وأكل المال بالباطل بسبب الرشا في الأحكام والباطل وحب الدنيا ولذاتها ، قال تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( ).
    ومن إعجاز آية البحث التبعيض ، فلم تتضمن الإطلاق في حكم الرهبان الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، إنما قيدته بالقول [إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
    قانون رهبة داود (ع) من الله
    يبين القرآن إنحصار الرهبة بأنها من الله عز وجل ، وهو سبحانه يحب لعباده أن يرهبوه ويخافوه ، ليدل بالدلالة الإلتزامية على وجوب إجتناب المسلم إرهاب وترويع الناس الآمنين في منتدياتهم ومساكنهم وتنقلاتهم ومحل عملهم.
    لقد تقارب البلدان في هذا الزمان ، ودخلت وسائل الإعلام كل بيت تقريباً وصار من في المغرب يرى الذي في المشرق ، فاذا وقع عمل إرهابي في بلد سرعان ما ينتشر خبره في البلدان ، ليكون ضرره على أصحابه وغيرهم بالغاً ، مما يلزم إجتنابه لقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
    وقد يرد لفظ الرهبان في الأخبار قبل بعثة السيد المسيح (قال وهب بن منبه إن داود عليه الصلاة والسلام لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلاً ولا نهاراً.
    وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام يوم للقضاء بين بني إسرائيل ، ويوم لنسائه.
    ويوم يسيح في الجبال والفيافي والساحل.
    ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك.
    فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ثم يجيء إلى الجبال ويرفع صوته ويبكي فتبكي معه الجبال والحجارة والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية.
    ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته ويبكي فتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطين الماء فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه إن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضره من يساعده ويدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط فيها ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف.
    فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود عليه الصلاة والسلام صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم .
    فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله ويأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ويمسح بها وجهه ويقول يا رب اغفر ما ترى فلو عادل بكاء داود بكاء أهل الدنيا لعدله)( ).
    المختار أنه لا أصل لهذا الخبر ، ولم يرفعه وهب بن منبه (34-114) هجرية ، والذي كان يكثر من الإسرائيليات ، وهو من اليمن من أبناء فارس ، وقيل أنه من أصل يهودي ، ولعله لكثرة نقله عن كتب اليهود ، وجمعه لها والأول أصح ، نسبة إلى أبناء الفرس الذين جهز كسرى مع سيف بن ذي يزن آباءهم لطرد الحبشة من اليمن.
    (وهب بن منبه بن كامل اليماني أبو عبد الله الأبناوي الصنعاني الأخباري ، عن بن عباس وجابر وأبي سعيد وطائفة وعنه سماك بن الفضل وهمام بن نافع وخلق وثقه النسائي)( ).
    ويكثر الأخذ من الكتب القديمة ، ومن الإسرائيليات ، والمدار في الرهبة من الله على الفعل والمسمى ، وليس على الاسم.
    ومن دلالات قانون حصر الرهبة من الله عز وجل التخفيف عن الناس ، بقانون لا يرهب الناس بعضهم بعضاَ وبه جاء الأنبياء وهل حذرت الكتب السماوية من الإرهاب بمعناه الإصطلاحي في هذا الزمان ، الجواب نعم.
    قانون القرآن كتاب الرهبة من الله
    يمكن تسمية القرآن الكتاب السماوي للرهبة من الله سبحانه ، ولا يختص موضوع الرهبة بذات اللفظ ومادة (رهب) بل تدل آيات القرآن على وجوب الرهبة من الله من جهات :
    الأولى : آيات الأسماء الحسنى : وبيان عظيم قدرة الله وسلطانه ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
    الثانية : آيات الأحكام ، إذ أن التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية من أصدق معاني الرهبة من الله عز وجل .
    الثالثة : آيات القصص وما فيها من الموعظة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
    الرابعة : آيات الأمثال ، قال تعالى [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ]( ).
    والنسبة بين الرهبة من الله عز وجل والعبرة عموم وخصوص مطلق فالعبرة فرع الرهبة ، ومقدمة لها .
    أما النسبة بين العبرة والإرهاب فهي التعارض والتضاد ، فمن يعتبر ويتعظ من قصص القرآن يمتنع عن الإرهاب ، خشية من الله عز وجل ومشيئته المطلقة في عالم الأكوان ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
    ليتخذ المسلمون صبر الأنبياء منهاجاً ونبراساً ، ولم يجلب الصبر للأنبياء وأنصارهم واتباعهم إلا الخير ، والذكر الجميل وقهر الظالمين ، ولم يوص نبي اتباعه بالإرهاب ما قل أو كثر منه.
    ولقد تضمن تفسيري هذا والحمد لله أبواباً مستحدثة في تفسير الآية القرآنية مثل :
    الأول : في سياق الآيات .
    الثاني : الإعجاز الذاتي للآية .
    الثالث : الإعجاز الغيري للآية .
    الرابع : الآية سلاح .
    الخامس : مفهوم الآية .
    السادس : إفاضات الآية .
    السابع : الآية لطف .
    الثامن : الصلة بين أول وآخر الآية .
    التاسع : من غايات الآية .
    وهل يمكن استحداث باب في تفسير كل آية اسمه : الرهبة من الله في الآية ، الجواب نعم .
    ويتجلى هذا الأمر من جهات منها :
    الأولى : منطوق الآية إن كانت تتضمن اللفظ الذي يبعث الخشية من الله ، والوعيد والقصص والأحكام والأمثال .
    الثاني : مفهوم الآية ، والمعنى الذي يباين المنطوق .
    الثالث : دلالة الآية القرآنية .
    الرابع : تلقي المؤمنين والناس للآية القرآنية .
    الخامس : الجمع بين الآية محل البحث وآيات أخرى من القرآن بما يستقرأ منه الرهبة والخشية من الله.
    ويدل وجوب الرهبة من الله على حرمة الإرهاب للتضاد بينهما ، وامتناع إجتماع الضدين.
    الآية الثامنة : قوله تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
    وردت كلمة (لاَ تَتَّخِذُوا) في القرآن احدى عشرة مرة كلها نواهي من عند الله ذات صبغة عقائدية من عالم القول أو الفعل .
    ووردت ستة منها بنداء الإيمان وخطاب للمسلمين ، منها قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.
    وهل تتضمن الآية التحذير من إتخاذ بطانة ومستشارين من أرباب العنف والتطرف ، الجواب نعم .
    كما ورد لفظ (لايتخذ) مرتين في القرآن ، منه قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
    ومن معاني قوله تعالى [لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ] حرمة الإنصات لرواد الإرهاب ، وقادة التنظيم الذي يتخذ منهج العنف والتفجيرات والقتل العشوائي ، ويدّعي زوراً وبهتاناً أنها من الجهاد ، وهي خلاف ونقيض الجهاد موضوعاً وحكماً وأثراً.
    قانون استئصال الوحدانية للإرهاب
    في قوله تعالى (فاياي فارهبون ) الرزق الكريم وخير الدنيا والآخرة ، وفي التنزيل [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
    لقد أخبر ووعد نوح عليه السلام في الآية أعلاه قومه الخير الوفير والأمطار وكثرة المياه باللجوء إلى الإستغفار الذي هو فرع الإيمان وكذا في دعوة النبي هود لقومه .
    ومن إعجاز القرآن إخباره عن إرسال السماء مدراراً يدر عليهم مطراً بعد مطر متتابع غزير كثير ، قال تعالى [أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ]( ).
    ولا يختص نزول الغيث المتصل من السماء بهؤلاء الأقوام بل يأتي للمؤمنين بفضل ولطف من عند الله ، وجزاء منه تعالى على إيمانهم.
    لبيان أن توالي المطر واتصاله نعمة وآية لا يقدر عليها غير الله ، وهل فيه إخبار وتحد لما سيكون في قادم الأيام من المطر الإصطناعي وأنه يعجز أن يكون مدراراً غزيراً متصلاً لأيام متعددة ، الجواب نعم ، لبيان أن الإستغفار وسيلة عظيمة لجلب النعم من غير إنفاق أموال طائلة على الأمطار الصناعية وتسيير السحاب المحدود.
    وهل رزق الله عز وجل المسلمين أيام النبوة نعمة إرسال المطر مدراراً ، الجواب نعم.
    وفي إحتجاج الإمام علي عليه السلام في تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما قيل له (فإن نوحا دعا ربه فهطلت له السماء بماء منهمر قال له (عليه السلام) لقد كان كذلك وكانت دعوته دعوة غضب ومحمد (صلى الله عليه وآله) هطلت له السماء بماء منهمر رحمة .
    إنه (عليه السلام) لما هاجر إلى المدينة أتاه اهلها في يوم جمعة، فقالوا له: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) احتبس القطر، واصفر العود، وتهافت الورق .
    فرفع يده المباركة حتى رئي بياض إبطيه، وما ترى في السماء سحابة، فمابرح حتى سقاهم الله .
    حتى أن الشاب المعجب بشبابه لتهمه نفسه في الرجوع إلى منزله فما يقدر من شدة السيل ، فدام اسبوعا .
    فأتوه في الجمعة الثانية فقالوا: يارسول الله لقد تهدمت الجدر، واحتبس الركب والسفر، فضحك عليه الصلاة والسلام وقال : هذه سرعة ملالة ابن آدم ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا.
    اللهم في اصول الشيح ومراتع البقع) فرئي حوالي المدينة) ( ).
    قانون التوحيد عصمة من الإرهاب
    لم تقف الآية عند الحصر في ذكر الإله [إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ] بل ذكرت أن الله هو الإله الواحد ، لبيان الوحدانية وانحصار الإلوهية به تعالى ، فليس من إله إلا الله سبحانه.
    وتقتضي وظيفة العبودية الخشوع والخضوع له سبحانه ، والخشية والرهبة منه ، ومنع المؤمن نفسه من إرهاب الآخرين لأن الرهبة نوع صلة بين الخالق والمخلوق ، والإله المعبود والعابد .
    وفي الحديث القدسي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يقول الله عز وجل : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار) ( ).
    وتضيف الرهبة والوصل والخشية من الله البركة على الحياة اليومية للناس سواء كانت هذه الرهبة ظاهرة أو خفية ، ولا ينحصر النفع منها بصاحبها ، لذا فان إجتناب الإرهاب والذي يتعارض مع الرهبة من الله باب للرحمة العامة .
    لتكون هذه الرهبة سور الموجبة الكلية الجامع للناس فكل إنسان يرهب الله عز وجل ، وهل يمكن القول : كما أخبرت آية البحث عن نهي الله عز وجل عن إتخاذ الهين فانه سبحانه ينهى عن الرهبة من غيره ، وينهى الناس أن يرهب ويخيف بعضهم بعضاً ، الجواب نعم ، لأن الرهبة من الله عز وجل فرع العبودية له سبحانه.
    ومن معاني قوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ] وجوب تعاهد التوحيد ، والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وفيه عون ومدد للأنبياء في دعوتهم وجهادهم في سبيل الله .
    ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن سبع عشرة مرة في اليوم والليلة وعلى نحو الوجوب العيني ليتدبروا في الأوامر والنواهي الإلهية ، وتكون حاضرة في الوجود الذهني ، فما يتكرر على الإنسان عدة مرات في اليوم من اليسر والسهولة استحضاره.
    ويتلو المسلمون القرآن جهرة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء لتكون هذه التلاوة دعوة سماوية على السنتهم لإستئصال الإرهاب.
    وهل كانت سبباً بدخول رهط من الناس في الإسلام أيام البعثة النبوية ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، فكل من الصلاة اليومية وذات التلاوة من جنود الله عز وجل ولا ينحصر موضوع الجند بذات المسلمين .
    ومن معاني القصر والحصر في المقام تقديم المعمول (فاياي) أي اخشوني وارهبوني وحدي ، ولا ترهبوا سواي ، ليكون في الآية وعدّ من عند الله بازالة الإرهاب ، ومنع سلطانه على النفوس ، وعلى المجتمعات .
    لبيان قانون الرهبة من الله واقية من الإرهاب والخشية منه ، فان الله عز وجل يصرف شرور الإرهاب .
    ومن إعجاز الآية الإلتفات من الغيبة إلى المتكلم ، وكل من الغيبة والمتكلم لله عز وجل وحده ، فبعد أن قالت الآية [إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ] ( ) .
    وأخبرت الآية عن قانون الوحدانية ، إنتقلت إلى صيغة المتكلم ، فاياي ، وفيه مسائل :
    الأولى : التصريح بوجوب الرهبة من الله.
    الثانية : طرد الجهالة والغفلة من الناس.
    الثالثة : منع الغرر .
    الرابعة : تأكيد وجود الرهبة ككيفية نفسانية ، ولكنها خاصة بالوجل من الله عز وجل وحده .
    الخامسة : لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً ضعيفاً ، فلابد أن تنفذ الرهبة إلى قلبه فأرادها الله أن تكون منه وحده ، وفيه خير العبد في النشأتين .
    ولا يختص موضوع الأمر بالرهبة من الله بذاتها ، إنما يشمل عالم القول والفعل والمصاديق التي تدل على الرهبة.
    والوحدانية أمر ثابت في الموجود والمعدوم من أفراد الزمان ، ولابد أن تأتي على الإرهاب والبطش والطغيان .
    ومن معاني الجمع بين أول وآخر آية البحث الوعيد على الجحود والتمادي في إرتكاب المعاصي ونقض العهود ، والإضرار بالمصالح العامة ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ]( ).
    قانون حرمة الشرك بالله
    لقد تضمنت آية البحث النهي عن الشرك المنفرد بالله عز وجل بأن لا يتخذ الناس إلهاً آخر مع الله عز وجل ، فكيف وقد اتخذت قريش آلهة متعددة من الأصنام واتخذت بعض الأقوام والأمم ملوكها أرباباً من دون الله يطيعونهم فيما يأمرون أو ينهون عما لم ينزل الله عز وجل به سلطاناً.
    فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة لنجاة أهل الأرض في الدنيا والآخرة.
    أما في الدنيا فان الوثنية تطلق العنان للشهوة والغضب ، وتبيح سفك الدماء غيلة وغدراً ، وجهرة وسراً في الوقت الذي كانت وصية الملائكة لآدم وذريته الإمتناع عن القتل فعندما أخبرهم الله عز وجل عن تفضله بجعل[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، كان ردهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، فاجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في حوار موضوعي متكامل للأسباب والدلالات والنتائج في آية واحدة جعل الملائكة يسجدون لآدم استجابة لأمر الله تعالى بعد أن علمهم آدم باسماء المسميات التي عجزوا عنها .
    ليكون هذا التعليم شهادة ودليلاً على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض وإن إرتكاب طائفة من الناس الفساد والقتل لا يتعارض مع هذه الأهلية ، وأن الناس جميعاً سيقفون بين يدي الله للحساب والجزاء .
    والنسبة بين الشرك والإرهاب عموم وخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء وهي الظلم والضرر ، قال تعالى بخصوص الشرك [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
    ويجب أن يتنزه المسلمون عن الخصال التي تلتقي مع الشرك ومن مادة الإفتراق ، أن المشرك يظلم نفسه ويعتدي في حق الله تعالى ، أما الإرهاب فهو تعد في حقوق الناس وقطع لارزاقهم ، وإزهاق لأرواحهم بغير حق.
    وسيطول وقوف الذين إرتكبوا الفساد والقتل بين يدي الله مع شدة عذابهم ، ليكون من معاني الآية ووصية الملائكة اجتناب المسلمين والناس جميعاً الإرهاب.
    قانون حساب المفسدين
    ليس من حصر لمعاني ودلالات تساؤل الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إذ يجمع بين الدعاء والرجاء والإنذار والوصية لأهل الأرض خاصة وأنهم أدركوا شدة حساب المفسدين في الأرض من جهات منها :
    الأولى : استقراء الحساب من صفة الخلافة في الأرض .
    الثانية : فساد طائفة من الناس في الأرض ، ولا يختص الحساب على هذا الفساد بهم ، إنما يشمل الذين مهدوا لهذا الفساد ، وأعانوا عليه، وسكتوا عنه في حال إمكان النهي عنه .
    الثالثة : سفك الدماء ، وهل يختص بالقتل غيلة وغدراً وظلماً وبغير حق أم يشمل الجراحات ، الجواب هو الثاني .
    مما يلزم الإنتفاع من وصية الملائكة وخشيتهم على بني آدم ، والخوف من الحساب ، ويتجلى هذا الإنتفاع بحبس النفس والجوارح عن الظلم والتعدي وإدراك قبح الإرهاب .
    والمختار أن الملائكة لم يحتجوا على خلافة الإنسان ، فهذا الإحتجاج ممتنع في منهاج الملائكة ولكنهم سألوا تنزه أهل الأرض عن الفساد والقتل ، فبعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لتقريب الناس بلطفه إلى هذا التنزه والعصمة من الفساد والإقتتال والقتل.
    وتفضل الله سبحانه وجعل القرآن دستور الحياة الباقي إلى يوم القيامة بسلامة من التحريف والزيادة والنقصان.
    ومن إعجاز آية البحث بيانها الصلة بين التوحيد والإمتناع عن الإرهاب ، فالإقرار بالوحدانية وأن الله عز وجل [هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]( )، تأديب وإرشاد ونهي عن الإرهاب .
    وتفضل الله ودعا الناس جميعاً إلى الرهبة والخشية منه ، فلا رهبة ولا خوف إلا من عند الله ، وهو الذي يجمع الناس للحساب في الآخرة ، قال تعالى [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ]( ).
    ومن مصاديق خلافة الإنسان في الأرض الإجتهاد في التدبر والتفكر ، والإبتعاد عن خفة العقول ، وسذاجة الأحلام ، وحرمة التقرب والتزلف إلى معبود غير الله عز وجل ، قال تعالى [أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ] ( ).
    لقد ورد قوله تعالى [إِيَّايَ فَارْهَبُونِ] خطاباً إلى بني إسرائيل بقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
    أما آية البحث فجاءت أمراً للناس كافة ، مما يدل على وجوب رهبة وخشية الناس جميعاً من الله عز وجل ، وفيه لزوم امتناع المسلم عن إرهاب غيره لوجوب الإمتناع عن إشراك رهبة الناس بالرهبة من الله عز وجل .
    ليكون من معاني الآية الخطاب العام لأهل الأرض بعدم الخشية والرهبة من الإرهاب وفيه بشارة إنقطاعه وصرفه ، وهل في الآية دعوة لتغيير لفظ الإرهاب بلحاظ أنه سالبة بانتفاء الموضوع ، الجواب لا .
    قانون القرآن بلاغ بحرمة الظلم
    من أسماء القرآن أنه بلاغ ، ويصدق هذا الاسم على مضامين آياته ، قال تعالى [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ) .
    ويتضمن القرآن الإنذار إبلاغ الناس عن قبح الظلم ، ومن إرهاب وترويع الناس ، ويجمع الفعل الإرهابي بين أمور :
    الأول : الضرر الخاص .
    الثاني : الضرر العام .
    الثالث : ترويع القريب والبعيد.
    لقد ورد قوله تعالى [إِيَّايَ فَارْهَبُونِ] مرتين في القرآن ، إحداهما خطاب لبني إسرائيل بقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وتتجلى المرتبة الرفيعة للإيمان في مقارنة بين :
    الأولى : خطابات القرآن لكفار قريش في السور المكية ، بالتخويف والإنذار ، والوعيد على الكفر وعبادة الأوثان.
    الثانية : خطابات القرآن لبني إسرائيل في السور المدنية التي تضمنت التذكير بالنعم والرفق والدعوة السماوية للشكر لله عز وجل على نعم الله عز وجل عليهم ، والوعد الكريم لهم من عند الله بصيغة الشرط [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ].
    الثالثة : جاءت الوعود إلى المؤمنين في القرآن مطلقة من غير تقييد بشرط الدلالة استيفائهم هذه الشروط مثل الوفاء بعهد الله ، وهذه الوعود على قسمين :
    الأول : مصاديق العز ، والرزق الكريم ، والأمن ، والجاه في الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
    وفي سبب نزول هذه الآية أن أحد الصحابة (قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا, مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ فِيهِ السِّلاحَ .
    فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: لَنْ تَغْبُرُوا إِلا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الْمَلأِ الْعَظِيمِ مُحْتَبِيًا لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ”، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا( ).
    الثاني : وهو الوعد الأكبر والأعظم في الآخرة ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، وفي هذه البشارة دعوة للمسلمين للسعي اليها ، وهل يتعارض العمل الإرهابي والتفجيرات مع هذه البشارة ومصاديقها ، الجواب نعم .
    ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة الأحاديث النبوية التي وردت بخصوص وصف الجنة والنعم العظيمة فيها ، وبما يدل على عجز الأذهان عن إستحضارها وتفصيلاتها مما يدل على أن هذا الأحاديث من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
    وتمتلأ كتب المسلمين بمختلف المذاهب بهذه الأحاديث وهي جامع مشترك بينهم بعد القرآن والفرائض العبادية .
    لقد جعل الله عز وجل الصبر سلاحاً للفرد والجماعة والأمة ، وقد انتصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين ذوي القوة والمنعة ، والمال والسلاح بالصبر ، ليكون منهاجاً لأمته إلى يوم القيامة، وقد وردت آيات كثيرة ترّغب بالصبر ، وتبين ثوابه وتنص على لفظ الصبر كما في قوله تعالى [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( )، لبيان أن الصبر إحسان للذات والغير ليكون الصبر عن الإرهاب والبطش إحساناً وخيراً محضاً ، كما ورد الصبر في القرآن بالمعنى والدلالة مثل قوله تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرً] ( ) .
    وليس من خطب جلل وإبتلاء إلا وبيد الله عز وجل حله والخروج منه ، وهناك مقولة شائعة ومتوازنة ، وهي الصبر مفتاح الفرج، ومنهم من عدها مثلاً سائراً .
    ونسب من غير أسناد للإمام الحسن بن علي عليه السلام .
    ولا يجوز إبدال الصبر الواجب بالإرهاب وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام بالصبر والتحمل وعدم مقابلة الأذى بمثله .
    لقد أغار المشركون على مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة مرات بقصد قتل النبي وأصحابه ، وأرسلوا من يسعى في إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    فقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة إرهاب المشركين بالصبر حتى فتح الله على المسلمين لتتعاهد أجيال المسلمين الصبر ، وتتخذه سلاحاً بحبس النفس والجوارح عن التعدي ، ويكون إعلاناً ووثيقة للدلالة على تنزه المسلمين عن الإرهاب والعنف والفتك .
    وهذا التنزه من مصاديق [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ومن وعد الله عز وجل للمؤمنين في الدنيا النصر والغلبة على المشركين ، ومنه الرزق الكريم ،واستدامة الأمن والسلم المجتمعي فيحرم على المسلم نقضه والإخلال به ، فهذا السلم نعمة على أهل الأرض ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    حرف (الواو) أول الآية
    إبتدأت الآية بحرف (الواو) [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وحرف الواو في أول الآية على أقسام :
    الأول : حرف عطف .
    الثاني : حرف استئناف .
    الثالث : حرف عطف واستئناف .
    الرابع : حرف الواو جزء من الكلمة التي تأتي أول الآية .
    منها قوله تعالى [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ]( )، [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]( ).
    الخامس : واو القسم كما تكررت في قوله تعالى [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا* وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا* وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا* وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا* وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا] ( ).
    وعدد السور التي تبدأ بحرف الواو سبع عشرة سورة ، وكلها سور مكية وهي :
    الأولى : [وَالصَّافَّاتِ صَفّاً]( ).
    الثانية : [وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً]( ).
    الثالثة : [وَالطُّورِ]( ).
    الرابعة : [وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى] ( ).
    الخامسة : [وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً] ( ).
    السادسة : [وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً] ( ).
    السابعة : [وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ]( ).
    الثامنة : [وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ] ( ).
    التاسعة : [وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ] ( ).
    العاشرة : [وَالْفَجْرِ] ( ).
    الحادي عشر : [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا] ( ).
    الثاني عشر : [وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى] ( ).
    الثالث عشر : [وَالضُّحَى] ( ).
    الرابع عشر : [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ] ( ).
    الخامس عشر : [وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً] ( ).
    السادس عشر : [وَالْعَصْرِ] ( ).
    السابع عشر : [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ] ( ).
    وعدد الآيات التي تبدأ بحرف الواو 2232 آية في 108 سورة ، وتوجد آية تنتهي بحرف الواو وهي الآية الأخيرة من سورة النجم [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا]( )، وهي من آيات السجدة .
    وعدد السور التي لا تبدأ آي آية منها بحرف الواو ست سور هي :
    الأولى : سورة الفاتحة .
    الثانية : سورة العلق .
    الثالثة : سورة التكاثر .
    الرابعة : سورة قريش .
    الخامسة : سورة الكوثر .
    السادسة : سورة الناس .
    ويمكن أن نؤسس قاعدة وهي لو دار الأمر بين الواو في أول الآية هل هي للعطف أم للإستئناف ، فالأصل هو العطف للترابط والتداخل بين آيات القرآن إلا مع الدليل على الإستئناف ومعه ينظر إن كانت تحمل الآية صفة العطف أيضاً.
    لأن تقسيم الواو إلى واو عطف واستئناف تقسيم استقرائي من علماء النحو .
    وكنوز وعلوم القرآن أعم من أن تحيط بها قواعد الصناعة النحوية .
    قوانين في قبح الإرهاب
    من بديع صنع الله الله عز وجل فضح الإرهاب ، وبيان أضراره وبعث النفرة منه ، ويمكن تأسيس قوانين في قبحه من وجوه :
    الأول : قانون وجوب اجتناب الإرهاب .
    الثاني : قانون السلامة في الإمتناع عن الإرهاب .
    الثالث : قانون وجوب الإقتداء بالأنبياء في العصمة من الإرهاب .
    الرابع : قانون التضاد بين الإيمان والإرهاب .
    الخامس : قانون بغض الله للإرهاب .
    السادس : قانون منافاة الإرهاب لرحمة الله ورأفته بالناس ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ).
    السابع : قانون حب الله للمؤمن الذي يمتنع عن الإرهاب .
    الثامن : قانون وجوب النهي عن الإرهاب ، وهل يستثنى أحد من هذا القانون ، الجواب لا ، لأصالة العموم .
    التاسع : قانون بيان أضرار الإرهاب.
    العاشر : قانون الإرهاب جور فسيح ، وظلم صريح وماحق للبركة .
    الحادي عشر : قانون الإرهاب فزع وظلمات يوم القيامة.
    الثاني عشر : قانون الإرهاب انتهاك للحقوق .
    الثالث عشر : قانون الإرهاب تمرد وطغيان .
    الرابع عشر : قانون الإرهاب سفك للدماء بغير حق .
    الخامس عشر : قانون التضاد بين الإرهاب وحق الحياة وسلامة الأبدان الذي كفلته الشرائع السماوية .
    السادس عشر : قانون الحاق ضحايا الإرهاب بالشهداء للظلم والجور الذي وقع عليهم .
    السابع عشر : قانون حرب الإرهاب على النظام العالمي العام والدساتير والقوانين الوضعية .
    الثامن عشر : قانون الأضرار الإقتصادية الجسيمة للإرهاب .
    التاسع عشر : قانون الإرهاب فتنة عالمية تجب معالجتها ، ودرء شرورها.
    العشرون : قانون التعاون بلطف لمنع نشأة الإرهابي ، ومن مصاديق اللطف في المقام التأديب ، وإقامة الحجة والبرهان وبيان قبح العنف والتطرف والتكفير .
    الحادي والعشرون : قانون الإرهاب نقطة سوداء في تأريخ الإنسانية .
    الثاني والعشرون : قانون فضل الله في سرعة إنحسار الإرهاب.
    الثالث والعشرون : قانون وجوب تنزه المؤمن عن الإرهاب ومقدماته.
    الرابع والعشرون : قانون التصدي للإرهاب من مصاديق [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
    الخامس والعشرون : قانون الإرهاب آفة دولية .
    السادس والعشرون : قانون براءة الإسلام من الإرهاب ، وحرمة إلصاق الإرهاب به شرعاً وعقلاً وواقعاً.
    السابع والعشرون : قانون الأجر والثواب على إجتناب الإرهاب .
    الثامن والعشرون : قانون تهذيب الإسلام للسلوك من الإرهاب.
    التاسع والعشرون : قانون الإرهاب بغي خاص وعام بغير حق.
    الثلاثون : قانون حرمة إثارة الرعب وإخافة أهل الأرض من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم.
    الحادي والثلاثون : قانون مخالفة الإرهاب لأحكام الشريعة الإسلامية السمحاء .
    وهل يتعارض الإرهاب مع مفهوم الحرية في الإسلام ، الجواب نعم.
    الثاني والثلاثون : قانون محاربة الإرهاب بطرد الجهل وإزاحة الغفلة.
    الثالث والثلاثون : قانون بغض الله للإرهاب .
    قانون التضاد بين الرهبة من الله والخوف من الإرهاب
    من خصائص الإرهاب منافاته لشواهد ومصاديق رحمة الله عز وجل بالعباد ، فلابد أن الله يقطعه ، ويمنع من صيرورة سلطان له على الناس ، فان قلت يؤدي الإرهاب إلى إخافة الناس ، الجواب هذا صحيح ، ولكنها إخافة محدودة زماناً وموضوعاً لا تجلب إلا الأذى على أصحابها .
    ويقترن بها الإزدراء العام ، وإنكار الناس على إختلاف مشاربهم ومللهم العمل الإرهابي ، بينما يقترن الخوف والرهبة من الله عز وجل بالسكينة والطمأنينة ، وهو من الإعجاز في خلق الإنسان وقوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
    فيغزو الخوف من الإرهاب القلوب على نحو السالبة الجزئية حال الفعل الإرهابي مع الإستهجان العام الذي يخفف من وطأة هذا الخوف.
    ويتباين الموضوع والحكم والأثر بين الخشية من الله التي هي واجب تكليفي على الإنسان ، وطريق فلاح ، وبين الخوف من الإرهاب الذي هو أمر عرضي طارئ ، بسبب فعل غير شرعي ولا عقلائي.
    لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الخشية والخوف منه ، وهو سبحانه يحب الذين يخشونه علانية وبالغيب ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
    وهل من خشية الله الإمتناع عن الإرهاب ، الجواب نعم ، فهذا الإمتناع (أمر وجودي) وفيه الأجر والثواب لإمساك اليد عن الإضرار بعامة الناس ، أو خصوص الذين يقع عليهم الفعل الإرهابي .
    وفي الخشية والرهبة من الله بركة وطمأنينة ، وهداية إلى اتيان العمل الصالح والرشاد ، بينما يثير الإرهاب الفزع والهلع عند الناس ، ويدركون أن أصله فكر منحرف ، وتنظير أوهام ومصادرة للحقوق .
    إن تأكيد القرآن على وجوب الرهبة من الله عز وجل زاجر عن إرهاب وتخويف الناس بالقتل والجراحات والتفجيرات ، وهناك مسألتان :
    الأولى : هل يحول هذا الإرهاب دون رهبة الناس من الله عز وجل .
    الثانية : هل تأتي الرهبة من الله على الإرهاب وأضراره.
    أما المسألة الأولى فالجواب لا ، لحتمية عمل الناس بقوله تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، إذ يأخذهم الله عز وجل بالسراء والضراء نحو الخشية منه تعالى ، ولا تضر في هذه الخشية ظاهرة الإرهاب.
    وأما المسألة الثانية فالجواب نعم .
    فقد جعل الله عز وجل الرهبة منه سبحانه واقية من الرهبة من غيره لأن الرهبة من فروع التوحيد والربوبية المطلقة لله عز وجل ، ويترشح عن الرهبة من الله حفظ العهود ، وعدم نكثها ، ومنها عهود المواطنة ، والتقيد بالقوانين العامة التي وضعت لاستدامة السلم المجتمعي ، وانتزاع الحقوق ومنع التعدي والظلم ، وقال تعالى [وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( )، أي من أجلهم ولا تخاصم من أجل الخائنين .
    فلا يصح الدفاع عن الخائنين وأهل الغدر ، وقد تقدم في أسباب نزول الآية أنها نزلت في طعمة بن الأبيرق الذي سرق طعاماً وسلاحاً من بعض الأنصار.
    وجاء قومه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروا عن براءته ، ونسبوا السرقة إلى غيره ، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهراً قولهم وجادل عنه ، فنزل القرآن بفضحهم .
    مما يلزم حفظ الذمام والعهود ، والإمتناع عن الإضرار بالناس خفية ، ولزوم عدم نصرة الفعل الإرهابي أو إعانة صاحب الإضرار بالناس عامة.
    تقدير [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]
    من معاني تقدير [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، وجوه :
    الأول : فاياي فارهبون وانا رب العالمين ، لتقترن الرهبة بالحمد لله عز وجل ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
    الثاني : فاياي فارهبون في الرخاء والشدة .
    الثالث : فاياي فارهبون فلا يستحق الرهبة منه إلا إله الناس أجمعين .
    الرابع : فاياي فارهبون فاصرف عنكم الإرهاب وكيد الفجار ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
    الخامس : فاياي فارهبون كما ترهبني الملائكة وسكان السموات.
    السادس : فاياي فارهبون ، فمن شرائط خلافة الإنسان في الأرض الرهبة من الله عز وجل .
    السابع : فاياي فارهبون ولا ترهبوا الإرهاب .
    الثامن : فاياي فارهبون ، ولله عز وجل ملك السموات والأرض ، وهو الذي تدل عليه الآية التالية [وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
    وهل هذه الملكية من أسباب بعث الخشية والرهبة من الله في النفوس ، الجواب نعم.
    التاسع : فاياي فارهبون لتفوزوا بالنعيم الأخروي .
    العاشر : فاياي فارهبون ولا ترهبوا الناس .
    الحادي عشر : فاياي فارهبون ، والرهبة من الله عصمة من الشرك واتخاذ إلهين .
    الثاني عشر : فاياي فارهبون فأدوا الفرائض العبادية .
    ترى ما هي النسبة بين الرهبة من الله وهذا الأداء ، الجواب هو العموم والخصوص من وجه .
    إذ يؤدي المؤمن العبادات طاعة لله عز وجل وحباً له وشوقاً ورهبة ورغبة ورجاء الأجر والثواب ، كما أن الرهبة من الله عز وجل أعم من أداء الفرائض ، موضوعاً وزماناً وكيفية نفسانية للجوارح .
    قانون الضرورات الخمس قاطع للإرهاب
    الضرورات الخمس مصطلح لذكر أهم المصاديق التي جاء الإسلام بحفظها ، وليس من نص قرآني أو من السنة النبوية على تسمية وتعيين هذه الضرورات ولكنها مستقرأة من أحكام الشرعية لقيام مصالح الدين ومنافع الناس في الدنيا.
    والظاهر أن أبا حامد محمد الغزالي الطوسي الشافعي هو أول من قال بها ، ولد بقرية غزاله في طوس سنة (450 هجرية) وتوفى سنة (505 هجرية) (1111 ميلادية).
    وهناك مسائل :
    الأولى : لماذا سميت الضرورات الخمس .
    الثانية : هل تدل آيات القرآن على هذه الضرورات أم أكثر منها.
    الثالثة : استقراء معاني الرحمة في الضرورات الخمس وتعاهدها.
    أما المسألة الأولى فهذه النسبة استقراء من بعض العلماء ، وفيه نكتة وهي أن الناس مجتمعين ومتفرقين فقراء وفي حاجة إلى اللطف والرحمة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) وإدراك الإنسان لفقره دعوة ذاتية له للإبتعاد عن الإرهاب .
    وأما الثانية فالجواب نعم تدل آيات القرآن على الضرورات بما هو أكثر من الخمس وبحسب الحال .
    أما المسألة الثالثة فان بيان الضرورات الخمس دعوة لضبط عالم الأفعال والأمن العام والسلم المجتمعي ، ولإرادة الفوز في النشأة الآخرة.
    وكل ضرورة من هذه الضرورات على وجوه :
    الأول : إنها زاجر عن الإرهاب .
    الثاني : إنها دعوة للوئام والصلح بين الناس .
    الثالث : هي دعوة لإجتناب سفك الدماء .
    ومن بديع صنع الله أن حفظ الضرورات الخمس من وجوه :
    الأول : توالي بعث الأنبياء إلى أقوامهم ونزول الكتب السماوي ، ومن الأنبياء أربعة من العرب هم : هود ، وشعيب ، وصالح ، والنبيمحمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الثاني : أحكام الشريعة وتكاملها .
    الثالث : امتثال المؤمنين للأوامر الإلهية سواء قبل الإسلام أو بعده.
    الرابع : بقاء آيات وسور القرآن سالمة من التحريف والزيادة والنقصان .
    وهذه الضرورات حسب الترتيب هي :
    الضرورة الأولى : حفظ الدين والملة
    الدين تتقوم وتستمر الحياة الدنيا وهذا من بديع صنع الله ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فيدل انتفاء العلة على انتفاء المعلول ، إذ أن علة وجود الناس في الحياة الدنيا هي عبادتهم لله عز وجل من غير حاجة منه تعالى إلى هذه العبادة ولكنها نوع عهد بينه وبين الناس ، قال تعالى [وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
    وحفظ الدين أمر وجودي مصاحب للمفرد والمتعدد من المسلمين في الواقع اليومي ، فكل أداء فريضة عبادية حفظ للملة والدين وكذا كل عمل صالح بقصد القربة ليكون من معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، الذين يثبتون معالم الإيمان في الأرض ، ويمكن تقسيم حفظ الدين إلى أقسام :
    الأول : الحفظ في عالم الفعل ، والتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية .
    الثاني : إجتناب السيئات ، قال تعالى [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ]( ).
    الثالث : تعاهد وتوارث سلامة الدين ، ومنه مثلاً عمل المسلمين بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقوله (لتأخذوا عني مناسككم)( ).
    ويخالف العمل الإرهابي الأقسام الثلاثة أعلاه مجتمعة ومتفرقة.
    أما بالنسبة للقسم الأول فان الإرهاب نوع إعاقة لأداء الواجبات العبادية واشغال للمسلمين ، وسبب للتضييق عليهم لمحاولات الصاق الإرهاب وأسبابه بالإسلام ومبادئه وهو برئ منه.
    لذا قلت بوجوب تبديل اسم آية السيف.
    وامتناع نسخها لآيات السلم والموادعة والصلح والتسامح ، وآية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
    وليس في القرآن لفظ سيف كما أن الآية أعلاه خاصة بمشركي مكة في بضعة أشهر محصورة ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
    ومن مصاديق حفظ الدين تعاهد المكلف لحدود الله عز وجل ، وعدم مجاوزة الحدود ، قال تعالى [وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
    ويلزم الفرد والجماعة حياطة أحكام الشريعة ، والتنزه عن النفاق والخيانة ومفاهيم الضلالة ، وهل في الإرهاب إضرار بالدين والعقيدة ، الجواب نعم ، فالصاق الإرهاب بمبادئ وأحكام الإسلام إضرار بالمسلمين في زمن العولمة ، فيأتي الفعل الإرهابي الواحد في مدينة مخصوصة ، فتقع الغضاضة والبغضاء في عموم البلد ، وتتعداه إلى غيره .
    ومن معاني حفظ الدين استدامة الحياة العامة للناس ، والإعتدال في السلوك والسيرة واستقرار المجتمعات بما يضمن تعاهد المسلم لفرائضه والمنع من إفتتانه ،
    فمن خصائص وأسباب ذم الإرهاب أنه فعل شخصي تترشح عنه فتنة عامة لذا يكون محرماً عقلاً وشرعاً لقاعدة لا ضرر ولا ضرار.
    الضرورة الثانية : حفظ النفس
    قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ).
    لقد جاءت الأديان السماوية بحقن الدماء ، وحفظ النفوس ، والمنع من القتل ، وبيان سوء عاقبته ، وشدة العذاب الأخروي عليه.
    وحمّل الملائكة آدم عليه السلام رسالة إلى ذريته عامة بقبح القتل ، وحرمة سفك الدماء ، إذ خاطبوا الله عز وجل في مسألة خلافة الإنسان في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
    ففي الآية إنذار للناس من القتل ، ويتقوم العمل الإرهابي في هذا الزمان بالقتل والتفجير ، وقال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( )، وليس في الإرهاب إلا التطرف والوهم والفتك الذي هو ضرر محض على الفاعل والذي يقع عليه فعل الإرهاب وغيره من عامة الناس ، لبيان إجتماع الفساد وسفك الدماء المذكور في قوله تعالى [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ].
    فالإرهاب فساد محض وفيه قتل وسفك دماء ، ومن الإعجاز في الآية ذكرها الأرض بصيغة الجنس (في الأرض) فترى الإرهاب يقع في بقعة محدودة ومحل محصور ولكن خبره سرعان ما ينتشر في عموم الأرض.
    وجاءت آيات تؤكد الأثر العام للفعل الشخصي في المقام ، ومنه قوله تعالى [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
    وهل يدخل وجوب التنزه عن الغيبة والإفتراء والنميمة والنفاق في حفظ النفوس والسلامة من الإرهاب ، الجواب نعم .
    وكل من الغيبة وما شابهها مخالف للقول الحسن ، بينما أمر الله عز وجل بالأحسن من القول ، وهو مرتبة أسمى من الحسن ، قال تعالى [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا]( )، لتبدأ حرمة الإرهاب من الألسن وعالم القول.
    لقد أراد الله عز وجل للمسلمين حفظ السنتهم من التعدي وفيه بلحاظ هذا القانون مسائل :
    الأولى : التنزه عن الإساءة إلى الآخرين .
    الثانية : منع الضغائن والأحقاد .
    الثالثة : بيان إكرام الله عز وجل للإنسان ، وهو هنا من وجهين:
    الأول : التنزه عن قبيح ومكروه القول .
    الثاني : سلامة الناس من مجئ الإيذاء لهم بالألسن .
    الرابعة : ترك مقدمات الإرهاب ، لحرمة المقدمة لحرمة ذيها ، فالإرهاب محرم ، فكذا المقدمات التي تؤدي إليه .
    الخامسة : العصمة من الحمية العصبية وغلبة النفس الغضبية.
    ولا تنحصر ضرورة حفظ النفس في الشريعة باجتناب الإنتحار وقتل الغير ، بل تشمل العناية بها في المأكل والملبس والسكن ، قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
    ولا يختص الإسراف في الآية بالتعدي في الأكل والشرب ، لذا قال تعالى [وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ]( )، ومن الإسراف البغيض التمادي في الإرهاب والعدوان ، والإصرار عليه من الإسراف .
    ومن معاني قوله تعالى [وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( )، أي لا يرتضي الله فعلهم ، مما يملي على الإنسان التدبر في قوله وفعله وإجتناب الإسراف وتكرار الفعل القبيح ، فقد يستره الله عز وجل عليه ، فيجب أن يبادر إلى التوبة .
    وهل يختص الإسراف بالتعدي في الحرام والمكروه أم يشمل تحريم الحلال والتشديد على النفس ، الجواب هو الثاني .
    وعن الإمام علي عليه السلام : أن في القرآن لآية تجمع الطب كله ) ( ) الطب في نصف آية [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا] ( ) وموضوع الآية أعم من الطب ، إذ أنها تذكر الناس بالرزق الكريم من عند الله عز وجل ، ولا يقدر على المتوالي والعام لأهل الأرض من الأكل والشرب إلا الله عز وجل .
    وتدعو الآية إلى الشكر لله عز وجل على نعمة الأكل والشرب بذاتها ، والتمكن والقدرة البدنية والعافية للأكل والشرب .
    وعندما يبتلى الإنسان بمرض يحول دون تنعمه بأكل الطيبات يذكر الصحة والعافية ويلتفت إلى الآخرين من حوله وكيف أنهم يتنعمون بالطيبات ولا يحسون بما يشعر به من الألم .
    وعن الإمام علي عليه السلام (من أراد البقاء ولابقاء فليباكر الغذاء، وليؤخر العشاء، وليقل غشيان النساء، وليخفف الرداء. قيل: وما خفه الرداء ؟ قال: الدين.) ( ).
    ومن الشكر لله عز وجل على نعمة الزاد والرزق والقدرة على الأكل والشرب التنزه عن الإرهاب والإضرار بالآخرين ، وعدم حرمان افراد وجماعات من الناس من الأكل والشرب بسلامة وعافية.
    ومن حفظ النفس التناسل والتكاثر شرعاً لعمارة الأرض ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
    ومن حفظ النفس عناية الآباء بالأبناء الصغار وحسن تربيتهم ووجوب الإنفاق عليهم.
    وعند بيعة النساء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة قالت هند بنت عتبة (أن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك جناح ؟ فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ( ).
    ومن مقدمات ومصاديق حفظ النفس تأديب الآباء والأمهات للأولاد بالعصمة من الإرهاب والإبتعاد التام عنه ، ففيها حفظ لنفوسهم ونفوس الناس .
    ومن ضرورات حفظ النفس الإمتناع عن مقدمات القتل والجرح والإضرار بالنفس ، ومن المتسالم حكم القوانين الوضعية في مختلف البلدان بالمنع من الإرهاب ، وإنزال أقصى العقوبات بالذين ينطبق عليهم هذا المفهوم وفق قوانين البلد .
    فلابد من إجتنابه ، وصيانة النفس من هذه العقوبات ، ومن قضاء زهرة الشباب في السجن مع الذم من طرف العام والخاص .
    ولا عبرة بأرباب الفتن والحنق والحسد والذين يبثون مفاهيم خاطئة للعقيدة والعمل ، ويغفلون جانب التقية المداراتية ووجوب التعايش السلمي ، وأنت ترى أن أي حرب وفتنة دولية تضر في أنظمة الأكل والشرب ، وترفع الأسعار وتحدث الأزمات .
    ليكون من معاني [كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا] ( )، الإسراف في الموانع التي تحول دون أكل عامة الناس الطيبات ، ومن الإسراف أسباب إرتفاع الأسعار بالفتن والحروب مع سفك الدماء فيها وهو الأشد والأكثر قبحاً.
    الضرورة الثالثة : حفظ العقل
    من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ما رزقه الله من نعمة العقل ، هذه النعمة التي جعلت أشرف الخلائق وهم الملائكة يقرون للإنسان أهليته للخلافة في الأرض إذ أمر الله عز وجل آدم عليه السلام من أول ساعات بعث الروح فيه أن يخبر الملائكة بأسماء لمسميات يجهلونها بعد أن خصه الله عز وجل بتعلمها بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
    لبيان أن نعمة تعليم الله للإنسان في الأحقاب المتعاقبة متجددة ومستمرة بفضل ولطف من الله عز وجل.
    ومنه إحاطة آيات القرآن المحدودة بالوقائع والأحداث ، وليس من إنسان إلا وينتفع من عقله مرات متعددة في اليوم والليلة وهو مناط التكليف ، وبه يدرك الإنسان المصالح فيسعى إليها ، والمفاسد فيجتنبها ، ويظهر التفكر والتدبر في الإرهاب لكل عاقل أنه مفسدة خالية من الملاك والمصلحة ، ولم يطلبها الشارع ، إنما ينهى عنها بالذات ، وفي النهي عن عموم المفاسد.
    ليأتي النهي عن الإرهاب من وجوه :
    الأول : قانون منافاة الإرهاب لإدراك وحكم العقل .
    الثاني : قانون العقل زاجر عن الإرهاب .
    الثالث : قانون عرض الإرهاب على العقل باعث للنفرة منه .
    الرابع : قانون التعلم واقية من الإرهاب .
    الخامس : قانون العقل مناط التكليف ، ويبعث على النفرة من الإرهاب .
    السادس : تأكيد الشريعة على العقل وموضوعيته مانع من الإرهاب.
    السابع : قانون نعمة العقل لطف من عند الله عز وجل .
    وقد حرم الإسلام الخمر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، لما فيه من فقدان العقل وإرتكاب المعاصي .
    وجاءت المؤثرات العقلية والمخدرات في هذا الزمان ليكون ضررها أكثر على الدين والنفس لما فيها من الوهن وأسباب الموت العاجل ، وضعف العقل ، وهدر وضياع المال ، فيأتي الفعل القبيح بالضرر على هذه الضرورات مجتمعة ومتفرقة.
    ومن وظائف العقل إدراك قبح الإرهاب ، وخلوه من النفع ، وجليه للأضرار في الدين والنفس والمال وإن قصد في مسألة الضرورات الخمس حفظ المال الخاص فان الإرهاب إتلاف للمال الخاص والعام ، والممتلكات ، وبرزخ دون انتفاع الفرد من توظيف قوته وطاعته في العمل والكسب ، إذ أنه ينشغل بالإرهاب ويبتلى به.
    قانون دفاع النبي (ص) لحفظ الضرورات
    لقد جعلت الشريعة الحدود والأحكام الشرعية لحفظ الضرورات الخمس ، فالدفاع والإحتراز لحفظ الدين واجب ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
    إذ قيدت وحصرت الآية أعلاه قتال المسلمين بالذين يقومون بقتالهم والتعدي عليهم ، ومن الأمثلة عليه :
    الأول : إصرار مشركي قريش على القتال يوم بدر إذ طمعوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقلة عددهم ، وللإجهاز عليهم ، وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتسع الإٍسلام ، وتزداد الآيات والسور النازلة من عند الله عز وجل.
    وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي يومئذ بنداء (قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا)( )، ويراقب حركة كبراء قريش وسط جمعهم المؤلف من نحو ألف رجل.
    فشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهم راكباً جملاً أحمر ويطوف على أصحابه يتحدث معهم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر وإن يطيعوه يرشدوا)( ).
    وكان عتبة بن ربيعة ينهى قريشاً عن القتال من جهات :
    الأولى : كانت قريش تطالب بدم ابن الحضرمي الذي قتلته سرية عبد الله بن جحش في اليوم المردد بين آخر يوم من جمادي الآخرة وأول يوم شهر رجب من السنة الثانية للهجرة ، وشهر رجب من الأشهر الحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
    وكانت سرية عبد الله بن جحش سرية استطلاع ورصد لقريش وعددهم اثنا عشر كلهم من المهاجرين ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال.
    لذا حينما بلغه قتلهم لعمرو بن الحضرمي ، لم يرض على فعلهم ، ولم يأذن بالتصرف في أسيرين وغنائم منها إذا كان عمرو بن الحضرمي في قافلة لقريش تحمل زبيباً وأدماً .
    وعادة تحل هذه المسائل بدفع الدية والتراضي ، ولا تكون سبباً لخروج ألف رجل من مكة للقتال ، وكان موضوع خروجهم متبدلاً بمكر وذرائع واهية ، فهو على وجوه ترتيبية :
    الأول : اتخذوا خبر إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه التعرض لقافلة أبي سفيان سبباً للخروج .
    الثاني : في الطريق جاءهم كتاب من أبي سفيان رئيس قافلة قريش يخبرهم بسلامتها وقربها بأمان من مكة ، فقالوا إذن نذهب إلى بدر فنقيم ثلاثة أيام يسمع بنا العرب لتحصل الهيبة العامة لنا ، وإن كانوا يريدون بعث الخشية في نفوس الناس من دخول الإسلام وقصدهم وفعلهم هذا من الإرهاب .
    الثالث : عندما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، يوم بدر لم يكن هناك موضوع وسبب للقتال عقلاً وعرفاً ، فلجأ أبو جهل إلى إثارة دم ابن الحضرمي ، وهو من مصاديق [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرقب ما تفعله قريش في الميدان بالوحي ، أم أن الوحي يختص بعالم القول والفعل.
    المختار هو الأول ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
    وكان عتبة بن ربيعة من رؤساء جيش قريش ، ومعروفاً بالسعي في الصلح والوئام منذ صغره ، فبادر إلى الطواف على أصحابه وهو راكب لجمل أحمر.
    قال عتبة (يا قوم أطيعوني فإنكم لا تطلبون عندهم غير دم ابن الحضرمي وما أصابوا من عيركم تلك وأنا أتحمل بوفاء ذلك)( )، وتلك حجة على قريش بأن ما يطلبون ضمنه لهم عتبة بن ربيعة ، وبيان فضل الله في قانون نسائم السلم في ساعة المواجهة واللقاء .
    الثانية : تحمل عتبة دية ابن الحضرمي حجة على قريش لإنتفاء سبب القتال الظاهري ولا يشترط عند العرب وفي الشرع أن يدفع الجاني الدية ، فيجوز أن يقوم متبرع بدفعها ، وكثيرة هي الشواهد في المقام .
    الثالثة: يدل قول عتبة (لاتطلبون عندهم غير دم ابن الحضرمي) حجة تأريخية من جهات :
    الأولى : علم قريش بأن قتل ابن الحضرمي ليس بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن النبي لم يرض به ولم يقبل الغنائم ، وكانت الأخبار سرعان ما تصل إلى قريش ، لاسيما وأنه كان هناك أسيران هما :
    أولاً : الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي الذي أسلم وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحسن اسلامه (ثم استشهد يوم بئر معونة مع عامر بن فهيرة)( ).
    ثانياً : عثمان بن عبد الله ، الذي خلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبيله (فلحق بمكة فمات كافراً) ( ).
    وهو من أسباب بلوغ خبر عدم أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرية عبد الله بن جحش بالقتال ، وعدم رضاه على قتل عمرو بن الحضرمي والذي رماه واقد بن عبد الله الليثي بسهم فقتله.
    لقد اضطر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار إلى القتال دفاعاً يوم بدر لحفظ الضرورات الخمس مجتمعة ومتداخلة ، إذ أن طغيان الشرك والإرهاب إنتقاص منها ، وسبب للحوق الأذى بالناس .
    الضرورة الرابعة : حفظ النسل (العرض)
    يقال نسل نسلاً أي كثر نسله .
    وتناسلوا أي توالدوا ، والمراد من النسل الولد والذرية ، وتعقب الأبناء للآباء ، وتوالي الأجيال ، والمراد من حفظ النسل هو بقاء جنس الإنسان والمجتمعات بواسطة التناسل.
    وما وجود المجتمعات وكثرة الناس في هذه الأزمنة إلا من حفظ الشرائع وأهل الإيمان للوجود الإنساني لذا فان من الضرورات حفظ النسل.
    نعم حفظ النسل وتوارث الأجيال آية ونعمة من عند الله ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، أي أن الله أراد من حين هبوط آدم إلى الأرض تكاثر ذريته بقيد العبادة والإمتثال لأوامره سبحانه.
    ومن حفظ النسل النكاح والترغيب به ، وضبط قواعده ومن الآيات أن شرائط العفة في النكاح لا تختص بالمسلمين وأهل الكتاب بل تشمل حتى الكفار والمشركين.
    وفي قوم فرعون ورد في التنزيل [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، فمع منزلة وشأن امرأة العزيز والحاجة إلى الرياء معها والخشية من بطشها وأذاها لهن ولإزواجهن في مراتب الحكم فقد استهجنت النسوة في مجالسهن فعل امرأة العزيز مع عدم وقوع الفاحشة فكان الذم في مقدماتها مع دلالة هذا القول في مفهومه على الثناء على يوسف عليه السلام وعصمته.
    والنكاح عقد بين زوجين يحل به الوطئ وتنطبق عليه الأحكام التكليفية الخمس ، والأصل فيه أنه مندوب ومستحب ، وقد يكون واجباً إذا خشي الإنسان على نفسه الوقوع في الحرام قال تعالى [وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
    ومن وجوه حفظ النسل تعاهد الأنساب ، والمواريث وزواج المطلقة والأرملة ، وأواصر الأخوة ومنافعها ، وإدراك الإنسان ذكراً أو أنثى للحاجة إلى الذرية والنسل .
    ولا يختص حفظ النسل بالقضية الشخصية كالنكاح بل هو مسؤولية الدولة والنظام والتشريعات وعامة المجتمع .
    والإرهاب عدو لحفظ النسل من وجوه :
    الأول : قطع نسل الذي يقتل نفسه بالعمل الإرهابي .
    الثاني : الأجل المنخرم للذين يتعرضون للعمل الإرهابي .
    الثالث : إرباك المجتمعات ، وإدخال الإرهاب الخوف إلى النفوس وأثره على الرغبة في الزواج وطلب الولد .
    ولابد من الإنفاق العام في بيان قبح الإرهاب ، وبما يؤدي إلى حفظ النسل .
    وهل هذه الضرورات بمرتبة واحدة ، الجواب لا ، فحفظ الدين هو الأهم ، ولكن لابد له من موضوع ، فهو كالحكم والمبادئ وموضوع حفظ النفس والعقل والنسل مجتمعة ومتفرقة لبيان التداخل بين هذه الضرورات.
    وهل من موضوعية لحفظ الدين في حفظ الضرورات الثلاث أعلاه الجواب نعم .
    ومن منافع النكاح والتناسل حب الله والتفكر في بدائع الخلائق ، قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
    و(عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالباءة ، وينهانا عن التبتل نهياً شديداً ، ويقول : تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)( ).
    والنكاح واقية من الشيطان وغائلة الشهوة ، ومن غلبة النفس الغضبية والتفكير بالبطش والإنتقام ، ويشعر الإنسان مع النكاح والولد بمسؤلياته الشرعية والأخلاقية ، ويدرك حب الناس لأزواجهم وأولادهم ليكون النكاح زاجراً عن العنف والتطرف والإرهاب ومقدماته.
    ومن خصائص النكاح أنه طمأنينة ، وسبب للإقبال على العبادة بشوق ، والدعاء للرزق والسعي في مسالكه ، و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)( ).
    ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة توصيته بالمرأة ، والإحسان لها ، والرفق بها.
    وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء)( ).
    وبالنسبة للضرورات الخمس وحفظهن ، لم يرد في القرآن لفظ (حفظ) إلا مرة واحدة في الثناء على النساء بقوله تعالى [فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ]( ).
    ومن معاني [بِمَا حَفِظَ اللَّهُ] بيان لطف الله في إصلاح المرأة للنكاح والنسل وحفظ عقد الزوجية وقلة الطلاق ، وصرف الفاحشة والزنا عنها ، والإجماع على حرمة الزنا ، وأنه من الكبائر.
    كما ورد لفظ (حافظات) مرتين في القرآن ، إحداهما في الآية أعلاه ، والأخرى في التأديب وتأكيد لزوم العفة والعصمة من الزنا ، بالنسبة للرجال والنساء ، قال تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
    ومن الحفظ على النسل في القرآن النهي عن القتل للذات والأولاد والغير ، ومنه حكم القصاص وما فيه من سلامة للقاتل والمقتول.
    ومن فلسفة الحدود حفظ النفوس ، والأعراض والأموال ، وفي معنى قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، أن الإنسان إذا علم أنه يُقاد إذا قتل ، ويقتص منه في الجراحات والأعضاء بالتماثل في الفعل من غير زيادة أو نقصان والتشابه في الموضع والمنفعة فانه يجتنب التعدي وقتل الغير.
    فيكون هذا الإجتناب بسبب حكم القصاص حياة للطرفين وهناك مسقطات للقصاص منها :
    الأول : موت الجاني .
    الثاني : العفو عن القاتل من قبل أولياء الدم .
    الثالث : الصلح مطلقاً .
    الرابع : قبول الدية بدل القصاص والتي يدفعها الجاني وليس العاقلة ، لأنه يشتري رقبته وحياته.
    والإرهاب حرب على النسل العام والخاص ، والمراد من العام الزواج وكثرة الأولاد لشيوع الخوف والترويع بالإرهاب .
    ومن الخاص قطع الإرهابي لنسله بالإنتحار ، ونسل الذي يتعرض للفعل الإرهابي لقانون التنافي والتضاد بين النسل والإرهاب.
    الضرورة الخامسة : حفظ المال
    لقد جعل الله عز وجل المال موضوعاً ومادة لركن من أركان الإسلام وهي فريضة الزكاة ، إذ نزلت هذه الفريضة في السنة الثانية للهجرة.
    وكان المهاجرون والأنصار في حال فقر وفاقة ، ويقيم عدد من المهاجرين في الصفّة وهي ظلة من جريد النخل بجوار المسجد النبوي ، وهي اليوم داخل المسجد النبوي بعد توسعته وتسمى اليوم (دكّة الأغوات).
    ووصف القرآن حال المسلمين يومئذ بأنهم (أذلة) ولم تمنع عنهم هذه الحال النصر في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
    ليكون نزول فريضة الزكاة بشارة للصحابة بالرزق الكريم والسعة والغنائم ، ولزوم إعانة الفقراء والمحتاجين ، ونزلت الآيات بوجوب واستحباب الإنفاق في سبيل الله .
    ولتصاحب هذه البشارة المسلمين في كل زمان ، قال تعالى [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا]( )، والمال مصداق من مصاديق العز والعيش الكريم ، والإحتراز من الآفات والبلاء ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
    وحض الله عز وجل على الكسب والكد والسعي وطلب الرزق ، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( )، لبيان قصر وقت الصلاة فهي لا تأخذ من المؤمن إلا دقائق معدودة أما طلب الرزق وابتغاء فضل الله فيستغرق ساعات النهار.
    ونزلت آيات المواريث لتنظيم الحياة الإقتصادية والمعاشية ، ولترغيب الإنسان في الكسب الحلال ليتركه إلى ورثته من بعده ، لذا لم يؤذن في الوصية بأكثر من الثلث .
    وهو لا يتعارض مع الإنتفاع الشخصي من المال بعد إخراج حق الله والفقراء ، وقال تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( ).
    و(عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده)( ).
    وفي سند الحديث كلام ، فما المراد من الهاء في جده ، فاذا كانت تعود إلى شعيب فان جده هو الصحابي عبد الله بن عمرو فيكون الإسناد متصلاً ، وبه قال الذهبي في سير أعلام النبلاء .
    و(قيل لابي داود: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عندك حجة ، قال: لا، ولا نصف حجة، ورجح بهز بن حكيم عليه.
    وروى جرير، عن مغيرة، أنه كان لا يعبأ بصحيفة عبد الله بن عمرو)( ).
    وعن علي بن المديني وما روى عمرو عن أبيه (ما روى عنه أيوب وابن جريج، فذاك كله صحيح، وما روى عمرو عن أبيه عن جده، فإنما هو كتاب وجده، فهو ضعيف) ( ).
    ومع ضعف الخبر فان أخباراً عديدة من السنة النبوية وردت بخصوص حفظ المال ، فعمرو بن شعيب لم ينفرد بأصل.
    ويتضاد الإرهاب مع حفظ المال ، ويمنع من الكسب والرزق ، لقد أبى الله عز وجل إلا أن يرزق الناس جميعاً على اختلاف مللهم من كنوز الأرض ، وخزائن السماء ، ولا يرضى لبعض عباده أن يقفوا مانعاً وحائلاً دون الطلب العام للرزق والكسب فلابد أن يتنزه المؤمن عن الإرهاب وإخافة وترويع الناس .
    وعن (أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتبع الميت ثلاثةٌ ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)( ).
    ويتجلى العمل الصالح الذي يقي وجه المؤمن من النار بعدم الإعتداء على الآخرين ، وإجتناب الظلم ، وبث الرعب في نفوس الناس الذين جعلهم الله عز وجل خلفاء في الأرض يتنعمون بالحياة الدنيا ، ويبعثون للحساب يوم القيامة ، حيث يقفون بين يدي الله عز وجل ، فيجب أن يعتني المسلم بعمله ويكسب المال من الحلال ، ويختار فعل الصالحات ويتنزه عن الإرهاب الذي فيه الحساب والعقاب الأخروي.
    الطيرة والزجر
    الزجر لغة المنع والتشديد ، والنهي بكيفية متعددة والإنتهار.
    و(قال الليث: زَجَرْتُ البعير حتى ثار ومضى أَزْجُرُهُ زَجْراً، وزَجَرْتُ فلاناً عن السُّوءِ فانْزَجَرَ، وهو كالردع للإنسان، وأما البعير فهو كالحث بلفظ يكون زَجْراً له.
    قال الزجاج: الزَّجْرُ: النهي والزجر للطير وغيرها: التيمن بسنوحها، أو التشاؤم ببروحها وإنما سُمي الكاهن زاجراً لأنه إذا رأى ما يظن أنه يتشاءم به زَجَرَ بالنهي عن المُضيِّ في تلك الحاجة برفع صوت وشدَّةِ، وكذلك الزَّجْرُ للإبل، والدواب، والسباع.
    ويقال : زَجَرْتُهُ ، وازْدَجَرْتُهُ ، قال الله تعالى وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ( ).
    ويقال زجرته عن الفاحشة فانزجر .
    وبين التشاؤم والطيرة عموم وخصوص مطلق ، فالتشاؤم أعم وقيل هما مترادفان وبمعنى واحد.
    والطيرة هي التشاؤم وتوقع المكروه بلحاظ الطيور وجنسها وأصواتها ، وجهة حركتها ثم صارت عامة وكذا التشاؤم فانه توهم الأذى والضرر من جهة الشمال ثم صار أعم.
    وقد تدخل العيافة في الزجر بأن يرمي الطائر بحصاة ويصيح عليه ، فان ولاه في طيرانه ميامنة تفاؤل به ، وإذا طار مياسرة تطيّر.
    وقد يكون الزجر بالوحش والحيوان فلا يكتفون بالطير ، والتيمن بسنوحها ، أي طيرانها ومرورها إلى يمينه، والتشاؤم ببروحها ، فأخذ لفظ الطيرة من الطير ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيمن ما استطاع.
    والطيرة سبب للإحجام والتشاؤم ، وهي ضد الإقدام ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الطيرة .
    وهل منه العمل بالأنصاب أيام الجاهلية ، الجواب نعم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
    وتصرف الطيرة بالدعاء والصدقة ، وهي لا تضر من يتوكل على الله.
    وهناك نصوص عديدة تنهى عن الطيرة والتشاؤم .
    و(عن غيلان عن بن عباس أنه كان إذا نعق الغراب قال لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك)( ).
    وعن عبد الله بن عمرو حينما سئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن كفارة الطيرة قال (أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ)( ).
    وبعضهم يتشائم بالأسماء ، اجتاز أعرابي بمدينة زمخشر وهي من نواحي خوارزم فسأل عن اسمها واسم كبيرها ، فقيل له : زمخشر ، والرداء ، فقال : لا خير في شر ورد ، ولم يلم بها .
    والنسبة بين الطيرة والوسواس عموم وخصوص من وجه .
    وحكي أن جعفر البرمكي أراد أن ينتقل إلى دار واسعة بناها فاختاروا له وفق حساب النجوم ساعة من ليلة مخصوصة ، فخرج فيها والطرق خالية من المارة ، إذ سمع ناشداً يقول :
    يدبر بالنجوم وليس يدري … ورب النجم يفعل ما يريد.
    فاستوحش البرمكي ، ودعا الرجل ، وقال له : ما أردت بهذا.
    قال : ما أردت به معنى ، ولكنه شئ عرض لي ، وجرى على لساني .
    فعلم جعفر أنه لم يقصده في الخطاب ، فأمر له بدنانير ، ولكنه تنغص وتطير ، ولم يمض إلا قليلاً حتى أوقع به الرشيد( ) فيما يعرف بنكبة البرامكة.
    لقد سعى بعض الحساد في المدينة بعد واقعة سرية عبد الله بن جحش ورمي واقد بن عبد الله لعمرو بن الحضرمي بلغة الزجر من جملة (عمرو بن الحضرمي قلته واقد) من وجوه :
    أولاً : عمرو : عمرت الحرب .
    ثانياً : الحضرمي : حضرت الحرب .
    ثالثاً : واقد : وقدت الحرب .
    وفاتهم أن الزجر ليس بحجة ، وأن الله عز وجل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
    ولا يصح اختيار الإرهاب بالزجر أو الخيرة لحرمته بالأصل.
    ومن مقدمات واقعة كربلاء أنه لما بويع يزيد بن معاوية خرج الإمام الحسين عليه السلام حتى قدم مكة (وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميرا على المدينة وعلى الموسم، وعزل الوليد بن عقبة، فلما استوى على المنبر رعف.
    فقال أعرابي مستقبله: مه مه ! جاءنا والله بالدم.
    فتلقاه رجل بعمامته، فقال مه عم والله الناس، ثم قام يخطب، فناوله آخر عصا لها شعبتان. فقال : مه شعب والله الناس.
    ثم خرج إلى مكة، فقدمها يوم التروية، فصلى الحسين ثم خرج. فلما انصرف عمرو بلغه أن الحسين خرج .
    فقال : اركبوا كل بعير بين السماء والارض فاطلبوه. قال: فكان الناس يعجبون من قوله هذا. قال: فطلبوه فلم يدركوه)( ).
    وكثيرة هي الوقائع في تأريخ العرب التي يتقابل فيها الجيشان ، ويعلن أحد الأطراف دفع الدية فيمتنع القتال ، ولكن مشركي قريش كانت لهم غايات خبيثة غير مسألة دم ابن الحضرمي.
    لقد أرادوا بمعركة بدر قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستئصال الإسلام فلذا نزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
    لقد جاء الكتاب والسنة بالتوكل على الله ، ولزوم الإمتناع عن الطيرة والتشاؤم ، لذا لايصح اتخاذ الإرهاب طريقاً بسبب التوهم والتشاؤم بل يجب الصبر وجعل الناس في تفاؤل وتطلع إلى فضل الله عز وجل مع إشراقة فجر كل يوم .
    قوله تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] تحريم للإرهاب
    قال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ]( ).
    لم يرد لفظ [فَاذْكُرُونِي][ أَذْكُرْكُمْ][ َاشْكُرُوا لِي] [تَكْفُرُونِ] إلا في الآية أعلاه.
    وهو من إعجاز الآية أن كل كلماتها لم تذكر في غيرها ، مما يدل على موضوعيتها وأهميتها .
    وابتدأت الآية بالحرف (الفاء) في [فَاذْكُرُونِي] وهي الفصيحة أي تخبر عن محذوف من الكلام قبلها ، أو قل أفصحت عن مقدّر قبلها ليكون من حسنها ومعاني البلاغة فيها دلالتها على محذوف ، فمثلاً قوله تعالى [فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ]( )، فيه ثلاث فاءات :
    الأولى : للسببية .
    الثانية : للتعقيب .
    الثالثة : فصيحة لأنها أفصحت عن محذوف.
    ومن أسرار الحذف في المقام تعدد تقديره ووجوهه لبيان سعة رحمة الله ، وكنوز اللغة العربية بتعدد معاني الحرف الواحد كالفاء وما فيه من الملاك والمصلحة ، وما يترشح عنه من الدلائل.
    وقيل (الفاء تعليلية أو رابطة لجواب شرط مقدر)( ).
    ويمكن إضافة وجوه أخرى لمعاني الفاء فمع أنها تعليلية فهي عاطفة وتفيد الفورية .
    وكما أن كلمات آية البحث لم ترد في غيرها من آيات القرآن ، فكذا فان كل كلمة منها تدعو إلى الرهبة من الله ، وتنهى المسلم عن الإرهاب وترويع الناس .
    فقوله تعالى [فَاذْكُرُونِي] دعوة لاستحضار ذكر الله في كل آن وهذا الذكر برزخ ومانع من الإرهاب ، ومن يذكر الله يخشاه في السر والعلانية.
    فلا يقدم على المنكر والفاحشة والإضرار بالناس .
    أما قوله تعالى [أَذْكُرْكُمْ] فان ذكر الله عز وجل للعبد رحمة ولطف وتوفيق ، وصرف عن أسباب الفتنة ومنها الإرهاب .
    أما قوله تعالى [وَاشْكُرُوا لِي] فان الشكر لله عز وجل بالقول والفعل ، ومنه التحلي بالخلق الكريم وصيانة حقوق الناس ، ومنها حقهم في العيش والأمن ، إذ يتعارض الإرهاب معها .
    أما قوله تعالى [وَلاَ تَكْفُرُونِ] للزوم إجتناب الكفر والجحود بالنعم ، وأسباب التعرض لغضب وسخط الله عز وجل ومنه الإرهاب ، والإضرار بالكيان والهيئة العامة للمجتمعات القائمة على أنظمة فطرية أو وضعية تأبى خدشها بترويع الناس وإصابتهم بالفزع.
    تقدير [فَاذْكُرُونِي] بالعطف
    يكون ذكر الله عز وجل والشكر له سبحانه حسب العطف على مضامين الآيات الثلاثة المتقدمة ، أو الآيتين السابقتين [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( )، على وجوه :
    الأول : فاذكروني باستقبالكم للمسجد الحرام .
    الثاني : تعاهدوا استقبال المسجد الحرام فانه ذكر لله عز وجل .
    الثالث : قانون التوجه للمسجد الحرام ذكر وشكر لله عز وجل.
    الرابع : قانون عصمة المسلمين من إقامة الناس الحجة عليهم ، وتأتي هذه العصمة بالإمتثال لأحكام الله ، والمبادرة إلى الأوامر والنواهي القرآنية والتنزه عن الظلم والتعدي .
    الخامس : فاذكروني ولا عبرة بمؤاخذة الذين ظلموا لكم .
    السادس : فاذكروني فذكري واجب .
    السابع : فاذكروني وفيه نفعكم ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
    الثامن : فاذكروني مجتمعين ومتفرقين .
    فمن خصائص صيغة الجمع في آية البحث وجوب التعاون بين المسلمين في ذكر الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، فمن مصاديق البر وتقوى الله ذكره سبحانه.
    التاسع : فاذكروني ولا تخشوا الناس ، لبيان قانون بذكر الله يصرف أذى الناس .
    العاشر : فاذكروني لأتم نعمتي عليكم ، وتتوالى النعم على الذين يذكرون الله .
    الحادي عشر : فاذكروني لعلكم تهتدون .
    الثاني عشر : فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم .
    الثالث عشر : فاذكروني بتلاوة آيات القرآن ، لبيان قانون ذات تلاوة القرآن ذكر لله.
    وهل التلاوة واقية من الإرهاب ، الجواب نعم ، لما فيها من بيان أحكام الحلال والحرام وسبل الصلاح.
    الرابع عشر : فاذكروني فذكري تزكية لكم ، وهو مرآة للتزكية .
    الخامس عشر : فاذكروني فذكري من الكتاب الذي علمكم رسول الله.
    السادس عشر : فاذكروني فمن الكتاب الأمر (اذكروني) كما في آية البحث.
    السابع عشر : فاذكروني فذكري هدى وتقوى.
    الثامن عشر : اذكروني فذكري من تعليم الرسول لكم ، و(عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : خرج علينا رسول الله فقال : يا أيها الناس إن لله عز و جل سرايا من الملائكة تقف و تحل على مجالس الذكر فارتعوا في رياض الجنة.
    قلنا اين رياض الجنة يا رسول الله.
    قال : مجالس الذكر اغدوا و روحوا في ذكر الله و اذكروا بأنفسكم من كان يحب أن يعلم كيف منزلته من الله عز و جل فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله تبارك و تعالى ينزل العبد حيث أنزله من نفسه)( ).
    التاسع عشر : اذكروني عند مناسك الحج ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ]( ).
    العشرون : اذكروني فان ذكر الله من الحكمة التي علمكم الرسول، لبيان فضل الله على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو تعليمه الناس ذكر الله عز وجل ، وفيه خير الدنيا والأخرة .
    الحادي والعشرون : فاذكروني لبيان نعمة الله عز وجل بالإسلام ، فبدل عبادة الأوثان صار الناس يذكرون الله عز وجل .
    الثاني والعشرون : اذكروني في الفرائض والعبادات .
    الثالث والعشرون : اذكروني في الخلوات والمنتديات .
    الرابع والعشرون : فاذكروني لقانون ترتب ذكر الله على العلم كترتب المعلول على علته .
    الخامس والعشرون : فاذكروني ففي ذكري عصمة من الإرهاب.
    السادس والعشرون : اذكروني اهديكم إلى سواء السبيل ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سبع عشرة مرة في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية .
    السابع والعشرون : فاذكروني فبذكري تتنزه الأرض من الإرهاب.
    الثامن والعشرون : فاذكروني بأن يذكرني كل واحد منكم على نحو مستقل إلى جانب التعاون في ذكري .
    التاسع والعشرون : فاذكروني عند حدوث فعل إرهابي بالتبرأ العام والخاص منه .
    الثلاثون : فاذكروني فان الحياة الدنيا تستديم بذكري ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
    الواحد والثلاثون : فاذكروني بالإمتناع عن الإرهاب قربة إلى الله.
    وكذا يمكن انشاء وتقدير وجوه متعددة في المقام في بيان تحريم آية البحث للإرهاب من وجوه :
    الأول : تقدير وتفسير [أَذْكُرْكُمْ].
    الثاني : تقدير وتفسير [وَاشْكُرُوا لِي] .
    الثالث : تقدير وتفسير [وَلاَ تَكْفُرُونِ].
    قانون نهي السور المكية عن الإرهاب
    لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يتصفوا بخصلة إيمانية دائمة وهي ذكر الله ، تبدأ معهم مع بداية التنزيل .
    فمن إعجاز القرآن أن كل آية من القرآن تعليم لتكون مراحل تعليم المسلمين على مراتب إذ ابتدأت بمجئ السورة المكية قليلة الآيات ، وكل آية قليلة الكلمات لأمور :
    الأول : وضوح دلالة الآيات المكية.
    الثاني : سرعة حفظ سور المكية كاملة وإدراك أنها مدرسة سماوية مستقلة ، وحفظها إرتقاء .
    الثالث : في تلاوة الآية أو حفظها أجر وثواب ليعلم أهل مكة لأول مرة بعالم الجزاء.
    فلا يستطيع الكفار الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أن يمنعوا الناس من الإتصال بالنبي وأصحابه ، وإن جعلوا أهل البيت في عزلة إجتماعية واقتصادية ، فكان قصر السور المكية وقلة كلماتها.
    الرابع : الآية المكية مواجهة سماوية سلمية لإرهاب قريش وهو من الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودرس للمسلمين في كل زمان بالتنزه عن الإرهاب ، وعدم ملاقاة الإرهاب بمثله ، فلذا قال تعالى في آية البحث (فاذكروني).
    ليكون من معاني الفاء التعجيل بالذكر وصيرورة هذا التعجيل واقية من الإرهاب.
    وهل يختص هذا التعجيل بأيام نزول الآية ، الجواب لا ، إنما هو تكليف على المسلمين والمسلمات متجدد كل يوم إلى أوان النفخ في الصور ليكون واقية من الشيطان وإغوائه وإغرائه بالبطش والتطرف والإنتقام ، وقال تعالى [وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
    الخامس : قصر آيات السور المكية لطف من عند الله بالمسلمين والمشركين وهو من مصاديق صيغة العموم في قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، أما بالنسبة للمسلمين فهو عون لهم وبعث للسكينة في نفوسهم وتثبيت للأقدام في منازل الهدى ، وفيه دعوة للتفكر ، وتسهيل للتدبر في الآيات وتفسيرها.
    وأما بالنسبة للمشركين فان قصر الآيات يساعد في سرعة وصول الآية كاملة إلى آذانهم وحملهم على التفكر فيها .
    السادس : قانون إنشغال المشركين بآيات القرآن المكية عن إرهاب المسلمين وبلاغة القرآن من جهات :
    الأولى : فصاحة آيات القرآن .
    الثانية : سبك النظم .
    الثالثة : البديع والبيان .
    الرابعة : دقة التعبير .
    الخامسة : تعدد معاني اللفظ القرآني .
    السادسة : وضوح الدلالة .
    السابعة : قوة التأثير ونفاذ ذات كلمات القرآن ومعانيها إلى شغاف القلوب ، ومن معاني البلاغة في الإصطلاح إبلاغ المعنى بابهى حلة .
    الثامنة : شرف وسمو ألفاظ القرآن لأنها نازلة من عند الله عز وجل.
    ومن خصائص السور المكية أنها تنهى عن الإرهاب وتمنع منه بما فيها من مبادئ التوحيد ، ولغة الوعد والوعيد فكانت مناسبة لنشر الإسلام في ربوع مكة وحواليها .
    ولا يختص منع السور المكية من الإرهاب بوقت مخصوص بل هو مستمر ومصاحب للحياة الدنيا فكما زجرت الآيات القرآنية المشركين عن شدة إرهابهم وبطشهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه فانها تمنع المسلمين منعاً تاماً من الإرهاب ومن إيذاء الناس إذ أنها دعوة إلى الأمن العام وإلى التفكر بعالم الآخرة ولزوم الإستعداد له بالعمل الصالح .
    قانون العالمية المتجددة للقرآن
    لقد تضمنت عشرات الآيات الإخبار عن نزول القرآن من عند الله ، قال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
    وهل تدل الآية أعلاه على حرمة الإرهاب ، الجواب نعم من جهات :
    الأول : نزول القرآن من عند الله ليكون هادياً ، ويتخذه المسلمون صراطاً مستقيماً وليس فيه لفظ (إرهاب) أو دعوة إلى الإرهاب .
    الثاني : تسمية القرآن الكتاب لبيان أنه جامع مانع ، جامع للإحكام الشرعية ، ومبين للحلال والحرام ، ومانع من الظلم والتعدي .
    الثالث : نزول القرآن للناس جميعاً ، لتكون هذه الآية تعضيداً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فليس الرسالة وحدها لعموم الناس.
    إنما نزل القرآن للناس جميعاً ، وهل فيه دلالة على بقاء القرآن غضاً طرياً في جميع العصور والأزمنة ، الجواب نعم ، بلحاظ إفادة الألف واللام في (الناس) الجنس والعموم الإستغراقي.
    ولو دار الأمر في لفظ نداء [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] أو نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] هل هما لخصوص أيام التنزيل أم لمطلق أفراد الزمان الطولية ، فالصحيح هو الثاني .
    ومن معاني اللام في (للناس) في الآية أعلاه التعليل ، أي من أجل الناس ومنفعتهم في النشأتين والإختصاص والشمول.
    وفي الآية إكرام لعموم الناس ، وتحريم إرهابهم وإخافتهم ، فلما تفضل الله عز وجل وأنزل القرآن من أجلهم فلا يصح غدرهم وسفك دمائهم ، وسيحاسب الله الذين جحدوا بالكتاب ، ولم يشكروا الله على نعمة التنزيل والنبوة .
    الرابع : كفاية القرآن لهداية الإنسان ، لقوله تعالى [فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ]( )، وبيان أن الهداية نجاة وسلامة في الدارين ، وأن الله عز وجل غير محتاج للخلائق.
    وفي التنزيل [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
    وفي خاتمة الآية أعلاه زجر عن الإرهاب العشوائي والدمار ، وقتل الأبرياء ، واتلاف المرافق وتعطيلها .
    الخامس : دلالة الآية في مفهومها على عدم الإكراه في الدين ، لأن الذي يضل ويمتنع عن الهدى لا يضر إلا نفسه ، مما يعني سلامة الإيمان ومناهجه من شائبة الكفر ومفاهيم الشرك .
    وهل يؤدي الإرهاب إلى هداية الناس ، أم العكس هو الصحيح ، الجواب هو الثاني ، إذ يبعث الإرهاب على نفرة النفوس منه ومن المذهب الذي يلتصق به وإن كان بريئاً منه.
    ولا يقف الإرهاب ومحاولات إلصاقه بالإسلام دون عالمية القرآن ونفاذ وإختراق آياته شغاف القلوب بألوية السلم والصلاح فسرعان ما انكشفت براءة الإسلام من الإرهاب.
    ترى ما هي النسبة بين الصلاح والإرهاب ، الجواب إنها نسبة التضاد والتعارض ، ليكون وفق القياس الإقتراني :
    الكبرى : قانون الملازمة بين الإسلام والإصلاح .
    الصغرى : التضاد بين الإرهاب والإصلاح .
    النتيجة : التضاد بين الإسلام والإرهاب.
    بحث أصولي : كيف يحصل القطع
    يأتي القطع بمعنى الإبانة والإزالة إذ ورد على نحو الإطلاق ، قال تعالى [قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ] ( ) ويقال تقطع وقت بكذا ، وقطع العهد : أبرمه ، وفي التنزيل [وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] ( ) والقطع في الإصطلاح هو اليقين والجزم [قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ] ( ).
    ويتصف القطع بأمور :
    الأول : إنه كيفية نفسانية تترشح عن الأمر الخارجي ،وبهذا الترشيح تكون صلتها مع علم الأصول فهي ليست خارجة عنه كما يقال .
    الثاني : القطع كاشف ، فهو يكشف عن الواقع لذا يكون القطع طريقياً .
    الثالث : القطع باعث على الفعل أو الترك فاذا قطع عزم.
    الرابع : الحجية والمراد المنجزية أو المعذرية ، إذ أن القطع ينجز التكليف ، ويدخله في الذمة والدين ، وبالنسبة للمعذرية فان القطع بعدم الدليل ، ينفي التكليف ، فاذا لم تثبت رؤية هلال رمضان في ليلة الشك يكون المكلف معذوراً في الأفطار في اليوم التالي ، وان ثبت فيما بعد رؤية الهلال تلك ولكن يلزمه القضاء من غير كفارة .
    فالقطع منجز للواقع مع موافقته للحكم ، ومعذر عن التكليف في حال المخالفة .ووجوب العمل بالقطع فرع الحجية .
    ويقطع المسلم بحرمة الإرهاب كتاباً وسنة وإجماعاً وعقلاً وقياساً مما يلزم التنزه والإبتعاد عنه.
    الحروف الهجائية والأبجدية والصوتية
    ترتيب الحروف على جهات :
    الأول : حرف الواو مجهور ، ترتيب الهجاء أو الحروف الهجائية وهي بالترتيب :
     أ ب ت ث.
     ج ح خ.
     د ذ ر ز.
     س ش.
     ص ض ط ظ.
     ع غ.
     ف ق.
     ك ل.
     م ن.
     هـ و ي.
    وهذا الترتيب هو المشهور والأكثر في الإستعمال في المعاجم اللغوية ، القديمة منها والحديثة ، والفهارس ، وترتيب الأسماء ، وفي المكتبات في اسم المؤلف ، أو المُصنف ، أو الموضوع والإختصاص.
    والواو في هذا الترتيب الحرف السابع والعشرون كما مبين أعلاه.
    الثاني : الترتيب الأبجدي ، أو الحروف الأبجدية وهو الأقدم ، ولكن استعماله صار أقل وهو كالآتي :
     أبجد : أ ب ج د
     هوز : هـ و ز.
     حطي : ح ط ي.
     كلمن : ك ل م ن.
     سعفص : س ع ف ص.
     قرشت : ق ر ش ت.
     ثخذ : ث خ ذ.
     ضظغ : ض ظ غ.
    ويعطي هذا الترتيب للحروف رمزاً عددياً في حساب الجمل على الجهات التالية :
    الأولى : يكون لكل واحد من الحروف التسعة الأولى وهي ( أ ، ب ، ج ، د ، هـ ، و ، ز ، ح ، ط) فرداً واحداً فتكون من (1 إلى 9) فالحرف 1 له العدد : 1 ، أما الحرف ط فله العدد : 9.
    الثانية : الحروف (ي من حطي) ، ك ، ل ، م ، ن ، س ،ع ،ف ،ص) لكل واحد منها عشرة فتكون من (10 إلى 90) أي أن الحرف رقم ي له 10 ، و ك: له 20 ، و ل : له 30 ، وهكذا.
    الثالثة : الحروف (ق ، ر ، ش ، ت ، ث ، خ ، ذ ، ض ، غ ، ط) لكل منها قيمة عددية (100) درجة فتكون من 100 إلى ألف ، فالحرف ق وحده 100 ، والحرف ر : 200 ، والحرف ش : 300 ، وهكذا والحرف غ 1000 وهو آخر الحروف الأبجدية.
    ويكون حرف الواو بهذا الترتيب السادس ، بينما كان السابع والعشرين في الحروف الهجائية .
    الثالث : الحروف الصوتية : لقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي (توفى سنة 179 هجرية) الترتيب الصوتي للحروف وفق مخارج الحروف ، وجعل الألف صوتاً غير الهمزة لتصبح الحروف تسعة وعشرين حرفاً ، ونظم كتابه (العين) وفق هذا الترتيب وهي :
    الأولى : الحروف الحلقية وهي ( ع ، ح ، هـ ، خ ، غ) لأن مبدأها من الحلق .
    الثانية : الحروف اللهوية (ق ، ك).
    الثالثة : الحروف الشجرية تبدأ من شجر الفم وهي (ش ، ج ، ض ، ي) والشجرة : ما انفتح من منطبق الغمم .
    الرابعة : الأسلية ومبدؤها من أسلة اللسان أي طرفه المستدق ، وهي (ص ، س ، ز).
    ومن السجع : أسلاتُ السِنتهم أمضى من أسنّة أسلهم( ).
    الخامسة : النطعية وهي (ط ، د ، ت).
    السادسة : اللثوية مبدؤها من اللثة وهي (ظ ، ذ ، ث).
    السابعة : الذلقية مبدؤها من ذلق اللسان أي طرفه المستدير وهي (ر ، ل ، ن).
    الثامنة : الشفهية أو الشفوية ولقبت به لخروجها من الشفتين وهي (ف ، ب ، م ، و).
    التاسعة : الجوفية أو الهوائية ، ليس لها حيز في مخارج الحروف فتحسب على الجوف والهواء ، وهي (الأف اللينة ، و ، ي).
    والألف اللينة هي ألف ساكنة مفتوح ما قبلها لا تقع في أول الكلام وسميت لينة لأنها تلين وتضعف في مواضع من الكلام ، ورسمها ألف (ا) مثل سما وربا ) إذا كان أصلها واواً قال تعالى لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، أو ترسم مقصورة كما في قوله تعالى [إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى]( ).
    والمختار أن نسبة مصطلحات هذه الحروف للخليل بن أحمد الفراهيدي غير صحيحة ، ولو كان لبان ، ولذكرها أو أشار إليها سيبويه وغيره من تلاميذ الخليل .
    والمختار أنها ظهرت فيما بعد ، وعادة ما تستعمل في باب التلاوة والمحسنات اللفظية.
    وتملي علوم العربية وحروفها على الإنسان التفكر في أسرار نزول القرآن باللغة العربية ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، ليكون هذا التفكر مقدمة للشكر لله عز وجل على نعمة نزول القرآن وباللغة العربية .
    وتتجلى مصاديق من هذا الشكر بالتقيد بآداب الإسلام ، والإمتناع عن الإرهاب ، وتخويف الناس ، إذ تكون لغة القرآن وتعدد معاني الحرف القرآني الواحد مادة للتبليغ ، وحجة في صدق نزول القرآن ، والرضا بما قسم الله عز وجل للمسلمين .
    ومن شكر المسلم لروائع الإعجاز القرآني التحلي بمكارم الأخلاق ، والإبتعاد عن العنف والظلم والتعدي.
    قانون الإرهاب خسارة في الأموال
    قال تعالى [ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
    يدل التبعيض المستقرأ من حرف الجر (في) على معنى الظرفية ، فالأموال موجودة ، وأن حصل فيها الإبتلاء ، ومن معاني حرف الجر (في) المصاحبة ، كما في قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ]( ).
    وهو من الإعجاز الموضوعي في كلمة واحدة [لَتُبْلَوُنَّ].
    وهل الإرهاب سبب لإبتلاء المسلمين في أموالهم ، الجواب نعم ، وهو عائق دون التجارة بما يسببه من الخوف والمنع من السعي الحثيث في طلب الرزق ، قال تعالى [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( ).
    ويؤدي الإرهاب إلى فرض قيود ورقابة وزيادة في رجال الشرطة وانفاق الأموال والإغلاق للتوقي من الإرهاب ، وحفظ النفوس والأعراض والأموال ، والإنفاق على السجون المستحدثة بسبب الإرهاب ليثقل الإرهاب كاهل الدولة والخزينة والناس ، ويزيد في الضرائب.
    وتبين الآية اعلاه سماع المسلمين الأذى من أهل الكتاب ومن المشركين ، ومن الإعجاز فيها وصفها للأذى بأنه كثير .
    ولو دار الأمر في المراد هل الكثرة في الكم أم الكيف ، الجواب المراد الجامع لهما لأصالة الإطلاق ، ويأمر الله عز وجل المسلمين في تلقي هذا الأذى بأمرين :
    الأول : الصبر المتحد والمتعدد أي يصبر الفرد الواحد من المسلمين وتصبر الدولة والأمة .
    الثاني : التقوى والخشية من الله عز وجل .
    ويتناقض الإرهاب مع كل من الأمرين أعلاه ، لبيان إعجاز للقرآن من جهات :
    الأولى : قانون نهي القرآن الجلي والواضح عن الإرهاب.
    الثانية : قانون بطلان إدّعاء أسباب شرعية أو عقلية للإرهاب .
    الثالثة : قانون من الحكمة والعقلائية ترك الإرهاب والإمتناع عنه .
    الرابعة : قانون التعاون العام بين المسلمين والمناجاة بالتحلي بالصبر والخشية من الله عز وجل .
    الخامسة : قانون مجئ البلاء عند عدم التحلي بالصبر والتقوى.
    السادسة : قانون سماع الأذى من أهل الكتاب والكفار بالصبر والتقوى ، وكل منهما من مكارم الأخلاق ، لاختتام الآية بقوله تعالى [ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
    السابعة : قانون الوعد والبشارة من عند الله باقتران الأمن والسلامة بالصبر والتقوى .
    والمراد من عزم الأمور وجوه :
    الأول : ما أمر الله عز وجل به من الثبات على الإيمان والتقوى.
    الثاني : الحكمة والصواب .
    الثالث : المنهج المستديم والصراط المستقيم ، وإرادة الإصلاح ، قال تعالى [وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ]( )، ومن خصائص الإرهاب منافاته للصراط المستقيم.
    ولم يرد لفظ (لتبلون) في القرآن الا في الآية أعلاه لبيان أن الخسارة والتلف في الأموال والأنفس غير ما يسمعه المسلمون من غيرهم من الأذى ، أو يكون الذي يسمعون من الحسد وما فيه الأذى والإبتلاء فلابد من الصبر على أمور أخبرت عنها هذه الآية وهي :
    الأول : الإبتلاء في الأموال .
    الثاني : الإبتلاء في النفوس .
    الثالث : سماع الأذى من أهل الكتاب.
    الرابع : سماع الأذى من المشركين .
    وكان يفترى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينعت بأنه مجنون وأنه ساحر وكذاب ، قال تعالى [وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ]( ).
    ويقع هذا الإفتراء بمسمع من طائفة من المسلمين كما يقال لهم أنتم في ضلال ولستم على الحق ، فامرهم الله عز وجل بالصبر والتحلي بطاعة الله ورسوله والمواظبة على أداء الفرائض العبادية لبيان حرمة الإرهاب حتى عند تلقي الأذى الشديد وأنه خلاف الحكمة والتبصر بعواقب الأمور.
    وقد تقدم في الجزء السابع والثمانين بعد المائة من هذا السِفر (قانون صبر النبي محمد (ص) معجزة) لأنه قابل الأذى الذي لاقاه هو وأهل بيته وأصحابه بصبر وحلم ، وهو شعبة من الوحي ، ولآيات القرآن موضوعية في هذا الصبر( ).
    والإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجب ، ومنه لزوم الصبر ، وعدم تلقي الأذى بالعنف الشديد والإرهاب وإخافة عامة الناس وسفك الدماء.
    قانون فضل الله زاجر عن الإرهاب
    يدرك الناس المؤمن والكافر أن فضل الله عظيم ، وهذا الإدراك من جهات :
    الأولى : نفخ الله من روحه في آدم ، وفي التنزيل [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
    الثانية : سنن خلافة الإنسان في الأرض ، فلابد أن يقر الخليفة بفضل الله ، وذات الخلافة فوز عظيم لم يفز به جنس من الخلائق حتى الملائكة ولو في إحدى السموات ، وقد رزقه الله عز وجل للإنسان ، وقد تقدم قانون ملازمة فضل الله للخلافة في الأرض( ).
    الثالثة : الشواهد والوجدان ، فمن قوانين الحياة الدنيا جعل الله عز وجل الناس يدركون ويلمسون فضله طوعاً وقهراً ، ويعجز الناس عن إحصاء الإفراد غير المتناهية من فضل الله على كل من :
    الأول : الفرد الواحد من الناس في الصحة والعافية والسراء ودفع البلاء ، والهداية إلى الدعاء من أعظم النعم .
    الثاني : العائلة الواحدة .
    الثالث : الجماعة .
    الرابع : الطائفة .
    الخامس : أهل القرية .
    السادس : الأعراب في البادية .
    السابع : المسافر في وسائط النقل المختلفة .
    وإزداد السفر في هذه السنوات أضعافاً مضاعفة عما كان عليه في السابق ، ويتضاعف معه فضل الله ، وهو من الإعجاز في إتساع فضل الله بحسب حاجة الناس وسعة رحمة الله بهم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( ).
    ومن الآيات التي تستحب قراءتها عند السفر قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ]( ).
    وفي هذه الآية دعوة للشكر لله عز وجل على نعمة السفر للفرد ولغيره ، وحضّ على التنزه عن إرهاب المسافرين.
    الثامن : فضل الله على الأنبياء.
    ومن الإعجاز في المقام تعدد مصاديق وكيفية فضل الله على كل واحد منهم بما يثبت الإيمان في الأرض ، وقد أطال الله عز وجل في عمر نوح عليه السلام وأنقذه وأهله من الطوفان ، وسلّم إبراهيم عليه السلام من الحرق بالنار ورزقه الولد ، وفي التنزيل [قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ]( ).
    التاسع : الطائفة والأمة .
    العاشر : أهل الملة .
    الحادي عشر : راكبو البحر .
    الثاني عشر : أهل الأرض جميعاً .
    ومن الآيات أن الفضل على فرد أو طرف أو فئة فنتفع منه الآخرون.
    ترى ما هي النسبة بين مصاديق فضل الله عز وجل والإرهاب ، الجواب هو التباين والتضاد .
    فالذي يقوم بعمل إرهابي ويرعب الناس راد لفضل الله عز وجل عليه وحاجب لفضل الله عز وجل عن غيره من الناس ، ولا يرضى الله عز وجل أن ينصب الإنسان نفسه شاخصاً وبرزخاً دون وصول فضل الله عز وجل إلى الناس لذا يجب إجتناب الإرهاب فان بطش الله عز وجل قريب من صاحبه وهو إثم ووزر في الآخرة ، وهل يقاضي الناس يوم القيامة الذي حجب عنهم فضل الله سواء الفضل الذي علموا به أو جهلوه وانكشف لهم يومئذ ، الجواب نعم .
    لبيان أن الإرهاب والبطش والقتل يمنع أفراداً عظيمة من فضل الله.
    ومن فضل الله الهداية إلى التوحيد ، وإصلاح سئ الأخلاق وتهذيب الأفعال ، نسأل الله تعالى أن ينزه الأرض من ظاهرة الإرهاب ، وفي التنزيل [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
    قراءة في الجزء (188) من هذا التفسير
    قد تقدم في الجزء الثامن والثمانين بعد المائة القوانين التالية :
    الأول : قانون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإرهاب.ص250
    الثاني : قانون التناقض بين الخلافة في الأرض وبين الإرهاب.ص10
    الثالث : قانون آية القصاص واقية من الإرهاب.ص10
    الرابع : قانون قاعدة لا ضرر ولا ضرار واقية من الإرهاب.ص10
    الخامس : قانون وعد الله في القرآن حصن من الإرهاب.ص10
    السادس : قانون صبر النبي على أهل مكة معجزة وحجة في نبذ الإرهاب.ص10
    السابع : قانون أداء الفرائض العبادية واقية من الإرهاب.ص10
    الثامن : قانون النصر في بدر استئصال للإرهاب.ص11
    التاسع : قانون زكاة الفطر دعوة للسلم المجتمعي العام.ص11
    العاشر : قانون أن قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ) باعث للنفرة من الإرهاب وسبب للإبتعاد عنه .ص15
    الحادي عشر : قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإرهاب من المنكر ، وفيه أذى للذات والملة التي ينتمي إليها صاحبه وللناس جميعاً.ص15
    الثاني عشر : قانون تحلي الأنبياء بالصبر والخلق الحميد ، وبيان القرآن وهو أن الصبر طريق للفرج ، وقضاء الحوائج ، وحجة على الذي يختار الإرهاب لتحقيق غاياته ، إنما يقام الدين بالدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة والزهد ، وعدم إيذاء الناس.ص17
    الثالث عشر : قانون ورود وصايا لقمان لابنه في القرآن مانع من الفساد وبرزخ دون سفك الدماء ، وهل هذا المانع يومي متجدد أم أنه قليل الحدوث ، الجواب هو الأول .ص22
    الرابع عشر : قانون حب الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بتأديبهم بسنن الأنبياء والصالحين.ص23
    الخامس عشر : قانون تجدد واستحداث معجزات النبي محمد (ص).ص79
    قانون القلب الواحد
    من خصائص القرآن دلالات إعجازه ، وتتجلى بوجوه منها :
    الأول : القرآن وآياته أمر خارق للعادة ، لم يعتد الناس مثل المراتب العالية لبلاغته ، ويواجه في كل زمان صنوف العلوم ومنها الطب وعالم الفلك والصناعات المبهرة .
    الثاني : القرآن مقرون بالتحدي ، فهو فاضح للمكذبين به ، وهو بذاته يطرد الريب في نزوله من عند الله ، قال تعالى [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
    الثالث : سلامة الآية القرآنية من المعارضة ، فلا يقدر الناس وإن اجتمعوا على أن يأتوا بمثل القرآن في نظمه وكلماته ، والصلة بين الآيات ومئات الآلاف من القوانين التي تستنبط منه ، والصلة بين سبب النزول والآية القرآنية ، ودلالات الآية.
    ومن فضل الله عز وجل في المقام تضمن تفسيرنا هذا (معالم الإيمان في تفسير القرآن) أموراً ومسائل إعجازية في المقام منها :
    الأول : صدور أجزاء كل جزء في الصلة بين آيتين متجاورتين .
    الثاني : باب الإعجاز الذاتي ، والإعجاز الغيري في تفسير كل آية.
    الثالث : التوسعة في استقراء العلوم من الآية القرآنية.
    الرابع : بحوث نحوية وبلاغية وكلامية .
    الخامس : تعدد وجوه تفسير الكلمة القرآنية ، وتخصيص جزء لتفسير آية واحدة في الغالب .
    السادس : استنباط القوانين المتعددة في تفسير كل آية قرآنية .
    وموضوع قانون البحث قوله تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ]( )، إذ تتحدى الآية الناس وعلم الطب بأنه لا يكون للإنسان قلبان حتى في حال التشوه الخلقي والأمور النادرة .
    وقد يعيش الإنسان بكلية واحدة أو نصف كبد ونحوه ولكن القلب لا يقبل الإنشطار.
    وقد يأتي يوم يزرع فيه للإنسان قلب بديل ، فتشمله الآية بنسبة جعل القلب الواحد من عند الله بقوله تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ] فالقلب البديل ليس من جعل الله عز وجل .
    ومن معاني [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] وجوه :
    الأول : بيان الإعجاز في خلق الإنسان ، والآية من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
    الثاني : كلما ارتقى العلم وزادت موضوعاته تبقى هذه الآية تتضمن التحدي السابق والمستحدث .
    الثالث : التخفيف عن الإنسان بخلقه بقلب واحد ، وهو أمير الجوارح ، والذي يضخ الدم لأعضاء البدن .
    وإذ ذكرت آية البحث أن القلب في جوف الإنسان ، فقد بينت آية أخرى بأنه في الصدر بقوله تعالى [وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ]( ).
    الرابع : ليس في خلق الإنسان ما يسبب التعارض والتضاد والتزاحم في أقواله وأفعاله ، فلا يؤمن بأحد القلبين ويكفر بالآخر ، ولا يقبل على الدنيا بقلب ، وعلى الآخرة بقلب آخر .
    الخامس : كان بعض العرب يظنون أن من الناس من له قلبان ، لما يظهر من التباين والتقلب في سلوكه.
    السادس : في أسباب نزول الآية مسائل :
    الأولى : (قال ابن عباس كان في قريش رجل يقال له ذو القلبين لشدة فهمه فنزلت الآية نفيا لذلك ويقال إنه ابن أخطا ، وقيل جميل بن معمر)( ).
    الثانية : عن ابن عباس أيضاً (قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فسها فيها ، فخطرت منه كلمة ، فسمعها المنافقون ، فأكثروا فقالوا : إن له قلبين . ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة؟ إن له قلباً معكم ، وقلباً مع أصحابه ، فنزلت [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ]( )، إلى قوله مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ( ).
    الثالثة : (عن مجاهد قال : إن رجلاً من بني فهر قال : إن في جوفي قلبين ، اعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فنزلت)( ).
    الرابعة : (قوله تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ]( )، نزلت في أبي معمر جميل (بن معمر) بن حبيب بن عبدالله الفهري ، وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع .
    فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلاّ وله قلبان. وكان يقول : إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد ، فلمّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب ، وهو معلِّق إحدى نعليه بيده والأُخرى في رِجله فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس .
    قال : انهزموا .
    قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأُخرى في رجلك .
    فقال له أبو معمر : ما شعرت إلاّ أنّهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده)( ).
    الخامسة : تحصين المسلمين والذين يدخلون الإسلام فلا يقول الكفار أن لهذا المسلم قلباً آخر معنا .
    ومن إعجاز الآية أنها لم تأت بلفظ بشر ، مثل [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ]( )، و[وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ]( ).
    و[مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )، ولم تأت بلفظ إنسان (وما جعل الله لإنسان) أو (ما جعل الله لابن آدم).
    إنما ذكرت الآية خصوص الرجل ، لتخرج المرأة بالتخصص ، فقد تكون المرأة حاملاً بجنين أو توأم ويحمل كل واحد منهم قلباً ينبض بالحياة وهو لا يزال في رحم أمه .
    إذ يبدأ تكون القلب في الجنين في بداية الأسبوع الثالث من أول الحمل ، ويبدأ القلب في الإنقباض والإنبساط في الأسبوع السادس من الحمل .
    ومع اعتناء الناس بالطب منذ القديم ، فلم يسجل أن ولد مولود بقلبين أو إنسان عاش بقلبين .
    ليكون من إعجاز الآية تقييدها بالجوف بقوله تعالى [مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ]( )، وهل في الآية حض على صناعة القلب والإرتقاء في شفاء أمراضه ، الجواب نعم.
    ولم يرد لفظ (قلبين) وجوف ، و(جوفه) (تظاهرون) (ادعياءكم) إلا في آية البحث.
    وفيها تعريض بالذين يظاهرون من نسائهم ، إذ يقول أحدهم لزوجته : أنتِ عليّ كظهر أمي فيحرم جماع زوجته كحرمة أمه ، ولا تكون زوجة الرجل أماً له أبداً ، فهو من الضدين اللذين لا يجتمعان.
    ولا تجتمع بنوة ودعوة الإنتساب في فرد واحد للإشارة إلى الولد بالتبني والفرق بينه وبين الولد الصلبي.
    وقد جاء عيسى عليه السلام بآيات في شفاء الأعمى والأبرص واحياء الموتى لأن الطب كان الصناعة السائدة والتي توليها المجتمعات في زمانه العناية ، وفي التنزيل [وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
    وحتى بالنسبة للتوأم الملتحم أو الملتصق ، فقد يكون لكل واحد من التوأمين قلب أو يكون لهما معاً قلب واحد ، فلا تكون لهما ثلاثة قلوب ، وفي التنزيل [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ]( ).
    وسيبقى مضمون آية البحث يتحدى عالم الطب إلى يوم القيامة ، فلا يولد إنسان بقلبين لتتضمن هذه الآية إعجاز الكلمة القرآنية الواحدة في عالم طلب الأبدان أمس واليوم وغداً .
    وسيرتقي الطب وتتم صناعة قلب صناعي فهل يصنع يوماً قلبان للإنسان ، كما لو كان أحدهما للإحتياط عند توقف الآخر فجأة ، ولمنافع أخرى ، الجواب نعم ممكن ، ولكن مثل هذين القلبين يكونان خارج البدن ، وحتى إذا كان القلب الصناعي داخل البدن فان آية البحث قيدت وحدة القلب بأنها من جعل الله عز وجل بقوله [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ].
    فلم تقل الآية : ليس من رجل له قلبان ، أو لا تجد رجلاً عنده قلبان ، ليكون من إعجاز الآية استحضارها للإرتقاء في الطب في الأزمنة اللاحقة ، والذي يعلم الله عز وجل به فانزل القرآن حجة في أفراد الزمان الطولية المتعاقبة.
    وقد يقوم العلماء بتعريف فعل أو حال فيختلفون وتتعدد التفسيرات فمثلاً أمضى أحد أساتذتنا نحو شهر في البحث الخارج في تعريف البيع والأقوال فيه .
    أو كما في تعريف الإرهاب في هذا الزمان وتتعدد تفسيراته وذكرت في هذا الجزء ستة وجوه في تعريفه ، بينما يبين القرآن موضوعاً وهو القلب المنفرد بكلمتين مع تبدل أحواله بحسب الإرتقاء العلمي لآلاف السنين بقوله تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] وهو من إعجاز القرآن .
    لقد كان بعض العرب إذا رأوا إنساناً ذكياً ، أو إنساناً متقلباً في أفعاله يأتي بالتضاد من الخير والشر في آن واحد ، يقولون له قلبان ، قلب يأمره بالخير ، وآخر بالشر فكّذبهم الله عز وجل ، لبيان حرمة الإتيان بالتضاد من أفعال الخير والشر ، فالذي يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض العبادية يجب أن يجتنب النواهي ، ومنها الإرهاب ، وترويع الناس ، قال تعالى [كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ]( ).
    والنسبة بين التعدي والإرهاب هي العموم والخصوص المطلق ، مما يملي على المسلمين تسخير القلوب بالتدبر في قبح الإرهاب والتعاون في إجتنابه.
    إن إعجاز القرآن بتحدي علوم الطب إلى يوم القيامة بكلمات [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ].
    ليعجز الإرتقاء العلمي المتسارع عن الخروج عن هذا القانون ، وفيه دعوة للشباب المسلم للإجتهاد في طاعة الله ، وإظهار الخشوع والخضوع له ، وإتخاذ لغة الحوار والإحتجاج للتبليغ أو للمطالبة بالحقوق ونبذ الإرهاب ، والإبتعاد عنه ، وعن العنف والتطرف والتفجيرات العشوائية وما فيها من الإبتعاد عن سمت المؤمن من إتخاذ منهاج القلوب المؤمنة بالرفق بالناس كافة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).

    بسم الله الرحمن الرحيم
    سماحة الشيخ ما رأي سماحة المرجع الديني صالح الطائي بصلاة الجمعة هل هي واجبة ام مستحب اداؤها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

                                                                                                                   العدد : 1893/22

التاريخ : 28/11/2022

صلاة الجمعة زمن الغيبة واجبة مع توفر شروطها , ومع عدم الخوف والحاجة إلى التقية ، أما الوجوب فلقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ونصوص مستفيضة , وأما السلامة من الخوف فلصحيحة زرارة (قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : على من تجب الجمعة ؟ قال : تجب على سبعة نفر من المسلمين ، ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين ، أحدهم الأمام ، فإذا إجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم).
أما المكلف الذي عنده مانع شخصي , ويخشى على نفسه من غير وسواس أو قطع القطّـًاع ، فله أن يصلي صلاة الظهر من يوم الجمعة أربع ركعات ، ولقوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ], ولقاعدة نفي الحرج في الدين ، والعلم عند الله.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn