معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 247

المقدمــــــة

الحمد لله الذي زيّن الأرض بخلافة الإنسان فيها ، وجعله يسيح ويتنقل فيها ، ويتنعم في خيراتها ، وأبى الله عز وجل أن يجعل الإنسان يكتفي بما في الأرض من النعم ، فساهمت السماء برزقه رزقاً كريماً ، وليس من إنسان إلا وهو ينتفع كل يوم من خيرات السموات والأرض ، مما يملي على الناس الشكر لله عز وجل على هذه النعم بالتقوى والصلاح ونبذ العنف ، والإمتناع عن الإرهاب الذي هو مخالف للفطرة الإنسانية ، ووظائف الخلافة ، إذ يدل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، على لزوم أداء الإنسان سنن وقواعد الخلافة التي تتقوم بعبادته لله عبادة خالصة من الشك والرياء لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الحمد لله الذي وهب الناس نعمة صيرورة كلامه حاضراً بين ظهرانيهم ، ينطقون به في كل آن ، يعملون بأحكامه وأوامره ، ويزجرهم عن المعاصي والسيئات ، وفرض على كل مسلم ومسلمة تلاوة سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ، ومنها سورة أو بضع آيات فاذا أحب الله عز وجل أمة جعلهم يرددون كلامه ، ليكون القرآن على وجوه :
الأول: قانون القرآن أمان لتاليه وسامعه وغيرهما .
الثاني : قانون تلاوة القرآن طهارة للقلوب .
الثالث : قانون القرآن دعاء وتسبيح وشكر لله ، وثناء عليه سبحانه .
الرابع : قانون نعمة القرآن لا يحصي منافعها إلا الله عز وجل .
وابتدأ نظم القرآن بالبسملة وهي مدح وثناء على الله عز وجل ثم قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، لتجمع هذه الآية بين الحمد لله والثناء عليه والإقرار بربوبيته المطلقة ، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله تعالى .
فقد عجز الناس عن إحصاء أفراد العالمين من جهات :
الأولى : قانون عجز الناس عن إحصاء العالمين في السابق .
الثانية : قانون عجز الناس عن إحصاء العالمين في الزمن الحاضر.
الثالثة : قانون عجز الناس عن إحصاء أفراد العالمين في الزمن المستقبل.
والله عز وجل يحصي افراد العالمين من الأنس والجن وغيرهما ، وسنخية كل واحد ، ومحله وأوانه ، وما فعله ويفعله ،وعمره ومدة أيامه ، وما يصيبه ودرجة إيمانه ، فجاءت أدعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتسليم المطلق بالعبودية لله عز وجل .
وعن (ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن .
ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن .
ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق .
اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت.
أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك ]) ( ).
الحمد له الذي ملأ الآفاق بآياته ، وذات الإنسان آية ، وهو يتقلب بين آيات الله عز وجل ، وهو من خصائص خلافة الإنسان في الأرض .
ليكون تقدير الآية [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) هو آية من آيات الله تحيط بالآيات وتحيطها الآيات من كل مكان ، وفي كل يوم بما يعجز معها عن عدّ وإحصاء جزء يسير من الآيات ، لذا يجب التسبيح والحمد لله عز وجل .
فسبحان الله عدد ما خلق ، وسبحان الله عدد ذوي الأرواح والجمادات من خلقه .
سبحان الظاهر الذي ليس فوقه شئ ، والباطن الذي ليس دونه شئ ، والأول الذي ليس قبله شئ ، ولم يوجد شئ في الوجود إلا وهو يتصف بخصائص :
الأولى : قانون كل شئ موجود بأمر من الله عز وجل .
الثانية : قانون كل شئ في الوجود من خلق الله عز وجل .
الثالثة : قانون كل شئ منقاد إلى الله عز وجل .
الرابعة : كل حركة في الكون والخلائق بعلم وإذن الله ، وفي التنزيل [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
قال عبد الله بن مسعود (لا ينبغي ان يسأل احدكم عن نفسه الا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله عز و جل وان لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله)( ).
وهذا الكلام بديع من صنع الصحابي الذي سخر نفسه لتلاوة القرآن وضبط كلماته وحروفه ، وتعليمه في المدينة ، ومع هذا فيتجلى عند الدراسة المقارنة الفرق بينه وبين كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أعلى وأسمى مرتبة لأنه شعبة من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] ( )ونستقرأ من السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في المقام بصيغة الإيجاب : من يحب القرآن يحب الله ، وليس من مؤمن إلا ويحب القرآن.
ويبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسألة علمية وهي أن الأرض سابحة في الفضاء ، إذ ورد (عن ابن عباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة لقدم على ربه ، ثم تلا {هو الأول والآخر والظاهر والباطن هو بكل شيء عليم}( ))( ).
الحمد لله الذي يعلم مقادير الأمور وخزائن وعلوم القرآن ولايعلمها غيره ، قال تعالى [عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ]( ).
وهذا الجزء هو السابع والأربعون بعد المائتين من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) لم يصدر أي جزء من أجزائه إلا بلطف ومدد من عند الله عز وجل [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] ( ).

كما صدر الجزء الخامس والأربعون بعد المائتين من هذا السِفر بذات الموضوع وهو (علم الإحصاء القرآني غير متناهِ) في آية مستحدثة من علوم القرآن.
وبيان إعجاز آيات القرآن في باب الإحصاء والحساب سواء في منطوقها أو مفهومها ، وموضوعية الجمع بين الآيتين أو الثلاثة في استقراء علوم إحصائية سواء في الدنيا أو في الآخرة ، ولا يعلم كل من أفرادها إلا الله عز وجل ليكون عجز الناس عن إحصاء مصاديقها من باب الأولوية القطعية .
الحمد لله الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، ويهب ما يشاء من فضله الواسع الذي ليس له إنقطاع.

حرر في الثالث والعشرين من شهر رمضان 1444

14/4/2023

قانون الإحصاء القرآني رحمة
من رحمة الله عز وجل أنه يحصي الخير ومصاديقه ليثبتها في الأرض ويؤجر ويثيب أصحابها وأنه يحُصي الفعل القبيح ليمنع شيوعه ويكون متزلزلاً لتهجم عليه التوبة والإنابة لبيان أن قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، بيان لوجوه :
الأول : قانون تفضل الله بالإحصاء بذاته نعمة .
الثاني : قانون لا يقدر على إحصاء الخلائق وعالم الأفعال والنوايا إلا الله عز وجل .
الثالث : قانون الإيمان بانفراد الله باحصاء الكائنات واجب .
الرابع : قانون إحصاء الله للأشياء وعالم الموجودات رحمة ورأفة بالخلائق .
الخامس : قانون القرآن كتاب الإحصاء السماوي.
وهل هذا العجز من مصاديق قوله تعالى [وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( )، الجواب نعم ، وبهذا العجز يدرك الإنسان ضعفه ، وحاجته إلى رحمة الله ، وإلى النعم الظاهرة والخفية ، الحسية ، والعقلية ، وضعف الإنسان ليس عائقاً دون تعلمه ، واكتسابه المعارف ومنها الإقرار بالعجز عن إحصاء نعم الله عز وجل على المنفرد والمتعدد من الناس.
ومن ثمرات علم الإحصاء القرآني أنه من البديهيات التي لا تحتاج إلى برهان ، ومن الفطريات التي تكون قياساتها معها ، فيبعث تصور طرفيها ووسط يستلزم الطلب والتفكر على التبادر بمعانيها ودلالاتها .
من علوم الغيب في القرآن
لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل ، ولا تقدر الخلائق الإحاطة بالغيب حتى في عالم التصور.
ويمكن تقسيمه إلى أقسام منها :
الأول : علم الغيب الدنيوي وينقسم إلى شعب :
الأولى : الغيب بخصوص الأمم السابقة ، وفي قصة يوسف عليه السلام ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ]( ).
الثانية : علم الغيب أيام التنزيل ، الذي لم يكن الناس يعلمون به لولا آيات القرآن كما في قوله تعالى [غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ]( )، إذ تدل الآية على اقتران علم الغيب ببيان المشيئة الإلهية المطلقة وأن نصر الروم على فارس تم بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
وعن عبد الله بن مسعود (قال : كان فارس ظاهرين على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم . فلما نزلت [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ]( ).
قالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق قالوا : هل لك إلى أن نقامرك؟ فبايعوه على أربعة قلائص إلى سبع سنين ، فمضى السبع سنين ولم يكن شيء .
ففرح المشركون بذلك وشق على المسلمين . وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم؟
قالوا : دون العشر .
قال : اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل .
قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك ، وأنزل الله [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ]( ) إلى قوله وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ( )، وقوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) وقوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالثة : علم الغيب في القادم من السنين والأحقاب ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( )، ومنه قوله تعالى [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ]( ).
الثاني : علم الغيب الأخروي وهو ينقسم إلى أقسام ومواطن كثيرة منها :
الأول : عالم القبر .
الثاني : البعث من القبور .
الثالث : مواطن الحساب .
الرابع : الشفاعة .
الخامس : الحوض .
السادس : الصراط .
السابع : الميزان .
الثامن : الجزاء.
قانون عجز الناس عن إحصاء النعم
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الحياة الدنيا دار خلافة الإنسان في الأرض وهبط إليها آدم وحواء من الجنة وعندهم القدرة على الإنجاب والتكاثر وليس من خلق في الأرض يجهز عليهما ليقتلهما ويقطع نسلهما قبل الولادة ، والنشأة.
وهو من الشواهد على تضمن قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الوعد والعهد والضمان من عند الله عز وجل بحفظ آدم وحواء وذريتهما ، ولم ينخرم هذا الحفظ بقتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل .
(قال ابن عباس : لم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً)( ).
وهل سلامة آدم وحواء من القتل أو الموت إلى أن كثرت ذريتهما من مصاديق آية الخلافة أعلاه ومن النعمة الإلهية ، الجواب نعم .
وهل هذه السلامة نعمة على خصوص آدم وحواء وأبنائهما الصلبيين أم على الناس جميعاً ، الجواب هو الثاني .
ومن سنن الإيمان إقرار الناس بالعجز عن إحصاء كل من :
الأول : نعم الله عز وجل على الناس عامة .
الثاني : نعم الله على المسلمين .
الثالث : نعم الله على كل إنسان .
الرابع : قانون عجز الناس عن الإحاطة بعلم الغيب سواء الدنيوي أو الأخروي فلا يحيط بعلمه إلا الله وحده [وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ]( ).
وعلم الإحصاء القرآني من اللامتناه من إعجاز القرآن المتصل والمتجدد إلى يوم القيامة ، وهو من عجائب القرآن إذ ورد (عن الحارث الأعور قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت عليّاً فأخبرته ، فقال : أوقد فعلوها؟
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟
قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله .
وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس منه الألسن ، ولا يخلق من الرد .
ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا [إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد] ( )، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)( ).
فيطل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولا تنقضي عجائبه) كل يوم على أهل الأرض تدعوهم للوفاق مع القرآن واللجوء إليه ، والصدور عنه ، والإنتفاع منه.
ولئن تصدر أجزاء من هذا السِفر وغيره في موضوع مخصوص فانها كالقطرة في البحر من علوم القرآن ولكنها إطلالة كريمة واستقراء وتحقيق ، وتوثيق مبارك وجهد علمي ، وإضاءة على كنوز القرآن وهو من مصاديق خاتمة الحديث أعلاه ، في الدعوة إلى القرآن ، والهداية إلى صراط مستقيم.
وهل يحول الإحصاء القرآني دون الفتنة ، الجواب نعم ، لأنه منهاج وسبيل صلاح ، ومانع من الخلاف.
وعن (النبي صلى الله عليه وآله وسلم : زين الله السماء بثلاث: بالشمس، والقمر، والكواكب، وزين الأرض بثلاث: بالعلماء، والمطر، وسلطان عادل)( ).
ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العلماء بصيغة الجمع ، وكذا المطر اسم جنس ، بينما ذكر السلطان العادل بصيغة المفرد لبيان موضوعية الحكم وقراراته في الصلاح وبسط العدل ونشر الأمن .
نداءات القرآن
من إعجاز القرآن كثرة الجهات التي يتوجه إليها النداء القرآني ، وعدد المرات لكل نداء منها ، وموضوع هذا النداء والغاية منه التي تتجلى بالهداية العامة والإصلاح ومنها :
ت النداء عدد المرات منها
1 يَا أَيُّهَا النَّاسُ 20 منها قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ]( ).
ومع ورود سورة كاملة باسم الزلزلة وابتداؤها بعد البسملة بقوله تعالى [إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا]( )، فانه لم يرد في القرآن (زلزلة) بالتنكير أو التعريف إلا في الآية أعلاه من سورة الحج.
2 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا 89 وأول آية منها في نظم القرآن هي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ( ).وآخر آية منها [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
3 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ 13 ومنها [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
4 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ 1 وهو قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا] ( )
5 يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ 1 وهو قوله تعالى [وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ]( ).
6 يَا أَهْلَ الْكِتَابِ 12 منها [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ]( )،[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ] ( )
7 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا 1 وهو قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] ( )
8 قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ 1 وهو قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ] ( )
نزول الملائكة
لقد تفضل الله عز وجل على الناس بالخلافة في الأرض ومخاطبة وإشعار الملائكة بالأمر [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) لينزل الملائكة إلى الأرض لإعانة الناس في عبادة الله ، ودفع البلاء عنهم ، ولكتابة الحسنات والسيئات وحضور مجالس ذكر الله.
إذ (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لأهل ذكر الله أربعاً . ينزل عليهم السكينة ، وتغشاهم الرحمة ، وتحف بهم الملائكة ، ويذكرهم الرب في ملأ عنده) ( ).
وينزل الملائكة بالوحي للأنبياء ، ومن الملائكة من يكون حضوره دائماً في الأرض مثل ملك الموت الذي يقبض الأرواح .
ومن مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام وجوه :
الأول : نزول الملائكة لنصرته في ميدان القتال.
الثاني : سرعة نزول الملائكة ، فليس ثمة فترة بين دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعشية وصباح يوم بدر ،وبين نزول ألف من الملائكة لنصرته كما في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثالث : كثرة عدد الملائكة الذين ينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قانون المدد غير المتناه
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء بالرسالة والتنزيل ، وأعانهم بالمدد من عنده لإستدامة عبادة الله وحده في الأرض ، والدفاع بوجه المشركين ، والحرب على مفاهيم الوثنية والضلالة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت لأن [الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
ومن الأمور اليقينية التي تفيد القطع أن نزول ثلاثة آلاف من الملائكة في معركة أحد أمر كاف للمسلمين في قتالهم الغزاة من مشركي قريش ومع هذا جاء وعد كريم من الله عز وجل بمدد ملكوتي، لم تر الأرض مثله بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : قانون تحدي الكفار والمشركين.
الثالثة : قانون بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين.
الرابعة : بيان الصلة والتداخل بين أهل السماء والأرض.
الخامسة : مع أن الملائكة ينزلون بأسباب الرحمة فانهم ينزلون في ميادين المعركة لقتال الكفار، لأن هذا القتال وقانون إستئصال الكفار رحمة بأهل الأرض جميعاً.
السادسة : قانون دعوة أجيال المسلمين للتحلي بالصبر والتنزه عن الإرهاب.
لذا قال تعالى في الآية التالية للآية أعلاه [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( )، لبيان أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى ، وأنه سبحانه جمع لنبيه وأصحابه في واقعة واحدة أموراً :
الأول : المدد الملكوتي النازل من السماء ، فقد كان جبرئيل ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي حتى إذا جهّز المشركون الجيوش لقتاله وقتله وأصحابه نزلت أفواج الملائكة للذب والدفاع عنهم ، وفيه شاهد على حرمة الإرهاب لأنه خلاف الشكر لله عز وجل على نعمة المدد السماوي.
الثاني : سلامة جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهزيمة مع أن جيش المشركين أكثر من أربعة أضعاف جيش المسلمين ، إذ كان عدد المشركين يوم معركة أحد ثلاثة آلاف ، وعدد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان سبعمائة بعد إنخزال ورجوع ثلاثمائة من وسط الطريق بين المدينة وجبل أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول .
لقد نزل القرآن بالبشارة بالنصر للمسلمين بشرط الصبر ، وبه أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ، ولكن تخلف عدد منهم في المدينة ولم يخرجوا للقتال.
(فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة ، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم.
فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم.
وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا ، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، ناصرهما وحافظهما.
وقرأ ابن مسعود : (والله وليهم) لأنّ الطائفتين جمع)( ).
الثالث : قانون نزول الملائكة مدداً يوم أحد بشارة السلامة من فتك مشركي قريش وقرب فتح مكة ، ومع هذا رضي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية ونزل القرآن بوصفه فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، وفيه دعوة للمسلمين في كل زمان بتقديم الصلح والموادعة وعدم اللجوء إلى العنف.
الرابع : قانون بعث السكينة والطمأنينة في قلوب المسلمين بالنصر .
قانون الإيمان بالملائكة
تعددت الآيات التي تتضمن الإخبار عن علم ورقابة وكتابة الملائكة لأعمال بني آدم ، لتكون هذه الآيات مجتمعة على جهات :
الأولى : البشارة للمؤمنين .
الثانية : الندب والبعث على العمل الصالح فالله عز وجل يعلم ما يفعله العبد من قبل أن يخلقه ، قال تعالى [وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] ( )ولكنه تفضل وجعل الملائكة شهوداً على الناس في الدنيا والآخرة .
ولا يحصى مصاديق الندب والبعث إلى العمل الصالح إلا الله عز وجل لوجوه :
الأول : كثرة مصاديق وأفراد هذا الندب بالنسبة لكل إنسان مؤمناً أو كافراً .
الثاني : بعث الله عز وجل المؤمن لعمل المزيد من الصالحات ، وبعث الكافر للندم والتوبة .
الثالث : أكثر مصاديق هذا الندب لا يعلم بها إلا الله عز وجل، فمنها ما هو ذاتي ، ومنها ما هي غيري لذا جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : الإنذار للذين كفروا ، والذين يرتكبون قبائح الأعمال، حتى وهم على الفاحشة والمعصية لإنزجارهم وغيرهم عنها .
وروى أن عبد الله بن عمر مرّ براعي غنم فقال له ، أعطنا شاة من غنمك .
فقال له : ليست لي .
فأراد عبد الله أن يختبره فقال له قل لصاحبها أكلها الذئب .
فأجاب الراعي : وأين الله .
ولما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإحسان قال (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ( ).
وقال (رجل: يا رسول الله، ما تزكية المرء نفسه؟ فقال: “يعلم أن الله معه حيث كان) ( ).
لقد نزل القرآن بالإخبار عن عالم الملائكة وبديع خلقهم ، وبه نزلت من قبل الكتب السماوية السابقة.
(وعن ابن عباس أن جبرئيل وقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وعليه عصابة خضراء قد علاها الغبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما هذا الغبار الذي أرى على عصابتك ؟ قال: إني زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن، فهذا الغبار الذي ترى مما تثير بأجنحتها .
وعن ابن عباس قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وآله مجلسا فأتاه جبرئيل فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله واضعا كفيه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وآله .
فقال: يا رسول الله حدثني عن الاسلام .
قال: الاسلام أن تسلم وجهك لله عزوجل، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت.
فقال: يا رسول الله حدثني عن الايمان، قال: الايمان أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والموت والحيوة بعد الموت، وتؤمن بالجنة والنار والحساب والميزان، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت.
قال: يا رسول الله حدثني ما الاحسان ؟ قال: الاحسان أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم يكن تراه فإنه يراك) ( ).
وعن جابر (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة)( ).
ترى لماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أذن لي) المختار أن الخبر من علوم الغيب وهو خارج التصور الذهني للناس ، وقد لا يصدقه بعضهم فاذن الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث عنه لبيان فضل الله في تلقي الناس له بالقبول والتصديق ، والإستصحاب الأذن الإلهي لأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن عالم السموات وعلم الغيب .

أسماء الملائكة في القرآن
لا يحصي عدد الملائكة وكثرتهم إلا الله عز وجل ، ولا يحيط بأسمائهم وأفعالهم علماً إلا الله سبحانه، وهذا من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )، لبيان أن آية خلق الله عز وجل للملائكة أكبر وأعظم .
ويتحدث القرآن عن قصة خلق آدم وأن أول من جرت مخاطبته لهم من المخلوقين هم الملائكة وفي الجنة ، وفيه بشارة لقاء وكلام المؤمنين معهم في جنة الثواب بعد إنقطاع الحياة الدنيا .
وقد ذكر القرآن أسماء بعض الملائكة للبيان والحجة والتصديق، ومنها:
الأول : اسم جبرئيل الذي ينزل بالوحي .
الثاني : ميكائيل ، قال تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]( ) .
الثالث : مالك خازن النار ، وهو رئيس خزنة النار وهو قاطب عابس لا يضحك ، ورد ذكر صفته في حديث الإسراء ، إذ ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث اسري به لم يمر بخلق من خلق الله إلا رأى منه ما يحب من البشر واللطف والسرور به حتى مر بخلق من خلق الله، فلم يلتفت إليه ولم يقل له شيئا، فوجده قاطبا عابسا، فقال: يا جبرئيل ما مررت بخلق من خلق الله إلا رأيت البشر واللطف والسرور منه إلا هذا، فمن هذا.
قال: هذا مالك خازن النار، وهكذا خلقه ربه، قال: فإني احب أن تطلب إليه أن يريني النار فقال له جبرئيل (عليه السلام): إن هذا محمد رسول الله وقد سألني أن أطلب إليك أن تريه النار، قال: فأخرج له عنقا منها فرآها، فلما أبصرها لم يكن ضاحكا حتى قبضه الله عزوجل) ( ).
كما ورد ذكر ملك الموت بصفته ، قال تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ]( ).
لقد ذكر الله عز وجل في القرآن ملائكة متعددين بصفاتهم ووظائفهم ، وفيه دعوة للناس للتسليم بالعجز عن إحصاء كل من :
الأول : عدد الملائكة .
الثاني : أماكن سكن الملائكة .
الثالث : كثرة تسبيح الملائكة .
الرابع : وظائف كل ملك .
الخامس : سنخية تقوى الملائكة .
السادس : أعمار الملائكة .
السابع : ما يحصيه الملائكة من أعمال بني آدم ، وهو معشار ما يحصيه الله عن الناس وأحوالهم .
قانون العجز عن إحصاء الملائكة
وهناك مسائل :
الأولى : قانون عجز الناس عن عدّ وإحصاء الملائكة ، وهل تستطيع الملائكة إحصاء عددها ، الجواب لا ، فكل سماء من السموات السبع لها سكانها من الملائكة ، والله وحده يعلم بعددهم وكثرتهم ووظائفهم وهيئاتهم وصورهم ، وتبدل هذه الهيئات والصور وأوانه وأسبابه وكيفيته وأثره.
الثانية : قانون إستمرار صلة الملائكة بالناس يوم القيامة ، وهذه الصلة رحمة من عند الله عز وجل ، وعون للناس في أمور الدين والدنيا .
الثالثة : عجز الملائكة عن إحصاء عددها لكثرتهم والتباعد بين سكناهم في السموات السبع .
لقد ملأ الله عز وجل السموات بالملائكة وهم منقطعون إلى التسبيح والتهليل وتقديس مقام الربوبية .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجارون إلى الله ، لوددت أني كنت شجرة تعضد)( ).
ترى ما هي النسبة بين جنود الله في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( )، وبين عدد الملائكة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، ومع عجز الخلائق عن معرفة عدد إحصاء الملائكة ولو على نحو الإجمال والتقريب فان جنود الله أضعاف عدد الملائكة.
وهل تسبيح السموات والملائكة من جند الله أم أن القدر المتيقن من جند الله العاملون في طاعة الله.
المختار هو الأول ، قال تعالى [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا]( ).
والمراد من الآية أعلاه تسبيح ذات السموات والأرض ، وكل بقعة فيها ، وليس خصوص سكانها لحمل الكلام العربي على ظاهره ، وحجية الظواهر القرآن وللنص إذ ورد (عن عبد الرحمن بن قرط : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى – كان جبريل عليه السلام عن يمينه ، وميكائيل عليه السلام عن يساره ، فطارا به حتى بلغ السموات العلى ، فلما رجع قال : سمعت تسبيحاً في السموات العلى مع تسبيح كثير ، سبحت السموات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى)( ).
قانون دفاع الملائكة عن الناس
التصديق بخلق وشأن الملائكة عند الله ركن الإيمان فيجب الإقرار بوجود الملائكة وأنهم من خلق الله ، وعبيد له ومنقادون لأمره ، قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ]( ).
ومن عظيم خلق وشأن الملائكة تدوينهم لأعمال بني آدم وإطلاعهم على أفعالهم ولم ينتقموا من المجرم والمسئ لأن وظيفتهم تدوين الأعمال ، ومن وظائفهم أيضاً حفظ الناس برهم وفاجرهم ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ] ( ).
لم يرد لفظ [لَحَافِظِينَ] [كَاتِبِينَ] إلا في الآيتين أعلاه ، وهل يختص الخطاب فيهما بالمؤمنين ، الجواب لا ، إذ يتوجه للناس جميعاً ، وتقدير الآية : يا أيها الناس إن عليكم لحافظين وهل يشمل الكفار ، الجواب نعم .
وتدل عليه الآية السابقة [كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ] ( ) ويكون الحفظ على المؤمنين من باب الأولوية القطعية ، ولأصالة العموم.
ولا يعلم منافع حفظ الملائكة للناس إلا الله عز وجل ، لذا فهو سبحانه وحده الذي يحصي صيغ وكيفية هذا الحفظ من جهات :
الأولى : حفظ كل إنسان بصرف الضرر وأسباب الهلاك عنه إلى حين حلول أجله ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ) ولم يرد لفظ [مُعَقِّبَاتٌ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الثانية : حفظ الجماعة والأسرة ، والحوادث التي تقع في البيوت سواء كانت ريفية ووجود حيوانات وحشرات ضارة ،أو في الحضر والمدن والوسائل الحديثة في المواد المنزلية والكهربائية ،وفي الطبخ والتدفئة والتبريد ونحوه .
الثالثة : ملائكة يمنعون الناس من الفتنة العامة والهلكة بأمر من عند الله عز وجل وأسباب ظاهرة وخفية .
وهل ينفذ الملائكة إلى قلوب الناس بما يؤدي إلى حفظهم ، المختار لا ، فلا سلطان على القلوب إلا لله عز وجل ، وهو وحده الذي يعلم ما يختلج فيها ، ولا يحصي ما يطرأ على قلب الإنسان إلا الله عز وجل، وفي التنزيل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
الرابعة : حفظ عامة الناس من الزلازل والآفات الأرضية والسماوية خاصة وأن موضوع الآية أعلاه من سورة الرعد شامل لما قبل الإسلام من أيام أبينا آدم .
وعندما كان أهل الأرض أفراداً قلائل فحفظهم الله من السباع، ومن مكر إبليس وإرادته السوء بهم ، وهل نهي الله الناس عن إتباع خطوات الشيطان بقوله تعالى [وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( )من حفظ الله لهم ، الجواب نعم ، ولكنه لا يختص بحفظ الملائكة لبيان قانون حفظ الله للناس أعم من أن يختص بحفظ الملائكة لهم بقوله تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ] ( ).
الخامسة: حفظ الناس من الإنغماس في السيئات ، وإرتكاب الفواحش ، وعندما احتجت الملائكة عند إخبار الله لهم عن جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أجابهم سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل جعل الملائكة يصرفون الناس عن الفواحش والسيئات ، ويقربونهم إلى عمل الطاعات والقربات.
وفي قصة يوسف عليه السلام ورد (عن ابن عباس في قوله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قال : حَلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكفّ قد مُدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها : {إِنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِيْن كِراماً كاتِبِيْنَ يَعْلَمُوْنَ ما تَفْعَلون} .
قال : فقام هارباً وقامت،
فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد،
فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدّتْ فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ يُظْلَمُونَ} ( )،
فقام هارباً وقامت فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد،
فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته،
قال الله تعالى لجبريل (عليه السلام) : يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يُصيب الخطيئة،
فرأى جبريل عاضّاً على أصبعه أو كفّه وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟
فذلك قوله تعالى {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ}( ))( ).
وعلى فرض صحة سند هذا الخبر وموضوعه ، فانه لا يتعارض مع عصمة الأنبياء لعدم وقوع الفاحشة، بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
ولا يستطيع إحصاء ما صرف الله عز وجل عن الناس من الفواحش إلا هو سبحانه ، وهل يختص هذا الصرف بالمؤمنين ، الجواب لا ، لوجوه :
الأول : قانون إقتران خلافة الإنسان في الأرض بالحفظ من عند الله .
الثاني : قانون صرف الفواحش من خصائص الخلافة في الأرض .
الثالث : قانون وقاية الناس من الفواحش من مصاديق رحمة الله بالناس ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] ( ).
و(عن جندب بن عبد الله البجلي قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ، ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم نادى : اللهمَّ ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد حظرت رحمة واسعة ، أن الله خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنّها وإنسها وبهائمها ، وعنده تسعة وتسعون) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الملائكة عوناً ومدداً للناس تدافع عن الفرد والجماعة والأمة ضد الشيطان وجنوده ، ولمنع مقدمات الظلم والفاحشة ، ومن العصمة إمتناع المعصية .
ذكر الملائكة في السنة النبوية
لقد ورد ذكر طائفة من الملائكة في السنة النبوية منهم :
الأول : جبرئيل وهو من رؤساء الملائكة ، وقد قام بالنزول بلقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مدى ثلاث وعشرين سنة ، ، ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة ، وعشر سنوات بعدها ، ولا يحصى عدد مرات نزول جبرئيل والملائكة إلى الأرض إلا الله عز وجل ، ونسأله تعالى أن ينزلوا بالرحمة للمؤمنين والناس جميعاً ، وأن يصرف عنهم ويلات الحروب ، وشرور الأسلحة الفتاكة .
ومن مصاديق إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيته لجبرئيل وصورته التي خلقه الله عز وجل بها ثلاث مرات :
الأولى : و(عبد الله بن مسعود : لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال : رأى جبريل عليه السلام بحراء ، له ستمائة جناح قد سد الأفق)( ).
الثانية : لقد سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الأرض جبرئيل أن يراه بهيئته وصورته فاستوى جبرئيل في أفق المشرق فملأه .
وقد نزل جبرئيل ومعه خمسمائة من الملائكة وميكائيل ومعه خمسمائة من الملائكة أيضاً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثالثة : ليلة المعراج عند سدرة المنتهى ، قال تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى] ( ) وعن عبد الله (ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح ينفض من ريشه التهاويل والدر والياقوت)( ).
وقد سلمت وكلمت الجمادات النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم و عن الإمام علي عليه السلام (كنا بمكة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إلى بعض نواحيها ما استقبله شجرة و لا جبل إلا قال له : السلام عليك يا رسول الله.
وعن جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه و سلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قيل : إنه الحجر الأسود.
وعن عائشة : لما استقبلني جبريل عليه السلام بالرسالة جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يارسول الله.
وعن جابر بن عبد الله : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له)( ).
وعن عمر بن الخطاب (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون فقال: اللَهم أرني آية لا ابالي مَنْ كذَّبني بَعْدَهَا من قريش، فقيل له: ادع هذه الشجرة فدعاها فأقبلت تجر عروقها تقطعها، ثم أقبلت تجز الأرض حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قالت: ما تشاء ؟ ما تريد ؟ قال: ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها، فقَال: والله ما أبالي مَنْ كَذَبني مِن قريش)( ).
وفي حديث عبد الله بن مسعود (آذنت النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا له شجرة .
وعن مجاهد عن ابن مسعود في هذا الحديث : إن الجن قالوا : من يشهد لك ؟ قال : هذه الشجرة تعالى يا شجرة فجاءت تجر عروقها لها قعاقع)( ).
والمشهور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبرئيل بهيئته الحقيقية مرتين .
إن رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل بصورته الحقيقية من مختصاته صلى الله عليه وآله وسلم فلم يره أحد من الناس غيره بهذه الهيئة الكريمة .
الثاني : الملك ميكائيل الموكل بالقطر ونزول المطر وتوزيعه وأوان سقوطه ومواضعه وعدد قطراته .
الثالث : الكرام الكاتبون ، لقانون كل إنسان عليه ملكان ملك على اليمين يكتب الحسنات ، وملك على الشمال يكتب السيئات .
و(دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك .
قال : ملك على يمينك يكتب حسناتك، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب.
قال : لا، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثاً قال : نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عزّ وجلّ وأقل استحياء منا يقول الله {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}( ) .
وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك.
وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلاّ الصلاة على محمد {صلى الله عليه وآله وسلم} وآله، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك .
وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار؛
لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل( ).
قتادة وابن جريج : هذه ملائكة الله عزّ وجلّ يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، وذكر لنا أنّهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح.
وعن همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} قال : يتعاقبون فيكم،
الرابع : في قوله تعالى [إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟
قالوا : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) ( ).
الخامس : ومن الملائكة سائحون يتتبعون مجالس الذكر .
السادس : منكر ونكير الموكلان بعذاب القبر .
السابع : خزنة الجنة ورئيسهم رضوان .
الثامن : خزنة النار ورئيسهم مالك .
و(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون بالطعام ، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة ، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد ، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم ، وإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم .
فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيدعون خزنة جهنم إن { ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } ( ).
فيقولون { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}( ) .
فيقولون ادعوا مالكاً فيقولون {يا مالك ليقض علينا ربك}( ) .
فيجيبهم {إنكم ماكثون}( ) فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم ، فيقولون {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}( ) فيجيبهم {اخسئوا فيها ولا تُكَلِّمون}( ) فعند ذلك يئسوا من كل خير ، وعند ذلك أخذوا في الزفير والحسرة والويل) ( ).
ومن خصائص الكتاب والسنة ذكر الملائكة وأحوالهم قبل خلق آدم وبعده وذكر وظائفهم في الآخرة ، وهو مما جحد به كفار قريش.
ورد عن ابن عباس (لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل : لقريش ثكلتكم أمهاتكم اسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم ألدّهم أي الشجعان أفتعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم) ( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال (من أراد ان ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم { عليها تسعة عشر }( ) وهم يقولون في كل أفعالهم : بسم الله الرحمن الرحيم فمن هنالك هي قوتهم وببسم الله استضلعوا) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً إلى رحمته وعطائه وإحسانه وفضله تعالى ، وهذه الحاجة ضرورة للإنسان ، وتعجز الخلائق عن إحصاء مصاديق إمتناع استغناء الناس عنها مجتمعة ومتفرقة ، كما أن حاجة الناس لها تكون على نحو الإنفراد والإجتماع بمعنى يحتاجها الفرد الواحد ، وإن كان رسولاً نبياً ، وتحتاجها الطائفة والأمة والناس جميعاً .
لذا تفضل الله عز وجل ووجه خطاباته في القرآن إلى الناس جميعاً ، ومنها في المقام قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ), ومنها قوله تعالى [إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا] ( ).
الإيمان بالكتب السماوية
يجب الإيمان بالكتب السماوية النازلة من عند الله عز وجل وهي التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والقرآن ، كما نزل القرآن بلزوم الإيمان بالصحف التي أنزلت على الأنبياء ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( ).
لقد جعل الله عز وجل الكتب السماوية صلة بينه وبين الناس جميعاً ، وهل اختص الإنتفاع منها بالذين آمنوا من أيام أبينا آدم وإلى اليوم وحتى يوم القيامة ، الجواب لا .
إنما انتفع الناس جميعاً منها ، ولكن انتفاع المؤمنين هو الأكثر والأحسن ، لأنه نفع بالمباشرة والذات وبواسطة الغير ومنه الهدى ، وهو النفع العظيم في الدنيا والآخرة .
أما غيرهم فانتفع منها بالواسطة وبمراتب أقل وبخصوص الدنيا ، ومنها النعم العامة التي تأتي للناس بواسطة أهل الإيمان ، قال تعالى [أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا]( ).
ومن معاني الإيمان بالكتب الإقرار بنزولها من عند الله ، ووجوب العمل بمضامينها ، ونزل القرآن مصدقاً للكتب السماوية السابقة ليبقى هذا التصديق والشهادة السماوية للإنجيل والتوراة بالنزول من عند الله لقانون بقاء القرآن سالماً من التحريف إلى يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
ومنه الإيمان بالأنبياء والرسل الذين بعثهم الله [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( )، وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسول، قال تعالى [رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
ولا يحصي منافع الكتب السماوية إلا الله عز وجل منها:
الأول : تثبيت عقيدة التوحيد في الأرض .
الثاني : توارث سنن عبادة الله بين الناس .
الثالث : الأخوة الإيمانية بنزول الكتب السماوية .
الرابع : إصلاح المجتمعات ، وتهذيب المنطق ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ).
الخامس : الكتب السماوية عون ومدد للأنبياء .
السادس : الفصل بين الناس بالإيمان أو عدمه .
السابع : إرادة الثواب للذين صدقوا ويصدقون ببعثة الأنبياء ، والعقاب للذين انكروا النبوة والتنزيل .
والإيمان باليوم الآخر من أركان الإسلام ، وأن الله عز وجل يبعث الناس من القبور للحساب على أعمالهم في الدنيا ثم الجزاء أما للجنة وأما للنار.
و(عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من صاحب كنز لايؤدي زكاته إلاّ حُمي عليه في نار جهنم ، فجعل صفائح فيكوي بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ، ثم يرسله أمّا إلى الجنة وأمّا إلى النار)( ).
إحصاء أفراد الحكمة بين الناس
جاء ذكر الحكمة في قوله تعالى [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ] ( )، على نحو الماهية المجردة وبشرط لا، أي لم يقارنها شيء من العوارض والمشخصات والشرائط فضلاً من الله تعالى، وهذا الفضل مركب من وجهين:
الأول: فضل الله على الذي يؤتى الحكمة بالصلاح وحسن السمت.
الثاني: فضــل الله على الآخــرين بما يترشح من الحكمة وفعلها وفاعلها عليهم من الفيض والبركات .
وليكون سبباً لهدايتهم وموضوعاً للاقتداء، فمن يحاكيه في فعله فكأنه أوتي الحكمة بالواسطة.
وورد لفظ [خَيْرًا كَثِيرًا]مرتين في القرآن ، أحدهما في الآية أعلاه والآخر بقوله تعالى [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : ما هي النسبة بين فضل الله والخير .
الثانية : ما هي النسبة بين فضل الله والحكمة .
المختار هو نسبة العموم والخصوص في المسألتين أعلاه ، ففضل الله أعم ، ولا تستطيع الخلائق إحصاء الخير والحكمة كفرعين من فضل وإحسان الله ، لبيان عجزها عن إحصاء فضل الله من باب الأولوية القطيعة .
ومن الحكمة قانون التدبر في الأمور وعواقبها ، ومنها قانون حضور العمليات الحسابية الأربع (الجمع ، الطرح ، الضرب ، القسمة ) في العبادات والمعاملات ، بما فيه الصلاح والنفع الخاص والعام ، ومنها معرفة مراتب التضاد في عالم الأفعال وانتهاج الضد الحسن ، والتضاد بين القرض والربا ، قال تعالى [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) .
ومن الحكمة قانون التفقه في الدين ، ومعرفة معالم الإيمان ، وسنن الصلاح ، ويدل قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، على وجوب التفقه في الجملة لمعرفة ما جاء به النبي وما نهى عنه ، ويدخل في علم الإحصاء أيضاً .
ولا يعلم ولا يحصي أفراد الحكمة التي عند الناس إلا الله عز وجل ، لبيان قانون إنفراد الله بالعلم بما يهب ويعطي ، ومن أسمائه تعالى الوهاب ، قال تعالى [أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ]( ).
إحصاء النعم الواردة في القرآن
الحمد لله الذي جعل القرآن ضياء سماوياً مصاحباً للناس ، ونوراً في الظلام والظلمات ، يدرك الإنسان معانيه بأدنى تدبر .
ويتجلى عجز الناس عن إحصاء النعم الواردة في القرآن بتنزيله وأسباب نزوله ومضامينه القدسية ، ومنافعه ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ).
ليكون من معاني البرهان في المقام برهان عجز الناس عن إحصاء نعم الله عليهم .
ومن معاني النور بخصوص موضوع هذا الجزء وهو (علم الإحصاء القرآني غير متناهِ) على وجوه :
الأول : قانون عجز الناس عن إحصاء نعمة القرآن نور مبين .
الثاني : دعوة القرآن الناس لتعداد النعم الإلهية عليهم ، بعث على الشكر لله سبحانه على النعم.
وقد تقدم في الجزء التاسع والثلاثين بعد المائتين (قانون صيرورة نصر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسيلة ومناسبة لهلاك طائفة من الكفار وهداية طائفة أخرى منهم) ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
فهل كان الذين هلكوا كما في المشركين السبعين الذين قتلوا في معركة بدر مانعاً وبرزخاً دون إسلام طائفة أخرى منهم .
الجواب نعم ، خاصة وأن كثيراً من الذين قتلوا يومئذ كانوا رؤساء قريش والذين حرضوا على النفير ، والسير لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذريعة استيلائه على قافلة أبي سفيان ، وهو أمر لا أصل له .
كما في صدّ أبي جهل ونحوه الناس عن الإسلام ، وإصرارهم على تجهيز الجيوش ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله هو وأصحابه .
ليكون من معاني وتقدير الآية أعلاه : ليقطع طرفاً من الذين كفروا مقدمة لإسلام طائفة منهم بأزالة الموانع دون إسلامهم وللتخفيف عن مسلمي مكة ، فالذين قاموا بتعذيبهم في رمضاء مكة قاتلوا يوم بدر فلم يعودوا إلى مكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] ( ) .
قانون إحصاء السكينة كعدد ورقم
من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، قانون محو العوائق التي تحول دون فعل الخير ، وتثبيت الموانع التي تكون برزخاً دون فعل السيئة وإرتكاب المعصية ، ولا يحصي كلاً من هذه العوائق والموانع إلا الله عز وجل ، ولا تملك الإمتناع عن الإمتثال لأمر الله عز وجل .
مع تجدد هذا القانون للفرد الواحد من الناس مسلماَ أو غير مسلم ، لتكون الحجة لله عز وجل على العباد يوم القيامة ، قال سبحانه [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
هناك مسألتان :
الأولى : هل يختص المحو ودفع البلاء بالوقائع الكبيرة أم يشمل الصغائر .
الثانية : هل تختص الآية بدفع البلاء أم تشمل جلب الغبطة والسعادة .
أما المسألة الأولى فيشمل محو المحن والبلاء ما كبر وصغر منه ، وهو الذي يدل عليه نفي الخوف والحزن عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات , وفي ثناء أهل الجنة على الله عز وجل ورد في التنزيل [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ]( ) ويصرف الله عز وجل الحزن عنهم في الدنيا .
فما صغر أو كبر من البلاء يسبب الحزن والكدورة فيدفعه الله عز وجل رحمة منه وجزاء للتقوى والخشية منه تعالى ، وفي التنزيل [وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ويقول أهل الجنة شكراً لله وثناء عليه [الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ]( ).
ولم يرد لفظ (يَمَسُّنَا) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وورد فيها مرتين .
وأما المسألة الثانية فيتضمن قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، جلب السعادة والسكينة والأمن للمنفقين قربة إلى الله تعالى.
ولا يحصي هذه السكينة إلا الله عز وجل وحده , وهل يكون إحصاؤها بالكم والكيف والعدد ، الجواب نعم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
فذات السكينة لكل فرد تصدق وأنفق في سبيل الله تكون عدداَ ورقماَ ، ولا يقدر على تحويلها إلى عدد ورقم إلا الله عز وجل ، مع بقاء هيئتها كماً وكيفاً ووزناً .
فيكون إحصاء السكينة عند الله عز وجل على وجوه :
الأول : قانون إحصاء السكينة بالكم .
الثاني : قانون إحصاء السكينة بالكيف .
الثالث : قانون إحصاء السكينة بالعدد .
الرابع : قانون إحصاء السكينة بالوجوه أعلاه مجتمعة.
وكذا بالنسبة لإحصاء السعادة والغبطة التي تأتي للمؤمن , فإن إحصاءها على الوجوه الأربعة أعلاه لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
ولم ينحصر موضوع الآية بدفع الحزن بل يشمل مجئ ضده وهي السعادة.
وقد يتفضل الله سبحانه ويمحو المصيبة لا لأن العبد عمل من الصالحات ما يستحق معه محو المصيبة بل ليترك ليومه وإلى الغد كي يأمر بمعروف أو يعمل صالحاً أو ينفق في سبيل الله تعالى ويكتب له ثواب الانفاق ولا يعلم علة وأسباب اللطف في إمهال الله عز وجل للعبد إلا الله عز وجل.
ولا يحصي ثواب ما سينفقه في سبيل الله إلا الله عز وجل وحده , وهو من علم الغيب الذي اختص الله عز وجل به نفسه.
ومن ثواب الإنفاق ومصاديق المحو والإثبات ان يدفع الله عنه مصائب اخرى مستحدثة، وان يفتح له أبواباً من الرزق وسبلاً للنجاة في الدارين ، قال تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
إحصاء الوحي
الوحي لغة هو الإعلام والإخبار بخفاء ، ويشمل الإشارة والإيماء ، أما في الإصطلاح فهو كلام الله تعالى خصّ به الأنبياء ، ومنه بيان الحكم الشرعي ، وهداية الأنبياء وأتباعهم إلى سبل صلاح الناس .
قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ] ( ) .
وقد تكرر لفظ [أَوْحَيْنَا] ثلاث مرات في آية واحدة بقوله تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ) ولا يعلم الذين ذكرتهم الآية أعلاه بصفة الأنبياء الموصى إليهم إلا الله عز وجل .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه وجوه :
الأول : قانون تقديم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الوحي مع أنه خاتم النبيين .
الثاني : الآية أعلاه شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثالث : استقلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر في باب الوحي .
الرابع : اقتران ذكر الأنبياء متعددين مع نوح عليه السلام مع أنه من الرسل الخمسة أولي العزم ، ولا يعلم عدد الأنبياء من بعد نوح إلا الله عز جل .
الخامس: ذكر إبراهيم وإسماعيل ، وأنبياء آخرين بالاسم ، وفيه تشريف وإكرام لهم .
ولا أحد يعلم منافع الوحي المتصلة والمتجددة إلا الله عز وجل ،ويمكن القول بقانون منافع الوحي يومية متجددة منذ أن [عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) ليأتي نزول القرآن فيعمل ملايين الناس في كل ساعة بالوحي والتنزيل في العبادات ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا يحصي عدد الذين يعملون بالوحي وتلاوة آيات القرآن كل يوم ، وأداء الصلوات اليومية إلا الله عز وجل .
والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، كما لا يحصي عدد نزول الملائكة بالوحي للأنبياء إلا الله عز وجل وحده ، وكان جبرئيل يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهيئة البشر ، فمثلاً يأتي على صورة الصحابي دِحية الكلبي وكان جميل الوجه ، ويأتي على صور أخرى ، ورآه النبي مرتين بهيئته التي خلقه الله عز وجل بها .
قانون إحصاء الجمل الخبرية في القرآن
يمكن استقراء مصاديق هذا القانون بإحصاء الجمل الخبرية في القرآن , وقد تكون في الآية الواحدة أربعة أو أكثر من الجمل , ثم تؤخذ كل جملة على نحو مستقل , هل تتضمن الحكم سواء في منطوقها أو مفهومها.
ليتجلى الإعجاز والحجة والبرهان ومصاديق [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ), ومجئ الآية بصيغة الخبر وإرادة معنى الأمر لا يمنع من إفادة الخبر أيضاَ.
وكذا الإحصاء في القرآن لكل من :
الأول : الجملة الإنشائية .
الثاني : الجملة الشرطية ، والنسبة بينها وبين الإنشائية عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الشرط من أساليب الإنشاء .
الثالث : إحصاء الأوامر في القرآن فمثلاً قوله تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( )، وهو شطر من آية وفيه عدد من الأوامر وكل أمر ينهى ويمنع من المعصية في منطوقه ومفهومه وهي:
الأولى : إقامة الصلاة .
الثانية : إيتاء الزكاة .
الثالثة : إطاعة الله .
الرابعة : إطاعة الرسول .
الخامسة : أختتمت الآية بجملة خبرية وهي الأخرى بشارة وإنذار ، واخبار بأن الله يعلمه ويؤاخذ على الظلم والجور عاجلاً وآجلاً.
ليكون من إعجاز الآية القرآنية في المقام إجتماع الأمر والخبر في النهي عن الظلم والتعدي والبطش .
الرابع : إحصاء النواهي في القرآن وبدلالة المنطوق والمفهوم .
الخامس : إحصاء أسباب نزول الآيات ، وتنقيحه ، فقد يرد من التابعين أو تابعي التابعين ذكر سبب مخصوص لنزول عشر آيات متفرقة ، وهو بعيد .
السادس : إحصاء الروايات الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير القرآن ، وقد صدر لي قبل ثلاثين سنة جزءان من كتابي الموسوم (تفسير النبي (ص) للقرآن ).
وتتصف الجملة الخبرية في القرآن بأنها حق وصدق ،فهي كلام الله [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا] ( ) ومن أغراضها البيان والمثال والأمر ، والبعث على الفعل أو الإستغفار ، أو التضرع مثل [رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي] ( ) ومنها الثناء على المؤمنين والتبكيت للكافرين .
الإحصاء في آية من سورة يوسف
من أسرار سورة يوسف بعثها الشوق في النفوس للإنصات لها والتدبر في مضامينها والحديث الخاص والعام بها ، لاسيما وأنها تتضمن الإبتلاء الشديد في بيت النبوة والإغواء والإفتتان والإعجاز حتى في عالم الرؤيا ومجئ الرؤيا الصادقة للملك الكافر بفضل من الله عز وجل.
وموضوع هذا البحث قوله تعالى [وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )، واختلف من القائل في الآية أعلاه على وجهين :
الأول : إنه يوسف عليه السلام ، وعليه أكثر المفسرين.
الثاني : إنها امرأة العزيز.
و(قيل بل هو من كلام امرأة العزيز عن الجبائي أي ما أبرىء نفسي عن السوء و الخيانة في أمر يوسف) ( ).
أي ذلك الذي قلت ليعلم أني لم أكذب عليه في حال الغيب ، وصدقت فيما سألت عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك فاني خنته حين قذفته وسجنته تريد الإعتذار مما صدر ، وهذا التفسير هو المستفاد من كلام القمي حيث قال في قوله تعالى [لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ] ( )، أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل إن ربي غفور رحيم يغفر)( ).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قرأ هذه الآية {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال : لما قالها يوسف عليه السلام ، قال له جبريل عليه السلام : يا يوسف ، اذكر همك . قال {وما أبرئ نفسي}( ))( ).
وذكر البيهقي الحديث باسناده يرفعه ، كما ذكر هذا الحديث عن الحسن البصري ولم يرفعه ، إذ قال الطبري (حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، وزيد بن حباب ، عن حماد بن سلمة، عن ثابت ، عن الحسن:(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)، قال له جبريل: اذكر همَّك ، فقال وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ( ).
وعن (ابن عباس قال: لما جمع الملك النسوة فسألهن: هل راودتن يوسف عن نفسه [قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ]( ) قَالَ يُوسُفُ [ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ]( ) .
قال: فقال له جبريل، عليه السلام: ولا يوم هممت بما هممت به.
فقال وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ( ).
أما ابن حيان فقد نسب في تفسيره البحر المحيط القول إلى امرأة العزيز وقال (ومن ذهب إلى أن قوله : ذلك ليعلم إلى آخره ، من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله ، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف.
فقال ابن جريج : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا الكلام متصل بقول يوسف : إن ربي بكيدهن عليم) ( ).
ولم يثبت هذا التقديم والتأخير ، والأصل عدمه .
وابن جريج توفي سنة 150 وقد ينفرد بقول لم يقل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة والصحابة والتابعون فليس بحجة ، فمع وثاقة الرجل إلا أنه يقول برأيه احياناً في التفسير.
قال الذهبي (ولم يطلب العلم إلا في الكهولة، ولو سمع في عنفوان شبابه لحمل عن غير واحد من الصحابة. فإنه قال: كنت أتبع الأشعار والعربية والأنساب حتى قيل لي: لو لزمت عطاءً فلزمته ثمانية عشر عاماً)( ).
ويكون الإحصاء المتعدد في هذه الآية من جهات :
الأولى : عدد الذين قرأوا هذه الآية .
الثانية : عدد الذين استمعوا لهذه الآية من المسلمين ، ومن أهل الكتاب، ومن الكفار .
الثالثة : عدد المسلمين الذين قرأوا هذه الآية في الصلاة .
الرابعة : الحوار والجدال والإحتجاج بهذه الآية .
الخامسة : عدد الذين اجتنبوا الفاحشة وانزجروا عن المعصية بسبب هذه الآية .
السادسة : عدد الذين سيتلون هذه الآية في الأحقاب القادمة.
السابعة : مضامين هذه الآية في الكتب السماوية السابقة.
الثامنة : إحصاء عدد الذين قرأوا هذه الآيات فندموا على إرتكابهم الفاحشة والمعصية وسألوا الله المغفرة ، وهذا الأمر تشترك فيه الكيفية النفسانية وأسباب التدبر والتوبة مما لم يعلمه إلا الله عز وجل .
التاسعة : إحصاء عدد الذين اتخذوا هذه الآية أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر .
العاشرة : التخفيف عن المسلمين والمسلمات بهذه الآية ،ومنع النساء من إكراه الرجال على المعصية وكذا العكس .
إذ يتبادر إلى الذهن أن الرجل هو الذي يعتدي ويغتصب المرأة، فجاءت آية البحث بأمر مغاير من غير أن ينسخ هذا المتبادر .
الحادية عشرة : الثواب العظيم في النشأتين في تلاوة هذه الآية والتصديق بنزولها من عند الله عز وجل .
قانون التخلف عن إحصاء النعم على الإنسان
لفظ (الإنسان) اسم جنس يشمل آدم وحواء وبني آدم إلى يوم القيامة ، ويحتمل عجز الخلائق في المقام وجوهاً :
الأول : قانون العجز عن إحصاء النعم على الناس على نحو العموم المجموعي .
الثاني : قانون العجز عن إحصاء النعم على المنتجبين من الناس.
الثالث : قانون العجز عن إحصاء النعم الشخصية على الإنسان الواحد، لتفيد الألف واللام في لفظ الإنسان أعلاه العهد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه في المقام ، لعجز الخلائق عن أدناها وهو الثالث أعلاه ليكون من باب الأولوية عجزها عما هو أكثر وأعم.
إلى جانب إنتفاع الكل من النعم الشخصية ، وكذا العكس بانتفاع الشخص من النعم على الجماعة والأمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
علم الأرقام الطويلة
من معاني الأعداد ، أنه من الأمور الروحانية ببيان الصلة بين العدد وذات الشئ ، ويسمى أيضاً (علم معاني الأعداد ) وقورن قديماً بالتنجيم ، ولا أصل لهذا العلم ، وجعلوا لعيسى عليه السلام رقم (888 ) ، وأن الرقم (8) يرمز إلى الأبدية .
وفي الحساب والعدد والإحصاء يزداد استعمال الناس للغة الأرقام ، وكثرة الأصفار في المعاملات مع تقادم الأيام ، وكثرة التجارات والأموال .
قال عبد الله بن الحسن لأبي العباس السفاح أيام حكمه : لم أر مائة ألف قط مجتمعة ، فقال له أبو العباس الان ، ثم أمر له بمائة ألف درهم .
ومن مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..] ( )، حاجة علوم الفلك للأرقام الكثيرة والأصفار العديدة على جهة اليمين لكثرة الأجرام السماوية ، ويلزم الإنسان تعلم الرياضيات لإدراك وفهم وتتبع الأرقام الطويلة مثل الترليون والف ترليون ونحوه ، وهل تعلم الملائكة بهذه الأرقام ، الجواب نعم ، ومع هذا فان الملائكة لا يحيطون بمعشار علم الله عز وجل في الأرقام اللامتناهية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ) ، وفي كل من :
الأول : الأشياء .
الثاني : الأكوان .
الثالث : صحائف الأعمال .
الرابع : الموجود والمعدوم .
الخامس: مصدايق وأفراد المشيئة .
السادس : الزراعات وأغصان الأشجار والثمار .
السابع :أصناف وأعداد الحيوانات والطيور والحشرات .
الثامن : عدد الحسنات ومضاعفاتها ، ويختص الله عز وجل في المقام من جهات كثيرة منها :
الأولى : عدد حسنات كل إنسان ومضاعفتها .
الثانية : فضل الله في أسباب ومقدمات هذه الحسنات .
الثالثة : حسنات كل أسرة وذرية وطائفة .
الرابعة : حسنات أهل كل ملة ، لتتجلى كثرة حسنات المسلمين. و(عن عبيد بن خالد قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين رجلين من صحابته ، فقتل أحدهما وعاش الآخر بعده ما شاء الله ، ثم مات فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعون له ، وكان منتهى دعائهم أن يلحقه الله بأخيه الذي قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيهما تقولون أفضل ؟
قالوا : الذي قتل قال : أما تجعلون لصلاة هذا وصيامه فضلا ، لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض ففضل الذي مات على الذي قتل) ( ).
الخامس : إحصاء مضاعفات الحسنات ، وأوان كل مضاعفة .
السادسة : إحصاء ما محاه الله عز وجل من عوائق الحسنات الذاتية والعرضية ، أما الذاتية فهو من مصاديق قوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ] ( ) وأما العرضية فالطارئة والأسباب الغيرية.
إحصاء مقدمات بعثة النبي محمد (ص)
لا يحصي نوايا الملوك والأمراء والوزراء لاحتلال مكة أو لهدم الكعبة إلا الله عز وجل ، وهو الذي صرفهم عنها ، ليكون هذا الصرف من المقدمات البعيدة والقريبة لبعثة النبي محمد بلطف من الله.
ومن البركة التي صاحبت وسبقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود مقدمات لرسالته ، وهل يمكن القول بقانون لكل بعثة نبي مقدمات ، الجواب نعم .
ولكن هذه المقدمات من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ويمكن القول بأن أكثر مقدمات رسالة هي مقدمات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحصى هذه المقدمات إلا الله عز وجل منها :
الأولى : المقدمات العقائدية بالبشارات في الكتب السماوية السابقة ، وبهداية الناس للتوحيد ، ونفرة بعض رجالات قريش من عبادة الأوثان.
الثانية : قانون المقدمات السياسية وأمور الولاية والحكم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها هلاك أبرهة وجنوده الذي عزم على هدم الكعبة ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( )، لبيان أن هذه الواقعة من آيات الملك الباهرة ، وشواهد حفظ الله عز وجل للبيت وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته.
الثالثة : قانون المقدمات الإقتصادية للبعثة النبوية وهل عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإتجار بأموال خديجة من هذه المقدمات ، الجواب نعم ، وهو من المقدمات القريبة الخاصة.
الرابعة : قانون المقدمات القبلية لبعثته .
الخامسة : قانون البشارات للبعثة النبوية المباركة .
السادسة : قانون المقدمات الإجتماعية والأخلاقية لبعثته والحاجة إليها ، ومنها وأد البنات ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
كما يمكن تقسيم هذه المقدمات تقسيماً آخر إلى قسمين :
الأول : المقدمات البعيدة من أيام أبينا آدم .
الثاني : المقدمات القريبة في زمانها ، ومنها رؤيا كسرى.
إحصاء أسباب تسمية النبي (ص)
الأولى : (وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَنْ أُمّهِ أُمّ عُثْمَانَ الثّقَفِيّةِ وَاسْمُهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ قَالَتْ : حَضَرْت وِلَادَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَرَأَيْت الْبَيْتَ حِينَ وُضِعَ قَدْ امْتَلَأَ نُورًا ، وَرَأَيْت النّجُومَ تَدْنُو حَتّى ظَنَنْت أَنّهَا سَتَقَعُ عَلَيّ)( ).
الثانية : كانت أمه آمنة بنت وهب تحدث بأنها حين حملت به لم تجد ما تجده الحوامل من ثقل ولا وحم( ).
والوحم أو الوحام ما تشتيه الحامل في الأسابيع والأشهر الأولى للحمل .
الثالثة : رؤيا أم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ رأت في المنام نوراً يخرج منها (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّي عبد الله في أُمّ الكتاب لخاتم النبييّن وإنّ آدم لمجدل في طينة وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما السلام قومه .
ورؤيا أْمي التي رأت إنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمّهات النبييّن)( ).
الرابعة : (عن ابن عباس قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عق عنده جده بكبش وسماه محمدا.
فقيل له: يا أبا الحارث ما حملك على أن تسميه محمدا ولم تسمه باسم آبائه ؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء ويحمده الناس في الأرض)( ).
ولم يسمه عبد المطلب من عنده ، وكان العرب ولا زالوا يسمون أبناءهم بأسماء الآباء ، والمشاهير الشجعان والكرام من الرجال ، ولكن عبد المطلب (رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنّ سِلْسِلَةً مِنْ فِضّةٍ خَرَجَتْ مِنْ ظَهْرِهِ لَهَا طَرَفٌ فِي السّمَاءِ وَطَرَفٌ فِي الْأَرْضِ وَطَرَفٌ فِي الْمَشْرِقِ وَطَرَفٌ فِي الْمَغْرِبِ ثُمّ عَادَتْ كَأَنّهَا شَجَرَةٌ عَلَى كُلّ وَرَقَةٍ مِنْهَا نُورٌ وَإِذَا أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَأَنّهُمْ يَتَعَلّقُونَ بِهَا ، فَقَصّهَا .
فَعُبّرَتْ لَهُ بِمَوْلُودِ يَكُونُ مِنْ صُلْبِهِ يَتْبَعُهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَيَحْمَدُهُ أَهْلُ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَلِذَلِكَ سَمّاهُ مُحَمّدًا)( ).
الخامسة : ورد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة لذا دعا الصحابي عبد الله بن سلام (إبني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما إنّ الله عزّ وجلّ قال في التوراة : إنّي باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون .
فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم)( )، فنزل قوله تعالى [وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ]( ).
إحصاء طرق بشارة النبوة (منتديات مكة)
لقد خص الله عز وجل أهل مكة عامة ، وقريشاً خاصة بافراد متعددة من الرحمة والرأفة ، وأهمها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، وبجوار [أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )
وموضوع هذا الجزء هو (علم الأحصاء) وانفراد الله عز وجل باحصاء علوم القرآن ، ومنها بخصوص قريش :
الأول : التشريف والإكرام لجوار البيت الحرام .
الثاني : قريش من ذرية إبراهيم خليل الله وإسماعيل ، ولم يغادرا الدنيا حتى قاما ببناء البيت الحرام ، من جديد بعد أن بناه آدم ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الثالث : تهيئة مقدمات وأسباب مزاولة قريش للتجارة بين الأمصار ، قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
الرابع : استقبال أهل مكة وفد الحاج والمعتمرين على مدار السنة فتنفرد مكة بخصوصية وهي دخول الوافدين لها كل يوم إما في موسم الحج وإما يأتي الناس للعمرة.
الخامس : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، ودعوته ثلاث عشرة سنة فيها.
ومع أن أهل مكة مشركون ، ولكن قد يأتيها اليهودي والنصراني للتجارة أو يقيم فيها لأجل معين.
(وجاء رجل من أهل الكتاب إلى ملأ من قريش فيهم هشام بن المغيرة والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة فقال: ولد لكم الليلة مولود.
قالوا: لا.
قال : أخطأكم والله معشر قريش فقد ولد إذا بفلسطين غلام اسمه أحمد، به شامة كلون الحر الأدكن يكون به هلاك أهل الكتاب ، فلم يريموا حتى قيل لهم إنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام.
فمضى الرجل حتى نظر إليه ثم قال: هو والله هو! ويل أهل الكتاب منه.
فلما رأى سرور قريش بما سمعت منه قال: والله ليسطون بكم سطوة يتحدث بها أهل المشرق والمغرب)( ).
وتذكر كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزو قريش له وحربهم على الإسلام وفضل الله في صلح الحديبية الذي اضطرت قريش لعقده مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
ويستحضر المسلمون والمسلمات وغيرهم دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في السنة الثامنة للهجرة فاتحاً ومنقذاً من نصب الأوثان في البيت الحرام وعبادتها من غير قتال يذكر.
أسواق مكة مقدمة للبعثة النبوية
لقد كانت كل قبيلة تختار لمكان محدد ومخصص لها سواء في أسواق مكة أو في مِنى , لتكون مقدمة لذهاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليهم كل عام , ليزداد وعلى نحو الإطراد كل من :
الأول : الذين يتلقون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام كل سنة .
الثاني : الذين يستمعون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبرهم بأنه رسول الله .
الثالث : الذين يحفظون آيات القرآن ويتدبرون في معانيها ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
الرابع : الذين ينقلون آيات القرآن إلى أهليهم .
ويقترن هذا الحمل بالإخبار بأنه تنزيل وبدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس للإسلام .
الخامس : تتبع الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية وجهاده في سبيل الله , ولا يعلم الوقائع المتعددة في تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موسم الحج إلا الله عز وجل ، والإحصاء فرع العلم .
ويمكن تقسيم تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة في موسم الحج إلى :
الأول : الدعوة السرية في السنين الأولى للبعثة النبوية .
الثاني : الدعوة شبه العلنية قبل خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف .
الثالث : الدعوة بعد عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف .
بحث أصولي
مفهوم الموافقة والمخالفة : المفهوم هو المعلوم ، والمعنى المستقرأ من اللفظ ، أما في الإصطلاح فهو الذي يفهم من اللفظ ، ولكن ليس في محل النطق ، فيفهم من دلالة اللفظ طرداً وعكساً ، وليس من نطقه وجملته ، لأن المفهوم مسكوت عنه في اللفظ .
والمفهوم على قسمين :
القسم الأول : مفوم الموافقة ، وهو الذي يكون موافقاً للمنطوق والعبارة في النفي والإثبات من غير لجوء إلى الإستنباط ، لذا يسمى على شعب :
الأولى : فحوى الخطاب .
الثانية : الأولوية .
الثالثة : لحن الخطاب .
الرابعة : دلالة النص .
والنسبة بين كل من فحوى الخطاب والأولوية ، وبين لحن الخطاب عموم وخصوص مطلق ، لأن مفهوم الخطاب ومفهوم الأولوية هو الأولى من المنطوق النهي عن زجر الوالدين أو ضربهما من باب الأولوية عن التأفيف في قوله تعالى [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا..] ( )، لقوة ظهور العلة في المسكوت عنه من المنطوق ، أما لحن الخطاب فهو الحكم المساوي للمنطوق لتساوي العلة بينهما .
ومن فحوى الخطاب اسقاط الدَين عن المعسر لوضوح العلة والنص في زيادة الأجر على إمهاله في قوله تعالى وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا..، وهذا المثال مستحدث هنا في المقام ، ولم يذكر في علم الأصول والدليل قوله تعالى [وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ..] ( ).
و(عن أبي قتادة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من نَفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة).
نعم التصدق أيضاً منطوق في الآية ، ولكنه فحوى الخطاب بالنسبة للإمهال .
ويدعونا القرآن لإستخراج الأمثلة في مواضيع علم الأصول من آياته بتتبعها آية آية في كل موضوع ، وعدم الإكتفاء بمثل واحد يكرر منذ ألف سنة للإنتفاع منها في بيان استنباط الأحكام الشرعية من الدليل الواضح الجلي .
القسم الثاني : مفهوم المخالفة وهو خروج الموضوع المسكوت عنه من دلالة اللفظ لإنتفاء حكم المنطوق عنه .
أو قل هو الإستدلال على الفرد الذي ينفى عنه الحكم ، لأن الحكم قيد بشرط أو وصف أو تخصيص يفتقر له ، فمثلاً قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ]( )، ومفهوم الآية أن الذي يترك الربا ولا يأخذه فلا يلقى حرباً من الله ورسوله، وهذا المثل مستحدث هنا .
ولم يرد لفظ (بِحَرْبٍ) في القرآن إلا في هذه الآية , وهو من الشواهد على أن القرآن كتاب السلم والأمن .
حجة مفهوم المخالفة
أختلف في حجية مفهوم المخالفة ومشهور الأصوليين على حجيته والذين قالوا بعدم حجيته استدلوا بآيات منها قوله تعالى [وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] ( )، وقالوا أن النص يدل بمفهومه المخالف على إباحة قتل الأولاد لغير الإملاق ، وهذا القول ليس بتام ، ومخالف للكلام العربي ، ولمضمون ذات الآية .
قال ابن حزم (وكذلك محمد رسول الله (ص) إذا كان ذلك يوجب ألا يكون غيره رسول الله، ويلزمهم أيضا، إذ قالوا بما ذكرنا، أن يبيحوا قتل الاولاد لغير الاملاق، لان الله تعالى إنما قال: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) ( ))( ).
ولكن ورد في القرآن وفي سورة الفتح [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ] ( ) واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وقد جاءت آيات كثيرة بالإخبار عن رسالة أنبياء آخرين ، وأما بخصوص قتل الأولاد في ذات الآية فقد أختتمت بقانون مطلق وهو حرمة قتل الأولاد ، ومنه الوأد ، وتمام الآية هو [وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] ( ).
والمختار أن الأصل هو عدم حجية مفهوم المخالفة ، لكن قد يكون حجة في موارد عديدة بالجمع بين آيات القرآن ، أو بالآية القرآنية وبيان السنة النبوية لها بالإضافة إلى موضوعية اللغة ، ودليل العقل ، وهذا الموضع من عمومات قوله تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وكل مسألة تتعلق بمفهوم المخالفة لابد من النظر لها من منظار الكتاب والسنة واللغة والعقل ، وأسباب النزول والإجماع ، وحال العرب في الجاهلية والعرف ونحوه .
ومفهوم المخالفة على أقسام :
الأول : مفهوم الصفة .
الثاني : مفهوم الشرط .
الثالث : مفهوم اللقب .
الرابع : مفهوم الغاية .
الخامس : مفهوم العدد : فإن دل النص على تقييد الحكم بعدد مخصوص فلا يثبت ذات الحكم مع نقص هذا العدد , أو مع زيادته , كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
ويجري جلد الشهود إن كانوا أقل من أربعة مع أنهم صادقون , ولكن ظاهر الآية يتعلق الجلد بالذي يدّعي زنا المحصنة ويتخلف عن إحضار أربعة شهود لنص الآية أعلاه.
ومن مفهوم الموافقة في الآية أعلاه شمولها لمن يرمي الأعفّاء من الرجال بالزنا من غير شهادة أربعة شهداء من الرجال , والمشهور الذي أدعى عليه الإجماع عدم قبول شهادة النساء في الزنا منفردات أو منضمات.
ومما يحتج به على حجية مفهوم المخالفة قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )، واستدل بهذه الآية في مفهومها على حجية خبر العادل ، أي اذا جاءكم الفاسق تبينوا ، وينتفي حكم التبيين بالنسبة لخبر العادل ، وهذا المعنى لا يكفي وحده لحجية خبر الواحد لذا ذكرت عدة أدلة أخرى .
والمشهور والمختار أن خبر الواحد العدل حجة ، ولا يحصي المنافع في الأجيال المتعاقبة من خبر الواحد إلا الله عز وجل من جهات :
الأولى : كثرة الرويات التي يكون راويها صحابياً واحداً ، أو يكون الواحد في احدى طبقات الرواية.
الثانية : تعلق روايات الخبر الواحد في الأحكام التكليفية الخمسة.
الثالثة : ورود خبر الواحد بالثواب والعقاب لعالم الأفعال .
وفي حجية خبر الواحد وجوه :
الأول : لقد اجتهد علماء الإسلام بالتحقيق في علم الرجال ووثاقتهم ، واسقطوا أحاديث كثيرة لعلة في أحد رواتها ، لتبقى الأحاديث الموجودة في ايدينا ثروة علمية وعقائدية .
الثاني : لزوم موافقة خبر الواحد للكتاب أو لا أقل عدم معارضته لآيات القرآن .
الثالث : عدم معارضة خبر الواحد للأحاديث المتواترة .
قانون إحصاء الصلاة وأفعالها
إحصاء آيات الأحكام في منطوقها علم مستقل ، وهي التي تتعلق بطاعة العباد لله عز وجل ، ومنها :
الأولى : آيات الإيمان وعقيدة التوحيد.
الثانية : آيات وجوب الإيمان .
الثالثة : قانون الفروض الخمسة ، وآيات الصلاة وأوقاتها التي قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
ولا يحصي مسائل وقوانين الصلاة إلا الله عز وجل من جهات :
الأول : عدد الأنبياء الذين جاهدوا لإقامة الصلاة في الأرض.
الثاني : عدد الذين تخلفوا عن أداء الصلاة ، وهو على وجوه :
أولاً : الذين استكبروا عن أداء الصلاة .
ثانياً : الذين لم يبلغهم وجوب الصلاة .
ثالثاً : المستضعفون الذين لا يستطيعون الصلاة خوفاً من الطواغيت ، وكان بعض صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة إلى الحبشة والمدينة يخرجون إلى بطحاء مكة للصلاة وتلاوة القرآن والتدبر في مضامينه القدسية ، فعلم بهم كفار قريش وصاروا يلاحقونهم ويؤذونهم.
رابعاً : ذوو الأعذار ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الثالث : عدد المصلين والمصليات .
الرابع : عدد الركوعات والسجودات من أيام آدم عليه السلام.
الخامس : منافع وأجر الصلاة في الدنيا .
السادس : صرف الصلاة للسوء والفحشاء ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
السابع : عدد الذين تابوا بسبب صلاة غيرهم .
الثامن : أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المترشحة عن الصلاة.
الرابعة : كلمات وأحكام المعاملات في تنظيم صلات الناس بعضهم ببعض أفراداً وجماعات ومنتديات.
الخامسة : تقيد المصلين بالعمل بأحكام الكلمات والآيات مثلاً آيات المواريث.
السادسة : كلمات وآيات الأحكام والسنن الأخلاقية.
السابعة : آيات الفضائل.
ليتجلى التباين والتباعد بينها وبين الظلم والجحود.
الثامنة : إحصاء آيات الأحكام في مفهومها أي التي يستقرأ الحكم من مفهوم الموافقة أو المخالفة للآية .
قانون لا يحصي إرباء الصدقات كماً وكيفاً وعدداً إلا الله عز وجل
قد تقدم في الجزء السادس والثامن والأربعين من هذا السِفر تفسير آيات حرمة الربا التي وردت مجتمعة بقوله تعالى[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الآيات أعلاه أنه توسطتها آية تتضمن الإخبار عن ثواب الإيمان والعمل الصالح ، وإقامة الصلاة واتيان الزكاة وسلامتهم وأمنهم في الآخرة عن الحزن عما فاتهم ، أو الخوف من القادم لإقامتهم في النعيم الدائم في الجنان.
مثال تعدد الأمر في الآية الواحدة
مثلاً قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( )، أحكامها هي :
الأول : إقامة الصلاة .
الثاني : إقامة صلاة الظهر .
الثالث : إقامة صلاة العشاء .
الرابع : أوان صلاة الصبح .
ولم يرد لفظ [دُلُوكِ] ولفظ [غَسَقِ] في القرآن إلا في هذه الآية .
وأيضاً [قُرْآنَ الْفَجْرِ] الذي ورد مكرراً في هذه الآية .
ولم يرد في غيرها من آيات القرآن .
الخامس : أداء الصلاة في أوقاتها .
وشهوداً تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار .
ثم تأتي الآية التي بعدها [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ] ( )وتتضمن حكم نافلة الليل على نحو الإستحباب ومن في [وَمِنَ اللَّيْلِ] للتبعيض .
وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) وفيها أحكام :
الأول : وجوب الإيمان ، وأهلية المسلمين لتلقي الأحكام بنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني : اصبروا امر بالصبر ، وتأتي آيات أخرى لتبين أن الحكم بالصبر متعدد .
الثالث : صابروا العدو ، وهل تدل هذه الكلمة على مفاهيم السلم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما تدل عليه من صرف القتال والإنصراف عنه ، إذ أن الصبر ضد للقتال ، وكذا كلمة صابروا ورابطوا ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) .
الرابع : رابطوا ، ولم يرد لفظ [َصَابِرُوا وَرَابِطُوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الخامس : أتقوا الله [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
السادس :التوكل على الله .
ولا ينحصر الأمر بالصبر بفرد واحد من الأحكام بل هو متعدد مثل :
الأول : الصبر الجميل كما في قوله تعالى [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا] ( ).
الثاني : الإستعانة بالصبر كما في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) .
وتدخل هذه الآية في الأمر بالصلاة وتقديرها : واستعينوا بالصلاة ، وأيضاً : واستعينوا بالصبر والصلاة مجتمعين .
الثالث : الصبر على الصلاة أي بمقدماتها وأركانها وواجباتها ، وعدم التعجل بها ، إذ يتضمن قوله تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا]( )، وفيه من الأحكام :
أولاً : أمر الأهل بالصلاة والأهل هنا لفظ عام يشمل الزوجة والأولاد.
ثانياً : الصبر على الصلاة ، صلاة الإنسان نفسه وإعانة أهله في صلاتهم ، فالمختار أن الضمير في [عَلَيْهَا] يعود لصلاة ذات المسلم وصلاة أهله ، كما تشمل كل فرد من الأهل بأن يصبر على صلاته ويساعد والده وأمه والأسرة على أداء الصلاة في أوقاتها .
وهل منه أداء صلاة القضاء عن الذات والميت .
الجواب نعم ، ولو كان ولي الميت يعطي مبلغاً للإجارة في أداء الصلاة عن الميت ، فهل هذا الإعطاء من مصاديق قوله تعالى [وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا] ( ) .
الجواب نعم ، لما فيه من الصبر على السعي للقضاء ، وعلى إخراج المال والعوض عن الأداء .
من معاني (يربي الصدقات)
ومن معاني يربي الصدقات في قوله تعالى [وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، وجوه:
الأول : زيادة الصدقات بأن يبعث الله المؤمن على الإنفاق مرة بعد أخرى.
الثاني : تعاهد المسلم للزكاة والخمس في أوانه ، قال تعالى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ]( )، وتدل هذه الآية على تجدد دفع الزكاة سنوياً بالنسبة للذي يتحقق عنده النصاب ، وهو خمسة أوسق ، والوسق ستون صاعاً ، والصاع أربعة أمداد ، ويكون المد نحو 700 غرام وقيل أقل ، والمجموع كالآتي :
750×4=2,8 كغم مقدار الصاع الواحد .
6×2,8=168 كغم مقدار الوسق الواحد .
168×5=840كغم مقدار خمسة أوسق وهو نصاب الغلات.
وذكرت الآية (ويربي الصدقات) والمراد الصدقات في المقام قدر معين يخرج من النصاب وهو على شعبتين :
الأولى : نسبة العشر 10% للذي يسقى بماء المطر أو بماء النهر ، أو مص عروقها الماء من الأرض .
الثانية : السقي بالدلو والدوالي أو المضخة فيخرج نصف العشر وهو 5%.
الثالثة : السقي بالإشتراك مرة بواسطة المطر وأخرى بالمضخات، وفيه تفصيل فاذا كان أحدهما هو الغالب والظاهر عرفاً فيتبع حكمه ولا عبرة بالقليل النادر ، وان كانا متساويين أو مقارب للتساوي فتكون النسبة ثلاثة أرباع العشر 7,5% والمدار على سقي الثمرة ، وليس الشجرة.
الثالث : النماء في المال الذي أخرجت منه الصدقة ، لبيان أن قوله تعالى [وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، جامع للحقيقة والمجاز.
إحصاء رزق الله في كل ساعة
وأيهما أكثر عطاء الله بالسؤال أم عطاؤه ابتداء ومن غير سؤال، الجواب أن الثاني اضعاف الأول اضعافاً مضاعفة ، ولا يكون حصر الأمر بين الأمرين .
فاذا كان العطاء الإلهي عن سؤال بدرجة مائة فان العطاء من الله من غير سؤال ملايين الدرجات في ذات موضوع السؤال وغيره، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ).
ويعجز الناس عن إحصاء عدد أيام عمارة البشر للأرض من أيام أبينا آدم ، وكذا ساعات هذه الأيام من باب الأولوية القطعية ، وما هو أعظم في المقام العجز عن إحصاء أرزاق الناس في أيام الحياة الدنيا ، وفي ساعاتها المتعاقبة ، وهو من مصاديق إحاطة علم الله بكل شئ ، وتخلف الخلائق عن العلم بمعشار أرزاق الناس في الدنيا من جهات :
الأولى : أسباب ومقدمات الأرزاق .
الثانية : الموانع التي ازيحت عن كسب الرزق وحسنه ، وقد نهى الله عز وجل عن الإنفاق من أدنى الأعيان (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ،”أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لَوْنَيْنِ مِنَ التَّمْرِ: الْجُعْرُورِ، لَوْنِ الْحُبَيْقِ وَكَانَ النَّاسُ يَتَيَمَّمُونَ شِرَارَ ثِمَارِهِمْ، ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا فِي الصَّدَقَةِ , فَنَزَلَتْ [وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ] ( ) قَوْلُهُ تَعَالَى [وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ])( ).
لبيان فضل الله عز وجل بأنه يرزق الناس الجيد والطيب ، وهو ظاهر في آيات القرآن ، وفي الواقع العملي للناس في كل زمان ، ويوصي بالرزق الحسن للفقير خاصة وأن الله عز وجل هو الذي يقبض الصدقات .
فما يأتي الناس من الرزق أحسن وأطيب وأكثر من حاجتهم ، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ).
ولا تختص هذه النعمة بالمؤمنين وأتباع الأنبياء ، بل هي عامة للناس جميعاً ، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدينا ، نعم الرزق الكريم في الآخرة خاص بالمؤمنين لأنه فرع إقامتهم في الجنة ، قال تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] ( ) .
و(عَنْ أَبِى حَفْصَةَ قَالَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاِبْنِهِ يَا بُنَىَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ.
قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)( ).
إحصاء العادات الجاهلية التي قضى عليها القرآن
كل عادة إزيحت وانقطعت بآية قرآنية هي معجزة غيرية للقرآن ، وكذا ما تم إصلاحه وتبديله بالسنة النبوية الشريفة ، ولا يحصي منافع هذه الأزاحة وحجب أفرادها عن الأجيال إلا الله عز وجل ومنها :
الوأد ، وهو دفن البنت عند الولادة أو وهي صغيرة في التراب أو ألقاوها في البئر أو من شاهق ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) ولم تكن كل العرب كلها توأد البنات ، ولا حتى القبائل التي عرفت بالوأد مثل تميم تقوم بالوأد التام إذا لإنقطع النسل خاصة وأن العرب كانوا ولا يزالوا يميلون لنكاح ابنة العم للجمع بين النسب والمصاهرة ، ووحدة المكان ، وقلة المهر ،والمؤونة ، نعم يتزايد الوأد وقت الحروب وكثرة الغزو في القبائل التي تخشى العار بسبب سبي بناتها ، والقحط وسني المجاعة.
ويمكن أن يقال أن نسبة الوأد عند العرب آنذاك نسبة الواحد إلى العشرة أو أقل ، ولكنها ظاهرة موجودة ، قابلة للزيادة لبيان رحمة الله بالناس والنساء خاصة باستئصال قتلهن أو سبيهن بأن حل الإسلام في ربوع الجزيرة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون عجزنا عن إحصاء الحرب على الربا
لقد نزل القرآن بالإنذار والوعيد على الربا بما لم يأت مثله من شدة التخويف والزجر العاجل عن تركه ، لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن ذكر الحرب من الله عز وجل إذ أن [أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) وهو القاهر لعباده الذي له القوة جميعاً [وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىوَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى* وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى] ( ).
فأخبر تعالى عن حرب منه ومن رسوله نحو الذين لا ينتهون عن أكل المال الربوي ، ولم يأت هذا الوعيد بخصوص فواحش أخرى مثل الزنا وشرب الخمر ، لأنها أفعال فردية قبيحة .
ولا يحصى مصاديق الحرب من الله ورسوله إلا الله عز وجل من جهات :
الأولى : كيفية الحرب .
الثانية : أوان الحرب .
الثالثة : عدد مرات الحرب .
الرابعة : أثر الحرب على الربا .
الخامسة : النفع الخاص والعام من حرب الله على الربا .
السادسة : كيفية حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الربا.
السابعة : مصاديق الحرب على الربا العاجلة .
الثامنة : مصاديق الحرب من الله على الربا الأخروي .
التاسعة : الحرب على الربا بخصوص المال لقوله تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا] ( ).
العاشرة: الحرب من الله عز وجل على الربا في الآخرة .
الحادية عشرة : أفراد الحرب التي حالت دونها التوبة عن الربا .
الثانية عشرة : تقريب الله عز وجل العباد إلى سبل النجاة من الربا وغيره من الفواحش .
وهل دفع الإنسان عن الربا ، وصرفه عن الفواحش من مصاديق [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) الجواب نعم .
فيشمل المحو والإثبات عالم أفعال العباد أيضاً بما لا يحصيه إلا الله عز وجل .
وسوف يظهر كل إنسان يوم القيامة عجزه عن شكر الله عز وجل لما يراه في صحيفة أعماله من أسباب المحو والإنصراف عن الفواحش ، قال تعالى [لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).

أياماً معدودات
هذه الليلة هي ليلة الخامس عشر من شهر رمضان ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في السنة الثالثة للهجرة ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن والحسين : ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا.
ولم يرد لفظ [يطيقون] في القرآن إلا مرة واحدة في آية البحث ، قوله تعالى [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ولم يرد بصيغة المفرد (يطيق) ، ومن الإعجاز في قوله تعالى [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ] ( )، وجوه :
الأول : الوعد من عند الله عز وجل بتخفيف عناء الجوع والعطش في شهر رمضان .
الثاني : يدرك كل مسلم ومسلمة في كل زمان سرعة إنطواء أيام شهر رمضان ، فيقول أحدهم أمس القريب بدأ شهر رمضان كيف أصبحنا في وسطه أو كيف اقترب آخره .
الثالث : لزوم إنتفاع المسلمين من شهر رمضان بالصيام وكثرة الدعاء والصلاة ، ومكارم الأخلاق .
ولم يرد لفظ [مَعْدُودَاتٍ]( )، إلا مرتين في القرآن إحداهما في آية البحث وفريضة الصيام .
والأخرى في فريضة الحج بقوله تعالى [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
وكل منهما في واجب مقيد ومشروط .
فالصيام مقيد بحال الصحة والحضر ، وحج بيت الله الحرام مقيد بالإستطاعة لبيان تعدد مناسبة الأجر والثواب .
والحج الواجب مرة في العمر ولكن الصيام يتكرر في كل سنة ولمدة شهر كامل ، وقال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) وقد تقدم منا أن اللفظ القرآني قد يجمع بين الحقيقة والمجاز ، ومنه الآية أعلاه حقيقة بدخول الشهر برؤية الهلال ، وهو مجاز بتقدير حذف ، فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه ، وشهود الشهر حقيقة للحاضر غير المسافر .
وقد تقدم في الجزء السادس والأربعين بعد المائتين من تفسيري للقرآن الذي صدر هذه الأيام بفضل ولطف من عند الله عز وجل باب إجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ قرآن واحد ، وهو معروض على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM.
وذكرت مثالاً أخر في هذا الجزء بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
والمجاز وإذ غدوت من بيوت أهلك بحذف المضاف وأيضاً واذ غدوت في المدينة وبيوتها ،لبيان أن المدينة وبيوتها هم أهل رسول الله ، فيكون الأهل عنواناً شاملاً للعمومة والأنصار .
الحمد لله الذي أكرم شهر رمضان بنزول القرآن في أيامه وجعله عنوان التقوى والخشية من الله عز وجل ووسيلة للصلاح بتزيين نهاره بالصيام والإمساك عن الأكل والشرب طاعة لله عز وجل .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في حديث : نعم الشهر رمضان كان يسمّى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرزوق .
والمرزوق الذي يأتيه الرزق الكريم والوافر ، إطلاق المحل وإرادة الحال ، بانتفاع الناس من شهر رمضان ، وهل تختص هذه المنفعة بالأحياء ، الجواب لا ، إنما تشمل الأموات ، بزيادة الحسنات ومغفرة الذنوب ، وتشمل بالبركة الأبناء ممن لم يولدوا بعد .
وفي الخصال عن ابن عباس (عن النبي صلى الله عليه وآله قال : قال الله تبارك وتعالى : كل عمل ابن آدم هو له غير الصيام هو لي وأنا اجزي به ، والصيام جنة العبد المؤمن يوم القيامة كما يقي أحدكم سلاحه في الدنيا ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله عزوجل من ريح المسك ، والصائم يفرح بفرحتين : حين يفطر فيطعم ويشرب ، وحين يلقاني فادخله الجنة) ( ).
وهو مصداق سنوي متجدد لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( ).
والصيام حاجز من النار ، وطريق لدخول الجنة ، ومن أبواب الجنة باب اسمه الريان لا يدخله إلا الصائمون .
وهل لفرح الصائم بالإفطار ثواب أم يختص الثواب بالصيام ، الجواب هو الأول ، ولا يحصي الثواب المركب والمتعدد في المقام إلا الله عز وجل ففي كل ساعة يمسك بها المسلم عن المفطرات له ثواب خاص.
ومن خصائص الصيام خلوه من الرياء لأنه تمر على المؤمن ساعات لا يراه فيها إلا الله عز وجل ، ومع هذا يحرص على التقيد بقواعد وقوانين الصيام فهو من العبادات التي تدل على إخلاص العبودية ، وقد ورد عن معاذ بن جبل أن الصيام أحيل ثلاثة أحوال [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] ( ) كان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزاء .
ثم أنزل الله عز وجل [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
فاثبت الله عز وجل صيامه على المقيم الصحيح ورخص للمريض والمسافر .
ولا يعلم منافع الصيام في تثبيت عبادة الله في الأرض إلا الله عز وجل ولا يحصي فضل الصيام على الناس في الدنيا والآخرة إلا الله عز وجل ، سواء فضله تعالى في تشريع الصيام ، وداء المسلمين من الأولين والآخرين له.
وهل في رخصة أفطار المريض والمسافر ثواب لهما ، الجواب نعم ، لأن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ، ولقضاء المسافر للصيام ، وكذا المريض الذي يبرأ أو الذي يدفع الفدية وعلة الثواب التصديق بالنبوة والتنزيل وتلقي التكليف بالقبول.
الدفاع في آية واحدة
لقد نزل القرآن بالإذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع وصدّ غزو وهجوم المشركين على المدينة المنورة وأطرافها وسروحها ,وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( )،أم أن القدر المتيقن منه مكر كفار قريش عندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وإرادتهم قتله في الفراش .
الجواب هو الأول ،إذ اشتد مكر قريش بعد الهجرة بلمعان السيوف وجريان الدم ، وهو الذي حذرت منه الملائكة يوم خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ، كما ورد في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن عمومات هذا الإخبار في أول الآية أعلاه وإخبارها عن إنفراد الله عز وجل بعلم خاص أمر الله سبحانه للملائكة للنزول في معركة بدر وأحد لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق مكر الله عز وجل ، وأيهما أكثر علم الله الذي حجبه عن الملائكة والأنبياء وعامة الخلائق أم الذي علمه لهم مجتمعين ومتفرقين .
الجواب هو الأول ، فلا تحيط الخلائق إلا بمقدار القطرة من بحار علم الله عز وجل ، وعلم الله عز وجل ذاتي وتفصيلي ومنزه عن النقص ، وفي التنزيل [وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ) وقال تعالى [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وهناك مسائل :
الأولى : لا يحصي أفراد مكر الذين كفروا إلا الله عز وجل ، فمنه ما هو ظاهر ، ومنه ما هو خفي ، ومنه ما يكون مقدمة للكيد والمكر ، قال تعالى [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
الثانية : لا يحصي أسباب إنصراف ودفع مكر الذين كفروا إلا الله عز وجل ، ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وتدل عليه الشواهد ومنها كثرة عدد وعدة ومؤن المشركين .
الثالثة : مكر الله عز وجل سابق لمكر المشركين ومصاحب ولاحق له ، حتى إذا ما أخرج المشركون مكرهم بالقول والفعل فان مكر الله حاضر لذا ورد الفعل (مكر) في القرآن بصيغة الماضي مثلما ورد بصيغة المضارع ، قال تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهل من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، الفتح للنساء بزوال الوأد والإضطهاد والعنف ضدهن ، الجواب نعم لبيان أن مصاديق الفتح في هذه الآية بلحاظ الأفراد والجماعات والجنس والقومية من اللامتناهي الذي لا يحصيه إلا الله خاصة مع تجددها في الأزمنة والأحقاب المتعاقبة.
قانون كل مؤمن هو من جنود الله
ويتحقق مصداق الجند في المقام بالتحلي بسنن الإيمان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودعوة الناس إلى الهدى بالموعظة والحكمة ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ).
وكان آدم عليه السلام وحواء أول جنود الله في الأرض ، لبيان أن أول من عمر الأرض جنديان من جنود الله يقيمان الصلاة والفرائض العبادية ، ويصارعان الشيطان ويتلقيان الأذى بالتقوى والصبر ، فلم يغادرا الدنيا إلا بعد أن رأيا كيف أن أحد أولادهما وهو قابيل قتل أخاه هابيل .
ومن معاني [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] ( ) لنشر السلم والأمن ، وصرف القتال , كما في قوله تعالى في معركة الأحزاب [إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
إذ جاءت جيوش قريش وغطفان والأحباش ، ولفظ الجنود أعم من قصد القتال و(الجُنْد بالضمّ : العَسْكَرُ والأَعوانُ والأَنْصار والجمعُ الأَجْنَادُ والجُنُودُ والواحدُ جُنْدِيٌّ)( ).
وليس من حصر لمصاديق آية (جنود الله) أعلاه إذ تعجز الخلائق عن إحصاء موضوع وأوان ومكان جنود الله .
فيكون من باب الأولوية العجز عن إحصاء عددهم ولو بقي الإنسان عمره كله يضع أصفاراً أمام رقم واحد ليلاً ونهاراً هكذا (10000000000000) ويواصل على هذا العمل بدأب ما يعادل مجلدات متصلة فانه لا يصل إلى معشار جنود الله ، كما أن جنود الله في إزدياد ومضاعفة في كل ساعة من ساعات الحياة الدنيا .
وقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( )، شطر من آية قرآنية من سورة المدثر وهي من أوائل ما نزل من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون مدداً وعوناً وبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدل على إظهار الله عز وجل لرسالته وبشارة كثرة الصحابة المخلصين ، وصرف كيد المشركين كما في قوله تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
فلم يجمع المسلمين إلا الإيمان بالله، وإدراك وجوب إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والتصديق باليوم الآخر.
الإحسان وأقسامه
من إعجاز القرآن وتأديبه للمسلمين والناس جميعاً تضمنه لثناء الله عز وجل على المحسنين ، مع أنه سبحانه هو الذي هداهم للإحسان وهيئ لهم أسبابه ومقدماته والوعد لهم بالخير والفلاح في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ]( ).
والله عز وجل وحده الذي يحصي كلاً من :
الأول : قانون إحسان الله عز وجل للناس عامة وللمؤمنين خاصة ، ومن أسماء الله الحسنى (المحسن).
الثاني : آيات الإحسان بين الناس .
الثالث : مدار وموضوع الثناء على المحسنين في القرآن .
الرابع : إحصاء آيات الإحسان .
الخامس : إحصاء الأحاديث النبوية في الإحسان .
السادس : إحصاء المحسنين .
السابع : إحصاء الإحسان القولي .
الثامن : إحصاء الإحسان الفعلي .
التاسع : إحصاء منافع وأثر الإحصاء .
وقد ورد لفظ (الإحسان) معرفاً باللام في آيتين ، في قوله تعالى [هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ]( )، [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
وقد ترد الأوامر في الإخبار عن أهل الملل السماوية الأخرى فهل فيه أمر ونهي للمسلمين أم أنه موضوع وحكم خاص .
المختار أن الأصل هو الأول ، وأن هذه الأحكام تشمل المسلمين والمسلمات إلا مع ورود الدليل على الحصر والتخصيص ، فمثلاً قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
وما فيها من الأوامر كاقامة الصلاة وايتاء الزكاة عامة تشمل المسلمين أيضاً ، ولا يعلم عدد الذين عملوا بمضامين هذه الآية وكيفية عمل كل واحد منهم ومن الأمم السابقة بها إلا الله عز وجل وهو سبحانه أحصى عددهم وأفعالهم ليثيبهم يوم القيامة.
والإحسان قول وفعل يوزن ويحصي بما يعادله من العدد عند الله عز وجل .
ولا يحصي حب الله عز وجل [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، إلا هو سبحانه وجاء حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ]( ).
ولما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإحسان قال (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.)( ) .
و(وقال رجل: يا رسول الله، ما تزكية المرء نفسه؟ فقال: “يعلم أن الله معه حيث كان) ( ).
لبيان قانون العلم بأن الله يرانا سبيل هدى ، وزجر عن السيئات.
ولا يعلم مصاديق العمل الصالح المترشح عن الحديث أعلاه ، وهذا القانون إلا الله عز وجل ، وكذا ما عزف عنه الناس من السيئات بلطف وإحسان من الله سبحانه .
وهو من الشواهد على بركة الوحي الذي تجلى في السنة النبوية ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
تسمية بدر
تسمى هذه المعركة غزوة بدر وأنها أول غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصل لهذه التسمية ، إذ تحتمل وجوهاً :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هم الغزاة في معركة بدر .
الثاني : المشركون هم الغزاة في معركة بدر .
الثالث : كل من النبي وأصحابه ، وكذا المشركون غزا بعضهم بعضا .
الرابع : معركة بدر ليست غزوة وإن وقع فيها القتال بين الطرفين وسقط سبعون من رجالات قريش وحلفائهم ، وأربعة عشر من الصحابة .
والمختار هو الثاني أعلاه وأن المشركين هم الغزاة في معركة بدر ، وإن كان الذي عليه الإجماع ومنذ نحو ألف وأربعمائة سنة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الغازي ولكنه لم يغز أحداً.
وقد صدرت ستة وعشرون جزءً من كتابي هذا الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بخصوص قانون (لم يغز النبي أحدا) وهذه الأجزاء هي :
(164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196—204-212-216-221-229).
فان قيل أن سبب المعركة هو اعتراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلة أبي سفيان القادمة من الشام والتي تتألف من ألف من العير محملة بالبضائع ، فلم يثبت هذا الإعتراض ، ولو تنزلنا وقلنا بحدوثه فهو ليس علة تامة لوقوع القتال خاصة بعد نجاة القافلة ووصولها محملة بالبضائع إلى مشارف مكة .
ويطلق لفظ العير على قوافل الإبل والبغال والحمير المحملة بالبضائع.
وقد ورد لفظ (العير) ثلاث مرات في القرآن كلها في سورة يوسف وهي:
الأولى : قوله تعالى [فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ]( )، ويدل لفظ القرية ، ولفظ العير على إرادة الحقيقة والمجاز لأنهم جاءوا بالعير .
ومن المجاز اسأل المكارين الذين مع العير ، إلى جانب تقدير وأسأل القرية أي واسأل أهل القرية من المجاز ومن الحقيقة وأسأل ذات القرية.
فقد استحدثت باباً من العلم جديداً وهو إجتماع الحقيقة والمجاز في اللفظ القرآني المتحد ومنه شاهدان في هذه الآية :
الأول : وأسأل القرية : والمجاز هو (أسأل أهل القرية) أما الحقيقة فهي اسأل ذات القرية وابنيتها فهي تجيبك لأنك نبي ، وقد علمت أن يوسف عليه السلام حي لم يمت ، كما ورد في التنزيل [يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ]( ).
الثاني : والعير التي أقبلنا فيها ، والمجاز بحذف المضاف أي أصحاب العير ، وقيل (كانوا قوم من كنعان من جيران يعقوب، وقيل من أهل صنعاء) ( ).
أما الحقيقة فاسأل ذات العير والإبل ، وقد ورد في سليمان [قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ]( ).
كما وردت نصوص في تكليم بعض النبات والحيوان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها ما ورد عن (أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ :كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي عَلَيْهِ وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ قُومُوا فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ فَمَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نَحْوَهُ .
فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ .
فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ .
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ .
فَقَالَ لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا .
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم قاعدا إذ مر به بعير فبرك بين يديه ورغا، فقال عمر: يارسول الله أيسجد لك هذا الجمل ؟ فإن سجد لك فنحن أحق أن نفعل، فقال: لا بل اسجدوا لله، إن هذا الجمل يشكو أربابه، ويزعم أنهم انتجوه صغيرا واعتملوه، فلما كبر وصار أعون كبيرا ضعيفا أرادوا نحره، ولو أمرت أحدا أن يسجد لاحد لامرت المرأة أن تسجد لزوجها، ثم قال أبو عبد الله صلوات الله عليه: ثلاثة من البهائم أنطقها الله تعالى على عهد النبي صلى الله عليه وآله: الجمل وكلامه الذي سمعت، والذئب فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فشكا إليه الجوع، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله أصحاب الغنم،
فقال: افرضوا للذئب شيئا، فشحوا، فذهب ثم عاد إليه الثانية فشكا الجوع، فدعاهم فشحوا، ثم جاء الثالثة فشكا الجوع فدعاهم فشحوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله اختلس ،
ولو أن رسول الله صلى الله عليه وآله فرض للذئب شيئا ما زاد الذئب عليه شيئا حتى تقوم الساعة، وأما البقرة فإنها آذنت بالنبي صلى الله عليه وآله ودلت عليه.
وكانت في نخل لبني سالم من الانصار، فقالت: يا آل ذريح عمل نجيح صائح يصيح بلسان عربي فصيح بأن لا إله إلا الله رب العالمين، ومحمد رسول الله سيد النبيين)( ).
وكان إخوة يوسف مع الإبل ، لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ، وجاءت الآية [أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ]( )، ولم تتوجه تهمة إلى مكاري حصراً إنما توجهت لأخوة يوسف مما يدل على إرادة الحقيقة والمجاز من لفظ العير.
الثالثة : قوله تعالى [وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ]( ).
لبيان أن الريح كالرسول ، وفيه دعوة لإنتفاع العلوم الحديثة من الريح ، ولعل منه بشارة إكتشافات اللاسلكي والهاتف ونحوه .
معجزة نسيان اسم أبي جهل
ولد أبو جهل سنة 572 م) وكان قد دعا يوم بدر (اللهم أولانا بالحق فانصره) ، وقتل يوم بدر.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في المقام أن أبا جهل لايعرف عند الأجيال المتعاقبة للمسلمين وعامة الناس إلا بهذه الكنية وحتى الذي يسمع اسمه الحقيقي عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي.
فسرعان ما ينسى هذا الاسم وللمسلمين وغيرهم في مشارق ومغارب الأرض أن يجربوا واسم أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي ، ثم ليستحضره بعد أيام فلا يحضر عند هذا الاسم وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحبط عمل المشركين وسوء عاقبتهم ، وليدل في مفهومه على البركة في الأسماء الحسنى التي اختارها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعدد من الصحابة والصحابيات.
وكان أبو جهل يسمى أبا الحكم لرجحان عقله وهو ممن استثني من شرط العمر في الدخول إلى دار الندوة ، إذ اشترطت قريش ألا يدخلها إلا من بلغ عمره أربعين سنة أو أكثر ، ولكنه يدخلها مع أن عمره أقل من أربعين .
لينزل جبرئيل يوم بدر بعد دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول له (خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين .
وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته.
فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال [إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( )، فذلك حين رأى الملائكة)( ).
وكان أبو جهل شديداً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد وثق القرآن حسب أسباب النزول ، وكذا السنة شواهد عديدة من هذا الأذى فمثلاً عندما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعاد إلى مكة جلس مغموماً في المجلس خشية أن لا يصدقه الناس (فمر به أبو جهل، فقال له كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئاً.
قال: نعم، أسري بي الليلة إلى بيت المقدس.
قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ فقال: نعم.
فخاف أن يخبر بذلك عنه فيجحده النبي، فقال: أتخبر قومك بذلك ؟ فقال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا فأقبلوا. فحدثهم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فمن بين مصدق ومكذب ومصفق وواضع يده على رأسه.
وارتد الناس ممن كان آمن به وصدقه.) ( ).
وطلب بعض رجالات قريش البينة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يصف لهم بيت المقدس ، وهم يعلمون بعدم ذهابه له يوماً ما ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فذهبت أنعت حتى التبس علي.
قال : فجيء بالمسجد، وإني أنظر إليه، فجعلت أنعته.
قالوا : فأخبرنا عن عيرنا. قال: قد مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه، فأخذت قدحاً فيه ماء فشربته، فسلوهم عن ذلك.
ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان فرأيت راكباً وقعوداً بذي مر فنفر بكرهما مني فسقط فلان فانكسرت يده، فسلوهما.
قال : ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم من طلوع الشمس.
فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينظرون طلوع الشمس ليكذبوه إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت. فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق كما قال. فلم يفلحوا وقالوا: إن هذا سحر مبين)( ).
ولم ينحصر أذى أبي جهل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم ، بل كان يؤذي الصحابة رجالاً ونساءً .
ففي سنة ست من البعثة قام أبو جهل بتعذيب سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر وهي مولاة عمه حذيفة بن المغيرة ، فطعنها أبو جهل (في قلبها فماتت وكانت عجوزاً كبيرة، فهي أول شهيدة في الإسلام) ( ).
وهل نسيان الناس لاسم أبي جهل من العقاب الدنيوي له ، المختار نعم.
قانون كشف القرآن للغازي ببدر
الحمد لله الذي جعل القرآن بيانا وهدى ورحمة ، وذكر القرآن الوقائع أيام الرسالة الخاتمة ، ومنها معركة بدر التي ذكرها الله عز وجل بالاسم في القرآن
لقد خرج أبو جهل بأهل مكة إلى بدر وهم النفير وفي المثل (لا في العير ولا في النفير) ( )، ويضرب هذا المثل لصغير القدر ، والذي إن حضر لا ينفع وإن غاب لا يفتقد.
وقيل لأبي جهل (إنَّ العير قد أخذت طريق السَّاحل ، ونجتْ ، فارجع بالنَّاس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكونُ ذلك أبداً حتَّى ننحرَ الجزور ، ونشرب الخُمُورَ ، ونقيم القينات والمعازف ببدر ، فيتسامع العربُ بخروجنا ، وأنَّ محمداً لم يُصِب العير ، فمضى بهم إلى بدرٍ ، وبدرٌ كانت العربُ تجمع فيه يوماً في السَّنةِ لسوقهم)( ).
وتبين آيات القرآن من هو الغازي في معركة بدر ، لعمومات قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فمن باب الأولوية أن يبين ويصف القرآن سنة النبي محمد وذات المعركة التي ورد اسمها في القرآن بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ]( ).
ومن إعجاز هذه الآية كشفها لأمور :
الأول : حال المسلمين قبل المعركة ، وهي الذلة بمعنى قلة العدد، والعدة والضعف.
الثاني : حال المسلمين يوم المعركة وموضوعية المدد والعون من عند الله سبحانه .
الثالث : حال المسلمين بعد المعركة ومحو حال الذلة التي عليها المسلمون لذا جاء الأمر في الآية [فَاتَّقُوا اللَّهَ] لترتب العز وزوال الذل عن المسلمين بنصرهم على عدوهم وهم مشركو قريش.
وموضوع وسبب القول بأن النبي محمداً هو صاحب غزوة بدر أنه أراد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ولكن لم تثبت هذه الإرادة.
لقد أخطأت قريش باعتماد حساب الحقل ، وهو غير حساب البيدر ، أي أن حساب الحقل الحنطة بسنابلها وسيقانها أما إذا نقلت إلى البيدر فانها تصفى وتحصد ، فارتكزت قريش على كثرتها وعدتها وأسلحتها فاصروا على القتال والهجوم .
وفي باب الزكاة تتعلق الزكاة بالنصاب من الحنطة والشعير أو التمر أو العنب إذا صدق عليها العنوان إلا أن المناط في مقدار النصاب وبلوغ حده عند تصفية الحنطة .
والشعير من التبن ، واجتذاذ التمر ، واقتطاف الزبيب ، قال تعالى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ]( ) ، فاذا بلغت في الحقل النصاب ولكن عند جفافها لا تبلغه فلا تجب فيها الزكاة ومقدار النصاب هو ثمانمائة وسبعة وأربعون كيلو غرام.
وقول بأنه ستمائة وخمسون كيلو غرام.
والأصل هو خمسة أوسق ، والوسق ستون صاعاً والصاع أربعة أمداد بمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بملئ يديه المباركتين ، وهو متوسط يد الإنسان لا مقبوضتين ولا مبسوطتين ، وهو نحو (700) غرام.
إذ ورد عن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)( ).
واذا ضربنا 4×60صاع= 240 مدّ الصاع الواحد.
240×5=1200 مدّ مجموع خمسة أوسق.
وهناك من عدّ كل عدد حبات المدّ الواحد.
ولم يعلم مشركو قريش موضوعية الإيمان في ميدان المعركة ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة .
فصحيح أن المهاجرين والأنصار الذين كانوا في ميدان المعركة أقل من ثلث عدد جيش المشركين والذي يبلغ تسعمائة وخمسين شخصاً بينما عدد الصحابة ثلاثمائة وثلاثة عشر إلا جانب الفارق الكبير بالعدة والسلاح والإبل والخيل ، فمثلاً كان عند المشركين يومئذ مائة من الخيل بينما ليس عند المسلمين إلا فرسان ، وقول فرس واحد ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ]( ).
وكان سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ الدعاء ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وهذه الآية عامة أما الخطاب الخاص ففي قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، فان موضوع نزوله دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار عشية بدر وصبيحة يوم المعركة والذي سماه الله يوم الفرقان بقوله تعالى [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
وهل واو الجماعة في [تَسْتَغِيثُونَ]( ) خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، لقانون شرعناه في هذا التفسير ، وهو إذا وردت صيغة الجمع للمفرد وفي القرآن فهو خاص بالله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ] ( ) لأستنتج منه أن أسباب النزول التي ذكرت لشخص واحد من المشركين لا دليل عليها ، والأصل هو التعدد عنه ورود الآية بصيغة الجمع ، ولا يحصي منافع معركة بدر في كل زمان إلا الله عز وجل .
المشركون هم الغزاة يوم بدر( )
[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
نزلت هذه الآية بخصوص معركة بدر التي وقعت يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة الموافق 13 آذار سنة 624م ، وهذا البحث في ذكرى مرور (1442) سنة قمرية على واقعة بدر ، وهي حاضرة في الوجود الذهني وفي المجتمعات الإسلامية ، وهو من إعجاز القرآن ، وأن المصاديق الواقعية والشواهد العملية لآياته باقية إلى يوم القيامة .
لم يرد لفظ (تستغيثون) و(ممدكم) و(ألف من ) و(مردفين) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهل له من دلالة ، الجواب نعم .
ويتجلى في رفع ومدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يديه يومئذ بالدعاء بالحاح وتضرع وقوله (يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً)( ).
(وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتني، اللهم نصرك.
ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه ويسوى عليه رداءه ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك)( ).
ومع أن مجموع كلمات الآية تسع كلمات فان أربعة منها لم ترد في آية أخرى ، وقد تقدم بحث الكلمات المفردة في القرآن لبيان أن إنفراد كل كلمة له دلالات عقائدية.
لبيان أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة النبوات ، قال تعالى [وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).

إحصاء أضرار المشركين يوم بدر
من مصاديق الإحصاء التي يعجز الناس عن عدّها في المقام ، الأضرار التي لحقت المشركين في معركة بدر وما بعدها ، وهذه الأضرار من جهات :
الأولى : الأضرار العسكرية ، وفضح وهن وضعف قريش .
الثانية : قانون لحوق الخزي لقريش ، فبعد أن وصف القرآن المسلمين بأنهم في حال ذل يوم بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) انتقلت حال الذلة إلى المشركين ، ولا تختص بموضوع معين بل تشمل ذلة المشركين كلاً من :
أولاً : قانون صيرورة المشركين في حال ضعف .
ثانياً : قانون إصابة أموال المشركين بالنقص .
ثالثاً : قانون تهديد طرق تجارة قريش لإستخفاف العرب بهم ، وهذا شأن من يحارب النبوة والتنزيل .
رابعاً : لحوق الذل بمعنى المسكنة لقريش ، ولم يبق بيت في مكة إلا ودخلته المصيبة وفقد الأحبة في معركة بدر .
الثالثة :الأضرار الإجتماعية ومنها منع رؤساء قريش أهل مكة من البكاء على قتلاهم ، و(قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا:
لا تفعلوا يبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنسوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.) ( ).
ولم يكن منع هذا البكاء خشية من شماتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار ، إنما كانت قريش تعلم بأن طائفة من أهل مكة ، دخلوا الإسلام ولم يهاجروا ، وخافت بأن يكون هذا البكاء سبباً لدخول طائفة أخرى من أهل مكة والقبائل الإسلام ، وهذا البكاء إقرار بالإنكسار والهزيمة ، وكان مركباً من وجوه :
أولاً : كثرة قتلى المشركين وعددهم سبعون قتيلاً .
ثانياً : سقوط عدد من رؤساء قريش قتلى في المعركة ، فمثلاً من وجهاء قريش الذين قتلوا يوم بدر زمعة بن الأسود بن عبد المطلب ، وكان عدواً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وممن سار هو وأبوه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة ليوقف دعوته إلى التوحيد فأبى عليهم .
وقتل مع زمعة يوم بدر أخوه عقيل ، وابنه الحارث بن زمعة الذي دخل الإسلام ، ولكن أباه فتنه وأصر على رجوعه إلى الشرك فقتل مع ابيه بخلاف ابنه الآخر يزيد بن زمعة الذي هاجر إلى الحبشة ، وحافظ على إسلامه ، إلى أن استشهد في معركة حنين ، لم يقتله المشركون من هوازن وثقيف إنما جمح به فرسه (الجناح ) فقتل .
وكان الأسود بن عبد المطلب يحب ابنه زمعة حباً شديداً ، ويكنيه أبا حكيمة ويعرف ماله من شأن في المجتمعات ، فلما بلغه قتله وأخيه وابنه ، وكان قد أصيب بالعمى ، فلم يستطع البكاء على بنيه لمنع قريش عامة أهل مكة من البكاء .
فسمع نائحة من الليل تبكي ، فأرسل غلامه قال له أنظر هل أحلت قريش النحب (لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ يَعْنِي زَمَعَةَ فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ .
قَالَ فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ إنّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ . قَالَ فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ … وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
وَبَكّي إنْ بَكّيْتِ عَلَى عَقِيلٍ … وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا … وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ … وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا) ( ).
الرابعة : الضرر الذي لحق قريشاً بين القبائل ، وهل يختص هذا الضرر باخبار وقائع معركة بدر ، الجواب لا ، إذ أن ما ترشح عنها أكثر وأعظم .
لقد صارت معركة بدر يوم الفرقان والفيصل بين الإيمان والكفر، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الخامسة : الأضرار الإقتصادية ، ولقد أنعم الله عز وجل على قريش بالتجارة الواسعة ، والضرب في الأرض إلى الشمال حيث بلاد الشام ، وإلى الجنوب إلى اليمن .
كما ركبوا البحر نحو الحبشة للتجارة بعد أن كانت التجارة بيد أهل اليمن التي دبّ إليها الضعف لسقوطها بيد الحبشة ، وصارت أم القرى بحكم موضع البيت الحرام وقدسيته عند العرب الوسيط التجاري بين الشرق والغرب ، ويدل عليه قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل لتجارة قريش أن تكون مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومدخلاً لتصديق قريش برسالته ، لقوله تعالى في السورة أعلاه [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
إحصاء أضرار المشركين يوم أحد
من المسلمات إلحاق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الضرر الفادح بالمشركين ، وتدل عليه آيات كثيرة ونصوص والتأريخ والوجدان ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ]( ).
لتكون النسبة بين هذه الآية من سورة إبراهيم وبين نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عموماَ وخصوصاَ مطلقاَ ، فقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) مدني ، وسورة إبراهيم مكية ، أي أن انذار قريش من الهزيمة والخسارة من قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليمتنعوا عن القتال يومئذ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وحيث أنهم لم يتعظوا ووقع مصداق الإنذار يوم بدر ، وهو شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيجب أن يكفوا عن قتاله ، ولكنهم تمادوا في الغي فكانت معركة أحد.
وظنوا أن كثرتهم وجيش من ثلاثة آلاف رجل استعدوا للمعركة سنة كاملة وبذل الأموال الطائلة فيها ، ودفع الأموال وقضاء الحوائج للمستأجرين من المقاتلين وعددهم الفان سيغير نتيجة المعركة .
ولكن النتيجة يوم أحد ذاتها ، فلم ينتصر المشركون وانسحبوا في نفس يوم المعركة بعد أن خسروا اثنين وعشرين من رجالهم ، وكانت بداية المعركة نصراً حاسماً للمسلمين لولا ترك الرماة مواضعهم بخلاف وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم إذ قال لهم (لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير ، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم : اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم)( ) وعبد الله بن جبير أمير الرماة .
وسقط يومئذ سبعون شهيداً من الصحابة ، ولا يحصي أَضرار المشركين العاجلة واللاحقة في معركة أحد إلا الله عز وجل ، ونزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وتضمنت الآيات الوعيد للكافرين بالعذاب في الآخرة ، قال تعالى [مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ]( ).
شواهد من أذى قريش للنبي (ص)
لقد لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى بعد موت عمه أبي طالب , إذ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)( ).
وكانت وفاة أبي طالب وخديجة في سنة واحدة هي السنة العاشرة للبعثة النبوية , وبعد خروج بني هاشم من حصارهم في شعب أبي طالب .
(قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته : أبو لهب، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن أبى معيط، وعدى بن الحمراء، وابن الاصداء الهذلى.
وكانوا جيرانه، لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبى العاص.
وكان أحدهم، فيما ذكر لى، يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا .
ثم يلقيه في الطريق.
وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على سبعة منهم)( ).
لقد اشتد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما جعله يخشى على نفسه من القتل , فخرج إلى الطائف يلتمس الإيواء , ودفع الضرر , وصرف أذى قريش , ومنع مناجاتهم في قتله , أو إقدام بعضهم على قتله , وهناك مسائل :
الأولى : لا يحصي منافع خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف إلا الله عز وجل .
الثانية : لم يكن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف إلا بالوحي .
الثالثة : خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف الإمام علي عليه السلام , وقيل زيد بن حارثة .
وكانت أول هجرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله , وتبعد الطائف عن مكة نحو (64)كم كخط مستقيم , ولكنها تكون بالسيارة نحو (88)كم للمنعطفات والمتعرجات في طريق التبليط , وكذا بالنسبة لسير القوافل في السابق .
ويعجز الناس والملائكة عن إحصاء منافع وفيوضات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : مناسبة نزول تمام آيات القرآن لإقتران هذا النزول الذي استمر ثلاثاً وعشرين سنة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، قال تعالى [وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا]( ).
الثالث : نعمة تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن بعد الهجرة بأمن وسلام ويحيط به أصحابه ، وكتاب الوحي ، فيتلقفون ما ينزل من القرآن ، وهو من أسباب سلامته من التحريف أو الزيادة أو النقصان ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ).
الرابع : نعم الله عز وجل على الأنصار وعامة أهل المدينة .
الخامس : عجزنا عن إحصاء نعم الله عز وجل بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أجيال المسلمين المتعاقبة ، وأهل الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخطاب في [وَإِذْ غَدَوْتَ]
لقد كانت معركة بدر فيصلاً وفرقاناً بين الإيمان والشرك ، فقد سالت الدماء ، ولحقت يومئذ الهزيمة قريشاً ، لذا سمّى الله عز وجل يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
ولم تكن هزيمة قريش عسكرية ومحصورة بميدان المعركة فقط بل كانت على وجوه أخرى متعددة منها :
الأول : قانون لحوق الذل والهوان لكفار قريش .
الثاني : قانون دلالة نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر على صدق نبوته ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) .
الثالث : قانون دخول الحزن والأسى لكل بيت من بيوت مكة في معركة بدر.
الرابع : قانون تخلي قبائل العرب عن قريش ، وتعرض قوافلها للخطر ،وإحتمال النهب والسلب .
ولا يحصي الحزن والأسى الذي لحق المشركين وعوائلهم يوم بدر إلا الله عز وجل .
وتبين هزيمة كفار قريش هذه خيبة الإرهاب والتعدي ، قال تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
إدعت قريش بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أراد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان العائدة من الشام والمحملة بالبضائع ، ولا أصل لهذه الدعوة التي كانت السبب بنشوب معركة بدر ليبتلوا بعدها بالخشية وأمارات استحواذ القبائل بين مكة والشام على قوافلهم ، فلا غرابة أن يستعدوا لمعركة أحد باتخاذ أموال وإبل التجارة مادة ووسائل لمعركة أحد .
وعن الزهري وعاصم بن عمر وغيرهما في ذكر مقدمات معركة أحد قالوا (لما أصيب يوم بدر من كفار قريش اصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره مشى عبدالله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب
آباؤهم واخوانهم وأبناؤهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب منا ففعلوا.
وقال ابن سعد لما رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التى قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة في دار الندوة فمشت اشراف قريش إلى أبى سفيان فقالوا نحن طيبو أنفس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد فقال أبو سفيان فأنا أول من أجاب إلى ذاك وبنوا عبد مناف فباعوها فصارت ذهبا وكانت ألف بعير والمال خمسين الف دينار فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم واخرجوا أرباحهم وكانوا يربحون في تجاراتهم لكل دينار دينارا)( ).
قانون خيبة المشركين
ويحتمل موضوع تعلق إنقلاب الكفار خائبين وجوهاً:
الأول: حال الكبت والخزي للكفار.
وهل يختص الكبت بالكيفية النفسانية للمشركين , الجواب لا , إذ أنه يبرز في القول والفعل , ويختص الله عز وجل بإحصاء كل من:
الأولى : مقدار الكبت الذي عند المشركين , وهل ذات ومقدار هذا الكبت بأمر من عند الله عز وجل , أم أنه عرض لأمر من الله تعالى , الجواب إنه فرد جامع لهما معاَ .
الثانية : موضوع ومدة الكبت .
الثالثة : قانون استحواذ الكبت على النفوس .
الرابعة : أثر الكبت على أفعال المشركين , وعزوفهم عن مواصلة القتال وتكرار الغزو للمدينة وسروحها .
الخامسة : موضوعية كبت المشركين في سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
السادسة : قانون أضرار المشركين بسبب ما لحقهم من الكبت .
السابعة : قانون إنتفاع المسلمين من رمي المشركين بالكبت.
الثاني: إجتماع هلاك طائفة من المشركين مع كبتهم وخزيهم.
الثالث: حدوث أحد الأمرين إما القطع أو الكبت .
فحتى إذا لم يحدث قتل ذريع في صفوف الكفار فإنهم يصابون بالخزي والكبت , كما في واقعة الخندق , إذ رجعوا إلى مكة من دون أن يبلغوا الذي أرادوه من قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وكل هذه الوجوه مقدمة وسبب لهزيمة الكفار، ولكن ماذا بعد قوله تعالى(فينقلبوا خائبين)( ) وبعد رجوعهم من المعركة هل يصاحبهم الذل والفشل، الجواب من وجوه:
الأول: قانون صيرورة الكفار عاجزين عن القتال ، وعن تجهيز الجيوش ضد الإسلام.
الثاني: تمكن المستضعفين من أهل الإيمان من الخروج , والهجرة إلى المدينة , كما حدثت شواهد تأريخية عديدة منه.
الثالث: إعلان أبناء المشركين إسلامهم، وعدم الخشية من سطوة الكفار الذين صاروا في حال خيبة وخسران.
إحصاء رعب الكفار من خصائص المدد الملكوتي
عدم عروج الملائكة إلى السماء إلا بعد هزيمة وانكسار جيش المشركين حتى في معركة أحد التي ادعى مشركو قريش النصر فيها فانهم انسحبوا في نفس يوم المعركة بخيبة وخذلان وخوف ألقاه الله في قلوبهم ، قال تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
ولا يحصي ماهية وكم وكيف هذا الرعب إلا الله عز وجل ، وكذا لا يحصي إلا الله عز وجل آثار هذا الرعب والخوف الذي قذفه الله في قلوب المشركين إلا الله عز وجل ، وهو من أسرار مجئ لفظ (الرعب) في الآية بدل الخوف ، لأن النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالرعب أشد.
وقد ورد لفظ (الرعب) أربع مرات في القرآن ، وكلها في ذم الذين كفروا وهي :
الأولى : قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
الثانية : قوله تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ) .
الثالثة : قوله تعالى [وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا]( ) .
الرابعة : قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ]( ) .
ليستأصل الإرهاب والظلم ويعم السلام الأرض بسلطان النبوة وآيات التنزيل ، ولبيان قانون نزول الملائكة رحمة دائمة لأهل الأرض.
جدول القتلى أيام النبوة
تقدم في الجزء الرابع والستين بعد المائة من هذا السِفر جدول تفصيلي( )، بعدد القتلى في ثلاث وعشرين سنة أيام فترة النبوة ومجموع عددهم هو (515) فرداً من المسلمين واليهود والمشركين ، إذ يكون مجموع القتلى من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وله وسلم وهو في سن الأربعين في سنة 610م إلى حين إنتقاله إلى الرفيق الأعلى في السنة العاشرة للهجرة كالآتي:
الأول : عدد الشهداء من المسلمين هو: 234
الثاني : عدد القتلى من المشركين هو: 212
الثالث : عدد القتلى من اليهود هو: 69
ويكون المجموع الكلي في ثلاث وعشرين .
خمسمائة وخمسة عشر من المسلمين والمشركين واليهود ، وقتلى المسلمين هم الأكثر ، قال تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( ).
مع جعل هامش بمقدار العشر 10% بلحاظ بعض الروايات والأخبار التي لا تخلو من المبالغة في عدد قتلى الطرف الآخر وتقادم الزمان في الرواية إذ أن ابن إسحاق مثلا متأخر في زمانه (85-151) هجرية ,وكان جده من سبي عين التمر التي فتحها المسلمون سنة 12 للهجرة وشرع إبن إسحاق في كتابة السيرة النبوية في أيام أبي جعفر المنصور الذي تولى الحكم سنة(136-158) هجرية.
وهناك سرايا لم تثبت منها :
أولاَ : سرية آبان بن سعيد بن العاص ، قِبل نجد في السنة السابعة للهجرة.
ثانياَ : سرية أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي الحجة من السنة السابعة للهجرة.
ثالثاَ : سرية أبي حدرد إلى الغابة ذكرها يونس عن ابن إسحاق( ).
وروى كتابه ابن هشام.
معجزة بلوغ التنزيل للمشركين في الحال
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول آيات القرآن إلى منتديات المشركين ، وغزوها للقبائل والبيوت والقلوب .
فلم تكن آنذاك وسائل إعلام وتملأ كثرة إجهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن قلوب المشركين بالغيظ ، ويتناجون بقتله ، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس بجوار الزائر والمعتمر للبيت ، ويسأله عن قبيلته ثم يعرض عليه آيات القرآن والتي كانت تتصف بالقصر وصبغة الوعد والوعيد ، ويمتاز العرب بسرعة الحفظ.
ثم يطلب منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستر أمره من قريش ، ولم تمر السنون حتى يدخل مكة إماماَ لاثني عشر ألفاً من المهاجرين والأنصار مع عدم حدوث قتال يذكر يومئذ ، لأن أكثر رجالات قريش كانوا في جيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم أكثر قادتهم في معركة أحد ، والخندق ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
وصارت آيات القرآن تتلى في منتديات الكفار، وقام الناس بالحديث عن معجزات النبي محمد صلى عليه وآله وسلم علانية، ومن هذه الآيات ما يتضمن تحريم الشرك ، وعبادة الأوثان ، والخمر ، والربا، والنهي عنه، وإسقاط الأرباح الربوية التي في ذمة الناس لتجار قريش وأرباب الأموال من غيرهم.
ومن مصاديق صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يؤجل تلك الآيات إلى حين تثبيت دعائم الإسلام وأركان دولته، وصيرورة التجار والأغنياء عاجزين عن محاربته.
ولا يحصي طرق ووسائل نقل آيات القرآن والرسالة إلى الناس إلا الله عز وجل ، وكذا في أيام الحياة الدنيا اللاحقة وليتجلى الوعد من عند الله في أمره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
قانون إمهال المدين أعم من الربا
صحيح أن قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، جاء بعد آيات الربا إلا أن موضوعه مطلق يشمل الديون والقروض لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق .
الثاني : قانون موضوع وأحكام الآية القرآنية أعم من سبب النزول .
الثالث : إستقراء المعنى الأعم للآية وشمولها لمطلق القرض من السنة النبوية المستفيضة .
(وفي صحيح مسلمٍ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ ، وفي روايةٍ : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً ، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ ، أنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، وفي رواية : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ)( ).
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنحاس في ناسخه وابن جرير عن ابن سيرين: “ان رجلين اختصما الى شريح في حق فقضى عليه شــريح وأمر بحبســه.
فقال رجــل عنده: انه معســر والله تعالى يقول [ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ]، قال: انما ذلك في الربــا، ان الربــا كان في هــذا الحي من الانصــار فأنزل الله [ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا .
ولكن الآية أعم من الربا وإمهال المدين المعسر حسن ذاتاً ، لأن الربا فيه موضوعان:
الأول: الفائدة والزيادة على مال القرض.
الثاني: أصل المال.
والزيادة محرمة وأمرت الآية السابقة بتركها وحرمة أخذها بقوله تعالى [ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ]( )، فلابد ان يكون الامهال بخصوص رأس المال وهو غير الدين والقرض.
وإذا كان أجرى عقد الدين او القرض على أساس الفائدة فقد أمره القرآن بأمرين:
الأول: قانون إسقاط الزيادة والربح الربوي.
الثاني: قانون إمهال المدين ان كان معسراً.
فمن باب أولى ان يكون غيره الذي اعطى من أجل القرض والأجر والثواب الامهال والصبر، بالاضافة الى وحدة الموضوع في تنقيح المناط والنصوص المستفيضة عن امهال المعسر مطلقاً.
(مسألة 1) نعم قد يقال أن حكم الحاكم والقاضي بخصوص الدين غير إمهال المعسر , وتفيد نصوص الإمهال في ظاهرها الإستحباب ,والمختار وجوب إمهال المعسر ، وفي رسالتي العملية (الحجة ) الجزء الثالث (المعسر الذي يتعذر عليه أداء الدين وقضاؤه يجب على الدائن امهاله، وانظاره الى حين يساره قال تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ].
(مسألة 2) لا يجوز للمدين المماطلة في أداء الدين مع القدرة وتعتبر معصية.
(مسألة 3) يجب على المدين استصحاب نية القضاء مع عدم القدرة اي انه يبني على قصد الأداء عند القدرة.
(مسألة 4) لو امتنع المدين عن أداء الدين وجحده وحلف على انكاره ولم يمكن اجباره يجوز للدائن المقاصة من ماله واخذ مقدار دينه بشرط عدم الفتنة والضرر.
(مسألة 5) اذا كان المدين حاضراً ولم يكن ممتنعاً وتعذر عليه ايصال الدين الى الدائن بسبب وجود مانع في البين، وتمكن الدائن من اخذ مقدار دينه من ماله جاز له أخذه.
(مسألة 6) تصح المقاصة في حال تحقق موردها سواء كان موضوعها الدين او غيره، بل يجوز بيع بعض اموال المدين واخذ عوض الدين من قيمتها بشروط وهي:
1- ثبوت الدين.
2- حلول الأجل.
3- عدم حاجة المدين لتلك الاموال اي انها ليست من مستثنيات ديونه.
4- امتناع المدين عن أداء الدين.
5- ان يكون البيع وقيمته باذن الحاكم الشرعي او من يختاره من عدول المؤمنين.
(مسألة 7) لو علم شخص باشتغال ذمته بدين وتردد بين الأقل والأكثر يجب عليه الأقل والأحوط الأكثر.
(مسألة 8) اذا علم بان عليه مقداراً معيناً من الدين ولا يعلم بأنه من حق الناس ويجهل صاحبه او من الحقوق الشرعية كالزكاة او الخمس فيدفعه الى الحاكم الشرعي بقصد ما في الذمة مع بيان وجهه لقاء وثيقة اثبات اذا احتمل ظهور من يدعي هذا الدين).
وقد يرى الحاكم تمادي الناس في قضاء الديون , ليتخذ الحبس في بعض الحالات لسد الذرائع مع إمكان القضاء ولو بتقليل النفقات الزائدة .
وللحاكم أن يطلب البينة من الدائن على عدم إعسار المدين , مع موضوعية بيت المال في قضاء الديون والمصالحة عليها , ولتعاهد الإقراض بين الناس , والخشية من إنقطاعه بإمساك الناس عنه وفي الفائدة المضاعفة وجوه :
الأول : فوات ثواب عظيم .
الثاني : حجب قضاء للحاجات .
الثالث : قطع للمعروف وباب القرض .
الرابع : إضعاف البر والإحسان , قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
وعن أبي قتادة قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من نفس عن غريمه او محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة” ( ).
وهذه الآية حاضرة في كل سوق من أسواق المسلمين والى يوم القيامة، والاستدلال بآية رد الأمانات في حبس المعسر لا يخلو من إشكال على فرض ان المراد بالحق هو الدين، لأن الأمانة أخص منه، ولأن المعسر لم ينكر او يجحد الدين او الأمانة، وعلى فرض الحاق الدين بالأمانة، فان الأداء جاء على نحو التنكير، والمدان لم ينكر الدين ولكن يتعذر عليه أداؤه، ثم ان قاعدة نفي الحرج حاكمة في المقام.
ويمكن ان نؤسس قانوناَ وهو : لو دار الأمر في باب الرحمة بين موضوعين أحدهما أوسع من الآخر فالأصل هو الأوسع والأعم الا مع القرينة الصارفة.
قانون التعجيل بالقضاء حال الميسرة
هل يتنجز الأداء حال تحقق مسمى اليسار، أم يمهل الى حين اســتقراره عنده .
الجــواب : هو الأول لأولويـة حقوق الناس، وتقييد الآية الإمهال بالإعســـار فلا يجوز لغير المعســر تسويف القضــاء والامتناع عنه، وللدائن ان يقيم الحجة على عدم إعسار المدان وانتزاع الدين منه.
وقد تبدو الميسرة بعيدة المنال وحال المدان تخبر عن عجزه عن الأداء ولو مع الإمهال، فينفد صبر الدائن، ولكن الأمر بالإمهال مدخل لتهيئة أسباب القضاء، وعن الإمام الباقر عليه السلام : قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سره أن يقيه من نفحات جهنم فلينظر معسرا أو ليدع له من حقه)( ).
وجاء ذكر المعسر في الحديث أعلاه مطلقاَ من غير تخصيص بالإسلام أو الإيمان , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فالأمر للدائن بالإمهال يتفرع الى:
الأول : القاضي بعدم حبس المدان إلا مع وجود الراجح الخاص أو العام وعدم الاستيلاء على مستثنيات الدين التي يحتاج اليها في مؤونته , ومؤونة عياله.
الثاني : الأمر للإمام والملك والسلطان بان يقضي عنه من الزكاة وبيت المال , فمن أصناف مستحقي الزكاة الغارمين , قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالث : الدعوة الى المحسنين لإعانة المدين سواء بقضاء الدين او بتهيئة أسباب الكسب والمعيشة.
الرابع : الاخبار العام بأنه في حال عسر وعجز عن أداء الدين، والذي يدل في الغالب على العوز والفاقة والفقر.
وكما ان لفظ (ميسرة) لم يرد في القرآن إلا في قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ) ، فكذا لفظ (نظرة) – بكسر الظاء.
مما يعني العناية القرآنية بالمدين المعسر، وان الله عز وجل يرى حاله ويرأف به ويأمر بالإشفاق عليه وإعانته، واجتناب توبيخه على الاستدانة او عليها وعلى العجز والتخلف عن الأداء .
ومن رأفة الله تعالى ان (النظِرة) تعلقت بمطلق الإعسار من غير تقييد بسبب مخصوص، حملاً لعمل المسلم على الصحة ولأنه في حال يستحق الإعانة والنجاة مما فيه وليس المؤاخذة واللوم.
وسيأتي قانون إحصاء الله عز وجل وحده لمنافع القرض على الدائن والمدين والمجتمع.
ومن فضل الله عز وجل أن تكون مائتا جزء بين هذا الجزء والجزء (48) فيما يتعلق بموضوع متحد بالبيان والإستقراء والإستنباط المستحدث والحمد لله , إذ ورد في الجزء أعلاه تفسير قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
قانون كيفية المحق لا يحصيها إلا الله
قد ورد قوله تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : قانون التباين والتضاد بين الصدقة والربا .
الثانية : قانون ترتب الأثر والجزاء على سنخية الفعل .
الثالثة : قانون من الجزاء ما يكون حالاً وفي الدنيا ، ومنه مصاديق من محق وإنعدام البركة في المال الربوي .
الرابعة : قانون الترغيب بالصدقة ، والزجر عن الربا .
الخامسة : دعوة المسلمين وأهل الكتاب والكفار لرؤية ضروب المحق والتلف على المال الربوي ، لورود الآية بصيغة الإطلاق بخصوص الربا ، ومنه ما تبقى من المال الربوي للذي دخل الإسلام حديثاً في ذمة الناس.
وفي حديث طويل وجميل عن جابر بن عبد الله الأنصاري في توثيق حج وأداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمناسك في حجة الوداع ، جاء في شطر منه بخصوص خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة قال جابر (ولا تشك قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية .
فاجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا غربت الشمس أمر بالقصواء فرحلت .
فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس.
فقال : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا .
ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دم عثمان بن ربيعة بن الحرث بن المطلب .
وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله .
اتقوا الله في النساء أخذتموهن بامانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف
وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ، وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت قال : اللهم اشهد ، ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً)( ).
وتتضمن آية (ويمحق) التخويف والوعيد ، المقرون بالتحدي ، ويحتمل محق الربا من جهة أوانه وجوهاً :
الأول : في الدنيا .
الثاني : في الآخرة .
الثالث : في الدنيا والآخرة .
والمختار الأخير أعلاه .
ومن معاني التحدي في الآية ظهور أمارات المحق في الدنيا ، ويكون على وجوه كثيرة لا يحصيها إلا الله عز وجل منها :
الأول : نقص أموال الربا ، فكأن آكل المال الربوي لم يسترد من المقترض إلا رأس ماله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الثاني : إنفاق المال الربوي في غير حاجة.
الثالث : طرو إنفاق زائد على المربي.
قانون الصلة بين الحكم والإنفاق
ترى ما هي الصلة بين الحكمة التي تذكرها الآية [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]( ) والإنفاق في الآية التالية لها [وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) الجواب هو العموم والخصوص المطلق , لوجوه:
الأول : قانون الإنفاق في سبيل الله من الحكمة .
الثاني : هل النذر في الصالحات منها , الجواب نعم , مع اليسر وعدم التشديد على النفس .
الثالث : قانون إدراك أن الله عز وجل يعلم النفقة ويضاعف الأجر عليها , ويعلم النذر وبيده أمره .
فمن معاني [فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ] ( ) أي يشكركم ويؤجركم عليه , قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الرابع : من الحكمة التسليم بانعدام الناصر للظالمين .
وهل يختص موضوع الآية في الآخرة بإنعدام الشفيع والمُعتذر عن الظالمين الجواب لا , لأصالة الإطلاق في الآية , وللإنذار والوعيد .
فلابد أن يصيب الضعف والهلاك الظالمين , قال تعالى [هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ] ( ).
ولا يقدر على هلاك الظالمين إلا الله عز وجل , ولا يعلم كيفية وسبل وأوان وأثر هلاكهم إلا الله عز وجل .
إحصاء الله لمنافع التجارة
بعد أن كانت التجارة بيد أقطاب وأفراد معدودين من قريش , قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، لأنهم كانوا يسافرون في الصيف إلى الشام لبرودتها، وفي الشتاء إلى اليمن لجلب البضائع والتجارات ، صارت التجارة والمكاسب حرة وقريبة من كل إنسان ، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ويتجلى قانون التجارة عنوان الأمن والإستقرار المجتمعي.
لقد جاء الإسلام بقوانين تنظيم المعاملات ، وتغيرت صيغ الكسب , وسادت مفاهيم الإنصاف في الأسواق، وهو الذي كانت قريش تقاتل لدفعه ومنعه.
ويختص الله عز وجل بإحصاء مصاديق ومنافع كل من :
الأول : قانون إزدهار التجارات بعد الفتح .
الثاني : قانون إزدياد موارد المسلمين عامة، وأهل المدينة ومكة خاصة.
الثالث : قانون كثرة تنقل الناس بين الأمصار .
الرابع : قانون تحقق الأمن في أطراف الجزيرة، وهو سبب لكثرة البيع والشراء.
الخامس : منافع صلح الحديبية وفتح مكة كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
والأصل أن تتوسع تجارات قريش خصوصاً وأنهم دخلوا الإسلام يوم الفتح ، لتبتني الأسواق بعد الإسلام على قواعد شرعية تتقوم بالسماحة والتيسير، وإمهال المدين، قال تعالى[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ).

سياق الآية
لقد أختتمت الآية [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ( ) بقوله تعالى [وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ] ( ).
وهل يمكن الجمع بينها وبين الآية التي بعدها الجواب نعم , والتقدير (يا أولي الألباب ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر)
والصلة بين تقوى الله عز وجل وبين الإنفاق في سبيله عموم وخصوص مطلق , فهذا الإنفاق والنذر من التقوى , قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
و( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) ( ).
وفي حين أختتمت الآية السابقة وهي آية الحكمة بالثناء على أرباب العقول , فإن آية الإنفاق أختتمت بالوعيد للظالمين , والوعيد على كل من:
الأول : حبس الزكاة .
الثاني : الإنفاق في المعاصي .
الثالث : الإنفاق في الحرب على الله ورسوله .
كما في مشي بعض رؤساء قريش على بيوتات مكة بعد هزيمتهم في معركة بدر , وسؤالهم في جعل أرباحهم في قافلة أبي سفيان للتجهيز لمعركة أحد .
و(عن ابْنُ إسْحَاقَ : فَفِيهِمْ كَمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى [إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ( )) ( ).
بحث بلاغي
من بدائع القرآن ووجوه البلاغة فيه علم التقسيم وهو حصر واستيفاء أقسام الشيء الموجودة، وان كان الوجود وكذا الامكان الفعلي أعم من الايجاد ومنه قوله تعالى [ وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ] ( ).
فمثلاَ لحاظ التقسيم في بيان قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( ).
الأول : بخصوص ترك الربا، فأما ان يتركوا الربا وأما الإصرار على الربا وعدم تركه عناداً وجحوداً، ولا ثالث لهذين القسمين لخصوص من يتعاطى الربا، والآية تدل على شيوعه وانتشاره وكثرة تعاطيه ولزوم التصدي السماوي له.
وعدم الفعل أعم من التوبة، فقد يتركونه لفترة وجيزة بسبب الحكم الشرعي وانتظار حال أخرى من التراخي في الحكم والتشـــريع، او حصـــول الحاجة الى الربا، او ان عدم الفعل نتيجة أزمـــات طـارئة يصعب فيها قضاء الدين او عدم الحاجة له.
لذا جاءت الآية للبيان بتوكيد موضــوع التــوبة، وهذا من الاعجاز القـــرآني فالتوبة ليســت نهاية لحال وتركاً لمعصية فقط ، بل هي بدايــة عالم جـــديد من التقـــوى والصلاح والهداية والرشاد , قال تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والتوبة نظام متكامل وبناء عقائدي وأخلاقي، لذا أكدت الآية على التوبة كشرط للنجاة في الدنيا والآخرة، لأن موضوع خاتمة الآية أعم من ان ينحصر بالدنيا بل يشمل الدنيا والآخرة، وهو أمر لا يتحقق الا مع التوبة كثوب وسنخية جديدة وسور يحيط بأعمال العباد .
وهل المراد التوبة من الربا أم مطلقاً، ظاهر الآية إرادة التوبة من الربا الا انه لا مانع من حمل التوبة على المعنى الأعم وشمولها للتوبة النصوح من المعاصي والذنوب ليكون هجران الربا فرع التوبة المطلقة , قال تعالى [وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثاني: انتقلت الآية الى تقسيم آخر يتجلى في قوله تعالى [ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ]( ).
فالآية ذكرت قسمين لانتفاء الظلم، ومن الإعجاز القرآني الذي يفوق الإصطلاح البلاغي (التقسيم) تضمن القسمة لقسم ثالث، وهذا علم قد يلتفت اليه في البلاغة ، فيمتاز التقسيم القرآني بوجود قسيم أو أكثر لم يذكر، ولكن ظاهر التقسيم يدل عليه، ومنه تضمن التقسيم الأول لترك الربا من غير توبة.
وهل يستحقون معه رأس المال وحده أم الفائدة او بعضها معه، الجواب: أنهم لا يستحقون الا رأس المال فهو ملحق بالحكم الوضعي للتوبة، لما في التوبة من قصـــد القربة والأجــر والثواب، فالتــوبة مع رأس المال أكثر ربحاً وبركة ونفعاً عاجلاً، من رأس المال زائداً الفائدة الربوية.
ومنه أي من الاعجاز الذي يتجاوز القواعد البلاغية وجود تقسيم ثالث لانتفاء الظلم، وهو الجامع للقسمين معاً والمتفرع عنهما، بان يكون الانسان لا ظالماً ولا مظلوماً في آن واحد، للدلالة على الأضرار الاجتماعية للزنا والربا وانه ظلم.
والأحكام التكليفية خمسة ، ولا يحصي منافع كل حكم منها إلا الله عز وجل ، وتتجلى أبهى معاني ومصاديق هذه المنافع بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن .
التعليم السماوي
قيل أن آدم تعلم أصول اللغات كلها , والمختار أن تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء لم يكن مثل المتبادر إلى الأذهان في كيفية التعليم في الدنيا .
إذ أنه تعليم سماوي خاص يتصف بخصائص إعجازية , وتتصف بالبيان والوضوح .
وقيل أن السريانية والعربية لغة واحدة , وطرأ الإختلاف بينهما بحسب مناطق السكن وتباعدها .
وذكر أن لغة إبراهيم عليه السلام السريانية ولكن كيف كان ينادي القبائل العربية بقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
فلابد أنه ناداهم بالعربية , كما أن هاجر وإسماعيل حينما اسكنهما إبراهيم بجوار البيت وجاءتهم جرهم هل تكلموا معهما بلغة الإشارة , الجواب لا .
و(عن ابن عباس قال : حمل نوح عليه السلام معه في السفينة ثمانين إنساناً . أحدهم جرهم وكان لسانه عربياً)( ).
لقد كانت نجاة إسماعيل وأمه هاجر معجزة لإبراهيم ولها وللبيت الحرام , فلما أبت سارة أن تبقى هاجر وابنها معها خرج إبراهيم بهما وليس مع أم إسماعيل إلا شنة فيها ماء .
وكان بإمكان إبراهيم عليه السلام أن يبعدها بضع كيلو مترات في بلاد الشام الواسعة ذات الماء والشجر والخيرات.
ولكن كان من قوانين حمورابي وغيره أن ولد لأمة يكون للزوجة الأصل , فمنع إبراهيم عليه السلام من فصل إسماعيل عن هاجر لأن الله عز وجل أراد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نسله ، ولإرادة عمارة البيت الحرام.
ولبيان أن الدعوة إلى منعطفات التأريخ الكبرى وما فيه لا يتم إلا برسالة ومنهاج وجهاد نبي , ولا يستطيع الناس إحصاء منافع انتقال إسماعيل إلى مكة اليوم وغداَ .
وفي سفر التكوين (و قالت من قال لابراهيم سارة ترضع بنين حتى ولدت ابنا في شيخوخته , فكبر الولد و فطم و صنع ابراهيم وليمة عظيمة يوم فطام اسحق , و رات سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لابراهيم يمزح .
فقالت لابراهيم اطرد هذه الجارية و ابنها لان ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق , فقبح الكلام جدا في عيني ابراهيم لسبب ابنه.
فقال الله لابراهيم لا يقبح في عينيك من اجل الغلام و من اجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لانه باسحق يدعى لك نسل , وابن الجارية ايضا ساجعله امة لانه نسلك.
فبكر ابراهيم صباحا و اخذ خبزا و قربة ماء و اعطاهما لهاجر واضعا اياهما على كتفها و الولد و صرفها فمضت و تاهت في برية بئر سبع, و لما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت احدى الاشجار, و مضت و جلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس لانها قالت لا انظر موت الولد فجلست مقابله و رفعت صوتها و بكت.
فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء و قال لها ما لك يا هاجر لا تخافي لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو , قومي احملي الغلام و شدي يدك به لاني ساجعله امة عظيمة.
و فتح الله عينيها فابصرت بئر ماء فذهبت و ملات القربة ماء و سقت الغلام , و كان الله مع الغلام فكبر و سكن في البرية و كان ينمو رامي قوس
وسكن في برية فاران و اخذت له امه زوجة من ارض مصر)( ).
قد تكرر لفظ (فاران) عشر مرات في التوراة.
وفاران هي مكة .
فمثلاَ (ويُقال أنّ موسى عليه السلام حارب هنالك العرب، مثل طسم وجديس والعماليق وجَرْهَم وأهل مدين حتى أفناهم جميعاً، وأنه وصل إلى جبل فاران، وهو مكة، فلم ينج منهم إلاّ من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل عليه السلام)( ).
ولا أصل لقتال موسى عليه السلام ضد هذه القبائل العربية وأنه أفناهم جميعاً .
وقال ياقوت الحموي (فاران: بعد الألف راء وآخره نون كلمة عبرانية معربة، وهي من أسماء مكة ذكرها في التوراة قيل هو اسم لجبال مكة. قال ابن ماكولا أبو بكر نصر بن القاسم بن قُضاعة القضاعي الفاراني الإسكندراني سمعت أن ذلك نسبته إلى جبال فاران وهي جبال الحجاز.
وفي التوراة: جاء اللهَ من سيناءَ وأشرَق من ساعير واستعلن من فاران مجيئه من سيناء تكليمه لموسى عليه السلام وإشراقه من ساعير وهي جبال فلسطين هو إنزالهُ الإنجيل على عيسى عليه السلام واستعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم قالوا وفاران جبال مكة) ( ).
لقد توجه إبراهيم عليه السلام بالدعاء إلى الله عز وجل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ) .
وعندما غادر إبراهيم عائداً إلى الشام حيث سارة وإسحاق نادته هاجر (يا إبراهيم، إلى من تتركنا.
قال: إلى الله، عز وجل.
قالت: رضيت بالله ، فرجَعَتْ) ( ) .
وعندما فني الماء الذي في القربة صات تصعد الصفا ثم تأتي المروة ، وهرولت سبع أشواط بحثاً عن الماء ، وهي تنظر إلى ابنها الذي أصابه العطش ، حيث لم يدر ثديها حليباً .
فسمعت صوتاً وإذا هو جبرئيل ، فضرب بجناحه الأرض فتدفق ينبوع الماء ، أي أن جبرئيل أشار بصوته إلى نبع الماء ، ولم يكتف بالفعل ، لأن فضل الله عز وجل ينزل دفعة.
فقامت هاجر بالحفر ووضع حاجز دون سيلان ماء زمزم (فقال أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم: “لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا)( ).
معجزة أوان تحريم الزنا والربا
لقد جاءت آيات الفرائض العبادية من الصلاة والصوم والزكاة ونحوها ، وحرمة الربا والخمر والزنا والمعارك دائرة مع أقطاب الكفر والضلالة، وكفة الكثرة في العدد والعدة مع الكفار وعلى نحو ظاهر , ولكن النبي مأمور بالتبليغ , وليس له تأخير وتأجيل شطر من الآيات بحسب الحال والمقال ، قال تعالى[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
فتجلت معاني العصمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الله عز وجل بالأمن والسلامة من قريش وأصحاب الأموال مثل ثقيف مع مجيئه بحرمة الربا، وإعلانه إسقاط الديون الربوية.
وهل كان من أسباب هجوم ثقيف وهوازن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة حنين تحريم القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الربا وشرب الخمر ونحوه وعبادة الأوثان ، الجواب نعم.
ويدل عليه كثرة الغنائم التي صارت بأيدي المسلمين في معركة حنين ، والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة النبوية ، وهي أكثر غنائم وقعت بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في يوم واحد وهي :
الأول : أربعة وعشرون ألفاً من الإبل .
الثاني : أكثر من أربعين ألف شاة( ).
الثالث : السبي ستة آلاف من النساء والصبيان .
الرابع : أربعة آلاف أوقية فضة .
وتسمى هذه الواقعة في كتب التفسير والسيرة غزوة حنين ، ولكن لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها أحداً ، ولم يقصد القتال ، وقد يسير في الطريق هو وأصحابه خارجين من مكة فباغتهم خيل ثقيف وهوازن مما جعل الكتائب الأولى للمسلمين تفر وتنهزم ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي ثابتاً في مكانه ، فثبت من خلفه وعاد الذين فروا بمعجزة من عند الله عز وجل .
وحتى قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( )، يدل بالدلالة التضمنية على أن المسلمين لم يقصدوا القتال يومئذ إذ اطمأنوا إلى كثرتهم ، وظنوا أن المشركين سيتجنبون قتالهم .
وليكون هناك معنى آخر أعم لقوله تعالى[فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ) .
وهو أيها الكفار لا تستطيعون ظلم المسلمين والتعدي على الإسلام لمجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحرمة الربا، وليكون إرتفاع الظلم في المقام على وجوه:
الأول: ظلم الكفار للناس بأكل أموالهم بالباطل.
الثاني: قانون عجز الكفار عن الإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأن الله عاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنجيه من تعدي وظلم الكفار والمشركين.
ويدل حضور العصمة في مقام التبليغ على حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لها، لقهر الكفار وخزيهم.
ولو دخل هؤلاء الكفار الإسلام، فهل يبقون في منازل الخيبة والذل.
الجواب لا، فإذا تغير الموضوع تبدل الحكم، ودخولهم الإسلام من مصاديق عصمة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, والإعجاز في مجيء لفظ العموم في الذين يعصم الله منهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم تقل الآية (والله يعصمك من الكفار) بل جاءت الآية بلفظ(من الناس) لجهات :
الأولى : قانون إرادة الإطلاق في رحمة الله بالناس جميعاً , ومنها منع الكفار من الإضرار بالنبوة.
الثانية : قانون سلامة النبي من الكيد.
الثالثة : الدلالة على كفاية الله شر المنافقين , قال تعالى في ذمهم[هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ]( ).
الرابعة : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصرف أذى الناس بعد وفاته وإلى يوم القيامة ، لذا ترى الذي يتعدى على مقام نبوته يفتضح ، ويواجه بالإحتجاج من قبل المسلمين وغيرهم .
لذا لا يحصي أفراد عصمة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل لأنها حاضرة ومتجددة .
الثالث: الظلم المذكور في الآية والذي يصرف عن الناس بالتقيد بأحكام آية الربا هو ظلم أصحاب الأموال الذين يتعاطون الربا.
قانون إحصاء الله للخوف والحزن المنصرف
لا يحصي أفراد الخوف الذي يصرفه الله وأفراد الحزن الذي يمحوه الله عز وجل إلا هو سبحانه ، ويشمل إختصاص الله عز جل بالإحصاء في المقام بخصوص إحصاء صرف الخوف والحزن عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وجوهاً :
الأول : العموم الإفرادي : فالله وحده يعلم ما يمحوه الله من الحزن والخوف عن الفرد الواحد من المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية الكرسي [وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ]( ).
الثاني : العموم الإستغراقي : وهو إحصاء ما انصرف من الحزن والخوف عن كل فرد من المؤمنين متفرقين.
الثالث : العموم المجموعي : وهو إحصاء جميع ما محاه ويمحوه الله عز وجل عن المؤمنين من الحزن والخوف مجتمعين ، فاذا محا الله عز وجل عن زيد مليون وعن عمرو ثلاثة ملايين ، وبكر أربعة ملايين من الحزن فيكون العموم المجموعي هو لهم ثمانية ملايين ، والله يحصي جميع ما يمحى من أفراد الحزن والخوف عن أهل الجنان جميعاً الذين لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل .
وهو من الإعجاز في بديع صنع الله ، ومن أسماء الله (المحصي) ترى كيف يحصي الله عز وجل أفراد الخوف والحزن المنصرف أو غير المنصرف ، الجواب من وجوه :
الأول : الأصفار والأرقام عند يمين العدد .
الثاني : تحويل الأرقام لطولها إلى أرقام علمية وأُسية وفق عمليات رياضية فمثلاً المليون 106 ، وترليون 1012 ، وجوجل 10100.
الثالث : كيفية إحصاء مثل حساب الجمل ، فلكل أمر رقم خاص .
الرابع : إحصاء الأشياء والأفراد عند الله بكيفيات متعددة لا يعلمها إلا هو سبحانه.
قانون إنفاق أهل البيت في الضراء
لقد ورد بخصوص أهل البيت قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ) لبيان أن الإسلام دين الرحمة المطلقة والرأفة بالناس عموماَ والمبادرة إلى قضاء الحاجات لعامة الناس .
وموضوع الآية أعم وان كان سبب النزول خاص ، لبيان عجز الناس عن إحصاء إنفاق المسلمين المترشح عن آيات القرآن والسنة النبوية والإقتداء بأهل بيت النبوة.
والنسبة بينه وبين الإرهاب التضاد في المقدمات والسنخية والأثر فلا يجلب الرفعة والإحسان إلا الأمن والسلم والتراحم وفيه الثناء والأجر والثواب , فلا يصح نقضه بالظلم العام وضرره الإجتماعي في بث الكراهية وظهور والكدورة والأضرار .
وقد ورد بطرق متعددة في تفسير أهل البيت العملي لهذه الآية منها عن (أبي صالح عن ابن عباس قال : أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال : حدّثني سعيد بن واقد المزني قال : حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}( ).
قال : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} ومعه أبو بكر وعمر وعادهما عامّة العرب فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء.
فقال علي عليه السلام : إن برأ ولداي مما بهما صمتُ ثلاثة أيام شكراً.
وقالت فاطمة عليها السلام : إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً ما لبس الغلامان العافية ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير .
فانطلق علي عليه السلام إلى شمعون بن جابا الخيبري ، وكان يهودياً فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له : شمعون بن جابا .
فقال : هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد {صلى الله عليه وآله وسلم} بثلاثة أصوع من الشعير قال : نعم ، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت.
قالوا : فقامت فاطمة عليها السلام إلى صاع فطحنته وأختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصاً وصلى الإمام علي مع النبي (عليهما السلام) المغرب .
ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة ، فسمعه علي عليه السلام فأنشأ يقول :
فاطم ذات المجد واليقين
يا ابنة خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
قد قام بالباب له حنين
يشكوا إلى الله ويستكين
يشكوا إلينا جائع حزين
كل امرء بكسبه رهين
وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين
حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين
تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين
من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين
فأنشأت فاطمة :
أمرك عندي يا ابن عمّ طاعه
ما بي من لؤم ولا وضاعه
غذيت من خبز له صناعة
أطعمه ولا أبالي الساعه
أرجو إذ أشبعت ذا المجاعه
أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الخلد ولي شفاعه
قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى الإمام علي مع النبي(عليهما السلام).
ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين ، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه الإمام علي فأخذ يقول :
فاطم بنت السيد الكريم
بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم
من يرحم اليوم يكن رحيم
موعده في جنّة النعيم
قد حرّم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم
يزل في النار إلى الجحيم
فأنشأت فاطمة :
أطعمه اليوم ولا أبالي
وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعاً وهم أشبالي
أصغرهم يقتل في القتال
بكربلا يقتل باغتيال
للقاتل الويل مع الوبال
تهوى به النار إلى سفال
وفي يديه الغل والأغلال
كبوله زادت على الأكبال.
قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح ، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة عليها السلام إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى الإمام علي مع النبي (عليهما السلام) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسرونا (وتشدوننا) ولا تطعمونا، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة، فسمعه الإمام علي عليه السلام فأنشأ يقول :
فاطم يابنة النبي أحمد
بنت نبي سيد مسوّد
هذا أسير للنبي المهتد
مكبّلٌ في غلّه مقيّد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد
من يطعم اليوم يجده من غد
عند العلي الواحد الموحّد
ما يزرع الزارع سوف يحصد
فأنشأت فاطمة تقول :
لم يبق مما جاء غير صاع
قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله من الجياع
يارب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع
يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين طويل الباع
وما على رأسي من قناع
إلاّ قناعاً نسجه انساع
قال : فاعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ الإمام علي بيده اليمنى الإمام الحسن وبيده اليسرى الإمام الحسين , وأقبل نحو رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي (عليهم السلام) قال : يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم ، أنطلق إلى ابنتي فاطمة عليها السلام فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها،
فلما رأها النبي(عليه السلام) قال : واغوثاه بالله، أهل بيت محمد يموتون جوعاً فهبط جبرائيل(عليه السلام) فقال : يا محمد خذها، هنّأك الله في أهل بيتك قال : وما أخذنا يا جبرائيل فاقرأه {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان} إلى قوله {وَلا شُكُورًا}( ) إلى آخر السورة.
قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث : فوثب النبي(عليه السلام) حتى دخل على فاطمة عليها السلام فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي ,ثم قال : أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم.
فهبط جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآيات {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عيناً يشرب بها عباد الله يفجّرونها تفجيرا}( ) قال : هي عين في دار النبي (عليه السلام) تفجر إلى دور الأنبياء (عليهم السلام) والمؤمنين.) ( ).
ويدل قول الزهراء عليها السلام اصغرهم يقتل باغتيال عن علم الزهراء باستشهاد الحسين عليه السلام في أرض كربلاء وأنه يقتل في طلبه الحق والعصمة وان قاتله مخلد في النار .
لقد جعل الله عز وجل آيات القرآن إماماً في الندب إلى فعل الصالحات ، ولا يحصي إنتفاع الناس منها إلا الله عز وجل ، ونشر شآبيب الرحمة ، ومنه إغاثة الملهوف ، وإعطاء السائل ، وقضاء حاجة المحتاج .
والآيات المتقدمة من سورة الإنسان (الدهر ) مدرسة في الأخلاق الحميدة .
قانون إحصاء حفظ العربية
لقد جعل الله عز وجل العربية لغة القرآن ، وهل حفظها الله عز وجل إلى حين نزول القرآن ، الجواب نعم .
وهل هذا الحفظ من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] ( )، فيشمل قوله تعالى [لَحَافِظُونَ]، حفظ اللغة العربية وتوارث العرب لها بالمحادثة والأشعار والسجع إلى حين نزول القرآن ، والمختار أن هذا الحفظ مشمول بقوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
لقد كان آدم عليه السلام يتكلم العربية ، وهي لغة الملائكة وقول أنه يتكلم السريانية ، وقد جعل الله عز وجل العرب بعيدين عن لغة الأعاجم ، وعن سيطرتهم وسلطانهم ، وإلا فان الشعب المحتل لابد أن يأخذ من عادات ولسان الذين يحتلونه ، ويتعذر عليه المحافظة على استقلال لغته .
ولا يحصي منافع حفظ العربية وأثر هذا الحفظ في إقرار العرب باعجاز القرآن وسلامته من التفسير والتأويل إلا الله عز وجل ، لتكون للغة العربية بعد نزول القرآن علوم متعددة منها :
الأول : علم اللغة .
الثاني : علم النحو .
الثالث : علم الصرف .
الرابع : علم البلاغة ، وهو على شعب :
الأولى : علم المعاني .
الثانية : علم البديع .
الثالثة : علم البيان .
الخامس : علم الإملاء .
السادس : علم الأصوات .
السابع : علم الترجمة .
إحصاء منافع العبادة
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ورزقه العقل وتكفل رزقه للقيام بأعباء هذه المسؤولية العظمى من بين الخلائق والتي تتقوم بعبادة الله عز وجل وحده والعصمة من إتخاذ شريك له , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
وبعث الأنبياء والرسل مبشرين للمؤمنين بالجنة , ومنذرين للمشركين بالنار .
فيعيش الناس مختلطين في الدنيا , ويتقاسمون النعم ، أما في الآخرة فيكون قانون الفصل التام بين المؤمنين والكافرين , قال تعالى [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
وجعل الله عز وجل عبادة الناس له أجمل وأبهى ما في الحياة الدنيا , لتكون معاني ومنافع قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ) كثيرة وعظيمة .
وكل فرد منها لا يعلم ويحصي بركته وثوابه إلا الله عز وجل لوجوه :
الأول : قانون عبادة الناس لله عز وجل وحده .
الثاني : قانون العبادة زينة الحياة الدنيا .
الثالث : قانون العبادة علة سببية لإستدامة الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
الرابع : قانون العبادة سبب لصرف الفتن والآفات عن الناس .
الخامس : قانون العبادة رزق كريم .
السادس : قانون العبادة لجوء إلى الله ، واستجارة به .
السابع : قانون العبادة زكاة وتهذيب للنفوس وإصلاح للمجتمعات ، وفي التنزيل [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا]( ).
الثامن : قانون العبادة عنوان التآخي بين أهل الأرض ، وفي التنزيل [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
قانون العبادة إحسان للذات والغير
لقد جعل الله عز وجل العبادة لله غائية لخلق الناس لحاجتهم إليها في النشأتين ، ولا يحصي ضروب وعدد عبادة الناس لله عز وجل إلا هو سبحانه ، إذ أنها ملازمة لعمارة الإنسان للأرض ، ومن خصائص العبادة أنها شكر لله عز وجل ، (وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي الجلد قال : قرأت في مساءلة موسى عليه السلام .
أنه قال : يا رب كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وأعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟
فأتاه الوحي : أن يا موسى الآن شكرتني) ( ) .
ومن إعجاز القرآن بيانه لكيفية العبادة ، وضبط قواعدها وسننها ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( ) .
وعن شداد بن أوس قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم، إنى أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب)( ).
وعبادة الناس لله واجب مطلق لا يستثنى منه أحد ، وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في عبادته لله عز وجل باخلاص ، وفيه وجوه :
الأول : قانون إعانة الملائكة للناس في عبادتهم لله عز وجل.
وعن عبد الله بن عباس قال (جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسا له ، فأتاه جبريل فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضعا كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله حدثني ما الإسلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإسلام أن تسلم وجهك لله عز وجل، وتشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.
قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت قال : إذا فعلت ذلك فقد أسلمت.
قال: يا رسول الله، فحدِّثني ما الإيمان.
قال : الإيمان: أن تؤمن بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وتؤمن بالموت، وبالحياة بعد الموت، وتؤمن بالجنة والنار، والحساب والميزان، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره.
قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ، قال : إذا فعلت ذلك فقد آمنت.
قال : يا رسول الله، حدثني ما الإحسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك.
قال : يا رسول الله، فحدثني متى الساعة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سبحان الله في خمس لا يعلمهن إلا هو [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك.
قال : أجل، يا رسول الله، فحدثني. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا رأيت الأمَة ولدت رَبَّتَها أو : ربها ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس ، فذلك من معالم الساعة وأشراطها.
قال: يا رسول الله، ومَنْ أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة ، قال: العرب)( ).
الثاني : قانون تعدد وجوه العبادة عون للناس ، وقد صاحب الناس كل من الصلاة والصوم والزكاة والحج .
فتتعاقب الأجيال ولكن ماهية العبادة واحدة ، وقد تجلى تكامل أحكام الشريعة بقوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
الثالث : قانون العبادة طرد للشيطان من البيوت والأسواق والمجتمعات .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (عن آبائه عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأصحابه:
ألا اخبركم بشئ إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب قالوا: بلى، قال: الصوم يسود وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والموازرة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه)( ).
الرابع : قانون العبادة السبيل الوحيد للنجاة في الآخرة فلا يدخل مع الإنسان في قبره إلا عمله الصالح ، ولا يعلم مقدار وعدد وكيف وكم ما يدخل منه مع كل انسان وما تطرأ عليه من المضاعفة وأوانها وأسبابها وكيفيتها إلا الله عز وجل.
وهو من فضل الله في قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وقد تقدم في الجزء الخامس والتسعين من هذا السِفر ، تقسيم العبادة تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول: العبادة الإيجابية، التي يؤتى بها بالفعل كالصلاة والصوم والزكاة.
الثاني: العبادة السلبية وهي الإمتناع بقصد القربة عن المعاصي والفواحش ، ليفوز المسلمون بأداء العبادة على نحو الإطلاق، وإمتثالهم للأوامر والنواهي الإلهية ، وهو من عمومات قوله تعالى وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( ).
و(قَالَ حُذَيْفَةُ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ قِيلَ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ ، قَالَ( ) مَنْ اتَّقَى الشَّرَّ وَقَعَ فِي الْخَيْرِ)( ).
إحصاء الأخلاق المذمومة في القرآن
الأول : الشرك ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] ( ).
الثاني: الكفر ، والنسبة بين الشرك والكفر عموم وخصوص مطلق ، فالشرك أكثر قبحاً .
الثالث : الظلم .
الرابع : التعدي .
الخامس : الهمز .
السادس : المشي بنميمة .
السابع : منع الخير .
الثامن : البخل .
التاسع : الشح .
العاشر : الخيانة .
الحادي عشر : اللغو .
الثاني عشر : السرقة .
الثالث عشر : الزنا .
الرابع عشر : الركون للظالم .
الخامس عشر : الغيبة .
السادس عشر : الفسوق .
السابع عشر : التنابر بالألقاب .
ذكر (أَبُو جُبَيْرَةَ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِى بَنِى سَلِمَةَ (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) قَالَ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- وَلَيْسَ مِنَّا رَجُلٌ إِلاَّ وَلَهُ اسْمَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ فَجَعَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يَقُولُ : يَا فُلاَنُ.
فَيَقُولُونَ مَهْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَغْضَبُ مِنْ هَذَا الاِسْمِ فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَاب) ( ))( ).
وأبو جبيرة هذا مختلف في صحبته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الأنصار , ولد بعد الهجرة النبوية , وهو كوفي أي أنتقل إلى الكوفة ، ولا يدل حديثه أعلاه على أن له صحبة , لأنه يخبر عن واقعة جرت عندهم .
الثامن عشر : الإفتراء .
التاسع عشر : الكذب على الله .
العشرون : الإصرار على الصغيرة .
الواحد والعشرون : تسويف التوبة .
الثاني والعشرون : العنف .
الثالث والعشرون : تكفير الذي ينطق الشهادتين .
الرابع والعشرون : الإرهاب .
الخامس والعشرون : الإفتراء على الله ، وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى القرآن ، وعلى المؤمنين والمؤمنات ، والإفك.
وأيهما أكثر في القرآن آيات الأخلاق الحميدة أم المذمومة ، المختار هو الأول ، ومنه الأمر بالفرائض العبادية والمستحبات .
السادس والعشرون : الوأد وقتل الأولاد .
السابع والعشرون : إيذاء وظلم الزوجة .
الثامن والعشرون : كثرة الطلاق.
التاسع والعشرون : الرشوة .
ولا يعلم منافع القرآن والتنزيل مطلقاَ في حجب الناس عن الأخلاق المذمومة وصرفها عنهم إلا الله عز وجل , فإن قلت كيف يصرف القرآن هذه الأخلاق عن الناس .
الجواب بالدعاء والصدقة وإتيان الفرائض والإستغفار , وبلطف وفضل ابتدائي من عند الله عز وجل ونحوه مما لا يحيط بها علماَ إلا الله عز وجل .
علم كلمات الأحكام
قال تعالى [لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( )المختار في معنى الآية أعلاه أن كل شئ يكون له عند الله رقم وعدد مقابله وان كان مما يوزن أو يكال وكذا عالم الأفعال ، فلا يعلم الرقم المناسب لكل فعل من الحسنات أو السيئات إلا الله عز وجل ، ولا يحصي هذه الأرقام لمليارات البشر إلا الله عز وجل
وعنوان (كلمات الأحكام) اصطلاح مستحدث في تأريخ الإسلام يرد في هذا الجزء من تفسيري للقرآن وهو بعنوان (علم الإحصاء القرآني غير متناه).
وقد ذكر لفظ (كلمات) في القرآن أربع عشرة مرة كلها لله عز وجل ،ليتجلى عظيم خلقه منها [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
وعلم أحكام الكلمات لا يتعارض مع علم أحكام الآيات .
والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فآيات الأحكام أعم ، وأحكام كلمات القرآن أكثر تفصيلاً إذ قد يوجد في الآية الواحدة عدة أحكام في موضوع متحدد أو أكثر من موضوع .
وقد يأتي الأمر في القرآن بصيغة الجملة الإنشائية أو الجملة الخبرية ، مثل [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ) ففيها كلمات العبادة .
عن الإمام علي عليه السلام (الطب كله في آية واحدة [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ( ).
وفي الآية أعلاه ثلاثة أوامر ونهي ، وأختتمت بقانون من الإرادة التكوينية .
وهل هي من آيات الأحكام ، الجواب نعم .
والأصل في الأمر الوجوب .
وقد صدر عدد قليل من الكتب في إحصاء آيات الأحكام ، أما موضوع بحثنا هذا فهو القيام بتتبع آيات القرآن آية آية ، وذكر الأوامر والنواهي الواردة فيها على نحو التفصيل .
ليبين بواسطتها أيضاً عدد كلمات وآيات الأحكام .

قانون تعدد كلمات الأحكام في الآية الواحدة
المتعارف هو اصطلاح (آيات الأحكام) والتي اختلف فيها على وجوه منها :
الوجه الأول : إرادة خصوص الآيات التي ذكرت فيها الأحكام وهي على جهات :
الأولى : خمسمائة آية ، وهو المشهور .
الثانية : مائتا آية .
الثالثة : مائة وخمسون آية ، وهذا الإختصار للتيسير على طالب العلم ، والإستمرار في الإستنباط ، وللتداخل بين آيات الأحكام في الفاظها .
ولعل المقصود هو الآيات التي تضمنت التصريح بالأحكام وعدم ذكر آيات الأمثال والقصص ونحوها مما يدل على الأحكام فيها.
الوجه الثاني : كل آية من القرآن من آيات الأحكام لإمكان استنباط حكم شرعي منها .
الوجه الثالث : استقراء الحكم الشرعي من الجمع بين آيتين أو أكثر .
(وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال : تزوّج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له تماماً لستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فأمر برجمها ، فبلغ ذلك علياً عليه السلام ، فأتاه فقال: ما تصنع؟
قال : ولدت تماماً لستة أشهر وهل يكون ذلك؟
قال : علي عليه السلام : أما سمعت الله تعالى يقول : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً }( ) وقال : { حولين كاملين }( ) فكم تجده بقي إلا ستة أشهر؟ فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، علي بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها .
وكان من قولها لاختها : يا أخيه لا تحزني فوالله ما كشف فرجي أحد قط غيره .
قال : فشب الغلام بعدُ فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به .
قال : فرأيت الرجل يتساقط عضواً عضواً على فراشه) ( ).
ومن استنباط الحكم الشرعي من آيات القرآن استدلال الإمام محمد الجواد عند سؤال الخليفة المعتصم له عن حد القطع في السرقة بقوله تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( )، وأن القطع عند أصول الأصابع ، ويبقى الكف لأنه من المساجد السبعة وعمل المعتصم بقتوى الإمام في الحال مع أن فقهاء آخرين قالوا في ذات المجلس بقطع اليد من المرفق.
وإحصاء آيات الأحكام وفق طريقين :
الأول : تتبع مورد آيات القرآن إبتداء من سورة الفاتحة إلى سورة الناس.
الثاني : إعتماد أحكام الفقه باحصاء الآيات ، كالآتي :
الأول : آيات العبادات منها :
الأولى : التي تتعلق بالطهارة مثل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثانية : آيات الصلاة .
الثالثة : آيات الصوم .
الرابعة : آيات الزكاة .
الخامسة : آيات الحج ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] ( ) .
السادسة : آيات الخمس .
السابعة : آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثامنة : آيات الدفاع .
الثاني : آيات المعاملات منها :
الأولى : المكاسب والمتاجر .
الثانية : النكاح .
الثالثة : الديون .
الرابعة : الكفالات .
الثالث : التجارة منها :
الأولى : مستحبات التجارة .
الثانية : مكروهات التجارة .
الثالثة : فيما يحرم التكسب به .
الرابعة : التدليس .
الخامسة : التصوير .
الرابع : مفهوم الرشوة
الخامس : حرمة سب المؤمن
السادس : حرمة السحر
السابع : الغناء
الثامن : الغيبة
التاسع : الحسد والعين
العاشر : حرمة القمار
الحادي عشر : الكذب حرام
الثاني عشر : موارد أخذ الأجرة
كتاب البيع( ) ، ومنه :
الأول : المعاطاة
الثاني : شروط المتعاقدين
الثالث : بيع الفضولي
الرابع : ولاية الأب والجد
الخامس : في شرائط العوضين
السادس : في الخيارات
السابع : في الشروط
الثامن : وما يتعلق بها
التاسع : في أحكام الخيار
العاشر : في النقد والنسيئة
الحادي عشر : القبض والتسليم
الثاني عشر : في الربا
الثالث عشر : بيع الصرف
الرابع عشر : في بيع السلف
الخامس عشر : في بيع الثمار والزرع والخضروات
السادس عشر : في بيع الحيوان
السابع عشر : الشفعة
الثامن عشر : الصلح
التاسع عشر : الجعالة
العشرون : في التأمين
الواحد والعشرون : العارية
الثاني والعشرون : الوديعة
الثالث والعشرون : الإجارة
الرابع والعشرون : في التنازع
الخامس والعشرون : مسائل في الطب
السادس والعشرون :المضاربة
السابع والعشرون : الشركة
الثامن والعشرون : في القسمة
التاسع والعشرون :المزارعة
الثلاثون: المساقاة
الواحد والثلاثون: الضمان
الثاني والثلاثون: الحوالة
الثالث والثلاثون: الكفالة
الرابع والثلاثون: الدين والقرض
الخامس والثلاثون: أحكام القرض
السادس والثلاثون: الربا القرضي
السابع والثلاثون: الرهن
الثامن والثلاثون: نماء الرهن
التاسع والثلاثون: رهن الدار
الأربعون: بيع الرهن
الواحد والأربعون: افلاس الراهن
الثاني والأربعون: ضمان الرهن
الثالث والأربعون: الحَجر
الرابع والأربعون: منجزات المريض
الخامس والأربعون: الوكالة
السادس والأربعون: الإقرار
السابع والأربعون: الهبة
الثامن والأربعون: السبق والرماية
التاسع والأربعون : الغصب
الخمسون: الوقف
الواحد والخمسون: الحبس وانواعه
الثاني والخمسون: عدم جواز الإستقطاع من الوقف
الثالث والخمسون: في الصدقة
الرابع والخمسون: الوصية
الخامس والخمسون: عند حلول الأجل
السادس والخمسون: شرائط الموصي
السابع والخمسون: القيّم
الثامن والخمسون: عدم الوصية بالثلث
التاسع والخمسون اجازة الوارث في حياة الموصي
الستون : الوصية للمتعدد
الواحد والستون : الناظر
الثاني والستون : شروط القيم
الثالث والستون : الشهادة على الوصية
الرابع والستون : الإقرار بها
الخامس والستون :اليمين
السادس والستون :النذر
السابع والستون :العهد
الثامن والستون :الكفارات
التاسع والستون :الذباحة والصيد
السبعون : ذبيحة الكتابي
الواحد والسبعون : بندقية الصيد
الثاني والسبعون : الذبح بغير الحديد
الثالث والسبعون : الأوداج الأربعة
الرابع والسبعون : من شرائط التذكية
الخامس والسبعون : النحر
السادس والسبعون : آداب الذباحة والنحر
السابع والسبعون : الصيد بالحيوان
الثامن والسبعون : الصيد بالشبكة
التاسع والسبعون : الآلة الجمادية
الثمانون : ذكاة السمك
الواحد والثمانون : الشبكة في الماء
الثاني والثمانون : الصيد بالسم
الثالث والثمانون : الجراد
الرابع والثمانون : السمك المستورد
الخامس والثمانون : ذكاة الجنين
السادس والثمانون : تذكية السباع
السابع والثمانون : يد المسلم
الثامن والثمانون : خاتمة في الذباحة والصيد
التاسع والثمانون : الأطعمة والأشربة
التسعون : الطيور
الواحد والتسعون : بيض الطير
الثاني والتسعون :اللقلق
الثالث والتسعون :ما يحرم بالعارض
الرابع والتسعون :ما يحرم من الحيوان
الخامس والتسعون :تناول ما فيه ضرر
السادس والتسعون :التدخين
السابع والتسعون :حرمة اكل الطين
الثامن والتسعون :تربة الحسين
التاسع والتسعون :حرمة الخمر
المائة : الأكل مع الخوف على النفس
الواحد بعد المائة : آداب شرب الماء
الثاني بعد المائة :إحياء الموات من الأرض
الثالث بعد المائة :في حريم الاعمار
الرابع بعد المائة :من حق الجار
الخامس بعد المائة :التحجير
السادس بعد المائة :المشتركات
السابع بعد المائة :الطرق والشوارع
الثامن بعد المائة :المساجد
التاسع بعد المائة :الأسبقية في المكان
العاشر بعد لمائة : المدارس والربط
الحادي عشر بعد المائة : مياه الأنهار
الثاني عشر بعد المائة :الكلأ
الثالث عشر بعد المائة :المعادن
الرابع عشر بعد المائة :الاحكام العامة للمشتركات
الخامس عشر بعد المائة :للمشتركات
السادس عشر بعد المائة :اللقطة
السابع عشر بعد المائة :لقطة الحيوان
الثامن عشر بعد المائة :الدرهم
التاسع عشر بعد المائة :في اللقيط
العشرون بعد المائة : النكاح
الواحد العشرون بعد المائة :اختيار الزوجة
الثاني العشرون بعد المائة :النظر للتي يريد الزواج منها
الثالث العشرون بعد المائة :المقدمات المستحبة
الرابع العشرون بعد المائة :اختيار الزوج
الخامس العشرون بعد المائة :مستحبات الدخول
السادس العشرون بعد المائة :الأوقات المكروهة للوطئ
السابع العشرون بعد المائة :الأوقات المستحبة للوطئ
الثامن العشرون بعد المائة :السعي في الإختيار
التاسع العشرون بعد المائة :الزواج وبر الوالدين
الثلاثون بعد المائة : مقدمات الوطئ
الواحد الثلاثون بعد المائة :الحجاب
الثاني الثلاثون بعد المائة :الضرورة والإستثناء من الحجاب
الثالث الثلاثون بعد المائة :احكام الدخول
الرابع الثلاثون بعد المائة :مسائل الوطئ بذات البعل
الخامس الثلاثون بعد المائة :مسائل في الزنا
السادس الثلاثون بعد المائة :في المحرمات حال احرام الحج
السابع الثلاثون بعد المائة :المحرمات بالمصاهرة
الثامن الثلاثون بعد المائة :احكام العقد
التاسع الثلاثون بعد المائة :أولياء العقد
الأربعون بعد المائة : في المحرمات بالنسب
الواحد والأربعون بعد المائة : المحرمات بالرضاع
الثاني والأربعون بعد المائة: عموم المنزلة
الثالث والأربعون بعد المائة:الشهادة على الرضاع
الرابع والأربعون بعد المائة: فيما يحرم بالكفر
الخامس والأربعون بعد المائة : النكاح المنقطع
السادس والأربعون بعد المائة : الحاق الولد
السابع والأربعون بعد المائة : ذكر الأجل
الثامن والأربعون بعد المائة : العيوب الموجبة لخيار فسخ عقد النكاح
التاسع والأربعون بعد المائة : في التدليس
الخمسون بعد المائة : في المهر
الواحد والخسمون بعد المائة : ما في عقد النكاح من شروط
الثاني والخسمون بعد المائة : فصل في الجهاز
الثالث والخسمون بعد المائة : مشاورة المرأة
الرابع والخسمون بعد المائة : في القسم وما يتعلق به
الخامس والخسمون بعد المائة : في النشوز
السادس والخسمون بعد المائة : في الشقاق
السابع والخسمون بعد المائة : في أحكام الأولاد
الثامن والخسمون بعد المائة : العزل والإجهاض
التاسع والخسمون بعد المائة : احكام الولادة
الستون بعد المائة : الختان
الواحد والستون بعد المائة : العقيقة
الثاني والستون بعد المائة :ارضاع الولد
الثالث والستون بعد المائة :الحضانة
الرابع والستون بعد المائة :الأولاد بعد الحضانة
الخامس والستون بعد المائة :تربية الأولاد
السادس والستون بعد المائة :في النفقات
السابع والستون بعد المائة :مقدار النفقة
الثامن والستون بعد المائة :نفقة الأقارب
التاسع والستون بعد المائة :الطلاق
السبعون بعد المائة :في أحكام الطلاق
الواحد السبعون بعد المائة :في اقسام العدة
الثاني السبعون بعد المائة :عدة الوفاة
الثالث السبعون بعد المائة :عدة المطلقة اليائس
الرابع السبعون بعد المائة :الحداد
الخامس السبعون بعد المائة :المفقود عنها زوجها
السادس السبعون بعد المائة :في الرجعة واحكامها
السابع السبعون بعد المائة :الخلع والمبارأة
الثامن السبعون بعد المائة :المبارأة
التاسع السبعون بعد المائة :الظهار
الثمانون بعد المائة : الإيلاء
الواحد والثمانون بعد المائة : اللعان
الثاني والثمانون بعد المائة :القضاء , قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
الثالث والثمانون بعد المائة :حرمة الرشوة
الرابع والثمانون بعد المائة :آداب القاضي
الخامس والثمانون بعد المائة :رد اليمين
السادس والثمانون بعد المائة :في الشهود
السابع والثمانون بعد المائة :الشاهد الواحد واليمين
الثامن والثمانون بعد المائة :اليمين
التاسع والثمانون بعد المائة :في أحكام اليد
التسعون بعد المائة : المقاصة وما يتعلق بها
الواحد والتسعون بعد المائة : اختلاف العقود والإيقاعات
الثاني والتسعون بعد المائة :الشهادات
الثالث والتسعون بعد المائة :فيما يعتبر في الشهادة
الرابع والتسعون بعد المائة :في الشهادة على الشهادة
الخامس والتسعون بعد المائة :القسامة واللوث
السادس والتسعون بعد المائة :كتاب الحدود
السابع والتسعون بعد المائة :ثبوت الزنا
الثامن والتسعون بعد المائة :اللواط
التاسع والتسعون بعد المائة :المساحقة
المائتان : القذف
الواحد بعد المائتين : السرقة
الثاني بعد المائتين :من أحكام العشائر
الثالث بعد المائتين :في الدية
الرابع بعد المائتين :السبب
الخامس بعد المائتين :الجناية بالسياقة
السادس بعد المائتين :كفارة القتل
السابع بعد المائتين :في تلف الحيوان
الثامن بعد المائتين :كتاب المواريث
التاسع بعد المائتين :في الحجب
العاشر بعد المائتين :في السهام
الحادي عشر بعد المائتين : في ميراث الأنساب
الثاني عشر بعد المائتين :في الحبوة
الثالث عشر بعد المائتين :ميراث الأجداد
الرابع عشر بعد المائتين :أولاد الأخوة والجدودة
الخامس عشر بعد المائتين :في ميراث الأزواج
السادس عشر بعد المائتين :ميراث الغرقى والمهدوم عليهم
السابع عشر بعد المائتين :نقل الحمل
الثامن عشر بعد المائتين :البنوك والمصارف
التاسع عشر بعد المائتين :في المحاماة
وهذه الأحكام مبينة في رسالتي العملية الحجة خمسة أجزاء والمسجلة في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم 345 لسنة 2001 أي قبل ثلاث وعشرين سنة.
لبيان فضل الله عز وجل أن رسالتي العملية مسجلة في وزارة الأعلام آنذاك بعد رسالة السيد الخوئي والسيد السبزواري والسيد محمد الصدر أسكنهم الله جنة الخلد .
أقسام الأحكام
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الناس [خُلَفَاءَ الْأَرْضِ]( ) ليتحملوا الأحكام والتكاليف الشرعية التي تترشح عن الخلافة , وتكون سبباَ بتعاهدها والحفاظ عليها , ومصداقاَ للشكر لله عز وجل على هذه النعمة التي لا يحصي أفرادها إلا الله عز وجل , والتي تتجلى بشواهد كثيرة في القرآن .
والمراد من الأحكام على قسمين :
القسم الأول : الأحكام العقائدية ومنها علم التوحيد والنبوة والمعاد ، والأحكام الفقهية والإجتماعية والأخلاقية .
القسم الثاني : الأحكام هي الأحكام التكليفية الخمسة :
الأول : الوجوب :
الثاني : الندب .
الثالث : الإباحة .
الرابع : الكراهة .
الخامس : الحرمة .
ولابد من تعيين منهجية البحث والتحقيق ، وكيفية استنباط كلمات أو آيات الأحكام والوسائل والصيغ المتبعة فمثلاً في القرآن :
الأول : النص : وهو لفظ يفيد أمراً مخصوصاً لا يتطرق إليه تأويل آخر.
الثاني : الظاهر وهو المعنى الراجح للفظ مع وجود معنى آخر ولكنه مرجوح ، ويكون مؤولاً منه قوله تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، أي بقوة ومشيئة.
الثالث : المجمل : وهو اللفظ الذي يحتمل عدد معان بعرض واحد.
وهل نكتفي بالنص أم نأخذ بالمعنى الظاهر .
الجواب هو الثاني : لحجية ظواهر القرآن ، ولأن كل كلمة منه كنز بذاتها ، وذخيرة بالإتصال مع غيرها سواء في ذات كلمات الآية أو مطلق كلمات وسور القرآن .
وهل يختص علم كلمات الأحكام بمنطوق الآية والدلالة الذاتية للكلمة أو لا ، أم يشمل المفهوم الجواب هو الثاني وهو على شعبتين:
الأولى : مفهوم الموافقة : كما في قوله تعالى [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]( )، ومنه فحوى الخطاب وقياس الأولوية ، أي لا تزجرهما ، ولا تضربهما .
الثانية : مفهوم المخالفة : والمشهور حجيته وصحة الإستدلال به وخالف الحنفية ، وكل فريق له أدلته .
والمختار أن كل مسألة لها حكمها ، فهل يصح أن لها مفهوم مخالفة يكون حجة أو لا .
والملاك هو عرض مفهوم المخالفة المستخرج من اللفظ على آيات القرآن والسنة النبوية ، وما خالف الكتاب يضرب به عرض الجدار ، لأن مفهوم المخالفة لا يخرج عن دائرة الإحتمال ، ليس فقط مفهوم المخالفة بل حتى مفهوم الموافقة ، بما يثبت الحكم مع القيد أو الشرط أو الوصف فمثلاً قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
فلا يعني جواز الربح بأقل من الأضعاف المضاعفة كنسبة الخمس أي 20% من أصل المال أو الثلث أو النصف ، ولا تصل النوبة إلى مفهوم الموافقة أو المخالفة لأن القرآن فيه مطلق ومقيد وعام وخاص ومجمل ومبين.
وقد صدر لي في هذا الآية والحمد لله الأجزاء (89-90-91-92) .
ومنه في المقام [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( )، فجاءت حرمة الربا مطلقاً.
والآية أعلاه من آيات الأحكام ولكنها بلحاظ علم كلمات الأحكام فيها أربعة أحكام هي :
الأول : الحلية .
الثاني : حلية البيع .
الثالث : الحرمة .
الرابع : حرمة الربا .
لبيان أن الحياة الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء ، وأن الحلال والحرام من أهم موارد الإبتلاء فيها .
وقد تساءل الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله تعالى بعثه الرسل ونزول الكتب السماوية بآيات الأحكام ، وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمات وآيات الأحكام ، ترى ما هي النسبة بين الفساد وفعل الحرام .
المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالفساد أعم ، ولم يغادر أدم وحواء الدنيا حتى رأيا أحد أبنائهما وهو قابيل يقتل أخاه هابيل.
قانون المنافع الدنيوية للزكاة
في الزكاة مسائل :
الأولى : قانون الزكاة حاجب عن الظلم .
الثانية : قانون الزكاة باعث للأمة ، ودفع الزكاة رفق ورافة .
الثالثة : قانون الزكاة شاهد على الإيمان لإخراج مال الزكاة بقصد القربة إلى الله .
الرابعة : قانون الزكاة تهذيب للنفوس .
الخامسة : قانون في الزكاة إنشاء صلات أخوية ومودة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
السادسة : قانون تضييق الفوارق بين الأغنياء والفقراء بالزكاة.
السابعة : قانون الزكاة برزخ دون الهرج والمرج .
الثامنة : قانون الزكاة دعوة للفقراء للصبر والرجاء والدعاء .
التاسعة : قانون الزكاة وإخراج الحقوق الشرعية مناسبة لثناء الناس ، وطرد للعين والحسد .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ] ( )، دفع شرور الحاسدين باخراج الصدقة ودفع الزكاة .
قوانين في الزكاة
الأول : قانون الزكاة تطهير وتحصين للمال ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الثاني : قانون فورية الزكاة ، قال تعالى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] ( ) (عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي مال أديت زكاته فليس بكنز) ( ) .
الثالث : قانون لا يحصي أسباب البركة والنماء في الزكاة في الدنيا إلا الله عز وجل.
الرابع : قانون تعدد الذين ينتفعون من الزكاة ، وإن كان المزكي للمال واحداً ، إذ يأتي النفع على الساعي والقابض للزكاة ، والذي يثني على دافع الزكاة ، ويدعو له لذا يستحب للفقير إذا استلم الزكاة أو الخمس أن يدعو لصاحبه .
الخامس : قانون منافع الزكاة في الآخرة تفوق التصور الذهني .
السادس : قانون الدعاء ، وسؤال الله للتوفيق لإخراج الزكاة والصدقة مطلقاً .
وهل يختص هذا الدعاء بالأغنياء وأرباب الأموال ، الجواب لا، وهو سبب للرزق الكريم ، وصيرورة الفقير غنياً ، وقادراً على إخراج الزكاة والخمس من ماله ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
تقدير : وينهون عن المنكر
وفيه بلحاظ القرض وجوه :
الأول : ولتكن منكم أمة ينهون عن الربا ، ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ، منه في الآية الكريمة [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
الثاني : ولتكن منكم أمة ينهون عن أخذ ما بقي من المال الربوي ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث : ولتكن منكم أمة تنهى عن مطالبة ذي العسرة بالدَين ، وعن الإمام علي عليه السلام قال (من أراد البقاء ولابقاء فليباكر الغذاء، وليؤخر العشاء، وليقل غشيان النساء، وليخفف الرداء. قيل: وما خفهَ الرداء ؟ قال: الدين) ( ).
الرابع : ولتكن منكم أمة ينهون المقترض الميسور عن المماطلة .
الخامس : ولتكن منكم أمة ينهون عن الخصومة والفتنة بسبب القرض ، فالأصل فيه إنعدام الخسارة ، فاذا تخلف المدين عن الوفاء يكتب للدائن كل يوم بأجر وثواب التصدق بمقدار القرض ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه) ( ).
ومن إعجاز القرآن أمران :
الأول : قانون لا يحصي منافع الأوامر الإلهية إلا الله ومنه يأتي العون والمدد.
الثاني : قانون لا يحصي منافع النواهي الإلهية إلا الله وهو اللطيف الخبير .
معجزات بيان السنة للآية القرآنية
من الإعجاز في الصلة بين القرآن والسنة النبوية نزول شطر من آية [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ) لتأتي عشرات الأحاديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن وجوهاً :
الأول : تفسير هذه الآية .
الثاني : الترغيب بالعمل بمضامينها .
الثالث : ثناء الناس على الذي يمهل معسراً أو يضع عنه .
الرابع : قانون بيان السنة النبوية للآية القرآنية بجعلها قريبة من الناس في الواقع اليومي .
الخامس : قانون السنة النبوية تذكير بالآية القرآنية ، وهي دعوة للخير ، فمن أبهى مصاديق الخير العمل بمضامين الآية القرآنية .
فلما نزل قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] ( )، جاءت السنة النبوية على وجوه :
الأول : قانون السنة النبوية خير محض ، ودعوة إلى الخير .
الثاني : قانون السنة النبوية معروف وصلاح وأمر بالمعروف .
الثالث : السنة النبوية نهي عن المنكر ، ودعوة لضده الحسن .
ومن مفاهيم وأثر الأحاديث النبوية في إمهال المعسر المنع من حدوث الخصومة والفتنة بسبب عجز المدين عن قضاء الدين سواء الفتنة بين الدائن والمدين ، أو بين الدائن ومن له ديون عليه ، أو الفتنة داخل أسرة المدين ، واضطراره إلى بيع بعض حاجياته الضرورية .
و(عن أبي قتادة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة) ( )( ).

إحصاء الذين احترزوا من النار
لقد ذكر القرآن اسم خازن النار وهو الملك (مالك) وذكر القرآن أن عليها تسعة عشر ملكاً .
و(عن ابن عباس [وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا]( )، قال : قال أبو الأشدين : خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم . قال : وحدثت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف خزان جهنم فقال : كأن أعينهم البرق وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشفارهم لهم مثل قوة الثقلين ، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم ، على رقبته جبل ، حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم)( ).
لبيان أن المدار ليس على قلة عدد خزنة النار ، إنما على قوة كل واحد منهم والتي تعادل قوة ملايين من البشر مجتمعين ، وفيه إنذار للناس ودعوة ورحمة بالبيت الحرام وجعله سبيل هداية ورشاد للناس جميعاً ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
والنسبة بين العالمين والناس في الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق ، إذ أن العالمين أعم ويشمل الناس وغيرهم .
وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً وجعل القرآن هو الآخر هدى للناس بقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]( ).
لبيان تعدد سبل الهدى ، منها :
الأول : المكاني .
الثاني : التنزيلي .
الثالث : الزماني .
الرابع : بعثة النبي والرسول .
الخامس : عقل الإنسان والتدبر في الخلق .
السادس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمناجاة بين الناس ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وقد جعل الله عز وجل البيت الحرام هدى وأمناً ومثابة للناس من قبل أن يهبط آدم إلى الأرض ، وهل انتفع الملائكة والجن من البيت الحرام أم أن منافعه خاصة ببني آدم ، الجواب هو الأول .
و(عن ابن عباس قال : لما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه إلى موضع البيت الحرام وهو مثل الفلك من رعدته ، ثم أنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ من شدة بياضه ، فأخذه آدم فضمه إليه آنساً به ، ثم نزل عليه القضاء فقيل له : تخط يا آدم ، فتخطى فإذا هو بأرض الهند أو السند فمكث بذلك ما شاء الله ، ثم استوحش إلى الركن فقيل له : احجج .
فحج فلقيته الملائكة فقالوا : برّ حجك يا آدم ، ولقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام)( ).
وهل خلق الله البيت الحرام أولاً أم خلق الملائكة قبله ، المختار هو الأول ، إذ أن خلق الأرض والسموات قبل خلق الملائكة والبيت الحرام فرع خلق الأرض ، وهو مقابل البيت المعمور في السماء الرابعة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ]( ).
ومن معاني الجار والمجرور (لكم) في الآية أعلاه وضع البيت الحرام للناس بقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
لبيان أن منافع البيت الحرام لا يعلمها إلا الله عز وجل ويكون من باب الأولوية إنحصار العلم بهذه المنافع وتفاصيلها وما يترشح عنها بالله عز وجل.
فان قلت هل يرد إشكال في المقام بخصوص المنافع قبل خلق الملائكة.
الجواب لا أصل لهذا الإشكال لأن أجناس الخلائق لايعلمها إلا الله عز وجل.
والمختار أن البيت بهيئته وقدسيته من حين خلق الله الأرض.
لوح الحسنات ولوح السيئات
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الحسنات ، إذ رغّب فيها ، ودعا إليها ، وقرب العباد إليها بالفطرة والتنزيل والنبوة والعقل والوجدان ، وبعث الأنبياء متعاقبين ، وأنزل الكتب السماوية لبعث الناس على فعل الصالحات ، وأخبر بأنها ستكون حاضرة يوم القيامة بأبهى صورة وحلة تسر أهلها ، وتبعث الحزن يومئذ في قلوب الكافرين وأهل المعاصي والظالمين.
وكل قول وفعل يكون له ما يعادله بلغة الأرقام على ألواح نورانية كبيرة يراها أهل المحشر كلهم ببديع صنع الله عز وجل ، وبما لا يكون فيه خطأ أو غبن ، وهل تستمر مضاعفة الحسنات في الآخرة ، أم أنها تنقطع في الدنيا ، لأن الآخرة دار الحساب بلا عمل ، المختار هو الأول .
وهو ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وفيه ترغيب للمؤمنين بعمل الصالحات لتأتي أرقام حسنات كل واحد منهم بما يبهر الملائكة وأهل المحشر.
ويؤتى بالذين كفروا وأهل المعاصي لتفضحهم أرقام سيئاتهم ، وهل تعرض السيئات على ذات الألواح التي تعرض عليها أسماء الصالحين وحسناتهم ، المختار لا .
فهناك فارق في اللون والهيئة والصورة والكيفية إذ أن لوحة الحسنات تجذب القلوب وتبعث السكينة فيها و[تَسُرُّ النَّاظِرِينَ]( )، وهي من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وقولنا لوح الحسنات ولوح السيئات تأويل وظن ، والأرجح أن آيات الإحصاء وكيفيتها يوم القيامة أعم من تصويرها بلوح الحسنات والسيئات .
وتأتي الأرقام في هذه الألواح برموز رياضية دقيقة ، ولكن يعلمها كل أهل المحشر مع إختلاف السنتهم ومداركهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( )، وهل تتم مناقلة بين هذه الأرقام ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : بين أهل الحسنات خاصة .
الثاني : بين أهل السيئات خاصة .
الثالث : مناقلة عامة بين أهل الحسنات وأصحاب السيئات.
فيؤخذ من هذا لذاك ، ولا يعلم كيفية ومقدار هذه المناقلة إلا الله عز وجل (عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ألفين أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة ، فيجعلها الله هباء منثورا.
قالوا : يا رسول الله ، صفهم لنا لكي لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال : أما إنهم من إخوانكم ، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ( ).
ولا يعلم هذا الحديث من الوحي ومن جوامع الكلم ليحترز المسلم في الخلوة .
وهل الأجر على الصبر في الخلوة عن السيئة والفاحشة أكثر منه في العلانية ، المختار نعم .
وإن قلت هل من حسنات عند الكفار الظالمين ، الجواب نعم ، إنه ممكن من غير أن تنفعهم ، وفي حال فقدها أو استيفائها فتضاف لهم أرقام وأرطال من الذنوب والآثام على ظهورهم .
تقدير الحذف في [لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]
في الآية حذف يتعلق بموضوع الطمأنينة من وجوه كثيرة منها :
الأول : طمأنينة القلوب على سلامة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا ينصر الملائكة إلا الرسول من عند الله والمؤمنون .
الثاني : لتطمئن قلوبكم بتحقق الوعد الإلهي بالنصر .
الثالث : لتطمئن قلوبكم لقانون الملازمة بين الصبر والنصر للمؤمنين.
الرابع : لتطمئن قلوبكم بنزول الملائكة مدداً .
الخامس : لتطمئن قلوبكم بتغشي رحمة الله لكم .
السادس : لتطمئن قلوبكم بقانون لحوق الهزيمة والخزي للمشركين .
السابع : لتطمئن قلوبكم بأن الربح سيادة مفاهيم الإيمان ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
الثامن : لتطمئن قلوبكم بقانون توالي آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين تمامه , قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
التاسع : لتطمئن قلوبكم وتكون في مأمن من الكآبة والريب والكدورات والأمراض النفسية .
العاشر : لتطمئن قلوبكم على حسن العاقبة , وأن إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن عالم الجزاء في الآخرة حق وصدق.
الحادي عشر : لتطمئن قلوبكم بأن الشهداء يوم بدر وأحد أحياء عند الله عز وجل , قال تعالى [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
بدائع خلق الله
لقد تفضل الله عز وجل على الملائكة والأنس والجن بالخلق والرزق ، وقهرهم بالعجز عن إحصاء النعم التي يتفضل بها عليهم، وهل هذا العجز من النعم أيضاً ، الجواب نعم ، لبيان أن علوم الخلائق محصورة ومتناهية .
وقد تقدم في الجزء السادس والأربعين من هذا السِفر أيهما خلق الله عز وجل الماء أو القلم .
وأختلف فيه كما ذكرت أمور أخرى خلقت أولاً منها :
الأول : العقل وفيه رواية عن النبي .
الثاني : العرش .
الثالث : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : النور ، وفيه رواية عن الإمام علي عليه السلام .
وصحيح أنه لم يرد نص صريح في القرآن عن أول ما خلق الله من الأشياء ، ولكن يمكن استقراؤه من آيات القرآن والسنة النبوية .
والظاهر أن الجمهور يقول بأن العرش أول ما خلق الله عز وجل ، وفي ظاهر الآيات مسألتان :
الأولى : كان العرش على الماء لقوله تعالى [َكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ]( )، وفيه أمارة على خلقه الماء قبله .
الثانية : خلق الله للسموات والأرض ثم العروج إلى العرش [هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ]( ).
فأبى الله عز وجل أن يكون العرش من غير معروشات ومخلوقات وجنود تناسب قدرة الله ، وعظمة العرش .
والمختار أن أول ما خلق الله عز وجل الماء لقوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ( ) وهل يحتمل وجود شئ آخر سابق للماء لم تخلق منه أحياء ، الجواب نعم .
وعن (عبادة بن الصامت : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن أو ما خلق الله القلم فقال له : اكتب فقال : ما أكتب : قال : القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد)( ).
وعلى فرض صحة سند النصوص الواردة في المقام فلا تعارض بينها فليس بالضرورة أن يكون أول ما خلق الله عز وجل فرداً متحداً ليكون تعدد أول ما خلق الله من بديع صنع الله وعظيم قدرته.
لقد أنزل الله عز وجل القرآن على نحو التدريج والنجوم والتوالي لمدة ثلاث وعشرين سنة مدة البعثة النبوية , ولعله مرآة لخلق الله عز وجل للخلائق على التوالي والتعاقب .
ومن إعجاز القرآن تكرر لفظ (ستة) سبع مرات فيه , كلها في موضوع خلق السموات والأرض لبيان أمور وعناوين وألفاظ يختص بها الله عز وجل لنفسه للثناء عليه , ولبديع صنعه تعالى منها قوله تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ]( ).
مختصات النبي في النكاح
لقد تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من احدى عشرة امرأة وفيه حكمة إذ كانت أكثرهن أرامل استشهد أزواجهن في الدفاع عن النبوة والتنزيل ومنهن :
الأولى : حفصة بنت عمر ، استشهد زوجها خنيس بن حذافة القرشي في معركة بدر ، ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : زينب بنت خزيمة استشهد زوجها عبد الله بن جحش يوم أحد ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة ثلاث للهجرة ، ولم تبق عنده إلا شهرين أو ثلاثة وتوفيت ، وتسمى أم المساكين لإكثارها من إطعامهم.
وهي الوحيدة من بين أزواجه التي صلى عليها صلاة الجنازة ، لأن هذه الصلاة لم تكن قد شرعت أيام وفاة خديجة ، وهو من الإعجاز في أوان التشريع بما يصرف أذى قريش إذ ماتت خديجة في مكة في السنة العاشرة للبعثة ، ولو صلى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضور أهلها وهم على الشرك إلا من هدى الله لحصلت فتنة وإستهزاء وسخرية ، وهل تنال ثواب من صلى عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
وهل يشمل زينب بنت خزيمة قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
الجواب نعم ، وان ماتت في أيام النبي وكذا بالنسبة لخديجة بنت خويلد عليها السلام ، مما يدل أن موضوع الآية أعلاه أعم من سبب النزول وحرمة زواج المسلمين لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده.
الثالثة : أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية استشهد زوجها عبد الله بن عبد الله الأسد المخزومي في جمادى الآخرة من السنة الرابعة للهجرة ، وكان أبو سلمة قد شهد بدراً ثم معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ، واصيب بجرح غائر في عضده ، وصار يعالجه في المدينة شهراً والتأم .
ثم عقد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواء ومعه مائة وخمسون من المهاجرين والأنصار فانتفض عليه جرحه ، وتوفى من أثره ، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن (سكينة بنت حنظلة قالت : دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدّتي فقال : يابنت حنظلة ، أنا من قد علمت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحق جدّي عليّ وقدمه في الإسلام.
فقالت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك.
فقال : أو لقد فعلت إنما أُجرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أُم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة وتوفي عنها زوجها ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله على يده فما كانت تلك خطبة)( ).
وتوفيت أم سلمة سنة احدى وستين.
ومن مختصات النبي في باب النكاح زواجه من أكثر من أربع نساء.
ومنها [طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
وقد تقدم البيان إن التسليم بمختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للتقيد بأنظمة الإسلام وعدم التجرأ والتعدي العام.
وفي التوراة بخصوص نساء سليمان :
(11: 1 و احب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موابيات و عمونيات و ادوميات و صيدونيات و حثيات
11: 2 من الامم الذين قال عنهم الرب لبني اسرائيل لا تدخلون اليهم و هم لا يدخلون اليكم لانهم يميلون قلوبكم وراء الهتهم فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة
11: 3 و كانت له سبع مئة من النساء السيدات و ثلاث مئة من السراري فامالت نساؤه قلبه
11: 4 و كان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه املن قلبه وراء الهة اخرى و لم يكن قلبه كاملا مع الرب الهه كقلب داود ابيه) ( ) وسليمان نبي معصوم .
لقد جاء الإسلام بدين الفطرة وإمكان التعدد والى أربع زوجات ومع خوف عدم تحقق العدل فزوجة واحدة .
إحصاء آيات زواج النبي (ص)
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن الذي يتضمن أحكام الحلال والحرام وإصلاح المجتمعات ، وبناء صرح الأخلاق الحميدة ، وسعادة البشر في الدنيا في طاعة الله والتهيئ والعمل للآخرة .
من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زواجه من أكثر من أربعة ، ونزل قوله تعالى[وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا]( ) ، ولم يرد لفظ (وطراً) بالرفع أو النصب أو الجر في القرآن إلا في هذه الآية إذ ورد فيها مرتين .
ولم يرد لفظ (وانعمت عليه) (مبديه) (تخشاه) (زوجناكها) (ادعيائهم) (قضوا) إلا فيها( ).
وكان نزولها قبل نزول قوله تعالى [لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا] ( ) .
والمدار ليس على سبق التنزيل وحده بل على إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالزواج من أكثر من أربعة.
وقد نزلت آيات قرآنية بخصوص زواج وأزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحياته الأسرية وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) .
ومن الآيات التي نزلت بخصوص أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
الأولى : قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
الثانية : قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ]( ).
الثالثة : قال تعالى [ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الرابعة : قال تعالى [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا]( ).
الخامسة : قال تعالى [وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا]( ).
السادسة : قال تعالى [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا]( ).
السابعة : قال تعالى [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا]( ).
الثامنة : قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
التاسعة : قال تعالى [تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا]( ).
العاشرة : قال تعالى [لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا]( ).
الحادي عشرة : قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الثانية عشرة: قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ]( ).
الرابعة عشرة : قال تعالى [وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا] ( ) .
السابعة عشرة : قوله تعالى [وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى]( ) في أم المؤمنين خديجة .
الثامنة عشرة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ) في عائشة .
التاسعة عشرة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ]( ).
العشرون : قوله تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الواحدة والعشرون : قوله تعالى [وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ]( ).
الثانية والعشرون : قوله تعالى [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالثة والعشرون : قوله تعالى [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا]( ) في زينب بنت جحش .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الخامسة والعشرون : قوله تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
السادسة والعشرون : قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا]( ).
خطبة وموضوع الآية الأخيرة أعلاه يتعلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة فأبت لأنها أعز نسباً ، وكانت تتطلع لأن يخطبها الرسول لنفسه ، فنزلت الآية فوافقت.
السابعة والعشرون : قوله تعالى [يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا]( ).
لقد تفضل الله عز وجل على نساء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإكرام والتفضيل بشرط التقوى والخشية من الله ، ولا يتعارض هذا التفضيل مع تفضيل فاطمة وخديجة ومريم بنت عمران عليهن السلام ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ] ( ). وإن ورد أن تفضيل مريم بخصوص أهل زمانها.
الثامنة والعشرون : قوله تعالى [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، (أن سودة قيل لها لم لا تخرجين فقالت أمرنا الله بأن نقر في بيوتنا وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيام الجمل)( ).
منافع زواج النبي (ص) بأكثر من أربع
في الثناء على الله عز وجل وبيان عظيم قدرته وسلطانه وأنه هو اللطيف الحكيم ، ورد في التنزيل [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
لقد كانت إباحة الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الزواج بأكثر من أربع زوجات من فضل الله.
وتتجلى مضامين الآية أعلاه ، في المقام بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج أكثر من أربع إلا بالوحي ومن منافعه :
الأول : استمالة القبائل إلى الإسلام بصيرورتهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : رؤية الأزواج المتعددات السنة النبوية عن قرب ، وما فيها من الشواهد التي تدل على صدق الرسالة .
الثالث : بيان عدالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته ، ومع عائلته لتكون حجة على المسلمين من باب الأولوية لمن عنده أربع نساء أو أقل .
الرابع : كل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثيبات إلا عائشة بنت أبي بكر ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينظر إلى خصوص الوطئ .
وهل فيه ترغيب للمسلمين بنكاح الثيب .
الجواب نعم ، خاصة مع كثرة المعارك آنذاك ، وإن كان هذا الترغيب باق إلى يوم القيامة وفي حال السلم والأمن أيضاً لعمومات قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) .
الخامس : إكرام أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنيل كل واحدة منهن مرتبة سامية ، وهي أم المؤمنين ، ولم ترزق امرأة غيرهن هذه التسمية في التأريخ ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا] ( ).
السادس : بيان مواصلة النبي للجهاد والخروج المتصل في الكتائب من غير أن تمنعه كثرة نسائه عن الدفاع وهو من معجزاته فالذي تكثر زوجاته يميل إليهن ويعتني بهن ، يتجنب التعرض لمواطن الضرر والخطر ، ويحرص على عدم الإبتعاد عنهن.
ومن خصائص النبي محمد أنه كان يسير بنفسه في كتائب الدفاع ، ومن خصائصه الثبات في الميدان وفي معركة أحد صارت حجارة المشركين تصل إليه فسألت الدماء من وجهه ومع هذا بقي في موضعه مع قلة من أهل البيت والصحابة في مقابل ثلاثة ألاف من المشركين ، لتكون سلامته يومئذ من معجزاته.
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بارسال بعوث الصحابة خارج المدينة ، بل كان يقود الكتائب ، وهو الإمام في الدفاع كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، عناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمصاهرة القبائل ، والتودد إليهم ، فتفضل الله عز وجل وأكرمهم بأن رزق بناتهم مرتبة سامية هي (أمهات المؤمنين).
ومن خصائص المؤمنين مجتمعين ومتفرقين إجتناب الإرهاب أو إثارة الفزع عند عامة الناس مع اختلاف مذاهبهم.
لقد بعث الله عز وجل الرعب في قلوب المشركين لأنهم زحفوا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق ، ليشكر المسلمون الله عز جل فلا يرهبوا الآمنين من عامة الناس.
تعدد زوجات النبي (ص)
لقد كانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبراساً وموعظة ، وفي تعدد أزواجه مسائل :
الأولى : قانون رفق النبوة بالأرامل وأبنائهن وإعانة النبي لهم جميعاً .
الثانية : من غايات زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات ، وفي التنزيل [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
الثالثة : قانون التفاخر بمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : بيان قانون وهو قرب شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأسر والبيوتات والقبائل ، وكانت أكثر أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد بقاءها على الإنتماء القبلي بالقول والفعل .
فمثلا كانت سودة بنت زمعة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ذهبت إلى آل عفراء من بيوت الأنصار لمواساتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء اللذين سقطا شهيدين في معركة بدر قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قالت سودة (وَاَللّهِ إنّي لَعِنْدَهُمْ إذْ أُتِينَا ، فَقِيلَ هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ، قَدْ أُتِيَ بِهِمْ.
قَالَتْ فَرَجَعْت إلَى بَيْتِي ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيهِ وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْحُجْرَةِ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ قَالَتْ فَلَا وَاَللّهِ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْت أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ.
أَنْ قُلْت : أَيْ أَبَا يَزِيدَ أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ أَلَا مُتّمْ كِرَامًا.
فَوَاَللّهِ مَا أَنْبَهَنِي إلّا قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ الْبَيْتِ.
يَا سَوْدَةُ أَعَلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ تُحَرّضِينَ .
قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت مَا قُلْت)( ).
وكانت سودة من بني عامر بطن من قريش ، وسهيل بن عمرو من رؤسائهم ، وهو خطيب لوذعي، وفصيح قريش .
وجاءت إلى عمر بن الخطاب أيام حكمه جارية لصفية بنت حيي (فقالت: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود. فبعث إليها عمر فسألها فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به يوم الجمعة. وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً وأنا أصلِها)( ).
ويدل هذا الحديث على وجود يهود في المدينة أيام عمر بن الخطاب ، وهم على ديانتهم.
وهل يتفاخرون بأن أم المؤمنين منهم ،وتتواصل معهم ، الجواب نعم ، وفيه نشر للتراحم بين الناس والألفة بين المسلمين وأهل الكتاب ، وحرمة الإرهاب مع المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً .
ثم قالت صفية لجاريتها : ما حملك على هذا.
أجابت : الشيطان .
قالت صفية : أذهبي فانت حرة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( ) ، وهذه الآية حجة ونهي عن الإرهاب ، ومنع من إتخاذ أسباب وذرائع له ، إذ أنها تسد مثل هذه الذرائع ، وتفيد حرمة الإرهاب والتفجيرات والعنف.
قانون جزاء الإنفاق
تبين آيات القرآن قانون أن جزاء الإنفاق لا يقدر عليه ولا يعلمه ولا يحصيه إلا الله عز وجل، ولم يكن مفوضاً إلى الملائكة مع جلالة منزلتهم وانهم لا يفعلون الا ما يؤمرون.
وقد ورد قوله تعالى [َلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] خمس مرات في القرآن كلها في سورة البقرة إلا واحدة في آل عمران.
فقد جاء في الآية الثانية والستين من سورة البقرة ، ثم جاء بعدها بمائتي آية تماماً أي الآية (262)، ثم في قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ثم بعدها بثلاث آيات .
أما الآية التي في سورة آل عمران فهي [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
ويمكن تقسيم موضوعها الى قسمين:
الأول : يشمل الأولى والأخيرة من سورة البقرة وجاءتا بالإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) .
وذكر أهل الكتاب في الآية أعلاه مع المسلمين باعث لهم وللناس جميعاً للعمل الصالح ، والمسارعة في الخيرات ليكون الصلاح سمة عامة ، والإيمان بالله والمعاد سور الموجبة الكلية الجامع للكل وبما ينفي أسباب الحروب والإقتتال.
وهل في الآية أعلاه قانون دعوة المسلمين لإجتناب قتال أهل الكتاب ، الجواب نعم .
وتتضمن الآية استنهاضهم لفعل الخير ، والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله .
فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة .
فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم .
فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)( ).
والزكاة من أبهى مصاديق الإحسان والتراحم بين الناس ، و(عن عبد الله بن عمرو يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الراحمون يرحمهم الرحمن .
ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء ، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله ومن قطعها قطعه)( ).
الثاني : يشــمل الآيــة الثانية والســتين بعد المائتــين ، وتتعلق بالإنفـاق في سبيل الله تعالى، وفيه وجوه :
الأول : الدلالة على قانون موضوعية الإنفاق في مراتب الأعمال، وما له من الثواب العظيم.
الثاني : قانون حضّ المسلمين على عدم التفريط في الزكاة عند تعلقها بالمال.
الثالث : قانون التنبيه والإرشاد الى قانون إعانة الفقراء ، ومساعدة المحتاجين ، ونيل مراتب السمو والرفعة.
الرابع : قانون القطع بالثواب العظيم في الآخرة على الإنفاق بقصد القربة إلى الله سبحانه.
الخامس : قانون إدخال السكينة الى نفوس المسلمين بما أعد الله لهم من الأجر الجزيل.
السادس : قانون تدارك التقصير في العبادات بالإنفاق في سبيل الله تعالى بما يكون عوضه في باب الأجر والثواب.
السابع : موضوعية سورة البقرة في بيان أحكام اليوم الآخر والجزاء وسنن الثواب.
ومن خصائص الزكاة تنمية صلات المودة بين الأغنياء والفقراء، وهي من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ولا يحصي عدد وزمان ومكان هذه المودة ومنافعها إلا الله عز وجل لأن المودة كيفية نفسانية.
ومن أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله ، وهو سبحانه الذي يجعل المودة الحسنة تتجلى بمظهر الواقع ليفوز المؤمنون بقانون [لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) وقال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ولا يحصي عدد وزمان ومكان أهل الملل والأفراد الذين عملوا الصالحات من كل ملة إلا الله عز وجل .
وهل هذا الإحصاء مجرد مطلوب بذاته فقط ، الجواب لا ، فمن فضل الله عز وجل أنه يحصي أهل الملل بما يجعل عبادة الله متصلة ومتجددة في الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( ) لبيان أن إحصاء الله عز وجل للذوات والأعيان والأعراض مقدمة لإستدامة الحياة على الوجه الأكمل ، فهذا الإحصاء حكمة ومشيئة ولطف من عند الله سبحانه بالخلائق .
وهو تطهير للذات وتزكية في ماهية عالم الأفعال ، وفيه تنزه عن الشح والبخل ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
قانون إحصاء الحفظ
من أسماء الله الْحُسْنَى وفي التنزيل [إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ]( )، و[خَيْرٌ حَافِظًا]( )، وليس من حصر للمصاديق والإفراد التي هي في حفظ الله عز وجل ، وتفضله بتعاهدها الموجود منها والمعدوم ، ولا يحصيها غيره سبحانه.
و(عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ]( )، قال : لو أن الإِنس والجن والشياطين والملائكة منذ خُلِقُوا إلى أن فُنُوا صُفُّوا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله أبداً . قال الذهبي : هذا حديث منكر)( ).
وقد تقدم ذكر هذا الحديث مع البيان بأن الحديث صحيح رواية ودلالة وليس منكراً مع ضعفه سنداً في الجزء الثاني من هذا السِفر في تفسير قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.
والحديث من مصاديق وبيان الإطلاق والعموم في قوله تعالى [لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ).
فالمراد أبصار الجنس والإنس والملائكة ، و(عن ابن عباس قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه . فقال له رجل عند ذلك : أليس قال الله {لا تدركه الأبصار} فقال له عكرمة : ألست ترى السماء؟ قال : بلى قال : فكلها تُرَى)( ).
بحيرة ساوة
يحمل هذا الاسم موضعان :
الأول : تقع بحيرة ساوة قرب مدينة السماوة العراقية ، وتبعد عنها (23) كم وهي قرب ماء الفرات وليس من نهر يصب في بحيرة ساوة ، إنما هي بحيرة مغلقة تتسرب إليها المياه الجوفية من تحتها من شقوق وتصدعات من نهر الفرات ، ومياها مالحة ،
الثاني : تتضمن الكتب التأريخية تفيد بأن بحيرة ساوة بلدة تقع في بلاد فارس ، بين مدينة الري (طهران) ومدينة همدان.
وقال ياقوت الحموي (ساوَه: بعد الألف واو مفتوحة بعدها هاء ساكنة. مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط بينها وبين كل واحد من همذان والري ثلاثون فرسخاً وبقربها مدينة يقال لها آوه.
فساوه سُنية شافعية.
واوه أهلها شيعة إمامية وبينهما نحو فرسخَين ولا يزال يقع بينهما عصبية .
وما زالتا معمورتين إلى سنة 617 فجاءها التتر الكفار فخُبرت أنهم خربوها وقتلوا كل من فيها ولم يتركوا أحداً ألبتة وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها بلغني أنهم أحرقوها .
وأما طول ساوه فسبع وسبعون درجة ونصف وثلث وعرضها خمس وثلاثون درجة .
وفي حديث سطيح في أعلام النبوة : وخمدت نار فارس وغارت بُحَيرة ساوه وفاض وادي سماوه فليست الشام لسطيح شاماً في كلام طويل)( ).
كما ذكر ابن بطوطة مدينة ساوة هذه وأهلها وحكاية الشيخ الذي قام بحلق لحيته وحاجبيه( ).
وبين ساوة ومدينة الري خمسون ميلاً .
وفي مدينة ساوة مات نصر بن سيار عامل مروان بن محمد على خراسان ، فانه لما قامت الدولة العباسية ، هرب نصر بن سيار ومات فيها كمداً.
وساوة بلدة بين ظهراني طهران وهمذان ، وممن ولد فيها علي بن أحمد الواحدي صاحب كتاب أسباب النزول ، توفي سنة 468 هجرية ، والظاهر وجود بحيرة قريبة من مدينة ساوة اسمها بحيرة ساوة باسم البلدة المجاورة لها ، ومعروفة عند الناس ، فغاضت عند ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة لأهل فارس للإسلام.
قانون تكرار الفعل يؤدي إلى حصول وتنمية الملكات
يتجلى كل يوم قانون نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، فهل ينهى الصيام أيضاً عن الفحشاء والمنكر ، الجواب نعم ، ولا يختص نهيه هذا بأيام الصيام بل إنه تنمية لملكة التقوى في النفس وانبساطها على أيام المؤمن وغيره في الحياة الدنيا ، لذا ذكرت التقوى في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( )، ليكون من معاني الآية : لعلكم تتقون في أيام الصيام والإفطار .
وفي حديث طويل عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (وللجنة باب يقال له الريان، لا يفتح إلى يوم القيامة، ثم يفتح للصائمين والصائمات من امة محمد صلى الله عليه وآله، ثم ينادي رضوان خازن الجنة: يا امة محمد هلموا إلى الريان، فيدخل امتي من ذلك الباب إلى الجنة فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له) ( ).
وعن سهل بن سعد (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : للجنة ثمانية أبواب ، فيها باب يسمى الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال : أين الصائمون؟ فيدخلون منه ، فإذا دخل آخرهم أغلق ، فلم يدخل منه أحد زاد ابن خزيمة : ومن دخل منه شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً) ( ).
عن فضيل بن يسار عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصوم لي وأنا أجزي به).
والفضيل بن يسار النهدي عربي بصري ، ثقة روى عن الباقر والصادق عليهما السلام قبل سنة 148 .
منافع علم النحو
لقد أكرم الله عز وجل اللغة العربية بأن أنزل القرآن بالعربية إذ قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
ومن خصائص هذه اللغة تعدد معاني اللفظ القرآني بما يجعل مضامين الآية القرآنية متجددة وصالحة لكل زمان ومكان , ومن علوم اللغة العربية.
الأول : علم النحو , والنحو لغة من نحا ينحو إذا قصد , وسمي النحو لأن الغاية منه تحري الإعراب والبناء على طريقة العرب بالقياس والإستقراء , والضابطة الأم في علم النحو هو آيات القرآن , فلم يعرف العرب علم النحو إلا بعد نزول القرآن , وإدراك الحاجة إلى قوانين وقواعد اللغة لضبط لغة العرب , وتفسير وتأويل آيات القرآن .
ولا يحصي فضل الله عز وجل على العرب والمسلمين والناس جميعاَ في علم النحو بنزول آيات القرآن إلا الله عز وجل , وعلم النحو عون في ضبط حركات ومباني كلمات القرآن وتلاوتها على نحو سليم وفيه الأجر والثواب.
ويتناول علم النحو أحوال الكلمة العربية إفراداَ وتركيباً , ويختص بإعراب الكلمة وأبنية الكلمة , وموقعها في الجملة , وضوابط تركيب الجملة , وترتيب الألفاظ بما يناسب المعنى ووضوحه , وتدخل فيه النكرة والمعرفة والنواسخ , والتثنية والجمع , والإضافة والنسب والتركيب .
ولا يحصي منافع علم النحو في تعلم العرب وغيرهم لتلاوة القرآن والعمل بمضامينه إلا الله عز وجل .
ومن علم النحو العناية بحركة الكلمة من الرفع أو النصب أو الجر أو السكون بلحاظ صلتها مع الكلمات الأخرى في الجملة .
لبيان أن معاني علم النحو في الإصطلاح العقائدي أعم منها في المعنى اللغوي , فهو مقدمة ووسيلة لمنع تحريف آيات القرآن ومعانيها ودلالتها .
وهل تأسيس ونمو علم النحو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ) الجواب نعم .
فبالقرآن وعلماء الإسلام تأسس علم النحو بعد أن كان الكلام العربي يطلق وينطبق على السليقة والفطرة والوجدان فصار النحو بالقرآن علماَ مستقلاَ لبيان قانون تفرع العلوم عن القرآن .
والنسبة بين علوم القرآن وعلم النحو عموم وخصوص من وجه , إذ يؤخذ علم النحو من القرآن , ومن الشعر العربي كما ينتفع منه في بيان وتفسير القرآن , وفي غيره في العبادات والمعاملات , وصار القرآن هو السبيل لضبط العربية عند ترجمتها إلى اللغات الأخرى , وبه حفظت هذه اللغة إلى يوم القيامة , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ) .
نشأة علم النحو
لولا نزول القرآن لم يضع العرب قواعد علم النحو بهذه القوانين والقواعد الدقيقة والمحكمة والإرتقاء فيها , ولم يكن العرب يعرفون علم النحو قبل نزول القرآن .
وكانت نشأته بأمر من الإمام علي عليه السلام إذ إزداد إختلاط الأعاجم بالعرب , وبعد دخولهم الإسلام , وظهور اللحن خاصة في المدن الكبيرة مثل الكوفة والبصرة .
وعن تأريخ الأدباء للأنباري أن أبا الأسود الدؤلي قال : (دخلت على أمير المؤمنين علي فوجدت في يده رقعة فقلت ما هذه يا أمير المؤمنين فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم) فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ثم ألقى إلي الرقعة ومكتوب فيها (الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمى .
والفعل ما أنبئ به والحرف ما أفاد معنى) وقال لي انح هذا النحو وأضف إليه ما وقع عليك وأعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة.. ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر.
وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر (أراد بذلك الاسم المبهم) قال ثم وضعت بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصلت إلى باب إن وأخواتها فكتبتها ما خلا لكن فلما عرضتها على أمير المؤمنين عليه السلام أمرني بضم لكن اليها.
وكلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكفاية.
فقال ما أحسن هذا النحو الذي نحوت فلذا سمى النحو) وهو الوصف الأخير من الإمام علي عليه السلام لأمور :
الأول : الثناء على أبي الأسود واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني .
الثاني : بيان رضا الإمام علي عليه السلام على جهد أبي الأسود .
الثالث : تثبيت قواعد علم النحو ، ودعوة المسلمين للرجوع إليها .
ولا يحصي منافع علم النحو إلا الله عز وجل ومنها منافعه في علوم القرآن والسنة ، وتثبيت قواعد اللغة والبلاغة .
من أسماء علماء النحو
لا يحصي فضل القرآن على العرب والعربية إلا الله عز وجل , ومن الإعجاز في المقام أن كثيراَ من علماء النحو من غير العرب مثل:
الأول : سيبويه , عمرو بن عثمان , مولى بني الحارث بن كعب (148-188) هجرية ولد في مدينة البيضاء قرب شيراز وله كتاب (الكتاب) ( ).
الثاني : عبد الظاهر الجرجاني , له استاذ واحد , ولم يغادر بلدة جرجان توفي سنة 471.
الثالث : ابن فارس , أحمد بن فارس بن زكريا القزويني المعروف بالرازي , وله كتاب مقاييس اللغة , وكتاب (المجمل) وهو على مدرسة الكوفة النحوية , توفي سنة (399) هجرية , ولم تذكر سنة ولادته .
الرابع : ابن جني , عثمان بن جني الموصلي (330-392) هجرية وله كتاب (الخصائص , واللمع ).
الخامس : أبو عثمان المازني .
السادس : نفطويه.
السابع : المبرد صاحب كتاب الكامل في التأريخ (206-286) هجرية .
الثامن : أبو بكر الصولي .
التاسع : الجوهري , إسماعيل بن حماد التركي توفي سنة 393 هجرية , وكان كثير السفر والتغرب بطلب لسان العرب .
العاشر : السيرافي .
الحادي عشر : أبو إبراهيم الفارابي.
تقدير (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)
قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ) وبخصوص القرض وإمهال المدين ، يمكن تقدير [يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] على وجوه :
الأول : ولتكن منكم أمة) يدعون إلى إمهال المعسر
الثاني : ولتكن منكم أمة) يدعون إلى إعانة الفقير والمحتاج ولا يلجأ إلى الإقتراض خاصة مع عدم وجود أمارات على إمكان القضاء وسهولة القضاء في أبواب المكاسب الحاضرة .
الثالث : ولتكن منكم أمة) يدعون إلى إخراج الزكاة والخمس والحقوق الشرعية ودفعها إلى مستحقيها , ومن معاني قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى]( ) إخراج زكاة الفطر وعامة الزكاة , وتطهير النفس من الذنوب والخطايا .
وعن (ابن عباس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول {قد أفلح من زكاها}( ) الآية ، قال : أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير)( ).
الرابع : ولتكن منكم أمة) يدعون إلى قضاء الديون في آجالها .
الخامس : ولتكن منكم أمة) يدعون إلى التعاون والتكافل في قضاء ديون المعسر .
السادس : ولتكن منكم أمة) يدعون إلى إجتناب الربا , وإلى ترك المال الزائد عن قيمة القرض وإن تأخر القضاء .
السابع : ولتكن منكم أمة) يتلون آيات القرآن في المقام , ومنها آية البحث [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ).
الثامن : ولتكن منكم أمة) يذكرون للناس أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إمهال المدين .
التاسع : ولتكن منكم أمة) يبينون الأجر والثواب العظيم بإمهال المدين , وكتابة صدقة يومية بمقدار الدين , وهو أمر لا يقدر عليه , ولا يمنحه إلا الله عز وجل , وفي التنزيل [هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ]( ).
العاشر : ولتكن منكم أمة) يدعون للتصدق على المدين المعسر لقوله تعالى في آية البحث [وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( )، وللأحاديث النبوية.
وتضمنت الآية أعلاه الوعد بالخير للذي يتصدق ويسقط دين المعسر , فهل يأتي الخير والثواب لمن يدعو إليه ، الجواب نعم , (عن محمد بن كعب القرظي : أن أبا قتادة كان له دين على رجل ، وكان يأتيه يتقاضاه ، فيختبئ منه ، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه ، فقال : نعم ، هو في البيت يأكل خزيرة.
فناداه : يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك ها هنا فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ فقال: إني معسر، وليس عندي.
قال: آلله إنك معسر.
قال: نعم.
فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من نفس عن غريمه -أو محا عنه -كان في ظل العرش يوم القيامة)( ).
إحصاء فيوضات الآية القرآنية
لقد تفضل الله عز وجل وجعل كلامه على ألسنة الناس ، وحاضراً بينهم ، ويسر لهم العمل بأحكامه ، والصدور عنه ولا يعلم فضل وبركة الآية القرآنية في مقام العمل والإنتفاع منها إلا الله عز وجل.
ولا يحصي فيوضات الآية القرآنة إلا الله سبحانه ، مما يملي علينا الشكر لله والتدبر في مضامين القرآن ، ومن معاني قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ):
الأولى : يدعون إلى الخير) والثواب بالتصدق على المدين الذي عجز عن قضاء الدين .
الثانية : من خصائص هذه الأمة أنها تدعو إلى الخير التفقه في الدين .
الثالثة : من معاني وتقدير قوله تعالى [يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] وجوه :
أولاَ : يدعون إلى الخير) لأنفسهم .
ثانياَ : يدعون إلى الخير) ليناله الأغنياء وأصحاب الأموال بإقراض المحتاجين وإمهالهم.
ومن الخير قانون الإمتناع عن أكل المال الربوي .
ثالثاَ : يدعون إلى الخير) في إعانة المعوزين , وابن السبيل , والذي ذهبت تجارته بإمهالهم والدعوة لإعانتهم .
رابعاَ : النسبة بين الإعانة والإمهال في المقام عموم وخصوص مطلق , فالإعانة أعم , لذا جاء ذكر الخير في الآية على نحو الإطلاق الموضوعي .
الرابعة : ولتكن منكم أمة) تدعو إلى تهيئة فرص عمل للمحتاج والعاطل عن العمل , وتأهيله للكسب والتحصيل .
الخامسة : ولتكن منكم أمة يدعون إلى) تسخير بيت المال للإعانة الإجتماعية .
السادسة : ولتكن منكم أمة يدعون إلى) محاربة الفقر بالوسائل السلمية ووفق أحكام الشريعة .
السابعة : من الدعوة إلى الخير في المقام التذكير بالآخرة , وبيان قانون إمهال المعسر من العمل للآخرة , والوقاية من النار , (عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد، وهو يقول بيده هكذا – إلى الأرض-.
من أنظر معسرًا أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة -ثلاثًا -ألا إن عمل النار سهل بسهوة.
والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا”)( ).
وذكرت هذه الآية آل عمران من باب المثال الإعجازي , وإلا فإن هذا العلم يتجلى في مضامين كل آية ، وفي الصلة بين آيات متعددة من آيات القرآن .
وعلم الجمع بين آيتين غير علم إحصاء العلوم في الجمع بين الآيتين .
والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق , ليكون من باب الأولوية أن علم إحصاء العلوم في الجمع بين آيتين من القرآن غير منقطع ولا متناه , ولا يعلمه إلا الله عز وجل , وهو من أسرار قانون القرآن كلام الله تعالى.
قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
لبيان موضوعية القرآن في الإحتجاج وهداية الناس وهو مدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة الناس إلى الإيمان , ولا تستطيع الخلائق إحصاء معشار منافع تلاوة آيات القرآن وإن إجتمعوا .
وحينما أمر الله عز وجل النبي محمداَ بأن يُسمع المشركين كلام الله عز وجل فإنه سبحانه وحده يعلم هذه المنافع في النشأتين .
تقدير (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)( )
وفيه وجوه :
الأول : ولتكن منكم أمة يأمرون بالعمل الصالح .
الثاني : ولتكن منكم أمة يأمرون بالإقراض من غير فوائد ربوية.
الثالث : ولتكن منكم أمة يأمرون بإمهال المعسر .
الرابع : ولتكن منكم أمة يأمرون بإخراج الزكاة والحقوق الشرعية ودفعها إلى مستحقيها .
الخامس : ولتكن منكم أمة يأمرون بإعانة المحتاج , وإعطائه من الحقوق الشرعية , قبل أن تصل النوبة إلى الإقراض .
ومن الإعجاز في المقام عدم إنحصار مستحقي الزكاة بالفقراء والمساكين, قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
السادس : ولتكن منكم أمة يدعون المديون بقضاء الدين وعدم المماطلة فيه .
السابع : ولتكن منكم أمة يأمرون بالإقراض والصدقة والهبات وصلة الرحم لقوله تعالى [وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الثامن : ولتكن منكم أمة يأمرون بفرص عمل للعاطلين .
التاسع : ولتكن منكم أمة يأمرون بالدعاء والذكر وسؤال الله عز وجل الرزق الكريم , والغنى عن الدين .
العاشر : ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف والإحسان والرأفة والرحمة.
الحادي عشر : ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف في الفرائض العبادية والمستحبات .
الثاني عشر : ولتكن منكم أمة يأمرون بإنظار ذي العسرة إلى ميسرة .
الثالث عشر : ولتكن منكم أمة يأمرون بالخير .
الرابع عشر : ولتكن منكم أمة يدعون لوضع وإسقاط الدين عن المعسر قربة إلى الله تعالى ورجاء الثواب , (عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله، فَلْيُيَسِّر على معسر أو ليضع عنه)( ).
وقد تقدم ذكر مثل هذا الحديث مختصراَ عن الصحابي أبي اليسر في الجزء الثامن والأربعين.
والجمع بين الخبرين بفارق مائتي جزء في هذا السِفر شاهد على فضل الله العظيم علينا وأسأله تعالى المزيد [إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ]( ).
قانون مبادرة الصحابة للعمل بالكتاب والسنة
ومن الآيات في حسن سمت الصحابة أنك تجد أحدهم يبادر إلى العمل بمضامين الكتاب والسنة بنفسه , فهو لا يكتفي بالدعوة إلى الخير إنما يقوم بفضل ذات الخير بنفسه , وبالبذل من ماله إذ ورد (من حديث عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه غلام له معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري، وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له أبي: يا عم، إني أرى في وجهك سفعة من غضب.
قال أجل، كان لي على فلان بن فلان الحرامي( ) مال، فأتيت أهله فسلمت، فقلت: أثم هو.
قالوا: لا فخرج علي ابن له جفر فقلت: أين أبوك.
فقال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي.
فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت.
فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني.
قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك؛ خشيت -والله -أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنت -الله -معسرًا قال: قلت: آلله .
قال: قلتُ: آلله، قال: اللهِ.
قلتُ: آلله؟ قال: الله. قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده، ثم قال: فإن وجدت قضاء فاقضني، وإلا فأنت في حل، فأشهد بصر عيني -ووضع أصبعيه على عينيه -وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي -وأشار إلى مناط قلبه -رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: “من أنظر معسرًا، أو وضع عنه أظله الله في ظله”. وذكر تمام الحديث)( ).
وقوله قبل أن يهلكوا , أي قبل أن ينقرض جيل الصحابة وأهل البيت الذين هم خزائن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية.
وهل يمكن القول بأن فعل أبي اليسر هذا من الأمر بالمعروف العملي , الجواب نعم .
ومن خصائص أهل البيت والصحابة وجوه :
الأول : تعظيم سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : توثيق الصحابة وأهل البيت السنة النبوية القولية والفعلية.
ومن الآيات في المقام كثرة عدد الصحابة , و (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة “)( ).
الثالث : قانون الصحابة وأهل البيت جسر مستقيم بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين , وهو من معجزاته من جهات:
الأولى : قانون حسن سمت صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : قانون عدم بخل الصحابة بالإخبار عن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قانون اقتباس الصحابة الدروس والمواعظ من السنة النبوية , واجتهاد التابعين في المقام , وقد تختص مصاديق من السنة النبوية على عدد من الصحابة , فيحفظها ويظهرها آخرون من أهل البيت والصحابة , قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وعن (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن منصور بن حازم قال: قلت للإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟
فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان، قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله صدقوا على محمد صلى الله عليه وآله أم كذبوا؟
قال: بل صدقوا، قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟
فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيبه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الاحاديث بعضها بعضا)( ).
الرابعة : إزدياد أعداد الصحابة على نحو الإطراد من بدايات الدعوة الإسلامية , ويتجلى من جهات عديدة منها دخول الإسلام فرادى وخفية من قريش في بدايات الدعوة الإسلامية واستجابة عدد من الأوس والخزرج للدعوة الإسلامية في بيعة العقبة الأولى وعددهم اثنا عشر في السنة الثانية عشرة للبعثة بعد تكرار دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقبائل العربية لسنوات متعددة في موسم الحج .
بحث أصولي
ذكر ان بعض آيات القرآن مخصــصة لعــموم السنة ومما اســتشهد به قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( )، وربما تشمل المقام بخصــوص النصوص الواردة بتقديم النفقة على العيال (ومن أمثلته قوله تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ]( )، خص عموم قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وقوله [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى]( )، خص عموم نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة بإخراج الفرائض وقوله [وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا]الآية ( )، خص عموم قوله ما أبين من حي فهو ميت وقوله [وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( )، خص عموم قوله لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي وقوله [فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي]( )، خص عموم قوله إذا التقى المسلمان بالسيف فالقاتل والمقتول في النار)( ).
ولا تصل النوبة إلى تخصيص عموم السنة لأن الآية تخاطب عموم المسلمين ضد فئة أو طائفة تحمل السيف ضد عامة المسلمين .
والتخصيص هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ العام .
والمخصص للعام على قسمين فتارة يكون المخصص متصلاً كما في قوله تعالى [ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ]( )، وقول القائل: “اديت الفرائض الا الحج” مما يدل على ارادة العموم الا الخاص الذي استثني.
واخرى يكون منفصــلاً فلا يرد المخـصــص في نفس الكلام ولا يفهــم الـسامع المقصــود الا باســتحضار القرينة التي تدل على التخصيص من كلام آخر، وهذا من علــوم البلاغة العقلية .
وينفرد القرآن بآيــات اعجازيــة في موضوعــه وأحكـامه وتتداخل الآيــات القرآنية فيه .
وقلما تجد آية لا يتعلق بها مراد المتكلم ويظهر في القسمين ولكنه في المخصص المتصل ينعقد بالحال، ويكون المخصص المتصل في القرآن على قسمين :
الأول : المخصص في الآية أو الآيات المجاورة من ذات السورة .
الثاني : المخصص في سورة أخرى.
والأكثر هو القسم الأول .
وبلحاظ تأريخ العام والخاص هناك وجوه اربعة:
الأول: كل منهما معلوم التأريخ مع اقترانهما عرفاً.
الثاني: معلوما التأريخ مع تقدم العام زماناً ، وهذا الوجه ينقسم الى صورتين:
الأولى: ورود الخاص قبل العمل بالعام فيحمل الكلام على التخصيص وعليه الإجماع.
الثانية: وروده بعد وقت العمل بالعام واختلف في هذه الصورة وهل تفيد النسخ او التخصيص، والأقوى انه لا قاعدة كلية في المقام بل تلاحظ القرائن والأمارات وأسباب العمل وتغير الحال.
الثالث: كل من المخصصٍ بالكسر ، والمخصَص بالفتح معلوما التأريخ مع تقدم الخاص وفيه صورتان:
الأولى: ان يأتي العام قبل وقت العمل بالخاص، فيكون الخاص مخصصاً وليس ناسخاً.
الثانية: ان يأتي العام بعد وقت العمل بالخاص، وحمل على النسخ لقبح تأخير البيان عن أوان الحاجة ، ولكن النوبة لا تصل الى هذا التعليل.
الرابع: ان يكون العام والخاص مجهولي التأريخ او ان احدهما مجهول فقط فيحمل على التخصيص.
هذا اذا كان العام والخاص بعرض واحد ، أما اذا اختلف الموضوع وتباينت المرتبة فمن الصعب تطبيق قواعد العام والخاص الا مع ورود الدليل .
وقد جاء الدليل بان السنة تخصص القرآن خاصة السنة المتواترة وليس القرآن هو الذي يخصص السنة لعظيم شرف القرآن ولأنه أصل الأحكام، والسنة جاءت بياناً وتفسيراً له وليس هو مبيناً للسنة، ولأن الآية تنزل اولاً ثم يعقبها التفسير.
وأستدل أيضاً على تخصيص السنة بالقرآن بتخصيص ما ورد عن (أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقبل صلوة أحدكم إذا احدث حتى يتوضأ) ( ) بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا] ( ).
ولا دليل عليه خاصة مع ورود السنة النبوية بالتيمم بعد نزول الآية أعلاه .
فما ذكروه من تخصيص القرآن لعمومات السنة لا أصل له وإن اجروه مجرى المسلمات الا أن يراد عمومات تفسير القرآن بالسنة، ولا يحتمل معه ارادة العموم.
أما في المنفصل فان العام ينعقد في عمومه على نحو ابتدائي وبدوي لأن الكلام انقطع بلا قرينة، ولكن ورود المخصص المنفصل يكشف عن المراد الجدي.
علم الجمع بين آيتين غير متناه
تقدير مضامين آية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ]( ) بخصوص آية [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ) مع التباين في موضع كل من الآيتين إذ أن احداهما في سورة آل عمران , والأخرى في سورة البقرة , فيه مسائل :
الأولى : لا يقدر على دلالات ومنافع علم تقدير الجمع بين كل آيتين إلا الله عز وجل , إذ أن هذا الجمع من علم الله عز وجل غير المتناه في الموضوع المتحد أو المتعدد .
الثانية : ذات علم الله عز وجل لا ينقطع وهو غير متناه , وعليه إجماع المسلمين , والمراد هنا أن علم الله عز وجل بالجمع بين آيتين من القرآن لا يدرك الناس كنهه أو معشاره , وهو من إعجاز القرآن , وبديع صنع الله عز وجل في عنوان هذه الجزء والجزء قبل السابق وهو الخامس والأربعون بعد المائتين بقانون (علم الإحصاء القرآني غير متناه) أما العلم هنا فهو شعبة من ترليونات غير منقطعة من علم الله عز وجل , وهذه الشعبة هي علم الجمع بين كل آيتين من القرآن .
الثالثة : دلالات الجمع بين كل آيتين من مصاديق الهدى في قوله تعالى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
الرابعة : استنباط مئات الألاف من القوانين والقواعد من الجمع بين آيات القرآن ، ولا ضير بأن يكون بعضها مكرراً ، إذ أن الأصل والجامع لها غير مكرر.
تقدير (فعدة من آيام آخر)
يجتهد المسلم في أداء الصلاة والصيام والفرائض الأخرى , ومن اللطف الإلهي الرخصة في إفطار شهر رمضان للمريض والمسافر , قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
وهل تدل هذه الآية على قضاء الولي عن الميت ، الجواب نعم مع ورود النص , بتقدير الآية على وجوه :
الأول : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يقضيها المكلف نفسه .
الثاني : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يقضيها الولي .
الثالث : فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يقضيها الأجير أو المتبرع .
وهل قضاء الصلاة والصيام عن الميت من عمومات قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ) الجواب نعم .
لما فيه من تعاون الحي مع الميت , والإقرار العام باليوم الآخر وعالم الحساب .
ولو كان مسلم أو مسلمة لم تصل في حياتها وأوصت بالصلاة أو أمرا الولي الصلاة عنها من دون وصية , فهل يصح الجواب نعم , وفيه الأجر والثواب لبيان حاجة الإنسان في الآخرة إلى الصدقة وإبراء الذمة.
إن إعانة الميت في عبادته دعوة للمسلم إلى إصلاح نفسه باجتناب الظلم ومقدماته ، سواء الظلم للذات أو الغير .
النسبة بين نعمة باب ونهر الريان
كما يعجز الناس عن إحصاء نعم الله عز وجل في الدنيا ، فانهم يعجزون عن إحصاء نعم الآخرة من باب الأولوية القطعية لأنها أضعاف مضاعفة لنعم الدنيا ومنها تعدد أبواب وأنهار الجنة.
و(عن أنس مرفوعاً : في الجنة نهر يقال له الريان ، عليه مدينة من مرجان ، لها سبعون ألف باب من ذهب وفضة ، لحامل القرآن)( ).
لبيان نسبة العموم والخصوص من وجه بين نهر الريان وباب الريان ، فمادة الإشتراك من وجوه :
الأول : الاسم المشترك وهو الريان .
الثاني : اتحاد المحل وهو الدار الآخرة .
الثالث : كل من باب الريان ونهر الريان في الجنة .
الرابع : اختصاص المؤمنين الذين عملوا الصالحات بكل من هذا الباب والنهر .
الخامس : كل منهما نعمة وفضل ولطف وإحسان من عند الله عز وجل .
السادس : لا يحصي منافع باب الريان ونهر الريان والمنتفعين منه إلا الله عز وجل .
السابع : بعث الريان المسلمين والمسلمات للعمل الصالح والفوز به.
الثامن : كثرة النعم الآخرة على كل من حملة القرآن والصائمين ، فمثلاً ورد عن رسول الله أنه قال (إن للصوّام يوم القيامة حوضاً ما يرده غير الصوّام)( ).
التاسع : ورود باب ونهر الريان في الحديث النبوي معجزة لأنه من علوم الغيب.
العاشر : دعوة المسلمين للإجتهاد بالدعاء وسؤال الله عز وجل دخول الجنة من باب الريان ، والشرب المتصل من نهر الريان.
الحادي عشر : لا يعلم الذين يدخلون من باب الريان والذين يشربون من نهر الريان إلا الله عز وجل ، وكذا لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل .
ترى هل يكون شرب أهل الجنان من نهر الريان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة فتكون كثرة الشرب منه لحفظة القرآن وعلماء التفسير والمواظبين على ختم القرآن .
وأقل منه للذين لا يقرأون القرآن إلا في الصلاة اليومية الواجبة ، أو أن شرب سكنة جنة من جنان الآخرة أكثر منه من شرب أهل جنة أخرى .
المختار إنما هو من الكلي المتواطئ فتكون إباحة الشرب من نهر الريان بعرض واحد لأهل الجنان لعمومات قوله تعالى [لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ]( ).
ويعلم الله عز وجل بعدد كل واحد من أهل الجنان والذين يشربون من هذا النهر وعدد غرفات كل واحد منهم ، قبل أن يخلق آدم .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل هذا الباب والنهر من الأسماء التي علمها الله عز وجل آدم بقوله [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
الثانية : هل رأى آدم عند مكثه في الجنة باب ونهر الريان ، وهل دخل من هذا الباب ، وشرب من النهر .
أما المسألة الأولى ، فالجواب نعم ، وأما الثانية فان المستقرأ من حديث باب الريان أنه جزاء للصائمين ، وأما نهر الريان فهو لحملة القرآن فلم يدخل آدم عليه السلام من باب الريان إلا يوم القيامة لأنه من الصائمين لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وأما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : تعدد المسمى ، فالباب غير النهر .
الثاني : إختصاص الصائمين بالدخول من باب الريان ، و(عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الجنة باب يدعى الريان يدعى له الصائمون ، فمن كان من الصائمين دخله ، ومن دخله لا يظمأ أبداً)( ).
الثالث : ثبات وتعيين موضع باب الريان ، إلا ان يشاء الله أما نهر الريان فانه متحرك وماء جار ، ورد (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض لا . . . والله أنها لسائحة على وجه الأرض ، حافتاها خيام اللؤلؤ ، وطينها المسك الأذفر . قلت : يا رسول الله ما الأذفر؟ قال : الذي لا خلط معه)( ).
الرابع : نهر الريان لحملة وحفظة القرآن ، وهل يشمل الذين يتلون القرآن في الصلاة اليومية ، الجواب ، فقد يتعذر على الإنسان الصيام لمرض مزمن ونحوه ، ولكنه يجتهد في قراءة القرآن فيفوز بالشرب من نهر الريان .
الخامس : التباين في الوصف بين باب الريان ، وبين ما يطل على نهر الريان من مدينة عظيمة من المرجان .
السادس : سعة باب الريان ، وطول نهر الريان ، وفي حديث أنس أعلاه أن المدينة التي تطل على نهر الريان (لها سبعون ألف باب من ذهب وفضة).
الأول : الخطاب الخاص للنبي مثل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ].
الثاني : المراد الأمة وأجيال المسلمين ، وهو الأكثر ، ومنه الخطاب الخاص في لفظه العام في حكمه منه [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ].
ولقد ورد لفظ قل في القرآن (332) مرة منها (228) مرة خطاباً إلى النبي محمد وهي على قسمين :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعييناً وعلى نحو الخصوص مثل [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ].
الثاني : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال الأمة مثل [ُقلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ].
فايهما أكثر الخطاب الأول أعلاه وهو الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم الثاني أعلاه.
إحصاء منافع نداء الإيمان
من إعجاز القرآن كثرة النداء فيه ،وتعدد الجهات التي يتوجه إليها النداء ، فينادي الله عز وجل الناس جميعاً بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] الذي ورد عشرين مرة في القرآن .
كما ورد نداء الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن خطاباً للمسلمين ، وفيه منافع من جهات :
الأولى : صيغة الإكرام والمدح للمسلمين والمسلمات.
الثانية : المدح والثناء على الإيمان .
الثالثة : الشهادة من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بالإيمان بربوبيته المطلقة .
الرابعة : بعث المسلمين والمسلمات لصدق الإيمان ، قال تعالى [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الخامسة : زجر المنافقين والمنافقات ، ودعوتهم للتنزه عن النفاق.
السادسة : ترغيب الناس بالإسلام ، وتلقي خطاب الإكرام من عند الله
السابعة : دلالة الآية على إحصاء الله عز وجل لعدد المسلمين والمسلمات في كل زمان ، ودرجة كل واحد منهم في مراتب الإيمان ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، بحيث تكون الدرجات مائة أو ألف أو عشرة آلاف .
الجواب إنها أكثر للدقة المتناهية في الإحصاء الإلهي لمراتب الإيمان وعالم الإفعال ، فقد تكون الدرجة من مليون .
وقد صدرت من هذا السِفر ست أجزاء خاصة بنداء الإيمان وهي الأجزاء (131-132-134-137-138-139).
وهل لكل مسلم درجة في الإيمان تختلف عن غيره كما في الإختلاف في بصمة اليد أو العين أو الأذن .
المختار نعم , وقد يكون بعضهم بدرجة واحدة في فعل مخصوص .
وهل يدل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، على التشابه في درجة خاصة مع موضوعية الإيمان .
الجواب لا , ولكن الآية تزكية للجميع من الخلف والسلف , بنيل الدرجات الحسنة والأحسن .
وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الكمالات الإنسانية بالمرتبة الأسمى , والمقام المحمود .
وعن (الزهري عن الإمام علي بن حسين عليه السلام قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان يوم القيامة مدَّ الأرض مدّ الأديم (بالعكاظي) حتّى لايكون لبشر من الناس إلاّ موضع قدميه.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فأكون أنا أول من يدعى وجبرئيل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها، وأقول : يارب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليَّ فيقول الله تعالى : صدق ، ثمّ أشفع فأقول يارب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال : وهو المقام المحمود)( ).
وهل من أسباب نيل هذا المقام عمل المسلمين بمضامين آيات نداء الإيمان وما فيها من الأوامر والنواهي , الجواب نعم , إذ يأتي الأجر والثواب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإيمان وعمل أفراد أمته الصالحات , ليعلم كل مسلم ومسلمة في كل زمان نصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأدائه الفرائض العبادية , وتنزهه عن الإرهاب.
وقد صدر الجزء السابق وهو السادس والأربعون بعد المائتين من هذا السِفر بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) .
وعن (الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : في الجنة درجة تدعى الوسيلة، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة.
قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك.
قال : علي وفاطمة والحسن والحسين)( )( ).
وتتجدد منافع نداء الإيمان كل لحظة ودقيقة من أفراد الزمان الطولية إلى يوم القيامة , ومنها :
الأول : قانون بعث المسلمين على عمل الصالحات .
الثاني : قانون إدراك المسلمين لحال العز التي هم عليها , قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وهل المؤمنون والمؤمنات على مرتبة واحدة في العز أم أنهم على درجات متفاوتة من العز , الجواب الثاني ، وفيه بعث للإجتهاد في طاعة الله وعمل الصالحات.
ومن الإعجاز تفضل الله عز وجل بأن خصَ النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بذكره بمفردة خاصة من العز , وبصفة الرسالة في الآية أعلاه وهل تستطيع الخلائق عدّ وإحصاء مراتب العز التي ينالها المؤمنون , الجواب لا .
إحصاء منافع المعجزة الحسية
المعجزة هي الأمر الخارق للعادة , المقرون بالتحدي , السالم عن المعارضة , وهي لطف من عند الله عز وجل وإكرام لكل من :
الأول : الأنبياء , فكل نبي له معجزة وهي , ومن فضل الله عز وجل وعظيم قدرته وسلطانه , فلا تتكرر ذات جنس المعجزة , خاصة وأنها تأتي مناسبة لما يعتني به أهل زمان النبي .
فمعجزة موسى عليه السلام العصا لأن آل فرعون وأهل مصر كانوا يلجأون للسحرة والكهنة , ولهم منزلة عندهم , وقبل أن يتعلموا الكتابة قبل أكثر من خمسة آلاف سنة , واشتهرت عندهم التعاويذ السحرية المقرونة بعبادة الأوثان .
وهل ينحصر عمل سحرة آل فرعون بالأمور الوهمية , أم أنهم استطاعوا بلوغ علوم ما وراء الطبيعة وما يسمى بالميتافيزيقا , خاصة وأن القرآن نعت سحرهم بأنه عظيم , بقوله تعالى [قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ]( ) , المختار هو الأول.
لقد صرفوا بحركة عصيهم أعين الناس عن إدراك الحقيقة , كما صرف فرعون قلوبهم عن عبادة الله عز وجل وما وراء الطبيعة لا يتعارض مع التوحيد وإدراك الحقيقة , وجعلوهم يتوجهون لعبادة فرعون , فتمادى وقال [أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى]( ) فلو لم يجد حاشية وأنصاراَ ومشجعين لتجرئه وطغيانه هذا لما قاله :
[وَاسْتَرْهَبُوهُمْ]( ) أي أفزعوهم إذ كانت عصيهم يركب بعضها بعضاَ بسبب ما فيها من الزئبق وسخونته بحرارة الشمس.
والظاهر أن يوم الزينة هو من أيام الصيف إذ يتزين الناس فيه واختاروا اجتماع الناس ضحى جهرة نهاراَ .
ولكن لو أن ذات اليوم تغطي فيه الغيوم الشمس فهل يستعمل السحرة ذات الحيلة أم يلجأون إلى غيرها أم يؤجلون اللقاء , الجواب هو الثاني لذا قال تعالى [وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ]( ).
ولم يخف موسى عليه السلام من موعدهم هذا لأن الله عز وجل أراد أن يخزيهم ويفضحهم بعظيم شأنهم وهيبتهم لقانون تأتي المعجزة للكفار وهم في قوتهم وشأنهم الرفيع لبيان ضعفهم وعجزهم عن الثبات ولدعوتهم للتوبة والإنابة .
ولا يحصي أسباب وأثار ومنافع المعجزة وعلة حضورها وأوانها إلا الله عز وجل ، ولا تعمل المعجزة وحدها بل إن الله عز وجل يهدي القلوب لتلقيها بالرضا والقبول.
وهو الذي تجى بمعجزة تلقي المسلمين آيات القرآن بالتصديق أمس واليوم وغداً.
القرآن معجزة عقلية
لقد نزل القرآن والعرب في أوج ورفعة مقامات البلاغة والفصاحة , ويحفظون ويتناقلون القصائد وأبيات الشعر البليغة , لينبهروا بالقرآن ولأن كانت القصيدة تتألف من أبيات شعر معدودة , فإن عدد كلمات القرآن (77439) كلمة وهو خال من التعارض أو الإختلاف أو تزاحم الكلمات في كل زمان ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا]( ).
لذا فمع الإجماع بأن القرآن معجزة عقلية فهو أيضاَ معجزة حسية أدرك معه العرب أنه فوق كلام البشر إلى جانب المعجزات الحسية الكثيرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقسم المعجزة تقسيماَ استقرائياَ إلى قسمين :
القسم الأول : المعجزة الحسية ، وتدرك بالحس كالبصر والسمع مثل ناقة صالح , وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا]( ).
وتكون حجة المعجزة الحسية حجة على من شاهدها وحضرها , وعلى الذي بلغته على نحو البينة والتواتر والقطع , ومن غير تواطئ على الكذب.
وهل من ملازمة بين المعجزة والشهرة بين الناس , الجواب لا , لجهات:
الأولى : من الأنبياء من يأتيهم الوحي بالرؤيا , ولكن الشواهد المتكررة في اليقظة تدل على صدق نبوته .
الثانية :من الأنبياء من بُعث إلى أسرته وأهل بيته .
الثالثة : من الأنبياء من بعث إلى قريته أو بلدته ، وفي يونس عليه السلام ورد قوله تعالى [وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( ).
القسم الثاني : المعجزة العقلية , وهي التي تخاطب العقول ويدرك إعجازها بالبصيرة والتفكر والتدبر ، وهو القرآن الكتاب السماوي الخالد.
وهناك مسألتان :
الأولى : هل أصبحت المعجزة الحسية عقلية .
الثانية : هل القرآن معجزة عقلية وحسية .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم إذ صارت المعجزة الحسية عقلية بنزولها في القرآن , فلا ينحصر موضوعها بأوان وقوعها.
وهو من فضل الله عز وجل على الأنبياء والناس جميعاَ ببركة وفيوضات القرآن وهو من مصاديق قانون إذا أنعم الله عز وجل .
والنسبة بين المعجزة العقلية والحسية , هو العموم والخصوص من وجه, أما المسألة الثانية فالجواب هذا ممكن مع ثبوت الدليل وتقسيم المعجزة هذا استقرائي .
وعلوم القرآن أعم وأكبر .
وهل فعلت آية القرآن مثلما فعلت عصا موسى , أو ناقة صالح أو عيسى عليه السلام , الجواب نعم.
ولا يحصي منافع المعجزة الحسية أو العقلية إلا الله عز وجل , وكل فرد منها رحمة من عند الله عز وجل , ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بأن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية تخاطب العقول وتكون سبباَ للهداية والصلاح في كل زمان .
منافع آيات القرآن في صلح الحديبية
لقد عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مشركي قريش صلح الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة , وهذا الصلح معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه زحف بألف وأربعمائة من أصحابه يريدون العمرة في هذا الشهر الذي هو من الأشهر الحرم التي لا يجوز فيها عند العرب القتال والمسايفة .
وبركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصواء في الحديبية على أطراف الحرم وقال عدد من الصحابة (خَلَأَتْ النّاقَةُ قَالَ مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكّةَ . لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا)( ).
وخلأت أي بركت من غير علة وسبب فاجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على أن بروكها معجزة ، وقد بركت من قبل في أول دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ليبني في ذات الموضع المسجد النبوي الخالد.
ان استعداد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للرضا بأي خطة فيها حقن للدماء معجزة له وشاهد على أنه لا يريد القتال ، وسفك الدماء ، وأنه واثق بأن الله عز وجل ينصره بالمعجزة وآيات القرآن ، ولا يحصي منافعها في المقام كل يوم إلا الله عز وجل ، أي إذا كانت الخلائق تعجز عن منافع وفيوضات آيات القرآن فمن باب الأولوية أنها تعجز عن إحصاء منافعها كل أسبوع وكل شهر ، ولا يحصي أعداد وأرقام هذه المنافع إلا الله عز وجل .
لقد تفاجأت واضطربت قريش عندما علمت بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة لإرادة العمرة بعد أن هجموا عليه في معركة أحد والخندق يريدون قتله وأصحابه .
وهل يمكن القول بقانون لولا الوحي لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية ، الجواب نعم ، ومن مصاديق الوحي في المقام الرؤيا التي رأها لأنها من الوحي ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
لبيان قانون المائز بين رؤيا الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرؤيا الصادقة لعامة الناس بكثرة منافع رؤيا الوحي ، واستمرارها إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار توثيقها في القرآن الكريم( ).
وبعد أن تم صلح الحديبية نزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، في لطف من الله عز وجل بالناس جميعاً في هذا الصلح وصيرورته بديلاً عن القتال ولتترشح المنافع عن هذا الصلح من ساعته وإلى يوم القيامة ، ومنه أداء أجيال المسلمين الفرائض العبادية بأمن وسلام.

قانون فتح مكة استئصال للإرهاب
من خصائص بعثة الأنبياء أنها باب واسع لإكتناز الحسنات فذات التدبر بالمعجزة حسنة ، والتصديق بها حسنة ، واتباع النبي حسنة.
وقد فاز أهل البيت والصحابة بالدفاع عن النبوة والتنزيل ، والجهاد لإستئصال عبادة الأوثان في الجزيرة ، مقدمة لإستئصالها وعبادة الفرد في الأرض .
وقد سار عشرة آلاف من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإزاحة رئاسة الشرك عن البيت الحرام ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ]( )، ليكون هذا الفتح قطعاً للإرهاب ، ومانعاً من إتساعه ومناسبة لأداء المسلمين مناسك الحج وأداء الصلاة في مكة وأنحاء الجزيرة بأمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً)( ).
والحديث في ذم الذي يؤخر صلاة العصر إلى وقت اصفرار الشمس قبل غروب الشمس وسقوط القرص، لقبح الإرجاء والتأخير في الصلاة عن وقتها إلى حين قرب خروجه ، ولأن الكفار يسجدون للشمس عند طلوع وغروب الشمس .
وكان المشركون قد نصبوا الأصنام في البيت الحرام وصارت عبادتهم عادة لها ، ويقومون بالنذر لها ، ويتوسلون بها ، ويجعلونها وسائط بينهم وبين الله عز وجل ، ونزل القرآن بذمهم وقرب عذاب الله عز وجل لهم لقوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
لبيان أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لكفار قريش ، ونجاة لهم من الهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة ، وتدعو الآية أعلاه النبي وأصحابه إلى فتح مكة لما تبينه من قانون حصر ولاية البيت بالمتقين الذين يخشون الله ،والذين يمنعون عبادة الأوثان في مكة وغيرها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ليكون ذكر أم القرى في الآية أعلاه جامعاً للحقيقة والمجاز ، أما الحقيقة فالإنذار إلى أم القرى بهدم وكسر الأصنام ، بحيث يدخل الداخل لها فلا يجد فيها أصنامه خاصة وأنه كان لكل قبيلة صنم خاص في البيت الحرام وكان عدد هذه الأصنام ثلاثمائة وستين صنماً.
وأما المجاز فتقدير الآية : لتنذر أهل أم القرى.
ولو انحصر المعنى بالمجاز والتقدير أعلاه ، لما شمل وفد الحاج والمعتمرين وأفراد القبائل الذين اعتادوا الطواف على أصنامهم التي في البيت والنذر إليها فجاء لفظ [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، جامعاً مانعاً وعطف ضمير العاقل (من) على أم القرى دليل على إرادة حذف المضاف من كل من :
الأول : أهل مكة .
الثاني : وفد الحاج لأنهم في مكة موسم الحج .
الثالث : المعتمرون وزوار البيت ومكة والوافدون إلى مكة مطلقاً ، من التجار وأفراد القبائل خاصة إذ أن قريشاً كانوا أهل تجارة ، كما في قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
ومن الإعجاز في المقام أن النسبة بين ساكني أم القرى وبين قريش عموم وخصوص مطلق .
ليكون تقدير [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى] أي تنذر قريشاً وغيرهم من ساكني مكة من الأحرار والعبيد والحلفاء والأحابيش وأفراد القبائل المتفرقة ، أما من حولها فالمراد المدينة والطائف والقبائل والبلدان القريبة والبعيدة من مكة ، لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).

إحصاء منافع البيت الحرام
لما جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، تساءلت الملائكة عن معاني ومصاديق هذه الخلافة التي لم ينلها جنس من الخلائق ومنهم الملائكة إذ [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
فاننا ومع إجتهادنا في العبادة وانقطاعنا إلى التسبيح لم تكن لنا خلافة لا في السماء ولا في الأرض ، ولم يترك الله عز وجل تساؤلهم يذهب سدىً بل أخبرهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ).
وفيه وعد لبيان مصاديق أهلية الإنسان للخلافة في الأرض كل يوم أيام الحياة الدنيا ، ومنها عمارة الأنبياء والصالحين الأرض بالصلاة من أول يوم هبط آدم وحواء فيه إلى الأرض بمرأى ومسمع من الملائكة ويرون أن أول من عمر الأرض اتبعا هدى الله لقوله تعالى [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى]( ).
ومن فضل الله عز وجل أن بيانه واحتجاجه على الملائكة لم يتأخر وهو من إكرامه لهم إذ [عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، ثم سألهم عنها فعجزوا عن معرفتها مع أن آدم بين ظهرانيهم ساعة تلقيه هذه الأسماء من عند الله ، أي أنهم جهلوا ما يجري بجوارهم من الوحي والتعليم فاذعنوا وآمنوا بحكمة الله باختيار الإنسان للخلافة.
ومن وجوه تساؤل الملائكة أنهم أرادوا الأرض خالية من المشركين والكفار والمنافقين ، ومن قتلة الأنبياء والأئمة والصالحين ، ومن الذين سعوا لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
فأخبرهم الله عز وجل بما بعث السكينة في نفوسهم وأن الله عز وجل جعل الآخرة دار الحساب والجزاء ، ويكون بعض الملائكة موكلين بالجنة ، وخدمة أهلها وبعضهم خزنة للنار.
إحصاء منافع البيت للشخص الواحد
يتضمن قوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، توجه الخطاب إلى الناس جميعاً لعطفه الموضوعي على الآية السابقة لها والتي تتضمن تبكيت الذين كفروا مع تذكيرهم بفضل الله عز وجل عليهم وعلى الناس جميعاً في الخلق والنشأة والرزق.
وقانون الرجوع إلى الله تعالى في الآخرة للحساب والجزاء أمر حتمي لقوله تعالى [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
وهل يمكن القول بعجزنا عن إحصاء منافع البيت الحرام على الفرد الواحد من المسلمين وأنه لا يحصيها إلا الله عز وجل ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : البيت الحرام [ُوضِعَ لِلنَّاسِ]( )، ويفيد الألف واللام في الآية أعلاه العموم الإستغراقي فكل إنسان يكون البيت الحرام ممن وضع هدى له ، لينتفع من هذه النعمة العظمى الناس إنتفاعاً كثيراً ، ومنهم المسلمون ، فتتوالى عليهم الحسنات التي لا يعلمها إلا الله لتعاهد البيت والطواف حوله للحج والعمرة والنذر والإستحباب.
وتقدير الآية بارادة صيغة المفرد على جهات :
الأولى : إن أول بيت وضع لكل إنسان .
الثانية : إن أول بيت وضع للمسلم للذي ببكة.
الثالثة : إن أول بيت جعله الله هدىً للإنسان .
الرابعة : إن أول بيت وضع لكل إنسان للذي ببكة مباركاً وهدىً لكل إنسان.
الثاني : منافع استقبال المسلم والمسلمة البيت الحرام خمس مرات في اليوم والليلة على نحو الوجوب إلى جانب صلاة النافلة اليومية وعددها أربع وثلاثون ركعة ، ضعف الصلاة الواجبة والتي هي صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، قال تعالى [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (فولوا) في القرآن إلا مرتين ، وكلاهما في سورة البقرة وبخصوص استقبال البيت الحرام( ).
لبيان موضوعية البيت الحرام في الحياة اليومية ، واستقباله لجني الحسنات.
ترى ما هي النسبة بين تولي الوجوه إلى البيت الحرام وبين إتخاذه قبلة في الصلاة.
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فتولية الوجوه نحو البيت أعم من استقباله.
الثالث : انتفاع المسلم وغيره من الأمن كصفة للبيت الحرام ن وترشحه عنه في الأمصار ، وهو من الإعجاز في ذكر وعف (من حولها) على أم القرى في قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الرابع : لا يحصي أسباب وصيغ بعث البيت الحرام المسلمين والناس على الإيمان إلا الله عز وجل .
إحصاء وصفة حجرات النبي (ص)
لقد بنى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسجد النبوي في المدينة ، وكانت قبلته يومئذ إلى بيت المقدس قبل أن ينزل تحويل القبلة إلى البيت الحرام في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة وقيل في شهر شعبان ، والأول أصح ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
واختلف في مكان نزول الآية على أقوال :
الأول : مسجد بني سلمة وهو المعروف بمسجد القبلتين .
الثاني : المسجد النبوي .
الثالث : مسجد قبيلة بني سالم بن عوف ، وهو الذي أقام فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول صلاة جمعة .
وبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غرفتين في مؤخرة مسجده وملاصقة له من جهة المشرق ، واحدة لزوجه سودة بن زمعة ، والثانية أعدت لعائشة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عقد عليها .
وإذا أحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم زواجاً بنى غرفة.
لقد بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ بِاللّبِنِ وَسَقّفَهَا بِالْجَرِيدِ وَالْجُذُوعِ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْبِنَاءِ بَنَى بِعَائِشَةَ فِي الْبَيْتِ الّذِي بَنَاهُ لَهَا شَرْقِيّ الْمَسْجِدِ قِبْلِيّهُ وَهُوَ مَكَانُ حُجْرَتِهِ الْيَوْمَ وَجَعَلَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَة َ بَيْتًا آخَرً)( ).
واللبن جمع لبنة وهي قالب من الطين مربع أو مستطيل يبنى به.
(اللَّبِنَة واللِّبْنة – التي يُبْنَى بها وهي مُرَبَّعة من طِين ، والجمع لَبِن وأصل التَّلْبين التربيعُ وقد لَبَّنْتها، أبو عبيد، السَّافُ في البِنَاء – كل صَفٍّ من اللَّبِن وأهل الحجاز يُسَمُّونه المِدْماكَ، غيره.
السِّعيدة – اللِّبْنة والأجُرُّ – طَبيخ الطِّين، قال سيبويه، والأجُرُّ فارِسي معرَّب)( ).
ولما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة دومة الجندل قامت أم سلمة ببناء حجرتها من اللبن (فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى اللبن ودخل عليها أول نسائه فقال : ما هذا البناء ، فقالت : أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس.
فقال: يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان)( ).
وقد وصف عدد من الصحابة والتابعين حجرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها بقيت قائمة إلى أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه عبد الملك .
واستمر في الحكم إلى سنة جمادى الآخرة سنة 96 للهجرة ، وكان شديداً قاسياً ، وهو الذي أمر بهدم حجرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب أرسله إلى عمر بن عبد العزيز الوالي على المدينة الذي ولاه الوليد عليها سنة 87 للهجرة ، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91 للهجرة ثم عزله بعد أن أكثر عمر له من النصح وما كان يكتبه له من الظلم والجور والضيق الذي لحق أهل العراق بولاية الحجاج عليهم فضاق به ذرعاً.
وكتب عمر إلى الوليد عندما أراد الحجاج الحج بأن لا يمر على المدينة فلم يدخلها الحجاج .
ثم أن الحجاج صار يكيد لعمر بن عبد العزيز ، ويكتب للوليد بن عبد الملك بأن أهل العراق يفرون إلى المدينة وأشار عليه بعزل عمر بن العزيز وتولية خالد بن عبد الله القسري أو عثمان بن حيان خاصة.
فعزل الوليد عمر بن عبد العزيز ، وولى عليها عثمان بن حيان سنة 93 للهجرة ، وصار عثمان هذا يؤذي خاصة عمر بن عبد العزيز ، فلما ولى سليمان عبد الملك الخلافة عزل عثمان بن حيان عن المدينة سنة 96 للهجرة وولى عليها أبا بكر بن محمد بن حزم.
قانون عجزنا عن إحصاء النعمة نعمة بذاتها
من بديع صنع الله عز وجل وعظيم قدرته عجز الخلائق عن إحصاء الأجناس التي خلقها الله عز وجل , وهذا العجز بسبب عدم إمكان إحاطة كل جنس باجناس الخلائق الأخرى لوجوه :
الأول : الكثرة غير المنقطعة للاجناس التي خلقها الله عز وجل فهذه الأجناس لا يحصيها ولا يعلم بها إلا الله تعالى ، وهو [الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ]( ).
الثاني : قصور مدارك الخلائق عن إحصاء المخلوقات .
الثالث : غياب كثرة أجناس الخلائق وأنواع كل جنس عن الحواس .
والعجز عن إحصاء الخلائق دعوة للخشوع والخضوع لله عز وجل , لذا قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
الرابع : سعة السموات والأرض , ولإن فاز الإنسان بالخلافة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فإن في كل بقعة من السموات خلائق متعددة .
وحتى في الأرض فإن أجناس الخلائق من الحيوانات والطيور والأسماك ونحوها من سكنة البحار والأنهار والهواء لا يعلمها إلا الله عز وجل.
وجاء العلم الحديث ليظهر لنا أخباراَ متعددة لأجيال السابقة لا تحيط بها , وليس لها بها علمه , وكذا بالنسبة لنا بخصوص المستقبل والإكتشافات العلمية فيه , فتكون أمة لاحقة تحيط باجناس من الخلائق لا تعلم بها الأمة السابقة وهكذا إلى يوم القيامة , وجاءت السفن الفضائية .
إعجازنا عن إحصاء أفراد الرحمة في آية واحدة
من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وجوه :
الأول : إلا رحمة للعالمين بنزول القرآن .
الثاني : إلا رحمة للعالمين بتوثيق معجزات الأنبياء .
الثالث : إلا رحمة للأنبياء السابقين باخبار القرآن عن صدق نبوتهم , وذكر معجزاتهم .
الرابع : إلا رحمة للعالمين ومنهم المؤمنون الذين صدّقوا بالأنبياء السابقين ، كتصديق بني إسرائيل موسى عليه السلام ، والتصديق برسالة عيسى عليه السلام ، ولا يحصي الذين انتفعوا من هذا التصديق إلا الله عز وجل .
الخامس : إلا رحمة للعالمين بشهادة القرآن للأنبياء والمسلمين من الأمم السابقة بصحة اختيارهم ، وسلامة اعتقادهم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] ( ) .
الجواب نعم بخصوص الإمامة أعلاه لبيان قانون وهو أن المؤمنين في كل زمان أئمة للناس في سبل الهداية ، ليكون من معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، صراط منهاج الأنبياء ، وإظهار معجزاتهم ونصرتهم وأنصارهم وأتباعهم .
السادس : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بإكرام الرسالة الخاتمة للأنبياء السابقين وأممهم .
السابع : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين تتجدد كل يوم إلى يوم القيامة ، بما تعجز الخلائق عن إحصاء مصاديق هذه الرحمة .
الثامن : وما أرسلناك إلا رحمة للإنس والجن .
التاسع : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين من الأولين والآخرين لأصالة الإطلاق ، وإن لم يقل الأصوليون بالإستصحاب القهقري ،ولكن علوم وذخائر القرآن أعم من القواعد الأصولية .
العاشر : بيان معجزات الأنبياء ، وما تدل عليه من صدق إيمان أهل الملل السابقة كاليهود والنصارى .
الحادي عشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين باستغفار المسلمين والمسلمات لآبائهم والتصدق عنهم وإهداء قراءة القرآن لهم .
الثاني عشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، بالتصديق برسالتك ، لبيان فضل الله في ترغيب الناس بالإسلام ، وتقريبهم إليه ، وتقريبه وأحكامه الرسالة لهم .
الثالث عشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، فلابد أن يظهرك الله عز وجل على المشركين .
ومن اللطف الإلهي في المقام مجئ الفتح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصلح مع أشد المشركين عداوة له وفي صلح الحديبية ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
بحث كلامي
لله عز وجل أسماء حسنى وصفات قدسية عظيمة وهو سبحانه لا يوصف بتكيف أو أين ، ولا يجزي عليه زمان [لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ]( ).
ولا يصح نفي الصفات مع إثبات الأسماء ويدل كل فرد منها على الربوبية المطلقة لله عز وجل .
وقيل أسماء الله عز وجل التي تدل على ذاته بصفات الكمال مثل , السميع , البصير , الحكيم , العليم .
أما الصفات فهي نعوت الجلال والكمال القائمة بذات الله عز وجل كالسمع , والبصر , والحكمة , والعلم , فيقال من صفات الله عز وجل السمع , البصر , الرحمة , الرأفة , الحكمة , العلم .
فالله سبحانه يرى من غير آلة باصرة , ويسمع من غير آلة سامعة , ومن صفات الله عز وجل ما يتعلق بأفعاله , كما في قوله تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وكأن أسماء الله عز وجل وصفاته مما إذا إجتمعا افترقا , وإذا افترقا إجتمعا , ويعجز المسلمون وغيرهم عن وصف وتعريف تام بهذا الخصوص وعن الإحاطة بعلمه وصفاته تعالى .
وأفعال الله عز وجل غير متناهية , وصفات الله عز وجل تتعدد وتتغاير.
وتعجز الحواس والعقول عن درك كنه الله عز وجل وهو ليس بجسم ولا صورة .
وجاءت آية واحدة في ذكر تسعة أسماء وصفات لله عز وجل , بقوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
وعلم الإحصاء القرآني من علم الله عز وجل , وعلمه سبحانه غير متناه وليس له حدّ وهذا من لطف الله عز وجل بأن جعل القرآن كلامه النازل إلى الناس بعد أن نالوا مرتبة الخلافة في الأرض.
إحصاء الله وحده لمنافع القرض
لا تستطيع الخلائق وإن اجتمعت إحصاء جزء قليل مما يحصيه الله من كل من :
الأول : منافع تشريع القرض ، وعن أنس قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة ، الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة؟
قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة) ( ) وأصل القرض : القطع .
ومنه قرض الفار الثوب ، وسمي القرض لأن الدائن يقطعه من ماله ويملكه لغيره إلى حين .
الثاني : من الإعجاز إخبار الله عز وجل بأنه يستقرض من الناس ، قال تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( ).
الثالث : لقد ذكرت الأضعاف من عند الله في القرض ، بينما ورد النهي عن الأضعاف في أكل الربا كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الرابع : وإذا غلق الله باباً في الحرام يفتح ألف باب من الحلال ، ولا يحصى أضرار الربا إلا الله ، ولا يُحصى منافع القرض إلا الله ، ويتعلق عجز الخلائق في المقام عن الإحصاء في الدنيا ، والإحصاء في الآخرة ، وليس في الآخرة وحدها .
الخامس : منافع مدة القرض ، فما دام أجل القرض مستمراً يكتب للدائن أجر صدقة يومية بذات مبلغ القرض ، فاذا كان قد أقرض ألف دينار فيكتب له الصدقة بكل يوم ألف دينار ، وكذا إذا كان القرض متعدداً لذات المدين أو لغيره معه .
وهل كتاب الصدقة هذه من مصاديق الكتابة في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] ( )، الجواب لا ، لأن هذه الكتابة للمسلمين للتوثيق ، ومنع الخلاف والنسيان في الدَين.
فمن الإعجاز في الآية قيد [بَيْنَكُمْ] أما الكتابة عند الله فيقوم بها الملائكة وهي بعلم الله عز وجل فهو سبحانه يعلم بكل قرض قبل أن يخلق الناس ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ] ( ) قال تعالى [وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ] ( ).
السادس : إحصاء موارد وأفراد البركة على الدائن عند كل من:
الأولى : إقراض المحتاج وقطع مبلغ القرض من ماله للمدين .
وعن (ابن عباس قالا : قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} من أقرض أخاه المسلم فله بكل درهم وزن أُحد وثبير وطور سيناء حسنات)( ).
الثانية : مدة أجل الدين .
الثالثة : إمهال المعسر .
الرابعة : وضع مقدار الدين أو شطر منه عن المعسر .
الخامسة : نية جعل مقدار الدين من الزكاة أو الخمس مع إجتماع الشرائط .
السابع : إنفراد الله عز وجل بإحصاء منافع القرض على المدين وقضاء حاجته .
وبعثه على العمل , وتنجز القرض اشراقة تطل على النفس , وتبعث على الرحمة , وتمنع من قسوة القلب , والبطش والإرهاب.
الثامن : اختصاص الله عز وجل بإحصاء منافع القرض وإشاعته في المعاملات على العوائل والمجتمعات الإسلامية وغيرها.
التاسع : القرض في المعاملات واستحبابه , والأجر والثواب عليه من مصاديق [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
وهل تختص العزة في المقام بالدائن ، الجواب لا , إذ تشمل المدين أيضاَ , ولا يعلم مصاديق العز والأمن والتيسير لأطراف القرض إلا الله عز وجل.
العاشر : القرض من موارد الإبتلاء والإختبار في الدنيا من الله عزوجل الذي يجعل بعضهم غنياَ وآخر فقيراَ , كما أن الدَين لا يختص بالفقراء فقد يحتاج إليه الغني عند الإبتلاء , أو لإرادة القيام بمشروع يستلزم رأس مال غير متوفر عنده , لذا فإن إحصاء منافع القرض في الأمصار والأزمنة المختلفة يختص بها الله عز وجل وحده.
آية (ترهبون به) وقاية وصرف للقتال
من الإنفاق في سبيل الله إعانة الفقير وإسقاط الدَين عن المعوز , أو إعانته في قضاء دينه فلا يختص هذا الإنفاق بمورد مخصوص إذ يشمل بناء المساجد , وعمارة الطرق , وطبع الكتب الدينية , ومستلزمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والقضاء عن المعسر الذي كان اقتراضه أو إعساره في سبيل الله , وقال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
إذ ورد الإطلاق في موضوع الإنفاق في سبيل الله في ذات الآية أعلاه .
وقد تقدم في الأجزاء السابقة أن هذه الآية لا تدعو للحرب والقتال إنما هي حرب على الإرهاب , ومانع من القتال , لأن موضوعها الإستعداد للمشركين بما يكفي لزجرهم عن الهجوم والتمادي في التعدي بعد كل من :
الأول : إيذاؤهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة قبل الهجرة .
وعن (أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما يواري ابط بلال)( ).
الثاني : إصرار رؤساء المشركين على القتال يوم معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة فأخزاهم الله عز وجل على ظلمهم وتعديهم , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثالث : زحف ثلاثة آلاف من مشركي قريش وحلفائهم نحو المدينة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أشرفوا عليها فاضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للخروج للدفاع , قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الرابع : إغارة خيل قريش على أطراف وسروح المدينة وحرق بعض النخيل .
فلما رجعت فلول قريش منهزمة من معركة بدر , وكان أبو سفيان قد وصل وقافلته مكة سالمين , حلف (لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وآله وسلم .
فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على بريد أو نحوه .
ثم خرج من الليل حتى آتى بني النضير تحت الليل فأتى حيى بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى ان يفتح له بابه وخافه .
فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم وكان سيد بنى النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس)( ).
فغادره أبو سفيان في نفس تلك الليلة راجعاَ إلى أصحابه المائتين , فبعث جماعة منهم ليحرقوا نخيل صغيرة زرعها الأنصار في ناحية من نواحي المدينة تسمى العريض.
ووجدوا رجلاَ من الأنصار وحليفاَ للأنصار يعملان في أرض لهما فقتلوهما , وهل هو من الإرهاب الجواب نعم .
وعندما بلغ الخبر النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم جمع على عجل مائتين من المهاجرين والأنصار وساروا مسرعين في طلبهم فخاف أبو سفيان الطلب فالقى أصحابه جرب السويق تخففاَ ورعباً.
ومن أجل قطع المسافات بسرعة فأخذها المسلمون وسميت غزوة السويق مع أنه لم يقع فيها قتال , ولم يقصد فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قرية أو بلدة بل ولم يطلبوا المشركين الذين هم الغزاة .
الخامس : إعداد الكفار جيشاَ من عشرة آلاف رجل من القبائل المتعددة للمعركة التي أسماها الله (الأحزاب) ونزلت سورة باسمها لتتجلى منافع آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
وإنها نزلت للدفاع والإحتراز وصدّ المشركين في غزوهم إلى المدينة , إذ أحاطوا بالمدينة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة , وقيل في السنة الرابعة للهجرة .
وهل مضامين الآية أعلاه من مصاديق وعد الله عز وجل ورسوله للمؤمنين في قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
بأن يكون إعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الخيل والأسلحة والرجال التحريض على القتال , من الوعد الإلهي بنبأ المعركة فأزداد المسلمون إيماناَ , ولم تقع الفتنة بينهم , ولم يضرهم إرجاف المنافقين في حفر الخندق وما بعده مدة حصار المشركين للمدينة , الجواب نعم .
و(عن ابن عباس قال : أنزل الله في شأن الخندق ، وذكر نعمه عليهم ، وكفايته إياهم عدوهم بعد سوء الظن ، ومقالة من تكلم من أهل النفاق [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( )، وكانت الجنود التي أتت المسلمين . أسد . وغطفان . وسليما .
وكانت الجنود التي بعث الله عليهم من الريح الملائكة فقال {إذ جاءُوكم من فوقكم ومن أسفل منكم }( ) فكان الذين جاؤوهم من أسفل منهم قريشاً ، وأسداً ، وغطفان فقال : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً ، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً }( ) .
يقول : معتب بن قشير ومن كان معه على رأيه .
{وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي}( ) يقول أوس بن قيظي ومن كان معه على مثل رأيه.
{ولو دخلت عليهم من أقطارها} إلى {وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً}( ) ثم ذكر يقين أهل الايمان حين أتاهم الأحزاب فحصروهم وظاهرهم بنو قريظة ، فاشتد عليهم البلاء .
فقال : { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } إلى { إن الله كان غفوراً رحيماً }( ) قال : وذكر الله هزيمة المشركين ، وكفايته المؤمنين ، فقال {ورد الله الذين كفروا بغيظهم…}( ))( ).
وقبل أن تأتي الأحزاب وتحاصر المدينة أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن حصارهم للمدينة مع وعد الله عز وجل له بالنصر العام .
وعن (عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام ذكرت الأحزاب .
فقال : أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ]( ) الآية)( ).
إحصاء الثواب الدنيوي للصدقة
الصدَقة لغة من صَدَقَ
وفي الإصطلاح , العطية للفقير والمحتاج على وجه القربة إلى الله عز وجل , إذ يقصد المتصدق في فعله بالإخراج من ماله ودفعه للفقراء رضوان الله.
ووردت الصدقة بصيغة المفرد والجمع بنحو سبعة عشر موضعاَ من القرآن , ومنها قوله تعالى [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ]( ).
لبيان أن الناس أعجز عن إحصاء ثواب القول المعروف والعفو والمغفرة عن الغير من باب الأولوية بالنسبة للصدقة , وفي الصدقة أطراف :
الأول : المتصدِق الذي يقوم بإعطاء الفقير والإحسان إليه .
ومن إعجاز القرآن ذكر النساء في التصدق إلى جانب الرجال بقوله تعالى [وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وفيه ترغيب للمسلمات بالصدقة ، وزجر للرجال عن نهيهن عن الصدقة من ما لهن الخاص.
الثاني : الصدقة مقدارها ووقتها , وهل هي واجب كالزكاة والخمس , أم أنها مستحبة , والمختار الفرد الجامع وأنها تشمل الواجب المستحب في المقام.
وفي الزكاة يشترط النصاب , وخصوص أصناف من المال وهي:
الأولى : بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم .
الثانية : النقدان الذهب والفضة .
الثالثة : الزروع والثمار.
(عن جابر بن عبدالله : أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : فيما سقت الأنهار والعيون العشر ، وفيما سقي بالسانية نصف العشر) ( )، ومنه الناعور والمضخة والآلة.
والمراد من العشر 10% ونصف العشر 5% والنصاب هو خمسة أوسق ، نقية لا قشر فيها نحو (850) كغم , وقيل (652) كغم .
وتجب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، عند الكمال والجفاف.
وقال الشافعي الزكاة الواجبة فيما زرع قوتاَ مدخراَ كالحنطة والشعير والإرز والذرة والدخن .
وقال الحنفية تجب الزكاة في محصول ما تنبت الأرض .
ونسب إلى ابن عباس وجوب الزكاة في القليل والكثير ، وبه قال أبو حنيفة ، وأختلف في مال التجارة بين وجوب زكاتها أم استحبابها .
ومن فضل الله عز وجل على المسلم أن يرزقه بما يجعله يتصدق من ماله ، ويحرز البركة والنماء في الدنيا ، والثواب العظيم في الآخرة.
الثالث : المتصدق عليه ، وهو الفقير والمسكين ، ويلحق بهما أهل بيت المتصدق لغرض التوسعة على العيال بقصد القربة إلى الله عز وجل و(عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ قَالَتْ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ خَفِيفَ ذَاتِ الْيَدِ .
فَقَالَتْ لَهُ أَيَسَعُنِي أَنْ أَضَعَ صَدَقَتِي فِيكَ وَفِي بَنِي أَخِي أَوْ بَنِي أَخٍ لِي يَتَامَى .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ سَلِي عَنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ .
قَالَتْ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَإِذَا عَلَى بَابِهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ تَسْأَلُ عَمَّا أَسْأَلُ عَنْهُ .
فَخَرَجَ إِلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَسَلْهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا تُخْبِرْ مَنْ نَحْنُ .
فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ هُمَا فَقَالَ زَيْنَبُ فَقَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ فَقَالَ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَزَيْنَبُ الْأَنْصَارِيَّةُ .
فَقَالَ نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ) ( ).

أقسام الصدقة
والصدقة على قسمين :
الأول : صدقة المال ، وهو الأصل .
الثاني : الصدقة المعنوية كالعلم والإعتبار والجاه .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتصدق ويظهر السرور عند الصدقة ، ويهب ويهدي .
ويشتري الشئ ثم يعطي البائع الثمن والسلعة معاً ، ويقترض المال ويرد بأكثر وأفضل منه ، ويشتري الشئ ويعطي أكثر من ثمنه ، وكان يقبل الهدية ويكافئ عليها .
ومن علامات نبوته في الكتب السابقة أنه لا يقبل الصدقة مثلما أنه لا يجمع بين الأختين .
وكان يجود في الصدقة والإحسان ، وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
ليقتدي المسلمون والمسلمات برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الصدقة بما يجعلهم يكسبون الحسنات ، وهل ينحصر موضوع ونفع هذه الحسنات بالإدخار للآخرة .
الجواب لا ، إنما هي تنفع في الدنيا والآخرة ، وكل فرد منهما لا يحصيه إلا الله ، أما في الدنيا ، فمن جهات :
الأولى : العوض الكثير على الصدقة .
الثانية : البلاء الذي يصرف بالصدقة ، ومنه دفع ورفع الداء عن البدن.
الثالثة : الهداية إلى الأعم من الصالحات .
الرابعة : اللطف الإلهي بتقريب العبد إلى التصدق مرة أخرى وإلى فعل الصالحات .
الخامسة : تفضل الله عز وجل بازاحة المعوقات عن المؤمن في صدقاته .
السادسة : البركة في المال المتبقي بعد الصدقة ، وما يأتي بعدها من العوض وغيره .
السابعة : الخير والبركة في الأولاد والعيال ، وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله ، وهو وحده الذي ينفرد باحصائها لوجوه :
أولاً : كثرة هذه النعم .
ثانياً : منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي ، وهل يخفى على الملائكة أيضاً ، الجواب إنه على شعبتين :
الأولى : نعمة خفية تعلم بها الملائكة .
الثانية : نعمة خفية لا تعلم بها الملائكة .
وأيهما أكثر ، الجواب الثاني ، فمن عظيم قدرة وسلطان الله أن الذي يعلم به أكثر مما تعلم به الخلائق ، وإن اجتمعت سواء في الموضوع أو الكم أو الكيف والزمان ونحوه .
ثالثاً : قانون انتفاع العدد الكثير من الصدقة الشخصية ، وقد تقدم قبل مائتي جزء ، وفي الجزء الثامن والأربعين من هذا السِفر (وأفضلية الصدقة وما فيها من الخير لا تنحصر بالذين يتصدقون باموالهم او خصوص الذين يسقطون ديونهم بل يشمل المسلمين جميعاً.
فيتصدق بعض أرباب الأموال ولكن الخير يترشح على جميع المسلمين، لما في الصدقة من الامتثال ونشر مضامين الإحسان وعناوين الاصلاح.
وفي الآية بشارة عن استحداث نعم بالتصدق وطرد للأذى والبلاء بالتصدق , وهو من عمومات قوله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( ).
الثامنة : نشر مفاهيم ومصاديق الإحسان بين الناس بمدد من الله عز وجل .
التاسعة : قانون الصدقة وإشاعتها برزخ دون الخلاف والشقاق والصراع ، إذ أنها واقية من طغيان النفس الغضبية والكدورات .
إجتماع الحقيقة والمجاز في اللفظ القرآني الواحد
مما يجتمع فيه الحقيقة والمجاز في لفظ قرآني واحد قوله تعالى [وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ]، في الآية [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ).
ومن خصائص اللفظ القرآني تعدد معانيه ، وتفرع المفاهيم عنه من وجوه:
الأول :الذي ينفق من ماله وتقع الصدقة بيد الله قبل أن تصل الفقير ، و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فتقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل .
ثم تلا هذه الآية { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله فيوفيها إياه يوم القيامة) ( ) وقوله تعالى يحتمل جهتين :
الأولى : قبض الله للصدقة قبل أن تصل إلى يد الفقير ، وهل الذي تدل عليه السنة النبوية القولية (عن ابن مسعود عنه : إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل) ( ).
الثانية : المجاز ومعنى يأخذ الصدقات أي يقبلها ، ولا تعارض بينهما ، وهو من القاعدة والمجاز في اللفظ القرآني المتحد .
الثاني : الذي يساعد في الإنفاق وإيصاله .
الثالث : الفقير الذي يتلقى النفقة ، فان الصدقة مدد وعون له .
الرابع : إفاضة البركة على المجتمع الذي تشيع فيه الصدقة والإحسان .
ومن إجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد قوله تعالى [وَانْحَرْ]، في [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] ( ) فالمراد من النحر حقيقة هو ذبح البُدن في الأضحى ، ، والمجاز رفع اليدين عند التكبير في الصلاة .
وعن الإمام علي عليه السلام( قال : لما نزلت هذه السورة {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر} ( )قال النبي {صلى الله عليه وآله وسلم} لجبرائيل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟
قال : ليست بنحيرة ولكنه يأمرك اذا تحرمت للصلاة أن ترفع يدك إذا كبرت، وإذا ركعت،وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت ، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وأن زينة الصلاة رفع الأيدي عند التكبيرة)( ).
وهل من موضوعية لإجتماع الحقيقة والمجاز في علم الإحصاء القرآني ، الجواب نعم .
إذ يفيض كل منهما بالمسائل والقوانين وأسباب الرحمة والفضل الإلهي والنفع العام مما لا يحصيه إلا الله عز وجل ، لذا فان تأسيس علم (إجتماع الحقيقة والمجاز) في هذا السِفر كشف واستقراء للعلوم.
ويتقابل في الكلام واستعماله قسمان :
الأول : الحقيقة ، وهو استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ، والنطق باللفظ فيما وضع فيه .
الثاني : المجاز وهو المعنى الذي نقل له اللفظ من معناه الحقيقي لقرينة أو علامة صارفة عن المعنى الحقيقي كما بينته في علم الأصول.
والقرينة على أقسام منها :
الأول : القرينة اللفظية التي تعرف من ذات اللفظ ، وما يذكر فيه مثل : أنصت إلى غيث ، فمعنى غيث الرجل العالم ، والقرينة أنصت لأن الغيث لا يتكلم بموعظة .
ومما ينفرد به القرآن إجتماع الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة مما يدل على إعجازه ، مثل [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، فيحمل على الحقيقة لإرادة ذات الفعل وانقطاع الربا وإخراج المسلمين الزكاة والخمس من أموالهم ، كما يحمل على المجاز بحذف مضاف وتقديره : يمحق الله أرباح الربا ، ويربي أموال الصدقات.
ومن الآيات في المقام أن هذا العلم يذكر في هذا السِفر لأول مرة ، وسوف يستمر العلماء في التحقيق فيه وبيانه من وجوه :
الأول : التدبر ودراسة آيات وسور القرآن آية بعد آية وأي منها تتضمن الحقيقة والمجاز ، فلا يكفي ذكر آية تتضمن الحقيقة والمجاز على نحو عرضي بل لابد من الدراسة المنهجية جهتين :
الأول : الآيات التي تتضمن المجاز .
الثاني : الآيات التي تتضمن كلمة أو كلمات تتضمن كل واحدة منها الحقيقة والمجاز .
ويمكن القول بقانون أنه لا تجد آية تتضمن المجاز إلا وهي تتضمن الحقيقة ، فيكون تقسيم آيات القرآن في المقام على شعب :
الأولى : الآيات التي تتضمن الحقيقة .
الثانية : الآيات التي تتضمن الحقيقة والمجاز .
الثالثة : الكلمات التي تتضمن الحقيقة والمجاز .
الثاني : مفهوم المجاز في الآية .
الثالث : قانون تفسير الآية على المعنى الحقيقي تارة وأخرى على المعنى المجازي .
الرابع : التفسير الجامع للآية والشامل للمعنى الحقيقي والمجازي مع إمكانه .
الخامس : المدار في التفسير بالرجوع إلى القرآن والسنة واللغة ، وأسباب النزول ونحوها ، لبيان قانون الآية القرآنية ثروة علمية .
السادس : قانون إنتفاع المسلمين وغيرهم من المعنى الحقيقي والمجازي من الآية القرآنية ، ولا يعلم مقدار وكم وعدد هذا الإنتفاع إلا الله عز وجل .
قانون وجوب رحمة المسلم للناس
أخرج (عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يرحم الله من لا يرحم الناس) ( ) .
وجاء هذا الحديث بصيغة العموم الإستغراقي من جهات :
الأولى : رحمة الله للعبد .
الثانية : رحمة العبد للناس .
الثالثة : العموم الإستغراقي في لفظ الناس .
لبيان أن قانون رحمة الإنسان لغيره من الناس مطلقاً على إختلاف مذاهبهم ومشاربهم وإنتمائهم ، فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرحم الله من لا يرحم المؤمنين أو المسلمين ، بل ذكر الناس جميعاً.
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في رحمته للمسلم والكتابي والكافر ، وهو من مصاديق نبوته.
وقد ورد الحديث أعلاه بصيغة الجملة الخبرية ، ولكنه يحمل صيغة الأمر إلى المسلم وغير المسلم بأن يرحم الناس ليفوز برحمة الله في الدنيا والآخرة.
ولا تستطيع الخلائق إحصاء رحمة الله لعباده سواء رحمة الله عز وجل للعباد في الدنيا ، أو رحمته في الآخرة .
وهل يكون من مصاديق هذه الرحمة ما يتغشى الأولاد والذرية ، الجواب نعم ، وكذا الوالدين فيأتيهما الثواب في القبر ، فيسألان عن موضوعه وسببه فيقال لهما : إن ولدكما أو بنتكما رحمت غيرها من الناس .
وهل يتعارض هذا القول مع قوله تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] ( )، الجواب لا ، لأن الولد من سعي الإنسان ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له)( ).

إحصاء الذنوب التي يغفرها الله
و(عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحُ مِن قِبَلِ المَغْرِبِ ، فَالتَّوْبَةُ مَقْبَولَةٌ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ : مِنْ إِبْلِيس رَأْسِ الكُفْرِ ، وَمِنْ قَابِيل قَاتِلِ هَابِيلَ ، وَمَنْ قَتَلَ نَبِيَّا لاَ تَوْبَةَ لَهُ.
فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن ذَلِكَ البَابِ كَالعَكَرِ الأَسْوَدِ لاَ نَورَ لَهَا حَتَّى تَتَوَسَّطَ السَّماءَ ثُمَّ تَرْجِعُ فِيُغْلَقُ البَابُ وَتُرَدُّ التَّوبَةُ فَلاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُن ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيراً ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى مَشَارِقَهَا ، فَتَطْلُعُ بَعْدَ ذلِكَ عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَة إِلاَّ أَنَّهَا سُنُونَ تَمُرُّ مَراً) ( ).
لبيان وجوه :
الأول : قانون لا يحصي عدد الذين تابوا إلا الله عز وجل .
الثاني : قانون لا يحصي كيفية اللطف الإلهي بتقريب الناس إلى التوبة إلا الله عز وجل .
الثالث : قانون لا يحصي عدد وماهية الذنوب التي غفرها الله عز وجل للناس إلا الله عز وجل .
ومن بديع صنع الله ولطفه تعيين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد ثلاث فقط الذين لا يتوب الله عليهم .
نعم لا يتعارض هذا الحديث مع قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( )، إنما هو بيان وتفسير لهذه الآية.
إحصاء منافع تدارس القرآن مع جبرئيل
قد تقدم أن النسبة بين الوحي والقرآن ، عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم ، إذ أنه ينقسم إلى :
الأول : القرآن وهو كلام الله النازل بالنص في ألفاظه وكلماته وحركاته ، وكان جبرئيل يحرص أشد الحرص على إيصاله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاملاً ، وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه للناس من غير زيادة أو نقيصة ، ثم يتعاونان معاً مرة في كل سنة بتدارس ما أنزل من القرآن ، وهذه المرة لا تعني لقاءً واحداً في يوم أو ليلة ، بل هو من أفراد متعددة ، وتدل النصوص أن شهر رمضان وعاء ، إذ ورد عن (عبد الله بن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه جبريل كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه القرآن .
فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) ( ).
و(عن عائشة، عن فاطمة عليها السلام ، أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي) ( ).
ومعنى يعارضه أن جبرئيل عليه السلام يلقى النبي لتدارس القرآن بأن يعرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أوحى الله عز وجل إليه للتأكد من عدم سقوط كلمة أو حرف مما أوحاه جبرئيل له، وهناك مسألتان :
الأولى : هل هذه المعارضة من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] ( ) .
الثانية : هل هذه المعارضة من الوحي .
والجواب على المسألتين بالإيجاب ، إذ أنها ضبط للكلمات وآيات وسور القرآن ، وهي شعبة من الوحي ، ولا ينزل جبرئيل إلا بأمر من عند الله عز وجل بخصوص ذات النزول وموضوعه وأوانه ومدته .
ولا يحصي المنافع المتجددة كل يوم لهذه المعارضة السماوية إلا الله عز وجل ، وهل تنقطع هذه المنافع .
الجواب لا ، فهي متصلة وتتغشى مشارق الأرض ومغاربها ، ويتلو المسلم القرآن في الصلاة اليومية وهو مطمئن بأنه كلام الله .
ومن إعجاز القرآن المتجدد كل يوم عجز الناس عن تحريف كلماته وحروفه ، ولا يحصي فضل الله عز وجل على الناس في هذا العجز إلا الله ، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، وقوله تعالى [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا]( ).
ومن معاني (لا مبدل) أي عصمة كلمات القرآن من التحريف ، فلا يطرأ عليها التغيير أو التحريف .
و(عن نافع ، قال : خطب الحجاج ، فقال : إن ابن الزبير يبدل كلام الله تعالى ، قال فقال ابن عمر: كذب الحجاج ؛ إن ابن الزبير لا يبدل كلام الله تعالى ، ولا يستطيع ذلك)( ).
وأيضاً صدر قول(كذب الحجاج) من الصحابي أنس بن مالك الذي أقام في البصرة ، وأمدّ الله عز وجل في عمره بدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له إذ (قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبَنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطَّهور .
فقال :اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرَب إلى خَبَثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورَهما وعَرَاقيبهما.
فقال أنس : صدق الله وكذبَ الحجاج، قال الله:”وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم، قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلَّهما)( ).
قانون عصمة القرآن من الباطل مطلقاً
قال تعالى في الثناء على القرآن [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
ولم تأت الآية أعلاه بالحرف (لم ) لأن الحرف لا أعم ويشمل أفراد الزمان الطولية المنصرمة واللاحقة ، كما أن المسلمين يتلون هذه الآي كل يوم ، فيقرأ المسلم هذه الآية في الصلاة اليومية هذا اليوم مع التسليم بعدم طرو تحريف على القرآن إلى هذه الساعة ، ولن يطرأ عليه مستقبلاً ، وهو من معجزات الشريعة الإسلامية في وجوب القراءة .
وهل عدم طرو تحريف على القرآن لأصل الإستصحاب ، الجواب لا تصل النوبة إليه ، إنما هذا الحفظ والسلامة من التحريف من عند الله ، وتسخير جنود لحفظ القرآن لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( )، في المقام على وجوه :
الأول : وما يعلم جنود ربك في حفظ القرآن إلا هو .
الثاني : وما يعلم جنود ربك في صرف التحريف عن القرآن إلا الله هو سبحانه .
الثالث : وما يعلم جنود ربك الذين يتعاهدون حفظ القرآن إلا هو .
الرابع : ولا يحصي جنود ربك من الملائكة والجن والإنس الذين يحفظون آيات القرآن من الزيادة والنقص إلا هو .
وهل كان الصحابة وأئمة أهل البيت ممن يشملهم تقدير هذه الآية ، أم أنهم ممن يعلمهم الله والناس أيضاً ، الجواب هو الأول لأن أفراد ومصاديق جهادهم لحفظ القرآن في الليل والنهار ، وبين عامة الناس ، وأثره لا يعلمه إلا الله عز وجل .
تقدير (كَافَّةً لِلنَّاسِ)
من إعجاز القرآن دلالة ورود لفظ [كَافَّةً] خمس مرات في أربع آيات ، والتداخل الموضوعي بينها وهي :
الأولى :قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
الثانية والثالثة : قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ) .
إذ تضمنت الآية أعلاه من سورة البقرة الأمر إلى المسلمين بالدخول في السلم والسلام والصلح والوئام مع الناس كافة لأصالة الإطلاق .
وهل تشمل الآية المسلمات أم تختص بالمسلمين الرجال بلحاظ سقوط القتال عن النساء .
الجواب هو الأول ، ولا يحصي منافع دخول النساء في الأمر في هذه الآية إلا الله عز وجل ، ودخولهن في السلم لوجوه :
الأول : أصالة الأطلاق.
الثاني : ورود صيغة التذكير في نداء الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] للغالب كما يقال : القمران ويراد الشمس والقمر .
الثالث : الدخول في السلم لحسنه الذاتي وللأمر القرآني به .
الرابع : أمر النساء بالسلم والدعوة إليه وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وتقدير الآية : ولتكن منكم أمة من المسلمين والمسلمات يدعون إلى الخير.
ومن إعجاز القرآن إنطباق أحكام متعددة على مصداق عملي واحد ، كما في المقام فمثلاً ذكرت أربعة أفراد في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] ( )، ويكون الدخول في السلم مصداق لكل من :
الأول : قانون الدخول في السلم نعمة عامة .
الثاني : الدخول في السلم دعوة إلى الخير والصلاح وحقن الدماء .
ولم يرد لفظ [وَلْتَكُنْ] ، [مِنْكُمْ أُمَّةٌ] [أُمَّةٌ يَدْعُونَ] إلا في الآية أعلاه من سورة آل عمران .
الثالث : قانون السلم خير محض .
الرابع : استحباب الدعوة إلى السلم .
الخامس : النسبة بين الخير والسلم عموم وخصوص مطلق ، فمن مصاديق تقديرالآية :ولتكن منكم أمة يدعون إلى السلم لبيان عدم كفاية الدخول بالسلم بل لابد من السعي إليه ، وحض الآخرين على الدخول فيه ، والمنع من الخروج والتخلي عنه .
الخامس : النسبة بين المعروف والسلم عموم وخصوص مطلق فالسلم شعبة من المعروف ، ومن يدعو إلى المعروف لابد أن يتحلى به ، ولتكون هناك طائفة من المسلمين يدعون إلى السلم ،ومنهم الحكام والعلماء ، وذوو الشأن ، وفيه الأجر المضاعف من جهات :
الأولى : التقيد بسنن الدخول في السلم والحرص عليه .
الثانية : قانون الثواب على الدعوة إلى السلم .
الثالثة : ترشح الثواب من عمل الناس بالدعوة إلى السلم .
ومع توجه الخطاب في آية السلم إلى المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) فان الدعوة إلى السلم التي هي فرع لقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] ( ) عامة وتشمل الناس جميعاً .
وتقدير الآية :
الأولى : ولتكن منكم أمة يدعونكم كافة إلى السلم .
الثانية : ولتكن منكم أمة يدعون أهل الكتاب إلى السلم .
الثالثة : ولتكن منكم أمة يدعون المشركين إلى السلم .
إحصاء دلالات الكلمات المفردة في القرآن
من إعجاز القرآن وجوه :
الأول : اللفظ المنفرد في القرآن الذي ورد فيه مرة واحدة مع كثرة كلمات آيات القرآن والبالغة (77439)كلمة .
وذكر أن عدد الكلمات المنفردة في القرآن (1620) كلمة .
والمختار أنها أكثر ، فلابد من تتبع آيات وسور القرآن ، ولو اتفق رسم كلمتين أو أكثر ولكنها تختلف في القراءة والمعنى ، فالمدار على القراءة والمعنى ، وكذا عند الإختلاف بين الفعل والاسم ، مثل الفعل الماضي [عَمِلَ] في قوله تعالى [وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا] ( )، واسم [عَمَلَ] في قوله تعالى [أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ] ( ) .
وكذا بالنسبة للفظ (صالح) ، فتارة يكون نعتاً للقول أو العمل كما في الآية أعلاه ، وأخرى اسم علم للنبي صالح الذي بعثه الله إلى ثمود بعد أن عتوا وطغوا ، وهو(صالح بن تالح بن صادوق بن هود) ( ).
وإذا جعلنا موضوعية لحرف العطف الواو ، والفاء في رسم الكلمة وانفرادها فيتضاعف عدد الكلمات المفردة ، وعدد كلمات سورة البقرة (6117) كلمة .
وورد في أجزاء تفسيرنا السابقة من الآيات ما وردت فيها أربع أو خمس كلمات لم تذكر في غيرها منها .
وعدد آيات القرآن (6236) ولابد من التحقيق الدقيق في الباب ودلالة إنفراد كل كلمة منها .
إحصاء منافع دعوة موسم الحج
لا يعلم منافع دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإسلام في موسم الحج كل سنة إلا الله عز وجل , وهل انحصرت هذه المنافع بأيامها وكونها مقدمة لبيعة العقبة , الجواب لا .
فهذه المنافع متجددة إلى يوم القيامة لما فيها من المواعظ والعبر والدلائل على جهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق رسالته.
فيصبح موضوع بيعة العقبة التي جرت بخفية وإحتراز وخوف من كفار قريش مسجداَ ومزاراَ للمسلمين والمسلمات في كل يوم خصوصاَ في موسم الحج وإلى يوم القيامة بما لا يحصى منافعه إلا الله عز وجل , وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
ومن الإعجاز في مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعجز عن إحصاها إعادة إبراهيم عليه السلام لبناء البيت الحرام ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
ودعوة الناس لحج البيت حتى إذا ما أطل زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , تجلت أمور :
الأول : انتظام القبائل بوفود كبيرة لأداء حج بيت الله الحرام .
الثاني : مجئ الوفود للحج من المدن القريبة والبعيدة , فلا يختص الأمر بأهل مكة والقبائل .
وهو من الأسرار في صيغة العموم والمندوحة في قوله تعالى [[لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الثالث : عمارة أسواق مكة , لتكون مناسبة متعددة لإعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في كل سوق منها أو بعضها ولكل سوق زمان مخصوص بلحاظ إطلالته , ومن هذه الأسواق :
الأولى : سوق عكاظ .
الثانية : سوق مجنة .
الثالثة : سوق ذي المجاز .
ولم تكن هذه الأسواق خاصة بالبيع والشراء بل كانت منتديات أدبية تلقى فيها القصائد والأشعار والتباري بين الشعراء , والتفاخر في الآباء مع الأمن لوقوعها في الأشهر الحرم .
وقد تقدم البيان في :
أولاً : قانون (عمارة الأسواق بحسن المعاملة) في الجزء الثالث والتسعين من هذا السِفر ص119 .
ثانياً : (قانون الإستبشار) في الجزء التاسع والخمسين بعد المائة ص 112.
ثالثاً : (قانون تبليغ النبي (ص) في الأسواق) في الجزء الثامن عشر بعد المائتين ص 77.
قانون إنذار أم القرى
ويحتمل منع مشركي قريش لدخول الناس الإسلام من جهة الكثرة والقلة وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص أهل مكة .
الثاني : أهل مكة والقبائل المحيطة بها .
الثالث : أهل زمانهم .
الرابع : أهل زمانهم مع الأجيال اللاحقة .
والمختار هو الأخير .
ليكون تقدير قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، أمس واليوم وغداً بتقريب أن رجال قريش الذين يصدون عن البشارة والإنذار الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يضرون أنفسهم ومن حولهم ، والأجيال اللاحقة لذا كان سقوط سبعين منهم في معركة بدر إزاحة لمانع دون سيادة الإيمان ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ومن خصائص نعم الله في القرآن وأحكامه أنها توليدية تتفرع عنها فروع كثيرة كل يوم ، ولا يحصيها إلا الله عز وجل وإن علم بشطر منها الأنبياء والملائكة والمؤمنون .
ترى ما هي النسبة بين الإحاطة المطلقة في قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] ( )، وبين الإحصاء العام، الجواب هو العموم والخصوص المطلق .
فالإحاطة أعم ، ولا يقدر على الإحاطة بالناس وأفعالهم وأحوالهم ومذاهبهم وعواقب أمورهم إلا الله عز وجل ، ومن معاني هذه الإحاطة تفضل الله عز وجل باصلاح الناس ، وجعل العواقب إلى خير .
وهل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع هذه الإحاطة الإلهية ومنافعها ، الجواب نعم ، ولا يحصي حاجة الناس إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل .
دلالات تقسيم شهور السنة
من فضل الله عز وجل على الناس جميعاَ كثرة مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكونية والإجتماعية والقبلية والإقتصادية , مع توارث طائفة من الناس سنن التوحيد وقرب أهل الكتاب كاليهود والنصارى من مكة وأهلها .
وقد تجتمع أسباب إجتماعية واقتصادية وبشارات في موضوع متحد كما في قيام رجالات قريش بالتجارة إلى الشام واليمن , والإلتقاء مع الرهبان والمنجمين ونحوهم ممن يحملون أنباء إطلالة أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لتكون معاني سورة قريش أعم من مسألة التجارة بدليل قوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا) في السورة قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
لتتجلى عبادة قريش لله عز وجل من وجوه :
الأول : وجوب التوحيد والإقرار بالربوبية لله عز وجل .
الثاني : من مصاديق قوله تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
أن النهي عن عبادة الأصنام سابق لنصبها في البيت الحرام , والله عز وجل يقول [خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]( ) فهل من الزينة التنزه عن عبادة الأصنام وعن نصبها في المسجد الحرام .
الثالث : حفظ ميراث إبراهيم وإسماعيل في طهارة البيت الحرام , قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ) ومن التطهير خلو البيت من الأصنام والعادات الجاهلية.
الرابع : من عبادة الله عز وجل إجتناب التعدي والغزو والقتال , قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
ومن سلطان الله عز وجل المطلق في الأرض تجلي مشيئته في تقسيم السنة إلى شهور , وكل شهر إلى تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماَ بحسب الهلال .
كما ورد ذكر سبعة أيام في موضوع الصيام بدل الهدى في الحج بقوله تعالى [فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
إحصاء منافع الأهلة
قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
لم يرد لفظ (الْأَهِلَّةِ) و (مَوَاقِيتُ) و (وَالْحَجِّ) و (تَأْتُوا) و (وَأْتُوا) في القرآن إلا في آية البحث .
ومن معاني تسخير الأهلة لعامة الناس , التسهيل والتخفيف عن الخليفة في الأرض بمعناها الخاص والعام مجتمعين ومتفرقين في شؤون الحياة والمعاملات والعبادات .
والمراد من الخاص الأنبياء من معنى الخليفة والعام بمعنى قصد جنس الإنسان.
فالكل يحتاج نظام الأهلة والدلالة على أفراد الزمان وأنها ترى بالعيان بالهلال.
وجاءت صيغة الجمع (الأهلة) لبيان أن هلال كل شهر له موضوعية في حياة الناس عامة مع إختلاف مللهم ومشاربهم , ويحتمل وجوهاَ :
الأول : قانون ما من إنسان إلا وينتفع من نظام الأهلة .
الثاني : إفادة الألف واللام في (للناس) أهل الملل السماوية الذين يعتمدون الهلال في عباداتهم .
الثالث : الأهلة نعمة للناس كافة , فمن شاء انتفع منها في الحساب ومن شاء اعتمد حساباَ آخر .
الرابع : من معاني (للناس) إرادة معاشات الناس , وانتفاعهم الأمثل من أفراد الزمان في الزراعة والصناعة والديون .
ولا يحصي منافع الأهلة والأنظمة الكونية المتعلقة بها ، وأثرها في الأرض ، ومصاحبتها للناس إلى يوم القيامة إلا الله عز وجل.
إحصاء النفع العام من الأشهر الحرم
من إعجاز القرآن ذكره للأشهر الحرم من غير تعيين لها , ولكنه أخبر بأنها في كتاب الله عز وجل من حين خلق الله تعالى السموات والأرض , قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
لبيان أن ضبط الناس لها معجزة من فضل الله عز وجل ,ترى كيف تم ضبطها.
الجواب من وجوه لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله عز وجل منها تعلم آدم وهو في السماء قانون مجموع شهور السنة اثنا عشر شهراَ , ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، في المقام أمور :
الأول : تقسيم أفراد الزمان إلى سنوات .
الثاني : تقسيم السنة إلى شهور .
الثالث : تقسيم الشهر إلى تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماَ .
الرابع : تكون كل سبعة أيام اسبوعاَ مستقلاَ بالاسم وليس المسمى.
ولم يذكر لفظ (اسبوع) في القرآن ، ولكن لفظ (سبعة) تكرر فيه أربع مرات .
الخامس : تعيين الأشهر الحرم وباسمائها لقوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
وهل تدل هذه الآية على تعليم الله عز وجل لآدم كل أسماء الشهور ، الجواب نعم , ويحتمل الحساب حينئذ وجوهاً :
الأول : الحساب بالأشهر القمرية .
الثاني : الحساب بالأشهر الشمسية .
الثالث : الحساب بالأشهر القمرية والشمسية .
والمختار هو الأول , لقوله تعالى [مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ]( )، وهو أمر يختص بالأشهر القمرية .
مسائل في الأشهر الحرم
هناك مسائل :
الأولى : هل كانت أسماء الشهور التي علمها الله آدم عربية .
الثانية : هل ابتدأ ترتيب الشهور بشهر محرم أم بشهر آخر أم أن ترتيبها حدث فيما بعد .
الثالثة : هل تفضل الله عز وجل وعلّم آدم خصوص يوم هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما الأولى فالمختار أن تعليم الله عز وجل لآدم الأسماء باللغة العربية , وقول أن الله عز وجل علّمه باللغة السريانية ونسب إلى المشهور , واستدل عليه بما ورد (عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء.
قال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً .
قلت : يا رسول الله كم الرسل منهم؟
قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير .
قال : يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وخنوخ وهو إدريس ، وهو أوّل من خط بقلم ، وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك ، وأوّل نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى ، وأوّل النبيين آدم ، وآخرهم نبيك)( ).
وأما الثانية فالمختار أن ترتيب الشهور توقيفي ومما علمه الله عز وجل لآدم عليه السلام لإرادة انتظام الحياة في الأرض .
وهل قتل قابيل أخاه هابيل في شهر حلّ أم في حرام , الجواب هو الأول .
وأما الثالثة فلا دليل على أن آدم علمه الله أوان هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الأسماء التي تعلمها تتعلق بالمسميات والأعيان , ومنها بشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وهجرته إلى المدينة.
ولا يستطيع الناس إحصاء أشهر أربعة حرم من أشهر السنة من حين خلق الله السموات والأرض ومنافعها إلا الله عز وجل من جهات :
الأولى : قانون سلامة الناس من القتال والقتل في هذه الأشهر .
الثانية : قانون إمتناع القبائل عن الغزو في هذه الأشهر , وما في الغزو من القتل والنهب والسلب والسبي .
الثالثة : الأشهر الحرم مناسبة للإقامة وعدم الظعن والسفر والغزو , وبعث للأمن والسكينة في البيوت , إذ تطمئن الأسرة لعدم حصول غزو , فليس من عسكرة او تناوب وسهر على الخفارات للقرية أو البلدة.
الرابعة : قانون الأشهر الحرم مناسبة لتدبر الناس في القرآن وآياته وأحكامه.
إحصاء منافع ذكر رمضان في القرآن
من أهم مواضيع الحياة الدنيا عنصر وأفراد الزمان , وهي الوعاء العام للحياة في الأرض , تتعاقب أجيال الناس على أفراد الزمان , وكذا ذات الأفراد تتعاقب على الناس من غير أن يلزم الدور بينها .
للتباين الموضوعي باختلاف وتوالي أجيال الناس كما أن كل يوم يطل على الأرض هو غير اليوم الذي سبقه , وغير الذي يليه , وقد جعل الله عز وجل علامة ظاهرة باختلاف مطالع الشمس , وفي التنزيل [رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ]( ).
فقد جعل الله عز وجل اليوم ثلاثمائة وستين كوة من جهة المشرق , تطلع كل يوم من كوة منها .
كما جعل لها ثلاثمائة وستين كوة في المغرب .
تغرب الشمس كل يوم من واحدة منها .
و(عن عكرمة قال : قال ابن عباس : إنّ الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة تطلّع كل يوم في كوة ولا ترجع إلى تلك الكوة إلاّ ذلك اليوم من العام القابل، ولا تطلع إلاّ وهي كارهة، فتقول : ربّ لا تطلعني على عبادك؛ فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك أراهم.
قال : أولم تسمعوا إلى ما قال أُمية بن أبي الصلت : حتى تجر وتجلد؟
قلت : يا مولاي وتجلد الشمس .
قال : عضضت بهن أبيك ، إنما اضطره الروي إلى الجلد)( ).
وأفراد الزمان أمر وجودي لا ترى بالعيان ولكن معالمها وآثارها ظاهرة بالأمور الكونية وبالوقائع التي تصاحبها , ومن الأمور الكونية إطلالة هلال الشهر وكيف يأخذ ضياؤه بالإتساع إلى أن يصبح بدراَ ثم يأخذ بالنقصان إلى ليالي المحاق ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
وورد اسم شهر رمضان في القرآن من بين شهور السنة كلها , ليكون ذكره هذا على وجوه :
الأول : ذكر رمضان في القرآن ضابطة لمعرفة كل شهر من شهور السنة .
الثاني : معرفة أوان الأشهر الحرم الأربعة وهي رجب , ذو القعدة , وذو الحجة , والمحرم , قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وهي الأشهر التي يمتنع فيها العرب عن القتال والغزو , وسميت بالحرم لأن الله عز وجل حرم فيها القتال .
الثالث : معرفة الأشهر الحل من بين أشهر السنة وهي ثمانية .
الرابع : تعيين أشهر حج بيت الله , ومقدماته والعودة منه بثلاثة أشهر , قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
قانون فتح مكة قطع للشرك
من خصائص القرآن أن كل آية من آياته غضة طرية في كل زمان ، ومنافعها متجددة كل يوم وإلى قيام الساعة.
وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة لقانون ترشح المنافع الخاصة والعامة عن تلاوة كلام الله في الصلاة وحال الطهارة بالوضوء ، والخشوع ، والخضوع وإحضار القلب بين يدي الله ، وهل يحصي الله عز وجل حال الخشوع والخشية من الله عز وجل وإقبال القلب في الصلاة لكل مسلم ومسلمة ، الجواب نعم .
وهو من مصاديق [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، فتكون حال الخشوع على هيئة عدد ورقم يضاف إلى حسنات المسلم ، ويكون هذا العدد كثرة وقلة حسب الإنقطاع إلى الله في الصلاة ، وعدم الإنشغال اثناءها بأمور الدنيا .
وفي فتح مكة قطع لطرف من الكفار وعاداتهم ، ومنه قولهم الوارد في التنزيل [إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، بلحاظ إرادة المعنى الأعم من أمور:
الأول: عموم الكفار , وعدم إنحصار القطع بالذين حضروا معركة بدر أو أحد أو الخندق.
الثاني: قطع الطرف لا يختص بالقتل , فيشمل إنحسار سلطان قريش, وزوال هيبتها بين القبائل
الثالث: مفهوم النصر في قوله تعالى في الآية السابقة لآية قطع الطرف, وقوله تعالى[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
فكل يوم يمر على المسلمين هم في عز وثبات على الإيمان، ومندوحة في أداء الفرائض هو نصر لهم، ومن مصاديق النصر التقيد بأحكام آية البحث في تقوى الله وإصلاح الأسواق وضبط الميزان ، ومنع الظلم والقهر في المعاملات وصيغ العقود.
وهل من موضوعية لهذا المنع في إعتداء قريش على الإسلام، الجواب نعم، فقد أدرك أرباب الأموال، والملأ من قريش أن الإسلام دين جامع للأحكام , ومبادئه تشمل ميادين الكسب والتجارة، وفيها نجاة للضعفاء، فسعوا إلى حربه وإلا فإن الأصنام وعبادتها ليس علة تامة للمبادرة لزحف هذه الجيوش وقياداتها التي أظهرت براعة في التهيئة للقتال، وحماساً له , وبذل للنفوس في ميادين القتال.
لقد خرجت عامة القبائل وطائفة من المستضعفين مع قريش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبعث إلا من أجلهم، ونفعهم في الدنيا والآخرة، وخروجهم هذا من مصاديق إحتجاج الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أي يأتيهم النبي بخير النشأتين، ورفع الظلم والجور عنهم ، ومنع الإنضواء بغفلة وتفريط تحت لواء الظالمين والطواغيت.
وكان الرد من الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لأنه تعالى جعل المعجزات تتوالى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتفيق وتصحو تلك القبائل , ويلتفت المستضعفون إلى وظائفهم العبادية، ويدركون زيف ما يدعيه أرباب الشرك والضلالة.
قانون النعم الخاصة على كل إنسان
ومن بديع صنع الله عز وجل وجود نعم خاصة بكل إنسان لم يرزقها غيره من أهل الأرض ، فعلم النعمة هذا مثل بصمة الأصابع ، وبصمة العين ، وبصمة الأذن ، هذا إلى جانب ما يصيب الإنسان من النعم العامة والتي يشترك فيها مع غيره ، ولا يستطيع الناس إحصاء النعم الخاصة والعامة مجتمعين ومتفرقين ، وهل تحيط الملائكة بها ، المختار لا ، إنما تعلم بها إجمالاً .
وهذه النعمة المنفردة من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] ( )، فمن عظيم قدرة الله عز وجل وسعة سلطانه إنفراد كل انسان بنعمة لم تكن عند غيره مع التقائه مع الآخرين بالنعم العظيمة.
وهل يختص المؤمنون كمجموع بالنعم الإنفرادية الأكبر والأحسن ، الجواب نعم [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
لقد جعل الله عز وجل نعمه الخاصة نعمة عامة وكذا العكس فان النعمة العامة رحمة خاصة لتعدد النفع من النعمة المتحدة ، ولا يختص هذا النفع بزمان ومكان النعمة بل هو شامل لغيرهما .
وهل هذه النعم من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا]( )، الجواب نعم .
والأصل مقابلة الناس هذه النعم بالشكر القولي والفعلي ، ومن أفراد هذا الشكر التنزه عن الظلم ولزوم المناجاة بالإبتعاد عن الإرهاب ومقدماته ومفاهيمه .
والمؤمن أولى من غيره بالتقيد بالشكر لله عز وجل على هذه النعم بالتحلي بالخلق الحميد وبما يبعث الطمأنينة في نفوس الناس جميعاً ، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم .
(أسئلة رمضانية)
قد سألنا مؤسس جامع المتقين / الشطرة أسئلة قرآنية لمسابقة رمضانية غير متعارفة على شبكة الأنترنيت فكتبنا له في نفس اليوم هذه الأسئلة :
س 1/ ينقسم الواجب إلى واجب مطلق ، وواجب مقيد ، إاتي بمثال لكل منهما.
ج/1 الواجب المطلق الصلاة ، والمقيد كالصيام المقيد بالصحة والإقامة ، وكالحج المقيد بالإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
س2/ اذكر الأحكام التكليفية.
ج2/ الأول : الواجب ، ومنهم من شطره إلى الواجب والفرض .
الثاني : المندوب .
الثالث : المباح .
الرابع : المكروه .
الخامس : المحرم.
س3/ نزل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( )، في بيعة الغدير ، متى نزلت هذه الآية .
ج3/ في الثامن من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة .
س4/ لقد كان مشركو قريش هم الغزاة ، اذكر معركتين تدل على هذا القانون .
ج4/ معركة أحد ، ومعركة الخندق .
س5/ أذكر خطبتين عدل ركعتين على قول .
ج / خطبتا صلاة الجمعة .
س6/ في أي واقعة نزل قوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ]( )، ومن هو رأس النفاق الذي حكيت عنه الآية أعلاه.
ج6/ كتيبة بني المصطلق، ورأس النفاق هو عبد الله بن أبي بن أبي سلول ومنهم من يذكره عبد الله بن أبي سلول.
س7/ إمام معصوم ينسب له كتاب تفسير مطبوع من هو .
ج7/ الإمام الحسن العسكري عليه السلام .
س8/ كلمة وردت في آية خمس مرات .
ج8/ كلمة (قل) سورة الرعد 16.
س9/ هل مارية أم إبراهيم زوجة للنبي ، أم سرية وما معنى السرية.
ج9/ إنها سرية ، والسرية هي المملوكة التي يتخذها سيدها للوطئ والجماع فيستر عليها.
س 10/ من هو النبي الخطيب .
ج10/ شعيب عليه السلام .
س11/ لماذا (بسم) في البسملة من غير ألف بينما في قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، بالألف .
ج11/ لكثرة التداول والإستعمال في (بسم) ولأن رسم القرآن توقيفي .
س12/ اذكر اسم تفسير صدر منه (248) جزء ولا يزال في سورة آل عمران، وكان المرجع المؤلف مسجوناً مع رهط وكوكبة من شباب الشطرة في آمن ذي قار بتهمة حزب الدعوة لنحو سنة .
ج13/ ما هي النسبة المنطقية بين الناس وبني آدم ، ولماذا قال الله [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ]( )، ولم يقل (ولله على بني آدم حج البيت).
ج13 / نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالناس أعم من بني آدم لأن فيهم آدم وحواء وقد حجا البيت الحرام .
س14/ اذكر اسم زوجتين للرسول صداق كل واحدة منهما عتقها .
ج14/ الأولى : جويرية بنت الحارث .
الثانية : صفية بنت حي بن أخطب .
س15/ ما هي النسبة بين الإيمان والإسلام ، وما هي الآية التي تجمع بينهما ، وتدل على هذه النسبة.
ج15/ نسبة العموم والخصوص المطلق فالإسلام أعم ، والآية هي قوله تعالى [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
س16/ كان النبي (ص) يحب الأسماء الحسنة ، ويتفاءل بها ، وقد سمى الحسن والحسين والمحسن ، وقد بدل نحو ثلاثين اسماً من الصحابة إلى الأحسن وإن كان الاسم غير المسمى ، اذكر أسماء عشرة من الصحابة رجالاً أو نساءً بدل النبي (ص) أسماءهم ، ومن الذي أبى قبول تسمية النبي (ص) له .
ج / الأول : زينب بنت أم سلمة كان اسمها (برة ) أي كثيرة البركة ، وفيه تزكية للذات فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب .
الثاني : زيد الخيل هو زيد بن مهلهل الطائي وحين أسلم سماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (زيد الخير ).
الثالث: كان مولى لرسول صلى الله عليه وآله وسلم اسمه مهران ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفينة لحمله الكثير من متاع الصحابة عندالسفر .
الرابع : الصحابي عبد الله بن سلام بن الحارث ، وهو من ولد يوسف بن يعقوب (كان حليفاً للأنصار. يقال كان حليفاً للقواقلة من بني عوف بن الخزرج، وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله) ( ).
الخامس : عاقل بن بكير كان اسمه غافلاً فبدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمه ، وهو من الأوائل الذين اسلموا ، وبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دار الأرقم (شهد بدراً هو وإخوته: عامر وإياس وخالد: بنو البكير حلفاء بني عدي.
قتل عاقل ببدر شهيداً، قتله مالك بن زهير الخطمي، وهو ابن أربع وثلاثين سنة) ( ).
السادس : أبو أمامة بن سهل بن حنيف ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسعد باسم جده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة ، وكناه بكنيته ، ودعا له ، وبارك عليه.
عاش أسعد هذا إلى سنة مائة ، حيث مات وعمره نيف وتسعون سنة .
السابع : كان اسم امرأة عمر بن الخطاب عاصية وهي من الأنصار فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميلة .
الثامن : عن سهل بن سعد (قال كان رجل يسمى أسود فسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبيض) ( ).
التاسع : (عن ابن لهيعة عن أبي قبيل من بني غفار حدثه أن أمه أتت به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه تميمة قال: فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تميمتي وقال : ما اسم ابنك ، قالت: السائب فقال : بل اسمه عبد الله)( ).
العاشر : (عن عبد الله بن الحارث بن جزء أنهم حضروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة فقال له : ما اسمك قال : العاص وقال لابن عمرو بن العاص : ما اسمك.
قال : العاص وقال لابن عمر : ما اسمك قال : العاص.
فقال : أنتم عبيد الله ” فخرجنا وقد غيرت أسماؤنا)( ). .
أما الذي أبى قبول تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم له فهو (عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن جده حزنا قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما اسمك .
قال: حزن، قال: بل أنت سهل، قال: ما أنا بمغير اسما سمانيه أبي، السهل يوطأ ويمتهن قال سعيد: فظننت أنه سيصيبنا بعده حزونة)( ).
س17/ سورتان في القرآن احداهما أكثر عدداً في الآيات ، وأخرى أكثر منها عدداً في الحروف والكلمات ، وكل سورة منهما أكثر من مائة آية.
ج17/ سورة الشعراء عدد آياتها 227 وعدد كلماتها 1322 فقط.
وسورة النساء عدد آياتها 176 آية بينما كلماتها 3745 وقيل 3945 ، وكذا بالنسبة لسورة آل عمران وعدد آياتها 200 آية .
س18/ سورة مكية ابتدأت بلام التعليل.
ج18/ لإيلاف قريش .
س 19/ عدد الذين هاجروا إلى الحبشة لشدة أذى كفار قريش للنبي ص ولهم (83) رجلاً و(19) امرأة ، أختار واحد منهم فقط النصرانية ومات هناك ، وتزوج النبي محمد من بعده زوجته فما هو اسمها وكنيتها .
ج19 /أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان (صخر بن حرب) وزوجها الأول عبيد الله بن جحش.
س20 / آية تتألف من عشر كلمات ، وفيها أربعة أوامر ، ما هي الآية.
ج20/[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
س 21/ آية تتألف من خمس عشرة كلمة تتضمن ثلاثة أوامر وثلاثة نواهي .
ج21/[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
س22/ لقد حاصر أهل مكة بني هاشم ثلاث سنوات ابتداء من السنة السابعة للبعثة النبوية مع عدم البيع والشراء معهم ، ولا الزواج منهم ولا مؤاكلتهم أو الكلام معهم وأن يكونوا يداً واحدة على النبي محمد (ص) وأنصاره.
وكان الحصار في شِعب أبي طالب ، وبقي في هذا الزمان معلم واحد في هذا الشِعب فما هو هذا المعلم .
ج22/ مكتبة مكة العامة ، محل ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
س23/ آية قرآنية واحدة يعادل عدد كلماتها ثلاثة أضعاف كلمات ثلاث سور مجتمعات ، فما اسم هذه الآية وأسماء السور الثلاث .
ج23/ آية الدين (المداينة) الآية 282 من سورة البقرة ، وكلماتها أكثر من كلمات سورة الكوثر والنصر والعصر.
س 24/ قال تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] وفيه مسألتان :
الأولى : هل (كان) أعلاه فعل ماض ناقص أم تام وما معنى تام في المقام ، الجواب (كان) تامة أي وجد.
الثانية : هل تختص الآية بالقرض الربوي المحرم الذي يجب أن تسقط فائدته لقوله تعالى في الآية السابقة [فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ] أم تشمل مطلق القرض والديون تشمل مطلق القرض والديون ، الجواب هو الثاني أي مطلق القرض.
س 25/ يحتمل الفضل بين القرآن والعربية وجوهاً :
الوجه الأول : للعربية فضل على القرآن .
الوجه الثاني : للقرآن فضل على العربية .
الوجه الثالث : كل منهما له فضل على الآخر .
الوجه الرابع : ليس من فضل لأحدهما على الآخر .
أي الوجوه أعلاه تختار ، وأذكر أسماء خمسة من علماء النحو واللغة العربية من غير العرب الذين صاروا من أعلامها بفضل وبركة القرآن.
ج/ الوجه الثاني وهو للقرآن فضل على العربية ، وليس العكس.
ومن علماء النحو واللغة .
1- سيبويه عمرو بن عثمان ت 180 هجرية مؤلفه الكتاب في النحو .
2- الحسن بن أحمد بن أبان الفارسي ت377 هجرية ، من أشهر كتبه التذكرة في علوم العربية وجواهر النحو .
3- ابن جني الموصلي ، من أصل رومي ت 392 من أشهر كتبه اللمع في العربية ، والخصائص .
4- أحمد بن فارس أصله من قزوين ، وأقام مدة في همدان ثم انتقل إلى الري (طهران) ومات فيها سنة 395 له كتب كثيرة اشهرها مقاييس اللغة ، المجمل ، ومن إعجاز القرآن بزوغ شمس العربية في بلاد فارس والروم.
5- محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروز آبادي ، من أئمة اللغة وعلماء الأدب ولد في مدينة فيروز آباد من نواحي شيراز ، له نحو 60 كتاباً اشهرها معجم (القاموس المحيط) والقاموس لغة معظم ماء البحر ، وكتبه في القرآن والحديث واللغة والنحو ، توفى سنة 817 هجرية.
س 26/ من الذي قال له الإمام علي عليه السلام بما مضمونه : انك ستخير بين اللبث الدائم في النعيم وبين الخلود في الجحيم ، فتختار الثاني .
ج/ الجواب : عمر بن سعد .
س 27/ أوامر خطابات القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجهين :
ج/ الخطاب الثاني .
ومن خصائص الأسئلة القرآنية تنمية الملكة واكتساب المعارف ، والإجتهاد في الإحصاء والعمليات الحسابية الأربعة الجمع والطرح والضرب والقسمة.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn