معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 250

المقدمــــــة

الحمد لله الذي أنعم علي بأن ابتدئ مائتين وخمسين جزءً من التفسير بقول (الحمد لله) وكذا كتبي الفقهية والأصولية وهو توفيق ، ومقدمة لمصاديق متكثرة من التوفيق والهداية ، ومن مصاديق المعنى الخاص والعام لقوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( )، والخاص هو خطاب الله عز وجل لكل إنسان على وجوه :
الأول : وإن تعد نعمة الله عليك لا تحصيها ، ومنه نعمة الله عز وجل في توالي صدورأجزاء هذا السٍفر ، وكلها علوم وقوانين مستنبطة من ذات آيات البحث ، وهل النطق بلفظ الحمد لله من هذه النعم ، الجواب نعم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا وإن تعدوا نعمة الله على الفرد منكم لا تحصوها .
وقد ورد نداء الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وفيه دعوة للعلماء بذكره في مقامات التقدير للمعاني والمقاصد المتكثرة وفق الكتاب والسنة .
الثالث : (يا أيها الناس) ان نعمة الله على الفرد منكم لا تحصوها.
وقد ورد هذا النداء العام عشرين مرة في القرآن.
ليتلقى المؤمن النعم المتعددة بصفة الإيمان ، وبصفته كانسان ليكون أهلاً للشكر لله عز وجل على النعم المتتالية والمتعاقبة في نفسه وعياله وماله ، والمجتمع الذي اتخذ الحمد لله منهاجاً ، وأبى الله إلا أن يجعله مصاحباً لكل مسلم ومسلمة من جهات :
الأولى : تعدد قول المسلم الحمد لله .
الثانية : قول الحمد لله بصيغة القرآنية والتلاوة.
الثالثة : النطق بالحمد لله في الصلاة ، والوقوف بين يدي الله بخشوع وخضوع .
الرابعة : الوجوب العيني للنطق بالحمد لله على كل مسلم ومسلمة.
الخامسة : قانون تعدد قول كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم الحمد لله بصيغة القرآنية والدعاء .
ويختص هذا الجزء من معالم الإيمان بتفسير آية واحدة [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، فهل قول الحمد لله واقية من دخول النار ومن الخزي ، الجواب نعم ، لذا فمن فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات تلاوة كل واحد منهم في كل ركعة من الصلاة سورة الحمد ، وانبساط الصلاة اليومية على آنات الليل والنهار .
وبلحاظ التباين في أوقات الليل والنهار بسبب مشارق ومغارب الأرض ، فليس من دقيقة من آنات وأفراد الزمان الطولية إلا وهناك مسلمون يقولون (الحمد لله) وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، أي يعبدوني في كل لحظة ودقيقة .
والنسبة بين العبادة والصلاة عموم وخصوص مطلق ، فالعبادة أعم ومنها تلاوة آية البحث.
السادسة : عدم إكتفاء المسلم والمسلمة بقول الحمد لله إنما يجب أن يقول كل واحد من المسلمين والمسلمات [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
السابعة : قول المسلمين [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، بتلقين وتعليم من عند الله عز وجل .
الثامنة : قانون تلاوة المسلمين الحمد لله بشوق ورغبة رضا وشكر لله عز وجل على هذه النعمة .
التاسعة : الثواب العظيم على قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، والجامع بين الشكر لله عز وجل وبين الإقرار بالربوبية لله عز وجل.
العاشرة : قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ] ذخيرة وحرز ليوم الحساب للنجاة من الوعيد الذي تذكره آية البحث .
هذا إلى جانب شكر المسلمين لله عز وجل في الأحوال المختلفة وعند الرزق الكريم ، والشكر على العافية .
وهل تفضل الله بالتلقين بكلمة (الحمد لله) خاص بالمسلمين أم أنه جاء في الكتب السماوية السابقة ، الجواب هو الثاني .
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الحمد له سبحانه ، فهو عماد استدامتها ، وتوالي الرزق على الناس لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
والنسبة بين عبادة الله وبين شكره عموم وخصوص مطلق ، فالعبادة أعم ، وذات الحمد لله عبادة ، إذ تفضل الله عز وجل وسهله على اللسان وقربه من العباد بالنعمة والإبتلاء.
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليبشر المؤمنين بالخلود في النعيم ، وينذر المشركين من الخلود في الجحيم كما تدل عليه آية البحث ، وفي التنزيل [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ]( ).
وهل تختص بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل زمانه والأجيال اللاحقة أم تشمل المؤمنين من الأمم السابقة .
الجواب هو الثاني لبعث الطمأنينة في النفوس ، وهو من مصاديق تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكتب السماوية السابقة فهذا التصديق ليس بالشهادة لها بالنزول من عند الله وحده بل بتأكيد مضامينها القدسية ، وبما يلزم إتباعه ونصرته ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ).
الحمد لله الذي جعل كل آية حكمة مستقلة ، وموعظة متعددة الوجوه ، ودعوة سماوية إلى الصلاح ، والإحسان ، ونهياً عن الفحشاء وفعل السيئات سواء في مضمونها ومنطوقها أو في مفهومها أو دلالتها ,
وأشهد ألا إله إلا الله [الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ]( ) وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله أرسله بالحق ، وفتح لأجيال أمته باب الدعاء والمسألة ، ومنها النجاة من النار ، والخزي بفعل مقدماتها ، وبدخولها .
وسيأتي في جزء لاحق قانون تعدد مواطن الخزي للذين كفروا .
الحمد لله الذي جعل في كل زمان أمة متمسكة بمبادئ التوحيد ، يذكر أفرادها الله عز وجل في الصباح والمساء ، وبه جاءت الآية السابقة في خصال أولي الألباب [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، والتي اختص الجزء السابع والثلاثون بعد المائتين في تفسيرها ، وأفردت باباً في هذا الجزء للصلة بينها وبين آية البحث .
الحمد لله الذي [أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، ولا يحصي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية إلا الله سبحانه ، وصدر من هذا السِفر بخصوص (علم الإحصاء القرآني غير متناه) كل من :
الأول : الجزء الخمس والأربعون بعد المائتين .
الثاني : الجزء السابع والأربعون بعد المائتين .
لتكون علوم التفسير والأقوال والمجلدات التي صدرت فيها من معجزات القرآن الغيرية ، وبقاء آياته غضة طرية في كل زمان .
وهل لآية البحث وتلاوتها وابتداؤها بالنداء (ربنا) وبصيغة الجمع من المنادي موضوعية في ذهاب الحزن والكآبة عن صدور المؤمنين في الدنيا والآخرة ، الجواب نعم ، قال تعالى في دخولهم الجنة [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ]( ) .
الحمد لله الذي لا تنفد خزائنه ، ولا يزيده كثرة العطاء إلا كرماً وجوداً ، ووسع غناه كل فقير وليس من مخلوق إلا وهو فقير إلى رحمة الله ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( ).
الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، قال تعالى [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( ) .
وتكرر قول [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ] مرة أخرى في القرآن بقوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ .
لبيان أن سمع الله عز وجل للناس رحمة بهم ، وإصلاح لهم ، وهو سبحانه يسمع القول المنفرد والمتعدد ومنه مضامين آية البحث .
ويسمع الله القول في الخير فيثيب عليه ، ويجعل فيه الأجر والثواب .
ويسمع الله الشر فيستأصله ، ويخزي أهله من غير أن يقطع عنهم رزقه وفضله ورحمته .
وجاءت آية البحث وهو قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، التي اختص بها هذا الجزء من التفسير وهو الجزء الخمسون بعد المائتين.
وهي دعوة يومية متجددة لأجيال المسلمين لتلاوتها في الصلاة وخارجها ، والمبادرة إلى فعل الخير للوقاية من لهيب نار الآخرة ، وللفوز بالخلود في النعيم ، ومنّ واحسان من الله عز وجل قال تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ]( ).
وأقوم والحمد لله بتأليف وتصحيح ومراجعة أجزاء التفسير وكتبي الفقهية والأصولية والكلامية بمفردي مع قيامي بالقاء البحث الخارج على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف من سنة 1999م والتصدي للفتوى ، وفي التنزيل [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
الحمد لله الذي أنعم على المسلمين وأجيالهم اللاحقة بصدور الجزء (250) من معالم الإيمان ويختص بتفسير آية [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
وكله تأويل واستقراء واستنباط وبرهان وأكثر من مائة وخمسين قانوناً في ذات مضامين آية البحث .
في منهجية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
وهذا اليوم عيد من أعياد القرآن وعشاقه ، وتثوير تأريخي لذخائره وكنوزه بصدور الجزء الخمسين بعد المائتين من التفسير بعلوم مستحدثة هي مرآة لشذرات من فيوضات الآية القرآنية ، وجميع أجزاء التفسير وكتبي الققهية والأصولية معروضة على موقعنا www.marjaiaa.com.
والمساهمة في طبعه وترجمته من الخمس والزكاة مبرئة للذمة وفيها نماء المال والرزق الكريم قال تعالى[فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ] .

حرر في العشرين من شهر ذي القعدة لسنة 1444
9/6/2023

قوله تعالى[رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]الآية 192 آل عمران

الإعراب واللغة
(ربّنا) منادى مضاف محذوف منه أداة النداء منصوب و(نا) ضمير في محل جر (مضاف اليه ) والتقدير : يا ربنا ، إذ يجب نصب المنادى المضاف ،وهو تأكيد للنداء المتقدّم.
كما يجب نصب المنادى النكرة غير المقصودة مثل : يا رجلاً أدع لي ، فرجلاً نكرة غير مقصودة ، أما قوله تعالى [يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي]( ) فهي نكرة مقصودة .
إنكّ : إنّ حرف مشبّه بالفعل للتوكيد ، والكاف ضمير في محلّ نصب اسم إن .
مَن : اسم شرط جازم يجزم فعلين مضارعين مبنيّ في محلّ نصب مفعول به أوّل مقدّم .
(تدخل) مضارع مجزوم فعل الشرط، وعلامة جزمه السكون وحرّك بالكسر لالتقاء الساكنين.
والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت يعود لله عز وجل لبيان أنه لا يدخل أحد النار إلا بأمر من الله عز وجل ، وفي المرسل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي)( ).
النار : مفعول به ثان منصوب بالفتحة
فقد : الفاء رابطة لجواب الشرط لا عمل لها، إذ تتقدم (قد) وهو حرف تحقيق وتوكيد مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
أخزيته : فعل ماض مبنيّ على السكون لاتصاله بتاء الفاعل المتحركة.
والتاء فاعل ، والهاء ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به .
الواو : للإستئناف وهي التي تأتي بعدها جملة لا صلة موضوعية لها جلية بما قبلها .
ما : نافية ، وتكون ما النافية على قسمين :
الأول : العاملة التي تعمل عمل ليس فترفع المبتدأ وتنصب الخبر ، وتسمى الحجازية مثل قوله تعالى [مَا هَذَا بَشَرًا]( ) ومن شروطها عدم تقدم الخبر على المبتدأ .
الثاني : ما النافية غير العاملة ، وتدخل على الفعل الماضي مثل [مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ]( ) وتدخل على المبتدأ والخبر فلا تنصب أحدهما كما في آية البحث .
للظالمين : شبه جملة من جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر مقدّم ، وتقديره (كائن )أو (موجود ) لأن الجار والمجرور ليسا الخبر حقيقة إنما يفيدان الدلالة على الحدث .
ومن قدماء النحويين من جعل ذات شبه الجملة من الجار والمجرور خبراً بذاته وليس متعلقاً بخبر محذوف .
من : حرف جرّ زائد
أنصار : مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ مؤخّر ، والأصل بالمبتدأ أن يكون مرفوعاً محلاً ولفظاً ، ولكنه يجر لفظاً إذا دخلت عليه إحدى حروف الجر الزائدة وهي :
الأول : مِن كما في المقام .
الثاني : الباء .
الثالث : رُبَّ .
وجملة: (ربّنا إنك) لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: (إنّك من تدخل ) لا محلّ لها جواب النداء.
وجملة: (تدخل النار) في محلّ رفع خبر إنّ.
وجملة: (قد أخزيته) في محلّ جزم جواب الشرط مقترنة بالفاء.
وجملة (ما للظالمين من أنصار) لا محلّ لها استئنافيّة.
والخزي الفضح والعار والمقت ، وفضح الإنسان في فعله القبيح.
يقال (خَزِيَ الرجلُ يخزَى خَزْياً وهو خَزْيان، إذا استحيا من قبيح يفعله، والاسم الخزاية. وخَزِيَ الرجلُ يخزَى خِزْياً من الهَوان.
وأخزاه اللهّ يُخزيه، إذا مقته وأبعده، والاسم الخِزْي)( ).
والظالمون جمع ظالم ، والظلم لغة هو وضع الشئ في غير محله ، وهو في الإصطلاح سور السالبة الكلية الذي تقع تحته عناوين عديدة منها الباطل ، والجور ، ومجاوزة الحد ، والإضرار بالغير من دون حق .
و(عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) ( ).
هيكل البحث العلمي
ويسمى أيضاً (جدول المحتويات) والنسبة بينه وبين الفهرس عموم وخصوص مطلق ، وكأنه من المجمل والمبين ، فهيكل البحث مجمل ، والفهرس مفصل.
يقسم الموضوع العلمي ورسائل التحقيق منهجياً وفق هيكل متعارف من عناوين رئيسية وفرعية بما يساعد على استظهار القواعد واكتشاف الجديد ، وسد الثغرات واجتناب الغفلة عن عنوان رئيسي وبيان مراتب النص والظاهر والمجمل ، واتخاذها بلغة ونوع طريق لبيان مفاهيم علمية رشيدة.
ويكون تقسيم خطة البحث على وجوه :
الأول : المقدمة وهي المدخل إلى البحث ، وتتضمن قراءة إجمالية عامة لموضوعه ، وتتصف بأنها تبعث الشوق في نفس القارئ للإطلاع عليه وقراءته ، ويتبادر إلى الذهن أن المقدمة أول ما يكتب من البحث أو الكتاب ولكن الأولى جعلها من آخر ما يكتب منه لإحاطة الكاتب علماً بما كتبه وما تضمنه الكتاب من النكات والمسائل ، ولا يتعارض هذا الإرجاء مع كون المقدمة تمهيد للكتاب أو الرسالة .
والملاك في المقدمة أنها مرآة لمضامين الكتاب يستطيع القارئ معها التصور الإجمالي لمضمون الكتاب .
وتتصف المقدمة بخلوها من المصطلحات العملية والفلسفية وفرائد الإستنباط التي يتعذر على كثير من القراء معرفتها إذ تكتب المقدمة لعامة القراء وليس لذوي الإختصاص فلابد أن تكون بألفاظ واضحة المعنى للقراء .
والمقدمة هي المدخل التسويقي للكتاب ، وللغة للتعريف به والترغيب بقراءته واقتنائه فلابد من العناية بلغتها وبالترابط بين مسائلها مع لحاظ الإيجاز غير المخل فيها ، والإشارة فيها إلى مواضيع الكتاب فهي كالضياء الكاشف لها.
وتشمل المقدمة مسائل :
الأولى : موضوعية البحث .
الثانية : الغايات من البحث .
الثالثة : أسباب اختيار البحث ، سواء كانت خاصة أو عامة ، وبلحاظ الموضوع .
الرابعة : المنافع المرجوة من البحث .
الخامسة : البحوث والكتب السابقة التي تناولت الموضوع سواء على نحو الإختصاص أو بالإشتراك مع غيره .
السادسة : بيان منهج البحث والدراسة سواء كان متحداً أو متعدداً مثل :
أولاً : المنهج التأريخي .
ثانياً : المنهج التحليلي .
ثالثاً : المنهج الاستقرائي .
رابعاً : المنهج الإحصائي .
خامساً : المنهج الإنشائي الأسلوبي .
سادساً : المنهج الوصفي .
السابعة : مختصر إجمالي لخطة البحث والعناوين الرئيسية فيه .
الثاني : الباب وهو الموضوع الرئيسي للبحث والذي يختص بشطر منه ، إذ يتألف الكتاب أو البحث من بابين أو أكثر كل فرد منها عنوان لموضوع مستقل وفكرة عامة ، ومحور للإستقراء بالتحقيق العلمي ، وجمع البيانات بالجمع الموضوعي أو الميداني ودراستها.
وعادة ما يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب أو أكثر ، وهل يمكن احتساب تفسير الآية القرآنية بمرتبة الباب وفق هذا التقسيم ، الجواب أنه أوسع ، لأن تفسير الآية القرآنية أعم ويشمل أبواباً متعددة من العلوم وهو من مصاديق ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأبواب المتعددة في تفسير القرآن ، إذ ورد عن عبد الله بن (مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد .
ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف . زاجر وآمر ، وحلال وحرام ، ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نُهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله واعلموا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا( ).
الثالث : الفصل ، وهو عنوان فرعي مستقل ، أو قل أنه عنوان رئيسي متفرع ومترشح عن عنوان محوري ، ويتفرع الباب إلى فصلين أو أكثر وغالباً ما يكون الكتاب أو الرسالة من ستة فصول أو أكثر لبيان تعدد العلوم والمسائل التي تتضمنها ، وتقسيمها تقسيماً استقرائياً نافعاً.
الرابع : المبحث ، إذ يقسم الفصل إلى مبحثين أو أكثر .
الخامس : المطلب ، بتقسيم المبحث إلى مطلبين أو أكثر .
السادس : الفرع بتقسيم المطلب إلى فرعين أو أكثر .
السابع : الفقرة وهي المسألة الجزئية التي لا تقبل القسمة والإنشطار إلى أفكار متعددة ، وتسمى أيضاً البند ، ويمكن الإكتفاء بالوجوه الأربعة الأولى الأبواب والفصول والمباحث والمطالب مع مراعاة الكم والكيف فيما بينها فلا يكون بعضها قصيراً والآخر طويلاً وأضعاف القصير.
الثامن : الخاتمة ، وهي نوع خلاصة علمية لمباحث الكتاب للإختصار غير المخل ولتسهيل الإطلاع على مضامين البحث على نحو الإجمال مع بيان الجهد الذي بذله المؤلف أو الكاتب والمشاق التي اعترضت طريقه في التحفيف.
والخاتمة آخر ما يكتب من الكتاب هي والمقدمة فمع ما بينهما من التضاد في الترتيب فانهما يكتبان عند تمام العمل تقريباً.
التاسع : ذكر أهم المصادر والمراجع التي رجع إليها ، وانتفع منها المؤلف في هذه الدراسة متحداً أو متعدداً كان المؤلف ، وفق ترتيب منهجي .
العاشر : الفهرس والمحتويات إذ تذكر في آخر الكتاب لهداية القارئ إليها ، وهو أمر لازم ، فحتى إذا اختلفت منهجية الكتاب أو لم يُتبع المتعارف المذكور أعلاه فيها ، فلابد من ذكر الفهرس ، ومنهم من يذكره في أول الكتاب.
الحادي عشر : الملاحق والكشافات وتخريج الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وأبيات الشعر ، والجداول ، والخرائط والصور إن وجدت .
وهذه المنهجية أمر شائع في الرسائل الجامعية خاصة ، ولا بأس باعتمادها في التأليف.
بدائع منهاج تفسيرنا للقرآن
تفسيرنا هذا موسوعي ، وعابر لهذه المناهج والإختصاصات العلمية والحمد لله ، وفيه أبواب علمية مستحدثة في التأريخ ، فالآية القرآنية علم قائم بذاته وفيه مندوحة وسعة للتحقيق والدراسة.
وقد أنعم الله عز وجل علينا في هذا السفر بمنهجية تتجلى فيها قوانين ومسائل مستقرأة من مضامين الآية القرآنية .
ولم يطرأ في التصور الذهني منهجية هذا السِفر المبارك ولكنه الفضل واللطف والمدد من عند الله ، مع أنه معشار ما تستحقه الآية القرآنية من الكشف والبيان ومسائل الإستقراء والإستنباط إذ أدرك معه بالتقصير ، وإمكان التوسعة في أبواب وفصول ومباحث تفسير الآية القرآنية وهي مرتبة في تفسيري وفق الوجوه التالية :
الأول : يبدأ الجزء من الأجزاء المائتين والخمسين التي صدرت من هذا السِفر والأجزاء التالية إن شاء الله بالمقدمة ، وتتقوم بعبارات (الحمد لله) من منازل العبودية والمسكنة مع بيان شرف علم التفسير وإجمال لمضامين الجزء .
الثاني : ذكر نص الآية القرآنية ، والإشارة إلى رقمها في السورة التي تتضمنها ، وليس من سورة من القرآن إلا وهي تتضمن ثلاث آيات أو أكثر.
لقد صدر هذا الجزء المبارك ولا زلت في سورة آل عمران ، وبما لا يتوقعه علماء التفسير وأهل التحقيق في الأزمنة المتعاقبة ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الثالث : الإعراب واللغة .
الرابع : سياق الآيات .
الخامس : إعجاز الآية الذاتي .
السادس : إعجاز الآية الغيري
السابع : الآية سلاح .
الثامن : مفهوم الآية ، وهو على شعبتين :
الأولى : مفهوم الموافقة .
الثانية : مفهوم المخالفة .
التاسع : إفاضات الآية .
العاشر : الآية لطف .
الحادي عشر : الآية بشارة .
الثاني عشر : الآية إنذار .
الثالث عشر : الصلة بين أول وآخر الآية .
الرابع عشر : من غايات الآية .
الخامس عشر : التفسير : تجزئة تفسير الآية إلى فصول مستقلة .
وقد تقدم تفصيل بخصوص منهج بحثنا المستحدث في علوم القرآن وإظهار كنوزه ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله.
السادس عشر : علم المناسبة .
السابع عشر : بحوث نحوية أو أصولية أو منطقية أو كلامية أو أخلاقية .
الثامن عشر : بحث بلاغي .
معجزة التباين العددي في الآيات
من الإعجاز النظمي والعددي في القرآن أن آية واحدة من سورة البقرة وهي آية الدَين ، يكون مجموع حروفها أكثر من حروف (7) سور من القرآن.
مع اختصاص هذه الآية بموضوع واحد هو التداين والقرض بين المسلمين.
وعدد حروف هذه الآية الكريمة هو(551) حرفاً.
فمن قصار السور ما يكون حروفها أقل من حروف الآية أعلاه وهي :
1 سورة الكوثر 42 حرفاً
2 سورة الإخلاص 47 حرفاً
3 سورة العصر 70 حرفاً
4 سورة قريش 73 حرفاً
5 سورة النصر 79 حرفاً
6 سورة الناس 80 حرفاً
7 سورة المسد 81 حرفاً
المجموع 472 حرفا
وهو من الإعجاز العددي في القرآن.
وآية الدَين مدنية ، أما السور القصار أعلاه فكلها نزلت في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أنها تتضمن التخويف والوعيد .
ومن اللطف الإلهي إتصاف هذه السور بالقصر لتكون كل كلمة منها بلغة لزجر الناس عن الكفر والضلالة وعبادة الأوثان ولإرادة تيسير حفظ عامة الناس لآيات القرآن .
فمن رحمة الله عدم اختصاص حفظ هذه الآيات بالصحابة الأوائل بل يشمل الناس جميعاً.
وهل يصل هذا الحفظ إلى أهل الكتاب كيهود المدينة ، ونصارى نجران ، الجواب نعم .
وهو من الإعجاز في النظم العددي لآيات القرآن أما آية الدَين فنزلت بعد الهجرة النبوية واستقرار حكم الشريعة فيها وتوجه المسلمين للتفقه في الدين ، ومعرفة مصاديق الأحكام التكليفية الخمسة .
والآية القرآنية هي موضوع علم التفسير فلابد من الإبتداء بذكرها والإشارة إليها ليكون هذا الذكر كالمقدمة الواجبة والمدخل لتفسيرها.

سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة ، على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة لها ، وهي على وجوه منها :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ابتدأت آية السياق بالاسم الموصول [الَّذِينَ] لتكون مقدمة وبياناً لأهل آية البحث التي ابتدأت بقوله تعالى [رَبَّنَا].
وتقدير الجمع بين أول الآيتين (الذين قالوا ربنا) .
ومن إعجاز القرآن تجد موضوع الجمع بين آيتين في آية واحدة أخرى ، ومنه هذا التقدير الذي ورد مرتين في القرآن كل منهما في البشارة بالأمن والنجاة من النار يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
ليكون من معاني الجمع بين الآيتين الحسن الذاتي للدعاء بالنجاة من النار ، ولزوم الإستقامة في القول والعمل ، وتدل عليه خاتمة آية البحث [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
لبيان قانون أولو الألباب موحدون .
فهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يقولون ربنا الله موحدون .
الصغرى : أولو الألباب يقولون ربنا الله .
النتيجة : أولو الألباب موحدون .
المسألة الثانية : أخبرت الآية السابقة عن ذكر أولي الألباب لله عز وجل بكل حال وأوان ، وتضمنت آية البحث دعاءهم للنجاة من النار ، فما هي النسبة بين الأمرين ، الجواب إنه العموم والخصوص المطلق ، فآية البحث دعاء وتضرع وسؤال ، والدعاء من مصاديق الذكر .
ليكون من إعجاز القرآن مجئ الخاص بعد العام ، والمصداق بعد البيان المجمل .
ومن إعجاز القرآن جمعه بين المجمل والمبين ، وبين القانون ومصاديقه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
وتبين آية البحث وظيفة للعقل وهي التسليم بوجود النار ، ولزوم السعي في الدنيا للنجاة من الدخول فيها ، ومنه الدعاء وتلاوة آية البحث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) ، كما ورد بعد ثلاث آيات تفضل الله عز وجل بالإستجابة لمضامين الدعاء في هذه الآيات بقوله [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ]( ).
المسالة الثالثة : جاءت الآية باسم الإشارة للقريب (هذا) لبيان اقتران هذا القول بالتفكر وعدم تخلفه منه ، ولتأكيد أن هذا التفكر نافع وفيه أجر وثواب .
وقول المؤمنين (سبحانك) صيغة تنزيه وثناء على الله ، واقرار باتصافه بصفات الكمال والجلال ، ولا يطلق (سبحان ) إلا على الله وحده وهو ذكر لله عز وجل ، وورد في القرآن نحو ثمانين مرة ، منها بصيغة الأمر [وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا]( ).
وتبين آية السياق ثمرة من ثمرات التفكر في عالم الأكوان ، والإرتقاء في منازل الهداية ولهج المؤمنين بقول (سبحان الله) عند الإنفراد والخلوة ، وفي المجالس والمنتديات .
ويمكن تسمية المؤمن : المُسبح -بضم الميم-.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)( ).
لبيان الأجر والمغفرة بنطق المؤمن سبحان الله في حال التفكر ، وفي مجالس الذكر من باب الأولوية القطعية .
المسألة الرابعة : من الإعجاز في آية السياق التداخل بين مضامينها ، وقول وفعل المؤمنين ، فمع التفكر بالخلق جاء اقرارهم بالتوحيد بقول (ربنا) والثناء على الله لحكمته في بدائع الخلق ، وتنزيه مقام الربوبية ، مع عدم وجود حرف العطف الواو أو ثم بينها ، ثم جاء قولهم [فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
ووردت (الفاء ) للفورية والصلة بين أفراد ومضامين الآية الكريمة.
وتدل خاتمة آية السياق على إدراك المؤمنين للحاجة إلى الدعاء وسؤال الوقاية من عذاب النار يوم القيامة ، فهم لم يسألوا أولاداً وأموالاً ، ومباهج الدنيا ، قال تعالى [اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
إنما سألوا النجاة في الآخرة ، نعم تكون هذه النجاة بالثبات على الإيمان ، وعمل الصالحات في الدنيا ، وهو من إعجاز القرآن بسؤال النتيجة الأهم .
ويكون من معاني خاتمة آية البحث : سبحانك أصلحنا للوقاية من النار ، ومن معاني (سبحانك) في المقام الإيمان بقدرة الله عز وجل على هذا الإصلاح ، ولطفه سبحانه في استجابة الدعاء ، نعم تتضمن آية السياق والبحث في مفهومها سؤال الولد الصالح ، والمال الذي يخرج منه الحق الشرعي لأن كلاً منهما واقية من عذاب النار .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يكون الميِّتُ في قَبْرِهِ كالغَرِيقِ يَنْتَظرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ من ابْنِهِ أَو أَخِيهِ أو صَدِيقِهِ ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ ، كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّنْيا وَمَا فِيهَا)( ).
المسألة الخامسة : تكرر النداء (ربنا) في آية السياق وآية البحث والآية التالية ويصح الدعاء في آية البحث من دون ذكر المنادى في أولها ، لعطف الدعاء فيها على الآية التي قبلها ، فتكون : سبحانك فقنا عذاب النار إنك من تدخل النار فقد أخزيته ، ولكن تفضل الله وذكر نداء المؤمنين (ربنا) في أول الآية لبيان انقطاعهم إلى الله ، وأن نتيجة التفكر في الخلائق لم تؤد بهم إلى الغلو باشخاص الأنبياء والإفتتان بالخلق ، بل قادهم هذا التفكر إلى التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، فالله ربنا ورب السموات والأرض ، وأن هذا التفكر من المخلوق في المخلوقات فهو لا يصل إلى التفكر في الذات الإلهية المقدسة .
المسألة السادسة : تكرر النداء (ربنا) في آية السياق والبحث وهو من الثمرات والإيمان بأن يلهج المؤمنون والمؤمنات بالدعاء والتوجه إلى الله عز وجل بالمسألة ، وفيه تنزه عن الشرك ، وطرد للأوهام ، ووقاية من الزيغ واتباع الهوى.
ومن معاني النداء (ربنا) سؤال المدد والعون من الله عز وجل بالتقريب إلى سبل الطاعة ، والعزوف عن السيئات .
والنسبة بين النداء في الآيتين هي العموم والخصوص من وجه.
إذ تضمنت الآية السابقة الإقرار بالحكمة المتعالية في خلق السموات والأرض ، وعلة هذا الخلق ، والغايات الحميدة منه .
فجاء سؤال الوقاية من النار ، فهو سهل يسير على الله ، ومن الجزاء على التفكر الإيماني في الخلائق .
أما موضوع النداء في آية البحث فهو الإقرار بأمور :
الأول : وجود النار في الآخرة .
الثاني : دخول الكفار في النار .
الثالث : اقتران الخزي بدخول النار .
الرابع : ليس للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود أنصار وأعوان وشفعاء في الآخرة .
ترى ما هي النسبة بين النصرة والشفاعة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالنصرة أعم.
المسألة السابعة : لقد ذكرت الآية قبل السابقة تجلي الآيات الباهرات بخلق السموات والأرض لتكون موعظة وسبيل هدى للناس .
ثم جاءت الآية السابقة لتبين انتفاع المؤمنين من هذه الآيات ، وأنهم نالوا مرتبة أولي الألباب لتسخيرهم عقولهم في التدبر في الخلق والتسليم بالعبودية لله عز وجل ، والتصديق بالأنبياء والرسل وما جاءوا به من عند الله عز وجل.
ومن خصائص آية السياق تعدد أحوال المؤمنين التي يذكرون الله فيها ، ويمكن تقدير جمعها مع آية البحث من جهات :
الأولى : الذين يذكرون الله قياماً ينادون ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
الثانية : الذين يذكرون الله قعوداً ينادون ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
الثالثة : الذين يذكرون الله على جنوبهم ينادون ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
الرابعة : الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض يقولون ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
الخامسة : الذين يقولون سبحانك ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
السادسة : اللهم أنت الذي خلقت الخلائق كلها بالحق واللطف ، وأنت المنزه عن النقص والعيب ، ومن الحق لحوق الذل والهوان بالذين يدخلون النار بكفرهم وسوء أعمالهم .
السابعة : الذين يذكرون الله قياماً يقولون ما للظالمين من أنصار.
الثامنة : الذين يذكرون الله قعوداً يقولون ما للظالمين من أنصار.
وهكذا بالنسبة للوجوه السابقة وتقديرها بخصوص خاتمة آية البحث .
وفيه دلالة على قانون التداخل الموضوعي بين الآيات القرآنية المتجاورة لبعث العلماء وعامة المسلمين على إستنباط الأحكام والمسائل من هذا التداخل ، لذا ذكرت آيات السياق أولي الألباب ، والنسبة بينهم وبين العلماء عموم وخصوص مطلق ، وهو من إعجاز القرآن في الوصف الكريم الذي يشمل المؤمنين ، ويخرج الكفار الذين لم يسخروا عقولهم للتدبر في الخلائق واتخاذه مادة للدعاء ، ومقدمة للذكر وأداء الفرائض العبادية ، بل ذات التدبر هو من العبادة .
المسألة الثامنة : من إعجاز القرآن تقدم آية السياق وذكرها خصالاً حميدة للمؤمنين على آية البحث التي تذكر دخول أفواج من الناس النار ، لتبعث آية السياق السكينة في نفوس المؤمنين بسلامتهم من دخول النار بالعمل بمضامينها لبيان قانون الدنيا دار إجتهاد في مرضاة الله ، ودار الإيمان والعمل الصالح الذي هو برزخ وحاجب دون دخول النار في الآخرة .
ومن معاني التفكر في السموات والأرض التنزه عن الغرور والعتو والظلم بادراك صغر وضعف الإنسان بالنسبة لعالم الأكوان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( ).
ومثلاً يقدر عدد النجوم في المجرة التي تنتمي إليها الشمس والقمر والأرض ، وهي مجرة ( درب التبانة) من مائة مليار إلى ثلاثمائة مليار نجم ، وسيصل العلم الحديث ودقة المناظير الفلكية المتطورة إلى إحصاء أدق في عدد النجوم والكواكب وماهيتها ، وبديع خلقها بما يزيد الناس هداية وإيماناً ، وهو من التخفيف عنهم في زمن العولمة ، وتداخل الحضارات والأفكار ، والتقارب بين البلدان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ]( ) .
وهل تدل عظمة خلق السموات والأرض على خلق الجنة والنار ، الجواب نعم ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وهو من أسرار ذكر آية السياق لتفكر المؤمنين بآيات الخلق الكونية ثم تعقبها بآية الدعاء للسلامة من خزي دخول النار ، وكل فرد من الجنة والنار من بديع خلق الله .
المسألة التاسعة : تبين آية السياق في أن التفكر في خلق السموات والأرض عمل ، وإن لم يترجل على الجوارح ، إنما تترشح منافعه عليها بالدعاء والتسليم لله عز وجل باربوبية المطلقة ، والإنزجار عن فعل السيئات ، وهو من بديع صنع الله عز وجل بأن يجعل التفكر في الخلائق وسيلة وبلغة لأداء الفرائض ، وسبباً لامتلاء النفس بالخشية من الله عز وجل.
وهل أدرك المؤمنون هذه النعمة .
الجواب نعم ، لذا قالوا [رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ]( ) ليكون من مصاديق تسخير المخلوقات للناس هدايتهم لسبل الصلاح بالتفكر فيها ، قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
وورد لفظ [سَخَّرَ لَكُمُ] في هاتين الآيتين أربع مرات ، وهل التفكر في خلق السموات والأرض من هذا التسخير ، الجواب نعم.
ومن لطف الله عز وجل عرض الآيات الكونية لكل إنسان ، وتدرك بحاسة البصر وحاسة السمع ، وأيهما أكثر في المقام ، الجواب حاسة البصر لرؤية أنظمة الكون التي هي في الليل غير التي في النهار ، وفي الصيف غير التي في الشتاء ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ]( ).
المسألة العاشرة : لقد تكرر النداء [ربنا] في آية السياق والبحث مع تكرر ذلك ، إذ ورد في آية السياق بصيغة الدعاء .
أما في آية البحث فورد بصيغة الجملة الخبرية ، وهل تدخل في الدعاء أيضاً أم أن الدعاء لا يأتي إلا بصيغة الإنشاء ، الجواب هو الأول ، فآية البحث تدخل في الدعاء ، وتقديرها على وجوه :
الأول : ربنا إننا نقر ونعترف بالجنة والنار ، أما الخلاف هل الجنة والنار مخلوقتان الآن أم لا ، فهو صغروي يجب أن لا يستولي على مباحث علم الكلام والأصول في المقام ، إذ يحتاج الناس جميعاً والمسلمون خاصة لإظهار الإقرار بعالم وأهوال الآخرة .
الثاني : يتفرع عن إعلان المسلمين التسليم بعالم الجزاء الإقرار بالحساب الأخروي الذي يترتب عليه الجزاء .
الثالث : إقرار المسلمين بأن الله يدخل الظالمين في النار دعاء لسلامتهم من ظلم النفس والغير .
وكأن الآية تقول : ربنا إنك من تدخل النار من غيرنا ، وأنا نرجو النجاة من النار ، وأسباب دخولها ، والخزي الذي يصاحب دخولها .
مضامين الآية السابقة رحمة
لقد تضمنت الآية السابقة وهو قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) وجوهاً :
الأول : الثناء على أولي العقول الراجحة .
الثاني : قانون وجوب تسخير العقول في طاعة الله .
الثالث : ذكر الله عن قيام في حال الصلاة وغيرها ، ومن الذكر قراءة القرآن .
الرابع : حرص المؤمنين على ذكر الله وهم قعود في المجالس والمنتديات ، ومن مفهومه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه التنزه عن الغيبة والنميمة لبيان قانون الذكر إصلاح.
الخامس : اشتراك المؤمنين هم وعوائلهم في ذكر الله ، وهو من معاني [وَقُعُودًا] بلحاظ أن المعنى الأعم للقعود هو الإستراحة وفترة التوقف عن العمل ، وساعات الليل التي جعلها الله سكناً يزدان بأنوار الذكر والإستغفار .
السادس : عند الإنسان ساعات عمل وساعات راحة واستراحة ، ولكن ليس من فتور في ذكر المؤمنين لله عز وجل ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( ) .
الجواب نعم ، ليكون ذكر المؤمنين لله عز وجل في كل حال من أحوالهم شاهداً على عبوديتهم التامة لله عز وجل ، والهيام والشوق غير المنقطع للمعبود والمعشوق الذي لا يرضى مزاحمة أحد له في هذا العشق في قلوب وأقوال وأفعال المؤمنين .
و(قال شهر ابن حوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت،
فقال : أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد عليه، ويصوم يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد، ويتصدّق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه، ويحجّ يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه؟
فقال عبادة : ليس له شيء،
إن الله عزّ وجلّ يقول : أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه)( ).
السابع : تبين الآية السابقة أن أولي الألباب أدركوا أن ذكر الله معراج الروح في الدنيا ، والواقية من النار في الآخرة .
ليكون من معاني الجمع بينها وبين آية البحث هداية الله عز وجل للمسلمين والناس لطرق النجاة في النشأتين ، لبيان قانون من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) أي في الدنيا والآخرة .
الثامن : بيان قانون التضاد بين ذكر الله في الدنيا وبين دخول النار ، فالذي يواظب على ذكر الله عز وجل لا يدخله الله عز وجل النار ، لذا من مصاديق الجمع بين الآيتين من يذكر الله لا يخُزى يوم القيامة بدخول النار .
ترى ما المراد من كثرة الذكر ، الجواب كفاية أداء الفرائض العبادية ، فالإتيان بالصلاة اليومية من الذكر الكثير ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
و(عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟
قال : الذاكرون الله كثيراً قلت يا رسول الله : ومن الغازي في سبيل الله.
قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون الله أفضل منه درجة)( ).
التاسع : تبين آية السياق تعدد وجوب العبادة ومظاهر التقوى ، وأنها تشمل كلاً من :
أولاً : ذكر الله عن قيام .
ثانياً : ذكر الله عن قعود وجلوس .
ثالثاً : ذكر الله عز وجل حال الإستلقاء وعند الإستيقاظ المؤقت في دقائق أو عند النهوض في الصباح والنوم .
وعن (أي بن كعب : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ذهب ربع الليل قام ثم قال (يأيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه)( ).
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]( ).
ومن تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للجمع بين الآية أعلاه وبين آية البحث ما ورد عن (عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، فينادي مناد : سيعلم أهل الجمع لمن الكرم اليوم ثلاث مرات .
ثم يقول : أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع .
ثم يقول : أين الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم يقول : أين الحمادون الذين كانوا يحمدون ربهم)( ).
لبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي بتفسير الآية القرآنية ، بل يقوم بتفسير الجامع بين آيتين من القرآن.
حفظ السموات معجزة كونية متصلة
من إعجاز الآية السابقة الإشارة بهذا في قوله تعالى [مَا خَلَقْتَ هَذَا]( )، ولم تقل (وما خلقت ذلك) لبيان أن ما يظهر للناس من السماء والأرض قريب منهم ، ويكفي كحجة في بديع صنع الله ، وبيان قانون أي جزء من ترليونات أجزاء السماء والأرض لا يقدر عليه إلا الله من وجوه :
الأول : خلق هذا الجزء .
الثاني : كل جزء من الكون في أنظمته .
الثالث : استدامة كل جزء من السماء والأرض إلى أن يشاء الله.
الرابع : حفظ الله عز وجل لكل جزء من السموات والأرض في كل ساعة من ساعات النهار والليل .
قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا]( ).
(وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض)( ).
وتتعاقب أجيال الناس على الأرض ، وتدعو السموات والأرض ببديع صنعها الناس للتفكر والتدبر في خلقها ومن غير أن تنقص أو تنحسر مساحاتها ، لبيان قانون لا يثقل الله أو يتعبه حفظ السموات والأرض.
وجوب التفكر
عطفت الآية السابقة الأرض على السموات في التفكر ، وفيه وجوه :
الأول : التفكر في خلق السموات على نحو مستقل .
الثاني : التفكر في خلق الأرض وما فيها من الكنوز والأرزاق وسعتها ، وهل من هذا التفكر القول بكروية الأرض أو عدمها ، الجواب نعم ، والمختار أن الأرض كروية .
والتفكر في كل من السماء والأرض متجدد في موضوعه بلحاظ إطلاع أهل الأقطار على ما حولهم ، وبلحاظ الإكتشافات العلمية في هذا الزمان .
الثالث : التفكر في السماء والأرض مجتمعين وكيف أنهما خلقا بنظام دقيق منقاد لأمر الله عز وجل ، قال تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( ).
وتقدير آية السياق ، ويتفكرون في خلق السموات وخلق الأرض .
ترى لماذا ذكرت الآية السموات بصيغة الجمع ولم تقل : خلق كل سماء أو خلق السماء ، الجواب لبيان تفقه المؤمنين في المعارف الإلهية ، وإدراكهم تعدد السموات والكواكب التي فوقهم ، ليكون التفكر أكثر كماً وكيفاً وموضوعاً ونفعاً وأثراً.

نعمة التدبر في الخلق
تضمنت آية السياق تفكر وتدبر المؤمنين في خلق السموات من جهات :
الأولى : عجز الناس عن معرفة المادة التي خلقت منها الأكوان ، لأن الله عز وجل خلقها بقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وهذا لا يمنع من وجود أصل مادي للأكوان ، ولكنه أصل بسيط عاجز عن التكون والتآلف والإجتماع بمفرده ، وهو الذي دلت عليه اكتشافات سطح القمر ، والنيازك والأتربة الكونية بما يفيد اتحاد ماهية أصل الكون ، كالدخان وتسمية أصل مجاز وللبيان إنما الأصل هو إيجاد الله الأكوان بالكاف والنون.
الثانية : الإبداع في خلق السموات والأرض .
الثالثة : كل كوكب عالم خاص في كيفية خلقه وهيئته وأوان خلقه ومدة بقائه وسبحه في الفضاء ، وما يسمى (النسبية الزمنية).
لبيان قانون الموت ملازم للمخلوقات ، فلابد أن يدرك التلف الكوكب وإن كان عمره بملايين السنين .
ومن النجوم ما تسمى (النجوم الميتة) تموت مع ميلاد كواكب أخرى ،قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
الرابعة : في السماوات مليارات الكواكب ، فمهما إزداد عدد سكان الأرض فان عدد الكواكب الضخمة أكثر منه ، وكل كوكب عالم بديع في الخلق .
وتبين الآية أعلاه منافع التفكر ، وضرورة اتخاذه بلغة للإقرار بأن الله عز وجل هو الذي خلق الأكوان كلها ، وللتسليم بالربوبية المطلقة له سبحانه ، واتخاذ هذا الإقرار والتسليم مناسبة ووسيلة لسؤال النجاة من النار الذي تضمنته خاتمة الآية السابقة ، ومضامين آية البحث .
قانون التفكر في الخلق نجاة
من وظائف العقل التفكر في خلق السموات ، ودلالة عظمتها على بديع صنع الله عز وجل ، لذا خص الله أولي الألباب بهذا التفكر .
ومن فضل الله على أهل هذا الزمان والأزمنة اللاحقة الإكتشافات العلمية التي تجعل الناس جميعاً يتفكرون في آيات السموات الباهرة ، والتي تفوق التصور الذهني ، فمع تعدد المؤثرات على الإنسان ووسائل الإتصال التي تحمل الغث والسمين ، تأتي الإكتشافات لجذب الناس إلى التفكر في خلق السموات والأرض .
ترى لماذا خصّ الله عز وجل أولي الألباب بهذا التفكر ، الجواب من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل برزق كل إنسان العقل ، والتفكر من وظائف العقل .
الثاني : تسخير المؤمنين عقولهم للعبادة والتفكر في خلق السموات والأرض .
الثالث : الثناء على المؤمنين .
الرابع : بعث الناس للإقتداء بالمؤمنين في التفكر بالآيات الكونية واستقراء الدروس منها.
الخامس : قانون ذات التفكر عبادة ، وهو الذي تشير إليه هذه الآية ، وما تدل عليه من ترغيب بالتفكر في خلق السموات والأرض ، ويكون التفكر في الخلق على أوجه :
الأول : التفكر بالخلق أثناء الصلاة والتدبر في الآيات .
الثاني : التفكر بالخلق في حال الصيام والحج وغيره من العبادات ، وبخصوص الذكر في الحج ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ]( )وقال تعالى بعدها بآيتين [فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ]( ) .
الثالث : التفكر بالخلق وبدائع صنع الله عز وجل خارج الصلاة والعبادة .
فمن فضل الله عز وجل على الناس التخفيف عنهم بقلة وقصر الوقت الذي تستغرقه الفرائض العبادية ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( )، ولا يأخذ مجموع الصلوات باليوم والليلة إلا نحو نصف ساعة ، لتكون من أعظم أسباب النجاة في الدنيا والآخرة .
ومن معاني آية البحث التحذير من أمور :
الأول : سوء العاقبة في الآخرة .
الثاني : دخول النار .
الثالث : مصاحبة الخزي في الآخرة .
الرابع : إنعدام النصير يوم القيامة .
وهذه الأمور مع كثرتها تطفئها الصلاة ، وتغلق الكوة والطريق إليها.
قانون التفكر واقية من الخزي
يتجلى قانون من الإرادة التكوينية ، وهو تفضل الله في هذه الآيات بمقدمات وأسباب التفكر في بديع الخلق ، وبما يلائم حال الفرد والطائفة والناس جميعاً .
وهل من مصاديق صيغة الجمع [يَتَفَكَّرُونَ] اشتراك الجماعة والرهط من ذوي الألباب في التفكر ، أم أن التفكر لا يقبل الإشتراك بلحاظ أنه فعل عقلي وكيفية نفسانية ، الجواب هو الأول ، ومنه التدارس العام للإكتشافات الفلكية المتجددة ، وإقرار الإنسان طوعاً أو قهراً بوجود الصانع ، ووجوب عبادته .
ومن مقدمات تفكر الناس في الخلائق تسخير الله عز وجل لها للناس ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ) ومنه آيات القصص والأمثال في القرآن والسنة النبوية القولية في بيان أسرار الخلق ، قال تعالى [فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
وورد لفظ [يَتَفَكَّرُونَ] إحدى عشرة مرة في القرآن ، وفيه دعوة للتفكر والتدبر في سنخية وبدائع الخلق ، ولزوم التحلي بالتقوى والخشية من الله ، فكل فرد من هذه الكلمات وموضوعها سبيل للنجاة من النار والخزي الذي يلحق أصحابها .
ومن إعجاز نظم القرآن عدم مجئ آية الخزي بدخول النار إلا بعد آية الإقامة والمواظبة على ذكر الله ، والتفكر في كنوز الخلق ، وعظيم قدرة الله.
لتكون الآية السابقة باعثاً للسكينة في نفوس المؤمنين من أهوال يوم القيامة ، وواقية من عذاب النار.
وهل التفكر في خلق السموات والأرض واجب ، الجواب نعم ، وورد في باب البحث الأصولي أنه واجب معين في مقابل الواجب التخييري.
وهل التفكر بخلق السموات والأرض واقية من العذاب الأليم الذي تذكره آية البحث ، أم أنه مقدمة لإتيان سبل الوقاية منه كأداء الصلاة والصيام والإمتناع عن الفواحش .
الجواب الأمران معاً ، وهو من فضل الله عز وجل بكثرة سبل الوقاية والإحتراز من النار ، فذات التفكر السموات والأرض ، والإقرار بأن الله عز وجل هو الذي خلقها عمل عبادي ، وهو طريق ومقدمة لأفعال علبادية تنجي من النار .
وهو من أسرار ورود النداء (ربنا) في الآية السابقة وآية البحث والآيتين التاليتين ، لتتعقبها الإستجابة من الله عز وجل بذات لفظ الربوبية [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ]( ).

لفظ باطلاً
من خصائص القرآن أن كل كلمة منه حق وصدق ونازلة من عند الله عز وجل ، وسالمة من الضياع والتبديل والحذف ، قال تعالى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
وتبين كلمات القرآن القبح الذاتي للباطل وتبعث النفرة منه .
ورد لفظ (باطلاً) بالنصب في القرآن مرتين ، وكلاهما في ذات الموضوع ، وبصيغة النفي ، إحداهما في الآية السابقة ، والأخرى قوله تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ]( ).
وتقدير الآية أعلاه : الذين كفروا بالله وبديع صنعه ، ورسله يدركون قانون عاقبة الكفر النار .
وجاءت آية البحث بالإنذار مع إضافتها لخصلة من خصال المؤمنين الحميدة وهي الدعاء للنجاة من النار ، وشدة لهيبها ليكون الدعاء منطوقاً ومفهوماً حجة وبلغة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
وعن الأوزاعي (إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : يا جبرئيل صف ليّ النّار فقال : إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها .
والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوباً من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أنّ ذَنوَباً من سرابها صبّت في الأرض جميعاً لقتل من ذاقه ، ولو أنّ ذراعاً من السلسة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلّت.
ولو إنّ رجلاً دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرئيل لبكائه.
وقال : أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر.
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً.
ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح الأمين أمين الله على وحيه .
قال : أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت. فهو الّذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من السّماء أنً يا جبرئيل ويا محمّد إنّ الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ففضّل محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء)( ).
معجزة أوقات الصلاة
كل من الليل والنهار مخلوقان لله عز وجل لا يخرجان عن أمره ، فجعلهما الله عز وجل وعاءً زمانياً لعبادة الناس له وللنجاة من دخول النار الذي تذكره آية البحث ، وما يصاحبه من الخزي ، ويتجلى الإعجاز للناس جميعاً في كل ساعة في الآيات الكونية بظهور اختلاف الليل والنهار على الأرض .
ومن اختلاف الليل والنهار التباين بينهما في مشارق ومغارب الأرض في الوقت الواحد ، فمن بقاع وأمصار الأرض ما يكون نهاراً ومنها ليلاً.
ومنها ضحى ومنها ظهراً أو عصراً أو غروباً أو نصف النهار أو الليل في ذات اللحظة ، وهل هذا المعنى من المقصود في آية السياق ، أم المراد خصوص اختلاف الليل والنهار في اليوم الواحد .
الجواب هو الأول ، ليأتي التقارب بين البلدان في هذا الزمان ، ووسائل التواصل الإجتماعي فيدرك الناس جميعاً هذا الإختلاف ، وفيه مسائل :
الأولى : إنه من موضوع التفكر في قوله تعالى في الآية السابقة [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( )، بلحاظ أن اختلاف الليل والنهار من فروع هذا الخلق .
الثانية : قانون ترشح مليارات الآيات الكونية من خلق السموات والأرض ، وهي دعوة للناس للإيمان .
الثالثة : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه ، وهو دعوة للناس للإيمان.
قانون اختلاف الليل والنهار باعث لأداء الصلاة في أوقاتها وهو من مصاديق [وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( )، ليكون من معاني هذا التسخير تعاقب الليل والنهار وأداء المسلمين والمسلمات الصلوات اليومية الخمسة.
ومن الآيات في توزيع أوقات الصلوات اليومية وقوع صلاة الصبح عند الفجر ، وصلاة المغرب عند غروب الشمس .
وفيه إعجاز لأوقات الصلاة بلحاظ آيات القرآن من جهات :
الأولى : قانون الصلة بين كل آية من القرآن وكل وقت من الصلاة .
الثانية : قانون موضوعية أحكام الآية القرآنية بلحاظ أوقات الصلاة .
الثالثة : قانون أوقات الصلاة اليومية مدد للتدبر في آيات القرآن،والعمل بأحكامها لوجوب تلاوة آيات من القرآن في كل ركعة من الصلاة .
الرابعة : مناجاة المسلمين الله رب العالمين في آنات الليل والنهار.
الخامسة : من النعم في تعدد أوقات الصلاة سؤال المسلمين الله عز وجل النجاة من دخول النار ، وهذا السؤال قولي بتلاوة آية البحث ، وفعلي بأداء الصلوات في أوقاتها .
السادسة : قانون أداء الصلاة واقية من الخزي الذي تذكره آية البحث ، فهو ملازم لأهل النار ، والصلاة واقية من النار وما يلازمها ، قال تعالى [اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ) ليكون من معنى الإستعانة في الآية أعلاه اتخاذ الصلاة واقية من النار.
الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة ، وهو قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ) ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من خصائص القرآن والكتب السماوية السابقة تضمنها لثناء الله عز وجل على نفسه ، ليتلو المؤمنون هذا الثناء ويكون سبيل هداية ورشاد ، واختص القرآن بأن تلاوة هذا الثناء في آياته مناسبة للأجر والثواب .
ففي تلاوة كل حرف من القرآن عشر حسنات ، فاذا كانت الكلمة تتألف من سبعة أحرف ، ففيها سبعون حسنة .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقرأوا القرآن ، فإنكم تؤجرون عليه . أما إني لا أقول { الم } حرف ، ولكن ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر ، فتلك ثلاثون)( ).
وفيه بعث للشوق في النفوس بتلاوة القرآن والإصغاء له ، والتدبر في معانيه .
وهل تدبر أولي العقول بالخلائق علة تامة للخلق ، الجواب لا ، فلا يعلم أفراد ومنافع هذا الخلق إلا الله عز وجل ، فهذا الخلق آيات للملائكة ، وللجن ، والناس ، ولذات السموات والأرض وما فيهما ، لذا ترى الملائكة منقطعين إلى التسبيح والذكر .
المسألة الثانية : تقدير آية السياق على وجوه :
الأول :إن في خلق السموات لآيات لأولي الألباب .
الثاني : إن في خلق الأرض لآيات لأولي الألباب .
الثالث : إن في خلق كل من الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.
الرابع : إن في إختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .
الخامس : إن في خلق السموات والأرض سبب لسؤال الناس الله عز وجل النجاة من النار ، لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] وفيه شاهد على التوسعة في عالم الأكوان .
المسألة الثالثة : أخبرت آية السياق عن قدرة الله المطلقة ، وأنه لا تستعصي عليه مسألة ، ومنه إستجابة الدعاء بالوقاية من النار ، ليكون من معاني آية السياق الترغيب بالدعاء ، ليكون تقدير الجمع بين هذه الآيات على وجوه منها :
الأول : والله على كل شئ قدير اللهم فقنا عذاب النار .
الثاني : الله على كل شئ قدير ، وهو الذي ينجي المؤمنين من دخول النار .
الثالث : من عظيم قدرة الله نجاة المؤمنين من الخزي في الآخرة ، وفي التنزيل [قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الرابع : إن الله على كل شئ قدير فادعوه لأمور الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) وتقيد هذه الآية موضوع الدعاء ، أو قرب موضوعه أو بعده لأن الله عز وجل على كل شئ قدير ، ومن رحمته حتمية الإستجابة في ذات موضوع الدعاء أو في غيره ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ]( ).
وهل خلق السموات والأرض آيات لأولي العقول والتدبر في الحياة الدنيا وحدها أم في الدنيا والآخرة ، الجواب هو الثاني .
مصاديق الإختلاف بين الليل والنهار
من الآيات الكونية كثرة وجوه الإختلاف والتباين والتضاد بين الليل والنهار ، وهو على شعب :
الشعبة الأولى : الإختلاف في ذات النهار ، وهو على وجوه :
الأول : تعدد مطالع الشمس ، فكل شروق من مطلع جديد طيلة أيام السنة .
الثاني : الأيام أفراد غير ارتباطية ، فكل يوم وحدة زمانية قائمة بذاتها تبدأ بطلوع الشمس وتنتهي بغروبها .
الثالث : تشرق الشمس من الأفق الشرقي وتغيب في الأفق الغربي .
الرابع : التباين في طول وقصر أيام السنة ، فطول كل يوم منها غير طول ومدة الآخر .
الخامس : ازدياد ضياء الشمس من حين طلوعها إلى الزوال ، ثم ابتداء الشمس بالزوال إلى جهة الغرب عند الظهيرة ، والتباين في الظل والفيئ .
السادس : ازدياد حرارة الشمس وقت الظهيرة ،وظهور أثرها على عالم الأفعال .
السابع : ميل الإنسان للعمل في النهار ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا]( )
لبيان مصداق لتسخير الشمس للناس ببعثهم على الكسب والجد والعمل في النهار فهي عون ومدد لهم وباعث على الأمل .
الشعبة الثانية : الإختلاف في ذات الليل من وجوه :
الأول :التباين في طول وقصر الليل .
الثاني : فكل ليل في طوله غير الليل الآخر في طول ليالي السنة .
الثالث : ظلمة الليل التي هي نقيض ضياء الشمس .
الرابع : كل ليلة تطرأ على الناس عالم مستقل فيه البهجة والسكينة .
الخامس : برودة الهواء وعذوبة النسيم في الليل ليتدبر الناس في هذه النعمة ويشكروا الله عليها .
السادس : إطلالة الهلال في الليل وأخذه بالإتساع إلى نصف الشهر حيث يصير بدراً ثم يأخذ بالنقصان إلى ليالي المحاق في آية كونية تدعو الناس للإيمان ، وسؤال الله عز وجل النجاة من عذاب النار ، وليكون هذا السؤال من مصاديق قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ…]( ) فمن معاني [لِلنَّاسِ] إنتفاع عامة الأجيال من تعدد إطلالة الهلال وضبط الشهور للحساب ، والمواقيت في المعاملات ، والديون ، والزراعات ، والتجارات ، وعدة المرأة المطلقة ، والمتوفى عنها زوجها .
وأيضاً في إدراك الناس بأن الله عز وجل هو خالق الشمس والقمر ، وهو الذي خلق الناس في دنيا الإمتحان ، والإختبار ، والإبتلاء ليقفوا بين يديه للحساب والجزاء فتفضل الله عز وجل بآية البحث لسؤال المسلمين الله عز وجل للنجاة من العذاب في النار ، والذي يدل بالدلالة التضمينة على إيمان المسلمين بالآخرة وأهوالها ، وأن الجنة حق والنار حق .
السابع : من مصاديق تسخير الآيات الكونية للناس صيرورة غياب الشمس في الليل مناسبة لراحة الأبدان ، وفتور الجوارح عن الحركة وبرودة الجو ، وإمتناع الناس عن الإنتشار في طلب المعاش ، والسعي في الأرض ، مع الميل إلى الراحة والنوم ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا]( ).
الثامن : الليل وعاء زماني للإستغفار ، واستحضار الأفعال في النهار ، والإستعداد لبدء نهار جديد لا يتخلف عن أوانه أبداً ، وإن تخلف الإنسان عن الإنتفاع عنه .
وأقبح وجوه هذا التخلف هو الكفر الذي يؤدي إلى الخزي في الدنيا والآخرة ، ليكون من مصاديق آية البحث ذم أولئك الذين لم ينتفعوا من اختلاف الليل والنهار للتوبة والإنابة .
التاسع : من الإعجاز في التباين بين سنخية النهار والليل ، أن الليل مناسبة لزيادة النسل ، وتعاهد عمارة الأرض بالوجود الإنساني ، ليكون هذا الوجود خزياً للكافر الذي يعيش أيامه بالعزوف عن وظائفه العبادية ، وعن الذكر حتى يغادر الدنيا .
الشعبة الثالثة : الإختلاف بين النهار والليل ، وهو ظاهر قوله تعالى [وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ]( ) للتباين بينهما ، وهذا التباين على وجوه :
الأول : تجلي معجزة ضوء النهار بالمقارنة بظلمة الليل ، وكذا تجلي معجزة ظلمة الليل بالمقارنة مع ضياء النهار ، وقال الشاعر :
(فالوجه مثل الصبح مبيض … والفرع مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا … والضد يظهر حسنه الضد)( ).
الثاني : اختلاف ساعات النهار والليل ، فما يزيد وقت أحدهما الا ينقص الآخر ، قال تعالى [يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ]( )، ويغشي أي يدخل فيه وتكون ظلمة الليل كالغشاء لضياء النهار.
[يَطْلُبُهُ حَثِيثًا]( )، أي يسعى لتغشيه واخراجه وضياءه من الأرض سريعاً ، ومن الإعجاز نسب الله عز وجل الفعل لليل وجاء في ذات الآية بأن كلاً من الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وأن الله عز وجل هو الذي خلقها والأمر له وحده سبحانه لمنع الإفتتان بالكواكب والنجوم .
الثالث : تفكر المؤمنين في التباين والإختلاف بين الليل والنهار .
الرابع : تجلي اختلاف الليل والنهار على طبائع وسلوك الناس بالعمل في النهار والسكن في الليل.
قانون نزول الملائكة
من رحمة الله ، والتداخل بين السماء والأرض ، ورشحات خلقهما من عند الله عز وجل وحده وجوه :
الأول : ليس من حصر لأشخاص الملائكة الذين نزلوا وينزلون للأرض .
الثاني : لا يعلم عدد المرات التي نزل فيه الملائكة للأرض إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ]( ) .
الثالث : قانون كل مرة ينزل فيها ملك أو ملائكة للأرض رحمة للناس ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
من إعجاز القرآن فوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنصرة خاصة بنزول الملائكة لنصرته ، وذكرهم بصفات منها ما لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة وهي :
الأولى : مردفين بخصوص نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بألف من الملائكة في معركة بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثانية : صفة [مُنْزَلِينَ] لتأكيد قانون نصرة أهل السماء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( )
نعم ورد لفظ [مُنْزِلِينَ] بصيغة اسم الفاعل ثلاث مرات ، ومنه قوله تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ]( ) لبيان أن الله عز وجل وحده القادر على إنزال الملائكة والكتب السماوية والوحي ، ولا يقدر الملائكة النزول إلى الأرض إلا بأمر وإذن من عند الله عز وجل .
الثالثة : مُسومين ، أي معلمين بعمائم ، وقيل أن خيلهم كانت مجزورة الأذناب ، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله {مسوّمين} قال : معلمين ، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائمَ سوداً ، ويوم أحد عمائمَ حمراً)( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال ( كانت على الملائكة العمائم البيض المرسلة يوم بدر)( ).
ترى لماذا كانت الملائكة معلمة يوم بدر وأحد ، الجواب من جهات :
الأولى : بيان المائز بين الملائكة والناس في ميدان القتال .
الثانية : استعداد وتهيئ الملائكة للقتال وإخافة المشركين يوم بدر أو أحد أو الخندق .
الثالثة : أداء الملائكة وظائفهم حسب الأوامر من عند الله عز وجل .
الرابعة : تفاخر الملائكة بدفعهم الكفار المعتدين.
وبدفاعهم عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل والصحابة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الخامسة : بعث الرعب والفزع في قلوب المشركين وبعثهم على الفرار ، فهذا النزول من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
السادسة : تجلي الشواهد الحسية لنزول الملائكة ، فحينما أخبر الله عن الإستجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بقوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
تفضل الله باظهار المصداق المادي والحسي لهذه الإستجابة ليثبت المسلمون في ميدان الدفاع وينقلون للتابعين والأجيال المتعاقبة مصاديق هذه الإستجابة .
السابعة : بيان قانون التداخل والتقارب بين سكان السموات والأرض بما فيه النفع العام ، واستدامة كلمة التوحيد في الأرض بين الملائكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).

الشعبة الثانية : وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية التالية وهو قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ابتدأت كل من الآيتين بالنداء [رَبَّنَا] بقول المسلم الغني والفقير والسيد والعبد ، والكبير والصغير ، والرجل والمرأة لا يتخلف أحد منهم عن قول [رَبَّنَا] وما يدل عليه من الإقامة على التوحيد ، والتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة .
ولما ذكرت الآية قبل السابقة تفكر المؤمنين بخلق السموات والأرض ابتدأت آية البحث والآيتان التاليتان بقول [رَبَّنَا] لبيان الإنتفاع الأمثل من التفكر في خلق السموات والأرض ، وصيرورته مقدمة ونوع طريق للثبات في مقامات الهدى والإيمان .
وورد النداء في هذه الآيات بصيغة الجمع [رَبَّنَا] لبيان تسليم المسلمين والمسلمات بالعبودية لله عز وجل وحده.
وهل معناه أن المسلم يتلو هذه الآيات ويدعو الله عز وجل فيحسب الله عز وجل الدعاء صادراً من المتعدد والكثير من المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من أسرار انتفاع الأب الميت من ابنه الحي.
المسألة الثانية : لقد أخبرت آية البحث عن حتمية دخول طائفة من الناس النار وإن جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية ، واقترن هذا الدخول بالخزي فهو يلحق بهم ويصاحبهم .
ومن الآيات ورود هذه الحتمية على لسان الذين آمنوا ، ويتلوها كل مسلم ومسلمة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ]( ).
وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في توارث أمته مفاهيم التقوى ، والتصديق بأصول الدين ، وإنذار الذين كفروا وحالما ذكر المسلمون النار استحضروا بالوجود الذهني شدة لهيبها وعذابها الذي لايطاق ، فلجأوا إلى الله عز وجل في الآية التي بعدها مع التذلل والمسكنة لمقام الربوبية وقدموا بين أيديهم إيمانهم ونطقهم بالشهادتين ، ليكونا شفيعاً لهم عند الله للنجاة من النار وما يصاحبها من الخزي .
وتتصف آية السياق باظهار المسلمين الإيمان ، وتعدد المسألة فهل لآية البحث موضوعية فيه ، الجواب نعم ، فمن مصاديق الإيمان الذي أظهروه الإقرار بأن النار حق ، وأن سؤال الوقاية منها والعمل للنجاة من أليم عذابها واجب ، فجعله الله عز وجل قريباً من كل مسلم بتلاوة هذه الآيات.
المسألة الثالثة : تتصف كل من آية البحث والسياق بأمور :
الأول : صيغة الجملة الخبرية .
الثاني : ابتداء كل من الآيتين بنداء الدعاء والتضرع (ربنا).
الثالث : صدور الدعاء في الآيتين من المؤمنين الذين وصفتهم الآية قبل السابقة بـ(أولي الألباب).
الرابع : الدلالة على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة.
ويحتمل المنادي في آية السياق وجوهاً :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقدير الآية : سمعنا رسول الله محمداً ينادي للإيمان.
الثاني : القرآن وتقدير الآية : سمعنا القرآن ينادي للإيمان.
الثالث : كل نبي من أنبياء الله ، وكل كتاب سماوي .
الرابع : سمعنا الذي يتلو آيات القرآن ينادي للإيمان.
وعلى تقدير هذا المعنى ، هل تشمل الآية تلاوة الكفار والركبان للقرآن في بداية الدعوة ، الجواب نعم ، إذ كانوا ينقلون آيات القرآن إلى الناس بعد سماعها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الأوائل في مكة أيام موسم الحج ، وطيلة أيام السنة خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرص على الصلاة في المسجد الحرام ويتلو القرآن .
و(عن ابن عباس في قوله [وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ] الآية( )، قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة متوار ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به.
فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم [وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ] أي بقراءتك ، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن [وَلَا تُخَافِتْ بِهَا] عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك [وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا] يقول : بين الجهر والمخافتة)( ).
ومن مصاديق الآية أعلاه حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من بطش وانتقام قريش وقد ينقل إنسان القرآن إلى غيره على نحو الإخبار عن بعثة خاتم الأنبياء ، أو لإرادة الاستهزاء والسخرية ، ولكن السامع يتلقى الآيات بالقبول والتصديق ، وهو من المعجزات الغيرية للقرآن.
الخامس : بيان قانون وجود منادي للإيمان في كل زمان ، وهو من أسرار قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه لرحمة الله بالناس بتعدد المنادي إلى الإيمان.
ليكون هذا الحفظ نداءً متجدداً في كل يوم للناس ، ويشمل الدعوة والنداء للإيمان قول الله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( )، وسيأتي مزيد كلام في تفسير الآية التالية إن شاء الله .
المسألة الرابعة : تتصف آية السياق بتكرار النداء (ربنا) بما يدل على تفقه المؤمنين في الدين ، وأنهم لم يسألوا الله المغفرة إلا بعد أن أعلنوا إيمانهم وأقروا بالتوحيد والعبودية لله عز وجل والتنزه عن الشرك.
ومن الإعجاز في نظم الآيات ومجئ آية السياق بعد آية البحث الإقرار بوجود الجنة والنار ، وأن الله عز وجل يخزي أهل النار وإدراك المؤمنين أن دخول النار بسبب الكفر والجحود فاخبروا بأنهم آمنوا لقانون التضاد بين الإيمان ودخول النار وأن الله عز وجل لا يدخل المؤمنين النار.
لذا حينما ذكرت آية البحث النار ، وإنعدام الناصر للظالمين ، خلت آية السياق من الإنذار والوعيد والتخويف فجاءت مضامينها باعلان حب المؤمنين لله عز وجل ، وإتباعهم الرسول ، ورجاء أمور :
الأول : المغفرة .
الثاني : محو السيئات ، والوقاية من تبعاتها وشرها .
وقيل المراد بالذنوب الكبائر ، وبالسيئات الصغائر واستدل عليه بقوله تعالى [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا]( )، ومعنى آية السياق أعم .
الثالث : الوفاة على الإيمان ، وفي جملة المهتدين .
و(عن أبي قرصافة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم لا تخزنا يوم القيامة ، ولا تفضحنا يوم اللقاء)( ).
فسأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلامة من الخزي الذي ذكرته آية البحث ، ولم يكن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه بل للمسلمين والمسلمات بقوله (اللهم لا تخزنا) وهذا العموم الإستغراقي من مصاديق حفظ وتوثيق المسلمين للسنة النبوية.
و(أبو قِرْصَافة جندرة بن خَيشَنة، له صحبة)( ).
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار)( ).
المسألة الخامسة : تتضمن كل من آية البحث والسياق الثناء على الله عز وجل من وجوه :
الأول : قانون وجوب الإيمان بالله عز وجل .
الثاني : قانون تقاليد الأمور بيد الله عز وجل .
الثالث : قانون رفع اليدين بالدعاء إلى الله عز وجل وحده .
الرابع : قانون صيرورة النار ودخولها زاجراً للناس عن فعل السيئات ، فلا يعلم منافع الوعيد بالنار في استقامة وتوبة وصلاح أعداد الملايين من الناس إلا الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، وقد صدر لي والحمد لله الجزء الخامس والأربعون بعد المائتين ، والسابع والأربعون بعد المائتين بقانون (علم الإحصاء القرآني غير متناه).
الخامس : اللطف الإلهي بدعوة الناس للإيمان ، ومن مصاديق الجمع بين الآيتين إسماع الناس جميعاً النداء للإيمان ، ولكن طائفة أعرضت عنه وأقامت على الكفر وهم الذين يدخلهم الله النار ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
المسألة السادسة : أخبرت آية السياق عن وجود مناد للإيمان لبيان أن الله عز وجل رزق الإنسان حاسة السمع لتسخيرها في الهداية إلى الإيمان ، وأداء الفرائض العبادية ، وهو من الشكر لله عز وجل على هذه النعمة العظمى التي لم تكن وحدها في الدعوة إلى الإيمان بل إن التنزيل والآيات الكونية تدعو إليها وكذا معجزة خلق الإنسان ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
وهل مضامين آية البحث من الإيمان الذي تدعو إليه آية السياق ، الجواب نعم ، لأن المراد من الإيمان سور الموجبة الكلية الشامل للإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب السماوية واليوم الآخر ، ومنه الجنة والنار .
وقانون التحلي بالإيمان والتقوى واقية من دخول النار ومن الخزي في الآخرة .
المسألة السابعة : يمكن تقدير آية السياق بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : ربنا إننا سمعنا منادياً للإيمان للمنع من دخول النار .
الثاني : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان للوقاية من الخزي يوم القيامة ، للتضاد بين ثواب الإيمان والخزي في الآخرة .
الثالث : ربنا إننا سمعنا منادياً أن آمنوا بالله للسلامة من دخول النار.
الرابع : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته لأنه سمع المنادي للإيمان ، ولم يؤمن بالله .
المسألة الثامنة : من معاني الجمع بين آية البحث والآية التالية الثناء من المسلمين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والشهادة له بأنه قام بتبليغ الرسالة بما أدى إلى هدايتهم ورشادهم وصلاحهم .
وتقدير آية السياق بلحاظ آية البحث على وجوه:
الأول : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي من تدخل النار فقد أخزيته .
الثاني : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي ما للظالمين من أنصار.
وكل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن يخبران عن قانون إنتفاء الناصر للظالمين .
الثالث : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان والأمن من دخول النار .
الرابع : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان ، وفيه إنذار للظالمين.
الخامس : ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي بين الناس جميعاً من تدخل النار فقد أخزيته .
السادس : ربنا إننا آمنا فاعصمنا من دخول النار .
السابع : ربنا أغفر لنا ذنوبنا ، فمن تغفر من ذنوبه لا تدخله النار .
الثامن : ربنا كفّر عنا سيئاتنا .
التاسع : ربنا توفنا مع الأبرار فما للظالمين من أنصار .
ابتداء الآيات المتتالية بنداء التوحيد
إبتدأت آية البحث والسياق بالنداء (ربنا) وهل فيه استجارة من النار ، الجواب نعم ، وهو من لطف الله عز وجل وقبوله الأعمال بالنيات ، وعلمه بضعف الإنسان وتفضل الله في مده بالعون ويدل عليه قوله تعالى [وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( )، وفي تكرار ابتداء هذه الآية والآيتين التاليتين بالنداء (ربنا) وجوه :
الأول : الشهادة على الإيمان ، فمن إعجاز القرآن قانون الآية القرآنية شاهد على الإيمان لما فيها من حكاية قول المسلمين .
الثاني : لقد ابتدأ دعاء الإستجارة من النار بالنداء (ربنا) في أول آية البحث ، وأختتمت بذات النداء في أول الآية التالية ، فصحيح أن هناك فاصلة بين الآيتين ولكنها لا تمنع من تتداخل معنى الآيتين ، وموضوعية النداء في آية البحث في مضامين الآية التالية ، وكذا العكس بموضوعية النداء (ربنا) في أول الآية التالية في مضامين ودلالات آية البحث وترشح تعدد التفسير من هذا التداخل .
الثالث : بيان قانون علو همة المسلمين في الدعاء والمسألة ، وكثرة لجوئهم إلى الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ]( ).
الرابع : تتصف آية البحث والآيات المجاورة لها بأن موضوع الدعاء فيها هو عالم الآخرة والنجاة يومئذ من النار ، مما يدل على مرتبة الفقاهة العالية عند المسلمين وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن صار المسلمون يعطون الأولوية للدعاء والإلحاح بالنجاة من النار وهو من مصاديق فضل الله عز وجل عليه بتسميتهم أولي الألباب كما في الآية السابقة بقوله تعالى [لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وهل اجتهاد المسلمين في تلاوة القرآن والدعاء للنجاة من النار يوم القيامة من مصاديق استحقاق صفة [ِأُولِي الْأَلْبَابِ]الجواب نعم ، وإن كانت هذه الصفة أعم وتشمل المسلمين والمؤمنين في الأجيال المتعاقبة من أيام أبينا آدم عليه السلام .
لقد أبتدات آية البحث والآية التالية ، وآية السياق بالنداء (ربنا) مع إتصال وإتحاد الموضوع ، ويمكن أن نسميه أصطلاحاً (عطف النداء).
تكرار النداء (ربنا) من التقوى
ابتدأت كل من آية البحث واللتان بعدها بالنداء [رَبَّنَا] لبيان أن المسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين ينادون الله بلغة التوسل والتضرع من منازل العبودية ، والنداء في المقام من مصاديق الدعاء برفع الصوت ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن جهراً ، وقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أيام البعثة الأولى برفع صوته بهذا النداء المبارك .
ومع أن حرف النداء قد يحذف للبلاغة والإيجاز كما في قوله تعالى [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا]( ) فان هذا الحرف يمتنع حذفه مع اسم الجلالة [الله] إلا إذا وردت الميم المشددة في آخره كما في التنزيل [دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ]( ).
ومن معاني ابتداء ثلاث آيات متتاليات في المقام بالنداء [ربنا] تأديب للمسلمين على الإقامة في منازل العبودية والبراءة من الشرك ، وهذا التكرار من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ) .
لبيان اللطف الإلهي بتقريب الناس إلى عبادته بتعليمهم صيغ الدعاء ، وما فيها من الشهادة على عبوديتهم لله عز وجل ، وتقدير الآية أعلاه ليعبدونِ بقول ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
ومع ابتداء آية البحث والآيتان التاليتان بالنداء (ربنا) فقد تكرر النداء (ربنا) في الآية التالية مرتين لبيان حاجة العباد للإلحاح بالدعاء والذي يتضمن تعظيم مقام الربوبية وجاء الأول بصيغة الجملة الخبرية ، أما الثاني فورد بصيغة الجملة الإنشائية رجاء المغفرة والعفو من عند الله ، والرجاء لتحقق مصداق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
ومن التقوى الإنقطاع إلى الله بالدعاء ، وأداء الفرائض العبادية ، والموت على الإيمان الذي يتجلى في السؤال كما في خاتمة آية السياق [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ]( ).
حديث القارورتين
عن عكرمة (عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر، قال: “وقع في نفس موسى: هل ينام الله؟ فأرسل الله إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما”.
قال: “فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان” قال: “ضرب الله له مثلا عز وجل: أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض)( ).
وقال ابن كثير (وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع) ( ).
وعن سعيد بن جبير(عن ابن عباس: أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله.
فناداه ربه عز وجل: يا موسى سألوك: هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا. فقال: يا موسى، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك. وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم آية الكرسي)( ).
وأخرج ابن أبي حاتم الحديث عن الصحابي عبد الله بن سلام ، ولم يرفعه ( ).
وورد الحديث عن عكرمة وعن سعيد بن جبير من غير أن يرفعاه ، وكل منهما مولى لابن عباس ، وممن سمع منه ، ومن التابعين ، وكذا ورد عن التابعي ابي بردة بن ابن موسى الأشعري .
والمختار صحة الحديث دلالة مع ضعفه سنداً ، ومن النسيج الإجتماعي العام شهرة الحديث في كل زمان يذكره المسلمون والمسلمات في مجالسهم والمنتديات على اختلاف مشاربهم ، وسمعناه ونحن صغار( ).
لكثرة أسئلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام وتوجهه بالسؤال إلى الله عز وجل ، وقصة ذبح البقرة [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين]( ) وكثرة ترددهم على موسى من الشواهد على كثرة السؤال .
وورد على لسان موسى عليه السلام [وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية بعد التالية [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( )وفيها مسائل:
المسألة الأولى : ابتدأ كل من الآيتين بالنداء [رَبَّنَا] ليشترك المسلمون والمسلمات بالدعاء القرآني العام .
وهل يضاف دعاء الأجيال اللاحقة منهم ومن المؤمنين من الأمم السابقة إلى دعائنا اليوم [رَبَّنَا] بفضل من عند الله ، الجواب نعم لبيان تقريب ما وعد الله عز وجل المؤمنين .
وبعد أن جاءت آية البحث بالنداء العام [رَبَّنَا] جاءت آية السياق بتسليم المسلمين ببعثة الرسل ، والشهادة لهم بأنهم لم يأتوا إلا بما هو حق وصدق من عند الله سبحانه.
وهل المقصود خصوص الرسل أم يشمل الأنبياء أيضاً ، الجواب هو الثاني ، وإن كانت النسبة بين الأنبياء والرسل عموماً وخصوصاً مطلقاً .
ترى لماذا ذكرت الآية (الرسل) الجواب لأنهم أصحاب شرائع مبتدأة.
المسألة الثانية : لقد أخبرت الآية التالية عن سماع منادي للإيمان ، فبادر أولو الألباب إلى التوبة والإنابة ، والإستجابة لهذا النداء ، وإعلان الإيمان ، وتحمل الأذى بسببه من القوم الكافرين.
وقد لاقى أهل البيت وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى من مشركي قريش وغيرهم.
وبعد فتح مكة قام أكثر من عشرين ألف مقاتل من هوازن وثقيف بمباغتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالهجوم عليهم ، وهم في الطريق من مكة لولا أن منّ الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمعجزة صرف كيد المشركين ، وهزيمتهم ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
لبيان أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى ، فتفضل الله عز وجل بوقف هجوم حنين ثم جعل الهزيمة تلحقهم بجنود من الملائكة.
ومثلما لم يرد لفظ [بدر] إلا مرة واحدة في القرآن ، بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) فانه لم يرد لفظ (حنين) في القرآن إلا مرة واحدة مع الإخبار من عند الله في كل منهما بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عَنْ سَعْيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ : فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ أَمَدَّ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَيَوْمَئِذٍ سَمَّى اللَّهُ الأَنْصَارَ مُؤْمِنِينَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)( ).
ولا دليل يفيد حصر تسمية المؤمنين في الآية أعلاه بخصوص الأنصار ، ولو دار الأمر بين شمول اللفظ لعموم صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدا المنافقين والمؤلفة قلوبهم وبين التخصيص ، فالأصل هو العموم ، وهو من فضل الله ، وقد تحققت السكينة في الواقع عليهم جميعاً.
وعن محمد بن عبد الله بن عمير الليثي قال (كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة آلاف من الأنصار ، وألف من جهينة ، وألف من مزينة ، وألف من أسلم ، وألف من غفار ، وألف من أشجع ، وألف من المهاجرين وغيرهم ، فكان معه عشرة آلاف .
وخرج بإثني عشر ألفاً ، وفيها قال الله تعالى في كتابه { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً })( ).
المسألة الثالثة : تضمنت آية البحث لحوق الخزي بأهل النار بصيغة الجملة الخبرية ، أما آية السياق فقد ذكرت الخزي يوم القيامة ، وأنه يلحق أهل النار.
لبيان أن الدعاء الوارد في آية السياق [َولَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ] يتضمن سؤال النجاة من النار أيضاً ، وأن ذات الخزي عقوبة مستقلة ، ومما وعد الله عز وجل المؤمنين على لسان الأنبياء والرسل دخولهم الجنة ، ونجاتهم من النار والخزي المصاحب له .
وليس من حصر للبشارات التي جاء بها الرسل وهو من أسرار صيغة الجمع في (الرسل) ومنها الرحمة والعفو والمغفرة والثواب العظيم ، وانتفاء الخوف عن المؤمنين يوم القيامة ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (بشّروا) في القرآن لكفاية الآية أعلاه وإرادة ملازمة صفة التبشير والإنذار لكل رسول ونبي من عند الله .
وورد لفظ (استبشروا) في القرآن مرة واحدة بقوله تعالى [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ]( ).
وفيه مسائل :
الأولى : إتحاد المنادي وهم المسلمون والمسلمات .
الثانية : دلالة نداء (ربنا) بقصد القربة على خلو النداء من الشرك.
الثالثة : حب المسلمين لله عز وجل ، وطمعهم بفضله وإحسانه ، وسيأتي مزيد كلام في باب الآية لطف .
الرابعة : التباين الموضوعي بين الآيتين مع اتحاد النداء .
إذ يتعلق موضوع آية البحث بالفزع من النار ، وبئس حال الذي يدخلها ، بينما وردت آية السياق بسؤال أسباب النجاة منها ، وطرق التقريب إلى الجنة وكل من الموضوعين من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
قانون الدعاء للنجاة من النار حاجة
أختتمت آية السياق بالدعاء للوقاية من عذاب النار ، لبيان أن الله عز وجل هو الحكم المطلق يوم القيامة ، وفي التنزيل [لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ) .
ومن معانيه أن سبل الوقاية من النار في الآخرة لا تنحصر بالعمل الصالح وحده بل تأتي بأسباب أخرى منها :
الأول : سعة رحمة الله في الآخرة .
الثاني : فضل الله عز وجل .
الثالث : مضاعفة الله عز وجل للحسنات ، وهل تنقطع هذه المضاعفة بعد النشور أم أنها متصلة حتى في عرصات يوم القيامة ، المختار هو الثاني.
الرابع : الشفاعة ، وفي التنزيل [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى..]( )
وهل يتفضل الله عز وجل بأن يجعل الإنسان يرتقي إلى مرتبة يرضى بها عنه ليقبل شفاعة الشافعين له ، الجواب نعم ، ومن أهم مصاديق ومواضيع الشفاعة النجاة من النار .
الخامس : يخرج الله عز وجل من النار الذين كان في قلوبهم الإيمان ، وفي قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا]( ) .
قيل (ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها، وورود المشركين: أن يدخلوها، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الزالون والزالات يومئذ كثير، وقد أحاط بالجسر يومئذ سِمَاطان من الملائكة، دعاؤهم: يا الله سلم سلم)( ).
إعجاز الآية الذاتي
ابتدأت الآية بالنداء [رَبَّنَا] ويتضمن التسليم بالربوبية لله عز وجل ، وهو من أحسن مصاديق مقدمة الدعاء ، ويدل عليه مفهوم المخالفة في قوله تعالى [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ]( ) لبيان أن دعاء المؤمنين مقبول ، وليخرج الذين كفروا من الخطاب في قوله تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]( ) .
فتبدأ آية الدعاء أعلاه باسم الرب ونسبته للناس [وَقَالَ رَبُّكُمُ] لتبدأ آية البحث بلسان الإقرار والإمتثال [رَبَّنَا] ومن معاني الجمع بينهما ربنا أنت الذي قلت ادعوني أستجب لكم ، فنسألك السلامة من دخول النار ، والخزي الذي يلحق أهلها .
ترى من الذين يعلمون بدخول المشركين النار ، ويشمتون بهم في مواطن الآخرة ، فيه وجوه :
الأول : الملائكة .
الثاني : أهل المحشر .
الثالث : المؤمنون من أهل الجنة .
الرابع : خزي المشركين فيما بينهم ، فكل واحد منهم يكون مخزياً عند الآخر .
ترى ما هي النسبة بين هذا الفرد من الخزي وبين التلاوم بينهم ، كما في قوله تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ]( ) الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالخزي أعم .
ومن إعجاز القرآن ورود رسم (الذين اتبعوا ) ثلاث مرات في هاتين الآيتين ، ولم يرد في غيرهما من آيات القرآن ، لبيان إنكشاف الإتباع القبيح والضار يوم القيامة ، فقد يتبع المرؤوس الرئيس في الظلم ويظن أن عمله صحيح .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وتقدير آية البحث (فقد أخزيته عند الملائكة وأهل الجنة وأهل النار ، وأهل المحشر عامة) بالعموم الإستغراقي وسور السالبة الكلية .
وورد في هذا التفسير ذكر شطر من مصاديق خزي الكافرين .
وتقييد كلامي بشطر بلحاظ عدم إحاطة الناس بها ، فلا يعلم أفراد هذا الخزي الذي يلحق الذين كفروا يوم القيامة إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق عنوان الجزء قبل السابق من هذا السفر (علم الإحصاء القرآني غير متناه).
وهل يختص وينحصر الخزي بدخول النار أم يشمل ما قبلها ، الجواب هو الثاني لذا وردت الآية بصيغة الماضي ، فقد أخزيته ومن معانيه (فقد أخزيته في الدنيا وفي عالم القبر والبرزخ وعند البعث.
ويمكن تسمية آية البحث آية [أَخْزَيْتَهُ] ولم يرد هذا اللفظ وكذا لفظ [تُدْخِلِ]في القرآن إلا في آية البحث ، وهل يدل على قلة أهل النار بفضل ولطف من عند الله وسعة رحمته وعفوه ، وفتحه باب الشفاعة ، الجواب نعم ، وتدل عليه آيات القرآن وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن رحمة الله الواسعة في الآخرة.
إعجاز الآية الغيري
من إعجاز القرآن أن كل آية منه رحمة للذي يتلوها والذي يسمعها بالذات وفيه دعوة للتدبر فيها طوعاً وقهراً ، وهو من مصاديق [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ) لبيان قانون : الآية القرآنية من عبادة الله في الأرض من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية من السماء مقدمة ليعبد الناس الله سبحانه.
الثانية : ابتدأ نزول القرآن بقوله تعالى [اقْرَأْ]لبيان قانون وهو قراءة كل آية من القرآن عبادة لله عز وجل .
الثالثة : قانون التلاوة عبادة لذا نزل القرآن بالأمر بقراءة القرآن على نحو الوجوب العيني ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ]( ) .
وهل يكون تقدير الآية : اقرأوا ما تيسر من القرآن كل يوم ، الجواب نعم .
وهل ينحل الأمر في الآية إلى صيغة المفرد لكل مسلم ومسلمة : اقرأ ما تيسر من القرآن كل يوم.
الجواب نعم ، ويتجلى في التلاوة في الصلاة اليومية ، وآية البحث من مصاديق حب الله عز وجل للناس ، وتهيئة مقدمات وأسباب نجاتهم من النار يوم القيامة .
وهل قول [رَبَّنَا] وحده سبب للنجاة ، الجواب نعم لبيان قانون تعدد سبل النجاة من النار في الآية القرآنية ، ومن الإعجاز بأن الله ربهم ورب الناس جميعاً ، وهذا العموم من مصاديق صيغة الجمع في الآية ، فعندما يقرأ المسلم (ربنا) يفيد ضمير الجمع وجوهاً :
الأول : قانون إقرار المسلم بالعبودية لله عز وجل .
الثاني : شهادة المسلم للمؤمنين والمؤمنات بأنهم يقرون ويسلمون بأن الله عز وجل هو ربهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) .
الثالث : قانون دعوة المؤمنين الناس جميعاً للتسليم بالعبودية لله عز وجل .
الرابع : قول المؤمنين [رَبَّنَا] شاهد على إمامتهم للناس .
تذكر آية البحث مصاحبة ولحوق الخزي بالذي يدخله الله النار ، مما يدل على عدم انتفاعه من ثواب الإيمان ، ومضاعفة الحسنات ، ومن الشفاعة لتخلفه عن الإيمان ، فهناك مواطن عديدة في الآخرة ينجو فيها الإنسان من السوق إلى النار .
و(روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله فِي مَعْصِيةِ آبائِهِمْ فَمَنَعَهُمْ مِنَ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَنَعَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ مَعْصِيَتُهُمْ آبَاءَهُمْ)( ).
ومن إعجاز آية البحث الإخبار عن حال الصلاح التي صار عليها المسلمون بعد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده بالحكمة والموعظة الحسنة ، إذ صار المسلمون يظهرون تعظيم شعائر الله ، ويتوجهون إلى الله عز وجل بالدعاء .
لقد أراد الله عز وجل للناس أن يعبدوه ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
فأبتدأت آية البحث بما يدل على تحقق هذه العبادة من أمة عظيمة ، فالمسلمون والمسلمات مجتمعين ومتفرقين يقولون [رَبَّنَا].
بما يدل على تعاهد معالم الإيمان في الأرض ، والعصمة من الشرك ، وإقامة الحجة على الناس في وجوب عبادتهم لله عز وجل ، وأن هذه العبادة رحمة منهم بأنفسهم ، لذا أختتمت آية البحث بقانون من الإرادة التكوينية يتغشى الحياة الدنيا والآخرة ، وهو انعدام النصير للظالمين .
عن (كعبَ الأحبارِ قال: مكتوبٌ في التوارة أنَّ حَوَّاءَ عِنْدَ ذلك عُوقبتْ بعشر خصالٍ، وأنّ آدم لمَّا أطاع حَوَّاء وعصى رَبَّه عُوقب بعشر خصال، وأنَّ الحيَّة التي دخل فيها إبليس عُوقبت أيضاً بعشْر خِصال.
وأوَّلُ خِصال حَوّاء التي عُوقبت بها وجَع الافتضاض، ثم الطلق، ثمَّ النَّزْع، ثمّ بقناع الرَّأس، وما يصيبُ الوحَمى والنفساء من المكروه، والقَصْرُ في البيوت، والحيض، وأنَّ الرِّجال هم القوَّامون عليهنَّ، أن تكونَ عِنْدَ الجماع هي الأسفل)( ).
ولا أصل لهذا الخبر ، وهو غير موجود في التوراة التي في أيدينا انما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ليكون سبب صلاح ، وطريق هداية وواقية من النار والخزي فيها .
لقد شرف الله عز وجل المؤمنين والمؤمنات من أيام أبينا آدم بالإلتقاء بالذكر والعبادة والدعاء.
وتقدير آية البحث : ينادي المسلمون والمسلمات ربنا إنك من تدخل النار من ذكر أو انثى فقد أخزيته ، ربنا وما للظالمين والظالمات من أنصار.
قانون الوقاية من النار
لقد خلق الله عز وجل الجنة والنار ، الجنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، والنار للمشركين الظالمين .
ويكون التوقي والإحتراز من النار بإجتناب الطرق التي تؤدي إليها ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان يومياً [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) على نحو الوجوب العيني على كل واحد منهم ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )مجئ القرآن بسبل الصلاح وطرق الدخول إلى الجنة ، وذكره للمهالك والمزالق التي تؤدي إلى النار .
وتتضمن الآية السابقة وآية البحث والآيتان التاليتان سلاحاً للنجاة من النار ألا وهو سلاح الدعاء ، وهو من الإعجاز في المقام بأن تتجلى منافع عظيمة للدعاء والذكر والتسبيح ، منها نعمة رجاء النجاة من النار .
وقد ورد قوله تعالى [وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) ثلاث مرات في القرآن ، وفي سورة البقرة وآل عمران مقترنة بذكر الأحكام الشرعية لبيان أن إنشغال المسلمين بالأحكام الشرعية والتفقه في الدين يجب ألا يشغلهم عن الدعاء ، وعن إستحضار عالم الآخرة وأهواله ، ولزوم الإحتراز من النار ، ومن خصائص الدعاء في هذه الآيات أنه باعث للعمل الصالح وإجتناب السيئات .
كما أن العمل الصالح وترك السيئات نوع طريق ومقدمة للدعاء ، وسؤال الله عز وجل دخول الجنة والسلامة من لهيب النار .
وسمع (عبد الله بن مغفل ابنه يقول: اللهم، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها.
فقال: يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور)( ).
ومن مصاديق الدعاء للنجاة من النار إجتناب الفساد والظلم ، قال تعالى [وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا]( ).
وهل تدخل آية البحث وقوله تعالى [مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( ) في عمومات قوله تعالى [وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا] ( ) الجواب نعم ، إذ تتضمن الآية الكريمة معنى الخوف من العقاب الأخروي لتعدد مصاديق وأفراد كل من الخوف والطمع في الآية أعلاه .
ولم يأت الدعاء في الآية السابقة بالنجاة من النار إلا بعد الثناء على الله عز وجل [سُبْحَانَكَ]كما أن مضامين آية البحث ثناء على الله عز وجل .
أوان الدعاء في آية البحث
من معاني التسخير في قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ) الإنتفاع من الليل والنهار لأمور الدين والدنيا ، ويحتمل دعاء أولي الألباب في آية البحث من جهة أوان وقوعه وجوهاً :
الأول : إنه في النهار وساعات المعاش .
الثاني : إنه في الليل عند السكينة والتفكر في خلق السموات والأرض .
الثالث : إنه في الليل والنهار .
والصحيح هو الأخير ، إذ تدل الآية على استدامة وتجدد الدعاء ، وهو شعبة من ذكرهم لله الوارد في الآية السابقة وبيانها لملازمتهم للذكر بقوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وآية البحث من ذكر الله لذا ابتدأت بالنداء (ربنا) لبيان صفاء الأذهان ، والتفرغ ساعة التلاوة والدعاء للذكر ، وعدم الإنشغال بغيره ، وبها يسأل المسلمون الله عز وجل في كل ساعة من ساعات الليل والنهار .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بتلاوة هذه الآيات في الصلاة اليومية ، والتي تقع في أوقات مختلفة من الليل والنهار .
ليكون من معاني الآية (وإقامة الصلاة في اختلاف الليل والنهار) وشكر لله عز وجل على نعمة هذا الإختلاف ، والمنافع التوليدية المتفرعة عنه ، وفيه سؤال عملي لإستدامته ، ودوام الحياة الدنيا ليعمرها المؤمنون بالذكر والتسبيح [قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ]( ).
ومن الآيات الكونية أن الله عز وجل جعل بقعاً من الأرض لا تطل عليها الشمس إلا كل ستة أشهر إذ تشرق الشمس في القطب الشمالي من الأرض لمدة من 20 آذار إلى 23 أيلول وتسمى هذه المدة اليوم القطبي.
ويقال لا يحتاج الإنسان في القطب الساعة ، ولكنه يحتاجها لتعيين وضبط أوقات الصلاة والتي لا تترك بحال .
فاذا لم يكن هناك شروق وغروب فيلزم اتباع أقرب بلد مما تشرق وتغرب فيه الشمس ، أما إذا كان هناك شروق وغروب وان كان قصيراً فتودى صلاة الصبح عند طلوع الشمس ، وصلاة المغرب ثم العشاء عند غروبها ، وصلاة الظهر في النصف بينهما ، فان قلت قد تكون ساعات نهار الصيام في شهر رمضان ثلاث ساعات فهل يجزي ، الجواب نعم.
لعمومات قوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ) كما أنه من عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( ) .
الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة والعفو والرزق الكريم , وهذا الرزق أعم من المادي فيشمل سبل الهداية , ومنها لغة الإنذار الواردة في آية البحث لتكون سلاحاً للمسلمين في ميدان القول والعمل , إذ تبعث على الحذر والحيطة من الظلم والتعدي .
فقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً ضعيفاً وتلازم الحاجة كل مخلوق , إذ أن النقص الملازم للخلائق والغنى المطلق لله عز وجل فيه رحمة وعون ومدد لها , ومنه تفضل الله عز وجل بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ومع ما في هذه الخلافة من الرفعة والشأن بين الخلائق إلا أنها عنوان حاجة الناس المتصلة والمتجددة لله عز وجل.
ومن مصاديق حاجة الإنسان التفقه في أمور الدين والدنيا بما يبعده عن الظلم , ومقدمات دخول النار وأسباب الخزي الذي يصاحبه .
وآية البحث سلاح من جهات :
الأولى : آية البحث باعث للعمل الصالح .
الثانية : اجتناب المسلمين الأفعال التي تؤدي إلى دخول النار .
الثالثة : قانون تفقه المسلمين في الدين .
الرابعة : قانون تسخير المؤمنين العقل للتمييز بما يقودهم إلى الجنة فيأتونه , وما يسوقهم إلى النار من عالم الأفعال فيجتنبونه .
وهل تخاطب آية البحث العقول , الجواب نعم لذا فإن النداء في أولها (ربنا) صار من أولي الألباب وفيه تشريف للذين ينقطعون إلى الله عز وجل بالدعاء , ويرجون فضله وإحسانه , ويمتنعون عن الظلم الذي يفقد صاحبه النصير .
مفهوم الآية
يتعلق منطوق الآية بسؤال النجاة من النار مع التسليم بانعدام الناصر يوم القيامة للظالمين لأنفسهم ولغيرهم ، أما مفهوم الآية فهو على شعبتين :
الأولى : مفهوم الموافقة ، ومنه وجوه :
الأول : شدة عذاب النار .
الثاني : قانون خلود المشركين في النار .
الثالث : قانون الحكم يوم القيامة لله عز وجل وحده ، وفي التنزيل [وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين الحكم والملك المطلق في قوله تعالى [لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( )، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالملك أعم ، والحكم جزء منه ، والآخرة هي دار الحكم.
ومن الآيات أن فيها الميزان والصراط ، وقراءة كل انسان لصحيفة أعماله ، لقانون تعدد الحجة على الناس يوم القيامة ، فالذين تذكر آية البحث دخولهم النار لا يدخلونها إلا بعد إقامة الحجة عليهم في الدنيا ، وفي مواطن متعددة في الآخرة والتي تبدأ من أول دخول الإنسان القبر .
وفي آل فرعون ورد قوله تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (إنما هذا في الدنيا فأما في نار الخلد فهو قوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( ).
والآية أعلاه من أصول الإستدلال على عذاب البرزخ ، سواء كان العرض لأرواح المشركين وهو المشهور ، أو تفتح فتحة بين قبورهم وبين النار .
الثانية : مفهوم المخالفة : تدل آية البحث في مفهومها على السعادة والعز الذي يلحق المؤمنين في الآخرة ، للتضاد بينهم وبين أصحاب النار وهم أهل الخزي في الآخرة .
ويدل عذاب القبر في مفهومه على ثبوت الثواب للمؤمنين في القبر من باب الأولوية ومنه قوله تعالى [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ومن مفاهيم الآية وجوب التوجه بالدعاء إلى الله عز وجل وصدور هذا الدعاء من المنفرد والجماعة والأمة من الناس ، لذا تفضل الله بتشريع صلاة الجماعة ليشتركوا بالدعاء وتلاوة آيات القرآن وما فيها من معاني العبودية التامة لله عز وجل وهو من أسرار نيابة الإمام عن جميع المصلين في القراءة مع متابعتهم له في أفعال الصلاة من الركوع والسجود ونحوه ، وتشريع صلاة الجماعة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيأتي التفصيل .
وإذ أخبرت آية البحث عن انتفاء النصير للظالمين مجتمعين ومتفرقين يوم القيامة فانها تدل على وجود النصير والشفيع للمؤمنين يومئذ.
ومن مفاهيم الآية الإخبار عن إكرام الله عز وجل ورحمته للذي يدخل الجنة ، وهل يكون هذا الإكرام من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية أو يكون من الكلي المشكك الذي هو على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً بزيادة في الإكرام للأنبياء والشهداء والأئمة .
المختار هو الثاني ، لذا فان الجنان متعددة .
منها جنة الفردوس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا]( ).
وجنة المأوى قال تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى]( )، وقال تعالى [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ]( )، وقال تعالى [قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا]( ).
المفهوم لغة : اسم مفعول من (فهم) وهو الأمر الواضح والمعلوم والمدرك , ووجوده تصور ذهني وهل منه قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) المختار نعم , والأسماء مفتاح المعرفة التي تولى بها آدم الخلافة في الأرض والتي تتقوم بعبادة الله عز وجل .
لذا كانت أول آية نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي (اقرأ) ليكون منها قراءة الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم عليه السلام لوراثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء السابقين , ولبيان قانون عدم وجود مفاهيم غاضمة في القرآن وأحكام الشريعة .
والمفهوم في الإصطلاح : هو ما يفهم من اللفظ في غير محل النطق , وهو على شعبتين :
الأولى : مفهوم الموافقة , ويسمى فحوى الخطاب ، ومنه في آية البحث الخلود في الجحيم للمشركين .
فيكون المفهوم حكماً مسكوتاً عنه ولكنه موافق للمنطوق , سواء كان بالأولوية القطعية أو الظني الذي يستقرأ من ظاهر اللفظ.
الثانية : مفهوم المخالفة .
ومنه في آية البحث سلامة المؤمنين من دخول النار .
تلاوة آية البحث عبادة
وهل تلاوة آية البحث من مصاديق العبادة ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ]( ).
وتفضل الله وجعل قراءة القرآن جزءً واجباً من كل ركعة من السبع عشرة ركعة للصلاة اليومية.
ولابد لهذا الواجب من دلالات منها :
الأول : قراءة القرآن مطلوبة بذاتها لأنه كلام الله سبحانه .
الثاني : نزول الأمر الإلهي بقراءة القرآن .
الثالث : ترشح فيض القرآن على الجوارح وعالم القول وتهذيب الأفعال ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، بالوحي والقرآن ومنافعه للأمة .
الرابع : قانون قراءة القرآن زاجر عن المنكر والفواحش لذا فمن مصاديق وتقدير آية البحث ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته لأنه لم يقرأ التنزيل ولم يعمل بأحكامه .
الخامس : قانون قراءة القرآن واقية من الخزي ودخول النار .
السادس : قانون بعث قراءة القرآن الطمأنينة والسكينة في النفوس ، وهي مقدمة لعدم العزوف عن العبادة التي هي حاجة للإنسان ، وبرزخ دون دخول النار في الآخرة .
إفاضات الآية
من إعجاز آيات القرآن إفاضات صيغة الجمع في النداء القرآني (ربنا) لبيان أن المنافع القدسية من القرآن أعم من القواعد في العلوم المختلفة .
إذ تبين الآية أن بدايات اصلاح المجتمعات لا تنحصر بصلاح الفرد وإمتناعه عن الفساد ، بل تشمل الابتداء باصلاح أفراد الأمة مجتمعين ومتفرقين ليدل قول المسلمين (ربنا) على إرتقائهم في سلم المعارف الإلهية ، وعلى سعيهم اليومي المتصل للتكامل العقائدي ، والعصمة من مفاهيم الضلالة ، ومن الظلم والتعدي ، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ومن إفاضات آية البحث طرد الغفلة عن المسلمين ، فلابد من تعاهدهم لذكر الله بقيد الإقرار بالربوبية المطلقة له ، فقد كان المشركون أيضاً يدعون الله عز وجل ولكن يجعلون معه شركاء .
وعن ابن عباس بخصوص معركة بدر (فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره)( ).
فابطل الله دعاءه وأخزاه بالهزيمة لشركه وإصراره على الحرب على النبوة والتنزيل بالسيف .
واستجاب الله عز وجل يومئذ لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بآية حسية وعقلية وهي نزول الملائكة لنصرتهم ، قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وفيه ترغيب للمسلمين بالإلحاح بالنداء والدعاء (ربنا) بعد رؤية تحقق مصاديق الإستجابة لهذا النداء .
والمختار أن آية البحث نزلت بعد معركة بدر وآية (ببدر) لبيان شكر المسلمين لله عز وجل على استجابته لدعائهم ، وتعاهدهم للدعاء ونداء الله تعالى بصفة الربوبية المطلقة.

الآية لطف
آية البحث نعمة عظمى ، ومادة للتفقه في الدين ، وسبيل رشاد.
وتجتمع في كلمة واحدة وهي (ربنا) أمور ومصاديق من اللطف:
الأول : اسلوب النداء ومن مقامات المسكنة.
وهل قيد المسكنة في الدعاء حاجة ، الجواب نعم ، هو نوع طريق لتحقق الإستجابة ، ونزول الفيض من عند الله عز وجل .
إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الثناء عليه سبحانه وهذا الثناء من مصاديق العبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
وأعظم كتاب يتضمن الثناء على الله عز وجل هو القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : الإقرار بالعبودية لله عز وجل وأن مقاليد الأمور بيده تعالى .
الثالث : إرادة الأجر والثواب ، من جهات :
الأولى : تلاوة الآية ، وفي قول (ربنا) أربعون حسنة في كل حرف منها عشر حسنات .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه.
لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
فان قلت قد وردت نصوص أخرى تبين أن قراءة الحرف القرآني بحسنة ، و(عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة . لا أقول (بسم الله) ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول (الم) ولكن الألف ، واللام ، والميم)( ).
فهل من تعارض أو نسخ في المقام ، الجواب لا ، لإمكان الجمع بينهما ، وهو مقدم على النسخ كما أن المراد من الحسنة اسم الجنس ، فجاء تفسيرها والتفصيل بأنها عشر حسنات بكل حرف من القرآن.
الثانية : قصد القربة : وكل مسلم ومسلمة يتلوان القرآن مع التسليم بأنه كلام الله المعجز الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمتعبد بتلاوته .
الثالثة : الثواب على ذات الدعاء ، لبيان قانون الأجر المتعدد على الفعل العبادي المتحد وهو من اللطف الإلهي إذ لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الرابع : قول أي مسلم (ربنا) تثبيت يكون نيابة عن عموم المسلمين ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع (ربنا) بينما ورد هذا النداء أحياناً على لسان الأنبياء بصيغة المفرد كما في إبراهيم عليه السلام عندما كان يتفكر في خلق السموات والأرض ويقيم الحجة على المشركين ، قال تعالى [ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ]( ).
وجاء البيان والتفصيل بقوله تعالى [وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
وهل يمكن القول بصدق صيغة الجمع والضمير (نا) على المنفرد من المسلمين حين مناجاته الله ، الجواب لا ، إنما هو ينادي الله عز وجل عن نفسه وعن أصحابه وأفراد الأمة .
وحينما يقول (ربنا) هناك كثير من المسلمين يقولون في ذات الساعة (ربنا) لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل ، فتصعد أصواتهم جميعاً في آن واحد بصيغة الجمع إلى السماء وهو من اللطف الإلهي في وجوب تلاوة القرآن في الصلاة اليومية وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
ليصدر قول (ربنا) من جماعة المسلمين سواء في صلاة الجماعة أو صلاة المنفرد ، ويشترك الذي يتلو الآية القرآنية والذي يستمع لها في تحقق مصداق صيغة الجمع (ربنا) فمن اللطف الإلهي اشتراك التالي والسامع للآية القرآن في الثواب العظيم.
وتدل الآية على طمع المسلمين والمسلمات باللطف الإلهي ، وفوزهم بالمغفرة منه تعالى ، فمن يغفر له الله عز وجل ينجيه من عذاب النار .
وتجمع آية البحث بين المتضادين في الموضوع المتحد ، بين الخوف من عذاب النار ، ورجاء النجاة منها والطمع بدخول الجنة ، وفي الثناء على المؤمنين ، قال تعالى [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]( ).
الآية بشارة
لقد جعل الله عز وجل القرآن كتاب الرحمة بالناس جميعاً في كلماته وآياته وتلاوته والعمل بمضامينه , ولا تختص هذه الرحمة بالذين يصدقون بنزوله من عند الله عز وجل بل إن افاضات القرآن تتغشى الناس جميعاً .
وهو المستقرأ من الإطلاق في وصفه بالبركة , قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحاجة ملازمة للخلائق كلها ليتطلع الناس إلى رحمته وفضله في النشأتين , وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
ومن حاجة الإنسان البشارة والإنذار السماوي , فتفضل الله عز وجل بالكتب السماوية السابقة والقرآن الذي تأتي الآية القرآنية فيه على وجوه :
الأول : الآية بشارة .
الثاني : الآية إنذار .
الثالث : جمع الآية للبشارة والإنذار في منطوقها .
الرابع : الآية بشارة منطوقاً , وإنذار مفهوماً .
الخامس : الآية إنذار منطوقاً , وبشارة مفهوماً .
السادس : الآية بشارة وإنذار في مفهومها .
لذا أفردت باباً في تفسير كل آية من القرآن اسمه (مفهوم الآية).
الآية إنذار
يتجلى النص والتصريح بالإنذار في آية البحث ليشمل الناس جميعاً , إذ أن موضوع الآية هو دخول النار وذكرت خاتمة الآية ما يدل على أن الظلم هو السبيل إلى دخولها , والخلود فيها لتحذر الآية من المقدمة وذيها , من السبب وهو الظلم , والمسبَب وهو دخول النار .
ومن الإنذار في المقام إقامة الحجة على الذين كفروا في الدنيا والآخرة لقانون السببية , وبلوغه الناس بواسطة :
الأول : الكتب السماوية السابقة .
الثاني : الأنبياء والرسل , وفي دعاء إبراهيم عليه السلام [وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]( ).
الثالث : آية البحث قال تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] ( ).
الرابع : آيات الإنذار في القرآن .
الخامس : السنة النبوية , إذ وردت أحاديث نبوية كثيرة , وخطب متعددة بالإنذار من النار , وتجلت معاني هذا الإنذار بجدال واحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على القوم الكافرين بالحجة والبرهان وآيات القرآن.
(وأخرج أحمد عن رجل من بني كنانة قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح فسمعته يقول : اللهم لا تخزني يوم القيامة)( ).
لبيان علم حضور موضوع الآية القرآنية عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه وقوله وفعله
السادس : ذات الوقائع والأحداث اليومية .
السابع : الآيات الكونية ودلالة حركتها بدقة وانتظام على خلق الله عز وجل لها , لذا ورد في الآية السابقة [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
اتحاد النار
لقد أخبرت آية البحث عن النار ، ولحوق الخزي بالكافرين الظالمين ، ولا يتنجز هذا الدخول إلا بعد إقامة الحجة عليهم في مواطن متعددة من يوم القيامة ، وصحيح أن آية البحث جاءت بصيغة الجملة الشرطية (من تدخل النار) إلا أن آيات قرآنية أخرى أخبرت عن دخول شطر من الناس النار ، مع ذكر صفاتهم القبيحة منهم :
الأول : الكفار والمشركون .
الثاني : المنافقون .
الثالث : الظالمون ، وهو الذي تدل عليه آية البحث ، وهل يدل قوله تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ) على نسبة التساوي بينهما .
المختار أن الظالمين أعم ، وهو سور جامع يشمل الذين كفروا بالله وأنكروا النبوة وجحدوا بالنعم والمعتدين والذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً.
ولكن الآية أعلاه رحمة وتخفيف من عند الله بحصر الظلم بالكفر وفي الآية حذف منه الظالمون لأنفسهم ومنه الظالمون ظلماً عظيماً كما تدل عليه الآية أدناه من سورة لقمان ، واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
ومن الإعجاز في المقام كثرة الآيات التي تتوعد الظالمين بشدة العذاب الأخروي ، قال تعالى [يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ]( ).
الرابع : أتياع الشيطان ، قال تعالى [يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ]( ) إذ طرد الله عز وجل إبليس من الجنة .
والضمير في منهم يعود إلى الناس لإفادة الحرف (من) التبعيض ، ويتصف الشيطان بأنه مخالف لأوامر الله ، مستكبر عن طاعته ، داع إلى المعصية بالإغواء وتزيين القبيح .
وهل تدل الآية أعلاه على قدرة الإنسان على معرفة حبائل الشيطان ووجوب إجتنابها ، الجواب نعم ، ومن مصاديق الظلم في المقام وجوه :
الأول : ظلم النفس بالشرك ، قال تعالى [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ) .
الثاني : الظلم بارتكاب المعاصي ومنها ما تكون شخصية كترك الفرائض العبادية ، ومنها ما تكون مفاعلة مع الغير كالزنا .
الثالث : ظلم الإنسان للعباد ، ومنه قتل النفس بغير حق ، وهو من الكبائر ، وفي (حديث عبيد بن عمير الليثي أنه حدثه أبوه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن في حجة الوداع قال إن أولياء الله المصلون وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من يقم الصلوات الخمس اللاتي كتبن عليه.
ويصوم رمضان يحتسب صومه ويرى أنه حق عليه واجب.
ويعطى زكاة ماله يحتسبها.
ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها.
ثم إن رجلا من أصحابه سأله فقال يا رسول الله ما الكبائر.
قال هن تسع أعظمهن إشراك بالله ، وقتل نفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين المسلمين)( ).
وأما قوله تعالى [لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ]( ) والمراد من الضمير (منهم) في الآية أي من الغافلين وأتباع الشيطان ، لبيان أن النار سور السالبة الكلية الذي يجمعهم مع التباين في شدة عذابهم بلحاظ كفرهم وضلالتهم.

دركات النار
للنار سبع دركات وكل درك منها من مصاديق العذاب والخزي الذي تذكره آية البحث (وقال الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام : تدرون كيف أبواب النار؟
قلنا : نعم كنحو هذه الباب.
فقال : لا ولكنها هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية.)( ) .
ترى لماذا النيران بعضها على بعض ، الجواب أنه من الشواهد على قوله تعالى [عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ]( ) .
ولأن دركات النار بعضها فوق بعض تعذيب آخر لأهل النار ، فيدرك كل فريق منهم أن تحته أو فوقه يعذبون مثله ، وفيه زيادة في بعث الحسرة والضيق في نفوسهم ، والدركات هي :
الأولى : الجحيم وهي أعلاها : يقوم أهلها على الصفا( )، منها، تغلي أدمغتهم فيها كغلي القدور بما فيها، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ]( ).
وهل تدل هذه الآية على أن الكافرين في درك واحد من النار ، وهو الجحيم ، المختار أن المراد من الجحيم في الآيات نار الآخرة مطلقاً ، وهو من ذكر الوصف الخاص ، وإرادة العام ، ويدل عليه قوله تعالى بخصوص شجرة الزقوم [إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ]( ) .
قال تعالى [وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ *وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ]( )
أي صارت الجنة قريبة من المؤمنين الذين يخشون الله بالغيب ، وبرزت الجحيم أي كشف عنها الغطاء والحجب ، وكأنه من المبارزة في الحرب ، لبيان العداوة بين النار كخلق لله عز وجل وبين أرباب الكفر والمعاصي .
وقيدت الآية موضوع بروز الجحيم بأنه خاص بالذين كفروا واتبعوا الشيطان ، وفيه رأفة بالمؤمنين في الآخرة ، فلا يرون النار ويحسون لهيبها ويفزعون منها .
وتقييد بروز النار بأنه للغاوين من مصاديق إكرام المؤمنين ومصداق لقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) .
والجحيم : النار الشديدة العين حجوماً
والثانية : اللظى ، قال تعالى [كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى] ( ).
لظى اسم من أسماء جهنم ، وهي معرفة لا تنونّ ، ولم يرد لفظ [لَظَى] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وتلظي النار شدة لهيبها ،وكأن له بريقاً ، ولظى اسم من أسماء النار .
ونزاعة للشوى أي تقشر جلد الرأس، ويتساقط عنه ، وتدعو الكافر والمنافق باسمه لقوله تعالى [مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى].
وهل المراد من تولى عنها يوم القيامة ، الجواب لا ، إنما من أدبر وتولى عن الإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل ، ومن جمع المال ، ولم يخرج زكاته والحقوق الشرعية ، وهل يصح تقدير آية البحث : ربنا إنك من تدخل لظى أخزيته) الجواب نعم ، لتعدد أسماء النار.
الثالثة : سقر ، قال تعالى [سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ] ( ).
وسقر اسم علم لنار الآخرة , ممنوع من الصرف مشتق من الفعل سَقَرَ لشدة إيلامها لأهلها ، فلا تُبقي جلداً أو لحماً أو شعراً أو دماً إنما تنفذ إلى الفؤاد .
و(عن حذيفة بن اليمان قال : أسر إليّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا حذيفة إن في جهنم لسباعاً من نار ، وكلاباً من نار ، وكلاليب من نار ، وسيوفاً من نار ، وإنه تبعث ملائكة يعلقون أهل النار بتلك الكلاليب بأحناكهم.
ويقطعونهم بتلك السيوف عضواً عضواً ، ويلقونهم إلى تلك السباع والكلاب ، كلما قطعوا عضواً عاد مكانه غضاً( ) جديداً)( ).
قال تعالى [إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ] ( ).
والمعروف أن تعدد أسماء الشىء أو الذات يدل على أهمية وعلو شأنه والعناية به , وتعدد أسماء النار إلى جانب هذا الأمر فهي ذات خصائص متعددة كدار عقوبة شديدة ودائمة بحسب جنس المعاصي , والتمادي في الكفر .
وبينما ورد لفظ [لَظَى] مرة واحدة في القرآن ، فقد ورد لفظ[سَقَرَ] أربع مرات في القرآن ، إذ وردت منها ثلاثة في سورة المدثر ، والتي هي من أوائل سور القرآن نزولاً ، وواحدة في سورة القمر وهي مكية أيضاً .
لبيان فضل الله في تخويف قريش وتذكيرهم بعالم الآخرة ، وزجرهم عن محاربة وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن هاجر إلى المدينة.
الرابعة : الحطمة، قال تعالى [كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ *نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ] ( ),إذ تدك وتهلك الذي يدخلها.
وذكرت الحطمة اسماً للنار في سورة الهمزة , وكأنها للجنايات الأدنى كالهمز واللمز والغيبة[فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] ( ) أي قضبان عالية تمنع أهلها من الخروج منها كالأسوار , ومنها يثور شرر كالقصر، كأنها جمالات جمع جمالة قلوس سفن البحر وقيل جمع جمال صفرمن شدة قوة وإندفاع النار .
تدق كل من صار إليها مثل الكحل، فلا تموت الروح، كلما صاروا مثل الكحل عادوا.
الخامسة : الهاوية , والذين فيها يدعون: يا مالك أغثنا، فإذا أغاثهم جعل لهم آنية من صفر من نار فيه صديد ماء يسيل من جلودهم كأنه مهل، فإذا رفعوه ليشربوا منه تساقط لحم وجوههم فيها من شدة حرها ، وهو قول الله تعالى [وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا]( ) .
ومن هوى فيها هوى سبعين عاما في النار ، كلما احترق جلده بدل جلدا غيره ، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ]( ).
وسميت الهاوية لبعد قعرها إذ يهوى فيها الكافر ، لتحيط به النار من كل الجهات ، ولا يرى إلا النار .
السادسة : السعير , ومعناها النار الشديدة من الإستعارة والإيقاد , فيها ثلاثمائة سرادق من نار، في كل سرادق ثلاثمائة قصر من نار، في كل قصر ثلاثمائة بيت من نار، في كل بيت ثلاثمائة لون من عذاب النار، فيها حيات من نار، وعقارب من نار، وجوامع( )، من نار، وسلاسل من نار وأغلال من نار وهو الذي يقول الله: ” إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا( ).
وورد ذكر السعير بقوله تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ) .
وعن عبد الله بن عمرو قال : (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي يده كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا لا ، إلا أن تخبرنا يا رسول الله .
قال : للذي في يده اليمنى ، هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم ، ثم قال للذي في شماله ، هذا كتاب من رب العالمين ، بأسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً .
فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان قد فرغ منه؟ فقال : سددوا ، وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بيديه فنبذهما ، ثم قال : فرغ ربكم من العباد {فريق في الجنة وفريق في السعير)( ).
السابعة : جهنم، وهو اسم ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث , وقيل للعلمية والعجمة وأنه اسم فارسي معرب , والأول أصح إذ سميت النار جهنم لبعد قعرها وفيها الفلق وهو جب في جهنم إذا فتح أسعر النار سعرا، وهو أشد النار عذابا .
وجهنم من أكثر أسماء النار ذكراً في القرآن ، قال تعالى [مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( )، وجمعت الآية أعلاه بين اسم جهنم ، وصفة [وَبِئْسَ الْمِهَادُ].
الثامنة : السجين ، وهو مأخوذ من السجن ، زيد لفظه لزيادة المعنى والتخويف والوعيد ، وهو مثل الزيادة في عليين ، قال تعالى [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ]( )وبينما ورد لفظ [عِلِّيِّينَ] مرة واحدة في القرآن فان لفظ [سِجِّينٍ] ورد مرتين في آيتين متجاورتين لتأكيد التخويف ، ومنع الناس من نسيان النار وأسمائها ، وما يدل عليه كل اسم من معاني شدة العذاب ، قال تعالى [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ]( ).
وهناك أوصاف لنار الآخرة وردت في القرآن منها ، السموم كما في قوله تعالى [فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ]( )، وبئس القرار ، وبئس المصير ، ودار البوار ، ودار الفاسقين .
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت آية البحث بالنداء (ربنا) لبيان انقطاع المسلمين إلى ذكر وعبادة الله عز وجل ويقترن هذا الإنقطاع بالتسليم بأنه سبحانه رب الخلائق كلها.
وقد يختلف المسلمون فيما بينهم في استنباط الأحكام أو في كيفية أوان ثبوت رؤية الهلال ، ولكنهم مجتمعون في العبودية لله عز وجل ، والتصديق بأن القرآن هو كلامه الذي نزل به جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسرار مجئ لفظ (ربنا) بصيغة الجمع .
وهذا الإجماع من مصاديق وصفهم في الآية السابقة بـ[ِأُولِي الْأَلْبَابِ]( )، لبيان أن قول (ربنا) عنوان وحدة المسلمين.
وقد تختلف مذاهب المسلمين في بعض أجزاء الصلاة تشريعاً وأداءً ، ولكنهم متفقون على قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث مالك بن الحويرث (صلوا كما رأيتموني اصلي)( )( ).
فسواء تعددت كيفية صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو مقدماتها كالوضوء وأخذ كل فريق واحدة منها ، أو اتحدت ولكن النقل اختلف ، فالكل على صواب لصدق النية والإجتهاد .
والجامع المشترك بينهم آية البحث وأول كلمة منها (ربنا) لقانون عدم اختيار فرقة أو مذهب من المسلمين الصلاة خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا ترى أفراد المذاهب المتعددة يؤدون صلاة جماعة واحدة ، وفي التنزيل [إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ]( ).
وهل تكرار المسلمين في آيات متجاورات لقول (ربنا) من مصاديق حبهم لله عز وجل ، الجواب نعم.
ولا يختلف المسلمون في الآية القرآنية رسماً ومنطوقاً ونظماً وترتيباً ، ليتجلى قانون : الآية القرآنية سور جامع لوحدة المسلمين ، ومانع من الشقاق بينهم ، وفيه دعوة للناس جميعاً للوئام والصلاة لتقوم الدعوة الإسلامية بالحجة والبرهان.
وهل قول (ربنا) الذي ابتدأت به آية البحث والآيتان التاليتان من مصاديق دعوة الناس جميعاً إلى الإيمان ، الجواب نعم لأن تقدير هذا النداء المبارك على وجوه :
الأول : إرادة رب الأسرة والعائلة ، قال تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى]( )، ويحتمل الأمر بالأمر في الآية أعلاه جهات :
الأولى : إنه خطاب خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن من خصائص الأنبياء أن يأمروا أهليهم بالصلاة .
الثانية : إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصوص أهل البيت والصحابة .
الثالثة : المراد أجيال المسلمين المتعاقبة .
والصحيح هي الجهة الأخيرة أعلاه لأصالة الإطلاق ولنزول الآيات بوجوب أداء المسلمين الصلاة وبصيغة الجمع في الخبر والإنشاء.
وقد ورد الأمر الإلهي للمسلمين [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ] عشر مرات في القرآن منها [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
وهل قول (ربنا) من الخير الذي يقدمه المسلمون لأنفسهم ، الجواب نعم ، وهل قول (ربنا) من الخير الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : صبغة القرآنية .
الثانية : تلاوة المسلمين لآية البحث في الصلاة .
الثالثة : قول (ربنا) دعاء والنسبة بينه وبين الخير ، عموم وخصوص مطلق ، فالخير أعم .
كما ورد خطاباً وأمراً إلى بني اسرائيل ، بقوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وبعد النداء (ربنا) جاء التضرع والتسليم باليوم الآخر ، وأن حساب الناس بيد الله عز وجل وحده ، ويصاحب الخزي أهل النار ، فمن خصائص أرباب العقول انهم سخروها للتفكر في الخلق ، والإنصات للرسل ، والتدبر في المعجزات التي جاءوا بها مع عجز الناس عن الإتيان بمثلها .
ويمكن القول بقانون كل معجزة تدل على حب الله عز وجل للناس ، لأنها ضياء ينير سبل الهداية والرشاد ، وليكون من معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سؤال المسلمين الله عز وجل للتدبر في معجزات النبوة والإنتفاع الأمثل منها في النشأتين .
وهل آية البحث من معجزات النبوة ، الجواب نعم ، فلا يستطيع الناس الإخبار بصيغة الدعاء عن اقتران دخول النار بالخزي.
وفي نظم بديع للآيات تستقرأ منه المسائل والقوانين.
وتجمع آية البحث بين الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر ، وعالم الجزاء ، والنسبة بين يوم القيامة والجزاء عموم وخصوص مطلق ، لتعدد وكثرة مواطن وعرصات يوم القيامة .
وأختتمت آية البحث بالإخبار عن إنتفاء النصير للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود .
والنسبة بين النصر والشفاعة عموم وخصوص مطلق ، فالنصرة أعم والشفاعة فرع منها ، لذا وردت الآية بنفي العام بما يفيد نفي الخاص بالدلالة التضمنية ، ومن معانيه بعث اليأس في قلوب المشركين ودعوتهم للتوبة والإنابة .

من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تفضل الله عز وجل بتلقين المسلمين كيفية وموضوع الدعاء .
الثانية : دلالة آية البحث على تفقه المسلمين في الدين من وجوه:
الأول : قانون اعلان المسلمين العبودية لله عز وجل .
الثاني : قانون تبرأ المسلمين من الشرك الظاهر والخفي .
الثالث : قانون سوء عاقبة الكفار يوم القيامة .
الرابع : قانون اقرار المسلمين بعالم الجزاء ، والجنة والنار .
الثالثة : قانون تعاون المسلمين في مناجاة الله عز وجل .
الرابعة : إخبار آية البحث عن اقتران الخزي بدخول النار ، لإنذار الناس من أسباب دخولها .
الخامسة : إقرار المسلمين بأن الله عز وجل هو الرب للخلائق في الدنيا وفي الآخرة .
السادسة : قانون وجوب المسكنة والتضرع إلى الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
السابعة : بعث المسلمين على العمل في مرضاة الله والإجتهاد في طاعته ، قال تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وهل تدل آية البحث على شفاعة المسلمين ، ومن أيام الحياة الدنيا للذين يدخلون النار ، الجواب لا ، إنما تدل على تبرأ المسلمين منهم ، وهل يكون من جزاء هذا التبرأ يوم القيامة قبول شفاعة المؤمنين ، الجواب نعم.
و (عن سلمان قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأهبط منها رحمة إلى الأرض ، فيها تراحم الخلائق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها ، وبها يشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق ، فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين ، وزاد تسعاً وتسعين رحمة ، ثم قرأ { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون }( ))( ).
وهل من كتابة رحمة الله للمتقين يوم القيامة قبول شفاعتهم ، الجواب نعم ،ولكن هذه الشفاعة مقيدة بأنها لا تكون إلا لمن ارتضى الله عز وجل ، وهذا القيد من مصاديق قوله تعالى [لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ) .
الثامنة : بعث النفرة من الظالمين .
التاسعة : امتناع المسلمين والمسلمات عن الظلم ، وتبرأهم من الظالمين .
فمن غايات تلاوة المسلمين آية البحث في الصلاة بيان قانون الملازمة بين الظلم وانعدام النصير وتأكيد بغض الله عز وجل للظالمين.
وجهة صدور الظلم على وجوه :
الأول : الظلم الشخصي بأن يكون الإنسان ظالماً لنفسه أو لغيره.
الثاني : تعاون جماعة على ظلم أنفسهم بالمناجاة بالكفر والإقامة على مفاهيم الشرك والضلالة .
الثالث : تعاون نفر أو طائفة لظلم الغير .
الرابع : من أقبح الظلم محاربة النبوة والتنزيل .
وجوب إتقاء النار
لقد نزل القرآن بالإنذار من النار وشدة لهيبها ، وأخبر الله بأنها تنتظر الذين جحدوا بالربوبية والنبوة ، قال تعالى وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
وجاءت الآية أعلاه تحذيراً وإنذاراً للمسلمين وزاجراً لهم عن الربا والمعاملات الباطلة لعطفها على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، والتي اختصت الأجزاء (89-90-91-94) من هذا السِفر بتفسيرها .
كما ورد لفظ [أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين]مرة أخرى في قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )
لبيان قانون عجز الناس عن الإتيان بمثل سورة واحدة من القرآن دعوة سماوية لهم للنجاة من النار .
وتأمر الآية أعلاه باتقاء النار ، وفيه وجوه :
الأول : تضمن القرآن سبل إتقاء النار من جهات :
الأولى : منطوق الآية القرآنية ، والمستقرأ والمتبادر منه .
الثانية : تفسير الآية القرآنية ، وهل منه تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
الثالثة : العلوم والذخائر المستخرجة من الجمع بين آيتين أو ثلاثة من القرآن .
الثاني : يتضمن القرآن شطراً من سبل وكيفية النجاة من النار .
الثالث : مجئ السنة النبوية بطرق كثيرة للنجاة من النار .
وفي حديث أبي ذر (أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماذا ينجي العبد من النار.
قال : الإيمان بالله.
قلت: يا نبي الله، مع الإيمان عمل .
قال : ترضخ مما خوَّلك الله، أو ترضخ مما رزقك الله)( ).
وفيه شاهد على أثر ونفع القرآن في نفوس الصحابة ، وفيه شاهد بأن أسئلة الصحابة وأهل البيت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من تلك التي وردت في القرآن بلفظ [يَسْأَلُونَكَ].
وإذا كان القرآن يخبر عن تفضل الله بتولي الإجابة على أسئلة الصحابة والناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آيات يسألونك ، والتي عددها (ثلاث عشرة آية) فهل إجابات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه كما في الحديث أعلاه من الوحي ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)( ).
لبيان قانون تولي الله الإجابة عن أسئلة الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له .
آيات الحج واقية من النار
قال تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
[وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
[أِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
[فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( ).
[أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).

التفسير
قوله تعالى [رَبَّنَا]
من إعجاز القرآن التضرع إلى الله عز وجل وسؤاله في أمور الدنيا والآخرة حذف ياء النداء في الدعاء ، بينما وردت ياء النداء في خطاب الله عز وجل للأنبياء والناس ، منه [وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ]( ) [نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى]( ).
[إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
[يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا]( ) [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ولكن هذا لا يعني عدم جواز إضافة ياء النداء في الدعاء ، إذ وردت أدلة عديدة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء بإظهار ياء النداء .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال (نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحسن صورة لم ينزل في مثلها قط ضاحكا مستبشرا.
فقال : السلام عليك يا محمد ، قال : وعليك السلام يا جبريل ، قال : إن الله بعثني إليك بهدية كنوز العرش أكرمك الله بهن.
قال : وما تلك الهدية يا جبريل ، فقال جبريل قل يا من أظهر الجميل وستر القبيح ، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ، ولا يهتك الستر يا عظيم العفو ، يا حسن التجاوز ، يا واسع المغفرة ، يا باسط اليدين بالرحمة ، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى ، يا كريم الصفح ، يا عظيم المن ، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها.
يا ربنا ، ويا سيدنا ، ويا مولانا ، ويا غاية رغبتنا ، أسألك يا الله أن لا تشوي خلقي بالنار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فما ثواب هذه الكلمات ، ثم ذكر باقي الحديث بعد الدعاء بطوله)( ).
ويدل هذا الحديث على موضوعية الدعاء بخصوص النجاة من النار ، وأنه من كنوز العرش أهداه الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبى الله سبحانه إلا أن يجعل نعمته عامة تتغشى الناس جميعاً ، فانزل آية البحث ليكون في متناول كل إنسان الدعاء ، وسؤال الله عز وجل النجاة من عذاب النار .
وجاءت أدعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقتدي به المسلمون والمسلمات ، ويتخذوا ذات الدعاء واقية من النار .
قانون الإكثار من نداء [رَبَّنَا] إيمان
جاء النداء [رَبَّنَا] في كل من آية البحث والآية السابقة والآيتين التاليتين ، ولم يصدر هذا النداء من المؤمنين خاصة ، إنما من أولي الألباب الذين سخروا عقولهم للوظائف العبادية التي تترشح عن علة الخلق ، لبيان فضل الله عز وجل على الناس بالفطرة الإيمانية ، وأنه سبحانه لم يخلق الإنسان إلا وجعل عنده العقل والحواس ، للتفكر في الخلائق والآيات الكونية.
ومن أسرار إطلالة هذه الآيات على الناس في كل ساعة تنمية ملكة معالم الإيمان ، ومنها الخشية من النار يوم القيامة ، وهو الذي أشارت إليه آية البحث.
ولا يستحق الربوبية المطلقة والإلوهية العامة إلا الله وحده ، وهو الذي خلق كل شئ ، وله ملك كل شئ ، ومدبر كل شئ .
ولا معبود سواه ، ومن لطفه أن جعل الناس عباداً له ، وهو تعالى لا يرضى أن يُعبد في ملكه غيره ، وليس من شئ إلا هو ملكه ، لذا خلق النار للمشركين والمنافقين .
لقد أحاط الله علماً بكل شئ ، ولم يطلع الناس من علمه إلا بما شاء ، ومنه آية البحث وما تخبر عنه من الويل وسوء العاقبة للظالمين ، وهل تبعث آية البحث على التوبة ، الجواب نعم.
لأنها تبين الحاجة للإيمان والصلاح ، وهو من إعجاز هذه الآيات بتسميتها للذين يتفكرون في خلق السموات والأرض بـ[لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
قانون ذم الذين كفروا
ومن الإعجاز في ذكر أولي الإلباب في الآية قبل السابقة بقوله تعالى [لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( )ثم عطفت آية الذكر والتفكر في خلق السموات والأرض عليها .
إرادة عموم المؤمنين من الأمم المتعاقبة ، وأتباع الرسل ، وهل تحتمل الآية الذين يجمعون بين ذكر الله والتفكر في الخلق وبين الشرك والكفر والجحود.
الجواب لا ، من وجوه :
الأول : قانون المراد من أولي الألباب الذين سخروا عقولهم في طاعة الله .
الثاني : بيان الآية السابقة لمواظبة أولي الألباب على ذكر الله بكل الأحوال مما يدل في مفهومه على عدم وجود فترة عندهم لذكر غير الله بعنوان الربوبية ، ويتخلف الكافر والمشرك والمرائي عن هذه المواظبة .
الثالث : الإقرار القاطع بأن الله عز وجل هو الذي خلق السموات وخلق الأرض .
الرابع : تسليم أولي الألباب بأن الله عز وجل خلق السموات والأرض لحكمة ومنافع عظيمة للخلائق وبالحق ، والبيان ، وإرادة تنزه الله عز وجل عن العبث والباطل ، وفيه دليل على أن الكفار ليس من أولي الألباب بدليل [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ]( ).
وهل يدخل الناس الخلائق في الآية أعلاه ، الجواب نعم ، فهم مما بين السماء والأرض.
لبيان أن خلقهم بالحق آية في العالمين ليعمروا الأرض بالذكر وعبادة الله الحي الدائم بالقيام برزقهم وحفظهم واللطف بهم مجتمعين ومتفرقين ، ولكن الذين كفروا لا يشكرون الله ، فنزلت آية البحث لتحرمهم من اللذة التامة بنعيم الدنيا لتذكيرهما بما ينتظرهم من العذاب في الآخرة .
وهو من أسباب سخط كفار قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وادعائهم بأنه يشتم آباءهم إنما أخبرت الآيات من سوء عاقبة الذين يعبدون الأوثان ، قال تعالى [يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ]( ).
ذات نداء [رَبَّنَا] توسل واستكانة
ابتدأت آية البحث بالنداء (ربنا)، وتأتي كلمة الرب بمعنى المالك والمربي والسيد والمدبر والملك والسيد المطاع كما في قوله تعالى [أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا]( ).
أما معنى الرب في الأسماء الحسنى فهو أكبر من أن تحيط به كلماتنا ، وذات التعاريف اللغوية والكلامية ، وهو من الإعجاز في الأسماء الحسنى ، فمع أنها غير المسمى إلا أن معانيها أعم من أوهام الناس ، لذا قال تعالى [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
ليكون من معاني نسبة الأسماء الحسنى لله عز وجل عدم إحاطة غير الله بها وبمعانيها ودلالاتها ومنافعها في النشأتين فلذا أمر الله الناس بالتوجه إليه بالدعاء بها ، وفيها الاسم الأعظم ، وكل اسم منها هو بمنزلة الاسم الأعظم عند الدعاء بفضل من الله عز وجل .
ومن معاني (الرب) كاسم من الأسماء الحسنى وجوه :
الأول : الله خالق كل شئ ، ومن معاني (ربنا) الذي ابتدأت به آية البحث : اللهم أنت الذي خلقتنا وفيه اقرار بنعمة الخلق وأنه لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
الثاني : اللهم أنت المتكفل بخلق وانشاء الخلائق كلها ، وفي التنزيل [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (من خالق) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن لله تسعة وتسعين اسماً ، من أحصاها دخل الجنة ، اسأل الله الرحمن ، الرحيم ، الإِله الرب ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصوّر ، الحليم ، العليم ، السميع ، البصير ، الحي ، القيوم ، الواسع ، اللطيف ، الخبير ، الحنان ، المنان ، البديع ، الغفور ، الودود ، الشكور ، المجيد ، المبدىء ، المعيد ، النور ، البادىء ، وفي لفظ : القائم ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، العفوّ ، الغفّار ، الوهّاب ، الفرد ، وفي لفظ : القادر ، الأحد ، الصمد ، الوكيل ، الكافي ، الباقي ، المغيث ، الدائم ، المتعالي ، ذا الجلال ، والإِكرام ، المولى ، النصير ، الحق ، المبين ، الوارث ، المنير ، الباعث ، القدير ، وفي لفظ : المجيب ، المحيي ، المميت ، الحميد ، وفي لفظ : الجميل ، الصادق ، الحفيظ ، المحيط ، الكبير ، القريب ، الرقيب ، الفتّاح ، التوّاب ، القديم ، الوتر ، الفاطر ، الرزاق ، العلاَّم ، العلي ، العظيم ، الغني ، المليك ، المقتدر ، الإِكرام ، الرؤوف ، المدبر ، المالك ، القاهر ، الهادي ، الشاكر ، الكريم ، الرفيع ، الشهيد ، الواحد ، ذا الطول ، ذا المعارج ، ذا الفضل ، الكفيل ، الجليل)( ).
الثالث : من معاني ربنا أن الله عز وجل هو الهادي إلى سبل الصلاح والرشاد ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة كل يوم سبع عشرة مرة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ومن اعظم سبل الهداية العامة بعثة الأنبياء والمرسلين وإنزال الكتب السماوية ، وهو من معاني الوكالة والكفالة في قوله تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (كفيل) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهو الذي ضمن ويضمن للناس ارزاقهم وحاجاتهم ، وهو الكافي للخلائق من غير أن تتعبه هذه الكفاية لأن أمره إذا أراد شيئاً أن [يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وفيه دعوة للناس للطمأنينة على ارزاقهم ومعاشات أولادهم من غير خشية فقر أو مجاعة عامة.
لتكون هذه الدعوة وسيلة لشكرهم لله عز وجل ، وانقطاعهم إلى عبادته ، وهي مقدمة للنجاة من عذاب النار ، وبها جاءت آية البحث.

نداء [رَبَّنَا] سور الموجبة الكلية لوحدة المؤمنين
ابتدأت الآية بالنداء [رَبَّنَا] بصيغة جمع المتكلم لبيان وجوه :
الأول : قانون تسليم المؤمنين بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثاني : قانون محاربة الشرك بالدعاء ، فقول [رَبَّنَا] دعوة للناس جميعاً للتنزه عن الشرك .
الثالث : قول [رَبَّنَا] تبرأ من الإنقياد إلى الهوى ، وعصمة من اتباع خطوات الشيطان ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) .
الرابع : نداء [رَبَّنَا] عنوان وحدة المؤمنين ، والتقاء أجيالهم المتعاقبة بالتوحيد ، وهو الجامع لهم يوم القيامة .
(عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول : المتحابون في الله في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله على منابر من نور ، يفزع الناس ولا يفزعون)( ).
الخامس : من إعجاز القرآن قانون الدعاء صلاح وإصلاح ، ففي قول المؤمنين [رَبَّنَا] وانقطاعهم إلى الدعاء تأديب لهم ، ومانع من الزيغ ، وبرزخ دون طمع المشركين بهم ، قال تعالى [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ]( ) فمن دين المسلمين قول [رَبَّنَا] مجتمعين ومتفرقين وبلغة التوحيد .
وفيه توسل وتضرع وتطامن وخشوع لله عز وجل ، ورجاء عفوه ورحمته .
و(عن عمر قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟
قلنا لا والله وهي تقدر أن تطرحه فقال صلى الله عليه وآله وسلم الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها )( ).
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على تسليم أجيال المسلمين بالعالم الآخر، وأن الجنة حق والنار حق .
فيقرأ كل مسلم ومسلمة آية البحث في الصلاة وخارجها ، وهم يقرون بأن الإدخال في النار أمر بيد الله عز وجل ، وليس للملائكة أن يدخلوا أحداً النار ، وإن كانوا من الكرام الكاتبين ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ]( ). وهل تحضر آية البحث يوم القيامة ، الجواب نعم ، فهي شاهد لكل من: الأول : الذين تلوا هذه الآية . الثاني : الذين استمعوا لآية البحث . الثالث : الذين تدبروا في مضامينها الآية . الرابع : الذين أعانوا المسلمين على تلاوتها وإن كانوا أبناءهم وأهليهم. وهل تلاوة وتعلم هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) . الجواب نعم من جهات : الأولى : قانون الإيمان واقية من النار . الثانية : قانون تلاوة القرآن حرز من النار . الثالثة : حضور آية البحث يوم القيامة . لتشهد للمؤمنين بتلاوتها والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بالسلامة في الآخرة ، والنسبة بين هذه السلامة وبين النجاة من النار عموم وخصوص مطلق ، لأن المراد من الدعاء بالسلامة في الآخرة أعم ويشمل مواطن الآخرة . آيات (رَبَّنَا) ابتدأت آية البحث بصيغة النداء [رَبَّنَا] مع حذف أداة النداء ، وتقدير الآية يا ربنا . وقد ورد لفظ ربنا في القرآن (111) مرة ، منها خمسة في هذه الآية ،والآية التي قبلها والآيتين اللتين بعدها . ولم يتكرر هذا النداء في أربع آيات متتاليات إلا في المقام ، ثم جاءت الخامسة بلفظ (رَبُّهُمْ) بخصوص الإستجابة الفورية من الله [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ]( ). وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً بالإجتهاد في الدعاء وسؤال الله لأمور الدنيا والآخرة ، والتسليم بقرب الإستجابة وتحققها . نعم تكرر النداء [رَبَّنَا] ثلاث مرات في قوله تعالى [قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَوَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( ) من سورة الأعراف .
ولابد من دلالات لهذا الإجتماع والذكر الجميل .
ترى من القائل ربنا ، الجواب خصوص [ِأُولِي الْأَلْبَابِ] أي أهل المعرفة والإيمان الذين سخروا عقولهم وحواسهم للتدبر في بديع خلق الله ، وصدّقوا بمعجزات الأنبياء وأكثروا من ذكر الله عز وجل ، وتقيدوا بأداء الفرائض العبادية في أوقاتها .
وفيه دعوة للناس جميعاً للإقتداء بهم خاصة وأن الجامع المشترك معهم هو العقل الذي رزقه الله للإنسان ، قال تعالى [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد ذكرت الآية السابقة المؤمنين المنقطعين إلى الله عز وجل في أحوالهم المختلفة من جهات :
الأولى : عن قيام .
الثانية : حال القعود .
الثالثة : عند الإستلقاء ، واقتران الذكر بالتفكر بالخلق وتعقبه له.
وهل يشمل حال المشي ، والمنتديات ، الجواب نعم ، لإرادة العموم ، قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )
وجاء بيان وتفصيل في الجزء السابع والثلاثين بعد المائتين والذي أختص بتفسير الآية السابقة [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ) ( ).
ومن الإعجاز في الآية السابقة مجيؤها بصيغة المضارع لبيان وجود أمة مؤمنة في كل زمان تتفكر في خلق السموات والأرض ، وتتخذ هذا التفكر للتدبر وتلقي الأوامر والنواهي الإلهية بالقبول والإمتثال، وهل تشمل هذه الصيغة الزمن الماضي وما قبل نزول القرآن ، الجواب نعم .
فمن معانيها الاستمرار والتجدد ، وفيها ثناء على المسلمين وتعاهدهم في كل زمان للذكر في كل الأحوال ، ليكون الأمر المصاحب لكل جيل من الناس هو ذكر الله ، وهذا الذكر أكثر الأصحاب بركة ونفعاً في الدنيا والآخرة .
وقال الشاعر :
(أعز مكان في الدنا سرج سابح … وخير جليس في الزمان كتاب)( ).
إنما أعز مكان في الدنيا المسجد ، وخير جليس وصاحب القرآن ، والتسبيح وكتاب الذكر والهداية والرشاد ، وليس الكتاب مطلقاً ففي الكتب الغث والسمين ، وكل من المسجد والقرآن واقية من النار وعذابها والخزي المصاحب لها كما في آية البحث .
ومن معاني صيغة المضارع العلوم والإكتشافات الحديثة في عالم الفلك ، فلولا العلم الحديث لما علم الناس أن كوكب الجدي يبعد عن الأرض أكثر من مائتي ألف ترليون كيلو متر ويبلغ ضياؤه 1500 ضعف ضياء الشمس ، وله تسميات أخرى عند الأمم المختلفة ، ويسمى علمياً في هذا الزمان (polaris) اشتقاقاً من كلمة (pols) أي القطب.
وأن درجة الحرارة على الكوكب عطارد الذي هو قريب من الشمس (400) درجة مئوية فوق الصفر في النهار ، ليشكر الناس الله عز وجل على نعمة اعتدال الجو في الأرض .
ومن عجائب الكون والفضاء أن الإكتشافات البالغة للكواكب أظهرت عدم وجود حياة فيها ، لبيان الإعجاز والحكمة وبديع القدرة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
وهل قول (ربنا ) الذي ابتدأت به آية البحث حرز وواقية من النار التي تذكرها وتذكر الخزي بدخولها ، الجواب نعم ، ليكون من إعجاز الآية القرآنية أن أولها ضياء وسلامة للنجاة من الإنذار والوعيد الذي تتضمنه .
كلمة التوحيد
يتجلى التوحيد بكلمة لا إله إلا الله وما في معناها ، ولأجلها خلق الله السماوات والأرض وما بينهما ، وبها بعث الأنبياء والرسل ليجاهدوا في تثبيتها في الأرض ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، مبشرين لمن يقولها ويعمل بالأحكام المترشحة عنها ، ومنذرين للذي يعرض عنها ، ويزهد فيها .
ومع تضمن كلمة التوحيد للنفي والإثبات فانها سهلة على اللسان ، وتصدر من القلب والجنان ، وتلامس شغاف قلوب السامعين أبراراً كانوا أو فجاراً ، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري لكلمة التوحيد.
و(عن عتبان بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لن يوافي عبد يوم القيامة يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله إلا حرم على النار)( ).
ومن معاني آية البحث بلحاظ الحديث النبوي أعلاه لحوق الخزي بالذين لم ينطقوا بكلمة التوحيد .
ويكون تقدير الآية على وجوه منها :
أولاً : ربنا إنك من تدخل النار من لا ينطق بكلمة التوحيد .
ثانياً : ربنا من لا ينطق بكلمة التوحيد فقد أخزيته.
ثالثاً : وما للظالمين الذين لا ينطقون بكلمة التوحيد من أنصار.
وهل يمكن احتساب آية البحث من آيات التوحيد ، الجواب نعم.
ومن معاني الإله في المقام : الخالق المعبود.
ليخرج المعبود غير الخالق كالطاغوت والأوثان ، فلا يكفي الوصف بالمعبود وحده لأنه عنوان عام .
فالله عز وجل وحده الذي يختص بصفات الجلال والكمال مما يتعذر على الخلائق الإحاطة بها ، وهل يدل النداء (ربنا) في أول آية البحث على التوحيد أم أنها حكم ظاهري يحتمل معه احتمالاً ضعيفاً الشرك ، الجواب هو الأول.
لذا نسبت الآية قبل السابقة القول إلى [ِأُولِي الْأَلْبَابِ] وذكرت الآية السابقة التسليم بأن الله عز وجل هو خالق كل شئ.
فمن الإعجاز في المقام شهادة الآية السابقة للذين يتلون آية البحث بالتوحيد ، ومنها إنقطاعهم إلى ذكر الله على هيئاتهم وأحوالهم المختلفة.
ومن المصاديق العملية لكلمة التوحيد العبودية لله وحده الذي يسمى (توحيد العبادة) وتدل عليه الآية السابقة في منطوقها ، أو آية البحث في دلالتها ومفهومها.
وادعى فرعون الربوبية لخصوص أهل مصر ، واشتدت محاربته لبني إسرائيل لإعلانهم التوحيد ، وأراد قتل موسى عليه السلام فخرج بنو إسرائيل من مصر بوحي من عند الله ، ولما أشرف على الغرق ، قال [آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
ولكن إيمانه هذا لم ينفعه إذ جاء الرد الفوري في الآية التي بعدها.
و(عن ابن عباس قال : لما خرج آخر أصحاب موسى ودخل آخر أصحاب فرعون ، أوحى إلى البحر أن أطبق عليهم ، فخرجت اصبع فرعون بلا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . قال جبريل عليه السلام : فعرفت أن الرب رحيم وخفت أن تدركه الرحمة فدمسته بجناحي ، وقلت [آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ]( ).
فلما خرج موسى وأصحابه قال : من تخلف في المدائن من قوم فرعون ، ما غرق فرعون ولا أصحابه ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون .
فأوحى إلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً ، فلفظه عرياناً أصلع أخنس قصيراً ، فهو قوله [فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً]( ) لمن قال : إن فرعون لم يغرق ، وكانت نجاته عبرة لم تكن نجاة عافية ، ثم أوحى إلى البحر أن الفظ ما فيك ، فلفظهم على الساحل وكان البحر لا يلفظ غريقاً يبقى في بطنه حتى يأكله السمك ، فليس يقبل البحر غريقاً إلى يوم القيامة)( ).
بحث عرفاني
ابتدأت آية البحث بالنداء (ربنا) ومن معانيه وجوه :
الأول : الإستجارة .
الثاني : الإستقامة .
الثالث : الدعاء .
الرابع : التوسل .
الخامس : البيان .
السادس : إرادة المقدمة لموضوع أو حكم .
السابع : إرادة بيان الحاجة .
الثامن : الحب لواجب الوجود .
التاسع : المسكنة وإظهار العبودية والخشوع لله عز وجل .
العاشر : السؤال من منازل الإقرار بالطاعة لله عز وجل ونبذ الشريك .
الحادي عشر : بيان مصداق لأخوة المسلمين والمسلمات في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، فمن معاني هذه الأخوة قول المسلمين في آية البحث (ربنا) وتعاونهم في طاعة الله .
الثاني عشر : من معاني الرب السيد المطاع لبيان أن النداء (ربنا) شاهد على استجابة المسلمين والمسلمات للأوامر والنواهي من عند الله عز وجل .
الثالث عشر : حلاوة قول (ربنا) وهو سبب لبعث الطمأنينة في نفوس المسلمين ، ومن مصاديق قوله تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا)( ).
الرابع عشر : يحتمل المراد من الضمير (نا) في قول (ربنا) جهات:
الأولى : رب كل مسلم .
الثانية : رب المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
الثالثة : رب المسلمين والناس جميعاً .
الرابعة : رب الجن والإنس .
الخامسة : الله رب الخلائق كلها .
والمختار الخامسة أعلاه ، وإن قيل أن القدر المتيقن من قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، إرادة عالم العقلاء ، فالجواب ربوبية الله مطلقة شاملة للعقلاء والجمادات ، وذكر أولي الألباب للربوبية نيابة عنها ومنها قوله تعالى [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ]( )، والله عز وجل وحده هو الخالق المعبود المصلح للخلائق ، وهو رب الأرباب ، ومالك الملوك ، وكل ما سواه مخلوق ومربوب.
براءة المسلمين من الإستكبار
إرادة تبرء المسلمين من الإستكبار والعتو والغلو بالأنبياء والأئمة ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انقطاع إدعاء الطواغيت الربوبية .
ولقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان عبوديته لله عز وجل ، وخشوعه له وهذا البيان على جهات :
الأولى : الترجمة العملية لآيات القرآن .
وفي خصوص ليلة المعراج ، قال تعالى [فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى]( )، ففي أسمى مقامات النبوة ، والمعجزة الكونية بالإسراء نزلت آية العبودية أعلاه لمنع الغلو بشخصه.
الثانية : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إمامة المسلمين في الصلوات اليومية الخمس وهو من معجزات العبودية لله في تأريخ النبوة من أيام ابينا آدم عليه السلام ، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل كانت هذه الصلاة مناسبة محتملة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل المشركين ، والذين كفروا مطلقاً ، الجواب نعم.
وقد وقع اغتيال عمر بن الخطاب في ذات المسجد النبوي وفي صلاة الفجر كما وقع اغتيال الإمام علي عليه السلام في صلاة الفجر أيضاً وإمامته للمسلمين في مسجد الكوفة ، وفيه شاهد متأخر زماناً على أن القتل كان قريباً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وإن الله صرفه بمعجزة لبيان أن هذا الصرف من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وأن من الرحمة في المقام صرف القتل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدة التبليغ التي استمرت ثلاثاً وعشرين سنة وكان احتمال القتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من احتمال قتل عمر بن الخطاب والإمام علي.
لبيان قانون المعجزة المتأخرة زماناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص شخصه الكريم ، فمع هذا الإحتمال وحاجة المسلمين والناس لاستدامة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه كان يخرج لكل فرض من الصلوات اليومية.
وهل إدراك الصحابة والناس هذه المعجزة بسلامته في الصلاة اليومية من بذل المشركين الوسع في إرادة اغتياله أو قتله في ميدان المعركة ، الجواب نعم ، لجهات :
الأولى : دخول أفواج من الناس الإسلام .
الثانية : حرص أجيال المسلمين على أداء الصلاة ، وتعاهدهم لصلاة الجماعة .
الثالثة : بعث اليأس في نفوس المشركين ، وإدراكهم للعجز عن إيقاف نزول القرآن ، لأنهم علموا أن القرآن لا ينزل إلا على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : استحقاق الذين كفروا دخول النار ، وما بينته آية البحث من لحوق الخزي بهم.
قوله تعالى [إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ]
من قوانين عقيدة الإيمان التقرب إلى الله عز وجل بالثناء عليه , وتعظيم مقام الربوبية والإقرار بالتوحيد , ليكون هذا الإقرار مقدمة للمسألة والحاجة .
ومن إعجاز القرآن أن سؤال النجاة من النار والوقاية من حرها جاءت بعد الثناء على الله عز وجل فهو سبحانه يقبل الثناء عليه ويثيب عليه وهو أكرم من أن يرد الدعاء الذي جاء في آية البحث بصيغة الشرط والجزاء للملازمة بين دخول النار وبين الخزي على رؤوس الأشهاد .
و(عن سعيد بن المسيب في قوله { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته }( ) قال : هذه خاصة لمن لا يخرج منها) ( ).
ولا دليل عليه وهو خلاف ظاهر الآية فذات الدخول خزي من ساعته بل أن الخزي سابق له في مواطن يوم القيامة , وهو الذي تدل عليه الآية بمجئ دخول النار بصيغة المضارع بينما ورد لفظ (أخزيته) بصيغة الماضي.
و(عن جابر بن عبد الله ، أنه ذكر حديث الجهنّميّين فقيل له : ما هذا الذي تحدث والله تعالى يقول : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته }( ){ وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها }( ) فقال : هل تقرأ القرآن؟
قال : نعم . قال : فهل سمعت فيه بالمقام المحمود؟
قال : نعم .
قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يخرج الله به من يخرج)( ) .
أي أنه يسلم بأن ذات دخول النار خزي حتى للذي يخرج منها فيما بعد بالشفاعة ويكون من الجهنميين , وهذه التسمية شاهد حاضر بين أهل الجنة وأهل النار على رحمة الله عز وجل بالناس يوم القيامة .
وتتضمن آية البحث الإستجارة من دخول النار ، وهل هي مدد وعون للمسلم بتنحيته عن سبل دخول النار ، الجواب نعم ، وهو من فيض الآية القرآنية على جوارح وأركان الذي يتلوها.
أسماء النار
هل أسماء النار من المترادف ، وهل من فرق بينها أم الإختلاف باللفظ وتعدد الاسم مع إتحاد المسمى ، ليس من قاعدة كلية في المقام .
والمترادف لغة هو ما تبع الشئ ، وكل شئ تبع شيئاً فهو ردفه ، والترادف التتابع .
يقال (هو رديفه وردفه، وقد ردفه وأردفه وارتدفه وتردفه: ركب خلفه. واستردفه: سأله أن يردفه فأردفه)( ).
وإذا لم يجد القوم إبلاً كافية يركبون عليها ، ركب بعضهم خلف بعض ، فيقال : جاءوا ردافى .
والترادف في الإصطلاح هو تعدد الأسماء واتحاد المسمى ، سمي به لأن الكلمات تترادف ويركب بعضها خلف بعض لخصوص مسمى ومعنى واحد ، فيكون المعنى كالمركوب والأسماء والألفاظ راكبة عليه .
وقيل من المترادف الزوج والمرأة ، ولكن بينهما عموم وخصوص من وجه ، إذ أن لفظ الزوج شامل للرجل والمرأة ، كما أن النسبة بين المرأة والزوجة عموم وخصوص مطلق ، فالمرأة أعم .
وقد يختلف المعنى والمسمى ويتحد الاسم ، كما في لفظ السد في القرآن ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ]( ).
وقال تعالى [قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا]( ).
لبيان التباين بين مسمى الشئ في الدنيا ، والعجز عن تصور مسماه في الآخرة .
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال (كفار قريش غطاء [فَأَغْشَيْنَاهُمْ] يقول : ألبسنا أبصارهم [فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ] النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيؤذونه.
وذلك أن ناساً من بني مخزوم تواطئوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه .
منهم أبو جهل ، والوليد بن المغيرة .
فبينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي يسمعون قراءته.
فأرسلوا إليه الوليد ليقتله ، فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه ، فجعل يسمع قراءته ولا يراه ، فانصرف إليهم ، فأعلمهم ذلك.
فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه ، سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضاً من خلفهم ، فانصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلاً .
فذلك قوله وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا…( ).
إيذاء المشركين للنبي (ص) بالقول والفعل
في آية البحث إنذار للمشركين إذ أنهم سمعوا التنزيل ، ورأوا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم بكرة وعشياً إلى الإيمان دعوة قولية وفعلية ، أما القولية فانه يطلب منهم النطق بكلمة التوحيد ونبذ عبادة الأوثان ، ويتلو عليه آيات القرآن وينذرهم من النار ومن مصاديق هذا الإنذار تلاوة آية البحث ، وأما العملية فهي على جهات :
الأولى : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلوات الخمس بمرأى ومسمع من المسلمين والمشركين .
الثانية : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترقب وقت الزوال وهو في المسجد الحرام ، ليقوم ويصلي صلاة الظهر بآية لم يعهد مثلها أهل مكة والوافدون إليها ، فتبعثهم على التفكر والتدبر ، وهو الذي آثار حفيظة قريش فمشوا وفوداً متعددة .
فساروا إلى عمه أبي طالب ليمنعه من شتم آلهتهم وسب آبائهم مع أنه لم يسب آبائهم إنما نزلت آيات القرآن بذم عبادة الأوثان وسوء عاقبتها وهو الذي تدل عليه آية البحث ومع أنها مدنية ، نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
وعن السدي بتصرف (لما حضرت أبا طالب الوفاة ، قالت قريش : إنطلقوا فلندخل على هذا الرجل ولنأمرنّه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فيقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه .
فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحرث ، وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البحتري ، إلى أبي طالب.
فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمداً قد آذانا وآذى الهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر الهتنا ولندعه وإلهه .
فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : ما يريدون.
قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم.
قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشراً أمثالها فما هي .
قال : قولوا : لا إله إلاّ اللّه ، فأبوا واشمأزّوا.
وقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي ، فإن قومك قد فزعوا منها.
فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها.
فقالوا : لتكفّنّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمن من يأمرك ، فأنزل اللّه تعالى [وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ]( )، من الأوثان فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا( ).
ويستدل بالآية أعلاه في باب سد الذرائع في علم الأصول.
الثالثة : تحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى وهو يؤدي الصلاة في البيت الحرام ، ويتجلى هذا الأذى بأمور :
الأول : شتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإستهزاء بالرسول .
الثالث : القيام بالصفير والتصفيق اثناء قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة في المسجد الحرام ، قال تعالى [وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( )، والمكاء : الصفير بالفم ، والتصدية : التصفيق باليدين .
وقد يجمع بعضهم بين الصفير والتصفيق في آن واحد ليمنع الناس من الإنصات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته القرآن في الصلاة ولإيذائه وإظهار السخرية منه .
وعن ابن عباس (كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة ، كان يصلي قائماً بين الحجر والركن اليماني ، فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء ، والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته)( ).
واستدل ابن عباس بقول حسان بن ثابت :
(قوم إلى الصلاة إذا دعينا … وهمتك التصدي والمكاء
وقال آخر من الشعراء في التصدية :
حتى تنبهنا سحيراً … قبل تصدية العصافير)( ).
الرابع : من المدد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحكام التقية وتمكينه من التحلي بالصبر ، وتحمل أذى المشركين ، وكان إذا صلى في البيت الحرام يجهر بقراءته في تكبيرة الإحرام وفي التسبيح في الركوع والسجود فنزل قوله تعالى [وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا]( ).
لتكون هذه التقية حجة على الذين كفروا يوم القيامة .
قوله تعالى [فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]
من الملوك من يعد جنوده وأعوانه بالسعادة في الدنيا ، ويفرق عليهم الأموال والعطايا ، ومنهم من يبشرهم بالنعيم في الآخرة .
فنزلت آية البحث لتخبر أجيال الناس المتعاقبة بأن الحكم والأمر يومئذ لله عز وجل وهو الذي يدخل المؤمنين الجنة ، ويدخل الكفار النار ، والمدار على الإعتقاد والعمل مجتمعين ، ليكون الناس في حيطة وحذر ليوم النشور ، وأن يوصي الآباء الأبناء بالصلاة والإستعداد للحساب الأخروي.
(وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا ، عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( )، على أصحابه وفيهم شيخ.
فقال : يا رسول الله ، حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده ، لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا . فوقع مغشياً عليه.
فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي ، فناداه فقال : قل لا إله إلا الله .
فقالها ، فبشره بالجنة : فقال أصحابه : يا رسول الله ، أمن بيننا.
فقال : نعم ، يقول الله عز وجل [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ]( ) ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ( ).
وقال الصاحب بن عباد (الخِزْيُ: السُّوء، خَزِيَ يَخْزى خِزْياً. وأقامَه على خَزْيَةٍ ومَخْزَاة)( ).
والمختار أنه أعم من السوء لقوله تعالى [إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ]( )، ليدل العطف في الآية أعلاه على التعدد والمغايرة بين الخزي والسوء.
ومن معاني الخزي الهوان والذل والعار ، والخزي نوع مفاعلة بلحوقه بصاحبه بين الملأ.
لتكون الشماتة بالمشركين عند كل من :
الأول : الملائكة .
الثاني : أهل المحشر .
الثالث : أصحاب الجنة ، وفي التنزيل [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الرابع : أهل النار .
لبيان تكرر مصاديق الخزي للظالمين ، وأنه لا ينحصر بعرصات يوم القيامة بل يتجدد هذا الخزي للكافرين وهم في النار ، فلا ينفع أهل النار هذا النداء وهم في النار ، بينما ربح المؤمنون لأنهم نادوا الله عز وجل وهم في الدنيا بقول (ربنا).
و(عن زيد بن رُفَيْع رفعه قال : إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ، ثم بكوا القيح زمانا.
قال : فتقول لهم الخَزَنَة : يا معشر الأشقياء ، تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا ، هل تجدون اليوم من تستغيثون به.
قال : فيرفعون أصواتهم : يا أهل الجنة ، يا معشر الآباء والأمهات والأولاد ، خرجنا من القبور عطاشا ، وكنا طول الموقف عطاشا ، ونحن اليوم عطاش ، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم ، ثم يجيبهم [إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ]( ) فييأسون من كل خير)( ).
ومن الإعجاز في بعثة الأنبياء والرسل الدعوة السماوية للناس جميعاً لسؤال الجنة ، والتعوذ من النار ، وهذه الآية من آيات التعوذ من النار ، وفيها شاهد على قانون الآية القرآنية حجة على الناس .
وورد في سفر الأمثال من التوراة :
(22:10 اطرد المستهزئ فيخرج الخصام و يبطل النزاع و الخزي)( ).
لبيان إعجاز القرآن بالإنذار للكفار والمستهزئين ، وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عليهم ، من غير أن يطردهم ، قال تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
ولا يختص خزي الكافرين في الآخرة ، بل يشمل عالم الدنيا ، قال تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
وردت الآية بصيغة الماضي ، فلم تقل : من تدخل النار تخزيه ، مما يدل على وجوه :
الأول : لحوق الخزي بالذين كفروا في الحياة الدنيا ، وهل ينحصر هذا الخزي عند الملائكة ، وأنهم يزدرون الكافرين ، الجواب لا ، فخزي الذين كفروا في الدنيا أعم .
الثاني : خزي الذين كفروا فيما بينهم لتخلفهم عن الإيمان الذي جعله الله عز وجل من الفطرة .
الثالث : خزي الكافر عند دخوله القبر ، وإنقطاع صلته بالحياة الدنيا ، ومن هذا الإنقطاع عدم وجود من يدعو له ويتصدق عنه ، ويقضي عنه العبادات .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له ، أو ولد صالح يدعو له)( ).
ومن خزي الكافر أن الدعاء والصدقة لا تصل إليه ، إذ حجبها عن نفسه بالكفر والضلالة إلا أن يشاء الله .
لقد كان الذين كفروا يظنون أن الآلهة يشفعون لهم عند الله ، فابطلت آية البحث هذا الظن والإدعاء ، ليكون هذا الإبطال من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).، ومن الرحمة في المقام إنذار الناس من الخزي يوم القيامة ، مع البيان والكشف بترشح هذا الخزي عن الكفر والضلالة .
الرابع : لحوق الخزي بالكافرلسبب غيري وهو إفتتان الناس بكفره و(عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك ، ومن سن سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة)( ).

أوان الخزي
الخزي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ، وأشد الخزي الذي يأتي من عند الله ، ومنه ما يتصف بالخلود وهو خزي أهل النار لقانون مصاحبة الخزي لدخول النار .
ويحتمل قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( )، بلحاظ زمان ومكان هذا الخزي وجوهاً :
الأول : الخزي عند دخول النار ، وهو المستقرأ من ظاهر اللفظ.
الثاني : الخزي في الحياة الدنيا ، كمقدمة للخزي الأكبر في الآخرة ، وفي الكفار من الأمم السابقة ، قال تعالى [فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
ومن هذا الخزي نزول العذاب بهم ، وصيرورة ديارهم أطلالاً خاوية .
الثالث : الخزي عند دخول القبر ، ومجئ منكر ونكير للحساب الإبتدائي .
و(عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا ادخل الإِنسان قبره ، فإن كان مؤمناً أحف به عمله : الصلاة والصيام . فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ، ومن نحو الصيام فيرده فيناديه : اجلس .
فيجلس ، فيقول له : ما تقول في هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من قال محمد.
قال أشهد أنه رسول الله .
فيقول : وما يدريك . . . ؟ أدركته.
قال : أشهد أنه رسول الله . فيقول : على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث .
وإن كان فاجراً أو كافراً ، جاءه الملك وليس بينه وبينه شيء يرده ، فأجلسه وقال : ما تقول في هذا الرجل.
قال : أي رجل؟ قال : محمد . فيقول : والله ما أدري . . . سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته . فيقول له الملك : على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث . ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل عرف البعير ، يضربه ما شاء الله . . . لا تسمع صوته فترحمه .
وأخرج أحمد والبيهقي عن عائشة قالت : جاءت يهودية فاستطعمت على بابي ، فقالت : أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر ، فلم أزل أحبسها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقلت : يا رسول الله ، ما تقول هذه اليهودية .
قال : وما تقول ، قلت : تقول أعاذكم الله من فتنة الدجال ، ومن فتنة عذاب القبر . فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرفع يديه مدّاً يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر ، ثم قال : أما فتنة الدجال ، فإنه لم يكن نبي إلا قد حذر أمته ، وسأحذركموه بحديث لم يحدثه نبي أمته ، إنه أعور والله ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه كافر ، يقرؤه كل مؤمن .
وأما فتنة القبر ، فبي تفتنون وعني تُسْألون ، فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره غير فزع ولا مشغوف .
ثم يقال له : فيم كنت؟ فيقول : في الإِسلام ، فيقال : ما هذا الرجل الذي كان فيكم.
فيقول : محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه.
فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ، فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله . ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال : هذا مقعدك منها .
ويقال : على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله .
وإذا كان الرجل السوء ، جلس في قبره فزعاً مشغوفاً ، فيقال له : فيم كنت؟ فيقول : لا أدري .
فيقال : ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولاً فقلت كما قالوا ، فيفرج له فرجة قبل الجنة ، فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال انظر إلى ما صرف الله عنك ، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً.
ويقال : هذا مقعدك منها على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله)( ).
ولا يختص خزي الكافرين في مواطن وعرصات يوم القيامة ، بل أن تلاوة آية البحث سبب لخزيهم بين الناس ، لتكون في مفهومها من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ]( )، قال تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).

الشفاعة واقية من الخزي
عن أنس بن مالك قال (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الرجل يشفع للرجلين والثلاثة والرجل للرجل)( ).
والشفاعة لغة مصدر من شفع يشفع من إنضمام الواحد إلى الآخر ، فيكون شفعاً أي زوجاً بعد أن كان وتراً .
وشفعت لي الأشباح أي رأيت الشخص شخصين لضعف البصر .
والشفاعة في الإصطلاح الطلب والسؤال لحصول مصلحة ، والتوسط بالقول لجلب منفعة ، والتجاوز عن أي ذنب لشخص أو جماعة أو لدفع ضرر عنهم .
وفي الشفاعة أطراف :
الأول : الشفيع .
الثاني : المشفوع له .
الثالث : موضوع الشفاعة .
الرابع : الذي يستشفع عنده.
سواء قبلت الشفاعة أو لا ، وتشفعت له وشفعني فيه (قال الأعشى :
واستشفعت من سراة الحيّ ذا ثقةٍ
فقد عصاها أبوها والذي شفعا)( ).
ونزل القرآن في ذم المشركين ، وقطع أملهم من الشفاعة [وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ]( ).
ويستحب قبول الشفاعة من المسئ ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) ويمكن تسمية يوم القيامة يوم الشفاعة لفضل الله عز وجل في فتح باب الشفاعة للملائكة والأنبياء وأهل البيت ، ويتجلى تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة شفاعته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى]( ).
ومن حديث الشفاعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي يسمى (الشفاعة العظمى) .
(عن أنس : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ( ).
ليكون هذا الحديث بلحاظ آية البحث بشارة للمسلمين والمسلمات بالنجاة من النار ، وما يصاحبها من الخزي.
لبيان قانون أن بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من التي وردت في القرآن فيدل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ) على تضمن السنة النبوية البشارة والإنذار إلى جانب آيات القرآن وعن (جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حَلّتْ له شفاعتي يوم القيامة .
وأخرج ابن أبي شيبة عن سلمان قال : يقال له : سل تعطه – يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم – واشفع تشفع ، وادع تجب .
فيرفع رأسه فيقول : أمتي . مرتين أو ثلاثاً ، فقال سلمان: يشفع في كل من في قلبه مثقال حبة حنطة من إيمان أو مثقال شعيرة من إيمان أو مثقال حبة خردل من إيمان .
قال سلمان: فذلكم المقام المحمود)( ).
وتبعث آيات وأحاديث الشفاعة السكينة في النفس عند تلاوة آية البحث وهي لا تتعارض مع وجوب السعي لإجتناب الخزي خاصة وأن الشفاعة لا تأتي من رأس عند البعث من القبور .
آيات في خزي الكافرين
هل يتضمن القرآن شواهد من الخزي الأخروي للكفار ، الجواب نعم ، ومنه قوله تعالى [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( ).
وقوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وقوله تعالى [وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ]( ) وقوله تعالى [ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ]( ) .
ومن الخزي حال العمى في الآخرة ، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا]( ) أي من كان في الدنيا أعمى عن الآيات والبراهين التي تدل على وجوب عبادة الصانع ، ليكون من إعجاز نظم القرآن تقدم الآية السابقة ودلالة [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( ) لبيان الذي لا يتدبر في الآيات الكونية ودلالالتها هو أعمى في الدنيا .
مع أن الله عز وجل رزقه حاسة البصر ، بينما يراها الأعمى بقلبه وسمعه وحواسه الأخرى ، وما يسمعه من الناس من التلاوة ووصف الآيات الكونية ، وأصوات الرعد والمطر ، لذا ذكرت الآية قبل السابقة ، [وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ]( ).
ويرتقي العلم الحديث في هذه الأيام ليرى الأعمى الآيات الكونية فيكون تقييد الأعمى في هذه الآيات بأنه الكافر الذي يعرض عن الآيات والبراهين الدالة على وجوب عبادة الله على إعجاز القرآن.
وهل يختص الخزي بما يكون عند الغير أم يشمل الذات ، الجواب هو الثاني إذ تستحوذ الندامة على أهل النار بحيث يشعر أهلها بالحسرة والخزي الذاتي ، وهو على شعبتين :
الأولى : خزي الإنسان في قراره نفسه .
الثانية : الخزي بين أهل النار ، فكل فرد يستحي ويتألم من رؤية أصحاب له في حال العذاب ، وتتغشاهم جميعاً الحسرة والأسى ، قال تعالى [وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ]( ).
ومن الخزي الذاتي أعلاه حشر الحجارة والأصنام التي يعبد الكافرون معهم في النار .
قانون صرف مقدمات دخول النار
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإمتحان والإبتلاء والإختبار ، وجعل الله عز وجل الإنسان وجهاً لوجه مع أسباب ومقدمات دخول الجنة ،إذ قربه إلى الإيمان ، وقرّب الصالحات له ، وسخرت السموات والأرض للحجة والبرهان في دعوته إلى الإيمان ، ونبذ الشرك الذي هو أم الكبائر ، ورأس كل خطيئة .
وليس بين الإنسان وبين الإيمان إلا قانون الشهادة بالتوحيد ، والتصديق بالرسالات والتنزيل ، بمعنى أنه ليس من برزخ من الناس أو الخلائق مطلقاً يقف حاجزاً دون إيمان العبد ، فان قلت الصلاة عمود الدين فماذا لو أكره الإنسان على ترك الصلاة ، الجواب لا تترك الصلاة بحال .
وتؤدى ولو بالتسبيح والتكبير باخفات من غير ركوع ولا سجود ، كما يسقط استقبال البيت الحرام ، لذا لا يمكن منع الإنسان من الصلاة فهي حبل ممدود بين العبد وبين الله عز وجل ، والميسور لا يترك بالمعسور .
وهل الآية القرآنية من مقدمات صرف الإنسان عن دخول النار، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : التصديق بأن الآية القرآنية نازلة من عند الله .
الثانية : تلاوة القرآن بقصد القربة إلى الله عز وجل .
الثالثة : العمل بمضامين آيات القرآن ، وما فيها من الأحكام التكليفية وهي :
الأول : الوجوب .
الثاني : الندب .
الثالث : الإباحة .
الرابع : الكراهة .
الخامس : الحرمة .
وحينما أخبرت الآية عن دخول طائفة من الناس النار ، فان آيات القرآن الأخرى بينت أموراً :
الأول : طرق النجاة من النار .
الثاني : أسباب تدارك دخول النار بالتوبة والإنابة والإستغفار ، قال تعالى [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) .
و(عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)( ).
الثالث : بيان القرآن لسبل دخول الجنة بالنص الواضح الجلي ، وهو من إعجازه ، ومن إقامة الحجة على الناس .
لقد جعل الله عز وجل كل آية قرآنية طريقاً إلى الجنة سواء كانت آية بشارة أو إنذار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ) ليجتمع في الآية القرآنية الضدان .
فتكون الآية على وجوه :
الأول : الآية القرآنية بشارة .
الثاني : الآية القرآنية إنذار .
الثالث : الآية القرآنية بشارة وإنذار .
الرابع : منطوق الآية القرآنية بشارة ومفهوماً إنذار.
الخامس : منطوق الآية إنذار ووعيد ، ومفهومها بشارة ووعد .
وآية البحث من الوجه الثاني والخامس أعلاه لبيان قانون انتفاع كل إنسان من الآية القرآنية ، والنهل من علومها والإستضاءة بمضامينها.
وآية البحث من الوجه الثاني أعلاه ، وهي تدل في مفهومها على نجاة المؤمنين من النار .
لقد نزلت آية البحث ليجتهد المؤمنون في طاعة الله عز وجل ، ويجعلون أهوال الآخرة حاضرة في كل من :
الأول : الوجود الذهني .
الثاني : المناجاة وأحاديث المجالس والمنتديات ، قال تعالى [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثالث : استحضار عالم الآخرة في الأسواق التي هي شر الأماكن ، وهل تلاوة آية البحث من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ) الجواب نعم ، لما تبعثه من الدعاء ، والفقاهة ،والرجاء والأمل ، والإستجارة بالله واللجوء إليه سبحانه ولتصديق المسلمين بمضامينها القدسية.
قانون إحصاء أسباب الصرف عن النار
لقد صدر الجزء السابع والأربعون بعد المائتين من هذا السِفر بخصوص (علم الإحصاء القرآني غير متناه ) وهل يمكن لنا إحصاء كثرة أسباب صرف الناس عن النار ، الجواب لا ، وهو من اللطف الإلهي بالناس ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ) .
وسيطلع الناس في الآخرة وقبل دخول المؤمنين الذين عملوا الصالحات الجنة ، ودخول الظالمين النار على تلك الأسباب ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ) .
وهل تبين هذه الأسباب للناس على نحو الإجمال أم على نحو التفصيل، الجواب هو الثاني من جهات :
الأولى : الأسباب العامة لإجتناب النار ، والتي ينتفع منها الناس جميعاً.
الثانية : الأسباب الخاصة لكل إنسان ، فكما تختلف بصمة أصابع وعين الإنسان عن غيره من عموم البشر ببديع قدرة الله ، فان هناك أسباباً خاصة توجهت لكل إنسان غير الأسباب التي توجهت إلى غيره .
الثالثة : الأسباب التي خص الله عز وجل بها المؤمنين الذين صدّقوا النبوة والتنزيل ، وآمنوا ببعثة الرسل جميعاً ، وكل فرد منها نعمة عظمى ، وحجة على الناس ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ).
وتحتمل آية البحث وجهين :
الأول : إنها نعمة متحدة .
الثاني : آية البحث نعمة متعددة .
والصحيح هو الثاني ، لبيان قانون وهو أن الآية القرآنية نعمة متعددة ، وهذا التعدد في الدنيا ، وفي الآخرة ، وأيهما أكثر كماً وكيفاً ، الجواب هو الثاني ،فالنعم المترشحة عن الآية القرآنية في الآخرة أضعاف ما لها في الدنيا.
وإذ قالت آية البحث [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] فهل هي نصير للمؤمنين في الآخرة ، أم أن القدر المتيقن من النصير هو الأشخاص.
الصحيح هو الأول ، فالآية القرآنية نصير وشفيع وواقية من النار ، ولا يحصي المواطن التي تحضر فيها الآية القرآنية لتاليها ، والعامل بمضامينها إلا الله عز وجل.
و(عن أنس مرفوعاً قال : يبعث رجل يوم القيامة لم يترك شيئاً من المعاصي إلا ركبها إلا أنه كان يوحد الله ، ولم يكن يقرأ من القرآن إلا سورة واحدة فيؤمر به إلى النار فطار من جوفه شيء كالشهاب.
فقالت : اللهم إني مما أنزلت على نبيك صلى الله عليه وآله وسلم وكان عبدك هذا يقرؤني ، فما زالت تشفع حتى أدخلته الجنة ، وهي المنجية تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ( ).
قانون المعاملات مناسبة للنجاة من النار
وهل من صلة بين آية الدين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ) وأحكامها وبين آية البحث , الجواب نعم , لبيان قانون موضوعية المعاملات وصحتها في النجاة من لهيب النار وهو من لطف الله عز وجل في هداية المسلمين إلى العمل الصالح وإعانة المحتاجين , واتخاذ المال وسيلة واقية من الخزي يوم القيامة , لذا ابتدأت آية البحث أعلاه بنداء الإيمان لبيان أن أحكام الآية رحمة ونعمة خصّ الله عز وجل بها المؤمنين لبعثهم على التوبة والصلاح.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (إذا تداينتم) إنما ذكرت التداين وما فيه من المفاعلة للإشتراك في الأجر والثواب , وفي مرسلة الشعبي (قال : استقرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رجل تمراً فلم يقرضه قال : لو كان هذا نبياً لم يستقرض ، فأرسل إلى أبي الدحداح فاستقرضه فقال : والله لأنت أحق بي وبمالي وولدي من نفسي ، وإنما هو مالك فخذ منه ما شئت واترك لنا ما شئت ، فلما توفي أبو الدحداح قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رب عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة)( ).
والله عز وجل [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
وهو الذي يرزق العبد المال , ويجعل حاجة الناس المؤقتة والمحصورة عنده ليقضيها فيثاب عليها في الدنيا والآخرة .
وأبو الدحداح من الأنصار مما يدل على أن الخبر أعلاه في المدينة بعد الهجرة النبوية , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينفق في الصباح مائتي ألف , وثلاثمائة ألف , ويمسي أهل البيت وليس عندهم قدر تحته نار , لبيان مصداق من مصاديق نبوته .
بحث بلاغي : حسن نسق الآية
لقد صدر النداء في الآية من المؤمنين وفيه تأديب للناس جميعاً ودعوة لهم للإيمان ، والتصديق باليوم الآخر وعالم الحساب ولا تستثني هذه الدعوة أحداً ، فتشمل العالم والجاهل ، والرجل والمرأة ، كما أنها حرب على النفاق .
لقد كان المنافقون يحضرون الصلاة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون تلاوته لآية البحث ، وذكرها على المنبر وفي الحديث إصلاحاً للنفوس ، وزاجراً عن النفاق.
فجاءت الآية بنسق بديع لجذب الإنتباه ، وإملاء الإصغاء على الناس ، وحملهم طوعاً وقهراً على الإصغاء .
ومن معاني حسن النسق ابتداء الآية بالنداء (ربنا) لتحدي الذين كفروا بأن المسلمين يلتقون جميعاً بالإقرار بالربوبية لله عز وجل.
بينما يكون المشركون متفرقين ، ومن حسن النسق الآية جمع القرين مع قرينه ، إذ جمعت الخزي مع دخول النار لبيان الملازمة بينهما مع سبق وتآخر الخزي عن دخول النار .
لبيان رجاء الناس بفضل الله ورحمته وعفوه وقبوله الشفاعة ، وأيهما أكثر الذين يستحقون النار فيعفو عنهم الله ، أم الذين يستحقونها ويُدخلون فيها .
الجواب هو الأول ، قال تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
و(عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقول : يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك ، ويا عبدي لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة)( ).
علم المناسبة
الخزي هو الذل والهوان في ذات الإنسان وبين الناس ، وفي يوم القيامة يكون موضوع الذل أعم بين أهل المحشر إذ تجتمع الأجيال المتعاقبة في عرصات القيامة فيلحق الكافر الذل بين أقرانه وجيرانه وأولاده وأحفاده وآبائه ، وهو عذاب آخر غير عذاب النار وسابق ومصاحب له.
ويبدأ الخزي والذل من ساعة قبض الملائكة لروح الكافر بالغلظة والقسوة التي يقبضون بها روحه ، وبهيئة الغضب التي يحضرون فيها ، وهيئة الملائكة ساعتئذ من مصاديق تسمية الإحتضار ، بينما يحضر الملائكة لقبض روح المؤمن بالبشارة والإيمان .
وهل الخزي الذي يلحق الكفار في الدنيا منحصر بأيام حياتهم فيها ، الجواب لا ، إنما يشمل ما بعدها بذكر الناس لهم باللوم والذم على الكفر والجحود وقبيح الفعل مما لا يستره الله عز وجل عليهم ، وفي التنزيل [فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
ومن الخزي في الآخرة إقامة الله الحجة على الذين كفروا وسؤالهم الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله ، قال تعالى [ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
لقد بذل كفار قريش الوسع وانفقوا الأموال في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصد الناس عن سبيل الله ، فأخبرت آية البحث عن سوء عاقبتهم ، قال تعالى [ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
وثاني عطفه : كناية عن التكبر بالإعراض وليّ العنق والتولي عن التبليغ .
ولقد أكثروا الجدال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا الإستهزاء كي يحاكيهم الناس بامتناعهم عن الإيمان والمنطق بكلمة التوحيد ، فأخزاهم الله بدخول الناس في الإسلام أفواجاً ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا]( ).
سؤال عجوز بني إسرائيل
روى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بأعرابي فأكرمه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعاهدنا ، أي زرنا لنكرمك.
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم حرصه على رد الجميل أضعافاً وإن جاء من كافر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، إذ كانت خصاله الحسنة سبباً لدخول طائفة من الناس الإسلام لعصمته من رذائل الأخلاق ، ومن الغضب والحقد والثأر .
فجاء الأعرابي إلى المدينة فعرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : ما حاجتك ، فسأل مسألتين :
الأولى : ناقة برحلها ، كي يركبها في الحال ، ولا يضطر لشراء رحل لها.
الثانية : عدد من الأعنز ، يحتلبها أهله .
فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فلم عجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ، فقال أصحابه : وما عجوز بني إسرائيل)( ).
لبيان فطنة الصحابة للإنتفاع من السنة النبوية في كشف تأريخ النبوة وقصص الأمم السالفة ، وهل كان النبي محمد يتكلم بما تعلمه أو سمعه من أهل الكتاب أم بالوحي .
والجواب أنه لم يتعلم من أهل الكتاب ، ولم يسمع منهم إلا القليل وعلى نحو العرض لقلة اتصاله بهم ، والمختار أن هذا الخبر من الوحي ، خاصة وأن الصحابة الحاضرين سألوه عن قصة هذه العجوز ، وفيهم نفر من الأنصار الذين كانوا على صلة يومية مع يهود المدينة ، ولو كان لبان.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يترك السؤال الذي يوجه إليه ، ويأتيه الجواب من عند الله عز وجل سواء التنزيل أو بالوحي والإلهام .
وقد ورد لفظ (يسألونك) خمس عشرة مرة في القرآن وفي كل مرة منها ينزل جوابهم من عند الله لبيان إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللسائلين الذين يسألونه بالإقرار بصفة النبوة وهو حجة على الذين كفروا ولتبقى هذه الأسئلة وأجوبتها ثروة بيد المسلمين إلى يوم القيامة ، وشاهد إعجاز في رسالته .
وقد يتكرر هذا اللفظ في الآية مرتين في نفس الموضوع ، ومع هذا يرد الجواب في كل مرة بالأمر (قل) كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( )، وعن قتادة في سبب نزول الآية (قالت قريش : يا محمد أسر إلينا الساعة لما بيننا وبينك من القرابة .
قال [يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ]( ) قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : تهج الساعة بالناس : والرجل يسقي على ماشيته ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يقيم سلعته في السوق ، قضاء الله لا تأتيكم إلا بغتة)( ).
وحينما سأله الصحابة عن قصة عجوز بني إسرائيل قال (إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحِّدثك أن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا.
فقال لهم موسى : فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل. فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف.
فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي.
قال لها : وما حكمك ، قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة.
فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها.
قال: فانطلقت معهم إلى بحيرة -مستنقع ماء – فقالت لهم: أنضبوا هذا الماء.
فلما أنضبوه قالت: احتفروا ، فلما احتفروا استخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار)( ).
وكان أهل مصر حينما مات يوسف عليه السلام أراد كل قوم أن يدفن في أرضهم تبركاً فأشير عليهم أن يدفن في نهر النيل ، فيمر عليه الماء ليتوزع على الأنهر الفرعية والجداول .
لقد خرج بنو إسرائيل خفية وعلى عجل ولابد أن حفر القبر ونقل الجثمان تم بسرعة ، ومع هذا فان فرعون وجنوده استطاعوا أن يلحقوا بهم عند البحر الأحمر لولا معجزة انشقاق البحر بمعجزة ضرب موسى عليه السلام له بالعصا.
وفي الحديث فرائد وفوائد منها :
الأولى : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للإنتفاع من وجوده بين ظهرانيهم ، وسؤاله والطلب منه الدعاء لهم والشفاعة لهم .
الثانية : لزوم سؤال المسلم الله لأمور الآخرة ، وأن لايكتفي بالسؤال لحوائج الدنيا .
الثالثة : وجوب الإقرار بالجنة والنار في الآخرة ، وسؤال الله الجنة ، والنجاة من النار، وهو الذي تدل عليه آية البحث إذ تتضمن التحذير والإنذار .
ومن إعجازها الغيري أنها تملي على المسلمين خاصة ، والناس جميعاً أن يولوا عناية خاصة بالإستعداد لعالم الآخرة ، وجاءت السنة النبوية لتأكيد هذا الإعجاز ، وتقريبه إلى الأذهان بالمصداق اليومي.
و(عن زيد بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من كانت الدنيا هَمَّه فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له. ومن كانت الآخرة نيَّته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)( ).
الرابعة : بيان مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ببيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قصص الأمم السابقة ، والدروس المستقرأة منها ليتعظ منها المسلمون .
الخامسة : يدل الحديث على الحاجة لتوثيق السنة النبوية وكتابة الحديث النبوي وضبطه ومنع الزيادة والنقيصة فيه.

آية السيف خاصة بمشركي مكة أيام التنزيل
من إعجاز نظم القرآن ورود (أتموا) ثلاث مرات في القرآن ، كلها خطابات للمسلمين والمسلمات وفي باب الفرائض العبادية والعهود ، وهي:
الأولى : الآية التي تتعلق بفريضة الصيام بقوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ).
الثانية : في الحج ، ووجوب اتمام المناسك سواء كان حجاً واجباً بالذات وهي حجة الإسلام أو العرض كحج النذر ، أو حجاً مستحباً ، أو نيابة عن الغير ، وكذا بالنسبة لأداء العمرة.
الثالثة : قوله تعالى [إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( )، لاستثناء أصحاب العهود التي اعطاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بما تزيد مدتها على أربعة أشهر فيجب الوفاء لهم والصبر عليهم لحين إتمام مدتهم ، وهذا الوفاء مدخل ومقدمة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام فيدخل أكثرهم الإسلام قبل انقضاء مدتهم ليبقى عدد قليل منهم أو لا يبقى منهم أحد.
وهل تشترك آية البحث في دعوتهم إلى الإسلام ونبذ الكفر مدة الهدنة والعهد ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري للآية.
و(عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علياً (عليه السلام) بأربع : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده ، وإن الله ورسوله بريء من المشركين)( ).
لبيان وجوب الوفاء بالعهد.
والآية بخصوص بني ضمرة وكنانة كانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يغدروا ولم يظاهروا عليه ، وبقي من مدتهم تسعة أشهر فأمر الله عز وجل باتمامها .
وفيه شاهد بأن آية السيف التي تليها هي خاصة بأوانها وكفار مكة وما حولها لعطفها عليها موضوعاً وحكماً بقوله تعالى [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وانسلاخ الشهور خروجها وانقضائها ، قال الشاعر :
(إذا ماسلخت الشهر أهللت مثله
كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي)( ).
(وقال مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمر بن شعيب : هي شهور العهد)( ).
أي أن موضوع الآية خاص بأشهر مخصوصة وموضع معين والمراد المشركون عبدة الأصنام من أهل مكة على نحو الحصر لقوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ]( )، لبيان قرب محلهم من مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإرادة تطهير البيت الحرام من الشرك .
وفيه زجر للمشركين للتصرف في البلاد وإظهار النفاق والفتنة ، والطواف والتجارة في بلاد الإسلام ، ولا تشمل الآية أهل الكتاب أو أهل الأمصار الأخرى ، إنما تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة والسلم ، ويدل عليه الإطلاق في قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وهل آية البحث وإنذارها من النار والخزي المصاحب لدخولها من مصاديق الآية أعلاه ، الجواب نعم ، فهي حكمة بالإقرار بالعبودية لله عز وجل ، والتصديق باليوم الآخر ، وعالم الحساب ، وهي من الموعظة بالتخويف من النار ، وبيان قانون لزوم العمل على النجاة من لهيبها.
قانون ملائمة أول كلمة نزولاً لكل آية
ورد الفعل (اقرأ) بصيغة الأمر ثلاث مرات في القرآن ، مرتين في سورة العلق ، وهي أول سورة نزلت من القرآن ليكون الأمر (اقرأ) أول كلمة نزلت من القرآن ، وهل هو من الخطاب القرآني الخاص إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنه [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ) .
الجواب لا ، فالمراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين .
وحتى هذا الخطاب عند إرادة الدقة العقلية لا يدخل أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كلمة واحدة منه وهي (أني) إذ يمكن أن يتلو المسلم وغير المسلم الآية بتقدير قولوا يا أيها الناس أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله اليكم جميعاً وهو من مصاديق التبليغ.
وكذا بالنسبة لقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( ) يكون الخطاب الخاص أيضاً يمكن قراءتها من المسلم وغير المسلم .
ولو دار الأمر في هاتين الآيتين أعلاه وما شابههما بين القول باختصاص الخطاب فيهما برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه عام للمسلمين والناس جميعاً مع تغيير كلمة عند القراءة ، فالمختار هو الأخير ، وهذا علم مستحدث لأول مرة في المقام ، لبيان قانون ليس من خطاب من آية قرآنية تختص بخطاب خاص إلى النبي إلا وتتجلى فيه من جهات :
الأولى : قانون كل آية من القرآن خطاب خاص إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعام ، وابتدأت بأول كلمة نزولاً (اقرأ) وكذا بالنسبة للبسملة أي اقرأ يا محمد .
الثانية : يمكن انشاء قانون وهو إنطباق أول كلمة نزولاً من القرآن على كل آية من آيات القرآن ، وفيه معنيان :
الأول : اقرأ يا محمد بسم الله الرحمن الرحيم .
الثاني : اقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم .
الثالث : اقرأوا الحمد لله رب العالمين .
الرابع : اقرأوا مالك يوم الدين .
كما يصح تقدير لفظ اقرأ عدة مرات في الآية الواحدة ، والتي تتضمن عدة جمل سواء كانت خبرية أو إنشائية .
فمثلاً بخصوص آية البحث التي اختص بتفسيرها هذا الجزء من معالم الإيمان وهي [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار]( ) يكون تقدير الاسم على وجهين :
الأول : اقرأ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته .
الثاني : اقرأ ربنا وما للظالمين من أنصار .
وبالنسبة لآية الميراث في قوله تعالى [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) يمكن تقدير (اقرأ) على وجوه :
الأول : اقرأ يوصيكم الله في أولادكم .
الثاني : اقرأ للذكر مثل حظ الأنثيين .
الثالث: اقرأ فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك .
الرابع : اقرأ وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبوية لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد .
الخامس : اقرأ فان لم يكن له ولد وورثه ابواه فلأمه الثلث .
السادس : اقرأ فان كان له أخوه فلامه السدس .
السابع : اقرأ من بعد وصية يوصي بها أو دين .
الثامن : اقرأ آباؤكم وابناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً .
التاسع : اقرأ فريضة من الله .
العاشر : اقرأ إن الله كان عليماً حكيماً .
وكذا يتعدد التقدير في الآية التي بعدها [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ]( ) ويمكن أن تقرأ مثل هذه الوجوه العشرة بتقدير من جهات :
الأولى : صيغة الجمع في الأمر والخطاب للناس بتقدير يا أيها الناس اقرأوا [ُيوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ..]الآية وهكذا ويكون الوجه العاشر أعلاه وتقديره : يا أيها الناس اقرءوا إن الله كان عليما حكيماً .
الثانية : تقدير الأمر والخطاب إلى المسلمين ومنه : يا أيها الذين آمنوا اقرأوا يوصيكم الله في أولادكم وهكذا إلى عشرة وجوه .
الثالثة : تقدير الخطاب للمسلمة المنفردة : اقرأي يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا تعارض بين صيغة الفرد في الأمر ، والجمع في الأمر بالوصية لعموم هذه الوصية وشمول وجوب العمل بأحكامها المسلمين والمسلمات ، كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا]( ).
الرابعة : إرادة جمع النساء وهو على وجهين :
الأولى : يا أيتها النساء اقرأن يوصيكم الله في أولادكم وهكذا إلى عشرة وجوه.
الثانية : يا أيتها اللاتي آمنّ اقرأن يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين .
وهكذا إلى الوجه العاشر وهو : اقرأن إن الله كان عليماً حكيماً.
وهناك مسألتان :
الأولى : هل تختص مضامين الآية بالقراءة .
الثانية : هل من موضوعية لآيات الميراث في النجاة من العذاب المتعدد الذي تذكره آية البحث .
أما المسألة الأولى فمضامين الآية والغايات منها متعددة وأعم من القراءة إذ أنها دعوة للعمل بها ، وهو الذي تجلى بتقيد المسلمين بأحكامها من غير تحريف.
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، إذ أن العمل بأحكام الميراث سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة .
وقال تعالى في تفريع الذين كفروا ويأكلون أموال اليتامى والمستضعفين [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا]( )، والتراث هو الميراث.
الدعوات الإلهية الأربعة
الأولى : قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثانية : قال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]( ).
الثالثة : قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).

في الدَين
(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) ( ).
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من يسر على معسر) من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاَ , وهو على وجوه :
الأول : إمهال المدين .
الثاني : وضع جزء من الدين .
الثالث : وضع الدين كله .
الرابع : إقراض المعسر مرة أخرى , لقانون الإعسار ليس مانعاَ من إقراض المعسر مرة أخرى .
بحث أصولي
يسمى ما يتوقف عليه تحقيق الواجب والإمتثال (مقدمة الواجب) أو المقدمة الوجوبية ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأما ما لا يتم الوجوب إلا به فهو ليس بواجب مثل جمع المال لتحقيق الإستطاعة للحج ، أما إذا حصلت الإستطاعة فهي مقدمة الواجب فيجب معها الواجب ، لذا وردت الآية بصيغة الشرط ، إذ قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
ومن الوجوب تحصيل نصاب الزكاة لأدائها ، فلا يجب هذا التحصيل ، والملاك أن أي شئ يجب عليك أداؤه ولا تقدر على هذا الأداء إلا بأمر آخر يوصلك إليه ، فيجب هذا الأمر لأنه مقدمة الواجب ، فوجوب المقدمة لوجوب ذيها .
ولا يكون لها شأن او دخل في إيجاب الواجب ، ويمكن جعلها من المسائل الأصولية لأن ضابطها هو :
الأول : وقوعها في طريق إستنباط الحكم الكلي الفرعي .
الثاني : كونها جزء اخيراً لعلة الإستنباط .
الثالث : إنها كبرى لقياس يستنتج حكماً كلياً فرعياً مثلاً:
الحج واجب لقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ) وما هو واجب تجب مقدماته،فمقدمات الحج من قطع المسافة وأوراق وجواز السفر ونحوه واجب ، والواجب لا يمكن اداؤه الا عند وجود مقدماته.
والمقدمة تقرأ لغة – بكسرالدال وفتحها- والأول أفصح وأظهر، وفي التهذيب- مقدمة الجيش بكسر الدال، أوله الذين يتقدمون الجيش ونسب ابن منظور القراءة بفتح الدال الى القيل، وهو تضعيف له، (وقيل يجوز مقدمة بفتح الدال ويكون المعنى بالفتح ان غيره قدمه)( ).
وتقسم المقدمة بلحاظ الماهية الى:
الأولى : المقدمة الخارجية: وهي الفعل والأمــر الخارج عن ماهية المأمور ذاتاً وتقييداً، وليســـت من الشرائط او الموانع ولكن المأمور به يتوقف عليها، فالطهارة مثلاً ليست من المقدمات الداخلية بل هي شرط خارجي للصلاة ومتقدم عليها زماناً ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ولم يرد لفظ [قُمْتُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، والنسبة بين القيام إلى الصلاة والوضوء عموم وخصوص مطلق ، فهذا القيام من المقدمات القريبة للصلاة ، وهو يذكر هنا لأول مرة ، والدليل تقييده بأنه للصلاة دون غيرها ، والوضوء قيد داخلي لها لوجوب استدامة الطهارة في الصلاة وتشمـــلها عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة الا بطهور)( ).
بمعنى ان الطهور والطهارة شرط ومقدمة للصلاة وهو ايضاً قيد داخلي اثناء الصلاة لذا لم يجعل بعضهم الطهارة من المقدمات الخارجية، ولكن الطهارة كلي طبيعي، فبلحاظ التوضأ وذات الفعل تكون الطهارة مقدمة خارجيـة وبلحـــاظ استـــدامتها تصبح قيداً داخلياً .
وبخصوص آية البحث فان الله عز وجل شرّع الوضوء لتطهير البدن قربة إلى الله عز وجل ، ويكون مناسبة ومقدمة لتطهير عالم الفعل وضبط الجوارح .
وكما أن الوضوء مقدمة للصلاة ، فانه مقدمة للأمن دخول النار يوم القيامة .
و(عن عمر بن الخطاب ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما منكم من أحد يسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له من الجنة ثمانية أبواب؛ من أيها شاء دخل .
وأخرج النسائي والحاكم وابن حبان عن أبي هريرة وأبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة .
وأخرج أحمد وابن جرير والبيهقي عن عتبة بن عبد الله السلمي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : : ما من عبد يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية . من أيها شاء دخل)( ).
الثانية : المقدمة الداخلية: وهي أجزاء المأمور به التي تكون جزء منه , بلحاظ ان المركب يتكون من أجزاء ولا يتقوم الا بتمامها، ويتقيد بها، ولكن هذا التعريف والإقرار بانها جزء من الواجب يخرجها من مفهوم المقدمة تخصصاً، فالجزء غير المقدمة وجعلوا القراءة في الصلاة مثلاً من المقدمة الداخلية.
نعم يمكن القول بأن تطهير الثياب او الوضوء مقدمة داخلية بلحاظ دخوله جزء في ماهية الفعل العبادي تقيداً لا ذاتاً، فالطهور غير الصلاة لأن الصلاة أفعال عبادية مخصوصة، ومن وجوه خروج أجزاء الفعل عن معنى المقدمة انها خارجة عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، ومن لا يأتي بالقراءة في الصلاة لا يقال عرفاً انه لم يأت بمقدماتها.
والقائل بالمقدمة الداخلية بهذا المعنى جعل الجزء مقدمة للكل وأراد من المقدمة مطلق ما يكون وجود ذي المقدمة متعلقاً بوجوده بغض النظر عن التباين بين وجود المقدمة ووجود ذيها أو عدم حصول التباين والتغاير، لذا تصدق المقدمة على جزء المركب لأنه يتوقف عليه ، ولم يثبت هذا المعنى المستحدث .
والأقوى الأول وان المقدمة ما يكون وجودها مغايراً خارجاً عن وجود ذي المقدمة، وهو المشهور لأن البحث في مقدمة الواجب يتضمن البحث عن الملازمـة بين وجوب الشــيء ووجوب مقدمــته, وان الأجزاء عين الكل، والمركب متكون من ذات الأجزاء فتنحصر المقدمة بالخارجية ولا يتصور الداخلية، وتقسم المقدمة الخارجية بحسب منشئها الى أقسام ثلاثة :
الأولى : المقدمة العقلية: وهي التي يكــون منشــؤها الأمـــور التكـــوينية ويلتزم العقل باستحالة حصول ذي المقدمة دون حصولها كالعلة والمعلول، فمع عدم وجود العلة والسبب لا يوجد المعلول ومنه حلول وقت الزوال لأداء صلاة الظهر والغروب لصلاة المغرب ، وبالنسبة للوضوء تعرض الماء الذي هو مادته ، وقال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
ومنه قطع المسافة لأداء الحج في مكة ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثانية : المقدمة الشرعية: وهي المقدمة التي نص عليها الشـــرع وجعل المأمور به متوقفاً عليها ، ولا يكون جامعاً للشرائط وصحيحاً الا بها، ووصفها بالشــرعية لأن الشارع هو الذي جعلها مقدمة للواجب مثل ثبـــوت رؤية هلال رمضـــان كأوان للصــيام، والوضوء للصلاة ، والإستطاعة للحج ، والنصاب للزكاة ، والزائد عن المؤونة للخمس ، ومن المقدمة الشرعية للصلاة استقبال القبلة ، وستر العورة.
الثالثة : المقدمة العادية : وهي المقدمة التي تقتضي العادة الإتيان بها من أجل تحصيل ذيها ، دون ان يكون لها دخل في تحصيل ذي المقدمة حتى مع عدم وجودها.
ومنهم من جاء بمثال على المقدمة العادية وهو السفر الى الحج ولكن السفر مقدمة عقلية لإستحالة تحقيق الحج بالنسبة للقادمين من الأفراد الا بالسفر الى مكة وهو الذي يتجلى بقوله تعالى خطاباً لإبراهيم [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
لذا جعل جزء من الإستطاعة ومنهم من جعل العادة والعرف في اصطلاح الفقهاء واحداً، وعرفه الجرجاني بانه ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول، والظاهر ان العادة أعم من العرف، فملاكها الإعتياد والتعاقب والتوالي في الفعل والوجود، اما العرف فهو أخص، والتبدل والتغيير أسرع اليه من العادة وهو سور ملاحظ عند الفعل، أما العادة فتتعلق بذات الفعل.
وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب مثل وجوب إخراج الزكاة ، فهذا الوجوب لا يتنجز إلا مع تحقق النصاب ، فلا يجب أن يعمل الإنسان ليتحقق عنده النصاب ، لأن هذا التحقق هو الوجوب ، ولكن إن تحقق عنده حد النصاب وصار في يده فهو مقدمة للواجب وهو الزكاة ، سواء في زكاة الأنعام أو زكاة الغلات أو زكاة المال .
والدنيا مزرعة للآخرة ، وهل يمكن القول أنها مدقمة للآخرة أيضاً ، الجواب نعم ، فلابد من العمل فيها لعالم الآخرة ، إذ يكون الناس يومئذ فريقين ، قال تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
وهناك تضاد وتناف بين مدقمات الدخول إلى الجنة ، ومقدمات الدخول إلى النار ، وقد وردت آية البحث للتحذير من مقدمات وأسباب سخط الله ودخول النار .
وإذا كان الفعل العبادي ينقسم إلى مقدمة وذي المقدمة فانهما معاً مقدمة للنجاة من دخول النار وشهادة للتنزه عن الظلم الذي هو مقدمة وسبب لإنعدام النصير يوم القيامة.
وهل تبعث تلاوة آية البحث المسلم والمسلمة على اتيان العبادات والعناية بمقدماتها ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري للآية القرآنية .
بين الوجوب والواجب
المراد من الوجوب الخطاب الشرعي ، لذا الأحكام التكليفية الخمسة هي :
الوجوب ، الندب ، الإباحة ، الكراهة ، التحريم ، فالوجوب هو الحكم الفقهي .
ومن خصائص المعنى الإصطلاحي للفظ اقتباسه من المعنى اللغوي ، والواجب هو اللازم والساقط .
وهو في الإصطلاح متعلق الوجوب ، والفعل المطلوب على نحو الحتم واللزوم فالواجب هو وصف للفعل اللازم إيجاده فالوجوب هو الخطاب الشرعي كما في قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
فلا مدخلية للإنسان بحلول الزوال وأوانه وشاء الله عز وجل ألا يكون ثابتاً ، فمرة يتقدم عند قصر النهار وأخرى يتأخر عند طول النهار لتذكير الناس ببديع صنع الله وعجزهم عن التصرف في الآيات الكونية ، وفيه دعوة لهم للإستعداد لعالم الآخرة ، والنجاة من دخول النار الذي تذكره آية البحث باداء الواجبات .
وإذا كانت للواجب مقدمة كالوضوء للصلاة ، فان الوجوب ليس له مقدمة واجبة .
أما الواجب فهو أداء صلاة الظهر عند نزوال الشمس .
ومن تقسيمات الواجب أنه يقسم إلى قسمين :
الأول : الواجب المعين : الذي لا يقوم غيره مقامه ، كالصلاة فهي واجب معين لا بديل عنه.
الثاني : الواجب المخير : مثل الإتيان بخصلة من خصال الكفارة ، فان الواجب فرد منها لا على نحو التعيين ، ويسمى هذا الواجب بالواجب المبهم ، وليس بتام فالترديد بين أفراد وخصال معلومة يخرجه عن الإبهام ، ومنه في الحج قال تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ]( ).
ولم تبين الآية عدد أيام صوم الكفارة هذه ، ولا مقدار الصدقة ، ولا النسك الذي يذبحه من الإبل أو البقر أو الغنم ، فجاءت السنة بالبيان والتفصيل وبعد بيان السنة هل يبقى الإبهام أو يصدق على الواجب أنه مبهم ، الجواب لا ، لأن السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع .
وكل من أقسام الواجب طريق للفوز بالثواب ، وواقية من النار والخزي المصاحب لها مع مصاحبة الخزي لهم ، وأداء الواجبات الشرعية سبب الوجود الناصر يوم القيامة ، ونجاة من قوله تعالى في آية البحث [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
مصاديق من الواجب
من مصاديق [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، أن الواجبات المعينة أو العينية أعم من أحكام التكاليف الفقهية كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما ورد من الأمثلة في أصول الفقه.
ومن الواجب المعين أمور :
الأول : المواظبة على ذكر الله في الصلاة وخارج الصلاة ، والتفكر في خلق السموات والأرض واجب كما في قوله تعالى في الآية السابقة [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) .
المختار نعم ، وإن جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية .
الثاني : قانون الدعاء واجب ليس له بديل ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ومنه آية البحث [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
لقد جاءت آية البحث على شعبتين :
الأولى : ابتداء الآية بصيغة الجملة الشرطية .
الثانية : إختتام الآية بصيغة الجملة الخبرية ، وكل منهما دعاء ولجوء إلى الله عز وجل للأمن والنجاة يوم القيامة ، وهو من أسرار ابتداء الآية بالنداء [رَبَّنَا] الذي يدل على الدعاء والمسألة ، ولتكون تلاوة الجملة الشرطية دعاءً لموضوعها وموضوع الجملة الخبرية ، وكذا فان تلاوة الجملة الخبرية [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] دعاء للنجاة من كل من :
الأول : دخول النار .
الثاني : الخزي يوم القيامة .
الثالث : البحث بصفة الظالم .
الرابع : إنعدام النصير .
لبيان أن الواجب في الدعاء ليس المسمى وصرف الطبيعة بل الإجتهاد في ذكر موضوع الدعاء ومنه :
الأولى : الأمور والحاجات الدنيوية .
الثانية : الحاجات الأخروية ، وهناك مسائل :
الأولى : هذه الحاجات في الدعاء بالتساوي ، الجواب لا ، فان الدعاء للآخرة هو الأكثر .
الثانية : هل قراءة القرآن وما فيه من الدعاء من سؤال الحاجات ، الجواب نعم ، ومنه آية البحث فان تلاوتها سؤال للنجاة من النار.
الثالث : أداء الأمانة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
والنسبة بين الذِكر والدعاء عموم وخصوص مطلق ، فالذكر أعم ، وكذا النسبة بين الدعاء والصلاة .
هناك فرق بين الواجب المعين والواجب العيني ، فيقابل الأول الواجب التخييري أما الواجب العيني فيقابله الواجب الكفائي.
فقد يكون الواجب معيناً مثل صلاة الصبح ، وقد يكون تخييراً أو وجود بديل له مثل كفارة اليمين .
وقد يجتمع الواجب المعين والواجب العيني بمصداق واحد مثل الصلاة اليومية ، وحجة الإسلام وصيام شهر رمضان ، قال تعالى [أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
بحث كلامي
الرب لغة مالك الشئ وصاحبه والمتصرف فيه ، فيقال رب الناقة (وربُّ كل شيء: مالكه. ورَبَّ الرجلُ النعمةَ يَرُبُّها ربًّا وقالوا: رِبابة أيضاً، إذا تمّمها. ورَبَّ بالمكان وأرَبَّ، إِذا أقام به)( ).
ومن بديع اللغة العربية أن الرب لا يقال لغير الله إلا بالإضافة مثل رب الدار ، وقد أطلقوه من غير إضافة على الملك ، وقال الحارث بن حلزة في الجاهلية للملك عمرو بن هند :
(وهو الرَّبُّ والشَّهِيدُ عَلى يَوْ … مِ الحِيارَيْنِ والبَلاءُ بَلاءُ)( ).
والحارث بن حلزة اليشكري من بكر بن وائل ، وينتهي نسب وائل إلى نزار بن معد بن عدنان وشهد الحارث بن حلزة حرب البسوس وكان قليل الشعر ، ولكنه اشتهر بمعلقته.
والربيون : نسبوا إلى الله عز وجل للدلالة على إنقطاعهم للنسك والعبادة ، قال تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
وربيت القوم أسستهم إشارة إلى الرئاسة والتربية والتوجيه ، ولما فاجأ يوم حنين أكثر من عشرين ألف من هوازن وثقيف بالهجوم المباغت على النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند خروجهم من مكة بعد فتحها سلماً انهزمت الطلائع الأولى للمسلمين وبقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثابتاً في موضعه معه نحو مائة من أصحابه ، شمت جفاة مكة ممن كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال كَلَدَةَ بن الحنبل وهو أخو صفوان بن أمية لأمه (لَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاكَ فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ)( ).
وكان صفوان يومئذ مشركاً ، وقد أمنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أشهر فهو حضر حنيناً في هذه المدة ، واستعار منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً وأدرعاً ومالاً ، هو يومئذ مشرك ، إذ قال له (يَا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَى فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ ” بَلْ عَارِيّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتّى نُؤَدّيَهَا إلَيْكَ ، فَقَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ)( ) ثم أسلم صفوان ومات سنة 41 للهجرة في مكة .
وقال حسان بن ثابت يهجو كَلَدَةَ ومعه وأدنى منه صفوان :
(رَأَيْتُ سَوَادًا مِنْ بَعِيدٍ فَرَاعَنِي … أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا … ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابْنِ عِزْهِلِ)( ).
ومن أسرار إنقطاع المسلمين بالدعاء إلى الله بسلطان ربوبيته المطلقة تفانيهم في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل مما صار سبباً لهداية طوائف من الناس لإدراك أن هذا التنافي شاهد على صدق النبوة ، وهو واقية من حر النار يوم القيامة.
بر الوالدين
ولو كان أحد الوالدين أو كلاهما كافرين فهل يشملها وجوب البر ، الجواب نعم ، لصيغة العموم الإستغراقي في قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( ) .
نعم يبين قوله تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ] ( )، لبيان أن بر الوالدين من الكلي المشكك ، ويتعلق التباين بالرتبة فيه بلحاظ الإيمان والكفر عند الوالدين ، وأدناه إذا كان الوالدان كافرين ، ولكن بر المؤمن لهما لا ينقطع ، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع حسن المعاشرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ودلالته على وجوب اقتداء المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته ليكون هذا الإقتداء نصيراً وحرزاً لهم من النار يوم القيامة .
و(عن زكريا بن إبراهيم قال: كنت نصرانيا فأسلمت وحججت فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: إني كنت على النصرانية، وإني أسلمت فقال: وأي شئ رأيت في الاسلام.
قلت: قول الله عزوجل ” ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء .
فقال: لقد هداك الله، ثم قال: اللهم اهده ثلاثا، سل عما شئت يا بني فقلت: إن أبي وامي على النصرانية، وأهل بيتي وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم، وآكل من آنيتهم فقال: يأكلون لحم الخنزير .
فقلت: لا ولا يمسونه فقال: لا بأس، فانظر امك فبرها، فإذا ماتت، فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها، ولا تخبرن أحدا أنك أتيتني، حتى تأتيني بمنى إن شاء الله، قال: فأتيته بمنى والناس حوله، كأنه معلم صبيان، هذا يسأله، وهذا يسأله، فلما قدمت الكوفة، ألطفت لامي، وكنت اطعمها وافلي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بني ما كنت تصنع بي هذا، وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت، فدخلت في الحنيفية ؟ فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبي.
فقلت: لا ولكنه ابن نبي فقالت: يا بني هذا نبي إن هذه وصايا الانبياء فقلت يا ام إنه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنه ابنه فقالت: يا بني دينك خير دين، اعرضه علي فعرضته عليها فدخلت في الاسلام، وعلمتها فصلت الظهر والعصر، والمغرب والعشاء الاخرة ثم عرض بها عارض في الليل فقالت: يا بني أعد علي ما علمتني، فأعدته عليها فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها، وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها. بيان: افلي ثوبها أي أنظر فيه لاستخرج قملها)( ).
ويمكن أن تدخل هذه الرواية في حلية ذبائح الأكل من أنيتهم إلا مع رجحان ما يعارضها كتاباً وسنة ، إذ أنهم لابد أن يذبحوا ويأكلوا اللحم ، ويمسوا الطعام مع الرطوبة .
ولم يسأل الإمام الصادق عليه السلام عن الخمر للتباين بين الأكل وبينه وللتخفيف .
قانون الكفر حاجب عن أجر الإفاضة
في التنزيل [وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ]( ) ومن إعجازتشابه اللفظ في القرآن أنه لم يرد لفظ [أَفِيضُوا] في القرآن إلا مرتين ، في الآية أعلاه.
وبخصوص حج بيت الله الحرام والإفاضة من جبل عرفات بعد الوقوف فيها اتحاد المناسك ، والذكر الكثير ، إذ قال الله عز وجل [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لتكون الإفاضة من عرفات بصفة الإيمان وقصد القربة إلى الله عز وجل ، لذا ذكرت الآية المشبه به بصفة الناس [مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ] لبيان قانون إفاضة المشركين من عرفات لا تنجيهم من الخزي يوم القيامة ، لشرط الإيمان في هذا الوقوف ، ومنه نزول سورة قريش وما فيها من الأمر بوجوب عبادة الله عز وجل وحده .
وكانت قريش لا تقف عند عرفة ، إنما يقفون عند مزدلفة لأنها من الحرم، وعرفة خارج الحرم ، فتفضل الله عز وجل وأمرهم وغيرهم بوجوب الوقوف في عرفة .
و(عن الزهري قال : كان الناس يقفون بعرفة إلا قريشاً وأحلافها وهي الحمس ، فقال بعضهم : لا تعظموا إلا الحرم فإنكم إن عظمتم غير الحرم أوشك أن تتهاونوا بحرمكم ، فقصروا عن مواقف الحق فوقفوا بجمع ، فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات)( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين وراثة المؤمنين للناس في أداء شعائر الله ، وإتيان الفرائض من غير أن يصاحبها شرك أو رياء أو عصبية قبلية
فمن معاني (واو الجمع) في [أَفِيضُوا] صبغة الإيمان الجامعة لأهل الموقف في عرفات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن دلالات هذه الآيات وهذا القانون المترشح عنها مسائل :
الأولى : دعوة الناس للتنزه عن الشرك .
الثانية : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة الإيمان ، وأداء الحج قربة إلى الله تعالى .
الثالثة : نعمة إزاحة المشركين عن الولاية على البيت الحرام ، ومنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الحج والعمرة قبل فتح مكة ، وكانوا قد سمحوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة بعد أن منعوا دخولهم مكة في صلح الحديبية ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ]( ) .
الرابعة : بشارة استدامة حج المسلمين للبيت الحرام ، وقانون تجدد الخطاب في الآية لهم كل عام .
الخامسة : قانون الترغيب في الحج ، فمن إعجاز القرآن أن كل آية من آيات الحج دعوة يومية للحج مع أنه لا يكون إلا مرة واحدة في السنة.
والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة من كل عام.
ولتنجيز الرغبة بعمارة البيت الحرام شرع الله عز وجل العمرة ، وهي في كل يوم من أيام السنة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
لبيان أن كل يوم من أيام السنة وأداء العمرة فيه واقية زمانية من شدة عذاب النار الذي تذكره آية البحث وليكون من معاني تسمية [يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ]( )، المغفرة لوفد الحاج ، والسلامة من الخزي يوم القيامة ، وما يتصف به هذا الخزي من الإتصال والإستدامة.
وقد يتعذر على المسلم الحج لعدم الإستطاعة ، فورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على الأجر والثواب بقراءة القرآن والإنتفاع منها يوم القيامة كبديل عن الحجر ، و(عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة الحج أُعطي من الأجر كحجّة حجّها وعُمْرة اعتمرها بعدد مَن حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي)( ).
قانون لا يحصي منافع إنذارات القرآن إلا الله
من خصائص كل نبي مجيؤه بأمور :
الأول : قانون بشارة المؤمنين بالخير والتوفيق في الدنيا ، والسعادة الدائمة في الآخرة .
الثاني : قانون إنذار الكافرين من الخزي في الدنيا وسوء العاقبة في النار.
وقد تقدم في الجزء الخامس والتسعين من هذا السِفر الإشارة إلى هذا القانون وفيه أيضاً (ومن إعجاز القرآن أن إنذاراته رحمة للناس جميعاَ , ودعوة متجددة للتوبة والإنابة والهداية لقانون كل إنذار قرآني حق وصدق)( ).
واختصاص الله عز وجل بالإحصاء في المقام لا ينحصر بمنافع الإنذارات إنما ينفرد الله عز وجل وحده باحصاء أفراد إنذارات القرآن ، فمهما بلغت علوم التفسير فانها عاجزة عن ضبط انذارات القرآن من جهات :
الأولى : نص الإنذار في منطوق الآية ، وهو أمر ظاهر للناس ، وجعله الله عز وجل حجة ، ومناسبة للهداية .
الثانية : دلالة الآية في مفهومها على الإنذار .
الثالثة : الإنذارات المستقرأة من الجمع بين أول وآخر الآية القرآنية .
الرابعة : دلالة آية البشارة على حرمان الكفار منها ، وهذه الدلالة إنذار .
الخامسة : آيات تبكيت وتقريع وتوبيخ الكفار .
السادسة : آيات الفرائض العبادية ، وتخلف المشركين عنها إنذار لهم .
السابعة : بغض الله عز وجل للكفار ، إنذار لهم مجتمعين ومتفرقين .
الثامنة : قانون من غايات الآية القرآنية الإنذار .
التاسعة : آيات الوعيد إنذار ، وانباء الآخرة في القرآن كلها إنذار للكفار .
العاشرة : آيات المدح والثناء والوعد للمؤمنين إنذار للكافرين .
جمع الجملة القرآنية بين الخبر والإنشاء
قد تجتمع الجملة القرآنية الواحدة بين الخبر والإنشاء بقسم منه أو بقسميه الإنشاء الطلبي والإنشاء غير الطلبي .
وترد (ما) بعنوان النافية والناهية والإستفهامية والشرطية والمصدرية ، أنما قد تجمع ما في القرآن أكثر من معنى لها لذا ترى علماء النحو عند الأعراب يذكرون وجهين محتملين لها في أحيان كثيرة وتقيدوا بهذه التقسيمات إنما قد تحتمل ما اكثر من معنى في ذات الوقت .
وقد تتحد الحقيقة والمجاز في كلمة قرآنية واحدة لبيان أن القرآن اسمى من اللغة العربية وأشعار العرب كما في قوله تعالى [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ]( ).
ومنه معجزة جريان أنهار الجنة ذاتها وليس الماء وحده .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض لا . . . والله أنها لسائحة على وجه الأرض ، حافتاها خيام اللؤلؤ ، وطينها المسك الأذفر .
قلت : يا رسول الله ما الأذفر؟
قال : الذي لا خلط معه)( ).
انظر لها إذا كانت الجملة خبرية من جهات :
الأولى : احتمال من الإنشاء في منطوقها .
الثانية : انها من الإنشاء في مفهوم الموافقة .
الثالثة : انها من الإنشاء في مفهوم المخالفة .
وكذا العكس إذا كانت الجملة الإنشائية فينظر لها من جهة احتمال الخبر فيها من الجهات الثلاثة أعلاه .
ثم انظر هل هذا المنطوق المستحدث والمفهوم موافق للكتاب والسنة .
فيجب ألا يكون عكسهما ، والقرآن يفسر بعضه بعضاَ.
ومنه الإستدلال بالجمع بين آيتين أو أكثر وقد صدرت لي الأجزاء :
الأول : الجزء (125) من معالم الإيمان ويختص بالصلة من الآية 152 بالآية 153 من سورة آل عمران.
الثاني : الجزء (126) من معالم الإيمان ويختص بالصلة بين شطر من الآية 153 بالآية 151 من سورة آل عمران.
الثالث : الجزء (129) من معالم الإيمان ويختص بالصلة بين شطر من الآية 154 بشطر 153 من سورة آل عمران.
الرابع : الجزء (151) من معالم الإيمان ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بالآية 164 من سورة آل عمران.
الخامس : الجزء (191) من معالم الإيمان ويختص بالصلة من الآية 180 بالآية 181 من سورة آل عمران.
والأولى لحاظ القواعد ، وفق قراءة قرآنية وفي الفقه مثلاً قيل بالإحتياط ، بالتوجه للجهات الأربعة ولكن تكفي جهة واحدة التي هي أرجح ، وقد بينته في رسالتي العملية (الحجة) لبيان أن القرآن جاء بالأصول العملية أيضاً.
سواء قلنا بحجية مفهوم المخالفة أو لا ، إذ المراد من المعنى أعم من الحجية والإستدلال الفقهي ، نعم هذا المعنى الأعم والحق لإستقراء الدليل من آيات أخرى من القرآن أو من الجمع بين آيتين أو أكثر .
ومن مخترعات هذا السِفر اجتماع الضدين في كلمة واحدة مع أنه ثبت في الفلسفة أن المتضادين لا يجتمعان في محل واحد ، وقد يرتفعان كالتبذير والشح ، قال تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( ).
ومن إجتماع المتضادين في القرآن مصاديق القطع في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا]( )، لتحقق القطع بالمتضادين من إيمان طائفة من الذين كفروا وقتل طائفة أخرى على الكفر ، واعتزال أخرى .
قانون إجتماع الخبر والإنشاء في كلمة قرآنية واحدة
تنقسم الجملة المفيدة إلى قسمين :
الأول : الجملة الخبرية وهي التي تتضمن الخبر والنبأ ، والذي يحتمل الصدق أو الكذب إلا القرآن والسنة ، فلا يحتمل كل منهما إلا الصدق لذا فان الإطلاق في تعريف الجملة الخبرية بأنها تحتمل الصدق أوالكذب ليس بتام ، وما من عام إلا وقد خص ، وهذا القانون ذاته يخصص ويستثنى منه صفات الخالق الكريم إذ أن صفاته مطلقة كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة.
نعم ورد في القرآن فضح الكذب والتحذير منه ، إذ ذكر الكاذبين في كل من صيغة الرفع (كاذبون) وصيغة النصب والجر (كاذبين ) ثلاث عشرة مرة ، وذكر المفرد (كاذب) مرتين فقط :
الأولى : قال تعالى [أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ]( ).
الثانية : قال تعالى [وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ]( ).
وتبين الآية أن النسبة بين الذين ينزل بهم العذاب وبين الكاذبين عموم وخصوص مطلق .
الثاني : الجملة الإنشائية وهي الجملة التي تتألف من كلام لا يحتمل الصدق أو الكذب ، إنما تحمل معنى الغرض وهي على قسمين :
الأول : الجملة الإنشائية الطلبية : كالأمر والنهي والنداء والإستفهام والتمني والترجي .
الثاني : الجملة الإنشائية غير الطلبية : مثل المدح والذم والتعجب .
وهذا التقسيم استقرائي ، وإلا فان آية البحث تشمل معنى الخبر بالإقرار بالربوبية لله عز وجل ، وبيان حال المشركين يوم القيامة ، وذمهم بسوء عاقبتهم ، فقوله تعالى [فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( )، خبر وإنشاء وذم ، والذم من الإنشاء غير المطلبي .
وكذا فان قوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، خير وحكم معاً ، لبيان أن علوم القرآن أعم من القواعد النحوية والبلاغية .
قانون التضاد بين الهداية والضلالة
تبين آيات القرآن التضاد بين الهداية والضلالة ،وفوز المسلمين بالهداية ولزوم تعاهدها بالقول والعمل ، ومن سبل هذا التعاهد الحصانة من إغواء ابليس ، وعدم الإلتفات إلى النفس الشهوية ، وعدم ترتب الفعل على حال الغضب والسخط، قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ).
ومع أن الآية أعلاه نزلت بخصوص قصة يوسف عليه السلام وسلامته من الإفتتان بامرأة العزيز مع شدة موارد الإضرار به عند الإمتناع ، وهو في حال استضعاف في بيتها ، وعلمه بشدة العقاب الذي ينتظره إذا خالف هواها .
وإختياره لهذا الخلاف طاعة لله عز وجل ، وتنزه عن إغواء الشيطان ، وموضوع الآية أعم لأن النسبة بين السوء والفاحشة عموم وخصوص مطلق ، فالسوء الذي تأمر به النفس الشهوية أعم ، وأكثر كماً وكيفاً.
وقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان واختبار ، وفي ضروب الإبتلاء لزوم إدراك قانون الإرهاب من المنكرات ، وقانون حبس الجوارح عن الإرهاب والبطش والتفجيرات ، وهذا الحبس من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ولابد من الدعاء للإستعاذة من الشيطان ، والعصمة من وسوسته ، وليس من حصر لكيفية وصيغة الدعاء في المقام ، وأفضلها ما ورد في آيات القرآن والسنة النبوية من المأثور .
و(عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال دبر صلاة الفجر وهو ثاني رجله قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شئ قدير عشر مرات كتب الله له بكل واحدة قالها منهن حسنة ومحي عنه سيئة ورفع بها درجة وكان له بكل واحدة قالها عتق رقبة وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان ، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم الا الشرك بالله)( ).

قانون خزي المشركين في الميدان
هل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، من مصاديق الخزي الذي لحق المشركين وإنعدام النصير لهم ، الجواب نعم ، لتكون آية البحث من مصاديق كل من :
الأول : تعاهد صيغة الجمع في الخطاب في آية (ببدر) [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ومن مصاديق هذا التعاهد ابتداء آية البحث بالنداء العام (ربنا).
الثاني : تلاوة المسلمين لآية البحث من مصاديق الإمتثال لقول الله تعالى في آية ببدر (واتقوا الله) فمن التقوى إظهار الخشية من النار ، والتسليم بعالم الجزاء ، وأن الحساب بيد الله وحده .
الثالث : دلالة آية البحث على شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النصر ببدر ، وأن الله عز وجل نجاهم من القتل والخسارة لتتوارث أجيال المسلمين تلاوة آية البحث وما فيها من الإنذار من دخول النار ، وانعدام النصير يوم القيامة للذي لم يتعظ من إنذارات القرآن .
وعن ابن عباس في حديث عن معركة بدر (ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً . فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين)( ).
لبيان أن نصر الله عز وجل للمسلمين يوم بدر لم يكن بالقتل وسفك الدماء وحده .
ولكن بحمل المشركين على الإنسحاب من ميدان المعركة ، فان قلت قد وقع منهم سبعون قتيلاً ، الجواب هذا القتل بسبب إصرارهم على القتال ، وطلبهم المتعدد للمبارزة ، وشنهم الهجوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ولهلاك رؤوس الفتنة ، ودفع شرهم وكيدهم في الأيام اللاحقة ، فلو بقي أبو جهل وامية بن خلف ونحوهما فلا يعلم ما سيفعلون من تهييج الناس ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا الله عز وجل ليكون من معاني قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، أي ليهلك عدد مخصوص من المشركين بما يكبت ويذل الباقين منهم ويجعلهم في خيبة وحسرة.
فقبضة التراب التي رماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين يوم بدر هذه من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فمن رحمة الله عز وجل صيرورة فرار المشركين من معركة بدر مناسبة لتوبة طائفة منهم ، ومن خلفهم ولينقلوا آيات ومعجزات معركة بدر للناس .
وتحقق مصاديق شواهد التنزيل من البشارة والإنذار يوم بدر ، ولتكون معركة بدر مقدمة لقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، مع أن المدة بينهما نحو ثماني سنوات.

تعدد أحكام آية الوضوء
هناك آيات كثيرة تتضمن أحكاماً متعددة تشمل الأحكام التكليفية الخمسة وهي :
الأول : الوجوب .
الثاني : الندب .
الثالث : الإباحة .
الرابع : الكراهة .
الخامس : الحرمة.
ومن الآيات التي يتعدد فيها الحكم بلحاظ موضوع كلماتها آية الوضوء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، والإجماع على أن هذه الآية من آيات الأحكام ، ونبين هنا كلمات الأحكام فيها.
الأول : صيغة الخطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهل هو حكم , الجواب نعم ، كما تقدم في الجزء التاسع والأربعين من هذا السِفر.
الثاني : الأمر بالقيام إلى الصلاة.
لبيان عدم انحصار مقدمة الصلاة بالوضوء ، فذات الوضوء يستلزم مقدمة وهي حلول وقت الصلاة الواجبة ، أو القيام لأداء الصلاة المستحبة ، لذا نزل القرآن بالقيام إلى الصلاة وقد ورد قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ]( )، خمس مرات في القرآن ، ثلاثة بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وواحدة في موسى عليه السلام قال تعالى [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي]( )، وواحدة في تأديب لقمان لابنه بقوله تعالى [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
ولم يرد لفظ (قمتم) في القرآن إلا في آية البحث لبيان وجوب تعاهد المسلمين للصلاة وهي منهاج الأنبياء ومناجاة مع الله عز وجل وكما قيل الصلاة معراج المؤمن ، وهذا القول ليس بحديث .
وصحيح أن الأمر [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ]( )، ورد بصيغة الجملة الشرطية إلا أن آيات أخرى جاءت بوجوب أداء الصلاة اليومية ، قال تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الثالث : الأمر بغسل الوجه ، وهو أول أفعال الوضوء (وحده من قصاص الشعر الى الذقن طولاً وما اشتمل عليه الإبهام والوسطى عرضاً)( ).
الرابع : الأمر غسل اليدين ، والإبتداء بغسل اليد اليمنى .
و(عَنْ عَائِشَةَ أَنَهَا قَالَتْ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ ، قَالَ فَلَمَّا قَدِمَ الْأَشْعَثُ الْكُوفَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ)( ).
الخامس : مسح الرأس (بما بقي من بلة الوضوء في اليد، والأحوط ان يكون على الربع المقدم من الرأس وعلى الناصية وهي قصاص الشعر فوق الجبهة)( ).
ومسح الرأس مرة واحدة .
وقال أبو حنيفة والشافعي بمسح الرأس بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه( ).
السادس : مسح الرجلين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ، وفيه وجوه:
أولاً : غسل الرجلين ، وهو مشهور المسلمين .
ثانياً : الجمع بين الغسل والمسح ، وبه قال أهل الظاهر ، وهو من التشديد على النفس .
ثالثاً : التخيير بين غسل ومسح الرجلين ، وبه قال الجبائي المعتزلي.
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا صلاة لمن لا طهور له ، ولا دين لمن لا صلاة له ، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد .
وعن عائشة قالت : قال أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم : من جاء بصلاة الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ، ومواقيتها ، وركوعها ، وسجودها ، لم ينقص منها شيئاً ، جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه ، ومن جاء قد انتقص منهن شيئاً فليس له عند الله عهد ، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه)( ).
السابع : وجوب التطهر بعد الجنابة بالغسل لقوله تعالى [وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا]( ).
و(روى أبو ذر عن علي عليه السلام قال : أقبل عشرة من أحبار اليهود فقالوا : يا محمد لماذا أمر اللّه بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ آدم لما أكل من الشجرة تحوّل في عروقه وشعره ، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه اللّه عز وجل عليّ وعلى أمتي تكفيراً وتطهيراً وشكراً لِما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه.
قالوا : صدقت يا محمد ، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى اللّه له قصراً في الجنّة وهو سرّ بين المؤمن وبين ربه ، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقناً أني ربهما ، أُشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف (سنة) ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك
قالوا : صدقت نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه)( ).

بحث عرفاني حذف حرف النداء
يجوز حذف حرف النداء للإيجاز والبلاغة كما في قوله تعالى [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا]( ) وأكثر أدوات النداء استعمالاً في اللغة (يا ) .
ومن إعجاز القرآن أن الحذف والإضافة للحرف أو الكلمة أعم من المقاصد البلاغية لتعلقها بعلم الكلام والفلسفة والتأويل ، وهو من مصاديق الحكمة المتعالية في الآية القرآنية ، وإرتقائها على كلام البشر بمراتب متعددة ، ويرد الدعاء بلفظ (رب) و(ربنا ) من غير حرف نداء في القرآن كله ببيان إدراك العباد أن الله عز وجل قريب منهم يسمع مناجاتهم من غير واسطة ملك أو نبي ، قال تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ) وحتى الكفار في الآخرة يناجون الله ويسألونه من غير أداة نداء ، ومنه قوله تعالى [وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا]( ) .
ولم تمنع الحجب التي تحجب الكافرين التي في قوله تعالى [كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ]( ) من مناجاتهم ودعائهم له لتسليمهم بخاتمة آية البحث [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) فلجأوا إلى الله عز وجل تضرعاً ودعاء وإظهاراً للندم ، لبيان نكتة في آية البحث وهي إنعدام الناصر للظالمين لا يمنع من لجوئهم إلى الله ، وعدم اليأس من رحمته ، ورجاء عفوه ، فانعدام النصير للظالمين ليس نهاية المطاف ، إذ أدرك أهل النار عظيم رحمة الله ، وأن كثيراً ممن استحقوا النار انقذهم الله عز وجل منها ، وفي التنزيل [وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا]( ).
قانون الآية تعليم
لقد نزلت آية البحث لتعليم المسلمين والمسلمات كيفية النجاة من النار ، ومنه الإمتثال للأوامر الإلهية والإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه.
وتضمنت الآية قانوناً من الإرادة التكوينية وهو انعدام الأنصار للظالمين في الآخرة ، وهل ترك الوضوء والصلاة من الظلم الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم .
فلذا تعددت الأوامر في آية الوضوء ، وتضمنها للتيمم أيضاً .
ومن إعجاز الآية بيانها لرفع الحرج عن المسلمين في مقدمات الصلاة ، ولبيان أن أسباب الطهارة أعم من الغسل والماء ، إنما تكون مع التيمم بقصد الإمتثال لأمر الله ، وقصد القربة إليه تعالى ، ومن معاني قوله تعالى [وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ]( ).
ليكون من معاني هذه الآية البشارة بالنجاة من الخزي يوم القيامة.
وهل يختص الخزي في الآخرة بخصوص دخول النار ، أم يشمل غيره .
المختار هو الثاني لتعدد مواطن الحساب وانكشاف أحوال الناس فيها ، وتجلي مقدمات الحساب الشخصي بحضور الأعمال عند أصحابها لتكون الحجة عليهم ملازمة لهم وهم في النار ، وإستدامة الحجة على الذين كفروا والمنافقين والظالمين في الآخرة من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) ، إلى جانب العطش والجوع الذي يصيب الذين كفروا والمنافقين يومئذ ، بينما يرد المؤمنون الحوض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(وأخرج أحمد ، عن حذيفة بن اليمان قال : غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج ، فلما خرج سجد سجدة ، فظننا أن نفسه قد قبضت! فلما رفع رأسه.
قال : إن ربي عز وجل إستشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت : ما شئت أي رب؛ هم خلقك وعبادك ، فاستشارني الثانية؟ فقلت له كذلك.
فقال : لا أخزيك في أمتك يا محمد ، وبشرني : إن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب .
ثم أرسل إلي ادع تجب ، وسل تعط ، فقلت لرسوله : أو معطي ربي سؤلي؟ قال : ما أرسلني إليك إلا ليعطيك . ولقد أعطاني ربي عز وجل ولا فخر ، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
وأنا أمشي حياء ، وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغُلب ، وأعطاني الكوثر ، فهو نهر في الجنة يسيل في حوضي ، وأعطاني العز والنصر والرعب ، يسعى بين يدي أمتي شهراً.
وأعطاني : أني أول الأنبياء أدخل الجنة ، وطيب لي ولأمتي الغنيمة ، وأحل لنا كثيراً ممن شدد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا من حرج ، فلم أجد لي شكراً إلا هذه السجدة)( ).
وجوه الجمع بين آيات القرآن
تتعدد وجوه الجمع بين الآيات بلحاظ كشفها عن معاني ودلالات وأحكام وسنن منها :
الأول : جمع البيان والتفسير.
الثاني : جمع الإستقراء والإستنباط .
الثالث : الجمع الموضوعي للآيات التي تتعلق بموضوع واحد ، مثل موضوع الصلاة .
الرابع : الجمع الحكمي .
الخامس : الجمع الإعجازي .
السادس : جمع أسباب النزول والوقائع .
السابع : جمع النتيجة والثمرة .
الثامن : جمع الأوامر .
التاسع : جمع النواهي .
العاشر : جمع الدعاء .
الحادي عشر : جمع الميراث .
الثاني عشر : جمع الثواب .
الثالث عشر : جمع العقاب ، ومنه آية البحث .
جمع الآيات الموضوعي
ليس من حصر لعنوان ومصاديق هذا الجمع ، ومنه على سبيل المثال :
الأول : الجمع بين آيات الخلق والتكوين .
الثاني : الجمع بين آيات العبادات ، ومنه :
الأولى : الجمع بين آيات الصلاة ومقدماتها وأوقاتها ، قال تعالى [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ]( ).
الثانية : الجمع بين آيات الزكاة الواجبة والمستحبة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالثة : الجمع بين آيات الصيام .
الرابعة : الجمع بين آيات الحج منه قوله تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ]( ).
الخامسة : الجمع بين آيات الخمس .
السادسة : آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : آيات المعاملات وأحكامها .
الرابع : آيات السلم والصلح والموادعة ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الخامس : آيات الدفاع.
ولا بأس من إنشاء علوم بخصوص نظم الآيات من وجوه :
الأول : باب وجوه الجمع بين آيات القرآن.
الثاني : باب الجمع بين كل آيتين متجاورتين .
الثالث : الجمع بين الآيات المتجاورة ، وقد تجلى في سياق الآيات في هذا الجزء إذ يتضمن صلة آية البحث بكل من :
الأولى : الصلة بالآية السابقة .
الثانية : الصلة بالآية قبل السابقة .
الثالثة : الصلة بالآية التالية .
الرابع : المستقرأ من الجمع بين آيات السورة الواحدة .
الخامس : الجمع بين آخر السورة وأول السورة التي تليها .
لا يواجه النبي (ص) أحداً بما يكره
لقد تضمن القرآن التحدي للناس باخلاق وحسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، فهذه الآية أنزلت في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبعث السكينة في النفوس بأن نهج السلم والود والرحمة والرأفة مصاحب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل آيام حياته.
وفيه دعوة للصحابة والمؤمنين عامة للإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، خاصة الأمراء والعلماء ليتبعوه في نهجه السلمي لإستدامة الأمن المجتمعي ، وهو كالوعاء الزماني للتدبر في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل ينحصر التحدي في المقام بآيات القرآن أم يشمل السنة النبوية ، الجواب هو الثاني لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
فقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة وترجماناً للقرآن ، ومدرسة رفعة في الأدب ، لتكون سنة النبي محمد سبيل اصلاح للناس في السلوك والعادات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتجنب توبيخ الأفراد ، وإذا رآى مكروهاً أعرض بوجهه ومن غير أن يصدر منه كلام تبكيت ولوم ، وجاءت آية البحث لتهذيب السلوك ، وسعي الناس لدخول الجنة ، وفيها إخبارللمسلمين بأن تلاوتها دعوة للهداية والرشاد .
جملة الدعاء
تتضمن آية البحث في صيغتها وجوهاً :
الأول : صيغة الآية الجملة الخبرية .
الثاني : الآية من الجملة الإنشائية .
الثالث : صيغة الآية الدعاء .
ولا تعارض بين هذه الوجوه :
وتنقسم الجملة الإنشائية إلى قسمين :
القسم الأول : الإنشاء الطلبي ، وهو الذي يتضمن سؤال مطلوب غير متنجز في اعتقاد المتكلم أوان الطلب والسؤال مثل (قل) الذي ورد في القرآن (332) مرة منها (328) مرة خطاباً وأمراً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ابتدأت خمس سور بالأمر (قل) وكلها موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتشمل أفراد الأمة ، فهو ليس من الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتسمى هذه السور القلاقل الخمس ، وهي :
الأولى : قوله تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ]( ).
وقد تكرر لفظ ( قل) خمس مرات في آية واحدة بقوله تعالى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
الإستغفار مانع من دخول النار
لقد ذكرت آيات قرآنية عديدة فتح باب التوبة ، وأنه قريب من الإنسان ، ولا يغلق إلا عند مغادرته الحياة الدنيا .
وقد يبقى بعدها مع الولد الصالح والصدقة الجارية ، وقال تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ) ( ).
ترى ما هذ الصلة بين الآية أعلاه وآية البحث ، فيها مسائل :
الأولى : ليس من ملازمة بين فعل الفاحشة ودخول النار ، فأيام الإنسان في الحياة الدنيا وعاء ومناسبة لبناء حواجز دون دخولها بالإستغفار .
الثانية : قانون ظلم النفس مسلك للحرمان من النصير في الآخرة إلا مع التدارك بذكر الله والإستغفار .
الثالثة : قانون ذكر الله واقية من دخول النار لمن يفعل الفاحشة ويظلم نفسه ليكون من باب الأولوية القطعية نجاة المؤمنين في الآخرة بسلاح ذكر الله .
الرابعة : قانون الإصرار على المعصية سبب لدخول النار والخزي يوم القيامة .
و(عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ما كبيرة بكبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة بصغيرة مع الإصرار)( ).
لبيان قبح الإصرار على الذنب .
الخامسة : الترغيب بالإستغفار من الذنوب ولو على نحو الإجمال مما يستحضرونه وما لا يستحضرونه منها في الوجود الذهني ، ولكنها جميعاً حاضرة عند الله ، وفي التنزيل [قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى]( ).
فيأتي الإستغفار عليها جميعاً فيمحوها ويصير حاجزاً دون دخول النار ، لبيان قانون نجاة العبد من النار الأخروية بكلمة واحدة وهي استغفر الله ، وما يدل عليه من الإقرار بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل ، لذا قال تعالى [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
ولإرادة الإنقطاع لله عز وجل ، والتنزه عن الغلو ، وكان سيد ولد آدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الإستغفار لنفسه ولأمته ، وفيه دعوة للمسلمين والناس للتوجه إلى الله وحده بالإستغفار ، واتخاذه صراطاً للعبور على الصراط يوم القيامة .
فمن فضل الله مجئ آيات متعددة تبين سبل النجاة من دخول النار الذي تذكره آية البحث وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
مسائل في آية البحث
من إنذارات القرآن للمنافقين قوله تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( )، وهناك مسائل:
الأولى : ما هي الصلة بين العذاب الذي تذكره الآية أعلاه وبين مضامين آية البحث .
الثانية : ما هي النسبة بين غضب الله وبين خزي الكافرين .
الثالثة : ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَلَعَنَهُمْ] وبين مضامين آية البحث .
أما المسألة الأولى فالنسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فالعذاب الذي تذكره الآية أعلاه أكثر من الذي تذكره آية البحث ، وهو سابق لدخول المنافقين والمشركين النار ، ومصاحب له.
أما المسألة الثانية فان غضب الله على المنافقين والمشركين عام في الدنيا والآخرة ، ومنه حرمانهم من فضل الله .
وقد أنعم الله عز وجل على الناس بصرف صنوف من البلاء والأمراض والفتن ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، ولكن المشركين حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة العظمى ، نعمة محو ما فيه ضرر ، وليس من حصر لمصاديق وغضب الله عز وجل على المنافقين والمشركين سواء في الدنيا أو الآخرة ، ومنها آية البحث .
وأما المسألة الثالثة فالنسبة بين اللعنة التي تذكرها الآية أعلاه وبين مضامين آية البحث هو العموم والخصوص من وجه ، واللعن هو الطرد من رحمة الله ، أما آية البحث فتتضمن العذاب الأليم للمنافقين والكافرين لتجتمع عليهم اللعنة والعذاب لذا اختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين : وما للظالمين الذين غضب عليهم الله ولعنهم من أنصار .
صيغ الجملة الإنشائية
وتقسم الجملة إلى خبرية وإنشائية بتقسيم استقرائي ، وقد تشمل الآية القرآنية الجملتين معاً بالإستقلال أو التداخل .
ومن صيغ الجملة الإنشائية :
الأول : الأمر
الثاني : النهي .
الثالث : الدعاء .
الرابع : النداء .
الخامس : الإستفهام .
السادس : التمني .
السابع : التحذير .
الثامن : الإغراء .
التاسع : الترجي .
ومنه آية البحث التي تتضمن كلاً من :
أولاً : النداء .
ثانياً : الدعاء .
ثالثاً : التمني .
رابعاً : الخبر المتعدد في خاتمة الآية .
خامساً : النفي .
القسم الثاني : الإنشاء غير الطلبي ، وهو إنشاء لأمر مرغوب فيه ، من غير أن يقترن بطلب وسؤال لتنجزه وتحقيقه ، ومصاديقه كثيرة ومنها :
الأول : أمر التكوين ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثاني : النطق بالشهادتين في دخول الإسلام وكأنه عقد مع الله ورسوله بالتسليم والإيمان .
الثالث : العقود في المعاملات .
الرابع : فسخ البيع والعقود بالعبارة التي تدل عليه والإيقاعات كايقاع الوقف أو الطلاق ، وقول أنتِ طالق .
الخامس : انشاء القسم ولو بحذف فعل القسم والإشارة إليه بحرف القسم فلا ينحصر بقول (اقسم بالله) إنما يكتفى بالقول (بالله) أو يكتفى بحركة إعراب مثل اللهِ لتفعلن، في يمين مناشدة الذي هو ليس بواجب على المُناشد ، وإنشاء القسم تأكيد للجملة الخبرية.
رؤية الهلال دعوة شهرية للنجاة من النار
قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) هل من صلة بين هذه الآية وبين صيام المسلمين والمسلمات في الشرق والغرب هذه السنة بعد مضي أكثر من 1400 سنة على نزول هذه الآية أم أن القدر المتيقن هو وجوب الصيام لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..]( ) ولآيات الصيام الأخرى والسنة النبوية القولية والعقلية.
الجواب هو الأول ، وإذا ثبتت الصلة هذه فتثبت صلة صلاتنا مع هذه الآية ، ودفع الزكاة والخمس والحج وحرمة الربا والزنا لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وتثبيت صلة صيامنا في هذه الأيام بآيات كثيرة في القرآن .
وهل يشمل قوله تعالى [وَلَا تَفَرَّقُوا] ( )، في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، الحكم برؤية الهلال وعدم الإختلاف فيه ولزوم إتفاق علماء الإسلام على قواعد كلية خاصة مع طرو المراصد الفلكية الدقيقة ، والتداخل بين الأمم والأقطار ، وقبل اثنتين وعشرين سنة ذكرت في رسالتي العملية (الحجة ).
لا بأس بتصنيع منظار صغير متداول لإنتفاع المؤمن من العلوم في العبادات وتكون له وظيفتان على نحو الإستقلال والإنفصال.
الأولى : اختراق البصــر للغيوم لرؤية الهـلال بحجـــمه الطبيعي من غير تكبير ولا تقريب ونحوهما، ورؤية الهلال فيه حينئذ شرعية وان كانت في السماء علة.
الثانية : تقريب الهلال ونحوه مما يساعد على معرفة منزله وموضعه، وثبوت الهلال حينئذ لا يكون الا بالعين المجردة بعد تنحية المنظار.
صوم الكفارة
الكفارة فعل من التكفير وهي التغطية وكأنها تمحو الذنب وتستره فهي باب للتدارك وعنوان عملي للإستغفار.
ولما أخبرت آية البحث عن سوء عاقبة الظالمين وانعدام الناصر لهم ، تفضل الله عز وجل بفتح باب التوبة والكفارة لتكون ساتراً للذنوب وشهادة على الإقرار بالذنب ، ورجاء تفضل الله بالعفو عنه والستر.
وهو اقسام :
الأول: ما يجب فيه الصوم مع غيره وهي كفارة قتل العمد ففيها الخصال الثلاث مجتمعة.
الثاني: ما يجب فيه الصوم بعد العجز عن غيره ككفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ فان وجوب الصوم فيها بعد العجز عن العتق، وكفارة الإفطار في قضاء رمضان فان الصوم فيها بعد العجز عن الإطعام، وكفارة اليمين وهي عتق رقبة او اطعام عشرة مساكين او كسوتهم وبعد العجز عنها فصيام ثلاثة أيام ، وسيأتي في جزء لاحق شطر من كفارات الحج ان شاء الله.
الثالث: ما يجب فيه الصوم مخيراً بينه وبين غيره مثل كفارة الإفطار في شهر رمضان.
وهناك مسائل :
الأولى : لو كان التتابع واجباً في صيام الكفارة يكفي في حصول التتابع صوم الشهر الأول ويوم من الشهر الثاني، ثم يتم باقي ايام الشهر الثاني ولو متقطعاً.
الثانية : اذا نذر صوم شهر او اقل او ازيد لم يجب التتابع الا مع الإنصراف والقصد او اشتراط التتابع فيه.
الثالثة : اذا فاته النذر المعين او المشروط فيه التتابع يجوز قضاؤه من غير تتابع.
الرابعة : اذا افطر في اثناء ما يشترط فيه التتابع لعذر من الأعذار كالمرض والســفر الواجب والإضــطراري دون الإختيـاري وايضاً الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة لم يجب استئناف الصوم بل يبني على ما مضــى، كما لا يجوز ان يشــرع فــــيه في زمان يعلــم انه لايســلم له كما لو تخلله العيد او يوم يجب فيه صوم آخر كالنذر المعين، او يضطر فيه للسفر.
قانون الصيام واقية من النار
ووجوهه واقسامه كثيرة للأخبار ولما ورد في فضله ومنافعه الدنيوية والاخروية ، وهو عبادة ووسيلة للنجاة من النار والخزي الذي تذكره آية البحث .
لقد اختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، فهل يكون الصيام نصيراً للمسلم يوم القيامة ، الجواب نعم ، لبيان أن معنى النصير أعم من أن يختص بالملائكة والأنبياء والصالحين ، فيشمل القرآن والفعل العبادي .
ومن الصيام ما لا يختص بسبب مخصوص ولا زمان معين كصوم ايام من السنة عدا ما استثني كالعيدين وباضافة ايام التشريق لمن كان بمنى.
ومنه ما يختص بسبب مخصوص كالصوم لصلاة الاستغفار، ومنه ما يختص بوقت معين كصوم أيام البيض أي أيام الليالي البيض.
وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، او صوم ثلاثة أيام من كل شهر وهو ان تصوم أول خميس من الشهر، وأول اربعاء في العشرة الثانية، وآخر خميس منه، ومنه صوم شهر رجب .
ولا يجب اتمام صوم التطوع بالشروع فيه، بل يجوز له الافطار الى الغروب وان كان يكره بعد الزوال.
ويستحب للصائم تطوعاً قطع الصوم اذا دعاه أخوه المؤمن الى الطعام.
ويمكن القول بقانون كل فرض عبادي وسيلة مباركة للوقاية من دخول النار ، ومع ما في فريضة الصيام من الجوع والعطش فانها سبيل نجاة في الآخرة ، سواء كان الصوم الواجب ، أو الصيان المندوب ، وأيهما أكثر نفعاً في الآخرة ، الجواب إنه الصيام الواجب ، لبيان أن الله عز وجل خلق الجنة والنار ، وبعث الأنبياء لهداية الناس للبث الدائم في الجنة بالإيمان وقول (ربنا) كما في آية البحث ، وبالإتيان بالفرائض العبادية ، ومنها صيام رمضان .
و(عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون)( ).
ويدل هذا الحديث على أن الصيام نجاة من الخزي يوم القيامة للتضاد بين دخول الجنة وبين الخزي الذي تذكره آية البحث ، وهل يمكن الصيام الواجب والمندوب نصيراً للمؤمن يوم القيامة ، الجواب نعم ، لينجو الصائم من الإنذار الذي تتضمنه خاتمة الآية بانعدام النصير للظالمين.
وليكون من معاني الخير في قوله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( )، شموله لعالم الآخرة بالسلامة من حر النار ومن الخزي يومئذ .
و(عن سلمة بن قيصر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من صام يوماً ابتغاء وجه الله بعده الله من جهنم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرماً)( ).
أي أن الغراب طائر مدة حياته وهو يقطع المسافات التي تبعده عن النار إلى أن يكون هرماً ويعجز عن الطيران ، مما يدل على عدم رجوعه أو قربه من النار إلى الأبد ، واشترط الحديث أعلاه قصد القربة في الصيام ، وهو من مصاديق التقوى في آية الصيام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
واختلف في سلمة بن قيصر من جهتين :
الأولى : اسمه ، ففي قول اسمه سلامة .
الثانية : صحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي رواية ابن حجر للرواية أعلاه عن سلامة بن قيصر أنه يقول : سمعت رسول الله وذكر الحديث( ).
التوقيف في تسمية آيات
لقد جعل الله عز وجل لكل سورة من القرآن اسماً أو أكثر حسب ما ورد على لسان النبي ، وعدد سور القرآن هو (114) سورة ، أما آيات القرآن فيبلغ عددها (6236) آية وليس لأغلبها أسماء ، إذ وردت أسماء لبعضها.
والآية لغة العلامة والعبرة والبرهان والأمر العجيب ، أما الآية في الإصطلاح فهي الطائفة من القرآن مركبة من جملة أو جمل ولو تقديراً وبها ينقطع الكلام الذي قبلها ، وتستقل عما بعدها نظماً للقرآن وليس في سياق الكلام فاكثر آيات القرآن تكون معطوفة على ما سبقها سواء العطف بحرف العطف أو بالموضوع ، وهو من الإعجاز في نظم القرآن.
وتقسيم السور إلى آيات تقسيم توقيفي من عند الله عز وجل لا يصح الإجتهاد فيه ، وتعاهد هذا التوقيف واجب على كل مسلم ومسلمة ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
أم أن القدر المتيقن من الحفظ في الآية أعلاه هو حفظ كلمات القرآن ، الجواب هو الأول ، فيتفضل الله عز وجل بتعاهد حفظ نظم القرآن ، ومنه أسماء السور وطائفة من الآيات ومحلها من السورة.
ولا يصح فيه القياس فانك تجد عدد حروف أطول آية من القرآن (551) حرفاً وهي آية الدَين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )،وحروف هذه الآية وهي من أواخر سورة البقرة أكثر من حروف ثمان سور من القرآن وهي حسب نظم القرآن :
ت اسم السورة عدد حروفها عدد آياتها
1 سورة الكوثر 42 حرفاً 3 آيات
2 سورة الإخلاص 47 حرفاً 4 آيات
3 سورة العصر 70 حرفاً 3 آيات
4 سورة قريش 73 حرفاً 4 آيات
5 سورة النصر 79 حرفاً 3 آيات
6 سورة الناس 80 حرفاً 6 آيات
7 سورة المسد 81 حرفاً 5 آيات

  • المجموع 472 حرفاً 28 آية
    ولا يجوز القياس في آيات القرآن فمثلاً (المص) آية و(طس) آية و(يس) آية ، ومع هذا لا يعد (المر) آية.
    إنما ورد ضمن أول آية من سورة الرعد ، بقوله تعالى [المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ]( ).
    وتعد [حم * عسق]( )، آيتين ، أما [كهيعص]( )، فهي آية واحدة.
    ومنهم من قال بتقسيم آيات القرآن إلى قسمين :
    الأول : سماعي توقيفي .
    الثاني : قياسي .
    ولكن كان جبرئيل عليه السلام يعارض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن ويتدارسه معه كل سنة مرة واحدة.
    وفي السنة التي انتقل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى عارضه بالقرآن مرتين ، ولو دار الأمر بين وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التدارس مع جبرئيل عند فواصل الآيات أو عدمه.
    فالأصل هو الأول ، وهو الذي يتجلى في قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة إذ كان يقف عند رؤوس الآيات.
    وعن أم سلمة قالت كان رسول الله يقطع قراءته بقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ).
    ليكون من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ضبط فواصل الآيات والعناية بها.
    وهناك فرق بين التجويد والتطريب ، فالتجويد ضبط اخراج الحروف من مخارجها واشباعها ، وبيان الحروف باللفظ على نحو مستقل من غير إدخاله إدغاماً مع غيره إلا وفق قواعد التجويد .
    و(عن عبيد الله بن أبي نَهِيك، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن)( ).
    وعن البراء أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال (زينوا القرآن بأصواتكم)( ).
    وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (زينوا أصواتكم بالقرآن)( ).
    ولا تعارض بين القولين ولا يستلزم الدور .
    ومن الآيات ما وردت تسميتها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل آية الكرسي وبيان فضائلها وهذه التسمية بالوحي لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
    وهل في تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض آيات القرآن دعوة أو إذن بتسمية عدد من الآيات ، الجواب نعم ، وفيه مسائل :
    الأولى : التخفيف عن العلماء والقراء وعامة المسلمين .
    الثانية : الإجتهاد في تسمية آيات القرآن مع وجود ملاك وسبب لهذه التسمية.
    الثالثة : النهي عن الخلاف والخصومة بين المسلمين في آيات القرآن ، سواء في ذات التسمية أو ما يترشح عنها ، ومنع صيرورة الخلاف متعدداً في علوم القرآن ، وهل منع هذا الخلاف من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، الجواب نعم.
    الرابعة : اعانة المسلمين على حفظ القرآن ، وضبط نظمه وإكرامه.
    الخامسة : بيان الشأن الخاص لكل آية من القرآن ، فصحيح أن عدداً محدوداً من الآيات لها تسمية خاصة ، ولكن موضوع التسمية هذا مدرسة وموعظة في العناية بكل آية من القرآن.
    ومن أسماء الآيات ما كان بواسطة الصحابة وأهل البيت ، ومنها ما وردت تسميتها عن التابعين ثم عن علماء التفسير والفقه والأصول ، والمدار على المسمى وليس على الاسم.
    فذات الآية القرآنية كنز ونعمة والاسم للدلالة على الآية ، ومنه ما كان للإختصار في مباحث العلوم المختلفة فيقال مثلاً آية الوضوء ، آية الإسترجاع ، آية الإسراء .
    وفي تفسيري هذا ذكرت أسماء الآيات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي الأثر ، وإن لم يكن للآية التي أقوم بتفسيرها اسم اخترت لها اسماً خاصة من أول الآية ليكون أظهر ، وعندما يكون أول الآية مكرراً في آيتين أو أكثر اختار اسماً من ألفاظها .
    وقد سميت آية البحث آية (أخزيته) لأنه لم يرد في القرآن إلا في آية البحث.
    تعدد الإنذار في آية البحث
    من إعجاز القرآن تعدد البشارة والإنذار في الآية القرآنية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية ، وهو من الإعجاز في قسمة كل سورة من القرآن إلى آيات مستقلة ذات معنى خاص بها ، ومعنى آخر بصلتها مع الآيات المجاورة ، ثم مع كل آية من القرآن .
    لتكون الآية القرآنية مرآة للحياة والإنذار لنجاة الناس يوم القيامة.
    ويتعدد الإنذار في آية البحث من وجوه :
    الأول : ابتداء الآية بنداء الربوبية المطلقة وشاهد الإيمان (ربنا) فليس لأحد من الناس أن يتخذ غير الله رباً وإلهاً ومعبوداً.
    لقد نزلت آية البحث والمسلمون هم الأقل عدداً بين الناس ليكون نداء (ربنا) إنذاراً للكفار ، ودعوة للمنافقين للتنزه عن الكفر الظاهر والمبطن.
    وتوالت آيات القرآن التي تعضد قول (ربنا) بما يبعث الشوق في النفوس للإيمان ونبذ الشرك .
    ومن هذه الآيات ما تتضمن الثناء على الله عز وجل وبيان أنه خالق الأكوان وأن قدرته مطلقة ، قال تعالى [السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( )، والله هو الرحيم ، فليس من ملك أو سلطان يتقرب إلى الرعية إعلان رحمته ، ويظهر لهم مصاديق كثيرة ومتجددة منها ، لأن الملك يظن أن هذا الأعلان يفسدهم عليه ، أما الله عز وجل فانه يخبر الناس جميعاً أنه هو الرحيم .
    ومن الإعجاز في المقام ابتداء نظم القرآن بآية [بسم الله الرحمن الرحيم].
    لتنفذ البسملة إلى شغاف القلوب وتبعث على التوبة ، فصحيح أن القرآن وثيقة السماء في الإنذار إلا أن الرحمة تقدمت على الإنذار لإعانة الناس على عمل الصالحات .
    ومن معاني ابتداء آية البحث بالنداء (ربنا) أي ربنا ارحمنا.
    ويتعدد النداء (ربنا) مع سؤال النجاة من النار في الآخرة وفي الثناء على المتقين ، قال تعالى [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
    الثاني : دخول طائفة من الناس النار لقوله تعالى في آية البحث [إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ]( )، لبيان التسليم بأن النار ملك لله عز وجل ، ولا يدخلها أحد إلا بأمره سبحانه ، وقوله تعالى [عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، أي يتلقون بالعذاب من يدخله الله عز وجل النار .
    الثالث : قانون لحوق الخزي للكافرين والمنافقين باستحقاقهم دخول النار ، ثم دخولهم فيها .
    وإن في قوله تعالى [إِنَّكَ] للتوكيد ، فعقوبة دخول النار أشد وأطول عقوبة فهي بيد الله وحده ، وإنحصار حكم دخول طائفة من الناس النار بيد الله رحمة بالناس جميعاً ورجاء العفو منه تعالى ، ونزول الخزي بساحة أهل النار لإنذار الناس جميعاً وحض لهم على الإمتناع عن إرتكاب المعاصي الذي هو مقدمة لدخولها .
    وهل تترشح حرمة المعاصي من سوء عاقبتها في الآخرة لقانون حرمة المقدمة الحرمة ذيها ، الجواب إنه أعم إذ يشمل أيضاً الحرمة الذاتية للمعاصي فهي قبيحة ومنه ، قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( ).
    إذ جمعت الآية أعلاه القبح الذاتي للزنا ولزوم التنزه عنه ، وذكرت سوء عاقبته وانه مما يسوق الإنسان إلى النار .
    الثالث : قانون غياب النصير والشفيع والمواسي للظالمين يوم القيامة ، ومن وجوه الإنذار في خاتمة الآية ورودها بصيغة الجمع ، وتقديرها على وجوه :
    الأول : وما للظالم من أنصار .
    الثاني : وما للظالم من نصير .
    الثالث : وما للظالمين من نصرة فيما بينهم ، إنما يلوم ويلعن كل واحد منهم الآخر .
    ليكون الخزي للرئيس الظالم يوم القيامة أشد وأمر ، إذ يتوجه له اللعن والبراءة والإهانة من أعوانه وجنوده .
    الرابع : وما للظالمين من نصير ، لإصابتهم باليأس من وجود نصير لأحدهم فيكون باعثاً للأمل بمجئ نصير آخر إذ يقطع الله هذا الأمل .
    قانون مناجاة السلامة من النار
    من معاني وصف الذين يذكرون الله على كل حال بأنهم أولي الألباب إقامة الحجة على الذين كفروا بأنهم أيضاً من أرباب العقول ، ولكنهم لم يسخروا عقولهم للتدبر في الأكوان واتخاذه سبيلاً إلى طاعة الله عز وجل .
    فلا يقول أهل النار يومئذ بأن الله عز وجل خصّ المؤمنين بأسباب ومدد جعلهم يختارون ذكر الله على كل حال من أحوالهم ، ويتفكرون في الخلائق ، إنما كان هذا الذكر والتفكر فرع العقل الذي رزق الله عز وجل لكل إنسان ذكراً أو أنثى .
    و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما خلق الله عز وجل العقل قال له : قم ، فقام ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، ثم قال له : اقعد ، فقعد ، فقال : وعزتي ، ما خلقت خيرا منك ، ولا أكرم منك ، ولا أفضل منك ، ولا أحسن ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك أعرف ، وبك أعاقب ، وبك الثواب ، وعليك العقاب)( ).
    ومن معاني سبق مضامين آية السياق على الدعاء والمناجاة الواردة في هذه الآية أمور :
    الأول : قانون الإنقطاع إلى الله عام ، ومنه مناجاة آية البحث وابتداؤها بالنداء [ربنا ] .
    الثاني : قانون تنزه المؤمنين عن الرياء .
    الثالث : قانون تدبر المؤمنين في أهوال الآخرة .
    الرابع : حب المؤمنين لله ورسله ، ونشر المودة بينهم ، ليكون من رشحات التفكر في خلق السموات والأرض التآخي والتآلف بين المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
    قانون التعاون للنجاة من النار
    من خصائص المسلمين بذل الوسع في الدنيا للسلامة من النار ، وهو على جهات :
    الأولى : دعاء المسلم لنجاة المسلمين عامة من النار ، والخزي الذي يقود إليها والخزي المترشح عنها .
    الثانية : تعاون المسلمين في العمل الصالح للوقاية من النار ، فآية البحث من مصاديق [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )ليكون من تقدير الآية أعلاه : وتعاونوا على البر والتقوى للفوز بالعصمة من النار على وجوه :
    الأول : وتعاونوا على ذكر الله قياماً .
    الثاني : وتعاونوا على ذكر الله قعوداً .
    الثالث : وتعاونوا على ذكر الله على جنوبكم .
    الرابع : وتعانوا على التفكر في خلق السموات ، وتجلي الآيات الكونية ، وكل آية منها شاهد حسي وعقلي على بديع صنع الله ووجوب عبادته ، وفي التنزيل [بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
    وهل تدل الآية أعلاه على خلق الله عز وجل لكواكب ونجوم جديدة ، الجواب نعم .
    الثالثة : قانون التضاد بين تعاون المسلمين في أداء الفرائض العبادية وبين دخول النار .
    وهذا الأداء من التقوى ،والنسبة بينها وبين البر عموم وخصوص مطلق ، فالبر أعم وأوسع ، ويشمل الإحسان ، والعفو ، والأمر بالمعروف ، وأداء المندوبات ، والصبر على الأذى ، والنهي عن المنكر .
    وعن ابن عباس (البر . ما أمرت به { والتقوى } ما نهيت عنه)( ).
    وكل من البر والتقوى واقية من النار ، فاكرم الله المسلمين ، وجمعهما لهم للحاجة للنجاة من النار ، ولضمان سبيل دخول الجنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ، ولا يؤدي هذا الصراط إلا إلى الجنة ، ومن غير أن يمر المؤمن بالنار ، للتضاد وعدم الإلتقاء بينه وبين سبل الشر والظلم التي تؤدي إليها .
    إن قول المؤمنين [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( ) إقرار بأن الجنة حق والنار حق ، وهل يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان ، الجواب لا ، وإن كان خلقهما الآن هو المختار ، إذ يستفاد من آيات أخرى وأحاديث نبوية .
    بحث نحوي
    ينقسم الكلام إلى قسمين :
    الأول : الكلام الخبري ، وهو الذي يحتمل الصدق أو الكذب بالذات ، بمعنى مطابقة الكلام للواقع أو عدم مطابقته له ، وقد تقدم أن كتاب الله والحديث النبوي وكلام المعصوم لا يحتمل إلا الصدق ، وفي التنزيل [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا]( ).
    الثاني : الكلام الإنشائي : وهو الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب ، مثل [سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ) ( )ومثل [وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
    وينقسم الكلام الإنشائي إلى شعبتين :
    الأولى : الإنشاء الطلبي ، وهو طلب شئ غير موجود ساعة الطلب مثل الأمر ، النهي ، الإستفهام ، النداء ، التمني .
    الثانية : الإنشاء غير الطلبي ، وهو الذي لا يتضمن طلباً أو أنه غير منجز وقت طلبه ، مثل المدح والذم والقسم والتعجب والرجاء ، ومن الإعجاز قانون علوم القرآن أعم من قواعد النحو والبلاغة وان الدعاء جامع لكل من :
    الأولى : الجملة الخبرية التي لا تحتمل إلا الصدق .
    الثانية : الجملة الإنشائية الطلبية .
    الثالثة : الجملة الإنشائية غير الطلبية .
    الرابعة : الجملة الشرطية ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
    وجاءت آية البحث من جهات :
    الأولى : نداء الربوبية المطلقة (ربنا).
    الثانية : صيغة الجملة الشرطية .
    الثالثة : اختتام الآية بجملة خبرية هي قانون من الإرادة التكوينية.
    ومن خصائص هذا التعدد بعث الناس على الإلتفات لمضامين الآية ومصاديقها الخارجية باستحضار أليم عذاب النار ، ولزوم إجتناب مقدماته وأسبابه .
    في خلق الجنة والنار
    ترى لماذا لم تذكر الآية أن الله عز وجل هو الذي خلق السموات والأرض ، الجواب جاءت آيات أخرى لبيان هذا الخلق ، إذ قال تعالى [خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ]( ) ومن الحق الذي تذكره الآية أعلاه صيرورة هذا الخلق موعظة للناس يتعظ منها أولو العقول ، فيدركون أن الله عز وجل هو خالقهم ، ويريد منهم عبادته ـ فيخشونه بالغيب ويسعون بجهد وإجتهاد للنجاة يوم القيامة.
    وهناك مسألة هل الجنة والنار من السموات والأرض وعلى القول بالإيجاب ، فهل يدل هذا على أنهما مخلوقتان الآن ، الجواب هما من خلق السماوات والأرض ، وآية السياق تدل على خلق السموات والأرض ، والمختار أنهما مخلوقتان.
    وهو مشهور المسلمين شهرة عظيمة ، والذي خالف كطائفة من المعتزلة قالوا بأن الجنة والنار اليوم مقدرتان غير مخلوقتين وقد دخل النبي الجنة ورآى النار في الإسراء .
    والذي نفى خلق الجنة والنار وقال بأن خلقهما قبل يوم الحساب عبث لا يليق بالحكيم سبحانه ، فهذا تجرأ وتعد ، فكيف ينعت بالعبث الذي قال مشهور المسلمين فيما يتعلق بقدرة الله ، وما يدريك أنهما خلقا لخصوص أدم وذريته ،إذ سبقت أمم من أجناس أخرى في عمارة الأرض ، ولعل بعض الكواكب عمرت باجناس أخرى وأن شدة الحرارة التي فيها حسب الإكتشافات العلمية لإنقطاع الحياة فيها بسبب سخط الله عز وجل عليهم أو لحلول الأجل الذي جعله الله لهم ، أو أن هذا الإنقطاع تم بأيديهم وظلم بعضهم لبعض ، كما لو كانت عندهم أسلحة فتاكة قضوا فيها على عدوهم وأنفسهم ، وإن كان هذا الأمر لا يستلزم تحول الكواكب إلى نار أو بركان إلا أن يشاء الله عز وجل .
    وهل يستقرأ من الجمع بين آيات خلق السموات والأرض ، وتضمنها سؤال النجاة من النار خلق الجنة والنار الآن ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ، وقانون استقراء القوانين والمسائل من الصلة بين الآيات المتجاورة ، ولو دار الأمر في علم التقدير بخصوص آية البحث بين أمرين :
    الأول : ربنا إنك من تدخل النار التي خلقتها فقد أخزيته .
    الثاني : ربنا إنك من تدخل النار التي لم تخلقها بعد فقد أخزيته.
    فالصحيح هو الأول ، وكذا لو دار الأمر بين أيهما أكثر تخويفاً للناس ، ومناسبة للهداية والرشاد خلقتا الآن أم فيما بعد ، فالجواب هو الأول ، ولا يعلم كثرة الذين انتفعوا من خلق السموات والأرض ، والجنة والنار إلا الله عز وجل.
    وقد أخبر الله عن خلق آدم في الجنة لبيان أنها موجودة قبل خلقه.
    وليكون من فطرة الإنسان اشتياقه إلى الجنة ذكراً كان أو أنثى ، ومن لطف الله عز وجل أن آدم لم ير النار ، ولكنه علم بها وبشدة عذابها لقوله تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
    قانون خيبة الكفار مقدمة لدخول النار
    قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
    وردت كلمات في هذه الآية لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي [طَرَفًا][ يَكْبِتَهُمْ][ فَيَنْقَلِبُوا][ خَائِبِينَ].
    وهل من دلالة لهذا الإنفراد ، الجواب نعم لبيان انطواء صفحة الكفر ، وقتال المشركين بمعارك الإسلام الأولى ، ففي كل معركة ينقطع طرف منهم ، وتصيبهم الخيبة والهوان ، وهو من مقدمات صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، فما كان لهذا الصلح أن يتم لولا فضل الله عز وجل ، وإصابة المشركين بنقص الرجال ، والخيبة والخسارة في الأنفس والأموال في كل معركة من المعارك التي سبقتها .
    والكبت : الذل والحزن .
    والخيبة : الحرمان وعدم نيل البغية والطلب .
    وتجلت خيبة المشركين في معارك الإسلام الأولى بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل مع أنه كان الهدف الأول لهم ، وكانوا يتناجون بقتله وهم في مكة قبل الغزو والهجوم على المدينة.
    وابتدأت الآية بلام التعليل [لِيَقْطَعَ] مما يدل على أن ما سبقها علة لهذا القطع ، وتحتمل هذه العلة وجوهاً :
    الأول : النصر في بدر .
    الثاني : نزول الملائكة في بدر وفي معركة أحد كما في الآية قبل السابقة لهما [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) .
    الثالث : البشارة للمسلمين التي تذكرها الآية السابقة .
    الرابع : خاتمة الآية السابقة [ومَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
    وقد تقدم في البحث الخارج ليوم أمس السادس من شهر ذي القعدة من السنة 1444 للهجرة النبوية الشريفة تقسيم الكلام إلى الجملة الخبرية والجملة الإنشائية ، كما تقسم الإنشائية إلى قسمين الطلبية كالأمر والنهي ، وغير الطلبية كالمدح والذم ، وذكرت قولاً مستحدثاً وهو أن لغة القرآن أعم من هذا التقسيم ، فقد يأتي الموضوع المتحد جامعاً للجملة الخبرية التي لا تحتمل إلا الصدق ، والجملة الإنشائية بشطريها والذي يتجلى بالجامع المشترك لهن جميعاً في الدعاء ، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) على نحو الإطلاق في الموضوع والحكم ، وكذا في ماهية الجملة الخبرية كانت أو إنشائية ولابد من قراءة آيات القرآن والتدبر فيها ، واحتمال تعدد معاني وتأويل الآية القرآنية بما يتضمن جمع الآية القرآنية لقسمي الخبر والإنشاء .
    كما سبق وأن ذكرت أن الواو في علم النحو تقسم إلى واو عطف وواو استئناف ، أما في هذا السِفر المبارك فذكرت قسيماً ثالثاً لهما وهو أن الواو في القرآن قد تكون جامعة للعطف والإستئناف معاً بلحاظ تعدد وجوه التفسير .
    إجتماع الضدين في (ليقطع)
    بخصوص هذه الآية وقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] نبين أنه ثبت في الفلسفة أن المتضادين لا يجتمعان ، وقد يرتفعان كالسواد والبياض إذ يرتفعان باللون الأحمر ، وكالدنيا ويوم القيامة إذ يكون عالم البرزخ فاصلاً بينهما وإن كان من عالم الآخرة .
    ولكن في القرآن قد يجتمع المتضادان في كلمة واحدة كما في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] فيكون القطع على وجوه متضادة منها :
    الأول : قتل عدد من المشركين، إذ قتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلاً ، ومعركة أحد هي موضوع وسبب نزول الآية أعلاه ، ولكن المدار على عموم المعنى .
    الثاني : دخول فريق من المشركين الإسلام ، فهو قطع للذين كفروا ، وعز للإسلام .
    الثالث : اعتزال طائفة من الذين كفروا القتال .
    الرابع : امتناع الناس عن إعانة كفار قريش بالسلاح والمال.
    ولابد أن تجارة قريش مع الشام واليمن تضررت لتخلفهم عن سداد الديون وعن المواظبة في الشراء والبيع لإصابة قوافل قريش التجارية بالشلل وقلة الضرب في الأرض لتسخيرها في هجومهم وغزوهم المدينة .
    وهل من إجتماع الضدين إنقلاب المشركين خائبين ،وإنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعز وسلام ، الجواب لا ، للتعدد والتباين الموضوعي .
    ترى لماذا أنقلب الكفار من معركة بدر وأحد والخندق خائبين ، الجواب من جهات :
    الأولى : عجز المشركين عن تحقيق الغايات التي غزو فيها المدينة.
    الثانية : استمرار نزول آيات القرآن ، وما فيها من ذم وفضح المشركين .
    الثالثة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، إذ كانت غايتهم في كل معركة قتله ، ووقف التنزيل ، لتكون نجاته من مكر الله المتصل إلى يوم القيامة في نفعه ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
    الرابعة : سقوط هيبة قريش عند القبائل العربية .
    الخامسة : احتمال تعرض تجارة قريش للنهب والسلب بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن ، ليكون من معاني قوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] في قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ]( ) سلامة وإزدهار تجارتهم بدخول الإسلام .
    السادسة : دخول فوج من الناس الإسلام مع كل معركة يفشل فيها رؤساء الكفر من قريش في تحقيق غاياتهم الخبيثة .
    ووقف نزول القرآن الذي لم ولن ينزل على غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من الإعجاز في نزوله نجوماً الوعد الإرتكازي بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الموت لحين إكمال نزول آيات وسور القرآن ، مع تجلي علامات تحقق هذا الكمال ، ومنها :
    الأولى : نزول سورة النصر [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( )، للدلالة على كثرة الصحابة ، وقوة الإسلام.
    الثانية : معارضة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسور وآيات القرآن كل سنة.
    الثالثة : المعجزة الحسية المتعددة في حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والإغتيال .
    النسبة المنطقية بين الآيات بلحاظ الوقائع
    قد صدرت لي والحمد لله أجزاء متعددة في الصلة بين آيتين من القرآن، والصلة بين شطرين من آيتين ، منها :
  • الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
  • الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
  • الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
  • الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
  • الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
  • الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
  • الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
    في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، وهذا البحث يختص بالصلة والنسبة المنطقية بين الآيتين من القرآن بحسب الوقائع والأحداث ، ومنها :
    الأول : ما يتعلق بأسباب النزول .
    الثاني : مناسبة الوقائع لمضامين الآية القرآنية .
    الثالث : حضور الآية القرآنية في الوقائع بما فيه الحجة والصلاح والنفع العام ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
    ومن باب المثال في هذه النسبة نذكر الصلة بين قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) وقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
    والنسبة بخصوص موضوع الآيتين هي العموم والخصوص من وجه ، وهذه النسبة قانون للصلة بين آيات القرآن ، فلابد من مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
    فان قيل وإن اتحدت ألفاظ الآيتين ، الجواب نعم ، لتعلق مادة الإفتراق بأسباب النزول ، والتأويل المستقرأ من صلة الآية بالآيات المجاورة لها ، وعلم المناسبة .
    مادة الإلتقاء بين الآيتين
    مادة الإلتقاء بين آية [بِبَدْرٍ] وآية [لِيَقْطَعَ]فهي على وجوه :
    الأول : نزول كل آية من قرآنية من عند الله عز وجل .
    الثاني : نزول آيات القرآن بواسطة الملك جبرئيل عليه السلام .
    الثالث : قانون لا تنزل الآية القرآنية إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الرابع : الآية القرآنية كلام الله .
    الخامس : كل من الآيتين من سورة آل عمران .
    السادس : تعلق الآيتين بمعارك الإسلام الأولى .
    السابع : تبين كل من الآيتين فضل الله عز وجل على المسلمين في ميدان القتال .
    الثامن : دلة الآيتين على المدد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من عند الله ، إذ ابتدأت آية ببدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) وابتدأت الآية الأخرى بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] ( ).
    التاسع : تضمن كل من الآيتين الجملة الخبرية والجملة الإنشائية.
    العاشر : الجامع بين كل من الآيتين العز والظفر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والهوان والهزيمة للمشركين .
    الحادي عشر : موضوع كل من الآيتين هو اللقاء في ساحة المعركة بين المسلمين والمشركين .
    الثاني عشر : تدعو كل من الآيتين الناس جميعاً إلى عدم نصرة المشركين .
    الثالث عشر : مع أن موضوع آية [ببدر ] هو واقعة بدر ، وموضوع آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا]هو معركة أحد إلا أن كلاً من الآيتين موعظة وعبرة ، وتنطبق مصاديقها على كل معارك الإسلام الأولى .
    الرابع عشر : بقاء كل من الآيتين غضة طرية إلى يوم القيامة .
    الخامس عشر : كل من الآيتين نزل فيها الملائكة مدداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
    السادس عشر : في كل من الآيتين زاجر للمشركين عن غزو المدينة ، ومن القتال لما فيها من بيان سوء عاقبتهم وخسارتهم .
    السابع عشر : ابتداء المشركين القتال في كل من معركة بدر وأحد .
    الثامن عشر : كثرة قتلى المشركين في المعركتين .
    التاسع عشر : وقوع الأسرى من المشركين في المعركتين ، ولم يقع أسير من المسلمين بأيدي المشركين فيها .
    العشرون : رجحان كفة المشركين في المعركتين بكثرة العدد والعدة والسلاح .
    الواحد والعشرون : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلاً من المعركتين .
    الثاني والعشرون : توجه الخطاب والإكرام في الآيتين إلى المسلمين .
    الثالث والعشرون : ليس من سبب للقتال سواء في معركة بدر أو معركة أحد ، أما بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكفي المعجزة ، وأما المشركون فانهم في ضلال ، فلذا جاء قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ) وقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
    الرابع والعشرون : كل من معركة بدر ومعركة أحد من مصاديق آية البحث بلحوق الخزي بالمشركين ، ودخولهم النار بقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ..]( ) لبيان قانون لحوق الخزي بالمشركين في الدنيا والآخرة ، وهو من أسرار مجئ آية البحث بصيغة الجملة الشرطية ولغة الماضي [فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ].
    الخامس والعشرون : تدل معركة بدر وكذا معركة أحد على ما ورد في آية البحث [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] ( ) إذ تخلى الناس عن نصرة رؤساء الكفر من قريش ، ليكون هذا التخلي مقدمة لعالم الآخرة ، وفيه إنذار ووعيد للمشركين .
    السادس والعشرون : من معاني [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) إدراك المشركين لسوء عاقبتهم في الآخرة ، وهذا الإدراك من الإعجاز الغيري للسور المكية وما فيها من الإنذار والتخويف والوعيد ، ليكون هذا الوعيد مقدمة لبعث الخوف والرعب في قلوب المشركين في معارك الإسلام ولمنع الناس من إعانتهم في القتال ، وهذه الآيات من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ..]( ).
    وهل آية البحث وقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ] من هذه المصاديق ، الجواب نعم ، لبيان أن السور المدنية تتضمن هي الآخرى الوعيد للمشركين ، وتحضر في ميدان القتال ، كما تحضر في الجدال والإحتجاج ، وهل حضورها في القتال والجدال بعرض واحد كماً وأثراً.
    الجواب الجدال والإحتجاج هو الأكثر .
    مادة الإفتراق بين الآيتين
    أما مادة الإفتراق بين الآيتين فمن جهات :
    الأولى : تضمن آية [بِبَدْرٍ] نصر المسلمين في معركة بدر ، بينما ذكرت آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] هزيمة المشركين ، وهي أيضاً تدل على ذات النصر بالواسطة .
    الثانية : ذكرت آية ببدر اسم الجلالة [الله] مرتين ولم تذكره آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] نعم وردت الدلالة عليه على نحو الضمير المستتر وتقديرها (ليقطع الله طرفاً) ولا يقدر على قطع الطرف وهلاك الطائفة من الناس إلا الله عز وجل.
    الثالثة : ابتدأت آية [بِبَدْرٍ] بصيغة الجملة الخبرية ، بينما ابتدأت آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] بالجملة الإنشائية .
    الرابعة : أختتمت آية [بِبَدْرٍ] بالجملة الإنشائية ، بينما أختتمت آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] بالجملة الخبرية .
    الخامسة : خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وليس معه سيف ، مما يدل على أنه لا يريد القتال ، بينما لبس لأمة الحرب في معركة أحد ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
    منافع معجزة وجوب التلاوة
    لقد تفضل الله عز وجل وألزم كل مسلم ومسلمة قراءة القرآن في الصلاة اليومية من وجوه :
    الأول : وجوب قراءة القرآن في كل ركعة .
    الثاني : قانون قراءة القرآن في الصلاة واجب عيني على كل مسلم ومسلمة لا تسقط إلا بالنسبة للمأموم في صلاة الجماعة .
    الثالث : قراءة القرآن في الصلوات اليومية الخمس .
    وهل هذه القراءة من المحافظة في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
    ولم يرد لفظ [حَافِظُوا] [الصَّلَوَاتِ][ الْوُسْطَى] [ قُومُوا] [قَانِتِينَ] في القرآن إلا في آية البحث.
    وهو من الإعجاز في تعدد الكلمات المفردة في القرآن ، وكونها أكثر من الكلمات المكررة في الآية القرآنية الواحدة .
    وإذ ورد لفظ [الْوُسْطَى] في القرآن بقوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
    الرابع : وجوب الجهر في القراءة في أكثر ركعات الصلاة اليومية ، وفي الأوقات التي يكون الناس في شبه فراغ للإنصات لها ، وإذ أن الجهر في صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
    الخامس : من مصاديق [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ] حافظوا على قراءة القرآن ، وضبط آياته وكلماته ، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ القرآن بالصلاة .
    وهذا الحفظ اليومي للقرآن لا يأتي إلا بمعجزة ونظام من الإرادة التكوينية يحمل أعباء التكليف به كل يوم المسلمون والمسلمات فسألوا الله سؤال رجاء في آية البحث والتي بعدها للبث الدائم في الجنة ، والنجاة من النار.

    الإختلاف في الخروج إلى معركة أحد
    لقد اختلف الصحابة في الخروج إلى المشركين الذين صاروا على بعد خمسة كيلو مترات من المسجد النبوي ، إذ قال عدد من الأنصار (فامكثوا واجعلوا الذرارى في الآطام، فإن دخل علينا القوم في الازقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت.
    وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى (صارت) كالحصن)( ).
    ولكن الذين لم يشهدوا معركة بدر تشوقوا للقاء المشركين وقالوا (كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير) ( ).
    (وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة( )، وهو أحد بنى سالم: يا نبى الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها.
    فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بم ؟ قال: بأنى أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف.
    فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقت.
    واستشهد يومئذ.) ( ).
    وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يميل إلى عدم الخروج أكثر ، ولكن أكثر الصحابة مالوا إلى الخروج خاصة أولئك الذين لم يشهدوا معركة بدر ، وسواء خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى جبل أحد أو لم يخرجوا ففيه حجة على الذين كفروا لغزوهم المدينة بثلاثة آلاف وإصرارهم على القتال .
    فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه سواء خرج للقتال في معركة أحد أم انتظر دخول المشركين اليها فانه شاهد على أن المشركين هم الغزاة ، والجامع المشترك للإختلاف بين الصحابة في الخروج إلى أحد أو عدمه هو الإيمان والعزم على الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، إنما وقع الإختلاف في كيفية الدفاع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) .
    وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعلمون عدد المشركين ولو إجمالاً ، الجواب نعم ، فقد بث النبي صلى الله عليه وآله وسلم العيون حتى في مكة ، ومع ما رزقه الله من الوحي فانه كان يتابع أخبار المشركين لتعليم المسلمين كيفية الإحتراز منهم ، وهل هو من مصاديق [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( )الجواب نعم .
    بحث عرفاني
    لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ليرتقي في سلم المعارف ، مع بذل الوسع في سبل الكمال وإختيار الطرق التي تؤدي إلى السكينة والطمأنينة للحال والمستقبل القريب والبعيد ، ونزلت آية البحث لبيان ضرر الإنحراف والغفلة والرقود ، ولبعث الناس على التوبة والإنابة ، فيجاهد المؤمن بالحكمة والهمّة العالية لهداية الناس.
    وتتضمن الآية اطلاع المؤمن على المغيبات وفق ما أخبر به القرآن ، وهذه العلوم متاحة للناس جميعاً ، فمن إعجاز القرآن عدم جعل برزخ بين الناس وبين القرآن لتقريب الناس إلى عالم المعنى بعيداً عن الطبع والعادة وتحصيل اللذات.
    ومن طبائع الناس الميل إلى الآيات الحسية والتدبر فيها ، ومع أن آية البحث حجة عقلية فانها تتضمن بعث الحواس على العمل للنجاة من النار.
    وقال تعالى [مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ]( )، لبيان أن الدنيا دار فناء لا يصاحب الإنسان منها إلا العمل ، وهو مؤثق ومكتوب عند الله عز وجل ، وفي قوله تعالى [إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ]( )، إنذار للمشركين ، وأن صحائف الأعمال تستقبل الناس في الآخرة لتكون مقدمة على تعيين منزل صاحبها ، قال تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
    ويدل ابتداء آية البحث بنداء الربوبية المطلقة (ربنا) على نفي الشرك عن المسلمين والمسلمات ، وهو من أسرار قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية ، لتردد معهم السموات والأرض (ربنا) فيكون سبباً للرزق الكريم لهم ، والأمن لأهل الأرض.
    فمن خصائص هذا النداء أنه رحمة للمُنادي به والسامع له ، وفيه دعوة للناس للإحسان للمسلمين في عباداتهم ، وعدم إيذائهم ، حض لهم جميعاً للإلتقاء تحت لواء التوحيد ، وهو الذي يتجلى في قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
    ليكون نداء (ربنا) واقية من الخزي الأخروي وعذاب النار وانعدام النصير في الآخرة .
    قانون الحج واقية من النار
    لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه أمور:
    الأول : الإخبار عن إعداد الجنة في الآخرة .
    الثاني : خصال الذين سوف يدخلون الجنة وهم المؤمنون الذين عملوا الصالحات في أيام حياتهم الدنيا ، وهل في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ) واقية من النار ، الجواب نعم ، فهو باب للتوبة والوقاية من النار (عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
    قيل : وما بره قال : إطعام الطعام ، وطيب الكلام ، وفي لفظ ، وإفشاء السلام)( ).
    وما بره : أي كيف يكون الحج مبروراً .
    و(عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحج جهاد كل ضعيف)( ).
    وعن الإمام الصادق عليه السلام (يذكر الحج فقال: إن رسول الله صلى الله عليه واله قال: هو أحد الجهادين، هو جهاد الضعفاء ونحن الضعفاء، إنه ليس شئ أفضل من الحج الا الصلاة، وفي الحج ههنا صلاة وليس في الصلاة قبلكم حج لا تدع الحج وأنت تقدر عليه)( ).
    لقد خلق الله عز وجل النار ، وجعل سبل الوقاية والنجاة منها أضعاف أسباب ورودها وأيسر وأخف منها ، فليس في طاعة الله إلا الطمأنينة والسكينة ، قال تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
    قانون مصاحبة الخزي للكافرين
    لقد اختص الدعاء في آية البحث بالنجاة من النار ، ومن الخزي الذي يكون بلحاظ أفراد الزمان على وجوه :
    الأول : في الحياة الدنيا ، إذ يقترن الكفر بخزي صاحبه وهل ينحصر هذا الخزي بالملائكة ، كما في قوله تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ) أم يشمل الناس ، الجواب هو الثاني ، لبناء الفطرة الإنسانية على نبذ الكفر والتبرأ منه .
    الثاني : الخزي عند دخول القبر ، وتلك آية من عند الله بأن تعاد الروح إلى الإنسان وهو في القبر ليسأله منكر ونكير عما كان يفعله في الدنيا ، وكما يتلقى الإنسان مطلقاً الحساب الإبتدائي في القبر فان الكافر يتلقى في القبر العذاب .
    و(عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : المسلم إذا سئل في القبر ، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فذلك قوله سبحانه { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } )( ).
    و(وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا دخل الكافر ، والمنافق قبره . قالا له : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك؟ فيقول : لا أدري . فيقولان له : لا دريت ويضربانه بمرزبة ، فيصيح صيحة يسمعها ما بين الخافقين ، إلا الجن والإنس)( ).
    وسماع الخلائق وأهل القبور لعذاب وصراخ الكافر من الخزي.
    الثالث : الخزي الذي يلحق الكافر يوم النشور ، وفي مواطن يوم القيامة.
    الرابع : بلحاظ آية البحث يمكن تسمية دخول النار بقوله تعالى [فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ] بأنه (الخزي الأكبر) لإنقطاع الأمل في النجاة ، فتكون أفراد الخزي في الدنيا وفي القبر ويوم النشور إنذاراً من الخزي الأكبر ومقدمة له .
    لذا وردت تسميته في القرآن بأنه الخزي العظيم بقوله تعالى [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ]( ).
    قانون الآية غضة بأثرها اليومي المتجدد
    من إعجاز الآية القرآنية أنها غضة من وجوه :
    الأول : الآية القرآنية حاضرة في كل زمان ، لا تبلى مع تقادم الأيام .
    الثاني : تجدد الحاجة العامة للآية القرآنية .
    الثالث : تحقق المصداق الواقعي والمظهر الخارجي العملي للآية القرآنية.
    الرابع : تنجز إمتثال يومي متجدد لأحكام الآية القرآنية .
    الخامس : إعجاز الآية القرآنية بوجود أثر فعلي لمضامينها ، ومصداق خارجي وشواهد لما تتضمنه الأوامر والنواهي الواردة فيها ، إذ يقرب الله عز وجل الناس إلى منازل الهدى ، ويزيح عنهم الموانع التي تحول دون العمل بأحكام آيات القرآن .
    السادس : عمل الآية القرآنية في صرف الناس عن الموبقات ، والكبائر والإصرار عن الصغائر فهي السلاح الذي بعث به الله النبي محمداً ، نعم قد يأتي السيف والقتال ، إنما ذكرت آيات القرآن والقتال في صيغ الدفاع وأحكام الضرورة .
    وقد تقدم البيان في تفسير قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وكثرة قيود القتال فيها من جهات :
    الأولى : دلالة الآية أعلاه في مفهومها على عدم قتال المسلمين إلا للذين يقاتلونهم من الكفار والمشركين .
    الثانية : كون القتال في سبيل الله ، وليس لدنيا أو سعة ملك أو ثأر ونحوه .
    ومن الشواهد على أن السنة النبوية ترجمان وبيان لآيات القرآن وقائع فتح مكة ، فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء جيوش المسلمين بعدم القتال .
    الثالثة : الإمساك عن المشركين إذا توقفوا عن القتال ، لذا قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
    الرابعة : حرمة الإعتداء مطلقاً سواء في حال الحرب أو السلم .
    بحث منطقي
    تعدد القضايا في آية البحث
    من خصائص القرآن جمعه بين صيغ الخبر والإنشاء والخطابة ولغة البرهان لإعانة الناس على اختلاف مداركهم في المعرفة ، والإقرار بالعبودية لله عز وجل والعصمة من مفاهيم الشرك .
    ومن إعجاز القرآن إنتفاء الملل من إعادته للموضوع أو الحكم خاصة مع تضمن الإعادة برهاناً وحجة مستحدثة .
    والبرهان هو الدليل القطعي , والحكم الواضح الذي يحجب المغالطة ويمنع منها , لخلوه من الإبهام والإيهام , ويمكن القول بقانون القرآن كتاب البرهان لأنه استدلال سماوي بالحجج الصادقة التي تثبت القضية .
    والبرهان قياس مؤلف من يقينيات لإنتاج يقيني , ومقدمات البرهان من القضايا الضرورية على انواع منها الأوليات وهي قضايا قياساتها معها ، والقضية في اصطلاح المنطق هي الخبر , وهي على ثلاثة أنواع :
    الأول : القضية الحتمية , وهي وجود شئ ونسبته إلى آخر أو عدم نسبته إليه ، مثل النبي شفيع , والنبي غير شفيع للمشركين.
    الثاني : القضية الشرطية المتصلة لبيان الإتصال بين قضية وأخرى أو عدمه , ولكن بصيغة الشرط مثل إن كان الإنسان مشركاً يدخل النار .
    وقد يدل الإتصال بين القضيتين على عدم وجود نسبة بينهما مثل إن كان الإنسان مشركاً فلا يدخل الجنة .
    الثالث : الشرطية المنفصلة بوجود نسبة بين قضيتين على نحو الإنفصال , وتسمى القضية الأولى في الشرطية المتصلة أو المنفصلة (المقدّم) والقضية الثانية (التالي) ومع قلة كلمات آية البحث فقد جمعت منطوقاً ومفهوماً بين وجوه القضية الثلاث أعلاه .
    فتجلت القضية الحتمية بقول (ربنا) وما يدل عليه من النسبة ومعاني التوحيد ، والقضية الشرطية المتصلة بدخول المشركين النار , والجمع بين قضية دخول المشركين النار ، وقضية إنتفاء النصير للظالمين من المنفصلة .
    بين الذكاء الإصطناعي ويأجوج ومأجوج
    لقد ورد ذكر يأجوج ومأجوج مرتين في القرآن :
    الأولى : بخصوص الزمن الماضي ، والأمم المنقرضة.
    وهم قبيلتان من البشر ، فيهم تشويه في الخلقة فتجد بعضهم مفرط الطول ، وبعضهم بهيئة قصار القامة ، ويرتكبون المعاصي ، وقيل كانوا يأكلون لحوم بني آدم ، فعرض على ذي القرنين ، وهو الاسكندر المقدوني وهو يوناني ، وقيل رومي لخبر واهي السند عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن ذا القرنين شاب من الروم)( ).
    وكان ملكاً صالحاً (وقيل كان نبياً)( )، والمختار أنه ليس نبياً.
    وكان شعره على هيئة ضفيرتين.
    وعن (أم عطية قالت: توفيت إحدى بنات النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فأمرنا رسول الله فقال: اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، وغسلنها بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور، فإن فرغتن فآذنني.
    قالت : فآذناه فألقى إلينا حقوه، أو قالت حقوا، وقال: أشعرنها هذا.
    قال يزيد( ) في حديثه : قالت فضفرنا شعرها ثلاثة أثلاث، قرنيها وناصيتها، وألقينا خلفها مقدمها)( ).
    وقول انه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشرق والمغرب .
    (وروي أنه كان في أول ملكه يرى في نومه أنه يتناول الشمس ، ويمسك قرنين لها بيديه ، فقص ذلك ، ففسر أنه سيغلب على ما ذرت عليه)( ).
    وسأله أهل بعض المدن التي افتتحها أن يجعلوا له أجراً وجباية عامة لقاء بناء سد بينهم وبين يأجوج ومأجوج ، فاجابهم الاسكندر بأن الله عز وجل أنعم عليه بالملك والرياسة وما فيها من كسب الأموال والسلطنة فهو ليس بحاجة إلى خرجهم ، ولكن طلب منهم السخرة والعمل وقوة الأبدان.
    وقد سألوا الاسكندر سداً ، ولكنه قال سأجعل بينكم وبينهم ردماً وهو حاجز أعظم من السد ، وأمنع منه بقوله تعالى [قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا]( ).
    الثانية : ما يخص الزمن المستقبل واللاحق لنزول القرآن بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ]( ).
    ومعنى فتحت يأجوج أي أعم من فتح سدها وعن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي (عن خالته قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عاصب أصبعُه من لدغة عَقْرب، فقال : إنكم تقولون : لا عدو ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا، حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه، صغار العيون، صُهْبَ الشّعاف، من كل حَدَب ينسلون، كأن وجوههم المَجَانّ المُطرَقة)( ).
    ومعنى ينسلون أي يسرعون ، ويخرجون من كل شعب لكثرتهم.
    و(عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقيت ليلة أسري بي ، إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فتذاكروا أمر الساعة ، فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، فقال لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى عيسى.
    فقال : أما وَجبَتها ، فلا يعلم بها أحد إلا الله تعالى . وفيما عهد إلي ربي ، أن الدجال خارج ، ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص ، فيهلكه الله إذا رآني ، حتى أن الحجر والشجر.
    يقول : يا مسلم ، إن تحتي كافراً ، فتعال فاقتله ، فيهلكهم الله.
    ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيطأون بلادهم ، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، لا يمرون على ماء إلا شربوه.
    ثم يرجع الناس إلي ، فيشكونهم فأدعو الله تعالى عليهم ، فيهلكهم ويميتهم ، حتى تجيف الأرض من نتن ريحهم ، فينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر . ففيما عهد إليَّ ربي إن كان كذلك ، أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً)( ).
    لابد من وضع ضوابط حكومية لعمل الذكاء الأصطناعي ، وتوظيفه للخير والنفع العام والخاص ، وبما لا يسبب الضرر للناس.
    وفي الخبر أن يأجوج ومأجوج يموتون موتة حيوان واحد بعد انتشارهم في الأرض .
    وهل فيه إشارة إلى أجهزة الروبوت وتعطيل بعضها بعضاً ، أم سلاح من أسلحة الدمار الشامل ، الجواب لا مانع من أي منهما.
    عن الحسن البصري قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله : العظام سبع ، مضت واحدة وهي الطوفان وبقيت فيكم ست : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدجال ، ودابة الأرض ، ويأجوج ومأجوج ، والصور)( ).
    في حديث طويل عن عبد الله بن مسعود (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : بين أذني الدجال أربعون ذراعاً ، وخطوة حماره مسيرة ثلاثة أيام ، يخوض البحر كما يخوض أحدكم الساقية ، ويقول : أنا رب العالمين ، وهذه الشمس تجري باذني أتريدون أن أحبسها؟ فتحبس الشمس حتى يجعل اليوم كالشهر والجمعة ، ويقول : أتريدون أن أسيرها؟
    فيقولون : نعم .
    فيجعل اليوم كالساعة ، وتأتيه المرأة فتقول : يا رب أحي لي أخي وابني وزوجي ، حتى انها تعانق شيطاناً وبيوتهم مملوءة شياطين ، ويأتيه الأعرابي فيقول : يا رب أحي لنا ابلنا وغنمنا ، فيعطيهم شياطين أمثال ابلهم وغنمهم سواء بالسن والسمة ، فيقولون : لو لم يكن هذا ربنا لم يحي لنا موتانا .
    ومعه جبل من فرق وعراق اللحم حار لا يبرد ، ونهر حار ، وجبل من جنان وخضرة ، وجبل من نار ودخان يقول : هذه جنتي ، وهذه ناري ، وهذا طعامي ، وهذا شرابي .
    واليسع عليه السلام معه ينذر الناس يقول : هذا المسيح الكذاب فاحذروه لعنه الله .
    ويعطيه الله من السرعة والخفة ما لا يلحقه الدجال ، فإذا قال : أنا رب العالمين .
    قال له الناس : كذبت ، ويقول ، اليسع : صدق الناس .
    فيمر بمكة فإذا هو بخلق عظيم فيقول : من أنت؟
    فيقول أنا ميكائيل بعثني الله لأمنعه من حرمه ، ويمر بالمدينة فإذا هو بخلق عظيم ، فيقول من أنت؟
    فيقول : أنا جبريل بعثني الله لأمنعه من حرم رسوله .
    فيمر الدجال بمكة فإذا رأى ميكائيل ولى هارباً ويصيح ، فيخرج إليه من مكة منافقوها ومن المدينة كذلك ، ويأتي النذير إلى الذين فتحوا القسطنطينية ، ومن تآلف من المسلمين ببيت المقدس قال : فيتناول الدجال ذلك الرجل فيقول : هذا الذي يزعم أني لا أقدر عليه فاقتلوه ، فَيُنْشَر ثم يقول : أنا أحييه قم ولا يأذن الله لنفس غيرها فيقول : أليس قد أمتُّك ثم أَحْيَيْتُك؟
    فيقول : الآن ازددت فيك يقيناً ، بشرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انك تقتلني ثم أحيا باذن الله ، فيوضع على جلده صفائح من نحاس فلا يحيك فيه سلاحهم ، فيقول اطرحوه في ناري ، فيحوّل الله ذلك الجبل على النذير جناناً ، فيشك الناس فيه ويبادر إلى بيت المقدس ، فإذا صعد على عقبة أفيق وقع ظله على المسلمين فيوترون قسيهم لقتاله ، فاقواهم من برك أو جلس من الجوع والضعف ويسمعون النداء : جاءكم الغوث . فيقولون : هذا صوت رجل شبعان .
    وتشرق الأرض بنور ربها ، وينزل عيسى ابن مريم ويقول : يا معشر المسلمين احمدوا ربكم وسبحوه ، فيفعلون ويريدون الفرار ، فيضيق الله عليهم الأرض فإذا أتوا باب لد في نصف ساعة فيوافقون عيسى ، فإذا نظر إلى عيسى يقول : أقم الصلاة .
    فيقول الدجال : يا نبي الله قد أقيمت الصلاة .
    فيقول : يا عدو الله زعمت انك رب العالمين فلمن تصلي .
    فيضربه بمقرعة فيقتله ، فلا يبقى أحد من أنصاره خلف شيء إلا نادى : يا مؤمن هذا دجَّال فاقتله ، فيمتعوا أربعين سنة لا يموت أحد ولا يمرض أحد ، ويقول الرجل لغنمه ولدوابه : اذهبوا فارعوا وتمر الماشية بين الزرعين لا تأكل منه سنبلة ، والحيات والعقارب لا تؤذي أحداً ، والسبع على أبواب الدور لا يؤذي أحداً ويأخذ الرجل المدَّ من القمح فيبدره بلا حرث فيجيء منه سبعمائة مد .
    فيمكثون في ذلك حتى يكسر سد يأجوج ومأجوج ، فيموجون ويفسدون ويستغيث الناس فلا يستجاب لهم ، وأهل طور سينا هم الذين فتح الله عليهم فيدعون ، فيبعث الله دابة من الأرض ذات قوائم ، فتدخل في آذانهم فيصبحون موتى أجمعين ، وتنتن الأرض منهم فيؤذون الناس بنتنهم أشد من حياتهم ، فيستغيثون بالله ، فيبعث الله ريحاً يمانية غبراء ، فيصير على الناس غماً ودخاناً وتقع عليهم الزكمة ، ويكشف ما بهم بعد ثلاث وقد قذف جميعهم في البحر ، ولا يلبثون إلا قليلاً حتى تطلع الشمس من مغربها ، وجفت الأقلام وطويت الصحف ، ولا يقبل من أحد توبة)( ).
    وهل المراد من يأجوج ومأجوج في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ]( )، هو الذكاء الإصطناعي والإستيلاء عليه علمياً بما يبطل أجهزته ، ويمنعه من الإضرار بالناس ، الجواب لا دليل عليه .
    والحدب : النشر والمرتفع من الأرض .
    و(ينسلون) يسرعون.
    ويدل ظاهر الآية الكريمة على أن المراد من يأجوج ومأجوج جنس من الناس يتصفون بالقسوة والعتو والقوة ، وكذا في الأحاديث النبوية.
    و(عن زينب بنت جحش قالت : استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : لا إله إلا الله . . . ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه – وحلق – قلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث)( ).
    وهذا الظاهر لا يمنع من إرادة لغة الإشارة والرمز لأن وقائع جساماً تحدث في مستقبل الأيام لايدركها الناس أيام التنزيل ، ومن معاني من كل حدب كثرة أجهزة الروبوت الحربي الهجومي والدفاع ، فبامكان الدولة الواحدة صناعة مئات الآلاف المدرعة والطائرات المسيرة منه ، والإحتراز من دخول النار ، ولابد من جعل الصناعات رحمة عامة .
    لقد جعل الله القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ويحتمل هذا التبيان وجوهاً :
    الأول : القرآن تبيان يخص علم الله عز وجل وحده ، وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ).
    الثاني : لقد أطلع الله عز وجل على النبي محمداً على نحو الخصوص على كنوز وعلوم القرآن وبيانه للأشياء .
    ليكون هذا الإطلاع من مختصاته وأن آية التبيان نزلت بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) لك وحدك.
    الثالث : إرادة خصوص المسلمين ، وتقدير الآية (لقد نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ للمسلمين).
    الرابع : صيغة الإطلاق ، والمراد الناس جميعاً ، وتقدير الآية (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شئ للناس جميعاً).
    والمختار هو الأخير ، وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، نعم معرفة الناس لهذا التبيان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
    قراءة قرآنية في الذكاء الاصطناعي
    قد يصاب الذكاء الصناعي بالزهايمر ، ولكن ليس بعد زمان إنما في الحال الآن ويصاب بالهلوسة ، ويكون مخدوعاً بالنصوص ومليارات الكلمات التي لقن بها ، فهو لا ينظر إلى الصحة ، ولا يبحث عن الحقيقة ، إنما يقوم بتركيب جمل مما خزّنوه فيه ، وقد يخترع أحداثاً هي كالأوهام ، ولكنه يؤكد بأنها حقيقة.
    وقد حذر القرآن من قبول مطلق الأخبار بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) وسبب نزول الآية أعلاه هو كما ورد (عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغضب غضبته علينا فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإ}( ) الآية)( ).
    وقال ابن زيد (الفاسق ههنا كاذب) ( ).
    ولكن المعنى أعم ويحمل على ظاهره وهو العاصي والخارج عن طاعة الله ورسوله ، وبينه وبين الكاذب عموم وخصوص مطلق.
    وقيل في هذا الزمان أن الوليد بن عقبة كان صغيراً لخبر منكر مضطرب ، وراويه مجهول ( ).
    فكيف أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً ، ولكن ورد بخصوص فداء أسرى معركة بدر أن الوليد بن عقبة فدى الحارث بن أبي عمرو بن أمية ، وهو ابن عمه من الأسر عندما تم أسر الحارث في معركة بدر ( )، وبين واقعة بدر وما بعد واقعة بني المصطلق ، ودخولهم الإسلام ، بين الواقعتين ثلاث سنوات على القول بأنها وقعت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة وقول أنها وقعت في السنة السادسة للهجرة .
    وقد ذكر أهل العلم والسير أن الوليد بن عقبة وأخاه عمارة خرجا من مكة ليردا أختهما المجاهدة التقية أم كلثوم عن الهجرة ، إذ هاجرت إلى المدينة أيام الهدنة بعد صلح الحديبية .
    وعن (ابن سيرين قال لما قدم الوليد بن عقبة أميراً على الكوفة أتاه ابن مسعود فقال له ما جاء بك ، قال جئت أميراً.
    فقال ابن مسعود ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس.
    وله أخبار فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله فلقد كان من رجال قريش ظرفاً وحلماً وشجاعة وأدباً وكان من الشعراء المطبوعين وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي وغيرهم يقولون كان الوليد بن عقبة فاسقاً شريب الخمر)( ).
    (وخبر صلاته بهم وهو سكران وقوله أزيدكم بعد أن صلى الصبح أربعاً مشهور من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار) ( ).
    وبعد أن عزل عثمان سعد بن أبي وقاص ، ونصّب الوليد بن عقبة أميراً على الكوفة ، واشتكوا منه وشهدوا عليه وأقيم عليه حد شرب الخمر عزله وولى سعيد بن العاص من بني أمية أيضاً الكوفة ، ويبدو أن حالاً من السخط نمت وانتشرت في الكوفة .
    و(قال بعض شعراء الكوفة:
    فررت من الوليد إلى سعيدٍ … كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا
    يلينا من قريشٍ كل عامٍ … أميرٌ محدثٌ أو مستشار
    لنا نارٌ نخوفها فنخشى … وليس لهم، فلا يخشون، نار)( ).
    وهل يمكن القول أن إخبار القرآن عن فسق الوليد بما سيقع منه من منكرات منها زيادته في صلاة الصبح فصلاها أربع ركعات وهو سكران ، الجواب نعم لبيان أن قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) تحذير من تعيينه والياً وتأليب الناس على دار الحكم في المدينة.
    والوليد بن عقبة أخو عثمان لأمه ، وهل يمكن القول أن تولية عثمان لأقاربه في الأمصار من غير كفاءة ومع وجود الصحابة بين ظهرانيهم من أسباب ومقدمات الفتنة ، الجواب نعم .
    فحينما صلى الوليد في مسجد الكوفة إماماً صلاة الصبح أربع ركعات بزيادة ركعتين ، كان عدد من الصحابة مأمومين ساعتئذ منهم عبد الله بن مسعود .
    (صلى الوليد ابن عقبة بأهل الكوفة صلاة الصبح أربع ركعات ثم التفت اليهم فقال : أزيدكم فقال عبد الله بن مسعود : ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم)( ).
    وهل أخبار الذكاء الإصطناعي من مصاديق قوله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ..]( ) أم أن منه ما يلحق بمضامين هذه الآية ، الجواب هو الثاني .
    والمختار أن الأخبار الصحيحة والمنافع من الذكاء الإصطناعي هي الأكثر.
    فلا ملازمة وصلة تشابه بين الفاسق الذي يتعمد الكذب وبين الذكاء الإصطناعي ، إلا أن الجامع المشترك بينهما هو لزوم التبين في الخبر والتثبت منه ، لبيان أن مصاديق الآية القرآنية أعم في دلالتها من أيام النزول ، وتشمل العالم الإفتراضي المستحدث أيضاً .
    الإرتقاء السريع في الذكاء الاصطناعي
    في أواخر العام الماضي أي في السنة الثانية والعشرين بعد الألفين طرح روبوت تشات جي بي تي والذي بإمكانه إنشاء المقالات والقصائد والمحادثة ، فاشرأبت أعناق العلماء والشركات ، وقذفوا بمليارات الدولارات في هذه الصناعة الفائقة والباهرة ، ولكن ظهرت الخشية من الأخبار المضللة والخاطئة التي يصدرها الذكاء الإصطناعي بما يربك الأسواق والصناعات والمجتمعات .
    وعالم التطبيق للذكاء الإصطناعي يختلف عن الإنشاء والتصميم ، فحساب البيدر غير حساب الحقل ، لأن القدر المتيقن من هذا المثال النقص في الكم والكيف ، ولكن الذكاء الإصطناعي قد يعطي أخباراً ومعلومات وهمية وخلاف الواقع.
    وهل يمكن ضبطه مستقبلاً بما يفيد الإرتقاء والدقة والصواب ، الجواب هو ممكن على نحو الموجبة الجزئية ولكنه ليس بدليل ، فقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ، وجعله يميز بين الحق والباطل ، والصدق والكذب .
    وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك، بك اثيب وبك اعاقب ،وبك آخذ وبك اعطي)( ).
    وهل من مصاديق الحديث أعلاه صناعة الذكاء الإصطناعي وأن الذين يستعملونه مسؤولون أمام الله في استعماله سواء في الخير فيثابون أو في الشر فيؤثمون ، الجواب نعم ، لذا جاءت آية البحث وعيداً .
    وآية البحث دعوة للإستعمال الأمثل للعلوم ، لقد جاءت آية البحث للإنذار والتخويف من الإضرار بالناس بواسطة الذكاء الإصطناعي ، فقال تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
    وفي الآية إنذار من توظيف الذكاء الإصطناعي والعلوم مطلقاً في الإضرار بالذات والغير ، قال تعالى [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
    وتدل الآية أعلاه على إمكان تسخير هذا الذكاء المخترع لخدمة الإنسانية جمعاء وفي باب البناء والصحة والزراعة والصناعة ، وتوفير الخدمات ولم يرد لفظ (تلقوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
    ولو استعمل الإنسان الذكاء الإصطناعي عن حسن نية ، ولكنه تسبب بالإضرار الفادح بالغير سواء الضرر المادي أو المعنوي فهل يترتب عليه الضمان أم يشمله حديث الرفع .
    الجواب هو الأول ، لذا لابد من ضوابط قانونية ودولية لعمل الذكاء الإصطناعي خاصة مع ارتقائه في المستقبل.

مثال من عمل للذكاء الاصطناعي
الآن الذكاء الصناعي قد يقدم أوهاماً مما يجمعه من مليارات الكلمات المخزونة فيه ، ويصر الذكاء هذا على أنها حقائق فمثلاً محامي في أمريكا طلب من منصة تشاب G.B.T مساعدته في أدانة شركة طيران لإصابة راكب في الطائرة بسبب عربة الطعام التي على متن الطائرة ، وسأل الذكاء الاصطناعي هل سوابق وشواهد قضائية مماثلة كي يحتج بها في المحكمة ، فقدم له البرنامج ستة قضايا مشابهة ذات صلة .
وأكد له البرنامج أن هذه المعلومات صحيحة ، وموافقة لدعواه أي أنها كالمترادف والنظائر ، فسأله المحامي أعطني المصدر والمرجع القانوني فرفض البرنامج إعطاءه.
فعرضها المحامي على المحكمة وطالب بالحكم لصالح موكله ، فقام القاضي بالتدقيق بهذه الشواهد ، وهل هي من الواقع وتأريخ القضاء فكانت المفاجئة ، وأن هذه السوابق الستة ليس لها وجود في الواقع.
فاعترف المحامي أنه أخذ هذه المعلومات من منصة جي بي تي .
فهذه البرامج مدربة على ملايين النصوص ، وتركب بعضها ببعض لإظهار نص وفق المطلوب منها من غير أن تبحث عن صدق أو كذب هذه الأخبار وهل هي دقيقة أو لا .
وقد يخترع الذكاء الضد وأحداثاً تتلائم مع ما مخزون عنده من النصوص ، وإذا سألته عن صحتها يقول لك أنها صحيحة وحقيقية إنما هي أوهام ومن فصيلة الزهايمر ، أي أن تلك الأجهزة أصيبت بالزهايمر في بداية اختراعها ، وقد رزق الله عز وجل العقل ولا يصاب بالخرف إلا عدد قليل من الناس وفي آخر أيام العمر ، والدراسات والعلاجات مستمرة وسيكتشف في هذه السنوات علاج له ، ولكن علاج أجهزة الذكاء الاصطناعي قد لا ينفع معها وقد تؤدي إلى أضرار فادحة فالحمد لله على نعمة العقل.
صلة أقرأ بآية البحث
ابتدأت آية البحث بالنداء (ربنا) ليكون من مصاديق الآية وجوه :
الأول : أول آية نزلت من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( ).
إذ نزل فيها الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتلو المسلمون والمسلمات هذه القراءة بقول (ربنا) وما يدل عليه من الإيمان .
الثاني : اقرأ أنباء الغيب في الآخرة .
الثالث : الخطاب لكل مسلم اقرأ ما تنجو به من النار .
الرابع : اقرأ سبل السلامة من الخزي يوم القيامة .
الخامس : اقرأ باسم ربك فهذه القراءة تنزه عن الظلم .
السادس : اقرأ باسم ربك لتجد النصير يوم القيامة .
السابع : اقرأ [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( ) لتحضر يوم القيامة شفيعاً لك.
الثامن : قوله تعالى [اقرأ] أمر يتضمن الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة .
وهو أعم من قراءة القرآن , إذ يشمل صيرورة كل قراءة له هدى وصلاح , ليكون فيها الأجر والثواب والرشاد إلى الصراط المستقيم والعمل الصالح الذي ينجي الإنسان من النار .
وورد حكاية عن سليمان عليه السلام في التنزيل [وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]( ).
وهل كلمة (اقرأ) أول كلمة نازلة من القرآن معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم .
(اقرأ) والذكاء الاصطناعي
ترى لماذا ذكرت الآية قيد [بِاسْمِ رَبِّكَ] الجواب لإرادة معنى قصد القربة في القراءة والإنتفاع الأمثل منها.
وتكرر الأمر أقرأ في أول سورة من القرآن بقوله تعالى [اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ]( ).
لبيان مجئ المدد والعون من عند الله عز وجل للمسلمين في تلاوة القرآن وفي تعلم العلوم المختلفة الشرعية والعقلية والإنسانية بما يفيد الناس جميعاً ثم قال [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
ليكون من معاني هذه الآية الإشارة إلى الذكاء الاصطناعي هذا الزمان ، وتقدير الآية : وعلم الإنسان الذكاء بما لا يعلم الذين صنعوه ما سيعلم ويعمل هذا الذكاء .
أي علم الإنسان ما يعلم ماهية وفعل ذات صناعته ، ولكن الله عز وجل أحاط بكل شئ فهو وحده سبحانه الصانع العالم بما صنع ، والخالق الذي تكون كل الخلائق حاضرة عنده ، ثم قال تعالى [كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى]( ).
فهل في الآية تحذير وإنذار من تسخير الذكاء الاصطناعي للطغيان على المستضعفين والقلوب المنكسرة ، الجواب نعم ، لذا لابد من وضع قوانين وقواعد لضبط الذكاء الإصطناعي بما فيه فائدة البشرية ، وهو لا يتعارض مع النفع العام والخاص للدول والشركات التي صنعته .
وهل يمكن الإنتفاع في علوم القرآن من الذكاء الاصطناعي ، الجواب نعم .
وهل هو مثل الاكتشافات الفلكية في تعيين موضع وحجم الهلال والقسم المنار منه وإمكان رؤيته بالعين المجردة أو المسلحة .
المختار أنه أكثر نفعاً من هذه الإكتشافات ، ولكنه لن يكون بديلاً عن الإستهلال ، والعلماء في الفتوى والتفسير والفقه والأصول لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
والمرة الثالثة التي ورد فيها الأمر (اقرأ ) بخصوص عالم الحساب بقوله تعالى [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( )
لبيان أن سبيل النجاة في الآخرة هو بالقراءة الإيمانية وترشح العمل الصالح عنها.
لماذا (اقْرَأْ)
سألني أحد الطلبة أثناء إلقاء هذه المحاضرة على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف يوم 23/5/2023 لماذا لم تقل الآية : أكتب ، ومع أن الله عز وجل [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ) فان الجواب من جهات :
الأولى : تقدير الآية اقرأ ما أنزل الله .
الثانية : القراءة تشمل القارئ والأمي الذي لا يحسن الكتابة ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمي ، وهو معجزة له ، قال تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الثالثة : القراءة عامة فالذي يقرأ هو المكتوب والمحفوظ عن ظهر قلب .
الرابعة : إرادة القراءة أثناء الصلاة وهذه القراءة جزء من الصلاة اليومية إلى قيام الساعة ، وورد مكرراً مرتين ، وفي آية واحدة قوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ] إذ قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )
ليكون من معاني هذا التكرار إرادة قراءة القرآن في الصلاة في الأولى ، وقراءة القرآن خارج الصلاة في الثانية .
وقراءة القليل منه عند الضرورة في الصلاة كما في صلاة القصر والخوف والمطاردة وفي الوحل وان كان أمراً نادراً لبيان معجزة غيرية لفريضة الصلاة واستيعابها لأوقات النهار والليل بنجاة المسلم من حال الهلكة ومقدماتها.
وذات الآية من التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعامة المسلمين .
الخامسة : القراءة فرع الكتابة إذ يعني الأمر بالقراءة الأمر بالكتابة وحفظ الكثير في مرضاة الله .
السادسة : تدل أول سورة من القرآن نزولاً على تهيئة أسباب حفظ آيات وسور القرآن التي تنزل من عند الله.
ليكون من مصاديق ومعاني قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ) أي حافظون الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات بقراءة آيات القرآن ، وما في هذه القراءة من تعاهد للقرآن ، وسلامته من التحريف والتبديل والتغيير .
السابعة : قانون صبغة العلم في آيات القرآن ، وبعث الإسلام الناس على التعلم والفقاهة .
الثامنة : الدلالة على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل ، لأن القراءة تحقيق وبها تفتح خزائن من علوم القرآن .
التاسعة : إرادة الفورية في تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة وتعدد وسعة هذا التبليغ ، فحالما ينفصل الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون قادراً على التبليغ بقراءة القرآن ، ونداء التوحيد ، وذم الأوثان وعبادتها .
العاشرة : لقد كان أكثر أهل مكة أميين لا يحسنون القراءة والكتابة فجاءت الآية (بالقراءة ) ليستمعوا للقرآن ، ومن الإعجاز كثرة عدد آيات أول سورة من القرآن وهي سورة العلق مع قلة كلماتها وموضوعية هذا التباين في تيسير حفظ القرآن ، والتدبر في معاني آيات القرآن .
وعدد آيات وسورة العلق هي عشرون آية مع البسملة وعدد كلماتها اثنتان وسبعون كلمة ، بينما عدد كلمات آية الدين من سورة البقرة مائة وثماني وعشرون كلمة ، أي قريباً من ضعف عدد كلمات أول سورة من القرآن .
وورد في الجزء التاسع والأربعين من هذا السِفر والذي اختص بتفسير آية الدَين .
(ومن الإعجاز أن سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن وتضمنت أطول آية وهي هذه الآية وعدد كلماتها هو مائة وثماني وعشرون كلمة وعدد حروفها خمسمائة وواحد وخمسون حرفاً)( ).
الأمر بكتابة الدَين
تفيد الفاء في [فَاكْتُبُوهُ] في آية الدَين( ) الفورية ، وعدم إرجاء كتابة الدّين لإحتمال طرو النسيان ونحوه ، ولمنع الخلاف وشبهة الربا في المقام ، ويعود الضمير الهاء في [فَاكْتُبُوهُ] إلى الدّين وهو إشارة إجمالية تتضمن التفصيل وبيان خصائص مبلغ الدّين والقرض ونوعه ، وأوان قضائه واسم الدائن والمدين بما يمنع اللبس.
ومن الآيات ورود الخطاب [فَاكْتُبُوهُ]بصيغة الجمع ، والخطاب للمسلمين والمسلمات ، لإفادة الدّين على نحو القضية الشخصية ، وإرادة الجنس وتعدد مصاديق الدّين ، لتكون هذه الكتابة من الواجب الكفائي ، إذا قام به أحدهم سقط عن الباقين ، كما انه من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ) .
الرابع : بيان صفة الذي يكتب عقد الدّين من جهتين :
الأولى : أن يحسن الكتابة والقراءة ، ولا يقع في خطأ سهواً ، ولو دار الأمر في المستقرأ من لفظ (كاتب) بين الذي يتقن الكتابة وبين الذي يعرف المسمى منها ، فالأصل هو الأول .
الثانية : العدالة والثقة في الكاتب ، ولا يعتمد تحريف الكتابة أو الزيادة أو النقيصة في الدّين أو الأجل ، أو ذكر غير الدائن أو المدّين.
وأيهما أهم في باب العدالة الشاهد أم الكاتب .
المختار هو الشاهد لتحمله الشهادة على العقد سواء كان قولياُ أو تحريرياً ، فتنقطع وظيفة الكاتب عند إتمام العقد ، أما الشاهد فتتجدد وظيفته لحين أداء الشهادة الذي يقع لمرة واحدة أو عدة مرات ، أو لا يقع أصلاً للإمتناع عن كتابة العقد ، أو لإنصياع الطرفين الدائن والمدين .
ويعرض ما يكتبه الكاتب على الشاهد ، لذا لابد أن يسمع الشاهد من طرفي الدَين والقرض ، ولا يكتفي بالتوقيع على العقد المكتوب .
وليخشى هؤلاء الأطراف مضامين آية البحث وكيف أن الزور والكذب في كتابة عقد الدَين أو الشهادة إليه تسوق إلى النار ، وينعدم معها النصير في الآخرة .
وتقدير خاتمة آية البحث : وما للذين يشهدون الزور من أنصار.
وهل هذا البيان لصفات الكاتب حكم ، الجواب نعم ، خاصة وأنه ورد بصيغة الجملة الإنشائية ، ولغة الأمر ، وهذه الصفات هي:
الأولى : العدل .
الثانية : الكتابة ، كما علّم الله الكاتب ، وفيه ثناء وحجة على الكاتب .
الثالثة : تقوى الله .
وهذه الصفات مجتمعة واقية من الدخول في النار الذي تذكره آية البحث.
الخامس : حرمة امتناع الكاتب عن كتابة الدَين ، وفق قواعد الشريعة والضبط لتفاصيله ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار .
وهل في الآية ترغيب بطلب العلم ، الجواب نعم ، لتكون آية الدَين من مصاديق أول آية نزولاً من القرآن بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
ليكون من إعجاز القرآن نزول الأمر الإلهي بالقراءة ثم مجئ الآيات بالأمر بمصاديق هذه القراءة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] الوارد في آية الدَين نفسها .
تقدير (فليكتب)
ورد قوله تعالى [فَلْيَكْتُبْ]( ) في آية الدَين على نحو الإطلاق ، ليكون تقديره على جهات متعددة منها :
الأولى : فليكتب الكاتب اسم الدائن والمدين.
الثانية : فليكتب مقدار الدَين .
الثالثة : فليكتب أجل الدَين وفق ما اتفق عليه الطرفان .
الرابعة : فليكتب الكاتب كما علمه الله ، وفيه دعوة لتفقه الكتّاب في الدَين .
الخامسة : فليكتب بالعدل لقوله تعالى [كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] ولم تقيد الآية ملة ومذهب الكاتب ، ولكنها اشترطت أن يكتب بالعدل وبقيد التقوى ، لبيان أولوية الكاتب المؤمن الحاذق .
السادسة : فليكتب ما يملى عليه بالحق .
السابعة : فليكتب بما يدفع الخصومة والخلاف .
الثامنة : فليكتب أسماء الشهود .
التاسعة : فليكتب فانه مسؤول عن كتابته في الدنيا والآخرة.
وهل تحريف كتابة وثيقة الدَين من الظلم الذي حذرت منه آية البحث بقوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) الجواب نعم.
فان هذا التحريف وتغيير الحقائق خلاف العدل والإنصاف وإضرار بأحد طرفي عقد الدَين أو هما معاً أو غيرهما .
العاشرة : فليكتب بما يرضي الله عز وجل ، ويمنع من الغبن والتعدي .
الحادية عشرة : فليكتب الكاتب بما يخلو من الربا ، والزيادة الربوية على القرض .
الثانية عشرة : فليكتب لمرات متعددة في الديون ، وقد يتكرر الدَين من شخص لآخرين ، وقد يكون الدائن في وثيقة أخرى مديوناً ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، الجواب نعم .
ولا ملازمة بين الدَين والفقر ، فليس كل من يكون عليه دين هو فقير ، لذا أخبرت آية البحث عن التجارة الحاضرة بين المسلمين بقوله تعالى [إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ]( ).
والتي هي بشارة النماء في أموال المسلمين وزيادة موارد الكسب بعد فقرهم وفاقتهم في بدايات الإسلام ، ومنه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
قوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]
بيان قانون من الإرادة التكوينية ، وخذلان الظالمين يوم القيامةبعضهم لبعض ، فلا الأتباع ينفعون المتبوعين ، ولا المتبوعين أصحاب المال والجاه والسلطان ينصرون المتبوعين ، فتكون البراءة هي السائدة بينهم مع الذم واللوم المتبادل .
وجاءت الآية مطلقة بانتفاء الناصر للظالمين ، سواء كان الناصر متحداً أو متعدداً ، فهل المراد الناصر في الآخرة وحدها ، أم يشمل الحياة الدنيا.
المختار هو الثاني ، وإن كان ظاهر نظم الآية والوجدان يدل على إرادة عالم الآخرة ، واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، وفي واقعة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة ، وبعد أن سقط سبعون قتيلاً من المشركين ومنهم من رؤسائهم ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف عليهم ويقول كما ورد عن ابن عباس (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً يا فلان ابن فلان .
ألم تكفر بربك؟ ألم تكذب نبيك؟ ألم تقطع رحمك .
فقالوا : يا رسول الله أيسمعون ما نقول .
قال : ما أنتم بأسمع منهم لما أقول .
فأنزل الله { فإنك لا تسمع الموتى} {وما أنت بمسمع من في القبور }( ) ومثل ضربة الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله)( ).
وليس من ناصر يومئذ للمشركين لكل من :
الأول : الذين فروا من الميدان ، ولم تكن لهم فئة تؤويهم وتذب عنهم.
الثاني : الذي وقعوا أسرى في أيدي المسلمين ، وعدد الأسرى يومئذ سبعون أسيراً ، شدت أيديهم بالحبال من غير قسوة أو شدة.
الثالث : المشركون الذين خروا صرعى في ميدان المعركة ، وغادروا الدنيا على الكفر .
ومن مصاديق الآية وانعدام الناصر لهم عزوف القبائل عن نصرتهم ، وإمتناع الدول العظمى عن مدهم بالسلاح والمال لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الإمتناع من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إنعدام الناصر للمشركين ، فلا تستطيع طائفة أو أمة نصرة المشركين مع وجود الملائكة ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وفي علم قواعد اللغة العربية تقسم (ما) إلى أقسام منها :
الأولى : ما النافية التي تسبق الفعل ، وتفيد نفي وقوعه أو نفي الشئ أو الصفة ، ومنه قوله تعالى [مَا هَذَا بَشَرًا]( ) .
الثانية : ما الإستفهامية ، وتأتي للإستفهام عن غير العاقل ، وعن ماهية الشئ أو عن الصفة وإن كانت للعاقل .
الثالثة : ما الشرطية وهي التي تدخل على الجملة فتجزم فعلين :
الأول : فعل الشرط .
الثاني : جواب الشرط .
الرابعة : ما المصدرية وهي التي تدمج مع الفعل الذي بعدها فتكون مصدراً ، وسميت المصدرية لإمكان استبدال (ما- وما بعدها) بمصدر كما في قوله تعالى [وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى]( ) وتقدير (ما تبين) بيان .
وهناك ما الكافة ، وما الإبهامية أو المبهمة لاقترانها باسم نكرة تزيده ابهاماً مثل : صمت يوماً ما .
وما الموصولة التي تأتي لكل ما لا يعقل بمعنى الاسم الموصول : الذي .
(قال ابن عباس : آية لا يسألني الناس عنها ! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها فقيل : وما هي .
قال [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ]( )، لما أنزلت شق على كفار قريش وقالوا : شتم آلهتنا وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه فقال : لو حضرته لرددت عليه قالوا : وما كنت تقول ؟ قال : كنت أقول له : هذا المسيح تعبده النصارى واليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أن محمدا قد خصم فأنزل الله تعالى {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون }( )
وفيه نزل {ولما ضرب ابن مريم مثلا}( ) يعني ابن الزبعرى { إذا قومك منه يصدون}( ) بكسر الصاد أي يضجون)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : ورد قوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ] ثلاث مرات في القرآن وكلها مدنية وهي :
الأولى : في سورة البقرة قوله تعالى [وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) .
الثانية : في سورة آل عمران آية البحث[رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
الثالثة : في سورة المائدة قوله تعالى [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) .
وذكر إنعدام النصير للظالمين بصيغة المفرد في القرآن مرتين وهما:
الأولى : قوله تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ]( ) .
الثانية : قوله تعالى [وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ]( ) .
ويحتمل المراد من النصير في الآيتين أوجهاً :
الأول : إرادة النصير على المنفرد وعلى نحو القضية الشخصية .
الثاني : المراد اسم الجنس والمتعدد .
الثالث : العنوان الجامع للوجهين أعلاه.
والمختار هو الثالث ، وهو من الشواهد على تعدد معاني الكلمة القرآنية الواحدة ، فقد يرتكب بعضهم المعاصي ، ويظن أنه يجد نصيراً وعوناً يوم القيامة ، يدفع عنه العذاب أو ينجيه من الحساب أو يخفيه ويتستر عليه في بعض المواطن ، وقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته المسلمون والناس جميعاً بقوله [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ]( ).
وإذ نفت الآية أعلاه وجود نصير من دون الله للناس ، مجتمعين ومتفرقين في الدنيا والآخرة ، فان آيات أخرى أخبرت عن الشفاعة .
وفي آية الكرسي قال تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]( )وهل ذكر موضوع الشفاعة في آية الكرسي من أسباب القدسية الخاصة لها ، وثناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
وعن (أبي كعب : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأله أي آية في كتاب الله أعظم.
قال : آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قال ليهنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (سمعت نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم على أعواد المنبر وهو يقول : مَنْ قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلاّ الموت ولا يواظب عليها إلاّ صدّيق أو عابد،
ومَنْ قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله .
عن أنس وعن جابر رفعا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران من داوم على قرآءة آية الكرسي دبر كلّ صلاة أعطيته قلوب الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصدّيقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم أمنعه أن أدخله الجنّة إلاّ أن يأتيه الموت)( ).
ومن دلالات مجئ الآية بصيغة الجمع بطرفيها (الظالمين) (الأنصار) وجوه :
الأول : عجز الظالمين وإن اجتمعوا عن نصرة بعضهم بعضاً , ويكون الناس يوم الحشر أحياناً في موطن واحد , ولو اجتمع الظالمون من الأجيال المتعاقبة من أيام آبينا آدم إلى يوم ينفخ في الصور فانهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا نصر بعضهم بعضاً , ولا يجدون ناصراً من خارجهم أيضاً .
الثاني : تأديب المؤمنين , واخبارهم عن عدم نصرتهم يوم القيامة للظالمين .
الثالث : دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وحجب الناس عن الظلم , وعن الأسباب والأفعال التي لا يجدون معها ناصراً , قال تعالى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ.
الرابع : بيان القبح الذاتي للظلم , وسوء عاقبته , وقال الإمام علي عليه السلام (ما ظفر من ظفر الاثم به ، والغالب بالشر مغلوب)( ).
عن (كعبَ الأحبارِ قال: مكتوبٌ في التوارة أنَّ حَوَّاءَ عِنْدَ ذلك عُوقبتْ بعشر خصالٍ، وأنّ آدم لمَّا أطاع حَوَّاء وعصى رَبَّه عُوقب بعشر خصال، وأنَّ الحيَّة التي دخل فيها إبليس عُوقبت أيضاً بعشْر خِصال.
وأوَّلُ خِصال حَوّاء التي عُوقبت بها وجَع الافتضاض، ثم الطلق، ثمَّ النَّزْع، ثمّ بقناع الرَّأس، وما يصيبُ الوحَمى والنفساء من المكروه، والقَصْرُ في البيوت، والحيض، وأنَّ الرِّجال هم القوَّامون عليهنَّ، أن تكونَ عِنْدَ الجماع هي الأسفل)( ).
ولا أصل لهذا الخبر ، وهو غير موجود في التوراة التي في أيدينا انما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ليكون سبب صلاح ، وطريق هداية وواقية من النار والخزي فيها .
لقد شرف الله عز وجل المؤمنين والمؤمنات من أيام أبينا آدم بالإلتقاء بالذكر والعبادة والدعاء.
وتقدير آية البحث : ينادي المسلمون والمسلمات ربنا إنك من تدخل النار من ذكر أو انثى فقد أخزيته ، ربنا وما للظالمين والظالمات من أنصار.
النسبة بين النصرة والشفاعة
ترى ما هي النسبة بين النصير والشفيع ، الجواب أنها نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالشفاعة جزء وفرع من النصرة ، ولكنها ليست نصرة تامة ، إذ تتخلف الخلائق عن نصرة الناس .
لتتضمن آية البحث الإخبار عن عدم وجود شفيع لأهل النار ، لقبح أفعالهم ، لذا قيدت الآية الشفاعة برضا الله عز وجل ليشفع المؤهل للشفاعة له ، قال تعالى [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى]( ).
ليكون الإذن من الله في الشفاعة من جهات :
الأولى : الشفيع : بأن يكون له شأن عند الله يؤهله للشفاعة .
الثانية : المشفوع له : فليس كل إنسان يُشفع له ، والملاك هو عالم الأفعال ، و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي لن تنالهم شفاعتي . إمام ظلوم غشوم ، وكل غال مارق)( ).
الثالثة : موضوع الشفاعة : فقد يؤذن لبعضهم بالشفاعة في الصغائر ، وقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن شفاعته في الكبائر.
ليكون من مصاديق الخزي بخصوص أهل النار إنعدام الشفيع لهم وقعود سوء فعلهم بهم عن منازل الشفيع والمُشفع له.
وقد تقدم في الجزء التاسع والأربعين من هذا السِفر ( )شطر مما ورد في آخر خطبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة كما عن ابن عباس ومنها (من شهد شهادة زور على رجل مسلم أو ذمي أو من كان من الناس غلق بلسانه يوم القيامة وهو مع المنافقين، في الدرك الاسفل من النار)( ).
لبيان أن شهادة الزور ظلم للذات والغير ، وفيها إضاعة للحقوق ، وحجب للعدل .
قانون التضاد بين النصر والظلم
لقد أختتمت آية البحث بالإخبار عن إنعدام النصير للذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر ، وظلموا الناس وتعدوا على الحقوق العامة ، وصدوا الناس عن الإيمان ، وأشد الناس ظلماً الذين حاربوا الرسل وقاتلوهم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) ( ).
لتكون آية البحث ذماً وتبكيتاً ووعيداً لكفار قريش ومن والاهم وأعانهم في حربهم على النبوة والتنزيل .
وهل هذا الوعيد تعضيد للمؤمنين ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري للآية القرآنية ، فمع ورود الآية بصيغة الدعاء فانها مدرسة في الجهاد بالوعد والوعيد ، الوعد للمؤمنين بدخول الجنة ، والسلامة والأمن من أهوال يوم القيامة.
والوعيد للذين كفروا بالخزي والذل والعذاب الأليم في الآخرة ، لبيان مصاحبة الوعيد للكافرين لمدة نزول القرآن ، وهي ثلاث وعشرون سنة ، فلم ينحصر هذا الوعيد بالسور المكية لأن ظلم وتعدي المشركين مستمر ومتجدد ، بل هو بعد الهجرة النبوية أشد مما كان قبلها، إذ جهزوا الجيوش العظيمة لقتال النبوة والتنزيل وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
وقد صدرت ستة وعشرون جزءً من هذا السِفر بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) وهي :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
الرابع والعشرون : الجزء الواحد والعشرون بعد المائتين .
الخامس والعشرون : الجزء التاسع والعشرون بعد المائتين .
السادس والعشرون : الجزء التاسع والثلاثون بعد المائتين .
لقد دلّ القرآن والسنة والوقائع والشواهد على تمادي كفار قريش بالغي والضلالة ، والإصرار على الظلم والتعدي من جهات:
الأولى : إصرار قريش على القتال في معركة بدر .
الثانية : ابتداء كفار قريش بطلب المبارزة في كل من معركة بدر وأحد ، والخندق .
وفي صبيحة يوم بدر تطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معسكر قريش وهو يرجو كف أيديهم ، وامتناعهم عن القتال ، وينظر إلى ما يدل على حدوث الجدال والتباين في الرأي بينهم إذ دعاهم عتبة بن ربيعة إلى الإمتناع عن القتال مع بيانه لأسباب ظاهرة منها (يا معشر قريش ، إنّ محمداً رجل منكم ، فإن يكن نبياً فأنتم أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً تعيشوا في ملك أخيكم ، وإن يكن كاذباً يقتله سواكم ، لا يكون هذا منكم . وإني مع ذلك لأرى قوماً زرق العيون لا يموتون ، حتى يقتلوا عدداً منكم)( ).
ولكن أبا جهل عيّره ونعته بالجبن أمام نحو ألف من رجالات قريش وأهل مكة ، فأخذت عتبة حمية الجاهلية الأولى فلبس لأمة الحرب وأراد بيضة أي خوذة فلم يجدوا لكبر رأسه فلفه بخرقة قماش ونادى هل من مبارز ، ولحقه أخوه شيبة ، وابنه الوليد بن عتبة .
وسألوا المبارزة إذ خاطبوا النبي محمداً بالاسم (يا محمد ، ابعث لنا أكفاءنا)( ).
فخرج لهم ثلاثة شبان من الأنصار ، ولما عرفوا أنفسهم قالوا (لا نريدكم ولكن نريد إخواننا من قريش)( ).
وفيه حجة عليهم فاذا كنتم تعلمون أن المسلمين من قريش إخوانكم فلم تقاتلوهم فأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بالخروج ، فقتلوا المشركين الثلاثة.
الثالثة : إمتناع كفار قريش عن الإيمان ، ويحتمل هذا الإمتناع وجوهاً :
الأول : إنه ظلم للنفس .
الثاني : إنه ظلم للغير .
الثالث : إقامة الفرد والجماعة على الكفر ظلم للذات والغير .
والمختار هو الأخير ، ولا ينحصر هذا الظلم بطرف معين ، بل يشمل ظلم الكافر لأهله ومن حوله وللمؤمنين ، ولأبنائه الذين لم يولدوا بعد لولا أن منّ الله عز وجل على الناس بفتح مكة ، فلا غرابة أن تنزل آية السيف لقطع حبل الشرك ، ومنعه من الإنتقال من مكة أو تركه تركة قبيحة إلى الأبناء ، قال تعالى [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )أي بخصوص الأشهر الأخيرة من السنة العاشرة للهجرة ، وآخر مدة الإمهال والتأجيل للمشركين ، وفيما يخص أهل مكة وما حولها .
وقد تقدم مبحث لزوم تبديل اسم آية السيف( )، خاصة وأنه ليس في القرآن لفظ سيف ، سواء بالتنكير أو التعريف .
معركة بدر شاهد على انتفاء النصير للظالمين
لقد ذكرت خاتمة آية البحث قانوناً من الإرادة التكوينية بانعدام النصير للظالمين ، وكان كفار قريش أشد الناس ظلماً لأنفسهم وللنبوة والتنزيل ، ثم سلّوا السيوف وتناجوا بالقتال يوم بدر لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ويحتمل الظلم في المقام وجوهاً :
الأول : نية قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المناجاة والتعاون وتحشيد الجيوش لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : السعي بالفعل لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في رميه بالسهام والحجارة يوم معركة أحد .
والمختار لا تعارض بين هذا الوجوه ، وبعضها أشد ظلماً وقبحاً من الآخر ، وقد فعلتها قريش فاخزاهم الله في الدنيا بانعدام النصير ، وسوف يخزيهم من جهات :
الأولى : دخول المشركين النار .
الثانية : لحوق الخزي لهم .
الثالثة : إنعدام النصير والشفيع للظالمين .
و(عن عكرمة في قوله [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ]( )، إلى قوله [وَسَاءَتْ مَصِيرًا] قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف .
قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة ، خرجوا معهم بشبان كارهين ، كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد ، فقتلوا ببدر كفاراً ورجعوا عن الإسلام ، وهم هؤلاء الذين سميناهم)( ).
والشاهد في الخبر أعلاه (واجتمعوا ببدر على غير موعد) فلم تكن نية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال ، وكان يرغب يوم بدر وفي كل واقعة صرف القتال ، لعلمه بأن معجزات النبوة كافية لهداية الناس للإسلام من غير إراقة الدماء [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
ولا ملازمة بين اجتماع الجيشين وبين القتال ، ولكن رؤساء الشرك كأبي جهل أصروا على القتال .
وقد يدّب الشك إلى نفوس بعض الصحابة : نحن دخلنا الإسلام للأمن والأمان ، وليس للقتال ، لذا تضمنت آية (ببدر) طرد هذا الشك من وجوه :
الأول : نسبة نصر المسلمين إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، مع إدراك الناس جميعاً قانون الملازمة بين نصر الله والحق .
الثاني : الإعجاز الحسي الظاهر بنصر المسلمين مع قلتهم وضعفهم ، وفي قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] منع من تحريف الحقائق بتقادم الأيام ، فلا يقول بعض المؤرخين بأن المسلمين كانوا بعدد جيش المشركين أو أكثر منهم ، أو أن المسلمين يمتلكون يوم بدر الأسلحة وما يكفي من لوازم القتال .
الثالث : قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] شهادة سماوية ، ووثيقة من التنزيل لتثبيت الحقائق التي تدل على تحقق النصر بآية ومعجزة من عند الله عز وجل .
الرابع : من مصاديق الأمر بتقوى الله في آية (ببدر) الإيمان بأن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق حق وهو دفاع عن النبوة والتنزيل .
لقد كان عدد الصحابة يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وعدد الإبل التي كانوا يركبون سبعين بعيراً فكان الثلاثة والأربعة منهم يتناوبون على البعير الواحد ، وأكثر هذه الإبل من النواضح التي يستخدمها الأنصار لسقي مرزوعاتهم .
فأي خسارة للمسلمين تأتي على الرجال والأرزاق وهلاك الزراعات ، فأبى الله عز وجل إلا نصرهم ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وورد عن ابن شهاب وموسى بن عقبة في خبر طويل بخصوص معركة بدر (والمسلمون غير معدين من الظهر إنما خرجوا على النواضح يعتقب الرجل منهم على البعير الواحد وكان زميل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة فهم معه ليس معهم إلا بعير واحد)( ).
وكان عدد جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الصحابة الذين حضروا معركة بدر ، ومع هذا لحقت الهزيمة المشركين ، وهل ذات الهزيمة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، أم أنها شاهد ودليل على هذه الآية ، الجواب الاثنان معاً.
وقد تخلى الشيطان عن نصرة الكفار عندما رأى جبرئيل وميكائيل ومعهما ألف من الملائكة نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وحتى قبل المعركة عندما كان الشيطان مع المشركين فلم يكن ناصراً لهم ، إنما كان عدواً لهم يحرضهم ويغريهم لفعل ما يسوقهم إلى النار ، والخزي المصاحب له ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
لبيان شمول مضامين الآية للحياة الدنيا أيضاً ، وعدم إنحصار موضوعها بخصوص عالم الآخرة ، ومن إنعدام النصير للمشركين يوم بدر لوم الناس لهم على إصرارهم على القتال ، وتخلفهم عن نصرتهم.

توبة مالك بن دينار
قد لا يكون حاجب وبرزخ بين الظالم لنفسه بارتكاب المعاصي وبين النار حلول الأجل .
فنزلت آية البحث لإنقاذ الناس من النار ، وما تدعو إليه من التوبة والإنابة ، ولا يعلم عدد الذين تابوا بسماع آيات الوعد والوعيد في القرآن إلا الله عز وجل.
وهو من الإعجاز الغيري المتجدد للقرآن ، والحاجة الدائمة إلى سلامته من التحريف والزيادة والنقيصة .
وفي توبة مالك بن دينار البصري التابعي (مولى بنى ناجية بن سامة بن لؤي بن غالب القرشي كنيته أبويحيى من أهل البصرة)( ).
وروى عن أنس بن مالك (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يوحي إلى الحفظة لا تكتبوا على الصوام بعد العصر سيئة)( ).
(وقيل لمالك بن دينار :كيف سبب توبتك؟ فقال: كنت شرطياً وكنت منهمكا على شرب الخمر، وكانت لي جارية، فولدت لي بنتاً فلما دبت على الأرض ألفتها وألفتني، وكنت إذا شربت الخمر جاءت إلي وأهرقتها علي، ثم أنها ماتت.
فلما كانت ليلة النصف من شعبان وأنا نائم سكران، فرأيت كأن القيامة قد قامت، فالتفت فإذا بتنين عظيم وهو من أعظم ما يكون، قد فتح فاه وهو مسرع إلي، فوليت هارباً منه مرعوبا، فرأيت شيخاً نقي الثوب، طيب الرائحة، فقلت له: أجرني من هذا التنين أجارك الله، فبكى الشيخ .
وقال : إني ضعيف وهذا أقوى مني، فوليت هارباً حتى أشرفت على طبقات النيران، وكنت كدت أن أهوي فيها، فصاح صائح: إرجع فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله فرجعت فإذا التنين قد قرب مني وتحيرت في أمري، وإذا بإبنتي التي ماتت وقد أشرفت.
وقالت: يا أبت، أنت أبي والله، ومدت يدها اليمنى إلي فتعلقت بها، ومدت يدها اليسرى إلى التنين فولى هارباً، ثم أجلستني وقعدت في حجري .
وقالت: يا أبت [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ]( )، فقلت لها: وأنتم تقرأون القرآن؟ قالت: نعم، ونحن أعرف بحروفه منكم .
فقلت لها: أخبريني عن التنين الذي هو أراد هلاكي، قالت: يا أبت، هذا عملك السوء قويته عليك،.فقلت: أخبريني عن الشيخ الذي مررت به .
قالت: ذلك عملك الصالح أضعفته فلم يكن له قوة ولا طاقة بعملك السوء)( ).
ومع سماع مالك بن دينار للصحابي مالك بن أنس ، فكأنه يتباهى بالرواية عن الحجاج بن يوسف الثقفي مع إنغماسه بالظلم وسفك الدماء .
وكان مالك يكتب المصاحف بالأجرة (كان يقرأ كل يوم جزءاً من القرآن حتى يختم فإن أسقط حرفاً قال ذنب مني وما الله بظلام للعبيد، مات سنة سبع وعشرين ومائة)( ).

قانون كتابة التنزيل حال نزوله
لقد كان نزول القرآن نجوماً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له , وحالما ينفصل الوحي عنه ويغادره جبرئيل يقوم بما يأتي :
الأول : تلاوة الآية أو الآيات التي أنزلت عليه حال نزولها.
الثاني : إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كتابة الوحي لكتابة الآيات خاصة في المدينة لطول الآيات وكثرة كلماتها ولوجود عدد من كتاب الوحي , بينما تتصف الآيات المكية بالقصر وقلة الكلمات فيسهل حفظها , ومع هذا فقد كان أهل البيت والصحابة يكتبونها على كل من :
الأولى : الرقاع , جمع رقعة وهي القطعة المدبوغة من الجلد .
الثانية : قطعة من الورق .
الثالثة : قطعة قماش .
الرابعة : الأكتاف : وهو جمع كتف وهو عظم عريض في أصل كتف الحيوان .
و(عن طاوس : أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة ، فسألته ، فأملاها عليها في كتف ، وقال : من أمرك بهذا ، أعمر . . ؟
ما أراه يقيمها ، أو ما تكفيه آية الصيف؟)( ) لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يجيب املاء وكتابة حتى وهو عند أهله وقبل أن يسأل عن صاحب السؤال وآية الصيف هي [وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ]( ).
الخامسة : العسب , جمع عسيب وهو جريد النخل إذ يكشط الخوص منه , ثم يكتبون في الطرف العريض منه .
السادسة : اللخاف : جمع لخفة وهي الحجارة , وقيل صفائح الحجارة.
السابعة : الأقتاب : جمع قتب وهو الخشبة التي توضع على ظهر البعير ليركب عليها القراطيس , وهي الكاغد والورق , قال تعالى [تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ]( ).
و(عن سالم بن عبد الله ابن عمر قال جمع أبو بكر القرآن في قراطيس وكان سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى حتى استعان بعمر ففعل.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يذهب من القرآن طائفة فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق) ( ).
كما قام الإمام علي عليه السلام بجمع القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن جمع القرآن سابق لأيام عثمان بن عفان , كما أن فيه شاهداً على سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان .
و(حكى المظفري في تاريخه قال لما جمع أبو بكر القرآن قال سموه فقال بعضهم سموه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم سموه سفرا فكرهوه من يهود فقال ابن مسعود رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه به) ( ).
والمصحف لغة هو الكتاب الجامع لصحف مكتوبة فتكون في مجلد وبين دفتين.
قانون مصاحبة الأمل للآية القرآنية
يتجلى قانون انبعاث ضياء الأمل من كل آية من القرآن ، ومن الجمع بينها وبين آية أو آيات أخرى في ذات الموضوع ، ومن الأمل في آية البحث وجوه :
الأول : ابتداء الآية بالنداء (ربنا) ودلالته على الإقرار بالتوحيد ، والثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جهاده لهداية أجيال المسلمين إلى الهدى والإيمان ، ونبذ الشرك ومفاهيم الضلالة .
و(عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها . ثم تلا هذه الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ( ).
الثاني : مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية .
الثالث : تلاوة الآية بصيغة الغائب الذي يدخل النار [مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ]( ).
وكأن الآية تقول : ربنا من تدخل النار من غيرنا فقد أخزيته .
الرابع : دلالة الآية في مفهومها على تبرأ المسلمين من الظلم والظالمين ومن نصرتهم والشفاعة لهم.
ومن إعجاز الآية القرآنية أنها رحمة وأمل في النشأتين ، ونور بين يدي الإنسان في يومه وليله ، فمع ورود الآية قبل السابقة بالإخبار عن [وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ]( )، فانهما يلتقيان بحضور نور الآية القرآنية في كل منهما ، وهو من مصاديق إجتماع الضدين في الآية القرآنية الواحدة.
أسماء آيات من القرآن
قال تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
ورد لفظ (اقرأ) ثلاث مرات في القرآن ، مرتين في الآيات أعلاه مع قلة كلماتها ، والثالثة بخصوص عالم الآخرة في قوله تعالى [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
لبيان منافع القراءة في سبيل الله إذ أنها تبيض صحائف الأعمال في الآخرة ، وفيه شاهد على أن القرآن دين العلم ، وقال تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( )، فآدم يعلم الأسماء أما الآية أعلاه من سورة الإسراء فتتضمن الإخبار عن إحاطة الإنسان بأمور كانت غائبة عنه وكشف عنها الغطاء ، وأزاح الله الموانع دون معرفتها .
وقد تقدم لزوم تبديل اسم آية (السيف) لأنه خلاف المنطوق ، وليس في القرآن كلمة سيف ، ولم ترد هذه التسمية عن النبي أو أهل البيت.
وقد وردت أسماء لعدد من آيات القرآن وكل اسم له دلالته ويبعث الشوق في النفس على قراءة الآية وحفظها والتدبر في معناها واستحضارها عند قراءة أو سماع اسمها مثل :
الأولى : آية الكرسي وعن الإمام علي عليه السلام قال (سمعت نبيّكم صلى الله عليه وآل وسلم على أعواد المنبر وهو يقول : مَنْ قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلاّ الموت ولا يواظب عليها إلاّ صدّيق أو عابد ، ومَنْ قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله)( ).
الثانية : آية الصيف ، (عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن الكلالة؟ فقال : تكفيك آية الصيف)( ).
الثالثة : آية خلق آدم ، قال تعالى [إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ]( ).
الرابعة : آية البسملة ، وهي قول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] من سورة الفاتحة .
الخامسة : آية هبوط آدم وحواء إلى الأرض .
السادسة : آية المحرمات بالنسب .
السابعة : آية اليتامى ، قال تعالى [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
الثامنة : آية الأخوة من الرضاعة .
التاسعة : آية الإذن ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
العاشرة : آية الإذن بالدفاع .
الحادية عشرة : آية شجرة الخلد ، قال تعالى [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى]( ) .
الثانية عشرة : آية الصراط المستقيم .
الثالثة عشرة : آية طه .
الرابعة عشرة : آية يس .
الخامسة عشرة : آية القلب السليم ، قال تعالى [إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] ( ).
السادسة عشرة : آية جنة الخلد ، قال تعالى [قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا] ( ).
السابعة عشرة : آية جنة النعيم ، قال تعالى [وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ] ( ) ولم يرد لفظ جنة النعيم في القرآن إلا في الآية أعلاه مع حضوره في الوجود الذهني عند أجيال المسلمين في كل زمان .
الثامنة عشرة : آية الأذى ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( ).
التاسعة عشرة : آية الارتداد .
العشرون : آية الاستئذان .
الحادية والعشرون : آية الاسترجاع .
الثانية والعشرون : آية الوضوء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
الثالثة والعشرون : آية الاستغفار .
الرابعة والعشرون : آية الاستهزاء .
الخامسة والعشرون : آية الاستواء .
السادسة والعشرون : آية الإسراء ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
السابعة والعشرون : آية ببدر .
الثامنة والعشرون : آية الأنفال .
التاسعة والعشرون : آية البقرة ، وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
الثلاثون : آية الأسرى .
الحادية والثلاثون : آية الإسلام .
الثانية والثلاثون : آية الإشهاد .
الثالثة والثلاثون : آية إطعام .
الرابعة والثلاثون : آية الاعتداد بالحول .
الخامسة والثلاثون : آية الاعتصام ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
السادسة والثلاثون : آية الإفك .
السابعة والثلاثون : آية الإكراه .
الثامنة والثلاثون : آية كمال الدين ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
التاسعة والثلاثون : آية الأمانات ، قال تعالى [ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..]( ).
الأربعون : آية الامتحان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الواحدة والأربعون : آية الإنذار .
ومن إعجاز القرآن إتحاد الموضوع وتعدد الآيات التي تبينه وتتضمن معانيه ودلالاته وأحكامه .
ولا بأس بتأليف لجنة من العلماء لضبط أسماء الآيات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووضع جدول بأسماء كثير من الآيات ، ولابد أن يكون هذا الجدول وفق ترتيب نظم القرآن .
(قال ابن خالويه في شرح الدريدية: خرج الأصمعي على أصحابه فقال لهم: ما معنى قول الخنساء:
يذكّرني طلوعُ الشمس صخراً … وأَندُبُه لكل غروب شمس
لم خَصَّت هذين الوقتين؟ فلم يعرفوا، فقال : أرادت بطلوع الشمس للغارة؛ وبمغيبها للقِرى، فقام أصحابه فقبَّلوا رجله)( ).
ولا أصل لهذا التقبيل ، لم يقم الأصمعي بتفسير آية قرآنية أو شرح حديث نبوي ، أو استنباط حكم شرعي من الأدلة.
ولم يثبت أنهم قبلوا رجله ، ولكنها من لغة تفخيم بعض الناس لكبرائهم .
ونزلت آية البحث وهو قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) لبعث المسلمين والمسلمات وعامة الناس للتعاون في طاعة الله وتعظيم شعائره ، والوقاية من مقدمات السوق الى النار .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn