معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 251

المقدمـــة
الحمد لله الذي جعل في القرآن المحكم والمتشابه والمجمل والمبين ، وكلمات وآيات الأحكام التكليفية الخمسة ، بما ينير مسالك المعرفة للمسلمين ، ويمنع من الظلم والجور ، قال تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
وهناك تباين بين العدد الإجمالي الذي يذكره عدد من العلماء لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ألف أو أكثر ، وبين المذكور منها وهو بعدد الأصابع تقريباً ، والقول الإجمالي في أعداد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية على وجوه :
الأول : ألف معجزة حسية ، والقائل به يذكر معجزة انشقاق القمر ومعجزات معدودة أخرى .
الثاني : تزيد على ألف ومائتين .
الثالث : أربعة آلاف معجزة .
ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : ما ورد في القرآن مثل الإسراء وانشقاق القمر ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
الثاني : ما ورد في الأحاديث النبوية .
الثالث : تجليات الإعجاز في السنة النبوية الفعلية .
الرابع : استقراء العلماء للمعجزات النبوية من الكتاب والسنة.
الخامس : فضل الله عز وجل علينا باستقراء مئات المعجزات المستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكتاب والسنة.
لتحقق وجوه مباركة لأول مرة في تأريخ الإسلام منها :
الأولى : تقليص التباين الكبير بين الرقم الإجمالي للمعجزات الحسية للنبي بألف ونحوه مع كثرة المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي اذكرها في هذا السِفر المبارك فانها جزء يسير من معجزاته ، ولكنها تفتح منهجية موسوعية في استقراء واستنباط المعجزات من آيات القرآن والوقائع والأحداث .
الحمد لله العليم الحكيم الذي تفضل على الناس بالنبوة ، وقرّبها بالمعجزة مدداً مصاحباً للأنبياء ، وعوناً وإخضاعاً للعقول , وضياء للأبصار والبصائر , وجذباً للناس على اختلاف مداركهم للهدى والإيمان.
وتنقسم المعجزة إلى قسمين : المعجزة الحسية ، والمعجزة العقلية ، وأقسمها تقسيماً جديداً إلى :
الأولى : المعجزة الحسية .
الثانية : المعجزة الحسية المترشحة عن الآية القرآنية كالإسراء وانشقاق القمر.
الثالثة : المعجزة العقلية .
الرابعة : المعجزة الحسية العقلية .
وبين معجزات النبي محمد (ص) ومعجزات الأنبياء السابقين ومنها ناقة صالح وعصا موسى وإبراء عيسى عليهم السلام الأكمه والأبرص عموم وخصوص مطلق إذ يلتقي معهم بالمعجزة الحسية وينفرد بالمعجزات الأخرى .
وهذا الإنفراد رحمة عامة ومعجزة متجددة له ، والمعجزة العقلية هي آيات القرآن وكل آية معجزة مستقلة بذاتها ، ومعجزة بالصلة مع آيات أخرى.
وقد صدرت لي والحمد لله أجزاء خاصة بالصلة بين الآيات منها : الجزء (125) من هذا السِفر ويختص بالصلة بين الآية 152 بالآية 153 من سورة آل عمران .
والجزء (126) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 153 بالآية 151.
والجزء (129) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 154 بشطر 153.
والجزء (151) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بالآية 164 منها .
والجزء (191) ويختص بالصلة بين الآية 180 بالآية 181 منها.
وتذكر كتب التفسير والسيرة معجزات حسية معدودة للنبي (ص) .
ليأتي هذا الجزء وهو الواحد والخمسون بعد المائتين ، وإن شاء الله أجزاء أخرى من تفسيري هذا للقرآن (معالم الإيمان) بذكر مئات المعجزات الحسية والعلمية المستقرأة من السنة النبوية وترجمة النبي محمد (ص) العملية لآيات القرآن في ثورة علمية , وشواهد حاضرة في زمن العولمة على الإعجاز في سنته الذي لا يقف عند نبع الماء من بين أصابعه ، او تسبيح الحصى في كفه أو أنين الجذع له وإن كانت كلها معجزات حسية وأدلة على صدق نبوته ، ولكن كثيراً من خزائن النبوة في باب المعجزات لم تفتح بعد.
وهذه الأجزاء سياحة فكرية في السنة النبوية الشريفة ، تقرب المدركات العقلية بالمحسوسات ، وتبين شذرات من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
ترى ما هي النسبة بين النعم والعطايا من عن الله ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق فالنعم أعم ، لذا جاء لفظ النعمة باسم الجنس الذي يفيد العموم الإستغراقي والمجموعي للنعم وما يتفرع عنها .
وهل القرآن نعمة متحدة ، الجواب على وجوه :
الأول : القرآن نعمة متحدة .
الثاني : قانون كل آية من القرآن نعمة .
الثالث : قانون كل شطر من آية قرآنية نعمة ، وقد صدرت لنا أجزاء من هذا السِفر خاصة بالصلة بين شطرين من آيتين والحمد لله.
الرابع : صلة الآية القرآنية بالآية القرآنية الأخرى نعمة .
الخامس : لغة العطف في القرآن نعمة سواء العطف بين الآيات ، أو بين النعم أو بين التكاليف والأحكام ، ولا بأس بتأليف مجلدات خاصة بالعطف في القرآن ودلالاته.
وهل التكاليف في العبادات والمعاملات نعمة من عند الله ، الجواب نعم.
لقد عرج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ملكوت السموات ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
ليعرج بالمسلمين في مراتب الإيمان ثباتاً وارتقاءً ، باليقينيات وبالبراهين والحدس والحس.
وفي أحاديث إثبات الصانع عن الإمام علي عليه السلام قال في جواب (البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير)( ).
ولا تتعارض الأكتشافات العلمية الحديثة في الأجرام السماوية مع نعت السماء باللطافة لإرادة العموم المجموعي منها في الحديث ، وهل تجليات علم التفسير من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الحمد لله الذي يختص باطلاق الحمد له وحده في كل الأحوال وأفراد الزمان والمكان وفي السراء والضراء وهو الذي تم توثيقه في آيات القرآن ، والمصداق اليومي المتجدد بقول كل مسلم ومسلمة في الصلاة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
لبيان أن المسلمين هم الأمة التي تتعاهد الحمد لله ، وهذا لا يمنع من وجود أمم عديدة تلهج بالحمد لله إذ أنه من الفطرة ومصاديق نفخ الله من روحه في آدم قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء.
وأخرج ابن المبارك عن سعيد بن جبير قال : إن أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله على كل حال ، أو قال : في السراء والضراء)( ).
وسعيد بن جبير (46-95) هجرية أصله من الحبشة أسود اللون مولى بني أسد أي اشتراه أحد أفراد القبيلة ثم اعتقه هو أو ورثته فصارت الصلة صلة ولاء بين الـمُعتِق والمعتق.
وروى سعيد بن جبير عن عشرة من الصحابة وكان تلميذاً لعبد الله بن عباس أخذ عنه الفقه والتفسير .
وظاهر كلامه أعلاه أنه مقتبس من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو نسبه سعيد بن جبير بذات النسبة لكان أفضل وأوثق وأحسن .
وكذا بالنسبة لأخبار التابعين التي يذكرونها من غير ذكر السند والواسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل الحسن البصري وقتادة والشعبي وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، ونافع مولى ابن عمر .
و(عن الحسن البصري قال : رأى رجل في المنام ، أن منادياً نادى في السماء ، أيها الناس خذوا سلاح فزعكم ، فعمد الناس وأخذوا السلاح حتى إن الرجل ليجيء وما معه عصا ، فنادى مناد من السماء ليس هذا سلاح فزعكم ، فقال رجل من الأرض ما سلاح فزعنا؟ فقال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)( ).
ولم يرفع الحسن البصري الخبر وكأنه من الوحي العام لأهل الأرض ، فلابد من دليل عليه .
وإذا كان الصحابي في الإصطلاح هو من لقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهل يصدق على التابعي أنه من لقى الصحابي أم لابد أنه صحب الصحابي ، وإذ رأى الصغير الصحابي فلا يكون تابعياً.
الحمد لله الذي جعل الحياة اليومية للناس وأفاض الأرزاق عليهم بتوحيده والثناء عليه والشكر له سبحانه .
و(عن عبدالله بن أبي أوفى قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه لا يستطيع أن يأخذ من القرآن شيئاً ، وسأله شيئاً يجزئ من القرآن؟ فقال له : قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله)( ).
الحمد لله الذي جعل المعجزة مصاحبة للناس في الحياة الدنيا ومنها آيات القرآن تلاوة وتدبراً بها ، وعملاً بأحكامها ، واستنباط المسائل والقوانين المستحدثة منها في كل زمان ، وهو من مصاديق إتصاف القرآن بأنه معجزة عقلية وأنعم الله عز وجل بالمعجزات الحسية على الأنبياء ، ومنها معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاء هذا الجزء بذكر فرائد منها فالحمد لله عز وجل على هذه النعمة ونسأل الله عز وجل من فضله .
و(عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال رجل : الحمد لله كثيرا ، فأعظمها الملك أن يكتبها ، وراجع فيها ربه عز وجل ، فقيل له : اكتبها كما قال عبدي كثيرا)( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن كتاب الحمد له سبحانه مع الحجة والبرهان بأنه وحده أهل أن يحمد في الليل والنهار ، وفي المشرق والمغرب .
والحمد لله سبيل النجاة في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ]( ).
وتتجلى في زمن العولمة الحاجة إلى التماس وجوه التقارب بين الأمم ، والتشابه بين الحضارات ، وتنمية مفاهيم الإنسانية والرفق والحوار ومنه الدبلوماسية الروحية لأن أثرها ونفعها والحاجة اليها أكبر وأعم فهي لا تخص المرضى والحالات المرضية بل تشمل حاجات النفس والبدن والصلات التوليدية المتفرعة بما يخدم السلم المجتمعي وينشر الأمن بين الشعوب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ولأن الدبلوماسية الروحية تشمل الأبواب :
الأول : الصلات الثقافية .
الثاني : دبلوماسية سياسية بصيغة المودة واللطف والتعاون .
الثالث : دبلوماسية اقتصادية وفتح أبواب التجارة .
الرابع : استئصال الإرهاب لقانون التنافي بينه وبين الأديان السماوية.
الخامس : دبلوماسية أمنية ودفاعية .
السادس : دبلوماسية شعبية بين مواطني البلدان المختلفة ، وعدم انحصار وظائف السفارات بالصلاة الحكومية .
السابع : المصالح المشتركة ، وسور الموجبة الكلية الذي يجمع بين عامة الشعوب كلواء التوحيد ، وإرادة السلم والنفرة من العنف والتعدي والإرهاب ، وليس من حصر لمنافع الدبلوماسية الروحية.
حرر في الثامن من شهر ذي الحجة 1444
6/7/2023

من أبواب المعجزات
تتعدد أبواب في هذا علم معجزات النبوة خاصة منها :
الأولى : معجزات الولادة المباركة .
الثانية : معجزات سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الوحي والتنزيل .
الثالثة : معجزات الوحي وكيفية تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم له.
الرابعة : معجزات بدايات البعثة النبوية .
الخامسة : معجزات إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة نبياً رسولاً في مكة .
السادسة : المعجزات الحسية في مكة .
السابعة : معجزة نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أذى كفار قريش ، وهمّهم بقتله في البيت الحرام وخارجه ، (قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّ أَشَدّ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنّهُ خَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ مِنْ النّاسِ إلّا عَذّبَهُ وَآذَاهُ لَا حُرّ وَلَا عَبْدٌ فَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ فَتَدَثّرَ مِنْ شِدّةِ مَا أَصَابَهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ {يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِر}( ))( ).
ومنها (حَثْوُ سُفَهَائِهِمْ التّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَمِنْهَا أَنّهُمْ كَانُوا يَنْضِدُونَ الْفَرْثَ وَالْأَفْحَاثَ وَالدّمَاءَ عَلَى بَابِهِ وَيَطْرَحُونَ رَحِمَ الشّاةِ فِي بُرْمَتِهِ وَمِنْهَا : بَصْقُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي وَجْهِهِ وَمِنْهَا : وَطْءُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رَقَبَتِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتّى كَادَتْ عَيْنَاهُ تَبْرُزَانِ وَمِنْهَا أَخْذُهُمْ بِمُخَثّقِهِ حِينَ اجْتَمَعُوا لَهُ عِنْدَ الْحِجْرِ)( ).
السابعة: المعجزات الغيرية لنزول القرآن التي تخص السنة النبوية.
الثامنة : معجزات ليلة هجرة النبي محمد إلى المدينة ، قال تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
التاسعة : معجزات دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
العاشرة : المعجزات المستقرأة من آيات القرآن بخصوص النبوة .
الحادية عشرة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الصحابة.
الثاني عشر : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل الكتاب.
الثالث عشر : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النكاح والأسرة ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
الرابع عشرة : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر.
الخامس عشرة : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد.
السادس عشرة : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الخندق.
السابع عشرة : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية والمسائل والقوانين المستقرأة من قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، إذ نزلت هذه الآية بخصوص صلح الحديبية .
الثامن عشرة : قانون فتح مكة سلماً ، ليس صلحاً أو عِنوة.
التاسعة عشرة : معجزات معركة حنين .
العشرون : معجزة الأذان والإقامة .
الواحد والعشرون : معجزات الصلاة ومقدماتها .
الثاني والعشرون : معجزات الصيام .
الثالث والعشرون : معجزات الزكاة .
الرابع والعشرون : معجزات الحج .
الخامس والعشرون : معجزات حجة الوداع .
السادس والعشرون : المعجزات الحسية المتعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في كتب السيرة منها :
أولاً : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام قبل الهجرة وبعدها .
ثانياً : احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار .
ثالثاً : شواهد من صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شدة أذى الكفار له.
رابعاً : معجزات انتقال الشجرة من مكانها ، ورجوعها إليه .
خامساً : نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
سادساً : شرب المسلمين من بئر جاف ليس فيه ماء .
سابعاً : كفاية عدد قليل من أرغفة الخبز لثمانين رجلاً .
ثامناً : تعدد وتكرار تجليات البركة على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
تاسعاً : شهادة الذئب بالرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
عاشراً : حنين الجذع الذي كان ليتكأ عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند الخطبة حينما صُنع له منبر .
الحادي عشر : تسبيح الحصى في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني عشر : بكاء وشكوى الجمل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث عشر : معجزة دعوها فانها مأمورة بخصوص ناقة رسول الله عن ددخوله إلى المدينة ، وتعيين موضع مسجد رسول الله بآية من عند الله عز وجل ليكون قوله يوم فتح مكة (هذا يوم المرحمة) معجزة في بلحاظ شدة أذاهم له قبل الهجرة .
السابع والعشرون : معجزات احتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن والعشرون : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل الكتاب.
التاسع والعشرون : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصبر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ]( ).
الثلاثون : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأخلاق الحميدة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الواحد والثلاثون : معجزات المنبر الحسيني .
الثاني والثلاثون : شواهد على صدق النبوة .
الثالث والثلاثون : القوانين المستقرأة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع والثلاثون : معجزات الإستسقاء .
وتأتي أبواب وفصول في معجزات أخرى إن شاء الله .
قانون البسملة ذكر
البسملة من مصاديق الذكر وهل تجزي بتحقيقه في قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، الجواب نعم.
وقد ذكرتُ في الجزء الأول من هذا السِفر أربعة وأربعين اسماً لسورة الفاتحة ، منها اسم سورة الذكر .
وذكرت وجوها من إعجاز البسملة منها أنها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها ، وهي شعار إسلامي ووسيلة التقرب إلى الله سبحانه .
ولفاتحة الكتاب موضوعية وشأن عند القراء ، وكأنها مرآة لمضامينه فاراد الله عز وجل أن تكون البسملة هي أول القرآن ، فلابد أن بركتها ونفعها لطف محض ، وهي تبعث السكينة والأمل في النفوس ، وتدعو إلى العمل.
وقد ذكرتُ عدة قوانين بخصوص البسملة في الجزء الأول من هذا السِفر للدلالة على إعجازها منها :
الأول : أنها جذبة من جذبات الخالق للعبد بقيد الإسلام.
الثاني : هي نعمة ورحمة اختص الله بها المسلمين.
الثالث : قانون البسملة حرز من الآفات وأسباب الهلكات.
الرابع : قانون البسملة واقية من غلبة النفس الشهوية والغضبية، ومن وسوسة الشيطان.
الخامس : قانون البسملة وسيلة سماوية مباركة للإرتقاء في مراتب المعراج.
السادس : قانون البسملة وتلاوتها وسماعها هداية إلى الرشاد وسبل النجاة.
السابع : قانون البسملة حضّ على إفتتاح الأعمال الفردية والعامة ببسم الله تعالى .
الثامن : قانون تلاوة البسملة نزع لرداء الكبرياء عن الإنسان سواء من يقوم بتلاوتها أو من يستمع له أو يسمعه .
التاسع : قانون البسملة هي حرب على الشرك والضلالة .
العاشر : قانون البسملة سلاح سماوي لجذب الناس إلى منازل التوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى وهي من مصاديق العبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
معجزة مصاحبة البسملة للمسلمين
لقد نزلت سورة الفاتحة في مكة قبل الهجرة والبسملة آية منها ، وشرعت الصلاة في مكة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأها في الصلاة وخارجها .
وكان يصلي في المسجد الحرام ويصلي جهراً وإخفاتاً ، وكان المشركون يؤذونه بسبب الصلاة والتلاوة ، لتكون البسملة واقية له وحجة عليهم ، وإنذاراً لهم.
وعن الإمام علي عليه السلام قال (نزلت فاتحة الكتاب بمكّة من كنز تحت العرش وعليه هذا أكثر العلماء.
يدلّ عليه ما ورد عن الثعلبي قال : أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر، حدّثنا محمد بن محمود، حدّثنا أبو لبابة محمد بن مهدي ،حدّثنا أبي عن صدقة بن عبد الرَّحْمن عن روح بن القاسم (العبري) عن عمر بن شرحبيل قال: إن أوّل ما نزل من القرآن [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى خديجة .
وقال : لقد خشيت أن يكون خالطني شيء ، فقالت : وما ذاك .
قال : إني إذا خلوت سمعت النداء فأفرّ.
قال : فانطلق به أبو بكر إلى ورقة بن نوفل، فقال له ورقة: إذا أتاك فاجثُ له.
فأتاه جبريل فقال له : قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ( ).
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بأن جعل البسملة صاحباً سماوياً مع كل واحد منهم ذكراً أو أنثى بلزوم قراءتها سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية ، وإستحضار معاني وموارد عديدة كافتتاح القراءة والذكر ، وفي المجالس .
وقد تسبقها الإستعاذة من الشيطان التي هي مستحبة ، وهو المشهور ، وقيل بوجوبها ولفظ البسملة اختصار من (بسم الله الرحمن الرحيم) كما تقول (حوقل) اختصاراً لقول (لا حول ولا قوة إلا بالله) أو (حيعل) أي (حي على الصلاة وحي على الفلاح).
وقيل (هيلل) اختصار لقول (لا إله إلا الله) ولا أصل لهذا الإختصار وتظهر عدم مناسبته لفظاً ورسماً ، إنما تتضمنه كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فلا يصح هذا الإختصار لها ، لذا سميت كلمة التوحيد مع أنها تتألف من أكثر من كلمة .
لقد أصبحت البسملة صاحباً سماوية كريماً لكل مسلم ومسلمة ، بفضل الله ، وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وخارجها ، وتشمل موارد ذكرها الوجوب والإستحباب ، وهل هي حاجة للمؤمن ، الجواب نعم فهي حاجة وحرز في الدنيا والآخرة .
وقد أتخذها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً في الدعوة إلى الله ، فهي من آيات السلم والموادعة ، ولم يطرأ عليها النسخ أبداً ، وهو من الشواهد بأن آية السيف لم تنسخ آيات السلم.
قانون البسملة مدد وعون
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع ضعفه وحاجته فأمده بسلاح النبوة والتنزيل ومنه آية البسملة التي تتضمن ثلاثة من الأسماء الحسنى هو :
الأول : اسم الجلالة (الله).
الثاني : الرحمن .
الثالث : الرحيم .
وهل من موضوعية للنطق بالبسملة في العقل والعمل ، الجواب نعم ، وهي عون ومدد من عند الله أنها نوع سؤال ودعاء واظهار للضعف والحاجة للجوء إلى الله عز وجل في حاجات الدنيا والآخرة .
لبيان أن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما انتفع منها كل مسلم ومسلمة في اليوم والليلة ، وان هذه المعجزات لم تنقطع بمغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وهي نعمة متجددة لا تغادر الأرض إلى يوم القيامة.
وتدل البسملة على حب الله عز وجل لثناء العباد عليه بذكر أسمائه الحسنى وجعلها إماماً وفاتحة في القول والفعل ، وهي تنقيح للمنطق ، وتهذيب للمجتمعات ، لبيان أن البسملة ووظائفها معجزة وهبة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
النسبة بين معجزات النبي محمد الحسية ومعجزات الأنبياء
المعجزة الحسية للأنبياء أمر خارق لسنن الكون بمشيئة الله وهي حجة مادية على صدق النبي ، وعلى قانون أن عالم الأكوان بيد الله عز وجل وأن الله عز وجل يأتي بخرق محدد لها لبيان بديع قدرته ، وعظيم سلطانه ، وأنه سبحانه لم يخلق الكون ويتركه كما قال بعض الفلاسفة.
إنما يتعاهد الله عز وجل الأكوان في كل لحظة ، فليس من نبي إلا وله معجزة حسية [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي السالم عن المعارضة ، وتكون المعجزة الحسية على شعبتين :
الأولى : المعجزة القولية : مثل تكلم الذئب وشهادته للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصدق رسالته ، وتكلم النملة ومعرفة سليمان لغتها كما في قوله تعالى [قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ]( ).
وهل في الآية بشارة وإخبار إعجازي عن توصل البشر لمعرفة معاني بعض أصوات الحيوانات ومقاصدها ، الجواب نعم ، وستظهر فيها مصاديق لقوله تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ]( ).
الثانية : المعجزة الفعلية : هي الأكثر مثل ناقة صالح ، ونجاة إبراهيم من النار ، قال تعالى [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، وعصا موسى وإبراء عيسى للأكمه والأبرص ، ووقوف الكفار على باب غار جبل ثور في طريق هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونسجت العنكبون بيتاً على بابه بعد دخوله وصاحبه ووقوع حمامتين وحشيتين عليه.
وهل تدل كثرة المعجزات الفعلية على أفضلية حاسة البصر على السمع ، المختار نعم .
معجزات النبي (ص) في المغيبات
بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين في باب المعجزة الحسية والحجة المادية عموم وخصوص مطلق ، ومادة الإلتقاء تجلي المعجزة الحسية في أوانها ، أما معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية فهي على أقسام :
الأولى : ما تكون من المغيبات فتأتي كفلق الصبح فتزيد المسلمين إيماناً ، وتكف شرور وأيدي المشركين ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( )، ويبصرها الناس في أوانها مثل مشي الشجرة وشقها الأرض ، وتسبيح الحصى في يده ، وتجفق الحليب من شاة أم معبد التي لم تكن تدر لبناً وهو في طريق الهجرة ، واخباره عن كون فاطمة عليها السلام أول أهل البيت لحوقاً به ، واخباره عن عدم غزو المشركين للمسلمين بعد الخندق والذي يدل على المشركين هم الغزاة في معركة بدر وأحد والخندق.
الثانية : المعجزة الحسية المتكررة بعدد المرات أو الأيام والأشهر ، منها مثلاً حمل النخل الذي زرعه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعتق سلمان الذي سُبي ظلماً وقهراً في ذات العام الذي زرعت فيه.
وعن بريدة قال (جَاءَ سَلْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِمَائِدَةٍ عَلَيْهَا رُطَبٌ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ قَالَ صَدَقَةٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أَصْحَابِكَ قَالَ ارْفَعْهَا فَإِنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ فَرَفَعَهَا فَجَاءَ مِنْ الْغَدِ بِمِثْلِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْمِلُهُ.
فَقَالَ مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ فَقَالَ هَدِيَّةٌ لَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ ابْسُطُوا فَنَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَكَانَ لِلْيَهُوَدِ فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا وَعَلَى أَنْ يَغْرِسَ نَخْلًا فَيَعْمَلَ سَلْمَانُ فِيهَا حَتَّى يَطْعَمَ.
قَالَ فَغَرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخْلَ إِلَّا نَخْلَةً وَاحِدَةً غَرَسَهَا عُمَرُ فَحَمَلَتْ النَّخْلُ مِنْ عَامِهَا وَلَمْ تَحْمِلْ النَّخْلَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَأْنُ هَذِهِ.
قَالَ عُمَرُ أَنَا غَرَسْتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ غَرَسَهَا فَحَمَلَتْ مِنْ عَامِهَا)( ).
لتكون معجزة حاضرة بين أهل المدينة قاطبة ، وبشارة البركة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها قطع غيرة أم سلمة ، إذ تروي خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد استشهاد أبي سلمة وخروجها من العدة.
إذ قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما مثلي يُنكح أما أنا فلا ولد في وأنا غيور وذات عيال فقال أنا أكبر منك.
وأما الغيرة فيذهبها الله ، وأما العيال فإلى الله ورسوله فتزوجها قال فكانت في النساء كأنها ليست منهن لا تجد ما يجدن من الغيرة)( ).
الثالثة : طول عمر الصحابة الذين دعا لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة أولادهم وأموالهم في معجزة حاضرة بين أهل البيت والصحابة والتابعين .
وعن (أنس بن مالك يقول: ذهبت بي أمي إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله، خويدمك أدع الله له، قال: اللهم أكثر ماله وولده وأطل عمره، وأغفر ذنبه، قال أنس: فقد دفنت من صلبي مائة غير اثنين، أو قال مائة واثنين (أي من أولاده وأحفاده لطول عمره)، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة وأنا أرجو الرابعة)( )، وهي المغفرة.
ومن الحكمة في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه بطول العمر صيرورتهم شهوداً على معجزات النبوة الحسية , والوقائع بما تستقرأ منها الدروس والمواعظ والعبر , ويسمع منهم الكبار والصغار , والآباء والأبناء والأحفاد كعلو الإسناد والإخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير واسطة , فينتفع من علومهم , وتمتنع الخصومة بين المسلمين .
الرابعة : البشارة والإنذار في السنة النبوية ، ومنها البشارة لبعض الصحابة ثم يوم الخندق بفتح كنوز قيصر وخزائن كسرى.
وفي حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبه على تأخر إسلامه إذ قال له (يمنعك أن تسلم خصاصة من ترى و إنك لترى الناس علينا ـ فأخذا أو يدا واحدة شك محمد ـ فقلت : أجل فقال : هل أتيت الحيرة ؟ فقلت : لا و قد علمت مكانها فقال : يوشك الظعينة أن تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار و يوشك أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز فقلت : كنوز كسرى بن هرمز ؟ فقال : كنوز كسرى بن هرمز ـ مرتين ـ و يوشك أن يخرج الرجل الصدقة من ماله فلا يجد من يقبلها قال : فقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار و قد كنت في أول جيش أغار على المدائن و أيم الله لتكونن الثالثة إنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
وما في التضاد بين حال المسلمين يومئذ من الحصار ، وبين الفتوحات العظمى حتى (قال معتب بن قشير : كان محمداً يرى أن يأكل من كنز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط)( ).
الخامسة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير وتأويل القرآن ، ودلالاتها وتنجز مصاديق تأويل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمضامينها في أيام حياته أو أيام حياة الصحابة أو في الأحقاب اللاحقة.
معجزة أسمى مراتب الوحي
الوحي لغة الإشارة والكتابة والرسالة ، والإلهام وما ألقيته إلى غيرك ، والضابطة فيه أنه إعلام في خفاء ، وهو مصدر (وحى).
والوحي في الإصطلاح هو ما يلقيه الله عز وجل إلى الأنبياء بواسطة الملائكة فيما يخص أمور الدين ومنه في المنام ، ولا يعلم كثرة طرق الوحي من الله إلى الأنبياء إلا هو سبحانه.
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا الأنبياء وحي)( ).
وحينما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، جاءه نفر من يهود فدك ، وسألوه (فقالوا : يا محمد كيف نومك؟ فإنه قد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان ، فقال : تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي يَقْظَانُ قالوا : صدقت يا محمد)( ).
لبيان أن الإنتباه والفطنة لا تغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يترقب الوحي ، ويتطلع إلى نزول آيات القرآن والأوامر والنواهي من عند الله عز وجل .
وعن عبد الله بن عباس (قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تولى غسله علي بن أبي طالب عليه السلام والعباس معه، والفضل بن العباس، فلما فرغ علي عليه السلام من غسله كشف الأزار عن وجهه، ثم قال: بأبي أنت وامي طبت حيا وطبت ميتا، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممن سواك من النبوة)( ).
لقد صاحب الوحي الإنسان من حين خلق آدم وقبل أن يهبط إلى الأرض ، ولما هبط لم يغادره وهذه الملازمة من رحمة الله عز وجل .
وهل كان يوحى إلى حواء في الجنة ، وعندما هبط إلى الأرض استمر أو انقطع الوحي ، أم أن الوحي كالنبوة خاص بالرجال لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ]( ).
المختار أن حواء أوحي لها في الجنة قال تعالى [قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( )، فهذا الخطاب موجه إلى آدم وحواء وإبليس.
وهل وحي الله عز وجل لأم موسى تأكيد لوحيه لحواء وللدلالة على عدم انقطاع نعمة الوحي عن المرأة ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى]( )،
أما قوله تعالى [وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ]( )، فالخطاب موجه إلى حواء بواسطة آدم ، لبيان تعدد صيغ الوحي ، وموضوعية وحي النبوة في الأوامر والنواهي.
وهل الوحي حاجة ، الجواب نعم ، إذ جعل الله عز وجل الناس محتاجين إلى رحمته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
والوحي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة أدناها رؤيا النبوة ، وهي أخص وأرقى من الرؤيا الصالحة ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، وفي زكريا ورد قوله تعالى [فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( ).
والوحي هنا أعم من الإشارة ، إذ تترشح عليه معاني الوحي الإلهي بالذكر والتسبيح ، ولبيان قانون اقتباس الأنبياء مفاهيم الوحي وتوظيفها في دعوتهم إلى الله .
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلقيه أسمى مراتب الوحي لوجوه :
الأول : نزول جبرئيل للإيحاء للنبي وتعضيده عند الحاجة وبدونها .
الثاني : حديث جبرئيل عليه السلام مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدم انحصار الوحي للنبي محمد بالإشارة والإعلام الخفي.
الثالث : نزول كل آية من القرآن وحي ، وهو من المعجزات التي انفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تفضل الله عز وجل بالإجابة على الأسئلة التي توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : نزول ملائكة آخرين غير جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم ملك الجبال .
إذ ورد عن عائشة (أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد .
فقال : لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي.
فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني .
فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
قال : فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك ، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا)( ).
كما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملك البحار ، وبعض خزنة الجنة ، إلى جانب نزول آلاف من الملائكة في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين .
ولما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بأنهم يقدسون الله ، وينقطعون إلى عبادته ، بينما الإنسان [يفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أنه جعل الملائكة ينزلون بالوحي للأنبياء ، ويدعون الله لهم ، ويمدونهم بالقوة باذن الله ، ويرى الملائكة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كيف يذكرون الله خمس مرات في اليوم ويتلون كلامه في الليل والنهار ، ومن غير زيادة أو نقيصة.
ومن سمو مرتبة الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتصاله بالليل والنهار وعدم انقطاعه مدة البعثة النبوية المباركة في ثلاث وعشرين سنة ، قال تعالى [مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى]( ).
وفيه إخبار عما مضمى ، ووعد وعهد للقادم من الأيام ، وتقدير الآية ما ودعك ربك ولن يودعك فاذا أنعم الله عز وجل بنعمة فهو أكرم من أن يرفعها.
أقسام الوحي
ويمكن تقسيم الوحي بلحاظ الواسطة والموحى إليه :
الأول : الوحي من الله إلى الملائكة مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : الوحي بواسطة ملك إلى ملك ، وهذا ينقسم بلحاظ المحل إلى شعبتين :
الأولى : ملك إلى ملك في السماء.
الثانية : ملك إلى ملك في الارض ، وهو برزخ في الوحي ، ومنه ما أنزل على الملكين في بابل كما في قوله تعالى [وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ]( ).
الثالث : بواسطة ملك إلى بشر، وهذا ينقسم بلحاظ الشرف والمسؤولية الرسالية إلى :
أولاً : الوحي إلى الرسول.
ثانياً : الوحي إلى النبي.
ثالثاً : الوحي إلى الصديقين، وهذا ينقسم إلى جهات :
الأولى : ما هو مقدمـة إلى النبوة كما في قـولـه تعالى لأم موسى [أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ]( ).
الثانية : وحي الهداية الملحق والملازم او المتعقب للنبوة.
الثالثة : بيان مقامات الأولياء في تعضيد النبوة , قبل إنقطاع الوحي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : الوحي إلى حيوان غير ناطق.
الرابع : الوحي إلى عالم الكون.
ويمكن تقسيم الوحي بلحاظ الموضوع إلى :
أولاً : الوحي السماوي.
ثانياً : وحي النبوة.
ثالثاً : وحي الصالحين ، ومنه أيضاً [وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي]( ).
رابعاً : الوحي العام وهو متعدد كما في قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( ).
ويرى الناس النظام الدقيق لحياة وعمل النحل مجتمعاً وأفراداً وبغريزة قذفت فيها بالوحي، ولعله من باب المثال الظاهر، والآية الحسية وليس من باب الحصر في عالم الحيوان ، وتدل الآية أعلاه في مفهومها على التنظيم الدقيق لنوع الحيوان .
وبيان قانون أنظمة لما لم الحيوان بوحي ومشيئة من عند الله عز وجل.
معجزة الإنتفاع الأمثل من الوحي للنبي (ص)
والوحي ليس كيفية نفسانية أو شخصية ثانية للإنسان أو انه من الحاسة السادسة ، إنما هو أمر إعجازي خارق للعادة ، وشاهد على اللطف الإلهي بالصلة بين الله وعباده بواسطة الأنبياء .
ومما يختص به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمتاز به على الأنبياء الآخرين معجزة انتفاع أمم المسلمين الانتفاع الأمثل من الوحي الذي أوحاه الله عز وجل له .
وهل صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي من جهة أجزائها وأركانها ، الجواب نعم ، وكذا بالنسبة للأذان للصلاة وان تعددت الرواية فيه ، وإمضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرؤيا أحد الصحابة بالأذان من الوحي.
فخاطب أهل البيت والصحابة وبواسطتهم أجيال المسلمين المتعاقبة (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وتقديرها : فاني لم أصل هذه الصلاة إلا بالوحي من عند الله .
مع تأكيد القرآن وبصيغة الأمر على أداء الصلاة على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة وكذا بالنسبة لمحاكاة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصيام والحج والزكاة والخمس لأن سنته القولية والفعلية مرآة لآيات التكاليف العبادية .

نعمة التعليم
من لطف الله نعمة تعليم الله للمسلمين الذي تذكره الآية بعد الأمر بتقوى الله ، ليكون من معاني تقدير التقوى تلقي التعليم الإلهي بالقبول والرضا ، والعمل بمضامينه ، والثناء عليه .
إذ انتقلت الأية من الأمر بالتقوى إلى الإخبار عن تعليم الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] ( ) وهو من الشواهد على إكرام الله عز وجل للمسلمين بأن يتفضل ويعلمهم بنفسه بالقرآن والسنة ، وغيرهما من ضروب التأديب والهداية الخاصة ، واللطف بتقريبهم إلى العمل بآيات القرآن والسنة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وجاء لفظ (يعلمكم الله) بصيغة المضارع ، وإرادة نزول القرآن وكل آية منه تعليم متجدد في أفراد الزمان الطولية وأن الله عز وجل يتفضل على المسلمين في كل زمان بتعليمهم وإصلاحهم للتفقه في الدين ، فهذه الآية إخبار ووعد .
وفيه بعث السكينة في نفوس الذي يعملون بمضامين آية البحث ، والإنذار لمن يمتنع عنه لإختتام الآية الكريمة بقوله [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وورد اسم الجلالة ثلاث مرات في خاتمة الآية لبيان تعدد الموضوع والحكم في كل من الجمل الثلاث ، ولبيان موضوعية العمل بتقوى الله ، وفضل الله في تعليم المسلمين ، وما فيه من ترغيب بالإسلام ، وتنزيه للقرآن ، وعلم الله عز وجل بكل ما يفعل الناس ، وعلمه تعالى سابق لخلقهم.
لقد قيل أن آيات الأحكام خمسمائة آية ، أما المنهج الجديد المستحدث في هذا السِفر فهو (كلمات الأحكام) وعددها أضعاف عدد آيات الأحكام ، فمثلاً آية الدَين هذه تحتسب آية واحدة من آيات الدًين أما وفق منهج كلمات الأحكام فانها تصل إلى نحو ثلاثين حكماً في هذه الآية وحدها ، وسيأتي (إحصاء كلمات الأحكام في آية الدَين).
معجزة صلاة النبي (ص)
من معاني الصلاة لغة الدعاء ، فسميت ببعض أجزائها لأنها تتضمن الدعاء ، ومنها التعظيم لما فيها من تعظيم مقام الربوبية ، ومنها اللزوم.
وقد تقدم ذكر ثمانية وجوه لمعاني الصلاة( ).
أما في الإصطلاح فهي على قسمين :
الأول : المعنى القرآني المتعدد بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، والصلاة من الله رحمة ومغفرة ، ومن الملائكة دعاء واستغفار ، وصلاة الناس استغفار وتصديق وثناء وتسليم بأنه رسول الله.
و(عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : هل يصلي ربك ، فناداه ربه : يا موسى إن سألوك هل يصلي ربك؟ فقل : نعم . أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ …( ).
الثاني : أداء المؤمنين وأتباع الأنبياء الصلاة بأفعال مخصوصة من أيام أبينا آدم عليه السلام ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( )، أي أنها واجب على كل مؤمن ومؤمنة من أيام آدم عليه السلام والى يوم القيامة.
والصلاة من أعظم النعم على الناس في الأرض فهي عنوان ومصداق العبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، وباب للرزق في النشأتين فتحه الله عز وجل للناس جميعاً.
ومنع من وجود حائل دون أداء الصلاة ، إذ أنها تؤدى على كل حال ، ولو بالتكبير والتسبيح عند الإضطرار كما في صلاة المطاردة ، وأداء الصلاة كل يوم من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
فمن خصال الخليفة تعاهد الصلة والحبل الممدود بين الله والناس وهو الصلاة ، وهل من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا]( )، الجواب نعم ، فمن معانيه الإسلام ، والقرآن ، وطاعة الله ، والصلاة ، وصلاة الجماعة.
لقد أكرم الله الصلاة فذكرها في أول نظم القرآن ، والآيات الأولى لسورة البقرة للدلالة على منزلتها ورفعة شأنها في مقامات الإيمان ولزوم تعاهد المسلمين لها إذ قال تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعاهده للصلاة اليومية ، وتقيده بأحكامها ومقدماتها كالوضوء ، وترغيبه بأدائها ، وإظهار حبه لها .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)( ).
ويبين الحديث أن الصلاة هي سر الوجود وهي الأهم في حياة الأنبياء لأنها زينة الدنيا وذخيرة الآخرة.
معجزة نقل صلاة النبي (ص) في المسجد الحرام
لقد ختم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبته يوم النحر العاشر من شهر ذي الحجة في حجة الوداع بالقول (أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ أَلَا لَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)( ) .
لبيان أن من الناس من يدخل الإسلام ويؤمن بقلبه وجوارحه بسبب نقل شخص آخر له المعجزة ، وإن لم يؤمن هذا الناقل ، أو لم يعي معنى ودلالة ما ينقل ، وفيه حجة على الذين يُكفرون طوائف بالملايين من المسلمين الناطقين بالشهادتين لخلاف مذهبي ونحوه ، وهل المعجزة من هذا التبليغ ، الجواب نعم .
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام وجوه :
الأول : بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة حيث يفد إليها العرب من كل صوب لأداء الحج والعمرة وللتجارة ، والصلات الإجتماعية وفك الخصومات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الثاني : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في المسجد الحرام بتلاوة القرآن وركوع وسجود وخشوع ، بما لم يشهد مثله العرب من قبل ، ولم تنقله إبل التجارة من الشام أو اليمن وهم أهل كتاب.
فينقل الناس إلى أهليهم وقراهم ومدنهم هذه الظاهرة العبادية ، ومنها نقل آيات القرآن ، لذا اتصفت السور المكية بالقصر وقلة كلمات الآيات وذات السور ، وهذا النقل معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نفرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الأصنام سواء المنصوبة في البيت الحرام أو مطلقاً .
معجزة الإجتهاد في الصلاة
لقد كان اجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة معجزة له ، وفيه وجوه :
الأول : تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للفرائض اليومية الخمسة ، وهل هو من الخطاب الإلهي الموجه للمسلمين [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( )، الجواب نعم ، فلابد من ضبط المسلمين والمسلمات لصلاتهم وأدائها في أوقاتها .
الثاني : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بمحاكاته في الصلاة ، وهل يختص قوله (صلوا كما رايتموني اصلي) ( )، الجواب لا ، إنما هو خطاب وأمر إلى كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة .
الثالث : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلاة جماعة سواء في مسجده والحضر أو في الكتائب والسرايا ليترشح عنه عشق أجيال المسلمين لصلاة الجماعة ، واستحبابها استحباباً مؤكداً .
و(عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : فضل الجماعة على صلاة الفذ سبع وعشرون درجة)( ).
وقيل بوجوبها ، واستدل بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ( ).
وهذا الحديث لا يدل على الوجوب لخصوص تقييد موضوعه بجار المسجد ، ولأن القدر المتيقن منه إرادة الكمال والتمام في الأداء والثواب .
وعن الإمام (علي عليه السلام أنه غدا على أبي الدرداء فوجده نائما فقال له: مالك ؟ فقال: كان مني من الليل شئ فنمت .
فقال علي : أفتركت صلاة الصبح في جماعة ؟ قال: نعم، قال علي: يا أبا الدرداء لأن اصلي العشاء والفجر في جماعة أحب إلى من أن أحيى ما بينهما)( ).
الرابع : تفقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أثناء صلاة الجماعة وسؤاله عن الغائب منهم .
الخامس : التآخي والوئام بين الصحابة في صلاة الجماعة .
السادس : حضّ المسلمين والمسلمات على أداء الفرائض العبادية الأخرى وهو من مصاديق الصلاة وعمود الدين .
السابع : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعبوديته لله عز وجل واخلاصه في العبادة ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).
الثامن : منع المسلمين من الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وورد لفظ (عبد الله) مرتين في القرآن واحدة في عيسى عليه السلام ، والثانية بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا]( )، لبيان العموم الإستغراقي لقانون إقرار كل بني بأنه عبد الله.
تعاهد الحمد واقية من الشرك
الحمد لله الذي جعل خلافة الإنسان في الأرض معجزة بين الخلائق ، إذ انبهرت الملائكة حينما قال لهم الله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) خاصة وأنه ليس في السماء خليفة ، فهي دار عرش الله سبحانه.
لتتجلى معالم هذه الخلافة للملائكة بأن أول كلمة نطق بها آدم [الْحَمْدُ لِلَّهِ].
فزاد المسلمون فصاروا يقولون كل يوم في الصلاة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وفيه حجة أمام الملائكة بأهلية المؤمنين للخلافة في الأرض ، ودعوة لهم للتهيئ للنزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق وحنين.
وقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ] ليس من الأسماء التي لم يكن الملائكة يعرفونها حتى أخبرهم آدم بقوله تعالى [قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، إذ تتقوم حياتهم بالتسبيح والحمد لله ،ولأنه نطق بها حالما نفخ الله فيه الروح.
ولقانون ملازمة قول الحمد لله لخلق الملائكة والناس ، إذ تدوم الحياة الدنيا وتنزل البركة وشآبيب الرحمة بقول الحمد لله فهذا القول نعمة على الخلائق ، وهل هو من العبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] ( )الجواب نعم .
ومن إعجاز القرآن ورود قول الحمد لله ثلاثاً وعشرين مرة في القرآن ، إذ ابتدأ نظم القرآن بعد آية البسملة بـ[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وهذه الآية وحدها فقاهة في الدين ، ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تقل الآية الحمد لله وتقف ، ولا الحمد لله رب الناس ، بل مع إقرار المسلمين إن الله رب الأكوان والخلائق ليكون معانيها تفقه المسلمين ، وتنزههم عن أمرين :
الأول : الشرك ، لدلالة الآية بأن كل شئ في الوجود عبد وملك منقاد لله عز وجل .
الثاني : الغلو : لبيان الآية التقاء الناس والملائكة والكواكب في العبودية لله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ] ( ).
قانون مصاحبة المعجزة للنبوة
لقد أنعم الله على الأنبياء بالمعجزة ، وهل انقطعت المعجزات بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الجواب لا ، وهو من فضل الله عز وجل إذ بقيت وتجددت المعجزات العقلية ببقاء القرآن بين أهل الأرض .
وتخلدت المعجزات الحسية للأنبياء فيه كسفينة نوح وناقة صالح وعصا موسى ، وإبراء عيسى عليه السلام الأكمه والأبرص ، وهو لا يتعارض مع ذكر التوراة والإنجيل لهذه المعجزات وترديد ودراسة اليهود والنصارى لها.
والقرآن هو المعجزة العقلية الباقية إلى يوم القيامة.
وبالقرآن حفظ الله عز وجل معجزات الأنبياء الحسية ، ليكون هذا الحفظ معجزة عظمى في الأرض ، ففيه توثيق سماوي وقطع بخلق آدم وحواء في الجنة ، ومعجزة آدم بأن كلمه الله قبلاً من غير واسطة ملك ، ومعجزة هبوط آدم وحواء إلى الأرض.
وكثرة الناس في أجيالهم المتعاقبة من زوجين ، وهذه الكثرة والإنتشار آية في العالمين ، مما يستلزم الشكر لله عز وجل.
وفيه بيان فضل الله على الناس بالأمور الإعجازية وأنه أعم من أن ينحصر بمعجزات الأنبياء ، ولو جاء شخص من عالم آخر وسئل هل تظن أن هذه المليارات من البشر وانتشارهم في الأرض هم من أب وأم واحدة فانه لا يصدق ، ويسأل لماذا الإقتتال والتناحر إذن بينهم ما داموا إخوة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
وقد ذكرت التوراة والإنجيل منها أخبار إبراهيم عليه السلام ، وأن إيليا أحيا طفلاً ميتاً ، كما في سفر الملوك:
(17:17 و بعد هذه الامور مرض ابن المراة صاحبة البيت و اشتد مرضه جدا حتى لم تبق فيه نسمة
17:18 فقالت لايليا ما لي و لك يا رجل الله هل جئت الي لتذكير اثمي و اماتة ابني
17:19 فقال لها اعطيني ابنك و اخذه من حضنها و صعد به الى العلية التي كان مقيما بها و اضجعه على سريره
17:20 و صرخ الى الرب و قال ايها الرب الهي اايضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسات باماتتك ابنها
17:21 فتمدد على الولد ثلاث مرات و صرخ الى الرب و قال يا رب الهي لترجع نفس هذا الولد الى جوفه
17:22 فسمع الرب لصوت ايليا فرجعت نفس الولد الى جوفه فعاش
17:23 فاخذ ايليا الولد و نزل به من العلية الى البيت و دفعه لامه و قال ايليا انظري ابنك حي
17:24 فقالت المراة لايليا هذا الوقت علمت انك رجل الله و ان كلام الرب في فمك حق)( ).
ومما أحياه حزقيال جيش عظيم دفعة واحدة بعد أن قتلوا
(37:9 فقال لي تنبا للروح تنبا يا ابن ادم و قل للروح هكذا قال السيد الرب هلم يا روح من الرياح الاربع و هب على هؤلاء القتلى ليحيوا
37:10 فتنبات كما امرني فدخل فيهم الروح فحيوا و قاموا على اقدامهم جيش عظيم جدا جدا)( ).
معجزة توثيق قصص الأنبياء
لقد جاء القرآن بذكر معجزات عدد من الأنبياء وجاءت السنة النبوية باخبار ومسائل عن الأنبياء السابقين سواء ممن ذكر القرآن أو لم يذكر فيه وفيه مسائل :
الأولى : قانون مصاحبة المعجزة لدعوة كل نبي ورسول.
الثانية : قانون التعدد في مصاديق المعجزة ، فكل نبي أو رسول له معجزة أو أكثر تناسب المجتمعات التي بعث فيها ، كما في مجئ موسى عليه السلام بالعصا لأن قوم فرعون يولون السحر عناية خاصة ، وكما في عيسى عليه السلام في إحيائه بضع أفراد وإبرائه للأكمه والأبرص لإرتقاء الطب في زمانه.
ولبيان الفضل الإلهي بأن الأمراض لها علاج ، وأسباب للشفاء ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بالفاء في [فَهُوَ] لبيان الفورية وتعقب الشفاء للمرض من غير فاصلة زمانية بينهما ، فمن رحمة الله عز وجل على الإنسان عدم بقائه مريضاً عليلاً مدة من الزمن .
وهل يمكن القول بأن هذا الشفاء العاجل من مختصات إبراهيم عليه السلام لجهاده وتعرضه للحرق في النار لثباته على الإيمان ودعوته الطاغوت للتوبة والإنابة أو أنه من مختصات الأنبياء ، الجواب لا .
فهو عام للناس جميعاً ، فالله هو المشافي ، وإذ أنعم الله نعمة على أهل الأرض فهو أكرم من أن يرفعها ، وتقدير الآية : وإذا مرضنا فهو يشفينا ، ووردت الآية بصيغة المفرد لتكون تلاوة المسلم والمسلمة لها سؤالاً وتضرعاً لشفائهم من الأدران والأمراض ، ومحو القادم منها وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالثة : دعوة الناس للتصديق بمعجزات الأنبياء ، وأنها أمر خارق لقوانين الطبيعة .
الرابعة : بيان فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مراتب النبوة بأن حفظ الله عز وجل بنبوته وأمته والقرآن معجزات الأنبياء .
الخامسة : مجئ السنة النبوية بطائفة من معجزات الأنبياء الأخرى ، لتكون تعضيداً لما ورد منها في القرآن ، وتفصيلاً وزيادة في اكتساب المسلمين للمعارف الإلهية .
السادسة : مما يمتاز به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام وجوه :
الأول : معجزات النبي محمد حسية وعقلية ، وليست حسية فقط.
الثاني : كثرة المعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد ومنها الواردة في هذا الجزء وأكثرها لم تذكر في التأريخ وعلم التفسير والسنة على أنها معجزات .
الثالث : كل آية من آيات القرآن البالغة (6236) آية معجزة في رسمها وتركيبها ومضامينها القدسية والمسائل والقوانين المستقرأة منها .
وقد صدر الجزء السابق وهو الخمسون بعد المائتين في إحصاء القوانين التي في الأجزاء (229-248) من هذا السِفر وعددها (3280) قانوناً.
تعريف المعجزة
المعجزة لغة اسم فاعل من الإعجاز الذي هو مصدر للفعل أعجز ، والمعجزة في الإصطلاح هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، السالم عن المعارضة ، أظهرها الله على أيدي الأنبياء .
والمعجزة خلاف قوانين الطبيعة ، ولا تخضع لقانون السبب والمسبَبَ الظاهري ، فلا يقدر فرد أو جماعة أو أمة الوصول إليها بالجد والإجتهاد ، والإبتكار والرياضات الروحية .
وكل آية في الكون هي معجزة من عند الله بما فيه خلق الإنسان وعمارته الأرض ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
ولكن المراد بالمعجزة في الإصطلاح الأمور الخارقة والباهرة التي جرت على أيدي الأنبياء دون غيرهم تُفاجئ الناس على نحو دفعي لتجذب العقول والحواس إلى الإيمان.
أقسام المعجزة
المعجزة نعمة ورحمة ولطف من الله عز وجل ، وهي على شعب :
الأولى : المعجزة الحسية اتي تدرك بالبصر والسمع فيراها الشاهد ، ويتدبر فيها ، ويخبر الناس بها .
الثانية : المعجزة العقلية ، وهي التي تخاطب العقول ، وتستقرأ منها المسائل والأحكام والقوانين ، وتتجلى هذه المعجزة بالقرآن ، لينفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المعجزة ، وهي باقية إلى يوم القيامة ، لتستنبط منها الأحكام وتتجلى فيها معالم التوحيد ، ووجوب طاعة الله .
ومن الإعجاز في المقام تجدد الشواهد التي تدل عليه في كل زمان ، وملائمة آياته للوقائع والأحداث .
الثالثة : المعجزة الحسية العقلية ، وهذا القسيم مستحدث هنا بأن تكون ذات المعجزة حسية عقلية في آن واحد ، والله واسع عليم .
تقسيم آخر للمعجزة
ويمكن تقسيم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدة تقسيمات منها :
الأولى : المعجزات الذاتية .
الثانية : المعجزات الغيرية التي تقع في الآخرين كالإنتفاع العاجل للصحابة من دعائه ، وأهل المدينة من استسقائه ، وكالأذى الذي لاقاه رؤساء المشركين الذين أكثروا من إيذائه.
الثالثة : المعجزة الذاتية الغيرية كما سيأتي البيان بعد بضع صفحات ومنها :
الأولى : المعجزة الوقتية .
الثانية : المعجزة المستديمة ، ومنها :
الأولى : المعجزة القولية .
الثانية : المعجزة الفعلية ، ومنها :
الأولى : المعجزة المترشحة من نزول آيات القرآن .
الثانية : المعجزة التي تأتي ابتداء وهي أيضاً بيان للقرآن.
المعجزات الحسية للنبي (ص)
من المعجزات الحسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم :
الأولى : معجزات ختم النبوة .
الثانية : معجزات ولادة ورضاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : معجزات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة دون غيرها من الأمصار .
الرابعة : دخول طائفة من أهل مكة الإسلام .
الخامسة : علم الصحابة الأوائل بشدة الأذى والضرر الذي ينتظرهم ، بدخولهم الإسلام ، ولكن الله خفف عنهم بقوله تعالى [َلنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى]( ) ليكون هذا التخفيف معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : معجزات هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة .
السابعة : الإسراء والمعراج .
الثامنة : عرض بيت القدس أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة ليصفه لقريش .
التاسعة : إنشقاق القمر ، قال تعالى [اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ]( ).
العاشرة : تحدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء قريش بصلاته في المسجد الحرام ، وتحمله الأذى في هذه الصلاة ، وإرادة قتله على نحو متعدد.

قسيم ثالث للمعجزة الحسية والعقلية
ويمكن القول بقانون مستحدث وهو كل من جنس المعجزة الحسية والعقلية لا يزال بكراً وفي بدايات التحقيق فيه ، وهو معجزة أخرى للقرآن وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبعد ألف وأربعمائة وأربع وأربعين سنة من الهجرة النبوية وهذا اليوم هو السادس والعشرون من شهر ذي القعدة الحرام لتؤسس فروع وأبواب في المعجزة النبوية.
وعن سعيد بن المسيب جمع عمر (المهاجرين والانصار فقال: متى نكتب التاريخ ، فقال له علي بن أبي طالب: منذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض الشرك – يعني يوم هاجر – فكتب ذلك عمر)( ).
وتقسم معجزات الأنبياء إلى قسمين :
الأول : المعجزات الحسية .
الثاني : المعجزات العقلية ، وينفرد القرآن بهذا القسم ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : اضفت قسيماً ثالثاً هو (المعجزة العقلية الحسية) ومنه قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
والمعجزة لغة اسم فاعل من الإعجاز ، والمعجزة في الإصطلاح الأمر الخارق.
ولا تخضع لقانون السببية والعلة والمعلول الظاهرية إنما سببها هو المشيئة الإلهية بالكاف والنون .
والمختار وفق علم التفسير والسيرة أن المعجزات العقلية هي الأكثر فكل آية قرآنية هي معجزة توليدية متعددة ، وعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية.
أما المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاختلف في عددها ، فمنهم من جعلها بعدد الأصابع ومنهم من أوصلها إلى مائة معجزة أو أكثر بذكر كل معجزة على نحو مستقل وموضوعها .
وذكرت في تفسيري هذا مئات المعجزات الحسية المستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسأذكر غيرها إن شاء الله.
المعجزة الذاتية والغيرية
وقد قسمت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقسيماً آخر وهي :
الأول : المعجزات الذاتية التي تتعلق بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كحديث الإسراء ، وانشقاق القمر ، وثوران الماء من بين يديه.
الثاني : المعجزات الغيرية التي تترشح عن فعل الصحابة أو تظهر على حال المشركين ، ومنها مثلاً هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة.
الثالث : المعجزة الذاتية الغيرية أي الجامعة لهما ، فيأتي الفعل متحداً ولكن إعجازه متعدد .
وقد تجتمع معها المعجزة العقلية في ذات الفعل مثل قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، فهذه الآية معجزة عقلية .
وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من الرمل ورميه على المشركين يوم بدر معجزة ذاتية ، وامتلاء عيون جيش المشركين جميعاً من هذه الرمية معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيه دعوة للعلماء ورجال التحقيق للتدبر في آيات القرآن والسنة النبوية ، وتتعدد المناهج .
وهل قتل الإمام علي عليه السلام لعمر بن ود العامري في معركة الخندق من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، فهو معجزة عقلية غيرية لقوله [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
و(عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) بعلي بن أبي طالب)( ).
وهو معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكرامة للإمام علي عليه السلام ولأهل البيت والصحابة ومعجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ عبر عمرو بن ود العامري الخندق ومعه جماعة ، وصاروا وجهاً لوجه مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه داخل الخندق .
(وَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثّغْرَةَ الّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ وَأَقْبَلَتْ الْفُرْسَانُ تُعْنِقُ نَحْوَهُمْ)( ).
لبيان أن الإمام علي عليه السلام ونفر من الصحابة منعوا من عبور خيل أخرى من تلك الثغرة والمكان الضيق فصارت جيوش قريش تنظر من خارج الخندق لما يفعله عمرو بن ود العامري وأصحابه ، وكان قد جرح في معركة بدر .
ليكون له إنذار أو تحذيراً وتخلف عن معركة أحد لشدة جراحته ، ولكنه لم يتعظ فخرج مع المشركين في معركة الخندق .
وطلب عمرو بن ود العامري المبارزة فقام الإمام علي عليه السلام (وَهُوَ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ أَنَا لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ فَقَالَ ” إنّهُ عَمْرٌو اجْلِسْ)( ).
يريد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقامة الحجة على المشركين بأنهم الذين بدأوا القتال وإتعاظ عشرة ألاف أفراد جيش المشركين من عمرو بن ورد إذا سقط قتيلاً بعد كثرة رعده ووعده ، وفعلاً حالما قتله الإمام علي عليه السلام انهزم الذين عبروا الخندق معه وأحدهم قتل في الخندق وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الشواهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً( ).
آيات السلم معجزة عقلية والعمل بها معجزة حسية
لقد جعل الله عز وجل للطفيل نوراً بين عينيه يُرى في ظلمة الليل فخشي أن يظن قومه أنه من المثلة والإبتلاء , لفراق دينهم , فتوجه بالدعاء إلى الله عز وجل (اللهم في غير وجهي)( ) فتحول في رأس سوطه وكان يسير على بعير والسوط يشع نوراً كأنه قنديل , قال (فأتاني أبي فقلت : إليك عني فلست منك ولست مني قال : وما ذاك يا بني قال : فقلت : أسلمت واتبعت دين محمد)( ).
ليقع ما قالته قريش بأن النبي محمداً يفرق بين المرء وابيه , ولكن الله عز وجل رحم الطفيل وكان أبوه شيخ كبير فأجابه : أي بني فان ديني دينك , فأسلموحسن اسلامه , وكذا أمه دخلت الإسلام.
ثم توجه الطفيل إلى رجال قبيلته دوس يدعوهم إلى الإسلام فأبوا عليه , مع الآية التي تصاحبه فعاد إلى مكة وشكا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جحود دوس وغلبة الزنا والربا عليهم وسأله أن يدعو عليهم .
فقال (اللهم اهد دوساً)( ).
وفيه دروس وتأديب وإصلاح وحسن توكل على الله عز وجل , ومقدمة لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحقق إستجابة دعائه , فعاد الطفيل إلى قومه إذ أسلمت طائفة منهم .
وهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , وتخلف الطفيل عن الإشتراك في معركة بدر وأحد والخندق .
قال (ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثمانين أو تسعين أهل بيت من دوس إلى المدينة فكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله مكة.
فقلت يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه قال : أجل فاخرج إليه فحرقه قال: فخرجت حتى قدمت عليه. قال: فجعلت أوقد النار وهو يشتعل بالنار واسمه ذو الكفين قال: وأنا أقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا … ميلادنا أكبر من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا)( ).
ثم عاد إلى المدينة وبقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , فخرج الطفيل في حروب الردة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل للدفاع عن بيضة الإسلام.
قال الطفيل (حتى إذا كنا ببعض الطريق رأيت رؤيا فقلت لأصحابي إني رأيت رؤيا عبروها قالوا: وما رأيت؟
قلت: رأيت رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأن امرأة لقيتني وأدخلتني في فرجها وكان ابني يطلبني طلباً حثيثاً فحيل بيني وبينه.
قالوا: خيراً فقال: أما أنا والله فقد أولتها.
أما حلق رأسي فقطعه ، وأما الطائر فروحي ، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي وأدفن فيها ، فقد رجوت أن أقتل شهيداً ، وأما طلب ابني إياي فلا راه إلا سيغدو في طلب الشهادة ولا أراه يلحق بسفرنا هذا. فقتل الطفيل شهيداً يوم اليمامة وجرح ابنه ثم قتل باليرموك بعد ذلك)( ).
معجزة السلم في السنة النبوية
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار الأمن والسلم ، فمع أن إبليس هبط للأرض للفتنة وعداوة بني آدم الا أن أيام السلم هي الأكثر في حياة الناس.
وهو من رشحات اسم السلام لله عز وجل وفي التنزيل [السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( )، والسلم في الأرض رحمة عامة من عند الله تتغشى البر والفاجر إذ يقهر الله الذين يقطعون صفاء أيام الدنيا والأمن فيها باشعالهم الفتن وإشاعتهم القتال والخراب ، والحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى .
ولقد تناجت قريش بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما بلغهم أنه وأصحابه يريدون الإستيلاء على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام والتي تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع ، فتجهزت قريش في ثلاثة أيام ليخرج منها نحو ألف من الرجال.
وهناك مسائل :
الأولى : ليس من دليل على إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على القافلة
الثانية : مناجاة كفار قريش بالحرب وجعجعة السلاح من مصاديق مقدمات سفك الدماء الذي حذر منه الملائكة من يوم خلق آدم ، فحينما أخبرهم الله عز وجل بأنه [جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
اجتهدوا بالدعاء لإزاحة الفساد ومنع الإقتتال والقتل في الأرض فاستجاب الله عز وجل دعاءهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة أحكام القرآن دستوراً نافذاً ، ومنه قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
ليكون حكم القصاص سبباً لنجاة القاتل والمقتول فاذا أراد أو همّ شخص بقتل آخر تذكر حكم القصاص وخشي على نفسه من القود فاجتنب القتل ، ولا يختص حكم القصاص ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هو سابق في رسالة أنبياء سابقين .
الثالثة : بين مقدمات القتال ونشوبه برزخ ومسافة وعوائق ، وهو من مصاديق [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، ومنه بخصوص أسباب المنع من معركة بدر :
الأولى : خوف قريش من بني بكر أن يغزوا مكة .
الثانية : طمأنينة قريش وسلامة القافلة ، وتوجهها إلى مكة قبل أن يصل الجيش إلى بدر .
إذ (أرسل إلى قريش قيس بن امرئ القيس: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله، فارجعوا، فأتاهم الخبر وهم بالجحفة)( ).
والتي تبعد عن مكة (187) بينما تبعد بدر عنها ثلاثمائة كيلو متر ، إذ رفض أبو جهل الرجوع والعودة إلى مكة ، وادعى أنهم يصلون إلى بدر ويقيمون ثلاث ليال ويقومون بأمور :
الأول : نحر الإبل .
الثاني : إطعام الطعام للجيش وأهل ماء بدر ، والركبان والمسافرين.
الثالث : شرب الخمر .
الرابع : عزف القيان اللائي جئن معهم ، وذكر أبو جهل هذه الأمور لترغيب عامة الجيش في السير إلى ماء بدر.
وقال (وتسمع بنا العرب وبسيرنا، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا)( ).
الثالثة : طلب جماعة من رجالات قريش أن يرجعوا لإنتفاء الغرض من الخروج .
ويدل كلامه في ظاهره على أنه يقصد بدراً ليس للقتال والحرب إنما للراحة وبعث الخوف في النفوس من قريش وصد الناس عن الإسلام ، وهو من المكر والدهاء ، فالظاهر أنه كان ينوي القتال ويقصد ملاقاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ولكنه استعمل التورية خاصة مع شدة الإحتجاج وعلو الأصوات بالرجوع إلى مكة.
فان قلت من أين علم أنه سيلاقيهم في بدر ، والجواب تتابع قريش أنباء مسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأين وصلوا وفي أي يوم وصلوا المكان الفلاني فادركوا أنهم لابد وأن يردوا ماء بدر للتزود بالماء فهي محطة عامة في الطريق وتبعد عن مكة (300)كم وعن المدينة (150)كم وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يقطعون مثل هذه المسافة في كتائب استطلاع ونشر للدعوة وبيان فضل الله في صيرورة المسلمين كثيري العدد ، ومتقيدين بطاعة الله ومخلصين لرسوله ، قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
وهل من رحمة الله عز وجل نصر المسلمين يوم بدر ، الجواب نعم ، فقد رضوا بالذلة والضعف وواجهوا بها عتاة العرب طاعة لله ورسوله فنزل الملائكة لنصرتهم.
معجزة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي
من معجزات النبوة ما تكون بدايتها في مكة , وتجددها ونمائها في المدينة , لتكون شاهداً على قانون استدامة المعجزة وبقائها غضة طرية إذيروي الطفيل أنه كان سيداً في قومه وهم قبيلة دوس من قبائل الأزد وقيل من عدوان .
ومسكنهم في مأرب وفي الغرب من شبه الجزيرة العربية .
وقدم الطفيل إلى مكة أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل هجرته إلى المدينة , ومشى رجالات قريش فتفاجأ بشدة تحذيرهم له من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(فقالوا: يا طفيل إنك امرؤ شاعر سيد مطاع في قومك وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه فإنما حديثه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا وعلى قومنا فإنه يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وزوجه وبين المرء وأبيه)( ).
ويفزع الإنسان عندما يسمع بهذه التفرقة وتنفر نفسه من أسبابها خاصة إذا كان رئيس قومه إذ لم يعرف ماهية هذا التفريق وموضوعه , إنما كانوا يقصدون دخول أفراد من العوائل المكية الإسلام , وعزوفهم عن عبادة الأوثان والتوسل بها , ولا ينحصر هذا العزوف بالمسلمين الأوائل , بل صار أمراً ظاهراً في مكة لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن آيات القرآن عبادة توجهت إلى مخاطبة العقول , وفضحت قبح عبادة الأوثان.
فأدرك رجالات قريش أن جدال الأبناء ذكوراً أو إناثاً بخصوص الأوثان المنصوبة في البيت الحرام , وسماعهم لآيات القرآن مقدمة لدخولهم الإسلام الذي نفذ إلى كل بيت من بيوت مكة , وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسر في بقائه في مكة ثلاث عشرة سنة يتلقى آيات القرآن النازلة من عند الله عز وجل.
وإذ رفع إبراهيم واسماعيل عليهما السلام بناء الكعبة على القواعد الموجودة أصلاً من أيام أبينا آدم عليه السلام كما قال الله [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
فإن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بنى قواعد الإسلام قبل الهجرة في مكة وما حولها بين المعتمرين ووفد الحاج كل سنة , وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وفيه شواهد سنوية متجددة على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان معجزة صيرورة رسالة إبراهيم عليه السلام وإسماعيل مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكمال الدين فيها ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
واستمر حديث قريش مع الطفيل وأكدوا لزوم إعراضه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن لا يسمع حديثه إلى أن عزم الطفيل على سدّ أذنيه عند دخول المسجد .
وقال (فعمدت إلى أذني فحشوتهما كرسفاً ثم غدوت إلى المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً في المسجد)( ).
مما يدل على حقيقة وهي كل من يدخل المسجد يرى النبي محمداً وهو في حال صلاة مما يدل على أنه يقضي أكثر نهاره في البيت الحرام.
وجلس الطفيل قريباً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاء الله أن يسمع تلاوته للقرآن مع أنه سدّ أذنيه بالكرسف , وهو القطن وعزم على الإعراض عنه وهو من مصاديق قوله تعالى [فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ]( ).
فاستدرك الطفيل والتفت إلى حاله , وكيف أنه ذا بصيرة ومعرفة وقدرة على الفصل والتمييز بين الحسن والقبيح من الأمور ، وأنه ليس في فعل النبي هذا ما يكون سبباً للتفريق بين الأب وابنه إلا بخصوص التضاد بين الحق والباطل وهو من بركات معجزة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وصلاته في بدايات البعثة في البيت الحرام ، حيث قدوم الناس من الأمصار إليه.
وقال الطفيل مع نفسه لأستمعن منه وأتدبر في شأنه ، وهل هو من الشعر أم السجع أم أمر خارق آخر , كان يظهر معناه من إلحاح كفار قريش في التحذير من الإستماع له , والإقتباس والأخذ منه , أو تركه واجتنابه إذا تبين خلاف الرشد.
فنزع القطن من أذنيه , وألقاه وصار يستمع لتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن , فهو شرف عظيم .
لم يحدث من قبل ولا من بعد بأن يستمع القرآن من الرسول الذي أنزل عليه مباشرة من غير واسطة .
ولما استمع الطفيل للقرآن أيقن أنه كلام أرقى من كلام البشر لفظاً ودلالة .
وهل من المشيئة الإلهية جذب الناس لقبول القرآن ، الجواب نعم ، وهو غير القول بالصرفة أي صرف الناس عن معارضة القرآن الذي لا أصل له ولا دليل عليه , لأن الناس وإن اجتهدوا فهم عاجزون عن معارضة القرآن , قال تعالى [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ) .
والقول بالصرفة قال به أفراد قلائل من العلماء في زمانهم , ولكن ما كتب عنه من الكتب والرسائل كثير وفيه أطناب .
لقد أدرك الطفيل أنه سمع كلاماً لم يسمع مثل حسنه وبهائه من قبل , فانتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انصرف إلى بيته فدخل الطفيل معه البيت.
وكانت قريش ترحب بالوافدين وجلس معه ، قال الطفيل (فقلت له : يا محمد إن قومك جاؤوني فقالوا كذا وكذا فأخبرته بالذي قالوا وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول وقد وقع في نفسي أنه حق فاعرض علي دينك وما تأمر به وما تنهى عنه)( ).
فلم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بسوء , ولم يشكُ ما يلاقيه منهم , إنما بادر إلى عرض الإسلام وأحكامه عليه ، فأسلم الطفيل من ساعته ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لبيان أن قريشاً أوجسوا خيفة وأدركوا أن القرآن يخاطب أولي الألباب إذا سمع الطفيل القرآن لا يبتعد عن الإسلام .
قال الطفيل : (يا رسول الله إني أرجع إلى دوس وأنا فيهم مطاع وأنا داعيهم إلى الإسلام لعل الله أن يهديهم فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه فقال: ” اللهم اجعل له آية تعينه على ما ينوي من الخير)( ).
معجزة ليلة البعير
ورد عن جابر بن عبد الله في خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة ذات الرقاع كان عنده جمل ضعيف.
وعند العودة إلى المدينة صار جابر يتخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وفيه شاهد على عدم جلب غنائم يستبدلون بها الإبل الضعيفة.
فعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جابر (مَا لَك يَا جَابِرُ ، قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا ، قَالَ أَنِخْهُ قَالَ فَأَنَخْته)( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : تفقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه اثناء المسير مع أن عددهم بالمئات ، وقال الواقدي (إنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة ويقال سبعمائة من أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس)( )، وهذا التفقد معجزة مستقلة.
الثانية : شجاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتواضعه برجوعه إلى الذي يتخلف من أصحابه .
الثالثة : تجلي المعجزات بمسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأناخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيره أيضاً ، ثم طلب من جابر أن يناوله العصا التي في يده ، وعندما أخذها رسول الله نخس بها الجمل بضع نخسات ثم قال لجابر : أركب ، وإذا هذا الجمل يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وسمّى جابر تلك الليلة ليلة البعير إذ قال (جابر بن عبد الله (استغفر لي رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة البعير خمساً وعشرين مرة)( ).
مسائل في سؤال النبي (ص) شراء البعير
لقد سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جابراً هل يبيعه هذا الجمل ، لبيان نكتة عقائدية نبينها هنا لأول مرة ، من جهات :
الأولى : موضوعية المعجزة في حيازة وتملك الدابة أو الشيء الذي تجري عليه المعجزة .
الثانية : زيادة ومضاعفة ثمن الدابة التي تجري فيها المعجزة .
الثالثة : لزوم نشر خبر المعجزة الحسية ، وإخبار الناس بها ، وقد قام الصحابي جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي بهذا الإخبار خير قيام ، خاصة وأن الله أمد في عمره ، وجعل المسلمين يرجعون إليه.
وقد فاز جابر بن عبد الله بحضور بيعة العقبة الثانية مع أبيه ، ولم يشهد معركة بدر ولا أحد ، منعه أبوه ، لإقامته على إعالة أخواته وعددهن سبع.
ولما قتل أبوه في معركة أحد خرج جابر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة حمراء الأسد في اليوم التالي لواقعة أحد إذ استثناه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أمره بعدم خروج شخص معهم ممن تخلف عن معركة أحد.
(وقال الكلبي: شهد جابر أحداً وقيل: شهد مع النبي ثمان عشرة غزوة، وشهد صفين مع علي بن أبي طالب ، وعمي في آخر عمره، وكان يحفي شاربه، وكان يخضب بالصفرة، وهو آخر من مات بالمدينة ممن شهد العقبة)( ).
إذ توفى في المدينة سنة أربع وسبعين للهجرة وعمره أربع وتسعون سنة.
وقول أن الذي حضر بيعة العقبة صغيراً هو جابر بن عبد الله بن رئاب.
الرابعة : تسمية تلك الليلة (ليلة البعير) لبيان موضوعية المعجزة في توثيق الأيام والتواريخ ، وتأديب الناس في المقام للتفقه في الدين وهو من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الخامسة : الزجر عن نحر البعير الذي وقعت فيه المعجزة ليكون شاهداً يومياً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولهداية الناس ، ولكن هذا البعير ليس مثل ناقة صالح التي هي معجزة بذاتها في خلقها وفي وفرة الحليب الذي تدره وفي البلاء الذي نزل بثمود عندما نحروها ، وقد نسبها الله عز وجل إلى نفسه بقوله [فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا]( ).
ولم يرد في القرآن تسمية ناقة صالح ، إنما هي ناقة الله لبيان معجزة عقلية تترشح عن المعجزة الحسية وهي ذات الاسم معجزة أخرى غير معجزة المسمى .
السادسة : ترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقتناء ما فيه أثر وبركة الرسول ، وذكره وروايته ، والإخبار عنه ، ومنه أن الله عز وجل مدّ في عمر جابر بن عبد الله ليروي وقائع أيام النبوة ، كما رزقه الله اصغاء المسلمين له في أحاديثه وذهابه إلى العراق ، ليستمع له التابعون من الأمصار.
فمنهم من يلتقي معه في موسم الحج والعمرة في المدينة أو مكة ، لا يبخل بالجواب ، و(جاور بمكة)( ).
وينقل تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ، ودلالة الوقائع فيها وينفي ما ليس صحيحاً من أخبار السنة النبوية ، وأصيب بالعمى في آخر عمره .
وحينما طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جابر بن عبد الله أن يبيعه الجمل ، أجابه أنه هبة لك يا رسول الله ، قال : لا ، ولكن بعنيه فسأله جابر أن يسومه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذته بدرهم .
قال : لا ، وفيه غبن لي ، أي أنه عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهبه البعير فأبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم صار جابر يماكس في الثمن فزاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال : فبدرهمين ، قال جابر : لا .
قال جابر (فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَمَنِهِ حَتّى بَلَغَ الْأُوقِيّةَ)( )، أوقية من الفضة ، أي أربعون درهماً ، وتساوي نحو (119) غرام من الفضة جابر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذته لتأكيد القبول والإيجاب في البيع .
سؤال النبي (ص) عن أحوال أصحابه
لقد سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جابر عن أحواله الخاصة فمع انشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي وتبليغ الأحكام ، وصدّ غزو وتعدي المشركين ، ودفع كيدهم ، ومكرهم خاصة وأنهم في طريق العودة بكتيبتهم التي خرجت من المدينة في السنة الرابعة للهجرة بعد أن بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بني ثعلبة وبني محارب من غطفان جمعوا الجموع وأعدوا العدة لغزو المدينة .
ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة من أصحابه( ).
وسميت ذات الرقاع لأن الصحابة تعبت أقدامهم فشدوا عليها الخرق لبيان تأريخي لأجيال المسلمين على ما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تثبيت دعائم الإسلام .
والإجماع على تسميتها (غزوة) فيقال : غزوة ذات الرقاع ، ولكن لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا مضطراً للخروج ولم يهجم على قرية أو بلدة سواء الذين قصدهم من بني محارب وغطفان أو غيرهم.
ومع كثرة الصحابة الذين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقديسهم لمقام النبوة ، وحرصهم على سؤاله والإنصات له ، والتدبر في سنته الفعلية فانه يتفقدهم ويسألهم عن أحوالهم الخاصة ، ويبين الأولى والأحسن.
وقد ورد لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة كلها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تفضل الله عز وجل بالجواب عنها بنفسه .
ويبين عدد هذه الأسئلة كثرة الأسئلة الأخرى التي وجهت إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوثق السنة النبوية شواهد كثيرة منها.
زواج الباكر
سار جابر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن صار بعيره قادراً على مسايرة الإبل والخيل ، فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل تزوجت بعد أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأن جابر أعزب.
قال : نعم ، قال : أثيباً أم بكراً.
قال : بل ثيباً ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثيقة في علم النكاح (أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُك)( ).
ليشكر المسلم الله عز وجل على نعمة النكاح ، وخاصة وطئ الباكر ، ولتحافظ المرأة على غشاء البكارة إلى حين مجيئ الزواج الدائم وليلة الزفاف وهو من أسرار بديع صنع الله عز وجل في جعله عند المرأة أمانة وحرزاً وقفلاً.
ويشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مسألة وهي أن ملاعبة الباكر لزوجها وبالعكس تتصف بالشوق والرغبة بالفطرة .
لذا حض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الزواج من البكر.
وورد عن طريق جابر (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بالأبكار ، فإنهن أنتق أرحاما ، وأعذب أفواها ، وأقل خبا ، وأرضى باليسير)( ).
والأبكار جمع بكر وهي المرأة التي لم يسبق لها الزواج والتي حافظت على عفتها وبكارتها .
وهذا الحديث مدرسة في علم الإجتماع والاقتصاد والمودة ، وحسن نظام الأسرة ، وهل هذا الحديث من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم لما فيه من تأسيس لمدارس في علم الإجتماع وسبل بناء الأسرة المسلمة ، والتنعم بالنكاح.
وهو لا يمنع من الحسن الذاتي لنكاح الثيب أيضاً ، بدليل ذات حديث النبي مع جابر إذ أنه أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن أبي –أي عبد الله بن عمرو بن حرام- اصيب يوم أحد وترك سبع بنات فنكحتُ امرأة جامعة تجمع رؤوسهن وتقوم عليها ، فقال له الرسول (اصبت إن شاء الله) لبيان قاعدة تقديم الأهم على المهم ، والأهم وحدة الأسرة والعناية بأفرادها خاصة أبناء الشهداء.
مقارنة تفضيل بين أذان النبي (ص) وأذان إبراهيم (ع)
قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ولم يرد لفظ الأهلة ، ولفظ مواقيت في القرآن إلا في هذه الآية ، وكذا قوله تعالى [وَالْحَجِّ] بواو العطف الواو
وهناك سورة من القرآن اسمها سورة الحج لبيان موضوعية الحج في تأريخ البشرية ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
فذكرت الآية الناس عامة لإفادة الألف واللام العموم الإستغراقي .
ولم يرد فيها لفظ الحج إلا مرة واحدة بقوله تعالى خطاباً إلى إبراهيم عليه السلام [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وهل تدل الآية أعلاه وذكر الأذان فيها على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء ، الجواب نعم ، إذ أذن وأعلن إبراهيم بالناس يدعوهم للحج أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيؤذن وأمته كل يوم خمس مرات للصلاة وتوالت الآيات التي تخص الحج وأحكامه.
كما ورد أذان الله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحج بقوله تعالى [وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]( ).
والحج الأكبر هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة وهو يوم النحر ، وذكر الله عز وجل في الأذان تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صحة وصدق الشهادة له بالرسالة في الأذان بعد التكبير وكلمة التوحيد (أشهد أن لا أله إلا الله ).
ولم يتنزه البيت الحرام والجزيرة العربية من الأوثان وعبادتها إلا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يوم فتح مكة ثلاثمائة وستون صنماً منصوبة فيها أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضربها بقضيب بيده واحداً بعد الآخر ، فخرت لوجهها وهو يقول [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) .
وهل تدل تسمية الحج الأكبر على تمام المناسك في حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
لذا ورد (عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ وَأَوْضَعَ فِى وَادِي مُحَسِّرٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا الْجِمَارَ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ وَقَالَ : خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّى لاَ أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِى هَذَا)( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم المستديمة استمرار أجيال المسلمين على أداء ذات مناسك الحج التي أداها من غير اختلاف بينهم.
فتتصدع المذاهب على صخرة وحدة الحج وهي معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن وجوه تفضيله في المقام أن أذان إبراهيم عليه السلام لخصوص الحج.
أما أذان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فللحج والصلاة والصيام والدفاع ، والتبرأ من المشركين ، ومعه المدد من الله عز وجل فيحفظه وينزل عليه آيات القرآن .
ويؤذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بكلمة التوحيد والرسالة وليس في الحج وحده ، وورد لفظ (يسألونك) خمس عشرة مرة في القرآن في ثلاث عشرة آية وكلها موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه إكرام خاص له.
المعجزة الحسية العقلية
وتقسم المعجزة النبوية إلى معجزة حسية وعقلية ، وقد أضفت لها قسيماً آخر وهو المعجزة الجامعة للحسية والعقلية.
والأذان معجزة حسية يومية مستديمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذان المسلمين خمس مرات في اليوم في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو معجزة عظمى اختص بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أنه لم يختص بالمعجزة العقلية إنما هناك آلاف المعجزات التي انفرد بها من بين الأنبياء ، وتتكرر معجزة الأذان كل يوم إلى يوم القيامة.
وهو دعوة للإيمان والتقوى والصلاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس للحج وحده كما في أذان إبراهيم عليه السلام.
ومنه في المقام ورود الجواب من عند الله على كل هذه الأسئلة بـ(قل) كما في الآية أعلاه منها [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي]( )، [يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي]( ).
فمن المعجزة العقلية أن الله عز وجل أنزل هذه الآية ، ومن العقلية والحسية مجئ الجواب للسائلين من عند الله عز وجل فهو عقلي بلحاظ التنزيل ، وحسي حسب موضوعه والأثر الواقعي المترتب عليه على نحو التجدد.
من السائل (يسألونك)
ترى من السائل في آيات (يسألونك) وصيغة الجمع فيها ، الجواب على وجوه :
الأول : الصحابة من المهاجرين والأنصار .
الثاني : أهل الكتاب من يهود المدينة والنصارى كنصارى نجران ، وكان اليهود يكثرون من سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ودرعه مرهون عند يهودي جار له مما يدل على أن اليهود لم يغادروا المدينة وأن آية السيف لم تشمل أهل الكتاب إذ ورد (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَفَتَ إِلَى أُحُدٍ فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا يُحَوَّلُ لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ دِينَارَيْنِ إِلَّا دِينَارَيْنِ أُعِدُّهُمَا لِدَيْنٍ إِنْ كَانَ فَمَاتَ وَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا وَلِيدَةً وَتَرَكَ دِرْعَهُ مَرْهُونَةً عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)( ).
وإن كان المختار لزوم تبديل اسم آية السيف ، إذ لم يرد هذا اللفظ في القرآن ولأن موضوع الآية [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وفي سبب نزول آية [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ]( )، ورد عن ابن عباس (قال : نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنمة ، وهما رجلان من الأنصار قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد فنزلت [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ]( )، في محل دينهم ، ولصومهم، ولفطرهم، وعدة نسائهم ، والشروط التي تنتهي إلى أجل معلوم)( ).
والأهلة جمع هلال ، وذات السؤال دليل على التفقه في الدين إذ كان أقوام يعبدون القمر ، وآخرون يعبدون الشمس ، فبين الله عز وجل أن القمر ومن أول ليلة لإطلالته هو مسخر للناس جميعاً وعمل المسلمين بأحكام الشريعة ، ليكون مقام الواو في والحج من عطف الخاص على العام ، وعطف الرحمة الخاصة على العامة فينتفع المؤمنون من قوله تعالى [مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ] كما في أوان الزراعات والحصاد ، والديون والسفر ، والولادات ، وعدة المطلقة ، وتنظيم الناس لأعمالهم حسب منهاج شهري أو يومي خاص .
وينتفع المؤمنون في عباداتهم في مناسك الحج ، والصيام والإفطار ، ومنه ثبوت هلال ذي الحجة أو إكمال عدة شهر ذي القعدة يحدد أوان الوقوف على عرفة بعد زوال يوم التاسع من شهر ذي الحجة ، ويوم الحج الأكبر وهو العاشر من شهر ذي الحجة.
وفي صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام (إن علياً عليه السلام كان يقول : لا أُجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين)( ).
لقد ابتلى الله عز وجل القمر بالزيادة حتى يصل بدراً مضيئاً بهيجاً ثم يأخذ بالنقصان كهبة كونية من الله لأهل الأرض ودعوة لهم للتفكر في بدائع الخلق قال تعالى في الثناء على أولي العقول الراجحة [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وقد صدر والحمد لله الجزء (236) من تفسيري هذا للقرآن معالم الإيمان خاصاً بتفسير هذه الآية في أكثر من ثلاثمائة صفحة ، وتجذب هيئة القمر وتبدلها زيادة ونقيصة الناس لتحقق مصداق التفكر الوارد في الآية أعلاه ، وإتخاذه وسيلة للهدى والرشاد.
معجزة نجاة والد النبي (ص) من الذبح
والد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب من قبيلة قريش ، وكان عبد المطلب يحبه حباً جماً .
وأم عبد الله هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ من بني مخزوم من قريش ، وانجبت من الذكور : أبا طالب ، والزبير بن عبد المطلب ، وعبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الإناث خمسة : احداهن أم حكيم البيضاء توأم عبد الله .
وقد رأى عبد المطلب رؤيا بأن يحفر بئر زمزم ووصف له في المنام بعد أن جف ماؤها لكثرة المفاسد ، وعندما علت خزاعة على جرهم قام رئيس جرهم مضاض بن عمرو وبعض ولده ليلاً بالقاء الغزالين الذهبيين والسيوف الثمينة المهداة إلى الكعبة في زمزم( ) وملئها بالتراب حتى لا تستحوذ عليها خزاعة وغيرها .
وبذل عبد المطلب جهداً بالغاً في تعيين موضع بئر زمزم ، ولما بدأت معالم البئر تظهر خاصة وأن تراب الدفن يكون رخواً ويختلف عن الأرض الأصلية وطبقاتها ، جاءت قريش وقالوا له لابد من اشتراكنا معك في حفر بئر أبينا إسماعيل ، وشعر بالإستضعاف فلم يكن معه إلا ولده الحارث ، ونذر إن رزقه الله عشرة من الولد أن يذبح أحدهم ، وأثناء الحفر خرجت كنوز الكعبة التي دفنت في البئر ، ومنها الغزالان الذهبيان.
فتجددت الخصومة والنزاع بينهم ، وأجريت القرعة وضربت القدح فخرجت إلى عبد المطلب .
وكانت غاية عبد المطلب سقاية الحاج ، وعدم المتاجرة بكنوز الكعبة وما أهدي إليها ، فضرب الأسياف على باب الكعبة ، وضرب فوق أحد الغزالين من الذهب ، وجعل الآخر في بطن الكعبة .
ولما تم له عشرة من الولد من أمهات متعددة أقرع بين ولده أيهم يذبح ، وهذه القرعة حرام.
فمن فضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قريش والمسلمين عامة تعلم أحكام النذر ، ولزوم خلوه من الضرر ، والنذر بذبح الولد باطل من أصله ، فأراد أن يذبح عبد الله قبل أن يتزوج ، فقام أخواله من بني مخزوم بالإحتجاج عليه ، ومنعه ، وأعانتهم أشراف قريش (وقالوا : والله لا تذبحه ؛ فإنك إن تفعل تكن سنة علينا في أولادنا وسنة علينا في العرب)( ).
وأيدهم أولاد عبد المطلب نفسه ، إذ لم يرضوا بذبح أخيهم ، وأحالوه على عرافة بالحجاز لها تابع من الجن لعلها تأمره بما فيه فرج .
أي أن بني مخزوم اجتهدوا في منع ذبح أبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن عندما بعُث بالرسالة كان أشد الناس عليه أبو جهل وهو من بني مخزوم .
وخرج عبد المطلب ومعه رجال من قريش إلى العرافة ، فاخبروها فأرجأتهم إلى اليوم التالي بعد أن يأتيها التابع من الجن ، ولما حضروا قالت كم دية المقتول عندكم قالوا عشر من الإبل .
قالت : فقربوا عشراً من الإبل وأضربوا القداح عليها وعلى صاحبكم أي عبد الله بن عبد المطلب ، فان خرجت القرعة عليه فزيدوا عشراً حتى يرضى ربكم بخروجها ، فرجعو إلى مكة وأجروا القرعة إلى أن بلغ عدد الإبل مائة فخرج القداح عليها ، ونجا عبد الله بمعجزة من عند الله عز وجل كمقدمة لولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الأب هو العلة المادية لولادة الولد ، وفرح الناس ونحروا الإبل .
ليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشرائط النذر ، وأن يكون طاعة لله وليس معصية ، وأما ما فيه الضرر فهو نذر غير صحيح ولا ينعقد ، ونذر عبد المطلب مما لا يجب الوفاء به ، ولا تصل النوبة للقرعة ونحوها ، فهو من نذر المعصية ، وليس فيه كفارة أو فدية .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)( ).
ليقضي الإسلام على نذر المعصية والتشديد على النفس والأهل ، وإصابتهم بالخوف والوجل من تنجز النذر .
وعن ابن عباس قال (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ، ويصوم ولا يفطر ، فقال مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)( ).
أسم والدي النبي محمد من معاني التوحيد والأمن
الاسم عنوان يعرف به شئ مخصوص ، ويستدل به على مسمى لتعيينه دون غيره ، والاسم سور جامع للأعيان والجواهر والعروض ولا يقترن بزمان ، مثل : الحسن ، قلم ، الكوفة ، الماء ، الأمان .
ولكن أسماء الأشخاص أخص من التعريف العام للاسم في علم النحو ، وكذا الأسماء الحسنى أخص من مطلق الأسماء ، ولها قدسية وخصوصية .
وقد شاعت أيام الجاهلية أسماء تدل على مفاهيم وثنية ولكن اسم والد النبي وإخوته من أبناء عبد المطلب خالية من هذه المفاهيم ، وهو من الشواهد على توارث بني هاشم مبادئ التوحيد.
وأسماء أولاد عبد المطلب الذي اسمه شيبة الحمد :
الأول : الحارث .
الثاني : حمزة الصحابي استشهد في معركة أحد .
الثالث : عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : أبو طالب وهو شقيق عبد الله وأمهما فاطمة بنت عمرو المخزومية ، وهو الذي تكفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة جده عبد المطلب ، وكان عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ثماني سنوات ، واختلف في اسمه على أقوال :
أولاً : عمران .
ثانياً : عبد مناف .
ثالثاً : كنيته هي اسمه.
وقد كتب الإمام علي عليه السلام (في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وكتب علي بن أبي طالب بإسقاط الألف)( ).
أي أن أبا طالب اسم علم .
وقد ذكر عبد المطلب في شعر له وصيته لأبي طالب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
(أوصيت مَنْ كنيته بطالب … بابن الذي قد غاب ليس بآئب)( ).
الخامس : الزبير : وهو شقيق عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : حجل .
السابع : المقوم .
الثامن : أبو لهب .
التاسع : العباس .
العاشر : ضرار ، وهو شقيق العباس .
ولما بلغ عبد الله ثماني عشرة سنة تزوج من آمنة بنت وهب بن عبد مناف من بني زهرة بن كلاب ، وهي من أفضل نساء قريش نسباً وشخصاً ، ولما دخل عليها حملت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وخرج عبد الله في تجارة إلى الشام وفي طريق العودة مرض وتوفى ودفن في المدينة (يثرب) عند أخواله بني عدي بن النجار ، واسم آمنة مبارك يدل على الأمن والأمان ، وهو باعث على السكينة .
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اسم أبيه وأمه ، فمع شيوع مفاهيم الكفر ونفاذها للأسماء فان اسم أب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنوان العبودية الخالصة لله وحده ، واسم أمه بشارة الأمن في رسالته.

رؤيا أمهات الأنبياء
لقد رأت آمنة أيام الحمل رؤيا مباركة وبشارة بشأن علو مرتبة المولود، وعن أبي أمامة (قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟
قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام)( ) .
وفيه دعوة لها للعناية بحملها ، ومواساة بوفاة زوجها ، وإخبار سماوي بأن المولود سيكون له جاه وشأن عظيم يتعدى حدود مكة والجزيرة.
والشام هنا كناية عن بلدان العالم .
وفيه نكتة وهي أنه حينما جاء أبرهة وجنوده لهدم البيت الحرام كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حملاً في بطن أمه فان الله عز وجل أراد أن يشد عضدها ويلقي عليها الصبر على الحمل ، والعناية به ، وعدم الجزع أو الخوف من أبرهة وجنوده ، إذ قد يسبب الفزع الشديد للحامل الإسقاط ، ولبيان لطف الله عز وجل بأمه بأن يكون هذا الحمل سبباً لبعث السكينة في نفسها , ونزول سخط وغضب الله بأبرهة وجيشه.
وقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قانون رؤيا أمهات الأنبياء ، أي أنهن يرين رؤيا مباركة تخص المولود ، والنفع العام الذي سيأتي معه ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنّي عبد الله في أُمّ الكتاب لخاتم النبييّن وإنّ آدم لمجدل في طينة وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى (عليهما السلام) قومه .
ورؤيا أْمي التي رأت إنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمّهات النبييّن)( ).
لتكون هذه الرؤيا سور الموجبة الكلية ، ومن المقدمات لحفظ كل نبي ورسول ، وهو حمل ، ولإخبار أمه أنه أمانة عظمى عندها سواء في حمله أو رضاعته .
معجزة ولادة النبي (ص) عام الفيل
لقد كانت ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ربيع الأول ، ويوافق شهر نيسان من سنة (571) ميلادية في دار أبي طالب بشعب بني هاشم ، وقابلته هي الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف ، وأرسلت أمه إلى جده بشرى بالمولود الكريم.
فجاء مسرعاً مسروراً وسماه محمداً لتشيع معه أنوار الهداية ، وتتغشى مكارم الأخلاق ربوع الأرض .
ولم يكن هذا الاسم متعارفاً عند العرب.
وهل سماه بالإلهام من عند الله ، أم برؤيا أم بإجتهاد منه ، المختار أنه برؤيا رآها ، وهي رؤيا صادقة أقرب إلى الإلهام وبالبشارات التي سمعها عن ولادته وبعثته ومنها بشارة سيف ذي يزن ملك اليمن لعبد المطلب إذ قال له بخصوص ولادة وخصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد ، اسمه محمد ، بين كتفيه شامة ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ، وقد وجدناه مرارا ، والله باعثه جهارا ، وجاعل له منا أنصارا ، يعز بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الأرض ، يعبد الرحمن ، ويدحر الشيطان ، ويكسر الأوثان ، ويخمد النيران ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله)( ).
وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية ، وهي أمة لأبيه عبد الله ، غلبت عليها كنيتها بابنها أيمن بن عبيد ، وزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بن حارثة فولدت له أسامة بن زيد ، وأول من أرضعته ثويبة أمة عمه أبي لهب .
وكانت ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفيل ، وبعد هلاك أبرهة بشهرين ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ).
وذكر أن عدد أفراد جيش أبرهة ستون ألفاً ، وكان يتقدمهم فيل ضخم الجثة وكان أبرهة يقصد هدم الكعبة بعد أن بنى كنيسة عظيمة في صنعاء عالية الفناء ، مزدانة الجدران أطلق عليها العرب اسم (القليس) لارتفاعها ، لأن الذي ينظر إلى سقفها تكاد قلنسوته تسقط عن رأسه ، وكرهت العرب هذا الأمر وذهب جماعة منهم إلى قريش واشتكوا الأمر .
وكتب أبرهة إلى النجاشي عن بناء الكنيسة وأنه عازم على صرف وجوه العرب لحجها .
فقام رجل من النسأة أي الذين كانوا ينسئون الأشهر في مكة ، ويغيرون في أوان الأشهر الحرم وهو من بني فقيم بن عدي فأحدث وتبرز في الهيكل ، وخرج والتحق بأرضه ، وأخبروا أبرهة ، فقال : من صنع هذا.
قيل له : صنعه رجل من العرب من أهل البيت الذي يعظمونه ويحجون إليه في مكة لما سمع عزمك على صرف حج العرب من البيت ، أي أنه أراد أن هذا البناء الضخم لا يصلح أن يكون بديلاً عن البيت الحرام الموروث حجه عن إبراهيم خليل الله.
فحلف أبرهة ليسير إلى البيت ويهدمه ، وكان يعلم شدة بأس جيشه وكثرته وقوته ، وأن العرب لا طاقة لهم بقتاله أو الذب عن البيت ، فأمر الحبشة ومن والاهم بالتجهز.
ولما سار أبرهة خرج بعض العرب لملاقاته وقتاله وصده عن البيت الحرام .
وأول من قاتله بعض قبائل اليمن ، إذ خرج له (ذو نفر) وهو من أشراف اليمن وفروع ملوكهم فدعى قومه وندب الناس لقتال أبرهة ، ورده وصده عن هدم البيت الحرام فهزمهم أبرهة ، وأسر ذو نفر ، وأراد أبرهة قتله.
(فقال أيها الملك إنما أنا عبدك فاستبقني فان حياتي خير لك من قتلى فاستبقاه ثم سار فلقيه نفيل بن حبيب الخثعمي فقاتله فهزم أصحابه وأسره فسأله أن يستبقيه ففعل وجعله دليله في أرض العرب)( ).
ولما وصل أبرهة إلى أرض خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلة خثعم ومن تبعه من قبائل العرب فقاتلهم أبرهة وهزمهم ، وأسر نفيل ولكنه سأل أبرهة أن يبقيه وتكون قبائل خثعم على السمع والطاعة فاعفاه ولم يقيده بوثاق مثل ذي نفر ، إنما خلى سبيله وجعله يسير مع أفراد الجيش ، وذكر أن أبرهة كان حليماً .
ولما وصل إلى الطائف خرج له مسعود بن مغيث ورجال من ثقيف ، وكانوا يخشون بطشه ، ويخافون على بيت اللات الذي عندهم ، فاعلنوا أنهم عبيد لأبرهة ، سامعون ومطيعون له ، وأن البيت الذي يقصده العرب ويحجون إليه هو في مكة ، فتركهم ، وبعثوا معه أبا رغال يدله على مكة .
وكان أبو رغال يسير أمام الجيش لأنهم أحباش لا يعرفون شعاب وطرق مكة بين الجبال ، فلما وصلوا إلى موضع يسمى المقمس مات أبو رغال ، فقبره بين مكة والطائف ، وكان في الجاهلية يرجم ، وجعل العرب رجمه كالشعيرة من شعائر الحج .
فلم تكن الخيانة معروفة عند العرب ،و(عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التى أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه)( ).
وأبو رغال كنيته ، وصارت تطلق على كل خائن من العرب ، لبيان قبح الخيانة وما فيها من الغدر والإضرار العام ، ولبعث النفرة منها .
وقال جرير:
(إذا مات الفرزدق فارجموه … كرجم الناس قبر أبي رغال)( ).
معجزة قراءة البسملة بوجه المشركين
أخرج البخاري في تأريخه عن الإمام الباقر عليه السلام (لم كتمتم [بسم الله الرحمن الرحيم] فنعم الاسم والله كتموا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل منزله ، اجتمعت عليه قريش ، فيجهر (ببسم الله الرحمن الرحيم) ويرفع صوته بها ، فتولي قريش فراراً ، فأنزل الله وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا( ).
لبيان الإعجاز والنفع العام للبسملة في بناء صرح الإسلام وحاجة المسلمين لها .
وفيه شاهد على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ، وأن كل آية لها منافع ودلالات ، وهي سبيل لجذب الناس للإيمان ، وصرف أذى المشركين.
لقد أجمع رؤساء قريش على ايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدعوته إلى الله عز وجل ، وهو ليس له ناصر إلا الله عز وجل فشد عضده بآيات القرآن ، فكانت البسملة سلاحاً لدفع أذاهم ، وهذا السلاح معجزة خاصة برسول الله ، لم يرزقها أحد ممن سبقه من الأنبياء أن يصرف أذى وضرر المشركين بتلاوة آية واحدة من القرآن تتألف من أربع كلمات ثلاثة منها من الأسماء الحسنى ، والآخر متعلق بها موضوعاً وحكماً.
وعدد حروف البسملة تسعة عشر حرفاً ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثانية : التباين بين السلاح والآية القرآنية كسلاح ففي القتال سفك دماء ، وقاتل ومقتول ، وقد يُقتل صاحب الحق ، ولكن الآية الكريمة ليس فيها سفك الدماء وهي مانع منه ، وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( ).
الثالثة : بيان إعجاز القرآن وأن أول آية منه حرز وواقية ودفاع ، لينبسط الأمر على آيات القرآن الأخرى ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الرابعة : قانون إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية البسملة وذكر بعض فرائدها ، وقانون ترغيب المسلمين بتلاوتها .
الخامسة : تجب قراءة البسملة عند ذبح الطير أو الأنعام ، وتستحب تلاوتها عند الشروع بالوضوء والغسل والتيمم ، وعند البدء بالأكل .
السادسة : قانون البسملة والتسمية واقية من أذى ومس الجن ، وعن الإمام علي عليه السلام (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ستر ما بين الجنِّ وعَوْرَاتِ بني آدَمَ إِذا دَخَلُوا الكُنُفَ أَن يقولوا : بسم اللَّه ، رواه الترمذي)( ).
معجزة استدامة التلاوة العامة للحمد لله رب العالمين
ينطق كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم بآية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وعلى نحو الوجوب العيني وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : تحقيق مصداق لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، كل ساعة من ساعات الحياة الدنيا للتفاوت الزماني بين أوقات الصلوات اليومية الخمس ، وللتباين في أداء المسلمين لها بحسب إختلاف الوقت بين مشارق ومغارب الأرض .
الثانية : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة اليومية وتلاوته لآيات سورة الفاتحة من منازل العبودية لله ، والإنقطاع إليه سبحانه ، وفيه أمور :
الأول : وجوب اقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإمتناع عن الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : اتقان المسلمين لأفعال الصلاة أجزاء وأركاناً .
الثالثة : الإعلان العام من المسلمين بالإيمان ، وإقرارهم بالرضا بفضل وإحسان الله عليهم .
الرابعة : الإستعانة بالحمد لله في سبل الهداية والرشاد.
وقد ذكرت في الجزء الأول من هذا السِفر بخصوص آية الحمد هذه (لقد إصطفى الله المسلمين بهذه الآية لتكون ضياء ينير لهم دروب الهداية، وشاهداً على تقيدهم بمفاهيم الشكر لله، ليتعاهدوا مدرسة النبوة في الأرض التي تتقوم بالشكر والثناء على الله تعالى، والإقرار بان كل ما في الخلق هو رشحة من رشحات رحمته، ومنقاد إليه، وعلامة كاشفة عن بديع صنع الله تعالى وأنه سبحانه يتعاهد الخلق باللطف ومضامين الربوبية.
وتنزع الآية عن الإنسان رداء الكبر والتعالي، وتجعل نفسه ممتلئة بالخضوع والخشوع لله تعالى)( ).
لقد جعل الله عز وجل الحمد له سبحانه مصاحباً للخلائق كلها ، وكل كوكب وفلك ومخلوق يسبح بذكر الله بالكيفية التي أودعها الله عز وجل فيه نطقاً أو فعلاً أو حركة ، لذا قال تعالى [وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ]( ).
وتجلت أبهى معاني الحمد على لسان وفعل الإنسان وهو من الشواهد على خلافته في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ووجوب عمارته الأرض بالحمد لله ، والذي تجلى ببعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية ليتفضل الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون من معجزاته نطق المسلمين اليومي المتعدد لقول الحمد لله وإلى يوم القيامة.
تلاوة سورة الفاتحة في الصلاة معجزة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوب تلاوة القرآن في الصلاة وجوباً عينياً ، وهذا الوجوب ليس اجتهاداً منه ، إنما هو بأمر من الله عز وجل .
وقد ورد الحصر في شرائط الصلاة على نحو متعدد منه :
الأول : ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة إلا بطهور)( ).
الثاني : وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب)( ).
و(عن أبي هريرة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يحدّث أصحابه؛ إذ دخل رجل يصلّي ، وافتتح الصلاة ، وتعوّذ ، ثم قال : [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رجل ، قطعت على نفسك الصلاة ، أما علمت أن [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] من الحمد فمن تركها فقد ترك آية ، ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته ، لا تكون الصلاة إلاّ بفاتحة الكتاب ، ومن ترك آية فقد بطلت صلاته)( ).
و(عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري.
فقلت : بلى. قال : بأي شيء تفتتح إذا افتتحت القرآن قلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال : هي هي)( ).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم البسملة كآية مستقلة مما يدل على إرادة فواتح السور ، وليس الآية في سورة النمل والتي تكون البسملة جزءً منها ، في قوله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
وذكر سليمان في الحديث النبوي أعلاه لبيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام من جهات :
الأولى : صيرورة البسملة آية مستقلة من القرآن .
الثانية : ابتداء نظم القرآن بالبسملة .
الثالثة : تلاوة المسلمين للبسملة في الصلاة لأنها آية مستقلة من سورة الفاتحة ، على خلاف في قراءتها من وجوه :
الأول : قراءتها جهراً في الصلاة الجهرية ، وبه قال الإمامية والشافعي ، وهو المختار .
ونسب إلى أكثر الصحابة ، إلى الإمام علي عليه السلام ، وإلى أبي بكر وعمر وعثمان وعمار بن ياسر ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وكثير من التابعين .
و(عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم( )، وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم.
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، عن أم سلمة، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين)( ).
الثاني : قراءة البسملة سراً ، وبه قال أبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل.
الثالث : قراءة البسملة في سورة الفاتحة خاصة .
الرابع : قراءة البسملة في كل سورة من سور القرآن .
الخامس : قراءة البسملة مستحبة في أول سورة الفاتحة وغيرها ، أما اذا قرأ من وسط السورة فلا تشرع البسملة .
السادس : قال مشهور المالكية لا تشرع قراءة البسملة في الصلاة المكتوبة جهراً ولا سراً ، ولكنها تقرأ في الصلاة النافلة وقيام الليل .
وقد وردت روايتان متعارضتان عن كل من أنس بن مالك وأبي هريرة في جهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر بالبسملة أو عدم قراءتهما لها .
وقام بعضهم بتوحيد وجمع هذا التعارض بالدلالة على أنهم كانوا يسرون بها ولا دليل على هذا الجمع ، والأصل بخصوص التعارض في المقام التساقط والرجوع إلى نصوص أخرى والتي تدل على الجهر بالبسملة.
وعن الضحاك قال (لا صلاة إلا بزكاة)( )، وهذا القول اجتهاد منه ، ولا أصل له ، إلا إقتران ذكر وجوب الزكاة مع إقامة الصلاة على نحو متعدد في القرآن ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مانع الزكاة في النار)( ).
معجزة وراثة المسلمين للأنبياء
لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن العلماء هم ورثة الأنبياء كما في حديث أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (من سلك طريقا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)( ).
وهل هذا الحديث ومثله من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
وقد ورث المسلمون الحمد والشكر لله عز وجل من الأنبياء ، وتدل عليه آيات القرآن ، فكل جيل من المسلمين حامدون لله عز وجل .
ويكون المسلمون والمسلمات ورثة الأنبياء في الثناء على الله والشكر له من جهات منها :
الأولى : وراثة نوح عليه السلام في الشكر لله من منازل العبودية إذ ورد (عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما سمى الله نوحاً [عَبْدًا شَكُورًا]( )، لأنه كان إذا أمسى وأصبح قال : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون)( ).
الثانية : وراثة وفاء إبراهيم عليه السلام بالحمد لله وعن (سهل بن معاذ بن أنس عن أمه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : سبحان الله حين تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحُونَ ، وله الحمْدُ في السّموَاتِ والأرْضِ وعَشِيّاً وحين تُظْهِرُونَ)( ).
الثالثة : تعاهد المسلمين للصلاة التي هي دستور النبوة ، ومنهاج الصالحين ، وتتقوم بقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وكل فعل من الصلاة من الشكر العملي لله عز وجل .
الرابعة : ورود الأحاديث النبوية باستحباب قول (الحمد لله) عقب كل صلاة ، وفي عامة أوقات الليل والنهار.
وعن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اصطفى من الكلام أربعاً : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر . فمن قال سبحان الله؛ كتبت له عشرون حسنة ، وحطت عنه عشرون سيئة ، ومن قال الله أكبر؛ مثل ذلك ، ومن قال لا إله إلا الله؛ مثل ذلك ، ومن قال الحمد لله رب العالمين . من قبل نفسه له ثلاثون حسنة ، وحطت عنه ثلاثون سيئة)( ).
وهل تعاهد الناس لقول (الحمد لله) والفعل الذي يدل عليه ضرورة أو أمر واجب أو مندوب ، الجواب هو الأول ، لأنه علة الخلق وسبب استدامة الحياة ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
وقد أسس الأنبياء سنة الحمد لله في الأرض وهو من أسرار إتصاف أول إنسان هبط إلى الأرض بصفة النبوة والرسالة ليرثهم المسلمون وأهل الكتاب ، واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فلا ينحصر قول الحمد لله بالمسلمين ، ولكنهم هم حملة لوائه وفق منهاج النبوة وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
مسائل وقوانين مستقرأة من حديث مالك بن الحويرث
عندما أتى مالك بن الحويرث ونفر من الشباب من بني ليث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقاموا عنده عشرين ليلة يتعلمون أحكام الشريعة ، ويحيطهم النبي بالعناية والرفق.
ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم اشتاقوا إلى أهليهم ، خاصة مع الرغبة في إخبارهم برؤيتهم للنبي محمد والسماع منه ، وأداء الصلاة معه ، ودعوة قومهم للإيمان.
فقال (ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَبِرُّوهُمْ وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لْيَؤُمُّكُمْ أَكْبَرُكُمْ)( ).
وفي الحديث مسائل وقوانين :
الأولى : قانون متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشخصية لأحوال الصحابة , والوفود .
الثانية : قانون حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إقامة أعضاء الوفود والأفراد مدة من الزمن في المدينة لحضور الصلوات وسماع آيات القرآن , والتفقه في الدين , وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن هؤلاء يأتون لرؤية شواهد النبوة ومصاديق الإعجاز في الرسالة النبوية , ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأخير إقامة الوفود ليكتشفوا معالم النبوة , والشواهد على صدق الرسالة , فليس عنده صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما يخاف إطلاعهم عليه .
الثالثة : عدم حبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوفود أكثر من أهليهم يأذن لهم بالإنصراف وقد يبادر إلى دعوتهم للرحيل عندما يرى عندهم أماراته وعلاماته .
كما في مالك بن الحويرث وأصحابه من بني ليث , وكلهم شباب , وهل من اشتياقهم لأهليهم إرادة إخبارهم عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحضهم على دخول الإسلام , الجواب نعم .
وفي التنزيل [يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ]( ) .
الرابعة : إقامة الشباب المؤمن في أهليهم ، وعدم الهجرة والإبتعاد لأنهم نواة الإيمان في البلدة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) .
الخامسة : قانون تعليم المؤمنين عامة الأهل والجيران وأهل البلدة أمور الدين , وتلاوة القرآن , والتفقه في أحكام الشريعة , وهل أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم [وعلموهم] من مصاديق وعمومات [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( ) الجواب نعم .
ليكون من معاني (اقرأ) التعلم والتعليم في مرضاة الله عز وجل.
السادسة : وجوب بر الوالدين , والإحسان للأهل وتحلي المؤمنين بالأخلاق الحميدة .
إذ أنهم سفراء الإسلام لقومهم والله يقول [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) , ليرى أهليهم أن سيرتهم صارت تتصف بالأخلاق الحميدة , والحسن الذاتي , والعفو والرفق والإحسان .
وتقدير كلمة (وبروهم) على وجوه :
الأول : وبروهم لأن الإسلام يوصي بالبر والإحسان .
الثاني : وبروهم لنشر شآبيب الرحمة .
الثالث : وبروهم لوجوب التراحم , والنسبة بين الرحمة والبر عموم وخصوص مطلق , فالرحمة أعم .
الرابع : كونوا دعاة إلى الله عز وجل بأن تبروا قومكم .
الخامس : من معاني البر الرأفة بالأهل والجيران وغيرهم , وتحمل الأذى في الدعوة إلى الله عز وجل .
السادس : نشر مفاهيم السلم والصلح والموادعة , وعدم الإجهاز على الذين يصرون على الكفر والجحود والذين يختلفون معكم بالرأي , قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السابع : قانون نهي المؤمنين عن العزلة عن قومهم إذ أن الناس يحتاجون إليهم في التبليغ , وبيان الأحكام , وذكر معجزات النبوة , فلا يستطيع أهل القرية أو البلدة أن يحضروا عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , ولكنهم يأخذون أخبار النبوة , ويتدبرون في شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوصف والبيان .
ولقد اختتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبته في حجة الوداع بالقول (أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثُمَّ قَالَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ)( ).
فقد ينقل أحدهم خبراً من أخبار النبوة لشخص آخر أو لعدد من الناس فينتفع السامع من الخبر أحسن وأكثر من الذي قام بالتبليغ , وهو من أسرار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً , قال تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( )ً.
محاكاة صلاة النبي (ص)
ثم قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وهذا الأمر مركب من وجوه :
الأول : وجوب الصلاة على كل واحد منهم .
الثاني : أداء الصلاة جماعة .
الثالث : الصلاة بمثل ما صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقانون أداء المسلمين الصلاة بمثل صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة للوئام ومنع للفتنة والشقاق .
فمن أسرار بقاء هؤلاء الشباب عشرين يوماً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحضرون الصلوات اليومية الخمسة اتقان كل واحد منهم الصلاة وصيرورته رسولاً لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكون فعله من مصاديق قانون تعاهد المسلمين لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية , وهو من مصاديق قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
الثامنة : قانون المبادرة إلى الصلاة عند دخول الوقت في كل فرض من الصلوات اليومية الخمسة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم (فاذا حضر الصلاة فليؤذن أحدكم).
التاسعة : بيان صفات إمام الجماعة (ثم ليؤمكم أكبركم) لمنع التشاح في الإمامة .
العاشرة : عدم حصر الإمامة بالصحابة الذين رأوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فان قيد (أكبركم) مطلق شامل , وهو برزخ دون الشقاق , وفيه بيان لصفات إمام الجماعة مع التساوي في العلم والقراءة .
وسكن مالك بن الحويرث البصرة ، ومات فيها سنة (74) للهجرة ، لذا قيل أن عمره يوم وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ست عشرة سنة أو أكثر قليلاً.

قول الحمد لله ومسك السموات
إكثار العباد من الحمد لله رحمة بهم ، ونعمة وتوفيقُ [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( )، وليس من حصر لمنافع قول الحمد لله ، وتكراره والمواظبة عليه ولا يحصيها إلا الله عز وجل ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهج كل مسلم ومسلمة بالحمد لله في أجيالهم المتعاقبة .
وهل يكون إكثار الناس من الحمد لله من أسباب استدامة الحياة الدنيا وإمساك الله عز وجل للسموات والأرض بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا]( ).
الجواب نعم ، مع كثرة أسباب وعلل إمساك الله عز وجل للسموات ، ومنع بعض الكواكب من السقوط على الأرض وهلاك الناس والتي لا يحصيها الناس وقول الحمد لله فرد ضرورة وحاجة منها ، وتدل على هذه الكثرة خاتمة الآية أعلاه بأن الله عز وجل هو الحليم الذي يمهل العباد ويعفو عن حال الجهالة والغفلة عندهم ، وهو الغفور للذنوب.
ومن بديع صنع الله عز وجل أنه لم يأت جيل أو طبقة من أهل الأرض إلا فيها أمة وطائفة تواظب على الحمد لله ، وهو من أسرار كثرة عدد الأنبياء والرسل إذ أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي وكل نبي له أنصار وأتباع من طبقته وطبقات لاحقة يتوارثون الصلاة .
والنسبة بينها وبين قول (الحمد لله) عموم وخصوص مطلق ، فالصلاة أعم ، وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
ولم يرد لفظ (أوصاني) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وورد لفظ (ما دمت) بالرفع مرتين في القرآن ، وكلاهما في عيسى عليه السلام وهو من إعجاز النظم الموضوعي لآيات القرآن إذ قال تعالى [مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
وهل قول عيسى [وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ] على نحو القضية الشخصية أم أنه عام ، الجواب هو الثاني ، وتقديره على وجوه :
الأول : وأوصاني وكل نبي بالصلاة .
الثاني :وأوصاني بالصلاة والحواريين.
الثالث :وأوصاني بالصلاة ومن اتبعني .
الرابع : وأوصاني بالصلاة تركة للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته .
الخامس : وأوصاني بالملازمة بين أداء الصلاة واتيان الزكاة.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأجر والثواب العظيم له على جهاده في الذكر وتوارث أجيال أمته قول الحمد لله ، ومنه تعاهد أجيال المسلمين الصلاة اليومية وبمثل ما صلاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون لواء الحمد يوم القيامة بيده ، وعن أبي موسى الأشعري (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني دعوت للعرب ، فقلت : اللهم من لقيك منهم مؤمناً موقناً بك مصدقاً بلقائك ، فاغفر له أيام حياته.
وهي دعوة أبينا إبراهيم ، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ، ومن أقرب الناس إلى لوائي يومئذ العرب)( ).
معجزة الدعاء
الدعاء عنوان جامع لأمور :
الأول : الإقرار بربوبية الله المطلقة وتعظيم لمقام الإلوهية ، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله تعالى .
الثاني : إظهار العبودية والمسكنة والخشوع لله عز وجل .
الثالث : البيان القولي والفعلي للحاجة إلى الله عز وجل .
الرابع : إظهار الضعف الذاتي ، قال تعالى [وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( )، ليكون الدعاء من أهم مقومات وتقديم هذا الضعف وكما قال تعالى لموسى عليه السلام [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ]( )، فان هذه النعمة لم تغادر الأرض ، ولها مصاديق متعددة في المؤمنين منها تقدير الخطاب لكل مؤمن (سنشد عضدك بالدعاء واستجابتنا له).
الخامس : بالدعاء يتجلى الخوف من الله عز وجل ، وهو من الخوف النافع في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السادس : الدعاء شكر لله عز وجل ، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب.
السابع : الدعاء شاهد على التنزه عن الرياء ومفاهيم الشرك والضلالة ، لأن العبد يتوجه في حاجاته إلى الله تعالى .
الثامن : بالدعاء تسليم بأن الله هو [الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان دّعاءّ ، ويأمر بالدعاء ، ويرى المسلمون استجابة الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه مصداق لبنوته ،وترغيب بالدعاء .
التلاوة معجزة قهرية في الدعاء
الدعاء ذكر لله ، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالذكر أعم ، وكذا النسبة بين الثناء على الله وبين الدعاء ، والقرآن مدرسة الدعاء ، وهو من المعجزات الذاتية والغيرية للقرآن ، ولابد من إحصاء آيات الدعاء في القرآن بتتبع آياته آية آية.
وقد يجتمع الدعاء والشكر لله والإقرار بالعبودية لله بجملة واحدة كما في قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (قال الله جل وعلا : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل)( ).
وقد تقدم في الجزء الأول من هذه السِفر أن من أسماء سورة الفاتحة الصلاة.
وقد صدر الجزء السابق وهو الخمسون بعد المائتين من هذا السِفر في تفسير آية واحدة من آيات الدعاء [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
لبيان أن الدعاء مدرسة الأخلاق الحميدة ، والإقرار بأصول وفروع الدين ، وباعث للعمل الصالح.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قيام كل مسلم ومسلمة بتلاوة القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني .
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وأفراد أمته في المشرق أو المغرب منشغلون بالدعاء وبحال الخشوع والخضوع والعصمة من الرياء .
معجزة تثبيت عبادة الله في الأرض
من معاني قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، وجوه:
الأول : ليعبدوني بالصلاة .
الثاني : ليعبدوني بالدعاء .
الثالث : ليعبدون باتباع الأنبياء .
الرابع : ليعبدوني بتلاوة القرآن.
الخامس : ليعبدون بالحمد والثناء علي .
السادس : ليعبدوني رحمة بهم .
السابع : ليعبدوني لتتوالى عليهم النعم والرزق الكريم .
الثامن : ليعبدوني لتستمر الحياة الدنيا وينزل الغيث من السماء ، وليس من برزخ أو حاجب يمنع رزق الله عن الناس برهم وفاجرهم .
التاسع : ليعبدوني لقانون الملازمة بين العبادة والخلافة في الأرض ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
العاشر : ليعبدوني فيباهوا الملائكة بالتقوى لما في العبادة من غلبة العقل على الهوى .
الحادي عشر : ليعبدونِ فاني أحب عبادة الناس لي ، وأحب الذي يعبدني من الإنس والجن ، وفي الحديث القدسي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (عن جبريل عن الله عز وجل قال : يقول الله عز وجل : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرود .
وما تقرب إلي عبدي المؤمن ، بمثل أداء ما افترضت عليه ، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته .
وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه .
وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك .
وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم( ) ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام أمور :
الأول : تثبيت عبادة الناس لله إلى يوم القيامة ، وبقصد القربة ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ).
الثاني : العبادة وفق الكيفية التي يريدها الله عز وجل .
الثالث : تعاهد المسلمين علة خلق الناس وهي العبادة .
الرابع : تعضيد أهل الكتاب في عبادتهم لله عز وجل ونبذ مفاهيم الشرك.
الخامس : تعدد وجوه عبادة المسلمين لله بأصول وفروع الدين المتعددة ، فمنها العبادة اليومية المتكررة في الصلاة.
ومنها الشهرية بصيام شهر رمضان.
ومنها السنوية وهو حج البيت ، ومنه الموسمية من الزكاة والخمس ، ومنه أداء العمرة على مدار أيام السنة ، إلى جانب الذكر والدعاء بشوق وعشق إلى الله عز وجل .
معجزة رشحات صلاة النبي (ص) اليومية
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعاهده الصلوات اليومية جماعة ليقتدي به الصحابة وأهل البيت وعامة المسلمين والمسلمات من جهات :
الأولى : البيان العملي المتكرر بوجوب أداء الصلاة اليومية وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
الثانية : ترغيب المسلمين بالصلاة وتنمية ملكة حب طاعة الله.
الثالثة : قانون اتقان الصحابة وأهل البيت للصلاة .
الرابعة : قانون الصلاة أعظم تركة في تأريخ الإنسانية وأول من تعاهد الصلاة آدم وحواء .
لقد أمر الله عز وجل آدم أن يبني الكعبة ، وهل كانت صلاة آدم قبل بنائها أم بعده ، الجواب هو الأول .
الخامسة : من المعجزات الحسية التي انفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة أجيال المسلمين المتعاقبة مثل صلاته.
السادسة : معجزة تقيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأداء الصلاة في أول وقتها , وإنشغاله بها عن غيرها .
(وقالت عايشة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه)( ).
السابعة : من رشحات صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاء الغلو عند المسلمين في شخصه , وهو من معجزاته فقد اجتهد في إظهار عبوديته وخوفه وخشوعه وخضوعه لله عز وجل وهو أعلم الناس بعظيم قدرته وسعة رحمته .
الثامنة : الصلاة من أعظم أسباب الجذب إلى الهدى والإيمان .
التاسعة : قانون الصلاة واقية من المعاصي والهّم بها , قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
العاشرة : معجزة وقانون حضور صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ضبط كيفية صلاة المسلمين كل يوم وإلى إنقضاء الحياة الدنيا .
قانون تعدد ذات المعجزة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المعجزة والدعاء والأمر والنهي يصدر منه أكثر من مرة .
وبخصوص معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة ورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال (إن قريشاً لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الإِسلام قال : اللهم أَعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله[فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله : استسق الله لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله [إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ]( ).
أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله [يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ]( )، فانتقم الله منهم يوم بدر ، فقد مضى البطشة والدخان واللزام .
وأخرج البيهقي في الدلائل ، عن ابن مسعود قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدباراً ، قال : اللهم سبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام ، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة ، فقالوا يا محمد : إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة ، وأن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسقوا الغيث ، فأطبقت عليهم سبعاً ، فشكا الناس كثرة المطر .
فقال : اللهم حوالينا ولا علينا ، فانحدرت السحابة على رأسه ، فسقي الناس حولهم)( ).
معجزة نزول الغيث
عندما احتبس المطر توجه المسلمون وغيرهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتجلى مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الرحمة نزول الغيث بعد القحوط ، ولأن مضامين الآية أعلاه مطلقة في كل زمان فقد شرع الله بوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الإستسقاء ، وتفضل بالإستجابة في الحال ليتخذها المسلمون سنة وأملاً ، ورجاءً وتنمية لملكة الإنقطاع إلى الله ساعة المحنة.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم توسله إلى الله بالدعاء والمسكنة ، وقراءته ثلاث آيات من سورة الفاتحة تدل على سعة رحمة الله عز وجل والثناء عليه لهدايتنا ، واجتهد في الدعاء لبيان أنه عبد الله عز وجل ورسوله.
وليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تجمع بين المعجزة الذاتية والغيرية تأكيده بأنه عبد الله ورسوله .
و(عن أنس أن رجلا قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا تستجرينكم الشياطين أنا محمد بن عبد الله أنا عبد الله ورسوله وما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله)( ).
أما (عبده) فلمنع الغلو في شخصه الكريم ، ومنع الغلو من بعده بالصحابة وأئمة أهل البيت والعلماء والملوك ، وأما قوله (رسوله) لدعوة الناس للتصديق بنبوته وأنه لا [يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى]( ).
ولبيان معجزة للنبي بقانون سرعة استجابة الله لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تجلت مصاديق عديدة لهذا القانون وفي حال اليسر والعسر ، وفي أشد الأحوال كما في معركة بدر إذ اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية وصبيحة يوم بدر ، فنزل قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وليس من فترة بين الإخبار السماوي عن استجابة الله وبين نزول جبرئيل بخمسمائة من الملائكة ونزول ميكائيل بخمسمائة آخرين.
وحينما ينزل المطر في الحال قد يفتتن بعضهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء في أيام حياته أو بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى فأخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أجيال المسلمين أنه عبد لله عز وجل ، وأن نزول الغيث رحمة من الله تعالى .
وأيهما أعظم نعمة نزول المطر يومئذ أم عدم الغلو لشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب هو الثاني .
لقد أراد الله عز وجل ورسوله أن يتوجه الناس إلى الله وحده في حال الرخاء والشدة.
ولبيان أن النعم من عند الله تعالى.
صلاة الإستسقاء
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريع صلاة الإستسقاء ، ووضع ضوابط وأحكام خاصة بها ، وجعل المسلمين في كل سنة يتوجهون إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة لنزول الغيث والمطر .
و(عن عائشة ، قالت : شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ، ووعد الناس يوما يخرجون فيه.
قالت عائشة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس( )، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ، ثم قال : إنكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر عن أوان زمانه ، وقد أمركم الله أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم.
ثم قال : الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين ، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره ، وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه.
ثم أقبل على الناس ، ونزل فصلى ركعتين ، فأنشأ الله سحابا فرعدت وبرقت ، ثم أمطرت بإذن الله ، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول ، فلما رأى سرعتهم إلى الكن( ) ضحك حتى بدت نواجذه .
فقال : أشهد أن الله على كل شيء قدير ، وأني عبد الله ورسوله)( ).
تكرر الإستسقاء
تتكرر معجزة الإستسقاء في المدينة من باب الأولوية القطعية من جهات:
الأولى : قانون انتفاع المسلمين من نعمة الإستسقاء .
الثانية : المطر رزق كريم ، فالمؤمنون أولى به .
و(عن أنس : قد أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو يخطبنا يوم الجمعة ، إذ قام رجل فقال : يا رسول الله ، هلك الكراع( )، هلك الشاء( )، فادع الله أن يسقينا ، فمد يده ودعا.
قال أنس : وإن السماء لمثل الزجاجة ، فهاجت ريح ، ثم أنشأت سحابا ، ثم اجتمعت ، ثم أرسلت السماء عزاليها ( ) فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم نزل نمطر إلى يوم الجمعة الأخرى.
فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال : يا رسول الله ، تهدمت البيوت ، فادع الله أن يحبسه ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : حوالينا ولا علينا فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل)( ).
الثالثة : تجلي المعجزة ، وكثرة الشهود عليها ، وبقاؤها إرثاً خالداً للمسلمين .
الرابعة : بيان قانون وهو عند عدم انتفاع المشركين من المعجزة فانها تأتي للمؤمنين لينتفعوا منها .
الخامسة : من خصائص المعجزة أنها سبب في زيادة إيمان المسلمين ، ودعوة للناس للإيمان ، فتكررت معجزة الإستسقاء النبوي في المدينة بعد الهجرة .
السادسة : لقد جاهد الصحابة في الدفاع عن بيضة الإسلام في معارك الإسلام الأولى بدر ، وأحد ، والخندق ، كما بذل الأنصار أموالهم وفتحوا بيوتهم لإستقبال المهاجرين ، فأراد الله عز وجل إثابتهم ثواباً عاجلاً بنزول الغيث عند القحط.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( )، الجواب نعم.
كيفية صلاة الإستسقاء( )
تستحب صلاة الإستسقاء عند الجدب وغور الأنهار وقلة الأمطار وهي مثل صلاة العيدين.
ويجزي في القنوت أي دعاء والأولى تضمنه سؤال الغيث والسقي ، والإلحاح بالتوسل إلى الله ، بارسال الأمطار.
والإستسقاء طلب الماء من الله أو من الناس طلب الغيث من الله ، قال تعالى [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا]( ) وقال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
يسأل المصلون في القنوتات الرحمة من الله تعالى بارسال الغيث واستعطافه عز وجل على خلقه، والإستغفار من المعاصي والذنوب وأسباب منع قطر السماء، ويصح بكل ما تيسر من وجوه السؤال والتضرع والسكينة، والأفضل المأثور الوارد عن المعصومين عليهم السلام.
يستحب فيها أمور:
الأول: ان يصوم الناس ثلاثة ايام، وان يكون الخروج في اليوم الثالث، وان يكون الثالث يوم الاثنين أو يوم الجمعة.
الثاني : استحباب الغسل للإستسقاء
الثالث : يستحب خروجهم الى الصحراء حفاة على سكينة ووقار إلا في مكة كيلا يخلو المسجد الحرام من عمارة ، قال تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
الرابع : يستحب اخراج الشيوخ والأطفال والعجائز معهم واهل الصلاح والتقوى، وان يفرقوا بين الأطفال وامهاتهم.
الخامس : اذا خرج الإمام من الصلاة يستحب له بعد أن يستقبل القبلة تحويل رداءه بأن يجعل ما على يمينه على يساره وبالعكس، لوجهين :
أولاً : التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : تفاؤلاً بتحويل الجدب خصباً .
ثم يستقبل القبلة ويكبر مائة تكبيرة رافعاً بها صوته، ثم يلتفت الى يمينه ويسبح مائة تسبيحة ثم الى يساره ويهلل مائة تهليلة ثم يستقبل الناس ويحمد الله مائة تحميدة، والمأمومون يتابعونه في ذلك كله، ثم يخطب الإمام ويبالغ في تضرعاته وان تأخرت الإجابة كرر ذلك حتى تدركهم الرحمة وينزل الغيث.
السادس : الخروج بهيئة الخضوع والمسكنة من غير زينة أو تبرج أو ترف ، وكذا بالنسبة للمركبة إلى موقع الصلاة .
السابع : عدم حصر التضرع على أوان الصلاة ، إذ يجتهد المسلمون بعدها بالإستغفار والتوسل والإبتهال إلى الله عز وجل ، وفي نوح ورد قوله تعالى [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *س وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا] ( ).
الثامن : إذا لم ينزل المطر يستحب إعادة الصلاة .
صلاة الإستسقاء سنة مؤكدة على الرجال والنساء خصوصاً اهل التقوى.
معجزة تحويل القبلة
قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
والمراد من الشطر أي الجهة وتلقاء جهة البيت الحرام ، وليس عين الكعبة .
[وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ] إعجاز وبشارة الفتوحات ، إذ يوم نزلت الآية كان المهاجرون والأنصار في المدينة في حال قلة وضعف ، إذ بعد نزول هذه الآية بشهرين وقعت معركة بدر ، وسماهم الله عز وجل يومئذ بالأذلة بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، مما يدل على أن قبله أذلة أيضاً وهو ليس من الإستصحاب القهقري بل من باب الأولوية القطعية .
وفيه تخفيف ورحمة ، ومنع من الخصومة والخلاف بين المسلمين في تعيين جهة القبلة ، فيكفي التوجه إلى الحرم ، نزلت هذه الآية في السابع عشر من شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بتحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، صلى ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ، وعن الإمام الصادق عليه السلام صلى سبعة أشهر .
قالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها لقد اشتاق الرجل إلى مولده ، وهذا اليوم يوم عرفة ، وفد الحاج على صعيد عرفة ، وسمي عرفات لأن إبراهيم قال لجبرئيل لما علمه المناسك قد عرفت يوم عرفة من عرفات ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( ) كانوا يذكرون آبائهم.
معجزة مواظبة المسلم على الحمد لله
لقد ورد لفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ست مرات في القرآن هي :
الأولى : قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
الثانية: قوله تعالى [فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
الرابعة : قوله تعالى [وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
الخامسة : قوله تعالى [وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدَين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
وهل يمكن القول بقانون القرآن (كتاب الحمد لله) الجواب نعم لبيان أنه مرآة للحياة الدنيا التي يجب أن تتزين في كل آن ودقيقة من الوجود بقول الحمد لله ، وهو من أسرار تقسيم أوقات الصلاة اليومية وفق الآيات الكونية التي هي متحركة ومتغيرة في أقطار الأرض ، فبلدة يصلى فيها صلاة الصبح وأخرى الظهر ، وأخرى العشاء ، وهكذا.
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعمارة المسلمين للأرض بالصلاة ، وقول الحمد لله بحال الخشوع والخضوع ، وقصد القربة إلى الله عز وجل ، قال تعالى [فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل المسلم يبدأ يومه بالحمد لله قولاً وفعلاً في صلاة الصبح ، ويختمه بقول الحمد لله في صلاة العشاء .
أما القولي فلوجوب قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة ، وأما الفعلي فان كل فعل من الصلاة ومقدماتها من الحمد الفعلي لله عز وجل ، ومنه الوضوء بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا…]( ).
وليكون نداء الإيمان أعلاه من شكر الله عز وجل للمسلمين والمسلمات على قولهم الحمد لله ، وعلى وقوفهم بين يديه في الصلاة ، وفيه تنمية لملكة الشكر لله عند المسلمين ، واللهج بذكر الله عز وجل في آنات الليل والنهار.
ترى ما هي الصلة بين أداء الصلاة اليومية وبين قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الجواب نسبة العموم والخصوص المطلق.
فالصلاة جزء من الذكر وهي سنامه ، ولبيان أن ذكر الله لا ينحصر بالصلاة وأدائها مع قيام المؤمنين بالتفكر في الخلائق والآيات الكونية بما يزيدهم إيماناً وإقبالاً على الصلاة بالجنان والأركان .
فالتفكر غير الصلاة لمقام الواو في [َويَتَفَكَّرُونَ] إذ تفيد المغايرة بينهما ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات بعدم إنشغال القلب في الصلاة بغير ذكر الله عز وجل .
معجزة [وَوَصَّيْنَا] فقهاً وأصولاً وكلاماً
ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن باضافة حرف العطف والإستئناف الواو وكلها في موضوع واحد وهو عناية وبر الإنسان بوالديه .
وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
وكل واحدة منها [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ] ووصينا فعل وفاعل ، والإنسان مفعول به .
لبيان فريدة من الوحي العام من الله إلى الناس جميعاً ذكوراً وإناثاً وبواسطة الكتب السماوية والأنبياء ومن غير واسطة.
كما ورد لفظ (وصينا) في آيتين آخريين ولكن من غير حرف (الواو) سواء للإستئناف أو العطف.
والوصية لغة هي إيصاء الشئ بالشئ .
وهي اسم مفعول ، والمصدر الإيصاء وسميت الوصية لأن الميت يصل بها ما بعد مماته بما كان في حياته وكأن إنجاز الوصي للوصية.
من فعل الميت الموصي لذا فهي رحمة وباب للتدارك ، وإقرار باليوم الآخر وعالم الحساب ، والوصية تطيل العمر ، وتركها مكروه.
ومع الواجب المطلق يكون تركها محرماً ، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا لم يوص الإنسان بالثلث أو أقل منه فلا يخرج الثلث وقد ذكرته مفصلاً في رسالتي العملية (الحجة) باب الوصية وأحكامها .
وهل من تقدير آية البحث : ووصينا الإنسان أن يوصي لوالديه وبوالديه ، الجواب نعم .
وبالنسبة للإنسان تجب الوصية لمن عليه واجبات ويلزم تفريغ الذمة منها سواء ديون لله عز وجل كالصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس ، أو للناس ، ورد الأمانات إلى أهلها ، ومنها ما تكون مستحبة ، ومنها فعل الخيرات والإنفاق في سبيل الله .
وجاءت الآية بضمير الجمع (نا) والمقصود هو الله عز وجل ولغة الجمع للتفخيم وبيان مقام العظمة والقدرة المطلقة لله عز وجل ، ولو اجتمعت الخلائق على وصية الإنسان بوالديه لم تستطع بلوغ معشار ما تنجز ويتنجز من وصية الله عز وجل للإنسان ، في هذه الآيات مع تشابه الفاظها.
وهو من مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل ، ويكون من مصاديق قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
أي الحمد لله على وصيته تعالى للإنسان مطلقاً بوالديه ، وصية لا يقدر عليها وعلى تجلي النفع منها في كل ساعة من الليل والنهار إلا هو سبحانه لتكون من أركان استدامة النظم الإجتماعية في الأرض ومقدمة ودعاء لعبادة الله وحده .
وقد ورد لفظ الجمع لإرادة الله عز وجل قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ]( ).
وبلحاظ صيغة جمع المتكلم العائدة لله عز وجل فقد ورد لفظ [إِنَّا نَحْنُ]( )خمس مرات في القرآن ، كلها تعود لله عز وجل منها ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ]( ).
ومع قلة كلمات الآية فقد ورد ضمير المتكلم للجمع فيها خمس مرات لبيان عظيم قدرة الله وسلطانه ، وأنه المالك للأشياء مطلقاً [وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ) .
ومن معاني صيغة الجمع في (ووصينا) بعث الناس على العمل بالوصية الإلهية التي هي واجب ، وهو من معاني وصيغة الخبر في القرآن وإرادة الإنشاء.
معجزات النبي في الوصية بالوالدين
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن ، والعمل بأحكامه وسننه ، منها تكرار وصيته بالوالدين على المنبر وفي أحاديثه وسنته الفعلية ، فمثلاً مع حاجة الإسلام إلى الرجال في الدفاع عن النبوة والتنزيل.
فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقدم الإحسان للوالدين على الجهاد والدفاع لبيان أنه واجب كفائب وليس عينياً .
و(عن عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان قال : فارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما)( ).
و(عن عبد الله بن عمرو قال جاء رجلٌ فاستأذنه في الجهاد فقال أحيٌّ والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد)( ).
ويدل تقديم الجار والمجرور (ففيهما) على الإختصاص والحصر.
و(عن معاوية بن حيدة، قال: قلت: يا رسول الله، من أبر ؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك ثم الاقرب فالاقرب.
وروى أبو داود عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن لي مالا وولدا، وإن أبي يحتاج مالي، فقال: أنت ومالك لوالدك وإن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم)( ).
(وروى الامام الشافعي مرسلا عن محمد بن المنكدر أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي مالاً وعيالاً ، إن لابي مالا وعيالا يريد أن يأخذ مالي فيطعمه عياله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لابيك.
(وروى مسلم عن ابن عمر قال : أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة أو الجهاد، أبتغي الاجر من الله.
قال : هل من والديك أحد حي ، قال : نعم بل كلاهما .
قال : فتبتغي الاجر من الله ، قال نعم ، قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)( ).
و(عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِىِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ.
قَالَ : وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ ، قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ : ارْجِعْ فَبَرَّهَا .
ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْجَانِبِ الآخَرِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ، قَالَ : وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ . قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا .
ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. قَالَ : وَيْحَكَ أَحَيَّةٌ أُمُّكَ ، قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : وَيْحَكَ الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ)( ).
و(عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ)( ) .
(وأخرج أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي ، عن أبي أسيد الساعدي قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : يا رسول الله ، هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به .
قال : نعم . خصال أربع : الدعاء لهما ، والاستغفار لهما ، وانفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما)( ).
و(عَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا قَالَ : هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ)( ).
إعجاز (ووصينا)
من الإعجاز في لفظ [وَوَصَّيْنَا] وجوه :
الأول : تكرار [وَوَصَّيْنَا] في ذات الموضوع دلالة على أهميته وموضوعيته.
الثاني : لزوم التقيد بأحكام ومعاني وصية الله بالوالدين .
الثالث : تقّوم الحياة الإجتماعية بعناية الأبناء بالآباء ، واقتباس سنن التوحيد والآداب منهم.
وتقدير الآية : ووصينا الإنسان بأخذ علوم التوحيد من والديه ، لذا استثنى الله عز وجل بالقول ، [وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا]( )، لبيان أن الوصية في المقام أعم من العناية بالوالدين وبرهما بل بالإنتفاع منهما ونفعهما في سبل الصلاح ، نعم هذا الإنتفاع من البر بمعناه العام .
الرابع : اقتباس مسائل الاحسان للوالدين من القرآن والسنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، كما أن حسن المعاملة ظاهرة عقلاً وعرفاً ووجداناً.
الخامس : إرادة الأجر والثواب للناس عامة ، وللمؤمنين خاصة في بر الوالدين .
السادس : بر الوالدين طريق للهداية والصلاح .
السابع : بر الوالدين إدخار لأيام الكبر ، وكما تحسن لوالديك فان أبناءك يحسنون لك ، وكما تدين تدان وهل هذه قاعدة كلية ، الجواب لا ، لعمومات قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، فقد يسئ إنسان لوالديه ولكن أبناءه يبرون به لتأديبه من الله ، وتذكيره بوجوب الإستغفار والتوبة والإنابة.
ومن فضل الله قانون إتصال البر بالوالدين بعد مماتهما بالإستغفار لهما ، والتصدق نيابة عنهما ، وقضاء ديونهما لله سبحانه وللناس .
وعن الإمام (الصادق عليه السلام قال: يكون الرجل عاقا لوالديه في حياتهما، فيصوم عنهما بعد موتهما، ويصلي ويقضي عنهما الدين،فلا يزال كذلك حتى يكتب بارا بهما وإنه ليكون بارا بهما في حياتهما فإذا ماتا لا يقضي دينهما ولا يبرهما بوجه من وجوه البر فلا يزال كذلك حتى يكتب عاقاً)( ).
بنود بيعة العقبة
لقد بايع الأنصار النبي محمداً في العقبة قبل الهجرة على أمور :
الأول : السمع والطاعة في النشاط والكسل ، للإطراد في تبليغ الدعوة ، وعدم الفتور فيها ، ولشدة طلب المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله وأصحابه .
الثاني : النفقة في سبيل الله في حال العسر واليسر لحاجة الدعوة للمال والسلاح .
الثالث : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكل منهما واجب كفائي ، وقد يكون عينياً .
الرابع : تعظيم شعائر الله بقول الحق والنطق بمفاهيم الهدى ، وبيان معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير خشية من المشركين ، لبيان قانون كل فرد من الأنصار داعية إلى الله من حين بيعة العقبة .
الخامس : نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : منع وحماية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم على الأنصار في المدينة ، وهذا المنع مطلق بكل الأحوال لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم يوم العقبة وقبل البيعة (وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فقمنا إليه [ فبايعناه ])( ).
ترى لماذا أوضح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنود بيعة العقبة الثانية ، الجواب لمنع الجهالة والغرر ، ولأن الثواب عظيم ، إذ وعدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة ، وتلقوا هذا الوعد بالقبول .
وهل هذا الوضوح معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم لبيان أنه متوكل على الله وأنه سبحانه يكفيه ويظهره على المشركين ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
لقد تمت هذه البيعة في مكة وخفية خشية من قريش وبطشها ، وكان عدد الأنصار يومئذ ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين وأكثرهم من الخزرج.
إذ كان عدد الخزرج فيهم اثنين وستين رجلاً ( ) أما الأوس فكانوا أحد عشر رجلاً ، ونسبة الخزرج بين أهل المدينة هم الأكثر .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخلاص أهل العقبة وموت بعضهم في سوح الدفاع عن الإسلام في معركة بدر ، وأحد ، وغيرها مثل سعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدراً وقتل يوم أحد ، وكذا خارجة بن زيد ، وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وقتل أميراً يوم مؤتة في شهر جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة ، أي قبل فتح مكة بثلاثة أشهر ، في شهر آب سنة 639 م ، وبلدة مؤتة في محافظة الكرك في الأردن حالياً .
إذ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين فيها زيد بن حارثة ، وقال أن أصيب فجعفر بن أبي طالب على لناس .
وأن أصيب فعبد الله بن رواحة على الناس ، وكان عددهم ثلاثة آلاف.
(فلما ودع عبدالله بن رواحة بكى فقيل ما يبكيك فقال أما والله ما بى حب الدنيا ولاصبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا)( ) .
فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال المسلمون صحبكم الله ودفع عنكم وردكم الينا صالحين)( ).
وقال شعرا :
(لَكِنّنِي أَسْأَلُ الرّحْمَنَ مَغْفِرَةً … وَضَرْبَةً ذَاتَ فَزْعٍ تَقْذِفُ الزّبَدا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرّانَ مُجْهِزَةً … بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتّى يُقَالَ إذَا مَرّوا عَلَى جَدَثِي … أَرْشَدَهُ اللّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا)( ).
وكان شعر عبد الله بن رواحة يشجع المسلمين ويسعى في إذهاب خوفهم من لقاء هرقل وجيشه العرمرم .

معجزة التباين بين بيعة العقبة والحديبية
وفي بيعة العقبة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد عن عبادة بن الصامت أن النقباء (بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا ننتهب ولا نعصي بالجنة إن فعلنا ذلك فإن غشينا من ذلك شيئا كان قضاؤه إلى الله عز وجل)( ).
وكان عدد الذين حضروا بيعة العقبة من الأوس والخزرج سبعين بخوف وخشية من كفار قريش .
أما في الحديبية وبعد مرور سبع سنوات على بيعة العقبة فكان عدد المهاجرين والأنصار الذين حضروا بيعة الشجرة ألفاً وأربعمائة ، عدا المسلمين والمسلمات الذين بقوا في المدينة وما حولها ، والذين في مكة يخفون إسلامهم وغيرهم .
لبيان أن كثرة عدد المسلمين مع قلة المدة بين البيعتين ، وتغير حال المسلمين من الخوف إلى الأمنة معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة في مكة بعد البعثة وقبل بيعة العقبة وهو يدعو الناس للإسلام ، ويسعى في موسم الحج بين وفد الحاج ، ويذهب إلى منازل القبائل في أسواق مكة مثل عكاظ ، ومجنة ،وذي المجاز ، وكان يدعوهم لأمور:
الأول : دخول الإسلام .
الثاني : إيواء رسول الله ودفع أذى قريش عنه .
الثالث : الإلتجاء إلى قبيلة عربية ينجو بجوارها من القتل .
الرابع : نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنسبة بين هذا الأمر والأمر الثالث أعلاه العموم والخصوص المطلق ، فالنصرة أعم وأعظم ، وتجتمع هذه الوجوه في إعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتبليغ الرسالة ، وكان يعدهم بالجنة ، فلا يجد منهم إلا الإعراض والجفاء ، بل أن الرجل يخرج من اليمن أو من بلدته وقريته قادماً إلى مكة فيحذره الناس من الإنصات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا مرّ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إليه بالأصابع تحذيراً لغيره [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )
فبعث الله وفد الأنصار من الأوس والخزرج لنصرته ومبايعته ودعوته ليس لقرية إنما لمدينة كبيرة وهي يثرب ، لذا يتفاخر جابر بن عبد الله بالبيان إذ يقول في حديث (حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام)( ).

البيعة على عدم الفرار وليس على الموت
بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدم الفرار من القتال وليس على الموت.
و(عن معقل بن يسار قال : لقد رأيتني تحت الشجرة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها على رأسه ، وتحتها أربع عشرة ومائة.
قال: لم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على أن لا نفر)( ).
وفي رواية بايعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصبر ، والنسبة بينه وبين عدم الفرار عموم وخصوص مطلق للدلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع ، وأنه لا ينو الغزو والهجوم والقتال ، ولكن إن اعتدى المشركون عليهم فيجب الثبات في الميدان وعدم الفرار ، وهناك مسائل :
الأولى : موضوعية هذه البيعة في عقد صلح الحديبية .
الثانية : إنتفاع المسلمين من هذه البيعة على عدم الفرار في فتح مكة ، وبعث الفزع والخوف في قلوب المشركين ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة : تنبيه الصحابة إلى ضرورة عدم الفرار في معركة حنين عندما فاجأتهم هوازن وثقيف بهجوم مباغت شرس وسريع ، إذ أن أفراد القبائل يتحركون بسرعة في القتال ، فهم ليسوا كالجيش النظامي الذي تتصف حركته بالبطئ ، لتحضر سورة البقرة في ميدان معركة حنين ، ويرجع الفارون من الصحابة ويشتد القتال ، ويكتب الله النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ببركة القرآن .
ومن خصائص البيعة على عدم الفرار ، وليس على الموت ، أنه لا يريد لأصحابه القتل ، وأنهم إذا ثبتوا في مواضعهم فان الله عز وجل يمدهم بأسباب النصر ، ومنها نزول الملائكة ، لذا ورد أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصبر ، وهو مقتبس من قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) .
وعن (جويرية عن نافع : قال ابن عمر رجعنا إلى العام المقبل ما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله فسألت نافعا، على أي شئ بايعهم ؟ قال: بايعهم على الموت، قال: لا بل بايعهم على الصبر)( ).
وإنهزمت هوازن يوم حنين شر هزيمة مقرونة بترك نسائهم وذراريهم وأموالهم خلفهم .
وكان مع هوازن دريد بن الصمة ، وقد كبر وذهب بصره، فلما سمع رغاء البعير ونهيق الحمير وخوار البقر وثغاء الشاء وبكاء الصبيان سأل عن الأمر، فقيل له أن مالك بن عوف وهو رئيسهم أمرهم بحمل الذراري والأموال والدواب معهم ليقاتلوا دونهم فقال : راعي ضأن ورب الكعبة، ثم طلب مالكاً وسأله رد النساء والصبيان، فلم يرض .
وتظهر هذ الواقعة وما قاله دريد بن الصمة أن مالكاً أخطأ تقدير الحال وهذا صحيح ، ولكن الأمر أكبر وأعظم إذ أن نصر المسلمين جاء بنزول الملائكة وبآية من عند الله، بدليل أن الغزاة المعتدين من المشركين أخرجوا أهليهم وأموالهم معهم، ولم يحتجوا على مالك فيما طلب منهم، وليس له القوة بحيث يحثهم على إخراج أهليهم.
كما أن بداية المعركة تدل على حنكته في القتال ، ودقة التخطيط ، وسرعة المباغتة لولا قانون مكر الله بالمشركين .
وقد أدركت الجيوش وقيادات الأركان في هذا الزمان موضوعية المباغتة في الحرب وما يسمى (خطة الحمامة) ، ولكن المعجزة أمر خارق للعادة ، سالم عن المعارضة ، فلا ينفع المشركين إجتهادهم في القتال ، وخدعتهم في خططه ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
النسبة بين البيعة على الموت وعلى عدم الفرار
ترى ما النسبة بين الأمرين ، بين البعثة على الموت والبيعة على عدم الفرار ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ففي عدم الفرار الصبر والظفر والنصر ، أما الموت فانه إنقطاع لجيل الصحابة ، وأمر يضر وجود الإسلام.
وإزاحة لموانع رجالية بوجه المشركين وفيه إحتمال قتل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يريد لأصحابه ولا عامة الناس الموت ، لذا فان من معاني مناداته أصحاب سورة البقرة إرادة سلامتهم من القتل لحفظ سورة البقرة في الصدور ، وتلاوتها في الصلاة ، وجعلها تركة للأبناء والتابعين ، وحاجتهم لها ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل من صلة بين فرار طائفة من المسلمين يوم أحد في السنة الثالثة للهجرة وبيعة الشجرة .
الثانية : هل من صلة بين بيعة الشجرة في السنة السادسة للهجرة وبين معركة حنين في السنة الثامنة للهجرة.
أما المسألة الأولى فالجواب نعم , لبيان أن بيعة الشجرة (الرضوان) تدارك ومنع من تكرار فرار المسلمين من الميدان وإن وقع القتال .
وبين معركة أحد وصلح الحديبية ثلاث سنوات وشهر واحد , وبخصوص معركة أحد قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) إذ نزلت الآية في بني حارثة من الأوس وبني سلمة من الخزرج , هموا بالإنسحاب من مواضعهم يوم أحد , فعصمهم الله عز وجل لينج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وقد اثنى الله عز وجل عليهما بقوله [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
وهل من هذه الولاية بيعة الرضوان الجواب نعم , وقانون اصرار الصحابة على الثبات وإن هاجمهم المشركون .
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم , إذ أن بيعة الشجرة (الرضوان) مقدمة للإحتراز والأمن من الضرر والهزيمة يوم حنين لإرتكازهما على قانون عدم فرار المؤمنين من جيوش الشرك والضلالة .
معجزة نجاة النبي (ص) ليلة المبيت
لقد سعى المشركون للبطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتخذوا دار الندوة للمكر والكيد به ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وعلمت قريش أن طائفة من أهل المدينة دخلوا الإسلام وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل مصعب بن عمير سفيراً إليهم ، وهاجر إليها عدد من الصحابة فاكرمهم الأنصار .
وهذا الإكرام معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ،وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام ، والإعراض عن أذى قريش بالإبتعاد عنهم بالفرار بالدين والعقيدة وقبلها كانت هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة ، وتصل الأخبار إلى مكة بسلامتهم وبقائهم على دين الإسلام في حكم الملك العادل النجاشي .
(فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج وأُميّة بن خلف)( ).
وكان مما قالوا :
الأول : اقترح أبو البحتري أن يأخذوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويشدوا وثاقه ويحبسوه ، ويغلقوا عليه الباب ، ويقدموا إليه طعامه ، ويصبروا عليه حتى يهلك كما مات من الشعراء زهير والنابغة وهو كواحد منهم ، وهذا القول مصداق لقوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ]( ).
ولم يحض هذا الإقتراح بالتأييد من رجالات قريش لصيرورة عدد المسلمين في مكة كثيراً وأنهم سينتزعونه من أيديهم ولو اضطروا إلى القتال لإنقاذه لبيان عجز قريش عن وضع حراس سجن على النبي محمد ، وهو من معجزاته بأن الكفار صاروا يخشون كثرة المسلمين ، وكأنهم في سباق مع مكر قريش ، ووقوف هذه الكثرة حاجزاً دون تحقيق كفار قريش غاياتهم الخبيثة في الإضرار بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات الحسية له ، وآيات التنزيل .
الثاني : قال هشام بن عمرو وهو من بني عامر من لؤي : أرى أن تحملوه على بعير فتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يضركم ويغيب عن مكة ، وينقطع إتصاله بشبابها ، وبالوافدين إليها في موسم الحج وأيام السنة كلها ، ويكون أمره في غيركم سيخرج وحده ، وسيكفيكم الناس أمره ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَوْ يُخْرِجُوكَ]( ).
أي أن هشام بن عمرو لم يقترح ما فيه قتل النبي مباشرة ، وكان هشام هذا مع كفره سعى في فك حصار قريش عن بني هاشم ، فاتجه إلى بني مخزوم وهم من أشد الناس عداوة وحسداً لبني هاشم لإقناعهم بفك الحصار فتوجه إلى زهير بن أبي أمية المخزومي لأن أمه من بني هاشم وهي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وغيره لإعانته في فك الحصار .
وسرعان ما ردت قريش اقتراح هشام بن عمرو لإدراكهم لقانون جذب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإسلام سواء في مكة أو خارجها وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتسليم رؤساء الكفر من جهات :
الأولى : شيوع أنباء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرى والأمصار .
الثانية : قانون قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده في جعل الناس يدخلون الإسلام له .
الثالثة : قانون مصاحبة المعجزة العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وإدراك الكفار لهذه الآية معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعلم عدد الذين دخلوا بسببها الإسلام إلا الله ، سواء من الذين أدركوا هذه المعجزة أو ممن سمعوا منهم ، ورأوا آثارها عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
الثالث : تكلم أبو جهل (عمرو بن هشام ) بدهاء وحسد وخبث وقسوة ، إذ قال (لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره : إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا)( ).
وعن ابن عباس وغيره من المفسرين إن إبليس كان حاضراً وقال (صدق هذا الفتى وهذا أجودكم رأياً ، القول ما قاله لا أرى غيره.
فتفرقوا على قول أبي جهل ، وهم مجتمعون أتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه)( ).
لتكون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له ، وحاجة لشخصه وللتنزيل وأجيال المسلمين والناس جميعاً ، وحتى أوان المعجزة معجزة أخرى مستقلة ، إذ أنها لا تقبل الإرجاء .
معجزة أخذ آباء النبي العهود من ملوك زمانهم مقدمة لبعثته
كان هاشم (والد عبد المطلب) أكبر ولد عبد مناف ، والمطلب أصغرهم ، وسمي هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه في مكة وأطعم الفقراء ، وكل هؤلاء الأربعة ابناء عبد مناف (المغيرة) سادوا بعد أبيهم وصار يقال لهم (المجبرون) ومعناه جَبَر الله تعالى بهم قريشاً ، لأنهم وفدوا على الملوك بتجارتهم وهداياهم فأخذوا لقريش العصم والأمان في أرضهم، من جهات:
الأولى : أخذ هاشم عهداً من ملوك الشام الروم وغسان فاختلفوا بتجارتهم إلى أرض الشام وبلاد الروم .
الثانية : أخذ نوفل عهداً من ملوك الفرس فارتادت قريش أرض العراق وفارس .
الثالثة : أخذ عبد شمس عهداً لقريش من النجاشي الأكبر ليختلفوا إلى أرض الحبشة ( )، وحتى إلى أرض اليمن عندما احتلتها الحبشة .
الرابعة : أخذ المطلب عهداً (جبلاً) من ملوك حمير لتختلف قريش إلى بلاد اليمن ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( )، الجواب نعم .
فأبى الله عز وجل أن تكون عبادة الأوثان من تجارة أهل البيت الحرام إلى هذه الأمصار ، إذ كان بعض قريش يأخذ صنمه معه كما قاموا بنصب الأصنام في الجادة العامة.
لقد قام الأنبياء السابقون بالبشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما وردت الإشارة إليه في التوراة ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
ليأتي سعي آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطلب العهود والأمان في الأمصار مقدمة لضرب قريش بالتجارة مع البلدان خارج الجزيرة حتى إذا ما نشبت الحرب بين الدولة الفارسية والروم تولت قوافل قريش حمل التجارات والبضائع القادمة من الهند واليمن إلى كل من العراق والشام وجلب البضائع منهم .
ليكون من معاني رحلة الشتاء والصيف أن العير محملة في الشتاء ذهاباً وإياباً وكذا في الصيف ، ويمكن معرفة عدد إبل القافلة الواحدة إجمالاً ، إذا علمنا أن قافلة أبي سفيان التي وقعت معركة بدر بسببها تتألف من ألف بعير.
ومن الإعجاز ومقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سماع رجالات قريش الأخبار نبوة آخر زمان ، صفاته وخصاله من الرهبان وغيرهم ، ومنه قصة سفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام ، وحينما نزل الركب في بُصرى من أرض الشام كان هناك بحيرا الراهب وهو من أعلم علماء النصرانية ، وكان في صومعة له يتوارث فيها الإقامة راهباً بعد راهب ، وكابراً عن كابر ، وعرف شمائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن رآى غمامة تظله من بين رجال القافلة فدعا قريشاً لمأدبة في حديث تقدم ذكره.
لقد كانت عهود الملوك لآباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة لقوافل تجارة قريش كما في (سورة قريش) .
وكل من هذه العهود والقوافل مقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وحجة على الذين كفروا من أهل مكة .
في نسب النبي (ص) الجد والعمومة
لعبد مناف واسمه المغيرة بن قصي بن كلاب أربعة أولاد وهم :
الأول : هاشم واسمه عمرو ، وهو والد عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع أن هاشم له أربعة أولاد ، وولادة هاشم سنة 127ق الهجرة – 500 م ، وإليه ينسب بنو هاشم .
وسمي هاشم لأنه كان يهشم الثريد بمكة لقومه سنة المجاعة ، إذ كان غنياً يعمل بالتجارة ، وقيل هو الذي سنّ رحلتي الشتاء والصيف للتجارة إلى اليمن والشام ،وكان يتولى السقاية والرفادة ، توفى في غزة من أرض فلسطين عند بني عمرو بن كنانة وهم بنو عم قريش .
فلم يبق له عقب إلا من عبد المطلب ، وهو أكثرهم ذرية ، وهذا من المعجزات ومقدمات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعضيده من قبل أهل البيت ، وقد تحملوا حصار قريش لهم والذي استمر لثلاث سنوات من السنة السابعة إلى السنة العاشرة للهجرة .
الثاني : المطلب ، وكان أصغر أخوته ، وولده مَخرمة وأبو رهم (أنيس ) وهاشم ، وعمر ، وعباد ، والحارث ، وأبو عمران ، ومحصن ، وعلقمة .
وهاشم ، والمطلب يد واحدة ، وتولى السقاية والرفادة بعد أخيه هاشم (وتوفى هاشم بغزة تاجراً ) ( ).
وكان المطلب يسمى الفيض لكرمه وسماحته ( وتوفى بردمان من أرض اليمن)( ).
ويظهر أن عدداً من رؤسائهم ماتوا خارج مكة لأنهم أهل تجارة ، وحتى عبد الله والد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه مات بغزة تاجراً مثل جده هاشم ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي استقرار بني هاشم واعتدال صحتهم ، وأهل الجزيرة وإنقطاع الغزو ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معجزاته الحسية الظاهرة .
الثالث : عبد شمس : وولده أمية الأكبر ، وحبيب وأمية الأصغر ، ونوفل ، وربيعة ، وولد أمية الأكبر حرباً والد أبي سفيان.
وهاشم وعبد شمس تؤمان يقال (خرجا وجبهة أحدهما متصلة بجبهة الآخر، ففصلا بالحد فتقطر الدم، فقال بعض الكهان: إنه سيقع بين ذريتهما دم إلى آخر الأبد)( ).
وقيل إن اصبع أحدهما ملتصقة بجبهة الآخر ، فنحيت عنها (فسال من ذلك دم، فتطير من ذلك، فقيل: تكون بينهما دماء. وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة.) ( )
والمطلب شقيقهم ، وأمهم واقدة بنت عمرو المازنية ، ونوفل من امرأة أخرى (والنَّوْفلُ: السّيّد من الرِّجال.. ويُقال لبَعْض السِّباع: نَوْفَل.)( ).
الرابع : نوفل : وأبناؤه أربعة هم : عدي ، وعمرو ، وعامر ، وعبد عمرو ، (وتوفى نوفل بن عبد مناف بالعراق) ( ).
وعبد شمس ونوفل يد واحدة .
معجزة تفسير النبي (ص) للقرآن
لقد جعل الله عز وجل القرآن جامعاً للأحكام ، وضياء ينير دروب السالكين في أمور الدين والدنيا ، وجعل الله عز وجل السنة النبوية نعمة ومرآة وتفسيراً لآيات القرآن ، وفيه مسائل :
الأولى : تقريب معاني آيات القرآن إلى أذهان المسلمين والناس جميعاً.
الثانية : قانون بعث الطمأنينة في النفوس لسلامة آيات القرآن من التحريف.
فان قلت تتجلى هذه السلامة بقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
فهل تصل النوبة للسنة النبوية في حفظ الذكر ، الجواب نعم لقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( )، وكل تلاوة للمسلم والمسلمة للقرآن في الصلاة اليومية هي من هذا الحفظ ، وكذا قيام العلماء بتفسير آيات القرآن ، وتدارس أهل العلم فيها واستنباط المسائل منها ومن السنة النبوية لقانون نهل المسلمين من السنة النبوية حفظ للقرآن في العالمين ، وعدد آيات القرآن هو (6236) آية .
ويحتمل تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات كثرة وقلة وجوهاً:
الأول : لقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر آيات القرآن .
الثاني : فسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل آيات القرآن.
الثالث : لم يفسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الأقل من مجموع آيات القرآن .
والصحيح هو الأخير لظهور معنى كثير من آيات القرآن ، وهو لا يمنع من تبحر العلماء في تفسيرها وتأويلها واقتباس المواعظ منها فمثلاً قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( )، ظاهرة المعنى ولكنها تدعو العلماء في الأجيال المتعاقبة إلى الغوص في ذخائرها ، والصلة بينها وبين آيات القرآن الأخرى ، فصدر الجزء الخمسون بعد المائتين من تفسيري هذا للقرآن خاصاً بتفسيرها ، ويتضمن نحو (145) قانوناً مع التفصيل والبيان والشرح لعدد منها.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يفسر بعض آيات القرآن بحسب الحاجة والمناسبة والموضوع ، وهل استدلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية القرآنية من تفسيره لها ، الجواب نعم .
وكثيرة هي الآيات التي يستشهد ويستدل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيانه وخطبه وأجوبته عن الأسئلة ، وهذا الإستدلال نوع تفسير لآيات القرآن ، وحضّ للأمراء والحكام والعلماء بالرجوع إلى القرآن في الإستدلال والبرهان ، وفيها هداية وترغيب بالإحتجاج بالقرآن.
تعدد أقسام الصوم
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعدد أحكام الصوم ، فصحيح أن الصوم عبادة وقربة إلى الله عز وجل ، ولكن ليس كل صوم عبادة فهناك صوم محرم مثل صوم العيدين ، ووردت آيات القرآن بالتخفيف عن المريض والمسافر ، وعن الشيخ والشيخة الهرمة ، قال تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن أقسام الصيام :
الصيام المكروه
أي الذي يكون ثوابه قليلاً، فمنه صوم يوم عرفة التاسع من شهر ذي الحجة لمن يشتغل بالدعاء يومها ويخاف ان يضعفه عن الدعاء، ومنه صوم الضيف المستحب بدون إذن مضيفه ، وصوم الولد المستحب بدون إذن والده.
الصيام المحظور
وهو صوم يومي العيدين الفطر والأضحى، وصوم أيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لمن كان بمنى ولا فرق على الأقوى بين الناسك وغيره.
و(عن عبد الله بن حذافة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره في رهط أن يطوفوا في منى في حجة الوداع ، فينادوا إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله ، فلا صوم فيهن إلا صوماً في هدي)( ).
وصوم الزوجة المستحب فالصوم الواجب بالذات هو صوم شهر رمضان وهو واجب عيني على الزوج والزوجة والابن والأب ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، فصوم رمضان واجب على الزوجة مع المزاحمة لحق الزوج وعدم إذنه.
ولو كان الزوج ظالماً وخيرها بين صيامها رمضان والطلاق فلها أن تختار ما يناسب مصلحتها وأولادها إن وجدوا ، وباب قضاء الصوم مفتوح ، وتصح الوصية به ، قال تعالى [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ]( ).
ليكون من معاني فرض الله الصيام على المسلمين والمؤمنين من الأمم السابقة نجاتهم من النار يوم القيامة ، وليكون ذات الصيام نصيراً لصاحبه من حين دخوله القبر.
صوم الوصال
صوم الوصال وهو صوم يومين متتابعين مع الليلة التي بينهما او ثلاثة ايام مع الليلتين اللتين بينهما او اكثر من ذلك فملاكه وصل يوم الصيام باليوم الآخر و يعني ايضا جعل عشاء الصائم سحوره.
وصوم الوصال من مختصات الرسول الإكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومما شرفه الله تعالى به، اذ ان مختصاته على قسمين فاما ان تكون نعمة تفوق ما يؤذن بها للآخرين كما في تعدد زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم وزيادتهن على الأربع، واما ان تكون عبادية تكليفية ومنها صوم الوصال.
فان النبي صــلى الله عليه وآله وســلم يصومه ولكنه نهى عنه، لذا فان اجماع علماء الاسلام على النهي عن صوم الوصال وان اختلفوا هل هو نهــي تحــريم او نهي تنزيــه والأول اقوى، وبالإسناد انه قيل للنبي صلى الله عليه وآله وســلم في نهــيه عن صوم الوصال يا رسول الله تواصل؟ فقال: اني لست مثلكم اني ابيت عند ربي يطعمني ويسقيني.
يستحب الإفطار بالتمر اسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثبت انه يقوي الكبد ويزيد في الباءة ويزيل خشونة الحلق.
والباءة: لغة الجماع ويقال ايضاً لعقد النكاح، وفيه اربع لغات: الباءة بالمد مع الهاء وهو المشهور، وحذفها، والباهة على وزن العاهة، والباه الهاء، كما يستحب الإفطار باللبن وبالماء الفاتر.
يستحب دعوة الصائم للأفطار واطعام الطعام مطلقاً في رمضان بارساله الى الصائمين في بيوتهم ويشمل الإستحباب الميسور وان لم يكن مطبوخاً ، والأولى ان يكون من المتوسط والمتعارف عند الناس وليس من الخبيث وقد وردت النصوص بتمرات او قليل من اللبن او شربة ماء، كما يستحب للصائم قبول دعوة اخيه للإفطار.
يستحب الامساك تأدباً في شهر رمضان لمن كان حكمه الإفطار صائماً في مواضع منها:
المسافر اذا ورد اهله او محل الإقامةبعد الزوال مطلقاً او قبله وقد افطر، واما اذا ورد اهله وبلدته قبله ولم يفطر فقد تقدم بأن حكمه الصوم.
الحائض والنفساء اذا طهرتا في اثناء النهار.
من تناول الطعام في اول النهار لعلة كمرض ونحوه، فاذا برء اثناء النهار يمسك تأدباً.
الذي اسلم في يوم الصيام سواء تناول المفطر او لا، لأن الصيام لا يجب عليه ذلك اليوم فيمسك تأدباً.
الصبي اذا بلغ في اثناء النهار.
المجنون اذا افاق اثناء النهار بل والمغمي عليه اذا افاق اثناءه ولم تسبق منه نية الصيام.
لو رأى المكلف في المنام ما يوجب الإحتلام وتحركت شهوته ولم يخرج المني الى الخارج، ولكنه علم انه اذا بال او استبرء خرج المني ولم يستطع حبس البول الى الغروب، فلو بال قبل الغروب لا شيء عليه
لو اتفق ان يكون عمله في الســفر خلال شــهر رمضــان دون سائر اشهر السنة فالأقوى انه يقصر ويفطر الا اذا صدق عنوان (من عمله في السفر).
لو اجنب شخص ولم يحصــل على المــاء للإغتسـال وهو يجهل ان التيمم يكون بدلاً عن الغسـل في هذه الصورة، فلم يصم ذلك اليوم لإعتقاده بطلان صومه وجب عليه القضاء دون الكفارة لعدم تحقق صورة العمد.
اذا ظنت أحدى النساء ان حد النفاس اربعون يوماً واتفق ان نفاسها بدأ في العشرين من شعبان مثلاً، وبعد مدة علمت وجوب الصيام عليها فهل يجب عليها الكفارة او القضاء فقط، الاقوى هو الثاني أي القضاء فقط دون الكفارة.
تعاطي المغذي
لا يجوز للصائم زرق الإبرة المغذية المنشطة في العضلة اثناء نهار الصوم الا اذا كان عن حاجة واضطرار، ومعها القضاء , وكذا بالنسبة للسائل المغذي عن طريق الوريد او حبوب الغذاء المركز.
السحور
يستحب السحور استحباباً مؤكداً، وهو ما يتناوله الصائم من طعام وشراب وقت السحر وهو الثلث الأخير من الليل قبيل طلوع الفجر ، ووجبة السحور رحمة اختص بها المسلمون، ففي الأمم السابقة يحرم الأكل والشرب على من ينام بعد صلاة العشاء.
لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بخمس أو عشر دقائق، وقد يلحق بالتشديد على النفس، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق وعليه الكتاب والسنة، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، قال تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ]( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تَسَحَّرُوا فإن في السَّحور بركة)( ).
فتوى أوان السحور
من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرشاد المسلمين لمقدمات الصوم لتكون عوناً في تحمل الجوع والعطش ساعات الصيام ، وليكون وقت السحر عبادة ومناسبة للدعاء والشكر لله عز وجل.
ولا أصل للإحتياط بالإمساك قبل أذان الفجر بسبع أو عشر دقائق، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق، وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، وتتجلى المندوحة بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ]( )، وقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
المجاز في القرآن
المجاز هو المعنى المقصود من اللفظ خلاف معناه الأصلي المتبادر مع قرينة صارفة عن المعنى الأصلي لوجود مشابهة بينهما مثل قوله تعالى [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ]( ).
فليس عند الإنسان جناح ولكن المراد البِر والرفق.
وقد تقدم في الجزء العشرين من هذا السِفر ص 125 أن نفراً قالوا بامتناع المجاز في القرآن منهم أبو داود الظاهري وابو مسلم الأصبهاني ، وأن المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير ، والله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة .
وقال بعض الظاهرية أن المجاز كذب ، ولا أصل لهذا القول لأن المجاز له تأويل ، والكذب ليس له تأويل .
وفي القول المشهور والمختار يحتاج المجاز إلى قرينة ، قال بعض الظاهرية إنه تطويل بلا فائدة أما مع عدم القرينة ففيه لبس على السامع ، وليس من تطويل أو لبس في المجاز فهو من علوم وبدائع اللغة والقرآن.
تقييد المجاز
يستلزم إنصراف اللفظ إلى المجاز أمرين :
الأول : العلاقة ووجه الشبه الذي يميز استعمال اللفظ في المجاز.
الثاني : القرينة التي تنقل اللفظ إلى المجاز .
وهذا التقييد لمنع التأويل الباطل بذريعة المجاز ، والمجاز موجود ومتعارف في اللغة العربية ، ولغات أخرى ، ولغة القرآن فرع اللغة العربية وقواعدها ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
ونفى عدد قليل من أهل العلم المجاز في القرآن ، ولكن العناية والإهتمام بهذا النفي شغل كثيراً من العلماء فأعطوه أكثر مما يستحق من الدراسات والكتب.
وهناك ممن أنكر المجاز في كلام العرب والقرآن وهم قلة ، ولا عبرة بالقليل النادر ، ومن الذين يقولون بنفي المجاز في القرآن من يفسره بذات المعنى المجازي ولكنه لا يسميه مجازاً ، فالخلاف لفظي ، والنزاع في عبارة .
نعم لا يصح التأويل الذي لا أصل له ، وجئت بهذا السِفر بامثلة على قانون مستحدث وهو اجتماع الحقيقة والمجاز في اللفظ القرآني الواحد.
وهو من إعجاز القرآن ، والسمو الرتبي على قواعد اللغة العربية ، وأشعار العرب ، لذا نزلت الآية [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
أي مع لغة القرآن العربية هناك موضوعية وإعجاز للنزول الذي يختص به القرآن بآيات لغوية وعلمية.
ومن إعجاز القرآن ضبط وتقييد مجاز القرآن بمفاهيم آيات القرآن ، وبالسنة النبوية إذ ورد (عن عدي بن حاتم قال : لما أنزلت هذه الآية [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ]( )، عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته بالذي صنعت فقال : إن وسادك إذا لعريض ، إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل)( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيانه للمجاز في القرآن وتأويله بما ينفع الأجيال ، ويمنع وإلى يوم القيامة الإختلاف في أحكام القرآن.
في أمثلة المجاز
ومن المجاز [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( )، أي القوة والقدرة لله عز وجل وحده .
ومع أن القطع في السرقة ورد بقطع اليد فان القدر المتيقن قطع جزء يسير منها ، لتحقيق العقوبة والتأديب ، وإبقاء باب التوبة مفتوحاً للعبد كي ينجو من مصداق الوعيد الأخروي الوارد في آية البحث .
وكان الإمام علي عليه السلام (إذا قطع السارق ترك الابهام والراحة، فقيل له: يا أمير المؤمنين تركت عامة يده .
فقال لهم: فان تاب فبأي شئ يتوضأ، لأن الله يقول : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله غفور رحيم)( ).
يدل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) على تضمن القرآن للمجاز لأن اللغة العربية فيها الحقيقة والمجاز مع تجلي معنى المجاز للناس جميعاً بالقرينة الصارفة ، وبآيات القرآن الأخرى.
ويدل على قانون وهو لكل مجاز حقيقة ، لأن المجاز فرع الحقيقة ، ومن معاني المجاز إحاطة ألفاظ اللغة بالوقائع والأحداث ، إذ يقصد بالمجاز غير معناه الحرفي مع إشاعة المجاز له ، وتأكيد المعنى والدلالة والإيجاز في تصويره .
ومن العلوم المستحدثة في هذا الجزء ، علم إجتماع الحقيقة والمجاز في اللفظ القرآني الواحد .
ومن المجاز إسناد الفعل إلى غير القائم به بالذات لقرينة ، ومنه :
الأول : إسناد الفعل إلى الزمان ، مع عدم أثره فيه ، وقد يشمل الحقيقة والمجاز ، كما في قوله تعالى [وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى]( ) أي سكن ، إذ أن ذات الظلام سكون ،وهو من الحقيقة .
وسكون حركة الناس وميلهم إلى الخلود إلى الراحة والنوم مجاز.
الثاني : الإسناد إلى المكان مع عدم أثر المكان في الفعل ، وإسناد الفعل إليه من المجاز العقلي ، كما في قوله تعالى [لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا]( ) فان الآية تتضمن الحقيقة والمجاز .
أما الحقيقة فان ذات الأنهار تتنقل ، وهي ليست بوعاء يحُصر الماء فيه ، وقد تكون بعضها بوعاء .
فاذا اشتهى سكان إحدى الجنان أن يروا نهراً من أنهار الجنان الأخرى يكون عندهم فينتقل ذات النهر إليهم ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ *وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ]( )، وقال تعالى [وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ]( ) وليس فيه انتقال ذات الأنهار ، والجواب ذكرت الفاكهة واللحم من باب المثال المتعدد ، والإطلاق في جنس اللحوم والفاكهة ، ولو أراد أهل جنة نقل النهر مع بقاء نسخته الأصلية في مكانها فان الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة ، وهو الذي ينعم على أهل الجنة بما لم يخطر على الوجود الذهني.
وفي حديث الإسراء ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (فاغتسلت في نهر الرحمة فغفر لي من ذنبي ما تقدم وما تأخر ثم أخذت على الكوثر حتى دخلت الجنة فإذا فيها ما لا عين رأت وما لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإذا أنا بأنهار من ماء غير آسن وأنها من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى
وإذا فيها رمان كأنه جلود الإبل المقتبة وإذا فيها طير كأنها البخت)( ).
الثالث : ابن السبيل ، ورد هذا اللفظ ثماني مرات في القرآن ، والمراد المسافر الذي ليس معه ما يستعين به للرجوع إلى بلده من المال ونحوه ، وسمي ابن السبيل لأن استدامة السفر وصيرورته كالمعلق يجعل الطريق كالأم له .
وابن السبيل أحد الأصناف الثمانية التي تكون فيها مصارف الزكاة .
الرابع : قوله تعالى [فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ]( ) إشارة إلى النار ، وكيف أنها تحتضن الكافرين في الآخرة .
الخامس : قوله تعالى [وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا]( ) فلا قدرة وإرادة عند الأرض لتخرج الموتى الذين دفنوا في باطنها ، والكنوز التي لم يستثمرها وينتفع منها الناس بعد ، وإلى حين البعث ، لبيان فضل الله عز وجل عليهم بأن ما في أيديهم من الرزق كاف لهم ، وفيه زيادة ، وهناك كنوز مدخرة لم ينتفع منها بعد.
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت.
ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً)( ).
السادس : قوله تعالى [حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا]( ) أي تتوقف آله الحرب والقتل ، وأسند إلى الحرب ، مع أنه بمشيئة الله ، ورضا أطراف القتال أو بعضهم .
وورد لفظ [الْحَرْبُ] مرتين في القرآن إحداهما في هذه الآية ، ولم يرد لفظ [أَوْزَارَهَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، والأوزار الأثقال ، ولا تختص بآلات الحرب بل تشمل شدة وطأة الحرب على النفوس والمجتمعات ، والتجارة والإقتصاد .
بحث أصولي
اجتماع العام والمطلق في الكلمة القرآنية الواحدة .
الفرق بين العام والمطلق ، العام لغة الشامل وما يفيد الإستغراق والإنبساط ، ويستغرق جميع الأفراد التي ينطبق عليها بلحاظ حال ووضع واحد ، يقال ، مطر عام ، مصر عام ، نعمة عامة ، ويقابله الخاص سواء كان خاصاً متصلاً أو خاصاً منفصلاً بخروج بعض الأفراد من تحت العموم ، مع بقاء الأكثر منها تحت العموم.
ومن ألفاظ العام (كل) وهو سور الموجبة الكلية ، وهو أكثر ألفاظ العموم استعمالاً.
ولفظ (جميع) ومنه [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ) ومنه الجمع المعرف بـ(أل) الجنسية والمفرد المحلى باللام ، كما في قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ]( ).
والمطلق لغة من الإطلاق وهو لغة التخلية والإرسال ، ويقال أُطلق الأسير أي تمت تخليته ، ويطلق على المعنى وعلى الحكم الخالي من التقييد ، ويقابله المقيد وهو الذي يقتصر على حال معينة.
والنسبة بين العام والمطلق العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
فمادة الإلتقاء العموم في الجملة وهو المتبادر ، وثبوت الحكم للأفراد الداخلة في مدلوله.
ومادة الإفتراق شمول العام لجميع أفراده من غير حصر ، أما المطلق فهو شامل لجميع الأحوال ، ووسيلة للدلالة على العام هو الوضع ، أما المطلق فهي قرينة الحكمة ، ويقابل العام الخاص والتخصيص ، وهو استثناء بعض أفراد العام على الحكم الثابت له.
أما التقييد فهو إثبات الحكم للماهية مع وجود حال مقيدة ، واخراج الفرد الفاقد للقيد ,ومن العلماء من جعل العام والمطلق واحداً وترتب عليه اتحاد التخصيص والتقييد في المعنى .
ومنه الآية [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ] إذ يخرج من العام فردان وهما آدم وحواء ، فليس لهما آباء أو أمهات ، بينما يدخلان في لفظ الإنسان عامة في قوله تعالى [وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( ) أي سواء كان الإنسان ذكراً أو أنثى ، كما يدخلان في اسم الجنس المحلى بالألف واللام [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
وهل يخرج الطفل والمجنون لعدم توجه التكليف لهما لفقد شرط العقل ، الجواب نعم ، ولكن يبقى الخطاب مطلقاً للطفل عندما يكبر ، والمجنون عند الإفاقة .
ومنه اسم الجنس الذي لا واحد له مثل الماء ، التراب.
وأما التخصيص فهو لغة الإفراد وفي الإصطلاح تمييز بعض الجملة .
وعلى القول بالإختلاف بين العام والمطلق وهو المختار فانهما قد يجتمعان في الكلمة القرآنية الواحدة ، وهو من إعجاز القرآن ، والشواهد على أن علوم القرآن أعم من التقسيمات ذات الإختصاص في النحو والبلاغة والأصول والكلام والمنطق ونحوه ، فقوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( ) فلفظ [وَالِدَيْهِ] على وجهين :
الأول : عام يشمل افراد الوالدين من الأب والأم لأي إنسان .
الثاني : مطلق مع الإتحاد أو الإختلاف في المذهب أو الملة أو الجنسية والإنتماء والأحوال المختلفة ، وكذا لفظ [اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ] لأن مساق الآية لبيان الزواج بين الأب والأم ، وتحمل الأم عناء الحمل ، وقيمومة الأب ، والإنتساب له .
ولفظ [حُسْنًا]في قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( )يراد منه أفراد الحسن كافة ، والإطلاق في كيفيته ، ثم خصت الآية العام على نحو السالبة الجزئية ، فخرجت بالتخصيص الدعوة القبيحة إلى الشرك.
وأسماء وصفات الله عز وجل عامة لا يطرأ عليها الخاص أو التخصيص ، قال تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، [وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
تقسيمات مستحدثة للخاص
يمكن تقسيم الخاص تقسيماً مستحدثاً بلحاظ المصاديق إلى شعبتين :
الأولى : التباين بين العام والخاص مع إتحادهما في اللفظ كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ).
الثانية : الخاص الجزئي ، كما في قوله تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا..]( ) ، فبعض الأباء يدعون إلى الشرك وقد ظهر في بدايات الدعوة الإسلامية.
التقسيم الأول : قال تعالى [إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ]( ).
التقسيم الثاني : كما يمكن تقسم الخاص إلى شعبتين :
الأولى : الخاص المنفرد ومنه قوله تعالى [وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
وهل تدل هذه الآية على جواز التوسل بالنبي والأئمة والصالحين ، الجواب نعم ، فقد شهدوا بالتوحيد والحق ، والذين يتوسلون بهم يعلمون أنهم عبيد لله عز وجل مخلَصون.
الثانية : الخاص المتعدد ، كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به،أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له)( ).
التقسم الثالث : ويمكن أن يقسم الخاص إلى :
الأولى : الخاص الإختياري .
الثانية : الخاص القهري ، كما في قوله تعالى [إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ]( )، وكما في الإنتقال من الوضوء إلى التيمم.
وبين لفظ [النَّاسِ] في [[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( )، وبين [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا]( ) عموم وخصوص مطلق ، فلفظ الناس في آية الحج عام يشمل آدم وحواء ، بينما يخرجان من آية الوصية أعلاه فليس لأي منهما والدان , وهل من الحسُن والإحسان في قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا] وجوب إمتناع قابيل عن قتل هابيل ، لأن فيه أذى لآدم وحواء ، الجواب نعم ، مع الحرمة الذاتية لهذا القتل لبيان قانون من الإرادة التكوينية من جهتين :
الأولى : تعدد أسباب ومقدمات الأمر الإلهي .
الثانية : تعدد أسباب ومقدمات النهي من الله عز وجل ، وهذه الكثرة في الحكم والكيف للأسباب وصيغ الأمر والنهي من رحمة الله ولطفه ورأفته بالناس ، وتقريبهم إلى منازل الطاعة ، وإبعادهم عن المعصية .
وهل تشمل آية الوصية بالوالدين الزاني أي إحسان ابن الزنا له ، المختار لا ، لعدم حرمة ماء الزاني وعدم صدق الوالد عليه ، فان قلت هل يخرج ابن الزنا بالتخصيص من اللفظ العام [الْإِنْسَانَ] في هذه الآية ، ويسقط عنه الأمر بالإحسان للوالدين.
الجواب لا ، لعدم انطباق العنوان الشرعي عليه ، وقد تكون المرأة ليست زانية .
للزوم التعبد بالإمتثال للأمر والوصية القرآنية ويشمل الخطاب في الآية أعلاه المنافق وابن الزنا والذي يولد بالأنابيب والطرق المستحدثة اللاحقة.
ولا يختص لفظ (الوالدين) بالأبوين ، إذ يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الصلة بالوالدين والإحسان إليها.
ولأن لفظ الأبوة أعم ، قال تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ]( ).
وآية الوصية وردت بصفة الوالدين ، وهو من الإعجاز لبيان خصوص الأب والأم في النسب ، وهل يلحق به سبب الرضاعة ، الجواب نعم ، ولكن يلزم النسب مرتبة أعلى من الحسن وله خصوصية في الأرث الذي لا يشمل سبب الرضاعة.

علم المثال القرآني
يكرر الأصوليون ذات المثال في المقام مثل : أكرم العلماء إلا الفساق أو لا تكرم الفساق منهم في باب المخصص اللفظي وبدله مثلاً [إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ) أو في السنة حرمة لبس الرجال للحرير إلا في الميدان ، ومنه مثلاً في فحوى الخطاب ومفهوم الأولوية القطعية يستشهد دائماً بقوله تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا]( )أي من باب الأولوية لا تزجرهما ولا تضربهما .
لذا أدعو العلماء إلى أمور :
الأول : الإجتهاد في الإتيان بأمثلة مستحدثة وعدم الإكتفاء بتكرار ذات المثل الذي ذكره العلماء من مئات السنين .
الثاني : الصدور عن إلى القرآن في الأمثلة واستخراجها من آياته ، وهذا الأمر يشمل علماء النحو ، واللغة ، والبلاغة ، والأصول ، والمنطق ، والفلسفة .
الثالث : الإكثار من الأمثلة القرآنية البكر ، والأمثلة من السنة النبوية ، وحديث المعصوم .
الرابع : تأسيس علم حديث اسمه (علم المثال القرآني) يتقوم هذا العلم بالإتيان بالأمثلة النحوية أو البلاغية أو الأصولية من القرآن ، ويدل عليه قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه علم المثال ، وهل يكون اقتباس المثال من القرآن أمراً صعباً أم سهلاً ، الجواب هو الثاني بشرط الإحاطة بعلم التفسير ولو على نحو الإجمال.
ولا بأس أن يذكر في التفسير مناسبة الآية لأبواب أو فصول وأمثلة من علم الأصول والمنطق على نحو ما اجتهدوا في النحو وبلاغة القرآن.
من خصائص المثل القرآني وكثرته تقريب العلوم العقلية بمدركات حسية تساعد على الفهم .
كما يجوز الإتيان بالمثال من السنة النبوية وآلاف الأحاديث النبوية ، وعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ، ويحتمل عدد الأمثلة التي تقتبس منها وجوهاً :
الأول : الأمثلة بعدد آيات القرآن .
الثاني : الأمثلة أقل من عدد آيات القرآن .
الثالث : الأمثلة أكثر من آيات القرآن .
والصحيح هو الثالث لوجوه :
الأول : أول الآية القرآنية في شئ وأوسطها في شئ وآخرها في شئ آخر.
الثاني : قد يكون المثال بكلمة واحدة أو كلمتين .
(وعد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعا وثلاثين كلمة وقيل وأربعمائة وسبع وثلاثون ومائتان وسبع وسبعون وقيل غير ذلك
قيل وسبب الاختلاف في عد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار كل منها جائز وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز)( ).
ولكن الحقيقة والمجاز ليس سبباً في إختلاف عدد الكلمات لاتحادهما في الرسم ، إلا أن يكن تباين بين رسم الحقيقة ورسم المجاز.
الثالث : إمكان تكرار ذات المثل القرآني في علوم متعددة بلحاظ الموضوع ، وهل قوله تعالى [وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ) دعوة سماوية لأخذ الأمثلة من القرآن ، الجواب نعم ، وقال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )
لبيان فوائد علمية من تأسيس علم الأمثال القرآني هذا إذ يبعث الناس على التذكر والتدبر في أمور الدين والدنيا ، وعلى التفكر في الخلق وعالم الأفعال ، ومصاديق كل حكم من الأحكام التكليفية الخمسة : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة، والحرمة .
ليكون اقتباس الأمثلة من القرآن امتثالاً لأوامر الله عز وجل كما في قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )
فجمعت هذه الآية بين ذكر الله على نحو الإطلاق باختلاف الأحوال ويناسبه بالنسبة للأمثلة القرآنية [لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] .
وأدعو العلماء والمؤلفين إذا أرادوا الإتيان بالمثال الصدور عن القرآن والسنة وأن يأتوا بامثلة بكر قدر الإمكان ، وان تعذر أو شق عليهم يرجعون الى الأمثلة السائدة ولا مانع من الجمع بينهما ، وستكون الأمثلة مضاعفة بقبول هذا العلم وتثوير الأمثلة في النحو والبلاغة والفقه والأصول والمنطق والكلام وغيرها.
وكذا بالنسبة لأئمة الجمعة وخطباء المنبر وأصحاب الفتوى .
وورد (لفظ) الأمثال في القرآن عشر مرات ، مما يدل على موضوعيتها وأهميتها إلى جانب صلة قصص القرآن بالأمثلة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ) .
ولا ينحصر المخاطَب في المقام بأصحاب التأليف والتدريس ، إنما رجائي موجه لكل المسلمين بالتحريض والترغيب بعلم المثال القرآني واللجوء إليه وقبل نحو أربعين سنة اقترحت في الحوزة العلمية الشريفة أن يكون هناك كتاب في النحو أمثلته كلها من القرآن والسنة وكذا في علم الأصول ، وعلى نحو تعدد المثال في كل مسألة .
وهذا لا يمنع من الإستدلال بأبيات الشعر ونحوها فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، ولكن تكون الأولوية للمثال القرآني ، وفيه تفقه في الدين ، وتأديب وصلاح .
وفي باب الأولوية القطعية بدل تكرار آية [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] يمكن الإستدلال بقوله تعالى [وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ]( ) أي من باب الأولوية لا تأكلا منها على حمل الكلام على ظاهره ، وان ورد قول ابليس [قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ]( ).
ومنه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) لبيان البشارة فكما نصر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهم أذلة يومئذ ، فمن الأولوية القطعية نصر الله لهم وهم أعزة أقوياء كثيرو العدد والعدة والظهر ، وهو الذي تجلى في معركة حنين.
وفي آية الدَين [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]( ) فمن باب الأولوية جواز شهادة أكثر من اثنين خاصة مع بعد أجل القضاء أو احتماله ، فقد يموت أو يتعذر على أحد الشاهدين الشهادة ، وكذا في بعض موارد الإحتياط .
والأمثلة التي تضرب في السيد والعبد في موارد متعددة من علم الأصول مع إنقراض الرق ، فمثلاً في باب حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان يستدل عليه بحكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل لم يُعلمه بالمنع منه ، أو لو قال السيد لعبده افعل فلم يمتثل فادبه ، وإلى الآن بعض الرسائل تتضمن هذه الأمثلة .
علل أسماء أيام الحج
قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل موضوعية للاسم في حياة الإنسان ، فآدم لم يهبط إلى الأرض إلا بعد أن علّمه الله عز وجل الأسماء ، قال تعالى [وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وقام آدم بتعليم الملائكة هذه الأسماء بأمر من الله عز وجل [قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، وصحيح أن هذا التعليم حجة لأهلية الإنسان للخلافة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]().
إلا أنه يدل بالدلالة الإلتزامية على أهلية الإنسان لأمور :
الأول : الإستجابة لأمر الله .
الثاني : ملكة الحفظ ، وعدم الخلط بين الأشياء .
الثالث : إقامة الحجة على الإنسان في التصديق بالنبوات ، وتلقي الأوامر والنواهي .
الرابع : بيان المصداق الذي يؤكد للملائكة أهلية الإنسان للخلافة في الأرض .
وسيأتي معجزة تسمية أيام عديدة بأسماء خاصة بها وتجدد ذات الأيام وأسمائها في كل سنة ، ومنها هذه الأيام الستة في الحج ، وهي :
الأول : يوم التروية وهو الثامن من شهر ذي الحجة.
الثاني : يوم عرفة وهو التاسع من شهر ذي الحجة .
الثالث : يوم الحج الأكبر وهو العاشر من شهر ذي الحجة ، ويسمى أيضاً يوم النحر .
الرابع : يوم القر وهو الحادي عشر من شهر ذي الحجة ، وهو اليوم الأول من أيام التشريق ، وفيه ترمى جمرة العقبة وهي الكبرى ، وسميت جمرة العقبة لأنها كانت في أصل جبل يكون عقبة للحجاج ، وكان بعضهم يصعد الجبل ويرمي إلى أسفله وأزيل هذا الجبل في هذا الزمان.
الخامس : يوم النفر الأول ، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ، وفيه ترمى الجمار الثلاثة وهي الجمرة الأولى ثم الجمرة الوسطى ثم جمرة العقبة .
السادس : يوم النفر الثاني ، وهو اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة لمن لم يتعجل الخروج من منى في اليوم السابق.
وتسمى الأيام الثلاثة الأخيرة أعلاه أيام التشريق وهي من معاني قوله تعالى [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ]( ).
و(عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام ، وهن أيام أكل وشرب)( ).
وأسماء أيام الحج هي :
الأول : يوم التروية : وهو الثامن من شهر ذي الحجة ، لأن وفد الحاج كانوا يخرجون من سوق ذي المجاز الذي يقيمون فيه ثماني ليال فيتزودون من ذي المجاز و(ينادي بعضهم بعضا ترووا من الماء ؛ لأنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ)( ).
وأهل مكة ومن معهم يتزودون بالماء من مكة من أجل أيام الحج الأخرى إذ لا ماء في وعرفات ومزدلفة فيحمل الماء بالروايا إلى عرفات ومزدلفة.
والروايا جمع راوية وهي الوعاء من جلد يكون فيه الماء وهي المزادة.
لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في هذا الزمان ، وتوفر الماء والخدمات ووسائط النقل الحديثة في المشاعر وهل هو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، ومن وجوه تفضيله أن الله عز وجل خاطب إبراهيم بالقول [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ثم نصبت مئات الأصنام في البيت الحرام ، ثم بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغ وفد الحاج الملايين باحسن الخدمات والمركبات السريعة والمتعددة في البر والبحر والجو ، وتنقطع وإلى يوم القيامة عبادة الأوثان.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الجواب نعم.
ويسمى البعير الذي يستقى عليه الراوية ، وسمي الوعاء بالراوية لأن البعير هو الذي يحملها .
(والتَّروية: يومٌ قبْل عَرَفة، سُمِّي به لأنّ القومَ يتروّون من مكّة ويتزوّدونَ رِيّاً من الماء)( ).
ومن معانيه أن إبراهيم عليه السلام كان يتروى ويتفكر في رؤياه فيه ، إذ رأى ليلة الثامن من شهر ذي الحجة وكأن منادياً يناديه : إن الله تعالى يأمرك بذبح أبنك ، وصار في النهار ومن الصباح إلى الرواح يتفكر أمن الله هذا ، أم من الشيطان ، فلذا سمي يوم التروية.
الثاني : يوم عرفة : وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة من كل سنة ، فمن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبات أسماء أيام العبادات والمناسك وتجددها إلى يوم القيامة ، فلم يطرأ تغيير أو تبديل على هذه الأسماء وإلى يوم القيامة ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، الجواب نعم .
وعرفات من الأسماء المرتجلة وليس جمع عرفة ، فهو مفرد على صيغة الجمع ، ويقال يوم عرفة على جبل عرفات ، ولعرفات أسماء أخرى مثل القرين ، وجبل الرحمة ، وجبل الآل .
قانون الآية القرآنية مدرسة فقاهة
قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في عدد آيات الأحكام كثرة وقلة ، وأن المشهور هو خمسمائة آية ، أما البحث المستحدث في هذا السِفر فيختلف بلحاظ العنوان والمعنون ، بتتبع كلمات الأحكام وإحصائها ، سواء كانت في الأوامر أو النواهي , وقد نجد في آية واحدة ستة أو أكثر من الأحكام.
وسيأتي في الأجزاء اللاحقة إحصاء كلمات الأحكام في آية الدين التي هي آية واحدة من آيات الأحكام أما في منهجنا المستحدث فان كلمات الأحكام أضعاف آيات الأحكام وهو من إعجاز القرآن وعلم الأحصاء القرآني غير متناه.
فلابد من قراءة تحقيق ودراسة وتدبر في كل آية من آيات القرآن إبتداء من البسملة .
ومن إعجاز الآية القرآنية تعدد العلوم التي تتضمنها والتي تترشح عنها ، وهي توليدية بحيث لا تنقطع ، ومنها العلوم المستنبطة من الصلة بين كل آيتين من القرآن وهو علم مستحدث في هذا التفسير المبارك.
فيكون الجمع عند إحصاء الأحكام في القرآن بلحاظ كلمات الأحكام مع كثرتها وليس آيات الأحكام .
وهل تدخل فيها الكلمات التي يستقرأ من مفهومها حكم معين ، الجواب نعم ، فمثلاً قوله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( )، فالحكم في المنطوق هو عدم قبول خبر الفاسق من غير تبين ، مع ذكر سبب نزول الآية في الوليد بن عقبة بروايات متعددة ، منها خمسة مسندة ، وواحدة مرسلة ، ومن المسندة عن ابن عباس ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري.
ورواية الحارث بن ضرار الخزاعي ، وعن أم سلمة قالت (بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يصدق أموالهم فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال : إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم ، فبلغ القوم رجوعه.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلاً مصدقاً فسررنا لذلك وقرت أعيننا ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله ورسوله ونزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ( ).
لزوم التثبت والتحقق في خبر الفاسق وعدم قبول قوله من رأس ليدل في مفهومه على قبول خبر الثقة مع الحكم في المفهوم وهو على قسمين :
الأول : مفهوم الموافقة .
الثاني : مفهوم المخالفة .
وقد بيناه في مباحث علم الأصول.
ومن الآيات التي تتعدد فيها كلمات الأحكام ، وأن حكم كل كلمة منها مستقل عن الآخر ، قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
و(كلمات الأحكام)اصطلاح مستحدث هنا إذ أن الموروث هو آيات الأحكام مع الإختلاف في عددها ، وجاء هذا التفسير بالتفصيل والإحصاء في كلمات الأحكام ، وقد تقدم ذكر كلمات الأحكام في آية الدَين ، وهي أطول آية في القرآن وعدد كلماتها هو (129).
إذ ذكرت في الجزء الثامن والأربعين بعد المائتين من هذا السِفر (وآية الدَين تتضمن عدة أحكام في القرض وكتابته وعدالة الكاتب والشهود وعددهم ذكوراً وأناثاً)( ).
أوان نزول آية (ببدر)
لقد نزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، بخصوص معركة بدر ، وبعد وقوعها لصيغة الماضي فيها (نصركم).
وهل نزلت قبل معركة أحد لبعث المسلمين للشكر لله عز وجل ، والإستعداد لمعركة أحد والمعارك اللاحقة بالصبر والثبات على الإيمان.
أم نزلت بعد معركة أحد لمواساة المسلمين على الخسارة التي لحقتهم في الرجال إذ سقط سبعون شهيداً منهم في ميدان المعركة ، وقد كانت بين المعركتين مدة أحد عشر شهراً .
المختار هو الأول خاصة وأن آية ببدر تضمنت ترشح الأمر بتقوى الله والشكر له تعالى على النصر في هذه المعركة وقانون تعقب الشكر من العباد للنعمة من عند الله عز وجل ، ثم أن آيات أخرى تدل على نزولها بعد معركة بدر منها آيات سورة الأنفال.
و(عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن براءة ، يقول : عن سواء .
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون ، واكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض.
قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب . وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة واشتغلنا به ، فنزلت [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( ).
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع ، وإذا أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويُّ المسلمين على ضعيفهم)( ).
وقد تقدم في أجزاء قانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما خرج إلى بدر لم يقصد الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ولا القتال مع المشركين ، إنما أراد المشركون اشعال الفتنة والقتال باشاعة خبر عزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، ولا أصل لهذا الخبر ، والذريعة الواهية لذا جاء النصر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلة عددهم وأسلحتهم.
لتكون الواقعة من من مصاديق قوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، فمكر قريش إشعال الحرب والقتال ، ومكر الله عز وجل نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وما فيه من هداية الناس للإسلام .

علم تقدير الحذف في خاتمة آية [بِبَدْرٍ]
من العلوم والقوانين المستحدثة في هذا السِفر المبارك من (معالم الإيمان) تقدير الحذف والمحذوف في أول أو وسط أو خاتمة الآية بلحاظ أمور :
الأول : تفسير القرآن بالقرآن .
الثاني : دلالة السنة النبوية القولية والفعلية .
الثالث : قانون العلة والمعلول .
الرابع : وجود المقتضي وفقد المانع .
الخامس : قانون السبب والمُسَبَب.
السادس : المقدمات .
السابع : الأثر المترتب .
الثامن : الصلة الموضوعية والحكمية بين الآية محل البحث والآيات المجاورة.
التاسع : مضامين آية البحث وما يقتبس منها .
العاشر : البيان العام المستقرأ من الشريعة وأحكامها .
الحادي عشر : علم التفسير والتأويل .
الثاني عشر : موضوعية أسباب النزول ، والوقائع والأحداث.
وبتقدير المحذوف يمكن تجلي العلوم في تعدد أجزاء من هذا السِفر بخصوصه كل من :
الأول : آيات السلم محكمة.
الثاني : النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً.
الثالث : الإرهاب حرام وقبيح ذاتاً وأثراً ، ويجب الإبتعاد عنه.
وتقدير الحذف في خاتمة قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، على وجوه :
الأول: لعلكم تشكرون الله على تذكيركم بالنصر يوم بدر.
الثاني: لعلكم تشكرون الله على مواساتكم بذكرى النصر، وفيه دعوة للمسلمين لإستحداث نوع شكر لله على نعمة النصر في معركة بدر، ويكون هذا الشكر قبل وقوع المعركة وأثناءها وبعدها.
الثالث: من منافع التذكير بالنصر الأمل والبشرى بالنصر اللاحق , أي كما نصركم الله ببدر فانه سبحانه سينصركم في المعارك اللاحقة فاتقوا الله.
الرابع : لعلكم تشكرون الله وحده .
الخامس : لعلكم تشكرون الله على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : لعلكم تشكرون الله بالتنزه عن التعدي والظلم .
السابع : لعلكم تشكرون الله بنشر ألوية السلم والأمن بين الناس .
الثامن : لعلكم تشكرون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التاسع : لعلكم تشكرون الله بالتفقه في الدين، وإدراك سوء عاقبة الإرهاب .
العاشر : لعلكم تشكرون الله اليوم وغداً وإلى يوم القيامة بلحاظ أن (واو الجماعة) في تشكرون والمختار أنها تعود لأجيال المسلمين .
الحادي عشر : لعلكم تشكرون الله بالثقة بما عند الله ، والرضا بالقضاء والقدر ، وإجتناب الإرهاب والظلم .
الثاني عشر : لقد سعى كفار قريش لإخافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر ، فأخزى الله الكفار بالهزيمة يومئذ ليشكر المسلمون الله سبحانه بعدم إخافتهم للناس الآمنين ، لبيان قانون التضاد بين الشكر لله وبين الإرهاب .
الثالث عشر : لعلكم تشكرون الله بتلاوة هذه الآية ، وإستحضار نعم الله التي فيها ، وهل تختص هذه النعم بالنصر ، الجواب لا ، فكل كلمة منها نعمة ورحمة .
صلاة النبي (ص) عشية بدر
قبل معركة بدر نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكان قريب منه وبعث في المساء الإمام عليه عليه السلام ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وجماعة من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون أخبار قريش وأخبار القافلة.
لأن القادم من الشام والذي يأتي من مكة يمران على ماء بدر للتزود بالماء من آبارها (فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بنى الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بنى العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، فقالوا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء)( ).
فضربهما بعضهم لأنه يرجو أن يكونوا لقافلة أبي سفيان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي لبيان أنه منقطع إلى الذكر والصلاة والدعاء عشية ويوم بدر ، وحينما ركع وسجد سجدتين وسلم.
سألهما : أين قريش : قالا هم وراء هذا الكثيب ، فقال لهما : كم القوم ، قالا : كثير .
قال : ما عدتهم ، قالا : لا ندري .
فلم يوبخهم ولم يشدد عليهم ، إنما سألهم سؤالاً أخر ، إذ قال لهما (كم ينحرون كل يوم قالا يوما تسعا ويوما عشرا)( ).
حينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : القوم ما بين التسعمائة والألف بلحاظ أن كل مائة شخص يطعمون بعيراً ، فيكون نصيب كل واحد منهم أكثر من كيلو لحم في اليوم ، بينما الصحابة في الميدان في حال فقر وفاقة فلذا قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
فنعتهم الله عز وجل بالذلة في مقابل كثرة جيش المشركين وعدتهم وأسلحتهم ومؤنهم ، وغذائهم كل يوم فلذا جعل أبو جهل خروجهم كالنزهة .
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فمن فيهم من أشراف قريش الذين حضروا إلى بدر .
قالا (عتبة بن ربيعة ، وشيبة ابن ربيعة ، وأبو البخترى بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث ابن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدى بن نوفل ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وزمعة بن الاسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن عبد ود)( ).
فمن معجزات النبي محمد أنه لم يخف من سماع أسمائهم ، وما لهم من الهيبة والشأن والباع في الفروسية والقتال وقدرتهم على تحريض أتباعهم على القتال ، وشدة أذاهم له ولأهل بيته ولأصحابه في مكة قبل الهجرة.
إنما أقبل على عامة أصحابه وقال لهم : هذه مكة قد ألقت اليكم أفلاذ كبدها ، وفي رواية قد رمتكم بافلاذ أكبادها.
وهو من بديع الإستعارة : والأفلاذ : جمع فلذ وهي القطعة من الكبد واللحم والذهب والفضة ، وعادة ما تطلق على الكبد ، ليشير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حقيقة وهي أن هزيمة قريش في معركة بدر سيكون لها وقع وأثر بالغ في مكة والأمصار والقبائل ، ولم ينظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى احتمال خوف المسلمين من رؤساء مكة الذين حضروا ، إذ أن قوله هذا دعوة للصحابة للصبر والدفاع.
قراءة في (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ)
نزلت الآية بصيغة الخطاب لتشمل الأحياء من الصحابة أيام التنزيل ثم التابعين وتابعي التابعين وكل طبقة وجيل من المسلمين .
وهل تشمل قضاء النذر الذي على الميت , الجواب نعم مع الوصية من التركة والإمكان , وفي قضاء الحج نصوص عديدة ( ) .
و(عن ابن عباس ان رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ان اختى نذرت ان تحج وانها ماتت قال لو كان عليها دين اكنت قاضيه قال نعم قال فقال فاقضوا الله فهو احق بالوفاء)( ).
و(عن عقبة بن عامر ، أنه قال : يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت ، فقال : مرها فلتركب ؛ فإن الله لا يصنع بعناء هذه شيئا)( ).
لقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ] ( ).
والنذر عهد من العبد إلى الله عز وجل ، وتوسل ورجاء لقضاء حاجة وتنجز مسألة وهو فرع الإقرار بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل ، والذي يحب من عباده الإمتثال والتقيد بالعهود ، وفي التنزيل [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا]( ).
وورد لفظ (العهد) ثلاث مرات في القرآن ، اثنتين في الآية أعلاه.
وهل منه النذر ، الجواب نعم ، بتقدير وأوفوا بالعهد مع الله ومع الناس ، إذ يسأل العهد يوم القيامة .
وقد أنعم الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتعاهد المسلمين العهد مع الله بالوفاء بالنذر والتقيد بأحكامه واستدامة هذا التعاهد من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
معجزة منع فتنة التفاخر بالآباء
ورد بخصوص حجة الوداع عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)( ).
وكانت قريش لا تذهب إلى عرفة فهي خارج الحرم ، لتمييز أنفسهم ، وكان عامة الناس قبل الإسلام يجلسون يوم النحر وفي أيام منى يذكرون مآثر آبائهم ، ويبالغون فيها ، ويستحضرون الأنساب ، ويتفاخرون فيها فنزل قوله تعالى [فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ]( ).
لبيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي التبدل النوعي في الذكر وموضوعه ، فصحيح أن شهر ذي الحجة من الأشهر الحرم ليس فيه قعقعة سلاح ، إلا أن هذا التفاخر والأشعار التي تمدح الآباء وتذم غيرهم في الحج خاصة تلك التي في الوقائع والحروب تسبب الكدورة والضغائن والأحقاد ، والعزم على الثأر والإنتقام.
فجاء الأمر الإلهي بالإجتهاد بذكر الله في موسم الحج للمنع من هذه الأحقاد وما يترشح عنها وهو من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد صارت أيام الحج مناسبة للتخلي عن الفخر والخيلاء والتكبر والزهو بالذات أو بالآباء وأول ما يبدأ هذا التخلي بلباس الإحرام ، وهو معجزة حسية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه مرآة للكفر وتذكير به ولزوم الإستعداد للآخرة والبشارة بالإحتراز وحسن الإستعداد لها بأداء الحج بلباس الإحرام وبكلمة التوحيد والتلبية الواجبة كما لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عليه السلام قال (دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج.
فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثل عمله.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به.
فأهلّ التوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وأهل الناس بهذا الذي تهلون به ، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه)( )( ).
القضاء على الوأد معجزة عقلية حسية
الحمد لله الذي جعل سبل وطرق تبليغ الأحكام وامتناع الناس عن المعاصي من اللامتناهي ، ومن أسناها الآية القرآنية ومطلق التنزيل من أيام أبينا آدم .
وفي حديث أبي ذر وسؤاله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم (قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب .
قال : مائة وأربع كتب ، منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوح وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان)( ).
ويبين الحديث أعلاه المائز الذي تتصف به الكتب عن الصحف ، فكل من توراة موسى ، وإنجيل عيسى ، وزبور داود ، وفرقان محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتب سماوية .
ومع كثرة الصحف والكتب السماوية فقد شاع الظلم والنهب والسلب حتى صار بعضهم يقتل أولاده عند الولادة ، قال تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وقال تعالى [وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا]( ).
إذ اختصت الآية أعلاه من سورة الإسراء بخصوص الوأد وقتل الأولاد مطلقاً بينما ذكرت الآية أعلاه من سورة الأنعام الوأد وقتل الأولاد مع أفراد محرمة شديدة القبح .
ومن الإعجاز في الجمع بين الآيتين تقدم رزق الآباء مرة ، وتقديم رزق الأبناء مرة أخرى ، لبيان لزوم عناية الآباء بأبنائهم كما أوصت الآية أعلاه الأبناء بالإحسان إلى الوالدين .
وفي الآية وعد من عند الله برزق الأبناء بعد أن يكبروا وإن فارق الآباء الحياة ، وفي التنزيل [وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( ).
والشواهد والوجدان يدل على توالي أسباب الرزق ومضاعفته للناس ومجيئه عن سعي وكسب وحساب وبدونها .
والنسبة بين قتل الأولاد الذي تذكره الآيتان أعلاه وبين وأد البنات عموم وخصوص مطلق ، فقتل الأولاد أعم من الوأد ، وليس من رزق أعظم من الولد ، ويدركه الإنسان بمنافع الولد ، وعند التدبر في حال العقيم وحسرته على الولد ، وتسليم المسلم الذي أصابه العقم مع الرضا والشكر لله عز وجل .
ومسائل في الإجهاض من الآيات إرتقاء الطب في هذا الزمان والأزمنة التالية في باب الإنجاب ، ولا يكون القذف خارج الرحم من قتل الأولاد ، إنما القتل للأولاد بعد الولادة ، وهل يشمل الإجهاض واسقاط الجنين مما نفخ فيه الروح ، الجواب نعم ، إلا مع الضرورة وفيه الدية والكفارة .
وفي رسالتي العملية (الحجة) الجزء الخامس ذكرت المسائل التالية :
(مسألة 473) الإجهاض واسقاط الحمل يحرم على الزوجين معاً و على أحدهما وعلى الاجنبي ان قام بمباشرته.
(مسألة 474) لو دار الأمر بين موت الأم والجنين، وبين الإجهاض فيجوز حينئذ اجهاض الجنين وان ولجته الروح وفيه الكفارة والدية.
(مسألة 475) يجوز إسقاط الجنين إذا ثبت أنه مشوه وفي بقائه حرج للأم أو خافت بسببه على نفسها , وفيه الدية بالدينار الذهبي أو بالدرهم الفضي , وهي خمسمائة وخمسة وعشرون مثقال فضة أي نحو مليوني دينار عراقي اليوم إن ولجته الروح , ويتحمل الدية الوالدان إن كان بأمر من عندهما ، وإذا كان من أحدهما فتكون الدية للآخر لأنهما مرتبة أولى في الأرث كأبوين للسقط.
ومع اشتراكهما فتكون الدية للأجداد الأربعة وأخوة السقط ، ويجوز لهم الهبة والعفو عن الدية , ومشهور الفقهاء في هذه الأيام أن الدية على الطبيبة لأنها المباشر، ولكنها ليست مباشرة محضة، إنما بطلب من ذوي الشأن، وكذا بالنسبة للكفارة وهي صوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً .
والمختار أنها على الوالدين إذا طلبا من الطبيبة الإسقاط , نعم تؤثم الطبيبة إذا لم يكن هناك مسوغ شرعي وقانوني للإسقاط( ).
ومن أسباب الوأد عند العرب خشية سبي البنت عند إغارة قبيلة أخرى فتكون عندهم كالأمة ، ويلحق أهلها العار بسببها وما تلاقيه من اذى .
معجزة قطع الغزو والوأد معاً
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استئصال أسباب الوأد مع التأكيد على حرمته بأن قطع الغزو بين القبائل ، إذ صاروا بالإسلام إخوة ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام أنه آخى بين المهاجرين والأنصار في الأشهر الأولى من دخوله المدينة لتكون هذه المؤاخاة نواة التآخي والتآلف بين ملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
مع بعث النفرة في نفوس المسلمين من إيذاء الأولاد والإضرار بهم ، بما هو دون القتل والجرح بمراتب .
ومن الإعجاز العقلي في القضاء على الوأد نزول قوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( )، وفيه تذكير وتخويف بعالم الآخرة وأن الموؤدة تشتكي إلى الله على أبيها فالأبوة ليست برزخاً دون الشكوى في الآخرة.
وقد بيّن القرآن حب الأنبياء لأبنائهم كما يتجلى في حزن يعقوب عليه السلام على يوسف وفراقه ، مع استدامة عطفه وحنانه على أولاده الآخرين ، وإن كان يِدرك أنهم فرطوا بأخيهم فعندما جاءوا له بقميص يوسف وعليه [دَمٍ كَذِبٍ]( ) أي مكذوب وهو دم جدي ذبحوه صاح يعقوب وتوجه إلى الله بالدعاء ، وطلب قميص يوسف فألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بما على القميص من الدم .
وقال (يالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يخرق عليه قميصه)( ).
وفي الآية إنذار للمسلم وغيره بأن الذي يقدم على جريمة قتل أو غيرها ويأتي بعذر فان الله عز وجل يفضحه ، ويظهر قبح وكذب عذره بالعلامة والأمارة الظاهرة وهو من عمومات السلطان في قوله تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا]( )، فمع أن عدد إخوة يوسف هؤلاء عشرة عدا بنيامين ، فانهم عجزوا عن الإلتفات إلى سلامة القميص من الخرق والمزق .
وكذا بالنسبة للوأد فان وجود البنات في البيوت جعل أهليهن يدافعون عنهن ، ويحرصون على عدم ترك بيوتهم مكشوفة للعدو .
وإذا كانت آية الوأد معجزة عقلية فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاهد من أجل إماتة الوأد وبقاء البنات أحياء وهو معجزة حسية له لبيان أن اجتماع المعجزة العقلية والحسية موضوع واحد ، وصراط وطريق مبارك للإصلاح والإستقامة.
قوانين في السنة النبوية
قد ورد في هذا السِفر الكثير من القوانين التي تخص السنة النبوية ، وتجليات الإعجاز وأذكر هنا عدداً من هذه القوانين التي وردت في الأجزاء الأخيرة من هذا السِفر .
الأول : قانون نَهي القُرآنِ والسُّنَةِ المُغتربينَ عَن الإرهابِ.
الثاني : قانون إحصاء وذكر السنة النبوية القولية في القرآن.
الثالث : قانون إحصاء وذكر السنة النبوية الفعلية في القرآن.
الرابع : قانون السنة النبوية حرب على الإرهاب.
الخامس : قانون تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء بمنع سطوة واستبداد الملك الظالم على الحكم إذ صار القرآن والسنة النبوية مصدر التشريع والحكم.
السادس : قانون استقراء حرمة الإرهاب بشواهد من السنة النبوية .
السابع : القوانين في آيات القرآن وجوامع الكلم والمأثور في السنة النبوية ، وأقوال الصحابة والأئمة المعصومين عليهم السلام واستقراء العلماء المسائل واستقصاء القواعد الكلية منها .
وتفسير القرآن هو بيان معناه وكشف دلالاته وما يفيده النص والإشارة فيه.
الثامن : قانون السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع ، وهي بيان للقرآن ، ولا تعارض بينه وبين أحاديث العرض .
التاسع : قانون وقائع معركة بدر في السنة النبوية.
العاشر : قانون الإمتثال , فلابد من أمة تستجيب لأوامر الله طوعاً أو قهراً أو إنطباقاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ) هناك أمة من المسلمين في كل زمان تتقيد بالأوامر القرآنية وما تضمنته السنة النبوية , وتجتنب ما نهى الله عز وجل عنه , وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر : قانون إنتفاء التعارض بين آيات القرآن والسنة النبوية.
الثاني عشر : قانون تقييد السنة النبوية للإطلاق , وتخصيص العام في القرآن .
الثالث عشر : قانون دلالة السنة النبوية الفعلية على مناهج الرحمة التي يتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم والدفاع ومصاحبة السكينة له في كل أحواله مما يدل على تنزهه عن طغيان الغضب على جوارحه ، قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
الرابع عشر : قانون دعاء وسؤال الملائكة بسيادة مفاهيم السلم والسلام في الأرض ولابد من موافقة ما جاء به الأنبياء لما سأله الملائكة ، ومنه السنة النبوية في نشر ألوية السلم في الأرض.
الخامس عشر : قانون السنة النبوية القولية والفعلية تفسير للقرآن ، لتكون منهاجاً وضياء ينير للعلماء سبل التفسير .
السادس عشر : قانون انتفاء التعارض بين القرآن والسنة .
السابع عشر : قانون تثوير تفسير السنة للقرآن بذكر الحديث النبوي في تقدير الآية القرآنية ، وكذا بالنسبة للسنة الفعلية .
الثامن عشر : قانون السنة النبوية زاجر عن الإرهاب .
التاسع عشر : قانون السنة النبوية القولية والفعلية رحمة.
العشرون : قانون عدم التعارض بين القرآن والسنة النبوية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الواحد والعشرون : قانون وجوب إخلاص الفقهاء في عملهم وسعيهم ، والقيام بالتبليغ وفق الكتاب والسنة.
الثاني والعشرون : قانون السنة النبوية مرآة وتفسير للقرآن.
الثالث والعشرون : قانون السنة النبوية بيان للقرآن.
الرابع والعشرون : قانون نفي السنة النبوية للقول بنسخ آيات السلم والصلح.
الخامس والعشرون : قانون السنة الدفاعية مقدمة للسلم.
السادس والعشرون : قانون السنة النبوية مرآة للقرآن.
السابع والعشرون : قانون تفسير السنة النبوية العملي لآيات القرآن.
الثامن والعشرون : قانون وقاعدة كلية بأن السنة لا تنسخ القرآن ، وأحاديث العرض تؤيده.
التاسع والعشرون : قانون السنة النبوية شاهد على استدامة أحكام آيات السلم والصلح والموادعة إلى يوم القيامة.
الثلاثون : قانون السنة التدوينية فرع آية التبليغ.
الواحد والثلاثون : قانون نفي السنة النبوية لنسخ آيات السلم.
الثاني والثلاثون : قانون السنة النبوية بيان للقرآن , تأكيد السنة القولية والفعلية والتقريرية والدفاعية والتدوينية لسلامة آيات السلم من النسخ.
الثالث والثلاثون : قانون الإرهاب ظلم ، وقد جاءت السنة النبوية بحرمة الظلم والتعدي.
الرابع والثلاثون : قانون دلالة التنزيل والسنة على حرمة إشاعة القتل.
الخامس والثلاثون : قانون التضاد بين السنة النبوية والإرهاب.
السادس والثلاثون : قانون حرمة الإرهاب في السنة النبوية.
السابع والثلاثون : قانون حض القرآن والسنة على التعليم واقية من الإرهاب.
الثامن والثلاثون : قانون بعث السنة النبوية النفرة من الإرهاب.
التاسع والثلاثون : قانون الإحصاء في السنة النبوية.
الأربعون : قانون السنة النبوية شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الواحد والأربعون : قانون السنة بيان وتفسير للقرآن.
الثاني والأربعون : قانون منافاة الإرهاب للقرآن والسنة والعقل.
الثالث والأربعون : قانون بيان السنة النبوية للآية القرآنية بجعلها قريبة من الناس في الواقع اليومي.
الرابع والأربعون : قانون السنة النبوية تذكير بالآية القرآنية ، وهي دعوة للخير.
الخامس والأربعون : قانون السنة النبوية خير محض ، ودعوة إلى الخير.
السادس والأربعون : قانون السنة النبوية معروف وصلاح وأمر بالمعروف.
السابع والأربعون : قانون اقتباس الصحابة الدروس والمواعظ من السنة النبوية , واجتهاد التابعين في المقام.
الثامن والأربعون : قانون السلم في السنة النبوية.
التاسع والأربعون : قانون السلم في السنة التقريرية.
الخمسون : قانون السلم في ثنايا السنة الدفاعية.
الواحد والخمسون : قانون السلم في السنة النبوية من موضوع متحد( ).
الثاني والخمسون : قانون بعث السنة النبوية على التعايش السلمي.
الثالث والخمسون : قوانين بيان السنة للقرآن إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن اللجوء إلى العترة الطاهرة للتدبر في علوم القرآن.
الرابع والخمسون : قانون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي هذه المعجزات.
الخامس والخمسون : قانون معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس والخمسون : قانون التضاد بين التقوى والتعدي ، وبيان تأكيد كون هذا التضاد من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السابع والخمسون : قانون (معجزات النبي محمد (ص) في كل معركة من معارك الإسلام.
الثامن والخمسون : قانون تجلي معجزات النبي (ص) للداخل إلى المدينة مسلماً أو غير مسلم.
التاسع والخمسون : قانون معجزات النبي محمد (ص) حين وفاته.
الستون : قانون الصلح طريق دخول الناس الإسلام ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الواحد والستون : قانون كفاية معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية لجذب الناس للإيمان .
الثاني والستون : قانون عدم إنحصار المعجزات بالأنبياء فقد تجري إبتداء من عند الله عز وجل ، وهذا الإبتداء أصل المعجزات.
الثالث والستون : قانون توالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع والستون : قانون الصلح مناسبة لتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس والستون : قانون معجزات النبي (ص) التأريخية .
السادس والستون : قانون مجئ كل نبي بمحاربة الإرهاب وهو من المعجزات الحسية , ليمتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن محاربته للإرهاب مستديمة ومتجددة وباقية إلى يوم القيامة.
السابع والستون : قانون معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية ضد للإرهاب سواء تلك التي تخص التنزيل أو السنة النبوية القولية والفعلية.
الثامن والستون : قانون أن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آلافاً من المعجزات الحسية ، وأنها لا تقف عند العدد المحدد والمعدود الذي تذكره كتب السيرة.
التاسع والستون : قانون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ وتوثيق سماوي لمعجزات الأنبياء.
السبعون : قانون سقوط شهيد في ميدان المعركة من أظهر المعجزات الغيرية الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا البشارة السماوية بحياته حال قتله قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الواحد والسبعون : قانون دخول المسلمين في السلم والمصالحة مناسبة لتجلي المعجزات العقلية والحسية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني والسبعون : قانون الحاجة إلى المعجزة العقلية لخاتم الأنبياء لإنقطاع النبوة برسالته ، فتعدد أقسام وأنواع المعجزات من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الثالث والسبعون : قانون امتناع الإرتداد عن المسلمين ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن أسباب دخول أفواج من الناس في الإسلام ، ومنهم رؤساء ووجهاء قومه.
الرابع والسبعون : قانون عدم الإعتداء في حال السلم ليتعاهد المسلمون والناس حال السلم ، ويكون مناسبة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس والسبعون : قانون ندم الذي أبطأ في دخول الإسلام ، وهذا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذي يدخل الإسلام بعد الهجرة يأسف لأنه لم يدخله قبلها.
السادس والسبعون : قانون حق الجوار من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع والسبعون : قانون منافاة الإرهاب للطف والرفق وقيل لم يؤمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطلب الزيادة إلا بخصوص العلم وهو من معجزات القرآن والسنة النبوية ، وتمام الآية هو [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا]( ).
الثامن والسبعون : قانون وراء إسلام كثير من الصحابة البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معجزاته.
التاسع والسبعون : قانون الإتيان بالمعجزات التي تعضد دعوة النبوة.
الثمانون : قانون جهاد المسلمين سلم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية بأن تكون صيغة جهاده سلاماً وأمناً.
الواحد والثمانون : قانون معجزات النبوة رحمة عامة.
الثاني والثمانون : قانون ترشح المعجزات الحسية عن المعجزة العقلية.
الثالث والثمانون : قانون أكثر القبائل في التأريخ انتفعت من النبوة في ملك أو رئاسة أو إمارة هي قريش وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد تفضل الله عز وجل وخصهم بسورة كاملة في القرآن والتي تبدأ بفضل الله عز وجل بتهيئة مقدمات أساب تآلفهم في مرضاة الله عز وجل بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ]( ).
وهل من صلة بين هذه السور ورفعة شأن قريش بعد الإسلام ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
وقال ابن الرومي في قصيدة نونية طويله :
(وكم أب قد علا بابن ذرى شرفٍ..كما علا برسول الله عدنان)( ).
دلالة آمنين
وهل يدل قوله تعالى [آمِنِينَ]في قوله تعالى [لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ) على أن مكة لم تفتح عنوة ، الجواب نعم ، وفيه نكتة وهي يجب على العلماء الرجوع إلى القرآن وآياته عند الوصف والنعت للوقائع أيام النبوة وعدم الإكتفاء بالشواهد الحسية والأحداث ، وهل معنى (آمنين) يفيد أيضاً عدم وجود مشاق وعناء ومفاوضات للصلح وتعاقب الوفود كتلك التي جرت في صلح الحديبية ، الجواب نعم .
فمن إعجاز القرآن أن كلمة واحدة منه تنير البصائر وتخضع العقول وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، ومن مصاديق ملك الله عز وجل للسموات والأرض .
ومنه وفد الحاج هذا العام فهذا اليوم هو الخامس من شهر ذي الحجة من السنة (1444) للهجرة ، والخطاب انحلالي يتوجه إلى كل فرد من الملايين الثلاثة الذين في مكة ينتظرون إطلالة يوم التروية وعرفة ، وكل واحد منهم تقول له الآية (لاتخاف) (لا تخف) .
والمختار أن الفتح القريب هو صلح الحديبية .

تقدير (لا تخافون)
ترى ما هو متعلق (لا تخافون) في الآية أعلاه من سورة الفتح ، الجواب على وجوه :
الأول : لا تخافون على أنفسكم .
الثاني : لا تخافون على عيالكم وأموالكم من بعدكم لسيادة الأمن وانقطاع الغزو في الجزيرة .
الثالث : لا تخافون المشركين ، وهو من الإعجاز في حمل أهل مكة على دخول الإسلام .
الرابع : لا تخافون الصدّ عن المسجد الحرام .
الخامس : لا تخافون الإرتداد ، قال تعالى [وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا]( ).
السادس : لا تخافون الفقر والفاقة وفقدان الإستطاعة لأداء الحج ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
السابع : تجدد عدم الخوف للمسلمين في الحج في كل عام ، ومنه هذا العام ، لتأديب المسلمين أبناءهم على تعاهد فريضة الحج.
الثامن : جاء قوله تعالى [لَا تَخَافُونَ] بعد مقصرين رؤوسكم ومقصرين لبيان استدامة الأمن وعدم الخوف حتى بعد الرجوع من الحج ، وقد تضمنت الآية البشارة بالأمن بقوله تعالى [آمِنِينَ].
الحديبية فتح حقيقة
وهل صلح الحديبية فتح بذاته أم هو من المجاز بأن يطلق عليه فتحاً لما له بفتح مكة وقيل تم معه فتح خيبر ، الجواب الأصل حمل الكلام العربي على ظاهره ، وذات صلح الحديبية فتح ترشحت عنه نعمة دخول مكة وفتوح كثيرة .
فبعد الصلح اختلظ الناس وتقاربت المجتمعات لشيوع الأمن ونفاذ عبير نسيم آيات القرآن إلى الجوانح وشغاف القلوب في القرى والأمصار ، وصارت الصلاة علنية فيها ، وبرع المسلمون بالمناظرة بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبراهين الكونية والفعلية فدخلت أفواج من الناس الإسلام .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه عدم تسمية دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة فتحاً ، إنما سماه دخولاً ، وتستقرأ منه مسائل منها أن مكة أرض الإيمان والإسلام ولم يكن المشركون أولياء البيت ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
وهل من ضمن علم الله بقوله [فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا]( ) انحصار العلم بموضوع وحوادث وأضرار ما إذا تخلف المسلمون عن فتح مكة إلى ما بعد تمام عشر سنوات الصلح إلا الله ، الجواب نعم ، لما فيه من المهالك .
وهل منه أن قريش سألت مدة الصلح عشر سنوات على أمل موت أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلالها وإجهازهم على أهل البيت والصحابة من المهاجرين والتنزيل ، الجواب نعم .
وتقدير الآية : فعلم الله أنه لو بقيت مكة بيد المشركين عشر سنوات الصلح ومات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهلكتم وبقيت ثلاثمائة وستون صنماً في البيت الحرام .
ومنه فعلم الله ما لم تعلموا بتعذر حج ثلاثة ملايين مسلم ومسلمة البيت الحرام هذه الأيام وسيتضاعف أضعافاً كثيرة .
ولا يحصي ما علمه الله وحده في المقام إلا الله عز وجل ، وهو لا يمنع من استقراء آلاف المسائل من الوقائع والأحداث ويبقى الأكثر خاصاً بعلم الله وحده الذي أحاط بكل شئ علماً.
معنى فتحاً قريباً
وسمّى الله عز وجل فتح الحديبية (قريباً) لوجوه :
الأول : البشارة بفتح مكة بعده ، وعدم انتظار عشر سنوات مدة الصلح مع قريش ولا يعلم ما يعقبها إلا الله خاصة وأن أجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حضر بعد صلح الحديبية بخمس سنوات وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسير إلى قرب أجله ، فكان أوان فتح مكة ضرورة وحاجة للمسلمين والناس جميعاً .
لبيان معجزة تنجز فتح مكة بالوقت المناسب ديناً ودنيا.
الثاني : من معاني (قريباً) بيان قرب أوان فتح مكة ، فليس بينهما إلا سنتان .
الثالث : تأكيد أن صلح الحديبية فتح ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الرابع : من معاني (قريباً) أي سهلاً يسيراً فاعظم الفتح هو الصلح ، وصيرورة صلح الحديبية فتحاً معجزة ، وقيل المراد فتح خيبر وهو ضعيف .
فان قلت لو بقيت مكة بيد المشركين بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى تجري عليها أحكام حروب الردة ، وكما قضى الصحابة على إرتداد بعض القبائل وحركة مسيلمة الكذاب في اليمامة ، وسجاح بنت الحارث التميمية التي ادعت النبوة مثله أيضاً وكانت شاعرة عارفة بالأخبار.
والجواب إنه قياس مع الفارق ، فلولا فتح مكة في أوانه في السنة الثامنة للهجرة لما استطاع الصحابة قيادة حروب الردة والقضاء عليها في مهدها.
ولو كانت مكة بيد المشركين يوم وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتوسع تمرد القبائل ، وقادت قريش هذا التمرد ، وسارت بالجيوش للإنتقام من أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار .
معجزة مفاوضات الحديبية
سهيل بن عمرو أسره المسلمون في معركة بدر ، وقال عمر بن الخطاب (لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله انزع ثنيتى سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن ابدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا امثل به فيمثل الله بي وان كنت نبيا.
قال ابن اسحق وقد بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر في هذا الحديث انه عسى ان يقوم مقاما لا تذمه)( ).
وفي مفاوضات صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وبعد أخذ ورد وطول مراجعة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش برئاسة سهيل بن عمرو ، حتى إذا تقاربوا .
(دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يكتب الكتاب بينهم، ودعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان!
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً يكتب .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب باسمك اللهم.
فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن.
وقالوا : لا تكتب إلا الرحمن. قال سهيل : إذاً لا أقاضيه على شيءٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب باسمك اللهم! هذا ما اصطلح عليه رسول الله.
فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فضج المسلمون منها ضجةً هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات .
وقام رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: لا نكتب إلا محمدٌ رسول الله .
فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي فروة، عن واقد بن عمرو، قال: حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد الكاتب فأمسكاها وقالا : لا تكتب إلا محمدٌ رسول الله، وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم : اسكتوا .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام الصبر وتهدئة الصحابة بما يدل على البشارة والسلامة .
وجعل حويطب أحد أعضاء وفد قريش يتعجب مما يصنعون، ويقبل على مكرز بن حفص ويقول: ما رأيت قوماً أحوط لدينهم من هؤلاء القوم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب باسمك اللهم. فنزلت هذه الآية في سهيل حين أبي أن يقر بالرحمن [قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى]( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا محمدٌ بن عبد الله، فاكتب! فكتب: باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو)( ).
ووثبت خزاعة ودخلت في عهد وعقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن يومها وفي مجلس صلح الحديبية قال حويطب بن عبد العزى لسهيل بن عمرو (ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر. قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر! فإنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة فيغضب محمدٌ لحلفائه، فينقض العهد بيننا وبينه.
قال حويطب: حظوت والله أخوالك بكل وجه! فقال سهيل: ترى أخوالي أعز علي من بني بكر؟ ولن والله لا تفعل قريش شيئاً إلا فعلته.
فإذا أعانت بني بكر على خزاعة فإنما أنا رجلٌ من قريش، وبنو بكر أقرب إلي في قدم النسب، وإن كان لهؤلاء لخؤولة، وبنو بكر من قد عرفت، لنا منهم مواطن كلها ليست بحسنةٍ، منها يوم عكاظ)( ).
معجزة قطع مدة الصلح بنقض كفار قريش له
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية بعد وفاته :
الأولى : تحقيق صدق قوله لعمر بن الخطاب (عسى ان يقوم مقاما لا تذمه)( ).
الثانية : صيرورة ألد أعداء النبي من أوفى الناس بالإسلام [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
لقد اصطلح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش برئاسة سهيل بن عمرو على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ونطرح مسألة مستحدثة ، حينما طلبت قريش عشر سنوات هل كانت ترجو قتل أو موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال هذه المدة ، الجواب نعم.
خاصة وأنهم يعلمون أعمار بني هاشم في الجملة ، بل لم يكن متوسط الأعمار آنذاك يتعدى الستين كثيراً ، وقد انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد صلح الحديبية بخمس سنوات عن عمر ثلاث وستين سنة ، هذا مع عزمهم اثارة الفتن مثل نصرهم بالسلاح والرجال بني بكر على خزاعة.
ومن الإعجاز في أوان فتح مكة أن قريشاً لم ترتد هي وثقيف ، وبذا كانت مكة مع المدينة اللبنة والقدوة في دعوة الناس للبقاء على الإسلام فمثلاً توجه عكرمة بن أبي جهل والذي كان هو وأبوه من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتال مسيلمة الكذاب ثم إلى عُمان والمهرة .
وهل بقي المرتدون في مدنهم وقراهم ، الجواب لا ، إذ زحفت قبائل منهم بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة من بعض قبائل غطفان وأسد وعبس وذبيان وبني بكر بن عبد مناة.
لقد أرسلت هذه القبائل وفوداً إلى المدينة ليرجعوا إلى أهليهم (فأخبروا عشائرهم بقلة من أهل المدينة ، وأطمعوهم فيها)( ).
ولم يكن فتح مكة ابتداء من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعجلاً منه لتثبيت أحكام الشريعة قبل مغادرته الدنيا إنما هو الوحي ، ولأن المشركين مكروا وتعدوا ، ونقضوا عهد وشروط صلح الحديبية باعانتهم بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة حلفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ وفد خزاعة برئاسة بديل بن ورقاء إلى المدينة فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لاقوه من الظلم والقتل من قريش ليكون فتح مكة من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وأدركت قريش الزلل الذي وقعوا فيه ، ومخالفتهم شروط الحديبية ، فأرسلوا أبا سفيان خاصة وأن ابنته أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليجدد العهد والهدنة ، وأول ما دخل على ابنته قامت بطي الفراش عنه وحينما سألها سؤال استفهام (قالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت مشرك نجس قال والله لقد أصابك بعدى شر)( ).
وهل قول أم حبيبة هذا معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
معجزة المنافع اليومية للسنة
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ببقاء سنته بين المسلمين وعلى نحو يومي متجدد ، وهل يستحضرون سنته على نحو طوعي أم قهري .
الجواب هو الأول مع اللطف الإلهي بتقريب الناس للعمل بالسنة النبوية إذ تفضل الله عز وجل وجعل الدنيا دار الإختبار والإمتحان والإبتلاء ، وهدى المؤمنين إلى الإيمان والتقوى ، وأمر الله عز وجل المسلمين بقوله [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، فامتثال أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو طوعي كي يأتي الأجر والثواب العظيم .
ومن منافع السنة النبوية الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباع أوامره ونواهيه في ميدان الأخلاق ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وتتجلى معاني الخلق الحميد ومكارم الأخلاق في السنة النبوية من وجوه :
الأول : السنة النبوية مرآة وترجمة فعلية لآيات الخلق الحميد .
الثاني : ذات اسم محمد وأحمد دعوة لمحاسن الأخلاق التي تتقوم بالشكر لله عز وجل .
لذا أمر الله كل مسلم ومسلمة بتلاوة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية ، وصحيح أن المدار على المسمى ولكن اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعث للحمد لله ، والثناء عليه ، والتدبر في فضله وإحسانه ، وهل الخلق الحميد من الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الجواب نعم .
الثالث : أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخلق الحميد ومنها مثلاً :
أولاً : عن كعب بن مالك (أن رجلاً من بني سلمة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسلام فقال : حسن الخلق . ثم راجعه الرجل فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : حسن الخلق . حتى بلغ خمس مرات)( ).
ثانياً : عن الصحابي (عمرو بن عبسة : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما الإيمان؟ فقال : الصبر ، والسماحة ، وخلق حسن) ( ).
ثالثاً : وعن أبي كعب (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من سره أن يشرف له البنيان ، وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ، ويعطِ من حرمه ، ويصل من قطعه .
وأخرج البيهقي عن علي بن الحسين عليه السلام، أن جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه ، فرفع رأسه إليها فقالت : إن الله يقول {والكاظمين الغيظ} قال : قد كظمت غيظي قالت {والعافين عن الناس}( ) قال : قد عفا الله عنك قالت {والله يحب المحسنين } قال : اذهبي فأنت حرة)( ).
رابعاً : (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي)( ).
لبيان حاجة المسلم والمسلمة للدعاء بحسن الخلق ، فمقاليد الأمور بيد الله عز وجل ، وهو الذي يصرف عن المؤمن الغضب وسوء الخلق .
خامساً : و(عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)( ).
سادساً : وعن الإمام الباقر عليه السلام (قال: قالت ام سلمة رضي الله عنها لرسول الله (صلى الله عليه وآله): بأبي أنت وامي: المرأة يكون لها زوجان فيموتون ويدخلون الجنة لأيهما تكون.
فقال عليه السلام : يا ام سلمة تخير أحسنهما خلقا وخيرهما لاهله، يا أم سلمة إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والاخرة)( ).
الرابع : السنة النبوية الفعلية في الخلق الحميد .

معجزة البشارة باسم (أحمد)
لقد أنعم الله عز وجل على الناس وجعل النبوة متصلة وهناك خيوط عهد وميثاق كالسور الجامع بين الأنبياء ، منه :
الأول : بشارة الرسول السابق باللاحق .
الثاني : تصديق اللاحق للسابق .
الثالث : الإلتقاء عند تصديق وحفظ الكتب السماوية ، وبيان أحكام الشريعة .
الرابع : الجهاد في سبيل الله بالحكمة والموعظة ، ودعوة الناس للإيمان.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ الأنبياء السابقين بالبشارة بنبوته ، وورد في التنزيل على لسان عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
فجاءت الآية بوجوه :
الأول : البشارة بالنبي محمد على لسان نبي رسول .
الثاني : من معاني البشارة الدعوة للتصديق به .
الثالث : النبي محمد نبي رسول وليس نبياً فقط .
ليكون من معاني هذه البشارة التصديق بالكتاب السماوي والشريعة التي يأتي بها ، فمن خصائص الرسول أنه صاحب شريعة مبتدأة .
الرابع : وجود فترة بين نبوة عيسى ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الأنبياء السابقين باسم يدل على إتصافه وأمته بالإنقطاع إلى الحمد والشكر لله ، لذا فيهم الحامدون ، ويلتقون مع الأنبياء بخصلة حميدة وهي الحمد لله ، ويحفظون الحمد لله في الأرض على نحو يومي متجدد إلى يوم القيامة ، فلا غرابة أن يتلو كل مسلم ومسلمة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، في الصلاة اليومية ودلالتها على التسليم بانتفاء الشريك لله عز وجل ، وعدم الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن قول (رب العالمين) إقرار بعبودية وانقياد الخلائق كلها لله عز وجل .
السادس : دعوة عيسى عليه السلام اليهود والنصارى إلى عدم محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : إخبار عيسى عليه السلام لبني إسرائيل عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مقام النبوة والرسالة إذ قدم لها بقوله [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ]( ).
ولم يقل لهم (يا قوم) كما في قول موسى عليه السلام [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ]( ).
لبيان أن عيسى ليس له أب في بني اسرائيل ، وأن النسب على الأب وليس على الأم ، وللدلالة على استدامة نداء عيسى لأجيال بني إسرائيل.
وعدم انتساب عيسى لقوم فخر وعز له ، وشاهد على ولادته بالمعجزة .
كما أخبر القرآن عن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكتب السماوية السابقة وليس فقط على لسان عيسى عليه السلام ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ]( ).
ويلح اسم أحمد ، ومحمد على المسلمين كل يوم بوجوب التقوى والصلاح .
معجزة حرص النبي (ص) على إيمان جميع الناس
لقد أخبر الله عز وجل بأنه بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى الناس كافة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فلابد من مصاديق يومية متكررة في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الآية ، وتعضدها آيات القرآن الأخرى ، فمثلاً كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الأنبياء على الكفر والكفار ، لم يستعمل السيف ضدهم ، ولكنه يدعوهم بالليل والنهار إلى الإيمان ، وهل صبره على أذاهم من هذه الدعوة والإلحاح فيها ، الجواب نعم.
فلا تصل النوبة للسيف ، لموضوعية آيات القرآن من وجوه :
الأول : وقع الآية القرآنية أشد من السيف .
الثاني : اهتداء الناس بآيات القرآن ، فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : قانون تجلي الإعجاز بنزول كل آية قرآنية ، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً ، ومن مصاديق التدبر في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
ومن معاني [لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ] في الآية أعلاه جهات :
الأولى : قانون تدبر أجيال الناس جميعاً في كل زمان في آيات القرآن .
الثانية : قانون البشارة ببقاء القرآن غضاً طرياً وسالماً من التحريف والزيادة والنقيصة إلى يوم القيامة .
الثالثة : قانون الأمر بالتدبر في آيات القرآن شاهد على صدق نزوله من عند الله عز وجل .
الرابعة : قانون التدبر بآيات القرآن على نحو الإستقلال لكل آية ، والجمع بينها وبين آيات القرآن الأخرى ، والتدبر في آيات القرآن على نحو العموم المجموعي .
الخامسة : قانون كل آية قرآنية تدعو الناس للهدى والإيمان ، ليكون من جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الناس للإيمان تلاوته آيات القرآن من الأيام الأولى للبعثة النبوية في مجتمع الكفار ومن معجزاته دخول الناس الإسلام حينئذ مع شدة أذى الكفار له ولأهل بيته وأصحابه.
أصالة العموم في الوصية بالوالدين
جاء قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ]( ) لإفادة العام والمطلق إلا مع التقييد كما سيأتي ، وتكون الوجوه كالآتي :
الأول : ووصينا المسلم بوالديه المسلمين.
الثاني : ووصينا المسلم بوالديه من أهل الكتاب .
الثالث : ووصينا المسلم بوالديه الكافرين .
الرابع : ووصينا الكتابي بوالديه ، مع تعدد الوجوه أعلاه ، ليكون عددها تسعة .
أما التقييد فقد ورد في قوله تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
لبيان تخصيص العام ، ولكن ليس على نحو السالبة أو الموجبة الكلية مثل غلق باب العفو والمغفرة على المشرك ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ) وقد ورد لفظ نفي المغفرة هذا في آية أخرى من سورة النساء وهي الآية 48 منها للتأكيد والإنذار والوعيد .
معجزة عمارة الأرض بالنبوة
من اللطف الإلهي بالناس نيل أول إنسان يهبط إلى الأرض مرتبة النبوة ، فآدم عليه السلام نبي رسول منذ أن لم يكن في الأرض إلا ثلاثة :
الأول : آدم عليه السلام .
الثاني : حواء .
الثالث : إبليس .
لبيان قهر النبوة للشيطان على نحو القطع والجزم ، إذ أن [كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( )يدفعه إمتناع الإنسان عن اتباع الهوى والغواية.
ووردت الأحاديث النبوية بالشهادة لآدم بالنبوة مما يدل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاجة الأنبياء لآيات القرآن التي تشهد بنبوتهم ومعجزاتهم ، والأحاديث النبوية البيانية .
(وقال أبو ذر : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء.
قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً .
قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم؟
قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء.
قلت : أكان آدم نبياً؟
قال : نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده .
يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك.
قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟
قال : مائة وأربع كتب، منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوح،وهو إدريس ثلاثين صحيفة،وهو أوّل من خطّ بالقلم،وعلى إبراهيم عشر صحائف،والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان)( ).
أو يخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور بخصوص آدم عليه السلام :
الأول : خلق الله لآدم بيده ، ونفخ الروح فيه .
الثاني : تكليم الله عز وجل له قبلاً من غير واسطة ملك أو وحي ، ولم يكن الكلام بواسطة الشجرة أو غيرها ، إنما نهاه الله عز وجل عن الأكل من الشجرة ، قال تعالى [وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ]( ).
الثالث : نيل آدم مرتبة النبوة ، وهي غير تكليم الله عز وجل له في الجنة ، وهذا التكليم عند إقامة آدم وحواء في الجنة ، والظاهر أن سكانها يكلمهم الله عز وجل ، ألا ترى أن الخطاب والنهي في الآية أعلاه توجه إلى أدم وحواء بعرض واحد [وَلَا تَقْرَبَا].
ولم يرد لفظ [تَقْرَبَا] في القرآن إلا مرتين وبخصوص ذات الموضوع ، وبصيغة النهي والإستثناء من نعم وأشجار الجنة التي لا تعد ولا تحصى كثرة كماً وثمرة.
الرابع : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه الأنبياء العرب وعددهم قليل جداً بالقياس إلى كثرة الأنبياء فهم أربعة هود ، وصالح وشعيب والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سمو ورفعة شأن العرب برسالته إلى يوم القيامة .
وليس لآدم عليه السلام وأنبياء آخرين قومية ، وإن نطقوا بالسريانية أو العربية لسبق أيامهم وبعثتهم على أنشطار الناس إلى أمم مختلفة ، وكذا عيسى عليه السلام لأنه ليس له أب.
الخامس : نزول الوحي والصحف على آدم وعددها أربعة ، مما يدل على أن آدم كان يقرأ بآية ومعجزة من عند الله عز وجل ، وهل كانت حواء تقرأ ، المختار نعم ، وهو من النعم التي يرزقها الله لساكني الجنة ، وفي التنزيل [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ) في خطاب لكل إنسان يوم القيامة ، وإن كان أمياً في الدنيا.
ولتقرأ حواء صحف آدم ، وتتوقى من إبليس ومكره ، ولبيان أن العلم مصاحب لهبوط الذكر والأنثى إلى الأرض .
وقانون لابد من قارئ للصحف التي تنزل على النبي عند نزولها وإن استمر نزول هذه الصحف والوحي على آدم مع كثرة أولاده وأحفاده .
وليكون معنى الأمر في أول كلمة نزولاً من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ) أي يا أيها المسلمون والمسلمات اقرأوا باسم ربكم) وجاء التقييد في القراءة لتكون نافعة في ذاتها ، ومسخرة لعبادة الله والصلاح والفوز بالأمن في النشأتين ، والإنذار في تسخير العلم لما فيه الإضرار بالذات والغير.
وعمارة الأرض بالنبوة من مصاديق قوله تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )
فما أن يولد الإنسان وينشأ ويصبح مميزاً حتى تتوجه له براهين النبوة ، والدعوة إلى عبادة الله ، ليؤدي الفرائض العبادية عند البلوغ .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقاء معالم وأحكام نبوته نافذة في الأرض مع إنتقاله إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة النبوية الشريفة ، والموافق شهر يونيو حزيران سنة (632) ميلادية .
علوم الشريعة
العلوم التي نشأت على أسسها الشرائع تتجسد معالمها في سورة الفاتحة، فعلم الأصول الذي يستند إلى معـرفة الخالق عز وجل وصفاته تأتي الإشارة اليه في السورة بـ [رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
ومعرفة النبوة والرسالة يتضمنها قوله تعالى [الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].
ومعرفة المعاد واليوم الآخر تأتي في قوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدَين].
وعلم العبادات يرد مفهومه في الآية الكريمة [إِيَّاكَ نَعْــبُــدُ وَإِيَّــاكَ نَسْتَعِينُ].
وعلم السلوك وهو توجيه الإنسان وأفعاله في سبل الشريعة وأحكامها يرد في [ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ].
وعلم القصص وهو معرفة أحوال الأمم السالفة واخبار الأيام الماضية من اجل التدبر والإتعاظ والرشاد جاء بيانه بقوله تعالى [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ].
لقد جاءت سورة الفاتحة جامعة لهذه المقاصد الشريفة ، وفيها بيان مختصر لمضامين الكتاب لتكون واجهة وإشراقة من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن.
الإعجاز في وصايا النبي
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة وصاياه للمسلمين ، وهذه الوصايا مرآة للقرآن ، وسبيل هدى ، والعامل بها ينال العز في الدنيا ، ويكون في الآخرة من الذين [لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ) .
ومن تفسير وبيان آية البحث في الوصايا النبوية ما ورد عن أم أنس قالت (يا رسول الله أوصني قال : اهجري المعاصي فإنها أفضل الهجرة ، وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد ، واكثري من ذكر الله فإنك لا تأتين الله بشيء أحب إليه من كثرة ذكره)( ).
وكانت وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تترى من وجوه :
الأول : وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلبها وسأل الوصية .
الثاني : وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابتداءً من غير سؤال .
الثالث : وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر .
الرابع : وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل البيت ، وهو من مصاديق وتفسير قوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( ).
فلا يختص هذا الإنذار بواقعة نزول هذه الآية في مكة بل هو متجدد ، ليكون نوع طريق لإصلاحهم لمراتب الإمامة في التقوى والصلاح ومقدمة لحديث الثقلين إذ ورد (عن زيد بن أرقم، قال: لما رجع رسول الله من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن .
ثم قال : كأنى قد دعيت فأجبت، إنى قد تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتى، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.
ثم قال : الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .
فقلت لزيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه وسمعه بأذنيه)( ).
الخامس : وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب من اليهود والنصارى.
السادس : وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين.
السابع: وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقاء هذه الوصايا عند الأجيال المتعاقبة ، وإنتفاعهم منها .
وهذه الوصايا مرآة وترجمان لآيات السلم ، وشاهد على سلامتها من النسخ ، ودعوة متجددة للتقوى والصلاح .
ومن وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحضّ على العمل الصالح لإجتناب الخزي يوم القيامة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
و(عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة إلى مغيربان الشمس ، حفظها ونسيها من نسيها ، وأخبر ما هو كائن إلى يوم القيامة ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا خضرة حلوة ، وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون .
ألا فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء .
ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى ، فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً .
ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم .
ألم تروا إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه؟
فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فليلزق بالأرض .
ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب ، سريع الفيء . وشر الرجال من كان بطيء الفيء ، سريع الغضب .
فإذا كان الرجل سريع الغضب سريع الفيء فانها بها ، وإذا كان بطيء الغضب بطيء الفيء فإنها بها .
ألا وإن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب ، وشر التجار من كان سيء القضاء سيء الطلب .
فإذا كان الرجل حسن القضاء سيء الطلب فإنها بها ، وإذا كان الرجل سيء القضاء حسن الطلب فإنها بها .
ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يقول بالحق إذا علمه .
ألا إن لكل غادر لواء بقدر غدرته يوم القيامة .
ألا وإن أكبر الغدر أمير العامة .
ألا وإن أفضل الجهاد من قال كلمة الحق عند سلطان جائر .
فلما كان عند مغرب الشمس قال : ألا إن ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كمثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى)( ).
و(عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألت ربى أن لايدخل النار أحدا من أهل بيتى فأعطاني ذلك)( ).

الإنذار من السلاح الفتاك
قال تعالى [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
وتكرر لفظ (مكرهم) في الآية أعلاه ثلاث مرات والرابع الفعل (مكروا) لتأكيد إتخاذ المشركين المكر والحيلة للإضرار العام منهاجاً .
لبيان تجدد المكر الخبيث من الذين كفروا ، والله عز وجل يعلم كيدهم وشرورهم وما سيقدمون عليه وتركهم يمكرون ويكيدون ليقيم عليهم الحجة ، ويبين لهم وللناس خيبة المشركين بمكرهم مع إحكامهم له وتهيئة مقدماته.
وهل تتضمن الآية أعلاه واشارتها إلى إزالة المكر الجبال تحذير الدول والرؤساء من استعمال سلاح فتاك بما يهلك الناس ويتلف الزراعات ، ويغير البيئة ، ويعدم الحياة في أماكن من الأرض كما في القنبلة النووية مثلاً ، الجواب نعم.
ومنه إرادة قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه لولا نزول جبرئيل في ذات الليلة التي أرادوا فيها قتله واغتياله ليأمره بالهجرة ويتخذ قبضة التراب ليلة ولادته سلاحاً للنجاة منه.
وهذا السلاح لم يضرهم فلم يسبب لهم الداء أو الجرح أو القتل وإنما كان وسيلة نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم وسلامة الإمام علي عليه السلام في مبيته في فراشه لأن هذا التراب منع المشركين من سرعة الحركة وجعلهم مشغولين بأنفسهم فلم يتعجلوا بالإنقضاض على النائم في الفراش .

أسباب دخول النبي (ص) مكة
مع أن شهر رمضان شهر الصيام الواجب بالذات ، كما قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وشهر رمضان هو الوحيد من بين أشهر السنة الذي ذكر بالاسم في القرآن بقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
فان النبي محمداً استجاب لوفد بني كعب وهم بطن من خزاعة حينما جاءوا يشكون نقض قريش العهود معه ، وأعانتهم بالرجال والسلاح بني بكر إذ أغار بنو نفاثة من بني الديل على بني كعب في مدة العهد التي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش وهي عشر سنوات لم تمض منها إلا سنتان ، وكان بنو نفاثة في صلح قريش فأعانتهم بنو بكر ، فأمدتهم قريش بالسلاح والرجال وممن أعانهم من قريش :
الأول : صفوان بن أمية .
الثاني : شيبة بن عثمان .
الثالث : سهيل بن عمرو .
(واعتزلتهم بنو مدلج ووفوا بالعهد الذى كانوا عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفى بنى الديل رجلان هما سيداهم، سلمى بن الاسود وكلثوم بن الاسود)( ).
وكان عامة بني كعب من النساء والصبيان وضعفاء الرجال ، فصاروا يقتلونهم إلى أن لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء في مكة ، فخرج ركب من خزاعة برئاسة بديل بن ورقاء إلى المدينة وأخبروه بما أصابهم من قريش.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارجعوا وتفرقوا في البلدان ، لإرادة الصبر واجتناب القتال ، وكيلا تعلم قريش بأنهم جاءوا إلى النبي وأخبروه واشتكوا عنده ، فتبث قريش العيون ، وتستعد للقتال ، إنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباغتة قريش.
وأوجس أبو سفيان وأصحابه خيفه ، فخرج من مكة متوجهاً إلى المدينة ، ولابد أنه خرج باستشارة رجالات من قريش.
وفي طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقاء وأصحابه ، فظن أنهم قدموا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله : من أن أين أقبلت يا بديل.
فقال : سرت في خزاعة في هذا الساحل في بطن الوادي ، للتورية عليه.
ولكن أبا سفيان عمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فعلم أنهم قدموا من المدينة لأن علف الأنعام فيها التمر .

أبو سفيان في بيت النبي محمد (ص)
حينما قدم أبو سفيان المدينة دخل إلى بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت بنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولما أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوته ، فاستغرب أبو سفيان وسألها هل رغبت بالفراش عني ، أو أنك ترين مقامي أكبر من هذا الفراش وأنا سيد كنانة وأبوك ، فقالت كلمتها الخالدة :
(هو فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه)( ).
فهي استقبلته حينما دخل عليها مع كفره ولكنها طوت فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو كالأمانة عندها ليكون فعلها من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ).
وفيه دعوة له ولغيره للإيمان خاصة أهل مكة ، وحض للناس على عدم نصرة كفار قريش عندما يتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى فتح مكة.
فقال معاتباً : يا بنية والله لقد أصابك من بعدي شر .
وقد جاء أبو سفيان قبلها بخمس سنوات إلى المدينة غازياً على رأس جيش من ثلاثة آلاف رجل.
فهل ما حدث له من مصاديق الخزي في قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ) ( )، الجواب نعم .
ودخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقال: يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة)( ).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ولذلك قدمت هل من حدث قبلكم ؟.
أي هل هناك سبب لقدومك وسؤالك وطلبك هذا ، فانكر أبو سفيان وجود أي حدث أو سبب طارئ لقدومه وأكد (نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل)( ).
وكأنه يتكلم عن نفسه تورية لأنه لم يشارك فعلاً في مد وإعانة بني بكر على حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إلى بيت علي وفاطمة (ع)
صار أبو سفيان يتنقل بين رجالات قريش من الصحابة الذين مع النبي فكلم أبا بكر وقال له : جدد العقد وزدنا في المدة ، فقال : جواري من جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكلم عمر بن الخطاب فزجره وبيّن له عدم وجود سبب لتجديد العقد ونحن باقون عليه وكذا صدّه عثمان وغيره من كبار المهاجرين.
ثم دخل أبو سفيان على الإمام علي عليه السلام وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان الحسن بين يديهما غلاماً يبلغ من العمر خمس سنوات إذ ولد في النصف من رمضان من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، والإمام الحسين وعمره أربع سنوات .
وبيت علي وفاطمة إنما هو حجرة وساحة وبابه على المسجد لا يدخل إليه إلا من المسجد إذ غلقت بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأبواب الشارعة في المسجد إلا أبواب بيوته وباب علي.
وسأل أبو سفيان الإمام علي بالرحم وكيف أنه أقرب القوم رحماً به ، وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال (فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
وقد سبق وأن رجع أبو سفيان وجيشه في معركة أحد خائبين ، قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
فقال الإمام علي عليه السلام (ويحك أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه)( ).
ويدل هذا الكلام على أن عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أخذ حق خزاعة ، ولكن من غير معرفة الطريقة والكيفية لأخذه لأنه من الوحي لبيان أن فتح مكة وحي من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ثم توجه أبو سفيان إلى فاطمة عليها السلام (يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس يكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت: والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس وما يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم)( ).
وبعد أن تعذرت الإجارة على أبي سفيان وأدرك حال السخط التي عليها الصحابة بسبب قبح فعل رؤساء من قريش ونقضهم العهد وبنود صلح الحديبية سأل الإمام علي عليه السلام أن ينصحه.
قال : والله ما أعلم شيئاً يغني عنك ، ولكن قم فنادي بالإجارة بين الناس وأرجع إلى بلدك .
قال أبو سفيان : وهل ينفعنا هذا ؟ قال : لا ، ولكن ليس من سبيل غيره.
نداء أبي سفيان في المسجد النبوي
قام أبو سفيان بالدخول إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون عدم منع المشرك من دخول مسجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام حياته .
ونادى أبو سفيان بأعلى صوته (إنّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النّاسِ)( ).
ولم يجبه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، ليصير قوله كأنه لغو إذ يصدر من شخص من جهة وطرف واحد ، من غير أن يُطلب.
ثم ركب بعيره وغادر إلى مكة ، وكانت قريش في حال خوف وإرتباك ، والظاهر أن إعانة جماعة منهم مثل صفوان بن أمية لبني الديل لم يكن عن إجماع ومشورة ورأي من رؤساء قريش خاصة وأنهم يدركون موضوعية الوحي في القرار والفعل الذي يقدم عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطاعة المسلمين له طاعة تامة ، قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
وهل من الرحمة في الآية أعلاه فزع المشركين منهم ، وإجتنابهم تكرار غزوهم للمدينة ورضاهم بصلح الحديبية مكرهين ، الجواب نعم.
وتلقى رجالات مكة أبا سفيان ، وسألوه : ما وراءك ؟ فاطلعهم بالتفصيل ، وقد جئت محمداً فكلمته ، ولم يرد عليّ شيئاً ، أي لا يعلم أحد ما سيقوم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد نقض قريش الصلح.
ثم بادرت للذهاب إلى ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خير ، ثم جئت ابن الخطاب فكان أشدهم ، ثم جئت علياً فوجدته الين القوم وأشار عليّ فاستبشَروا وظنوا الإنفراج .
(قَالُوا : وَبِمَ أَمَرَك ؟ قَالَ أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ فَفَعَلْت ، قَالُوا : فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدٌ.
قَالَ لَا ، قَالُوا : وَيْلَك وَاَللّهِ إنْ زَادَ الرّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِك ، فَمَا يُغْنِي عَنْك مَا قُلْت . قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا وَجَدْت غَيْرَ ذَلِكَ)( ).
لقد اسقط ما في أيدي قريش ، وصاروا ينتظرون المجهول إذ أقاموا الحجة على أنفسهم بنقض العهد وصلح الحديبية مع قبح إقامتهم على الشرك ، ولا طاقة لهم بقتال النبي وأصحابه خاصة وأن ذهاب أبي سفيان إلى المدينة لم يكن بخصوص تمديد مدة العهد.
إنما أراد أن يعرف عن قرب أموراً :
الأول : طاعة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : كثرة عدد المسلمين وأسلحتهم وخيلهم .
الثالث : ثبات الصحابة على الإيمان .
الرابع : مدى استجابة الصحابة لدخول مكة إذا أمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يمنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أصحابه أبا سفيان عند ندائه بالإجارة بين الناس في المسجد النبوي ، ولم يجادلوه ويبينوا له بطلان هذه الإجارة لفقدها لشروطها وما يقومها.
لقد دخل أبو سفيان على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يمنعه الصحابة من الدخول عليه ، وهذه معجزة أخرى للنبي بالأمن والسلامة من رئيس جيش المشركين في معركة أحد ، وصاحب المكر والدهاء ، وابنته زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى بعد خطوات منه لإتصال بيوت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغرف أزواجه بالمسجد النبوي بأبواب مفتوحة عليه ، أو الظاهر من كلمة (ثم دخل على النبي)( )، أنه دخل عليه في بيوت أزواجه .
فقال للنبي : يا محمد إنى قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرنى أحد ولا يرد جواري.
فقال : أنت تقول يا أبا حنظلة ، فخرج أبو سفيان على ذلك)( ).
ومكث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد مغادرة أبي سفيان مدة بما يبعث قريشاً على الكسل والركون إلى الأمن ، والظن بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحاسبهم على نقضهم العهود ، وبقى ينتظر الوحي حتى أذن الله عز وجل له بالتوجه إلى مكة .
فقال لعائشة : جهزينا واخفي أمرك.
وقال : اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجاة)( ).
لبيان معجزة جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء مقدمة لما يشرع به من الأمور .
ولإرادة دخول مكة سلماً من غير إراقة دماء ، وقد استجاب الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ فاجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قريشاً وهو على مشارف مكة ، ليكون مثل ساعة خروجه منها ، إذ اجتمعوا على بابه لإرادة قتله.
وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من الصحابة أن يقيموا بالأنقاب لمنع تسلل أشخاص من غير المسلمين بالمطاردة إلى مكة وإخبار قريش ، لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف عن الفريقين ، عدم حدوث قتال وسفك دماء .
قانون الإملاء في الدنيا لعالم الآخرة
قال تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ]( )، ترى لماذا لم تقل الآية : ووصينا الابن بوالديه ، الجواب لإرادة اتصال عالم الدنيا بالآخرة ، وتقدير الآية على وجوه منها :
الأول : ووصينا الإنسان بوالديه في حياتهما .
الثاني : ووصينا الإنسان بوالديه بعد موتهما .
الثالث : ووصينا الإنسان بوالديه بالشفاعة لهما في الآخرة ، ليكون من إعجاز القرآن تعليم المسلمين ما يجب عمله في الآخرة، فصحيح أنها دار حساب وجزاء ، وليس دار عمل إلا أنه ورد استثناء مثل الشفاعة ليكون بر الإنسان بوالديه وفق ما يأذن به الله للمؤمنين .
ومن معاني الوجه الثالث أعلاه وجوب الإيمان وأداء الفرائض العبادية كي يكون الإنسان مؤهلاً للشفاعة لوالديه وغيرهم في الآخرة ، قال تعالى [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ).
فمن الإحسان المذكور في الآية أعلاه بر الوالدين ، وهو إحسان لهما وللذات والأبناء .
الرابع : ما يجده الإنسان في الآخرة من بره لوالديه في الدنيا يفوق التصور الذهني ، لذا من وجوه تقدير الآية : ووصينا الإنسان بوالديه لينجو ويفوز في الآخرة .
ومن البر بالوالدين طاعتهما والإحسان إليهما ، وإظهار الإكرام لهما ، وقضاء حاجتهما قبل المسألة أو بعد سؤالهما لها ، وفي باب الأولوية القطعية في علم الأصول يستدل بقوله تعالى [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا]( )بلزوم عدم زجرهما أو شتمهما أو ضربهما .
ويمكن أن يؤتى بأمثلة قرآنية متعددة معه منها مثلاً [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( ) ليدل على أن فرعون عصى الله من باب الأولوية بادعائه الربوبية ، وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) ليكون من باب الأولوية القطعية لا تتخذوا الذين يحاربونكم بالسيف أولياء .
معجزة سورة البقرة شعار في الميدان
لما فتحت مكة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعشرة آلاف مسلم كانوا معه، لم يبق في مكة كثيراً مع أنها بلد البيت الحرام، ومحل صباه وبدايات نزول الوحي عليه، فأقام فيها خمسة عشر يوماً أسس فيها لقواعد الحكم الإسلامي ، وإدارة شؤون البيت الحرام والقرى التي حول مكة، وإقامة الصلاة، وقهر الشرك فيها إلى يوم القيامة ، ونصب عتّاب بن أُسيد عاملاً عليها .
وخرج والمسلمون من مكة لثلاث خلون من شوال من سنة ثمان من الهجرة وخرج معه من مسلمة الفتح ألفان فكان مجموع المسلمين الذين معه أثني عشر ألفاً، لذا قال بعضهم يومئذ (لن نُغلب اليوم من قلّة) ( )، لبيان السلامة من الضعف والوهن الذي تسببه قلة عدد المسلمين في القتال، ولكنهم فروا يومئذ في ساعة لولا المدد الإلهي بنزول الملائكة بصفة الجنود .
قال تعالى[وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، بعد أن باغتت هوازن وثقيف المسلمين وخرجت لهم من كل ناحية من الوادي.
فأنهزمت مقدمة المسلمين وهم بنو سليم فانهزم الذين خلفهم من المسلمين ومرّوا برسول الله من غير أن يقفوا ولم يبق معه صلى الله عليه وآله وسلم إلا نفر من بني هاشم وعدد من الصحابة .
فلما رأى هزيمة أصحابه قال للعباس و كان جهورياً صيتاً إصعد هذا الظرب( ).
فناد يا معشر المهاجرين و الأنصار يا أصحاب سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة.
إلى أين تفرون هذا رسول الله فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا و قالوا لبيك لبيك و تبادر الأنصار خاصة و قاتلوا المشركين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
الآن حمي الوطيس: أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب)( ).
لم يناد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء العشائر عند الشدة ولم يذكر قريشاً أو الأوس أو الخزرج إنما ندب المسلمين بثلاث صفات :
الأولى : المهاجرون والأنصار ، لإرادة بقاء نواة دولة الإسلام ، والتذكير ببيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دعوة لعدم الإعتماد على مسلمة الفتح ، فهم حديثو عهد بالإيمان ، وفيهم المؤلفة قلوبهم .
الثانية : أصحاب سورة البقرة ، وذكر النبي لها معجزة ، وبيان لموضوعيتها في حفظ بيضة الإسلام أمس واليوم وغداً ، وفي إثارة حمية الإيمان في نفوس المسلمين.
وكأنه يقول لهم حافظوا على تلاوتكم والأجيال لسورة البقرة بالصبر في الدفاع ، لذا ورد في شأنها عن بريدة (كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول : تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)( ).
الثالثة : تذكير الصحابة ببيعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية وتسمى بيعة الرضوان ، وبيعة الشجرة لوقوعها تحت الشجرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة النبوية الشريفة وتقع قريباً من مكة بأطراف الحرم إذ بايع الصحابة وعددهم ألف وأربعمائة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصبر في الدفاع عن بيضة الإسلام وقتال المشركين بعد أن بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن عفان إلى مكة لتبليغ رؤساء قريش بأنه لم يأت إلى حرب وانما جاء زائراً للبيت الحرام ومعظماً لحرمته .
توقيت فتح مكة معجزة
في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عشرة آلاف من أصحابه لفتح مكة بعد أن نقضت قريش صلح الحديبية .
ومجئ وفد خزاعة يشكوهم ويبين إعانتهم بالرجال والسلاح لبني بكر في تبييتهم لخزاعة وقتل بعض رجالها واضطرار خزاعة للجوء إلى الحرم ، فلم تمتنع بنو بكر عن مطاردتهم .
ولو تأخر الفتح قليلاً لحدثت معارك بين المسلمين والمشركين في مكة وسالت دماء كثيرة ، ولاعتدى المشركون على البيت الحرام والحرمات ، لذا فان توقيت فتح مكة معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ولم يكن فتح مكة عِنوة أو صلحاً بل سلماً وحاجة ورحمة.
ولمنع حلفاء قريش من الإعتداء على حلفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلما اعتدت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة على خزاعة وهم آمنون على ماء لهم باسفل مكة يسمى الوتير .
ونقضت قريش الصلح بأن ( رفدت بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً)( ).
فلجأت خزاعة إلى الحرم طلباً للأمن كما هو متعارف عند العرب في الجاهلية أيضاً ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
وكان رئيس بني بكر في الواقعة نوفل بن معاوية الديلي ، ولم تكن بنو بكر كلها تتبعه ، فلما دخلت خزاعة الحرم ترددت بنو بكر عن مطاردتهم وقتلهم ، فقالوا (يَا نَوْفَلُ إنّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ ، إلَهَكَ إلَهَكَ فَقَالَ كَلِمَةً عَظِيمَةً لَا إلَهَ لَهُ الْيَوْمَ يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ فَلَعَمْرِي إنّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الْحَرَمِ ، أَفَلَا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ)( ).
مما يدل على الحاجة الإنسانية والعقائدية إلى فتح مكة ، ودرء الفتن ، وأن الشرك تعدى حتى عبادة الأوثان ، ولمنع توالي سفك الدماء في مكة وغيرها ، وليكون هذا الفتح لمكة وسيلة لإنقاذ المسلمين والمسلمات الذين في مكة من بطش وغدر المشركين بهم ، وهو مناسبة لهداية الناس للإسلام ، وقطع دابر الكفر ، وإزاحة ثلاثمائة وستين صنماً عن البيت الحرام.
و(عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ( ).
ليدل قوله تعالى [جَاءَ الْحَقُّ] بأن فتح مكة تم بالوحي من عند الله عز وجل ، وأن الكفر والشرك لن يعودا إلى مكة والجزيرة وما حولها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، فلا يتم الإنذار إلا بالقول والفعل وسبل الصلاح مع فضل الله بالقدرة عليها.
لقد تم فتح مكة ، أو قل عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إليها سلماً من غير قتال ، وهو مصداق لوعد الله عز وجل بقوله [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بعد فتحها (في اثني عشر ألف مسلم ، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح)( ).
ولم يكن الألفان من مسلمة الفتح كلهم قد أسلموا يوم الفتح ، بل أكثرهم قد أسلم قبله ، فقد غلب الإسلام على مكة قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها.
من معجزات فتح مكة
من معجزات فتح مكة :
الأولى : معجزة أوان فتح مكة .
الثانية : معجزة صلح الحديبية مقدمة لفتح مكة ، قال تعالى [فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
الثالثة : معجزة فتح مكة سلماً .
الرابعة : معجزة دخول أكثر أهل مكة الإسلام قبل فتحها.
الخامسة : معجزة فتح مكة بوفد الحاج هذه السنة وكل سنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
السادسة : معجزة بشارة وموضوعية تحويل القبلة في السنة الثانية للهجرة في فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
السابعة : معجزة موضوعية رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( )، وهل قوله تعالى [لَا تَخَافُونَ] من مصاديق قولنا المستحدث بفتح مكة سلماً ، الجواب نعم .
ومن معاني الإجماع المركب في اصطلاح علم الأصول اتفاق العلماء على رأي مستقرأ من المترشح الإلتزامي عن إختلافهم في الرأي أو الحكم فمثلاً اختلف العلماء في وجوب قراءة البسملة في الصلاة أو استحبابها أو قراءتها باخفات ، فيستقرأ من مجموع هذه الأقوال الإجماع على عدم كراهة الإتيان بالبسملة في الصلاة .
وبخصوص فتح مكة اختلف العلماء على قولين :
الأول : فتحت مكة عِنوة.
الثاني : فتحت مكة صلحاً.
ويدل هذان القولان على الإجماع المركب بوجود طرف آخر قاتل وأجرى الصلح ، وهو الذي لم يثبت.
والمختار أن فتح مكة تم سلماً من غير قتال يعتد به ، وليس من صلح في المقام ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش يوم الفتح بعد الموعظة وتلاوة القرآن عليهم (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ، قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ)( ).
إذ قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، الْآيَةَ كُلّهَا) ( ).
وهل تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية إخبار لقريش بأن أشخاصاً من الأعاجم سيتأمرون عليهم ويحكمون باسم الإسلام ، الجواب نعم ، ومنه الدولة العثمانية التي حكمت أغلب بلاد المسلمين نحو (661) سنة.
الثامنة : معجزة أثر فتح مكة في النصر في معركة حنين .
التاسعة : معجزة فتح مكة في القضاء على ردة كثير من القبائل العربية .
العاشرة : معجزة موضوعية فتح مكة في حجة الوداع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة للهجرة أي بعد الفتح بسنتين ، إذ حج النبي محمد وليس من مشرك أو صنم في البيت الحرام .
الحادية عشرة : معجزة منافع فتح مكة في بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمناسك الحج في حجة الوداع ، وخطبته يومئذ ، وقال (لتأخذوا عني مناسككم).
الثانية عشرة : معجزة أداء المسلمين مناسك الحج هذا العام وهو الرابع والأربعون بعد الأربعمائة والألف للهجرة النبوية ، فلولا فتح مكة في أوانه لعله لم يتم هذا الموسم ، مما يستلزم منا الشكر لله عز وجل على نعمة فتح مكة في أوانه .
وفي عشية معركة بدر رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه وأجتهد بالدعاء ، و (عن عبدالله بن مسعود، قال: ما سمعت مناشدا يشند أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، جعل يقول: ” اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ” ثم التفت وكأن شق وجهه القمر وقال: كأنى أنظر إلى مصارع القوم عشية)( ).
الثالثة عشرة : دفع الفتنة ، ومنع الإقتتال بين حلفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش وحلفائها .
الرابعة عشرة : البشارة القرآنية بفتح مكة من حين مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
الخامسة عشرة : عدم تسمية الله لدخول النبي وعشرة آلاف من أصحابه مكة فتحاً ، إنما سماه دخولاً [لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ).
السادسة عشرة : معجزة موضوعية فتح مكة وأهلها في القضاء على الردة ، فلولا فتح مكة لكان بعض أهل مكة أئمة أهل الردة والإرتداد.
السابعة عشرة : قد تقدم قانون فتح مكة استئصال للإرهاب وقانون حصر ولاية البيت بالمتقين الذين يخشون الله ،والذين يمنعون عبادة الأوثان في مكة وغيرها ، وهو من مصاديق قوله تعالى لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا.
إذ كان رؤساء قريش أئمة الإرهاب والظلم والجور وإشاعة الفساد ومحاربة النبوة والتنزيل .
قانون فتح مكة رسالة سلام عالمي
لقد تم فتح مكة بفضل الله لوجود المقتضي وفقد المانع ، وليس من طرف أو طائفة قد تضررت من هذا الفتح بل هو خير محض ، ونعمة على أهل الأرض ، وفتح مكة رسالة سلام وأمن للمجتمعات ، وقطع للحرب والإقتتال في الجزيرة .
وهل تدل معركة حنين التي وقعت بعده بأقل من شهر على صحة إختيار زمان فتح مكة ، ولزوم عدم التأخر فيه ، الجواب نعم ، وهو ليس من الإستصحاب القهقري ، ولكنه من الشواهد التأريخية اللاحقة التي تدل على أن فتح مكة تم بالوحي من عند الله ، فمع إنقطاع رؤساء الشرك من قريش واتباعهم عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين فتح مكة فان هوازن وثقيف اجتمعت كلها برئاسة مالك بن عوف النصري ولقب النصري لأن (قومه بنو نصر بن معاوية)( ).
وعلى ثقيف عبد يا ليل (قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فتح الله عليه من مكة جمعها ملكها مالك بن عوف النصرى، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها واجتمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بنى هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء.
وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم)( ).
وذكر أن هوازن وثقيف كانوا يستعدون للمعركة عاماً كاملاً .
وفي يوم المعركة هجموا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هجمة رجل واحد ، وكان عددهم أكثر من عشرين ألفاً ، بينما كان عدد الصحابة الذين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر ألفاً ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
(فقال حارثة بن النعمان: لقد حزرت من بقى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أدبر الناس فقلت: مائة رجل)( ).
لبيان أن المشركين هم الذين زحفوا للقتال ، وأصروا عليه ، وأن نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين معجزة حسية جلية .
ومن المعجزات في المقام فتح مكة من غير حرب ولا قتال وفي وقت مناسب ليأمن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شر كفار قريش وأثرهم على القبائل.
فلولا هذا الفتح لاشتركت قريش مع هوازن وثقيف في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولحرضت القبائل على الخروج ضده ولسالت الدماء وتكررت المعارك ، وردت هوازن تعضيد قريش لها بالمرابطة معهم في مكة ، ومنع دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ، ولتعالت الأصوات أعل هبل ، أعل هبل .
وتعرض المسلمون والمسلمات في مكة للقتل والإضطهاد ، وزحف المشركون على المدينة المنورة .
ليكون فتح مكة وأوانه ، والذي تم بالوحي من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
قانون خطاب القرآن إلى النبي (ص)
خطابات القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام منها :
الأول : الخطاب الخاص مثل [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
الثاني : الخطاب العام الذي يتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد إلحاق الأمة به ، وهو الأكثر في المقام .
[قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]( ).
ومن إعجاز آية البحث جمعها بين الخطاب الخاص للنبي ، والعام للمسلمين [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ) يصح أن يكون خطاباً عاماً ولكن فيه مسألة وهي تقلب الوجه في السماء ، وهو خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والتابعون وأجيال المسلمين لا يتطلعون إلى السماء ينتظرون الوحي ، بتحويل القبلة ، فلا ينزل هذا التحويل إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قرآن .
ترى لماذا صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ست سنوات ، الجواب من جهات :
الأولى : ملازمة بين الإستقبال وفتح مكة ، نعم هذا الإستقبال بشارة الفتح .
الثانية : نزلت آية ببدر بعد تحويل القبلة بشهرين ، ومع هذا سمى الله المسلمين فيها أذلة .
الثالثة : كان كفار قريش يغيرون على سروح المدينة ، ويحرقون النخيل خاصة صغارها للإضرار بأهلها وتحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين .
الرابعة : دلالة معركة الخندق على تعذر فتح مكة ، إذ هجم في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة عشرة آلاف رجل ، وأضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حفر خندق حول المدينة بمشورة سلمان المحمدي ، وكان أحياناً يبقى مع النبي خلف الخندق مائتان أو ثلاثمائة .
الخامسة : عقد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، ومن خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الوفاء بالعهود والعقود ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا]( )ومدة الهدنة عشر سنوات ، وقد تقدم .
السادسة : نقض قريش العهود باعانتهم بني بكر .
السابعة : دخول أكثر أهل مكة الإسلام خاصة بعد صلح الحديبية .
الثامنة : فتح مكة في شهر رمضان السنة الثامنة للهجرة من غير قتال يذكر .
وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل القضاء على الفساد وسفك الدماء بفتح مكة ، وهل نصب ثلاثمائة وستين صنماً في المسجد الحرام من الفساد.
الجواب نعم ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
التاسع : عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل ، فكما أنه لم يتحول في القبلة في المسجد الأقصى إلى البيت الحرام إلا بعد نزول الآية أعلاه ، فكذا فانه لا يتوجه إلى بلدة أو قرية إلا بالوحي .
العاشر : إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبيت ، وتعاهد حرمته ، وإجتناب سفك الدماء فيه إلا أن الجأت قريش وبنو بكر خزاعة إلى الحرم ، وقتلوا منهم في الحرم ، فجاء وفد من خزاعة يشتكي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ليأتي بعده فتح مكة.
تقسيم جديد للمعجزة الحسية
ويمكن تقسيم المعجزة الحسية إلى قسمين :
الأول : المعجزة الحسية المترشحة عن الآية القرآنية ، وهي التي تتجلى بالسنة النبوية القولية والفعلية.
ويعمل المسلمون بمضامين آيات القرآن في اليوم والليلة وفي مشارق الأرض ومغاربها ، مثل قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( )، لبيان معجزة عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأحكام هذه الآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية ، ففي كل سنة هناك معجزات حسية ومصاديق لهذه الآية بعدد أفراد وفد الحاج.
الثاني : المعجزة الحسية من الوحي والسنة النبوية.
وأيهما أكثر ، الجواب هو الأول ، فاذا كانت المعجزات النبوية بالآلاف ، فان المعجزات المترشحة من آيات القرآن بالملايين ، فكل وقوف لمسلم ومسلمة بين يدي الله في الصلاة اليومية هو معجزة حسية مترشحة عن قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ]، وكذا بالنسبة لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
فكل يوم يصوم المسلم هو معجزة حسية متفرعة ومترشحة عن آيات الصيام .
وهل من التبيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، كثرة المعجزات الحسية اليومية المترشحة عن آيات القرآن ، الجواب نعم ، وفيه هدى وأمن للناس جميعاً.
المطلق والمقيد في آية الدَين
المطلق لغة التخلية ومنه اطلق الأسير ، الإرسال ، وفي الإصطلاح ما دل على الحقيقة والذات والماهية وما هو شائع في جنسه من غير قيد في نطاقه مثل الإطلاق في جمع الناس يوم القيامة بقوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
فالمطلق إذا لم يرد تقييد له يحمل على إطلاقه ، مثلما يحمل العام على عمومه إذا لم يخصص بمخصص متصل أو منفصل .
وموضوعنا صبغة أصولية في علم التفسير ، وأيهما أكثر في آية الدَين :
الأول : المطلق .
الثاني : المقيد .
الثالث : الجامع للمطلق والمقيد في آية واحدة ، وكلمة واحدة بلحاظ التباين الجهتي.
وهذا القسم الثالث علم جديد يجب أن يلتفت إليه طلاب العلم من المسلمين وغيرهم تتفرع كثير من المسائل عنه ، وإن قلت ما هي الشواهد ، ومنها ما ورد في آية الدَين وهي أطول آية في القرآن وعدد حروفها (551) حرفاً وهي أكثر من حروف سبع سور مجتمعات .
ونزلت أول آية من القرآن بالتقييد ، كما في قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، ومنه قيد الإستطاعة في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
أن قيام الدليل على التقييد صارف عن إطلاق اللفظ ، وأيهما أكثر في آية الدَين المطلق المقيد .
وقد اختص الجزء 49 والجزء 140 من هذا السِفر بتفسير آية الدَين ، وفيه وجوه بلحاظ نظم الآية :
الأول : ابتدأت الآية بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليشمل المسلمين والمسلمات ممن نطق بالشهادتين ، والنسبة بين نداء الإيمان في أول الآية وبين القيد في خصال الشهود العموم والخصوص المطلق ، فنداء الإيمان أعم ويشمل المنافقين والعصاة .
ونداء الإيمان مقيد من جهة ، ومطلق من جهة أخرى ، فهو مقيد بالنسبة للنداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] الذي ورد في القرآن عشرين مرة وهو مطلق بالنسبة لنداء (ايها المؤمنون) وان لم يرد مثل هذا النداء في القرآن إذ أن المراد منه الذي آمنوا بالنبوة وصدّقوا بالتنزيل بالجنان والقلب وليس باللسان فقط.
الثاني : القيد بصيغة الشرط [إِذَا تَدَايَنتُمْ] فتحضر مضامين آية البحث عند التداين والبيع بالنسيئة والسلف ، والقرض ، وهل تدخل المعاملة الربوية في إطلاق مضامين الآية من جهة كتابة العقد والشهود ، الجواب لا ، لذا قيدت الآية صفة الكاتب بأنه بالعدل ، وهناك قيد ثان وهو إرادة الدَين وليس الربا.
الثالث : تعيين أجل قضاء الدَين ، والوفاء به وهل قوله تعالى [إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( )، حض على ذكر أوان الوفاء بالدَين ، الجواب نعم .
الرابع : تقييد معاملة الدَين بكتابة تفصيلاتها وذكر أطرافها والشهود عليها .
الخامس : إتصاف الكاتب بأنه عدل وثقة وأمين .
وهل يختص نعت الكاتب بالعدل بكتابة الدّين أم أنه أعم ، الجواب هو الثاني لبعث الأمان والإستقرار في المجتمعات .
وفي صلح الحديبية وبعد أخذ ورد ، وتخفيف وفد المشركين من شروطهم دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوس بن خولي أحد الصحابة ليكتب عقد الصلح فقال سهيل بن عمرو رئيس وفد كفار قريش (لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً يكتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب باسمك اللهم. فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن.
وقالوا: لا تكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذاً لا أقاضيه على شيءٍ)( ).
والإمام علي عليه السلام يسمع وينتظر ما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يرضى به سهيل بن عمرو.
السادس : كتابة الكاتب وفق ما علمه الله عز وجل بالصدق .
السابع : تعيين الذي يملي الدَين وشروطه وتفاصيله وهو المدين الذي عليه الدين ، وذكر مقدار الدَين والأجل واسم الدائن من غير نقص أو تزهيد أو تغرير ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( ).
و(عن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى مع المدين حتى يقضي دينه ، ما لم يكن دينه فيما يكره الله)( ).
الثامن : وجوب خشية المدَين من الله عز وجل ، واستحضار التقوى والأمانة والصدق عند إملاء الدَين .
وهل من مصاديق قوله تعالى [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ]( )، إمتناعه عن إملاء زيادة ربوية على نفسه ، الجواب نعم.
التاسع : عدم التفريط في الكتابة أو إهمالها للعذر فحتى إذا كان المدَين ناقص العقل سفيهاً أو ضعيفاً فعلى وليه إملاء الدَين .
العاشر : قيد الشهادة على الدَين .
الحادي عشر : تقييد الشهادة برجلين .
الثاني عشر : عند تعذر وجود رجلين للشهادة ، فرجل وامرأتان .
الثالث عشر : قيد الشهود من المسلمين لقوله تعالى [مِنْ رِجَالِكُمْ]( ).
الرابع عشر : عدالة الشهود أو وثاقتهم وأمانتهم لقوله تعالى [مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ]( ).
وحرف التبعيض (من) للتبعيض ، وفيه دلالة على كثرة المؤهلين للشهادة وهو فرع الصلاح في المجتمعات .
الخامس عشر : دلالة تذكير إحدى الشاهدتين الأخرى على عدم حدوث النسيان منهما معاً ، وفيه لطف من الله وإكرام للمرأة ، وبيان لزوم التعاون في تعاهد الشهادة .
وهل حكم شهادة امرأتين بدل رجل واحد مطلق في أفراد الزمان مع تعلم المرأة وإرتقائها المناصب ، أم أنه خاص بربات البيوت واللائي ينشغلن بالأسرة وتربية الأولاد ، الجواب هو الأول .
السادس عشر : التقييد في نسيان واشتباه إحدى الشاهدتين لقوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ]( )، وهذا القيد وعدم الإطلاق من الشواهد على ضبط المرأة للديون وخصائص العقد خاصة في زمان التعليم العام للجنسين.
السابع عشر : الإطلاق بعدم جواز امتناع الشهداء عن الإدلاء بالشهادة إذا دعوا إليها .
ومن إعجاز الآية الإطلاق في جهة صدور الدعوة للإدلاء بالشهادة بقوله تعالى [وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا]( )، وعدم إنحصارها بالقاضي والحاكم الشرعي ، فمع كثرة التقييدات في الآية فهناك إطلاقات فيها ، والملاك هو التخفيف من غير مفارقة للتوثيق .
ومن إعجاز الآية النفع العام من قيد [مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ]( )، وهو أن الشاهدة لا تذكر صاحبتها إلا بما هو حق وصدق لبيان قانون قيود القرآن .
الثامن عشر : حضّ آية البحث على كتابة الدَين وأجله وإن كان مقداره قليلاً أو أن أجله قريب ، أو تكرر وقوعه بين ذات الطرفين ، الدائن والمدين.
التاسع عشر : ويدل قوله تعالى [ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ]( )، على موضوعية التداين والمعاملات في الشريعة السماوية وأن الله عز وجل لا يرضى باللبس والتدليس والخداع في التداين وكتابة مقدار الدَين والشهادة عليه.
لبيان قانون كتابة الدَين والشهادة عليه من النظام العام في الحياة الدنيا ، وفي ضبطه ، وتعاهد قيوده وشرائطه الأجر والثواب.
العشرون : الإطلاق في عدم السأم أو الملل أو التراخي والتسويف في كتابة الدَين فلابد من كتابته في كل الأحوال سواء كان كبيراً أو صغيراً ، والصغر والكبر في الدَين من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فقد يكون مبلغ معين قليلاً وصغيراً عند قوم أو صنف من التجار وأهل المعاملات ، وكثير أو كبيراً عند غيرهم .
فجاءت الآية بالإطلاق بقوله تعالى [وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا]( ).
الواحد والعشرون : الإطلاق في كتابة أوصاف وشروط وخصائص الدَين إذ ذكرت الآية الأجل بقوله تعالى [إِلَى أَجَلِهِ] والمراد تفاصيل الدَين وان كان قليلاً.
وقد يكون الدَين القليل كثيراً وكذا العكس في قيمته عند الأداء لتبدل أحوال السوق وقيمة العملة ، وموضوع الدَين والقرض لبيان الإعجاز في الوصف المتفاوت.
الثاني والعشرون : الإطلاق في كتابة الدَين والشهادة عليه ، بأنه أقرب للعدل والإنصاف ، وأضمن للحقوق ، وأحفظ للحقوق ، والله عز وجل رضى من العبادة بالقليل.
وقد ورد لفظ (اقسط) مرتين في القرآن ، إذ ورد مرة أخرى بقوله تعالى [ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ]( )، لبيان المراد من هذا اللفظ استقرار المجتمعات وحفظ الحقوق ، إذ تشمل الآية أعلاه المواريث .
الثالث والعشرون : الإطلاق في دفع الشك والريب بكتابة الدَين .
الرابع والعشرون : الإطلاق والتقييد في كتابة الدَين في قوله تعالى [إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً]( )، مقيداً بالنسبة لإطلاق معاملات الدَين والقرض وهي مطلقة في التخفيف وعدم كتابتها والشهادة عليها سواء كانت قليلة أو كثيرة للتعامل بها نقداً أو لأجل قريب متعارف عليه كما في بيع تاجر الجملة على تاجر المفرد أو بائع التجزئة وزبائنه على نحو شبه يومي.
ومن معاني قوله تعالى [تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ]( )، أي أنه تعارف وثبت فيما بينكم قضاء الدَين في أوانه وبما يرضي الطرفين الدائن والمدين .
الخامس والعشرون : هل الضمير (كم) في بينكم مطلق وعام أم مقيد ، الجواب هو الثاني ، فصحيح أن الخطاب للمسلمين ، ولكن المراد في المقام ما يحصل من أسباب الوثاقة والأمانة وحسن الأداء والقضاء بين الأطراف ، فمثلاً لو كان خمسة من بائعي المفرد يأخذون من تاجر الجملة بمقادير ومبالغ متعارفة ، ويكون القضاء ملائماً لهم ، ويأتي فرد آخر غير الخمسة فلا يدخل معهم في موضوع التجارة الحاضرة التي تذكرها الآية لقاعدة نفي الجهالة والغرر إلا وفق المتعارف.
ووردت الرخصة في عدم الكتابة مع بقاء الإشهاد ظاهراً ، ولكن المقصود في الرخصة المعنى الأعم ، باسقاط الكتابة والشهادة على التجارة الحاضرة ، أو الكتابة وحدها.
السادس والعشرون : الإطلاق في كتابة عقد البيع لقوله تعالى [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ]( )، وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري وغيرهما بوجوب الكتابة أي كتابة البيع وصفقات البيع ، واسم وصفة البائع والمشتري واستدل بكتابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيعه للعداء بن خالد وفيه (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
والمشهور والمختار هو الندب والإستحباب والإرشاد .
وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد .
وقد باع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشترى من غير أن يشهد على البيع وهو من عمومات ما ورد في الآية التالية [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( ).
وعن (عباد بن ليس صاحب الكرابيس ثنا عبد المجيد عنى ابا وهب عن العداء بن خالد بن هوذة قالا الااقرئك كتابا كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج كتابا فإذا فيه هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبدا أو امة – عباد يشك – لا داء له ولاغائلة ولاخبثة بيع المسلم المسلم)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام في الفرق بين إجازة شاهدين على القتل ، ولا يجوز في الزنا إلا أربعة (الزنا فيه حدان ولا يجوز إلا أن يشهد كل اثنين على واحد لان الرجل والمرأة جميعا عليهما الحد والقتل، وإنما يقام الحد على القاتل ويدفع عن المقتول)( ).
السابع والعشرون : الإطلاق في لزوم عدم الإضرار بالكاتب ، وهل المقصود حصر النهي بالإضرار دون الأذى بلحاظ أن النسبة بينهما هو العموم والخصوص المطلق ، وأن الأذى أدنى مرتبة وأخف من الضرر كما في قوله تعالى [َلنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى]( ).
الجواب لا ، إنما المراد الضرر والأذى معاً ، وهو من مصاديق [وَلَا يُضَارَّ] في المقام .
ومن معاني الإضرار في المقام إكراه الكاتب على الكتابة ، أو توبيخ الممتنع عنها لحاجة أو عذر ، ولا يصح أن يؤمر الكاتب بكتابة خلاف الحق.
الثامن والعشرون : عدم الإضرار بالشهود أو تهديدهم أو توبيخهم لأنهم اختاروا قول الحق ، وحتى مع الإشتباه والنسيان من بعضهم فلا يصح تعييره وتبكيته لعمومات قوله تعالى [مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ]( ).
التاسع والعشرون : الأمن للشاهد وإجتناب الإضرار به لشهادته على الدَين تحملاً وأداءً ، للزجر عن السعي في تحريف تفاصيل الدَين ومقداره وأطرافه ، وليكون من الإعجاز القرآني تعاهد السلم المجتمعي في المعاملات.
وفي الآية إزاحة لعقبة دون كتابة الدَين والشهادة عليه ، فاذا تعرض الكاتب والشاهد للإضرار بسبب كتابة وقول الحق والصدق فان الناس قد يعزفون عن كتابة وشهادة الدَين منعاً للأذى والإفتتان ، وهو من عمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق)( )، وقوله (أدبني ربي تأديبا حسنا)( ).
الثلاثون : يكون الإضرار المنهي عنه في المقام على وجوه :
الأول : الإضرار بالكاتب .
الثاني : الإضرار بالشاهد .
الثالث : الفرد الجامع بالحاق الضرر بالكاتب والشاهد كما لو كان أحد أطراف الدَين أو غيرهم يريد بخس حق الدائن أو المدين ، لذا وصفت الآية بأنه حق بقوله تعالى [وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ]( ).
الرابع : بخس حق الدائن سواء بمقدار الدَين أو الأجل .
الخامس : الإضرار بالمدين بزيادة مبلغ الدَين أو بتقريب الأجل ، أو تبديل بعض الشروط وخصائص الدَين ، وعن الإمام الباقر عليه السلام في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لاضرر ولا ضرار)( )، ورواه مالك في الموطأ عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً( ).
و(عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : مطل الغني ظلم)( ).
وهل آية الدَين مانع من الإرهاب ، الجواب نعم ، فهي تمنع من الفتنة ومقدماتها ، وتدعو إلى التقيد بأحكام الشريعة .
علة تسمية عرفة
وسمي عرفة لوجوه :
الأول : لأن آدم إعترف على عرفات بذنبه لما أمره به جبرئيل عليه السلام فصار الإعتراف بالذنوب على عرفة سنة في ولد آدم.
الثاني : إن جبرئيل عمد بإبراهيم عليه السلام إلى عرفات فقال هذه عرفات فاعرف بها مناسكك وإعترف بذنبك فسميت عرفات.
الثالث : يعرف المسلمون مناسك حجهم وينقطعون فيه إلى باريهم.
الرابع : يتعارف المسلمون فيما بينهم مع تباعد الأمصار وإختلاف الألسن والألوان.
الخامس : يعرف الناس كنه حقيقة وحدة المسلمين وأن ما قد يظهر على السطح من الإختلاف المذهبي إنما هو أمر صغروي لا أثر عملي سلبي له.
السادس : الحج مناسبة للتعارف بين المسلمين، ولعل الإجتماع في عرفة أضيقها، فالطواف بالبيت حركة متصلة وتلبية وإنقطاع إلى المحبوب ومزدلفة أكبر مساحة وإنتشاراً من عرفة.
السابع : بالوقوف على عرفة يُعرف المؤمنون.
ويستحب لغير الحاج صيام يوم عرفة والإكثار من الدعاء في هذا اليوم المبارك .
وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال (كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة : اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول : اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك رب تدآبي.
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر ، اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الريح وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح)( ).
الثامن : به يعرف المسلم ما عليه من الواجب ولو بلحاظ فرد الوقوف نفسه كواجب.
التاسع : فيه إنقطاع عن الناس فليس في عرفة يومئذ إلا وفد الحاج.
العاشر : معرفة الحاجة إلى الله تعالى وسؤاله عن قرب ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
وروي أن سائلاً جاء يوم عرفة يسأل الناس، فقال له الإمام علي بن الحسين عليه السلام: أفي مثل هذا اليوم تسأل الناس والأجنة ترجو الله وهي في بطون امهاتها .
الحادي عشر : الوقوف على عرفات مدرسة في المعرفة الإلهية، والتسمية دعوة لعلماء الكلام والعرفان للغوص في بحار أسراره الغيبية والظاهرية والوجدانية.
الثاني عشر : يعرف الإنسان نفسه ومنزلته وحقيقة إحتياجه كممكن لواجب الوجود.
الثالث عشر : الوقوف على عرفات مناسبة ليعرف ويتذكر الإنسان فيها ذنوبه ، فيستغفر الله عز وجل منها.
الرابع عشر : يعرف المؤمن حينئذ أن أبواب السماء مفتحة للدعاء والمسألة.
الخامس عشر : كأن الوقوف على عرفة محشر صغير يعرف من خلاله الإنسان أهوال يوم القيامة.
السادس عشر : في الوقوف على عرفات سكينة ورحمة فيعرف الحاج من خلاله منزلته عند الله، وما ينتظره من الثواب العظيم.
السابع عشر : انه مناسبة لمعرفة الغائب والمفقود والمنقطع عن أهله ففي سورة يوسف ورد قوله تعالى [فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( )، بعد عشرين سنة من الفراق.
وكانت المعرفة من طرف واحد وهو النبي يوسف عليه السلام فأخوته لم يعرفوه، أما بالنسبة للمسلمين فان المعرفة متصلة لأنهم ورثة الأنبياء ولأن حضورهم للعبادة والنسك ، ولقد تفضل الله على المسلمين بأن جعل المعرفة والتعارف بينهم متجدداً كل عام ، وفي شهر حرام ، وهو شهر ذي الحجة.
الثامن عشر : لقد جعل الله عز وجل آية الوقوف للمكوث على عرفة عند المسلمين وبها يعرفون فهي علامة الإيمان والسر المعلن بينهم فمن شاء أن يعرف ماهية الإسلام يعرفه من خلال فرائضه، ومنها أداء مناسك الحج.
التاسع عشر : الوقوف على عرفة شاهد سنوي متجدد يدل على وحدة المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) من وجوه عديدة، وليس من أمة عندها هذا الإجتماع العبادي الذي لا تتخلف عنه فرقة أو طائفة إلى جانب ما فيه من الضبط.
العشرون : إنه المؤتمر العبادي السنوي ليعرف المسلمون واجباتهم وليجددوا المعرفة.
الحادي والعشرون : يعرف المسلمون من خلاله أخبار البلدان وأحوال الأمم وشؤون المؤمنين عن قرب.
الثاني والعشرون : الوقوف على عرفات شاهد وجداني ظاهر بأن المسلمين عرفوا ما يجب عليهم وأدوا مناسكهم لذا قد يكون لإرتفاع جبل عرفة خصوصية تتعلق بالإسم ايضاً في التعارف على جبل عرفة عز ورفعة المسلمين.
الثالث والعشرون : يعرف الملائكة إستحقاق المسلمين لوراثة الأرض، وأهلية الإنسان للخلافة في الأرض فالوقوف على عرفة عمل متجدد يؤكد قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الرابع والعشرون : معرفة الجهد والعناء الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت أحكام الشريعة ومعرفة ما بذله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت وتعاهد فريضة الحج، قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ).
الخامس والعشرون : معرفة المواضع التي وقف عندها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة والصحابة وكأن فيه عهداً على التمسك بالسنة النبوية الشريفة.
السادس والعشرون : معرفة الناس والملل المختلفة الإنضباط العام عند المسلمين والتزامهم بعين الأحكام والأفعال التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعرفات: موضع الوقوف في الحج ، وهو من أهم أركان الحج ، ووقت الوقوف من زوال الشمس يوم التاسع من شهر ذي الحجة إلى غروبها ، إذ وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع (لتأخُذوا عني مناسككم)( ).
و(عن عبد الرحمن بن يَعْمر الديَلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الحج عرفات -ثلاثا -فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك) ( ).
ومن أدرك الوقوف على بقعة عرفات قبل طلوع الفجر الثاني من يوم النحر فقد ادرك الحج ، أي أن الشخص إذا تأخر بسبب عائق أو وسائط النقل ولم يستطع الوصول إلى عرفة قبل غروب يوم التاسع من شهر ذي الحجة ووصلها قبل أذان الصبح من اليوم العاشر فقد صح حجه ، وفيه تخفيف ورحمة .
السابع والعشرون : في هذا الوقوف توكيد عملي لمعرفة المسلمين بفروع الدين وحرصهم على التقيد بأحكام الشريعة وإجتناب التحريف.
الثامن والعشرون : إنه مناسبة لمعرفة الذي يؤدي ما يجب عليه من الفرائض من الذي يميل إلى الدنيا، ففي المشهد العظيم يوم عرفة يتذكر المؤمن أقرانه وأصحابه من أهل بلده ممن وفقه الله لأداء الفريضة في السنوات السابقة ، ويدعو الجميع .
التاسع والعشرون : إنه رسالة إلى الأجيال اللاحقة ليتعاهدوا هذا المنسك السامي وكل جيل يستلم هذه الرسالة والتبليغ، ويتلقى الوقوف على عرفة إرثاً عقائدياً مباركاً.
الثلاثون : الوقوف على عرفات لواء وعلم نوعي يرفعه المسلمون كل عام لتحيط به الملائكة بإجلال وإكبار للمسلمين الذين يواظبون على الذكر والتسبيح والتهليل ويتعاهدون إرث الأنبياء.
وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ) ومن علم الله عز وجل معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بازاحة الأصنام عن البيت الحرام ، وبوقوف الملايين على جبل عرفات مجتهدين بالدعاء والتسبيح ، لبيان أهلية الإنسان للخلافة في الأرض بمدد وعون من الله عز وجل ، ومنه نزول الملائكة في معركة بدر وأحد لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار .
الواحد والثلاثون : يعرف أعداء الإسلام قوة المسلمين وإتحادهم وإجتماعهم فما يرونه من تعدد المذاهب وما يمكن أن يطمعوا فيه من أسباب الفرقة يتبدد يوم عرفة وتخيب آمال أعداء الإسلام ويصيبهم الفزع والرعب من وحدة المسلمين ويظهر عليهم اليأس من إمكان إستغلال إختلافهم في الفتوى، وهذا سر من أسرار الحج لا تحس بشطر كبير منه لأن متعلقه الغير ، فهو معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة عبادية سلمية للناس لإجتناب محاربة الإسلام.
ومن خلاله يمكن إستقراء المنافع العظيمة في لزوم إتحاد أفعال الحج زماناً ومكاناً ومراعاة أسباب التيسير فيها ، وهو من الإعجاز الغيري للآية التالية.
الثاني والثلاثون : يعرف المسلمون الحاجة إلى الوحدة ونبذ الفرقة ويحسون بالأخوة الإيمانية وإن تباعدت البلدان وإختلفت المذاهب والآراء، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالث والثلاثون : يعرف الناس حقيقة المساواة في الرق والعبودية لله عز وجل وزوال الفوارق الدنيوية، ومن يحجب الناس عنه لمنصبه ومقامه وثرائه تراه يومئذ بلا حجاب فيقف الحاكم بجانب المحكوم ، والسيد بجانب العبد بهيئة ولباس بسيط واحد.
الرابع والثلاثون : يعرف المسلمون ذكوراً وإناثاً وظائفهم الجهادية والعبادية ولزوم تحمل المشاق والعناء طلباً لمرضاة الله تعالى.
الخامس والثلاثون :معرفة مواطن العبادة ومضان الإستجابة.
السادس والثلاثون : التوكيد القرآني على عظيم منزلة الحج والوقوف على جيل عرفات في يوم عرفة.
السابع والثلاثون :على ضوء القاعدة الكلية وهي أن الاسم يدل على المسمى وأنه في الغالب مشتق منه كما في تسمية سورة الفاتحة بالحمد، وتسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من أمارات الشكر والثناء والإجهار بالنعمة بولادته ونبوته فان تسمية الموضع بعرفات كموضع للعبادة وورود ذكره في القرآن له دلالات ذاتية وغيرية ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ]( ).
الثامن والثلاثون : التسمية دعوة وحث للناس على معرفة الأسرار الغيبية في عرفة بالذات وإتخاذه معلماً للعبادة والنسك.
التاسع والثلاثون هناك يوم في السنة يعرف بيوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة وهو من شعائر الله اليومية( )، إذ يقف الحجاج في عرفات، وتخصص المنظمات الدولية والحكومات يوماً لموضوع ما، وقد سبقهم التنزيل بتخصيص يوم عبادي نافع لأهل الأرض جميعاً.
الأربعون : تدون أسماء الحجاج الواقفين على عرفة في سجل خاص فيعرفهم الملائكة وتنزل عليهم الرحمة، ولعل ملك الموت ينظر حال الوفاة إلى سيماء هذه المعرفة، وكذا منكر ونكير عند إدخال الميت القبر ومجيئهما له للحساب الإبتدائي لتبدأ منافع الوقوف في عرفة الأخروية بدخول القبر.
الواحد والأربعون : ذكــر ان آدم وحــواء لمــا وقــفــا على عــــرفــة قــالا [رَبَّنَا ظَـلَمْنَـا أَنفُسـَنَا]( )، فالوقوف على عرفة مناسبة للإستغفار والتوسل والتضرع إلى الباري عز وجل.
الثاني والأربعون : إنه يوم يعرف به الناس جميعاً قوة الإسلام وثبات ورسوخ أحكامه ، وتهيئة مقدمات وأسباب الوقوف على عرفة من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) وهذه المقدمات وتيسيرها من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث والأربعون : فيه تذكير للناس، وحث على معرفتهم للباري عز وجل.
الرابع والأربعون : إنه مناسبة كريمة كي يطلع الناس على المعارف الإسلامية وأحكام الشريعة السمحاء كما ان الصيام مناسبة يعرف الناس به في حاضرتهم وبلدانهم أحكام الإسلام.
الخامس والأربعون : من الإعجاز أن ترى الإسلام يدعو الناس إلى الإنتماء له بالتكاليف الشاقة والجهاد والعناء وبذل المال في سبيل الله ومع هذا يدخلونه بتحريك داخلي وواعز نفسي لا ينفصل عن نفخ الروح في آدم، قال تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ]( ).
السادس والأربعون : الوقوف على عرفة في أوانه مناسبة لتحسس رائحة الجنة ومعرفة منازل المؤمنين فيها، قال تعالى [ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ] .
السابع والأربعون : في تسمية عرفة نوع إكرام خاص للحجاج وأنه يومهم ، فمن شاء أن يعرف عند الله وملائكته بخصلة إيمانية لا تفارقه في الدنيا والآخرة فليؤد مناسك الحج ، ومنها الوقوف على جبل عرفة في الوقت المعلوم .
الثامن والأربعون : إنه اليوم الذي عرف به المسلمون إنحصار الحج بهم ومنع الكافرين من دخول المسجد الحرام [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( )، بعد ان نودي أنه لا يحج بعده مشرك.
التاسع والأربعون :إنه يوم معروف في السماء وعند الملل السابقة.
الخمسون : إنه العلامة على سيادة الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد وإنتصار الحق.
الواحد والخمسون :في يوم عرفة وأعماله إشارة وتوكيد بأن المندوبات والمستحبات فيه لا تنحصر بأهل عرفة بل تشمل الأمصار كلها (عن كريب مولى ابن عباس عن ميمونة انها قالت ان الناس شكوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة فارسلت إليه ميمونة بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون)( ).
لذا ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال (إن خشي) من شهد الموقف أن يضعفه الصوم عن الدعاء والمسألة والقيام فلا يصمه فانه يوم دعاء)
وورد عن الصادق عليه السلام أنه من الأيام الأربعة التي يكون صيام اليوم الواحد منها عن صيام ستين سنة.
الثاني والخمسون : في التسمية تأديب للمسلمين وتوكيد على أهميته وحث على الإلتفات إلى فريضة الحج، ففي إستحضارها وإنفراد هذا اليوم باسم خاص دعوة لعموم المسلمين ليتوجهوا بالدعاء مع الحاج رجاء شمولهم بثواب الحج وأجره والله واسع كريم.
الثالث والخمسون : موضوعية يوم عرفة في الحج ترشح عنها إستحقاقه لهذا الاسم والإكرام الخاص والتشريف والتقديس بالإضافة إلى موضوعيته في أصل الفريضة، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من أدرك عرفة فقد تم حجه”( ) وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: أصحاب الأراك لا حج لهم).
الرابع والخمسون : قالوا إن الوقوف في عرفة لم يرد في القرآن، ولكنه ظاهر في الآية الكريمة بالدلالة التضمنية للإفاضة بقوله تعالى[فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( ).
وجاءت السنة للبيان والتفصيل والتوكيد فالقرآن عرّف يوم عرفة وجعل الموضع معروفاً للناس جميعاً.
الخامس والخمسون : ذكر أن الياس صاحب البراري، والخضر صاحب الجزائر يجتمعان كل يوم عرفة بعرفات.
السادس والخمسون : يعرف الموضع الواقفين بما يجعله الله فيه من القوة.
السابع والخمسون : يعرف الملائكة القائمون عليه وفد الحاج لكل سنة والعاملين بخدمتهم وإعانتهم وحراستهم .
الثامن والخمسون : يكتب وفد الحاج في ليلة القدر وفي أدعية رمضان فيه سؤال لأداء فريضة الحج وبذا يعرف وفد الحاج والواقفين على عرفة قبل الأوان، وهو من معاني قوله تعالى [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ]( ).
ولا تنحصر نعمة الرزق بأداء الحج بليلة النصف من شعبان ، فالله عز وجل ذو الفضل العظيم الذي يهيئ أسباب الحج للناس في كل يوم إلى حين الوقوف على عرفة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ) .
التاسع والخمسون : بالوقوف عليه يكتسب الحاج معرفة وعلماً إضافياً.
الستون : يعرف الناس أهله بالتقوى والصلاح والإكرام.
الواحد والستون : تكون نوع صلة بين الحجاج وإن إختلفت سنوات حجهم وتجمعهم معرفة خاصة قوامها التقوى والفوز بالحج والوقوف في عرفة، والإلتزام الأمثل بأداء المناسك وهو من أسرار إنفراد الحج بالوقوف على عرفة دون العمرة.
الثاني والستون : فيه تعريف للأبناء بضرورة التقيد بأحكامه والسعي لأداء الفرائض.
الثالث والستون : الوقوف على عرفة شاهد على المعرفة والإرتقاء في منازلها، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.
الرابع والستون : بمناسك الحج يعرف المسلمون أنهم ورثة الأنبياء.
الخامس والستون : يعرف المؤمنون يومئذ وظائفهم العبادية والجهادية.
السادس والستون : الوقوف على عرفة شهادة عبادية وأخلاقية وإجتماعية دنيوية وأخروية.
السابع والستون : تسمية يوم عرفة وجبل عرفات حجة على الناس في لزوم حسن معرفة حال الحاج وتثمين جهدهم وسعيهم بأداء المناسك ، واستقبالهم وتهنئتهم عند العودة من الحج.
وهذا الإستقبال من معاني معرفة وفد الحاج والترغيب العام بالوقوف على جبل عرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة مع الإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
الثامن والستون : عرفات مدرسة المعارف الإلهية.
التاسع والستون : يعرف المسلمون أحوال البلدان والتجارات، والصناعات ويتبادلون الخيرات، ويدرسون إمكان الإنتقال في السكن والمهنة والعمل .
فيكون الحج باباً للكسب ، وحسن المعيشة ، ونشر لواء الإسلام خصوصاً وإن وفد الحاج من أهل التقوى والصلاح.
السبعون : يعرف عامة المسلمين الحجاج وغيرهم أن مناسك وأحكام الإسلام باقية إلى يوم القيامة وأنها الشريعة الناسخة للشرائع.
الواحد والسبعون : ذكر أن (ذا المجاز) موضع عند عرفات سُمي به لأن إجازة الحاج كانت فيه، كما تقام فيه سوق في الجاهلية).
الثاني والسبعون : عرفة من العُرف وهو الرائحة الزكية إذ تبقى رائحته طيبة مع انتشار رائحة الدم بذبح الهدي في منى يوم النحر .
الثالث والسبعون : ورد في حديث لابن عباس إطلاع جبرئيل إبراهيم عليهما السلام على المناسك (ثم أتى به عرفة فقال : هذه عرفة . فقال له جبريل : أعرفت؟ قال : نعم . ولذلك سميت عرفة)( ).
كلمات الأحكام في آية واحدة
قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
إذ تشمل هذه الآية كلاً من :
الأول : نداء الإكرام لصفة الإيمان وابتداء الآية بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون هذا النداء مقدمة لتلقي الأوامر والنواهي الواردة في آية البحث والعمل وفق أحكامها ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وسيأتي في الجزء التالي ان شاء الله : المطلق والمقيد في آية الدَين.
الثاني : الإخبار عن إباحة التداين بين المسلمين ، ووردت نصوص باستحباب الإقراض ، و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة ، الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر)( ).
الثالث : كتابة مقدار الدَين وأجله لقوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ]وتدل صيغة الأمر على الوجوب إلا مع القرينة في الإستثناء الخاص بالتجارة اليومية .
ولم يرد لفظ (أكتبوه)(فاكتبوه) إلا في آية البحث لبيان موضوعية كتابة الدَين ، وهل هذه الكتابة حرب على الربا ، الجواب نعم ، وهي منع منه ومن مقدماته ، وأسباب اللجوء إليه ، لما فيها من التوثيق ، وحفظ الأموال والعهود والترغيب بالتداين من غير فائدة ربوية ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( ) .
الرابع : الأمر من الله بكتابة الدَين ومقدار القرض معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لدرء الخلاف والشقاق بين المسلمين ، وهل هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم .
الخامس : المنع من صيرورة كتابة الدَين فتنة أو سبباً للغبن والظلم ، ويتجلى هذا المنع ببيان صفات الكاتب ، وأنه [كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ]( ).
ولا يشترط بأن يكون هذا الكاتب مسلماً ، فالقدر المتيقن أنه ثقة وماهر ومأمون ، ويعرف الحلال ، ويعمل به ، ويعرف الحرام فيتجنبه .
السادس : بعد أن توجه الأمر للمسلمين بصفات كاتب العدل ، توجه الخطاب إلى ذات الكاتب بأن تكون كتابته بالحق من غير زيادة أو نقصان ، كما تفضل الله عز وجل وعلمه الكتابة ، وجعل الناس يختارونه لكتابة المواثيق .
ومتعلق التعليم [كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ] أعم من كتابة الدَين منه :
الأولى : كما علمه الله مبادئ التوحيد .
الثانية : كما علمه الله أحكام الفرائض .
الثالثة : كما علمه الله حفظ الأمانة ، ومنها كتابة صفات الدَين والمدين والشهود من غير تحريف .
الرابعة : كما علمه الشهادة بالحق ، لأن الكاتب كالشاهد .
السابع : البيان واللطف الإلهي بأن يكون إملاء مقدار الدين وأوان القضاء وشروطه ، وذكر الأسماء من قبل المدين .
الثامن : وجوب تقوى وخشية المدين من الله عز وجل عند الكتابة ، وفيه نكتة وهي قد لا يكون الدائن حاضراً لكتابة الدين أو أن الكتابة جزء من وصية الإنسان ساعة الإحتضار أو قبلها ، لاستحباب كتابة الوصية مطلقاً ، إذ أن تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الوصية من معجزاته .
التاسع : عدم البخس أو النقص من مقدار الدَين بقوله تعالى [وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا] ( ) إذ ان القرض كالأمانة ، وهو إحسان من المُقرض ، وقال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ]( ).
العاشر : لا تسقط الكتابة للعذر في عدم أهلية المدين به ، إذ يكتب الولي والوصي والوكيل الدَين عن الصغير والسفيه بالحق وعدم الغبن ، لوجوب حفظ مال المسلم صاحب الدَين والقرض ، ولقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
الحادي عشر : شهادة رجلين على الدَين للتوثيق ، ومنع الخلاف والخصومة ، والأظهر استحباب الشهادة على الدَين
الثاني عشر : منع الحرج في الشهادة ، فاذا لم يشهد رجلان فرجل وامرأتان .
الثالث عشر : شرط إتصاف الشهود بالعدالة والثقة .
الرابع عشر : من إعجاز الآية بيان علة شهادة امرأتان بدل رجل واحد بما ينفي الإنتقاص من المرأة ، إنما أراد الله عز وجل التخفيف عن النساء لإحتمال نسيان بعضهن صفات وخصائص مقدار الدَين الذي شهدت عليه لإنشغالها في أمور المنزل ، والحمل ، وتربية الأولاد .
الخامس عشر : عدم جواز امتناع الشاهدة عن الإدلاء بالشهادة بعد تحملها ، وتحمل الشهادة كما لو قيل لفلان إشهد أني اقترضت من زيد كذا مبلغ لهذا الأجل ، أما أداء الشهادة فهو عند الحاكم والقاضي وعند الحاجة ومواطن منع الخلاف والشقاق.
السادس عشر : يشترط في الشاهد البلوغ ، والعقل ، والنطق ، والحفظ ، والإسلام للقيد في قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]( ) والكتابي والكافر ليس من رجالنا ، وهناك قيد آخر وهو العدالة بقوله تعالى [وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ]( ).
وهل الجمع بينهما من المطلق والمقيد ، فلابد من شرط العدالة حتى في الشهادة على الدَين ، أم هناك خصوصية للشهادة على الطلاق تستلزم العدالة في الشاهد .
والصحيح هو الأول ، فلابد من العدالة في الشهادة على الدَين أيضاً .
وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مقيد بالنطق بالشهادتين بالنسبة للإطلاق في عامة الناس ، وهو مطلق بالنسبة للمؤمنين ، أي أن النسبة بين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وبين المؤمنين عموم وخصوص مطلق ، لأن المراد من الإيمان هو التصديق بالجنان ، والتنزه عن النفاق ومفاهيم الكفر والجحود.
السابع عشر :الإطلاق في كتابة الدَين والشهادة عليه وإن كان قليلاً .
الثامن عشر : موضوعية تعيين الأجل في كتابة العقد ، وفي تحمل الشهادة لقوله تعالى [وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ]( ).
ويترشح عنه ضبط الأجل وإستحضار الشهادة والتذكير بها ، وعند أدائها ، وقوله تعالى [إِلَى أَجَلِهِ ]تعليم وتأديب للمسلمين ، ومناسبة للتفقه في الدَين في باب العبادات والمعاملات ، لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) وصحيح أن الدَين والشهادة عليه من المعاملات إلا أن القيود والأحكام التي تذكرها آية البحث دعوة لإستحضار الآخرة وعالم الحساب .
التاسع عشر :تعيين أطراف الدَين والقرض ، وضبط صفاته ، وتعيين أجله في العقد وعند الشهود .
العشرون : ذكر تفاصيل الدَين والقرض في العقد بما يمنع من الريب والشك ، وما يترشح عنه من الخلاف .
الواحد والعشرون : استثناء التجارة اليومية الحاضرة من التي تكون نقداً في الغالب ، ولا أجل معين لقضاء الدَين من إحضار الكاتب والشهود ، وذكر التفاصيل لقاعدة نفي الحرج في الدَين ، ولقلة الإختلاف فيها ، فيجوز عدم كتابتها ، ولكن هذا الجواز لا يعني حرمة أو كراهة كتابتها ، فيجوز أيضاً كتابتها خاصة مع تعددها وكثرتها في كل مرة .
الثاني والعشرون : إحضار الشهود عند البيع ، وذكرت الآية البيع مطلقاً [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] ( ) سواء كان البيع نقداً أو نسيئة وبالآجل لتغير المالك وخشية الإنكار ، وهذه الشهادة مستحبة ، وهو المشهور ، وقد تكون واجبة بطلب أحد طرفي عقد البيع أو الدَين خاصة عند علامات وأمارات على الريب وحدوث الخلاف.
فمن إعجاز الآية قوله تعالى [لَا يُضَارَّ] ( ) فحتى القول باستحباب كتابة الدَين والشهادة عليه ليس مطلقاً ، فقد يكون واجباً .
الثالث والعشرون : كما أنه لا يبخس مقدار الدَين عند الكتابة ، فكذا يجب أن لا يلحق الكاتب والشهود ضرر عند كتابة العقد ، فلا يصح توجيه التهديد لهم لتحريف الشهادة أو الإمتناع عنها .
وقيل [لَا يُضَارَّ]( ) بصيغة الفاعل أي لا يضر الكاتب صاحب الحق النقص في الدَين أو إبعاد أجله أو الإضرار بالمدين أو الإمتناع عن الكتابة .
ولا يضرالشاهد أحد طرفي العقد بتحريف الشهادة ، ولكنه بعيد لمجئ الآية بعده بصيغة الجمع في موضعين من قوله تعالى [وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ] ( ) بواو الجماعة.
والضمير (كم) وإرادة الخطاب في أول الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
لبيان أن الإضرار بالكاتب والشاهد على وجوه :
الأول : إنه فسوق عام .
الثاني : فيه إخلال بالنظام العام.
الثالث : هو خروج عن الطاعة .
الرابع : إشاعة للمنكر.
الخامس : إنه برزخ دون إشاعة الدَين والقرض ، وما فيه من التسهيل والأجر والثواب .
الرابع والعشرون : تضمن الآية الأمر بالخشية والخوف من الله عز وجل [وَاتَّقُوا اللَّهَ] في موضوع الدَين وقضائه ، وإرادة الإمتناع عن الربا ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
خاتمة آية الدَين ثناء على الله
وفي قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] أمر وخطاب للمسلمين بالتعاون في موضوع القرض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوصه ، ومن معاني قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] إقامة الله الحجة على الناس بورود هذه الآية بتفاصيل الدَين بما يمنع من الجهالة والضرر ، فلابد من التقيد بها ، والعمل بمضامينها ، وعدم التفريط بها ، أو مخالفة ما ورد فيها ، ليكون من معاني[وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) في الآية أمور :
الأول : ثناء الله عز وجل على نفسه بنزول آية الدَين ، وضبط أحكامه بدقة ، وتعيين وتعدد أطرافه .
الثاني : الثناء على الله بجعل آية الدَين أطول آية في القرآن ، وعدد كلماتها 129 كلمة وحروفها (551) حرفاً ، وهي أكثر من مجموع حروف ثماني سور ، وهي :
1 سورة الكوثر 42 حرفاً
2 سورة الإخلاص 47 حرفاً
3 سورة العصر 70 حرفاً
4 سورة قريش 73 حرفاً
5 سورة النصر 79 حرفاً
6 سورة الناس 80 حرفاً
7 سورة المسد 81 حرفاً
المجموع 472 حرفا
الثالث : الثناء على الله عز وجل بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] ( ) فهو سبحانه قد علم المسلمين والمسلمات بآية البحث أحكام الدَين ، وكل آية تعليم للناس ، وفي الآية وعد من الله بأنه سيعلم المسلمين في كل زمان وإلى يوم القيامة لمجئ الآية بصيغة الفعل المضارع ، وإرادة الإستمرار والتجدد بفضل الله عز وجل بتعليم المسلمين ، وهل منه إظهار العلماء ذخائر وكنوز آيات القرآن بالأجيال المتعاقبة بلطف من الله ، المختار نعم .
وبينما كان التفسير لا يتعدى ثلاثين جزء لسور القرآن ، أكتب في هذا الجزء وهو الواحد والخمسون بعد المائتين من (معالم الإيمان) وكله تأويل واستنباط واستقراء ولا زلت في سورة آل عمران ، وليس المدار على الكثرة والكم ، خاصة مع بزوغ الذكاء الإصطناعي ، ولكن المدار على الكيف والعلوم والقوانين والمسائل المستنبطة من آيات القرآن .
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للعمل بأحكام هذه الآية وتعاهد تلاوتها .
الخامس : واتقوا الله عز وجل بالتقيد بمضامين آية البحث ومنها الوجوه الأربعة والعشرون المتقدمة .
السادس : إرادة الأجر والثواب بتقوى الله بالعمل بأحكام وسنن آية البحث ، وآيات القرآن مطلقاً .
قانون الدَين حق
تصنف الآية الدَين والقرض بأنه حق أي واجب الأداء فقد ذكرت الذي عليه الحق ، لتدل في مفهومها على أن الدائن له حق في عهدة المدين ، لذا تجب وصية المدين بالدَين وصفاته وقضاؤه من تركته .
وقد حضّ النبي على وفاء الدَين وبيان الثواب العظيم فيه ، و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ مشى إلى غريمه بحقّه صلت عليه دواب الأرض ونون الماء.
وكتب الله عزّ وجلّ بكلّ خطوة شجرة يغرس له في الجنّة وذنباً يغفر له فإنّ لم يفعل ومطل فهو متعدّ)( ).
وتسمية الدَين برد الحق دعوة للإجتهاد بالقضاء ، وعدم التسويف أو المماطلة فيه أو إهماله ، ولبيان أن الدائن ينتظر الوفاء .
و(عن جابر بن عبد الله قال كان ليهودي على أبي تمر فقتل يوم أحد وترك حديقتين وتمر اليهودي يستوعب ما في الحديقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل لك أن تأخذ العام بعضه وتؤخر بعضه فأبى اليهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل لك أن تأخذ.
فأحضر الجداد فآذني فأذنته فجاء هو وأبو بكر فجعل يجد ويكال من أسفل النخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالبركة حتى وفينا جميع حقه من أصغر الحديقتين فيما يحسب عمار ثم أتيتهم برطب وماء فأكلوا وشربوا ثم قال هذا من النعيم الذي تسألون عنه)( ).
أي قوله تعالى [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ]( ).
و(عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه : إنّ رجلاً أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه ، فقال : صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه ديناً.
قال أبو قتادة : فأنا أكفل به ، قال : بالوفاء ، قال بالوفاء ، فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهماً أو سبعة عشر درهماً)( ).
وبعد أن تحسنت أحوال المسلمين ، تولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضاء ديون الذي يموت من الصحابة (عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقول : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه . فأيما رجل مات وترك ديناً فإليّ ، ومن ترك مالاً فهو لورثته)( ).
وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقضي ديون الصحابة ، ولا يأخذ من تركتهم شيئاً وفيه دعوة لحكام المسلمين بعدم الأخذ من التركة الشخصية إنما توزع على الورثة حسب السهام بعد الدَين والوصية ، قال تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( ).
قانون حضور السنة النبوية
من خصائص السنة النبوية حضورها في الواقع اليومي للمسلمين بما يجلب النفع ، ويصرف الأذى والضرر وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الأول : قانون السنة النبوية تفسير للقرآن .
الثاني : قانون السنة النبوية شاهد على سلامة القرآن من التحريف.
الثالث : قانون السنة النبوية سلاح لمنع طرو يد التحريف على آيات القرآن .
الرابع : قانون بعث السنة النبوية المسلمين على الصدور عن القرآن .
الخامس : قانون زيادة إيمان المسلمين لتجلي انتفاء التعارض بين القرآن والسنة النبوية .
السادس : قانون منع الكذب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونسبة أقوال وأفعال له لم يفعلها بعرض سنته على القرآن لقانون التوافق بين الكتاب والسنة .
السابع : قانون حب الله عز وجل للذين يعملون بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الثامن : قانون السنة النبوية وسيلة مناسبة للتدبر في آيات القرآن.
التاسع : من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، توارث المسلمين للسنة النبوية .
العاشر : قانون السياحة في السنة النبوية إرتقاء في المعرفة ، وباب لنيل الأجر والثواب ، وسلاح عصمة من المعاصي .
الصلة بين آية تحويل القبلة وفتح مكة
لقد أدرك الصحابة أن فتح مكة وإزاحة مظاهر الشرك عنها ضرورة للأجيال وهو من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ) .
فلا يعقل أن يتوجه المسلمون والمسلمات في الصلوات اليومية الخمس إلى البيت الحرام ومنصوب فيه ثلاثمائة وستون صنماً لتكون البشارة بفتحها من دلالات آية تحويل القبلة [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
وقد نزلت هذه الآية في اليوم السابع عشر من شهر رجب من السنة الثانية للهجرة النبوية إلى المدينة ، بتحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام كما عن ابن عباس والبراء بن عازب.
وفي حديث طويل عن الإمام الصادق عليه السلام (وتحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة ثلاث عشر سنة( ) إلى البيت المقدس وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى البيت المقدس سبعة اشهر)( ).
وسيأتي معجزة تحويل القبلة .
وصيرورة القبلة البيت الحرام ، بل الحرم كله علامة وأمارة الوحدانية ، والشاهد المكاني على عبادة الله وحده ، وكذا في تسمية الله للبيت الحرام (بيتي) كما في قوله تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
ترى لماذا صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدة ست سنوات بين نزول آية تحويل القبلة وبين فتح مكة ، الجواب من جهات :
الأولى : لا يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يأمره الله عز وجل به ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثانية : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع وصد لغزوات قريش المتكررة ، والتي لم تنحصر بمعركة بدر وأحد والخندق.
إذ كانت قريش تغير على أطراف المدينة ، وعلى مواشيها في مراعيها ، وكانوا يحرقون صغار النخيل حولها لإثارة أهل المدينة ومنهم اليهود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وللإضرار بهم اقتصادياً ونفسياً وإجتماعياً.
ترى ما هي الصلة بين غزو قريش على سروح المدينة وحرق نخيلها وبين حصارهم السابق لبني هاشم في شعب أبي طالب ، الجواب هو اتحاد السنخية والظلم والإرهاب والعداوة للإسلام ، بالسيف والتعسف والتخريب ، وقد كان قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، بشارة صرف شرور قريش ومكائدهم ومقاصدهم الخبيثة من هذه الأفعال .
الثالثة : إقامة الحجة على الذين كفروا في إمهال الله لهم قال تعالى [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ]( ).
الرابعة : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبيت الحرام ومنع الإقتتال عنده ، وإكرامه هذا ليس قضية شخصية إنما هو من عند الله عز وجل ، ويدل عليه بروك ناقته القصباء عند أطراف الحرم ، فقال جمع من الصحابة (خَلَأَتْ النّاقَةُ قَالَ ” مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقِ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكّةَ . لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحِمِ إلّا أَعْطَيْتهمْ إيّاهَا)( ).
معجزة كشف كتاب حاطب
لما نزل الوحي من عند الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتوجه وأصحابه إلى مكة لجأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء بأن لا تعلم قريش بخروجهم إلى أن يكونوا في مكة بغتة حقناً للدماء ، ولما فيه النفع العام ومصلحة قريش نفسها بهدايتهم إلى الإيمان وعدم قتلهم على الكفر والعناد والجحود منهم.
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من الصحابة على النقاب ، وهي جمع نقب أي الطريق الضيق لرصد الخارجين من المدينة ، وإرجاع المشتبه به الذي يخشى قيامه بنقل خبر إعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للتوجه إلى مكة.
وجعل عمر بن الخطاب يطوف عليهم ليسألوا الذي يتوجه إلى مكة عن غايته ، ويتحفظوا على الذي يرون فيه ريبة وشكاً خاصة وأن إعداد جيش من عشرة آلاف للتوجه إلى مكة يستلزم وقتاً ، ويجعل إخفائه أمراً عسيراً لولا الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفضل الله.
فقام أحد الصحابة وهو حاطب بن أبي بلتعة بالكتابة إلى قريش يعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصدهم ويجمع أصحابه للتوجه إلى مكة.
وأعطى الكتاب إلى سارة مولاة لبعض بني المطلب ، وجعل حاطب لها جعلاً ديناراً ، كما عن محمد بن عمر وقيل عشرة دنانير( ).
وذكر لها حاطب أسماءً معينة من رؤساء قريش توصل لهم الكتاب ، وقال لها اخفي الكتاب ما استطعتي ، ولا تمري على الجادة العامة لأن عليها حرساً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه ظفائرها بما يجعل الذي يفتشها لا يجده.
وقيل في الكتاب إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد نفر فاما إليكم وإما إلى غيركم ، فعليكم بالحذر( ).
وهذا الترديد في الكتاب ليس بعيداً ، إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر الصحابة المقربين منه إنه يريد مكة ، وحاطب من المهاجرين والبدريين.
(وذكر ابن عقبة أن فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد آذن بالغزو ، ولا أراه إلا يريدكم، وقد أحببت، أن يكون لي يد بكتابي إليكم)( ).
فمن إستجابة الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخفاء الزحف نحو مكة عدم قطع حاطب بأن مكة هي مقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد استجاب الله عز وجل دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأخذ باسماع وأبصار قريش حتى يدخل عليهم ، فنزل الوحي ليخبره بما فعل حاطب فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام والزبير بن العوام وقيل معهما المقداد بن الأسود وقال (رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أدرك امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب الى قريش، يحذرهم ما قد اجمعنا له في أمرهم)( ).
وأدركوها في روضة خاخ ، فأمروها باناخة الراحلة والنزول منها ، فنزلت ثم صاروا يفتشون الرحل فلم يجدوا شيئاً.
فقال لها الإمام علي عليه السلام : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك ، أي أن الكتاب موجود عندك إما في الرحل والمتاع أو أنه في ثيابك وملاصق لبدنك ، وما دمنا لم نجده في الرحل والمتاع فبقي الثاني فيلزم كشفك.
فلما رأت الجد من الإمام علي عليه السلام قالت : اعرضا أي كي تستخرجه من موضع لا يصح رؤيتهم له ، فحلت ظفائرها واستخرجت الكتاب منه ، ودفعته إلى الإمام علي عليه السلام وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففتحه وإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى فلان وفلان وفلان وفلان من أهل مكة يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على دخول مكة فارسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حاطب وقال له : ما حملك على هذا يا حاطب .
(فَقَالَ لَا تَعْجَلْ عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا ارْتَدَدْت وَلَا بَدّلْت وَلَكِنّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا قُرَيْشٍ لَسْت مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلِي فِيهِمْ أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ وَوَلَدٌ وَلَيْسَ لِي فِيهِمْ قَرَابَةٌ يَحْمُونَهُمْ وَكَانَ مَنْ مَعَك لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّهُ قَدْ خَانَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَقَدْ نَافَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا)( ).
لقد كان أمراً محزناً أن يقوم أحد المهاجرين بارسال كتاب إلى المشركين يحذرهم من سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إليهم ، وهو أيضاً يكون معهم في هذا المسير .
أي أنه يعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ونفسه للخطر والقتل والجرح ، وكذا يعرض المشركين في مكة ، فهذا الكتاب لا ينفع أحداً إلا الشيطان وعبادة الأوثان فصرف الله ضرره ، ومع كثرة الصحابة من قريش وأكثرهم لهم أخوة وأباء وأبناء في مكة فلم يرسلوا إليهم يوماً ما كتاباً بهذا المعنى ، وكذا بالنسبة للصحابيات مع شدة العاطفة عند المرأة.
كشف كتاب حاطب رحمة عامة
مع تفوق المسلمين عدداً وعدة وإيمانهم وعزمهم على إزاحة مظاهر الشرك من مكة والجزيرة العربية فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجاهر بالهجوم على مكة ، منعاً لدق طبول الحرب وطلب قريش النجدة من القبائل وبذل الأموال لهم على نحو فوري ، مع الوعد باطفاء الديون والفوائد الربوية ، وقروض جديدة غير الهبات لرؤساء القبائل وصار رجال القبائل التي حول المدينة يقدمون عليها بخيلهم وإبلهم وأسلحتهم استعداداً للتوجه إلى مكة.
فقام حاطب بن أبي بلتعة بالكتابة إلى قريش يخبرهم بتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم بجيش كالليل يسير كالسيل.
وقيل كتاب حاطب لقريش في توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية وهو ضعيف فقد خرج وأصحابه باحرامهم من غير سلاح إلا سلاح الراكب ، ولم يكن خروجهم هذا أمراً خفياً.
ولو بعث حاطب هذه الرسالة إلى قريش يومئذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى المقوقس ملك القبط بعد الحديبية .
وحاطب من المهاجرين والبدريين ولكنه ليس من قريش فهو (مولى عبيدالله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبدالعزى واسم أبى بلتعة عمرو)( ).
وهو من أهل اليمن ، وقول هو حليف لقريش وليس مولى لهم وهو الأرجح.
بعث حاطب إلى المقوقس
لقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاطباً هذا رسولاً (إلى المقوقس صاحب الأسكندرية) ( ) في السنة السادسة للهجرة بعد صلح الحديبية .
وبعث دحية الكلبي إلى قيصر ملك الروم ، وعبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس .
وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة ، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان .
والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر من ساوي العبدي ملك البحرين ، وغيرهم يدعوهم إلى كلمة التوحيد والإيمان.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث رسولاً يزوده بكتاب يبين فيه موضوع البعثة والغاية منها ، وما يؤيد أن الرسول من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان كتابه مع حاطب بن أبي بلتعة.
(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله الى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى أما بعد فانى أدعوك بداعية الاسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين.
فان توليت فان عليك إثم القبط و(يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وختم الكتاب)( ))( ).
ويدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسائله (عظيم القبط) ومن رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس و(من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم)( )، على إكرامه الملوك الذين يخاطبهم ويدعوهم إلى الإسلام .
نعم هو لم يطلق عليهم صفة الملك والسلطنة العامة إنما يضيف عنوان إكرامهم إلى قومهم كحجة عليهم في لزوم هدايتهم لقومه إلى التوحيد.
وفيه إخبار ببقائهم في ملكهم وسلطانهم إن أسلموا وكذا بالنسبة لدعوة موسى عليه السلام لفرعون فلو أسلم يبقى على ملك مصر.

معجزة (لا تذمه)
لقد كانت معركة بدر ونصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيها معجزة متعددة تترشح عنها المعجزات حتى بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد تم أسر سبعين من المشركين يومئذ مع أن عدد جيشهم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الصحابة في الميدان.
لقد كانت كثرة عدد الأسرى معجزة للنبي ، وعندما أخبر البشير أهل المدينة بأن النبي قادم من بدر ظافراً ومعه سبعون أسيراً من رؤساء ورجالات قريش لم يصدق كثير منهم الخبر ، وظنوا أن زيداً بن حارثة قد اختلط عليه من شدة ما لاقى ، ولكن ما لبثوا أن دخل الأسرى مكتفي الأيادي بحبال خفيفة ، عنوان الأسر كان منهم سهيل بن عمرو بن عبد شمس من بني عامر بن لؤي من قريش ، وكان أخرج معه ابنه عبد الله .
فلما نزلوا بدراً فرّ عبد الله إلى رسول الله إذ كان يكتم إيمانه وذكر أنه (هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية في قول ابن إسحاق ومحمد بن عمر ثم رجع إلى مكة فأخذه أبوه وأوثقه عنده)( ).
وهو الذي أخذ فيما بعد الأمان لأبيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة.
وقد شهد أبو حذيفة بن عتبة معركة بدر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهد كيف وقع أبوه في الأسر ، أسره مالك بن الدخشم وقال شعراً :
(أسرت سهيلاً فما أبتغي … أسيراً به من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى … سهيلاً فتاها إذا تصطلم
ضربت بذي الشفر حتى انثنى … وأكرهت سيفي على ذي العلم)( ).
ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الصحابي يرى أباه أسيراً ، وآخر يرى أباه مقتولاً على الكفر ،فلا يتزلزل إيمانه وهو من الشواهد والمعجزات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما سُحب عتبة بن ربيعة إلى القليب أي البئر التي نضب ماؤها نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجه ابنه الصحابي أبي حذيفة ، وإذا هو كئيب تغير لونه.
فاراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفف عنه ويذكره بأولوية الإيمان ، فقال (لَعَلّك قَدْ دَخَلَك مِنْ شَأْنِ أَبِيك شَيْءٌ)( ).
قال لا ، ولكني كنت أعرف عن أبي حلماً وفضلاً ورجوت أن يهديه الله للإيمان ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل بدل وثمن إطلاق الأسير للذي أسره وليس لبيت المال منه سهم أو نسبة.
معجزة يوم المرحمة
لما أخبر الله عن صفة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها رحمة مطلقة تعم الناس بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فان هذه الرحمة تشمل البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، وقد تجلت يوم دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.
وربما رآى بعض الأنصار أن يوم فتح مكة مناسبة للإنتقام من كفار قريش على شدة أذاهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة ، إنه يوم الثأر لشهداء بدر وأحد والخندق .
وكانت شعارات المسلمين يوم فتح مكة كالآتي :
الأولى : شعار الأوس : يا بني عبيد الله .
الثانية : شعار الخزرج : يا بني عبد الله .
الثالث : شعار المهاجرين : يا بني عبد الرحمن( ).
وقد وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء الجيش بالدخول من عدة جهات إلى مكة ، فأمر سعد بن عبادة وهو من النقباء بالدخول من كَداء بأعلى مكة .
وفي بيعة العقبة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمت قريش بها بعد أن تمت وانصرف الأنصار (فاقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فأما سعد فكان ممن عذب في الله وأما المنذر فأعجزهم وأفلت)( ).
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ سَعْدًا حِينَ وُجّهَ دَاخِلًا ، قَالَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَدْرِكْهُ فَخُذْ الرّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ الّذِي تَدْخُلُ بِهَا)( ).
وتوسل رجال من قريش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ بالنثر والشعر.
وكان ضِرار بن الخطاب بن مرداس ، وهو أحد الثلاثة الذين عبروا الخندق مع عمرو بن ود العامري في غزوة الأحزاب ، وهو من شجعان وشعراء قريش .
فقال يوم فتح مكة مناشداً النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
(يَا نَبِيّ الْهُدَى إلَيْك لَجَا ح … يّ قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءِ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سَعَةُ الْأَرْ … ضِ وَعَادَاهُمْ إلَهُ السّمَاءِ
وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ عَلَى الْقَ … وْمِ وَنُودُوا بِالصّيْلَمِ الصّلْعَاءِ
إنّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظّهْ … رِ بِأَهْلِ الْحَجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
خَزْرَجِيّ لَوْ يَسْتَطِيعُ مِنْ الْغَيْ … ظِ رَمَانَا بِالنّسْرِ وَالْعَوّاءِ
فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللّوَاءَ وَنَادَى … يَا حُمَاةَ اللّوَاءِ أَهْلَ اللّوَاءِ
لَتَكُونَن بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ … بُقْعَةُ الْقَاعِ فِي أَكُفّ الْإِمَاءِ)( ).
(قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بن عوف وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا نَأْمَنُ سَعْدًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ الْيَوْمَ أَعَزّ اللّهُ فِيهِ قُرَيْشًا” قَالَ وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إلَى سَعْدٍ فَعَزَلَهُ وَجَعَلَ اللّوَاءَ إلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنّ اللّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ سَعْدٍ حِينَ صَارَ لِابْنِهِ.
فَأَبَى سَعْدٌ أَنْ يُسَلّمَ اللّوَاءَ إلّا بِأَمَارَةِ مِنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِعِمَامَتِهِ فَعَرَفَهَا سَعْدٌ فَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى ابْنِهِ قَيْسٍ).
وفي قول إنما أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عليا فأخذ الراية فذهب بها الى مكة حتى غرزها عند الركن)( )، وهو الأرجح.
وفي وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة بأنه يوم المرحمة مسائل :
الأولى : بيان شاهد من السنة النبوية أن مكة لم تفتح عنوة .
الثانية : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمهاجرين والأنصار بالرأفة والرحمة بجميع أهل مكة .
الثالثة : بعث السكينة في نفوس رجالات قريش بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يؤاخذهم على غزوهم المدينة ، وقتلهم لأربعة عشر من الصحابة في معركة بدر ، وسبعين في معركة أحد ، وستة في معركة الأحزاب( )، وقتل آخرين في وقائع متعددة .
وكان أول شهيد في الإسلام امرأة وهي سمية بنت خِباط أم عمار بن ياسر ، ومولاة أبي حذيفة بن المغيرة.
الرابعة : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يوم المرحمة) معجزة حسية له ، وشاهد على صدق نبوته .
الخامسة : هل يوم المرحمة خاص بأهل مكة أم هو عام ، الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
السادسة : بيان حقيقة فتح مكة سلماً .
السابعة : ترغيب أهل مكة بدخول الإسلام .
الثامنة : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبيت الحرام وقدسيته .
التاسعة : تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلة الرحم مع قريش فحينما سألهم يوم الفتح وفي البيت الحرام (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ، قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ)( ).
ولا يدل نعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالطلقاء بأنهم عبيد أو أسرى عنده ، خاصة وأن كلمته في البيت الحرام إنما أراد سلامتهم وعدم مؤاخذتهم على ظلمهم وغزوهم المدينة.
ومن معاني الطليق لغة : تركه وشأنه.
معجزة أوان دخول وفتح مكة
لقد جاءت البشارة بفتح مكة بوسائط منها ، رؤيا الوحي إذ قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( )، وقوله تعالى [لَا تَخَافُونَ] خطاب موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأجيال المسلمين المتعاقبة .
وهل يشمل الخطاب [لَا تَخَافُونَ] النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، ولكن مع الفارق إذ رزقه الله السكينة ساعة مغادرته مكة كما في قوله تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ولم تغادر السكينة النبي لتكون الخطابات القرآنية للنبي والمسلمين على وجوه :
الأول : الخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
الثاني : الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشمل المسلمين أيضاً .
الثالث : الخطاب إلى المسلمين ويشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن مع مائز خاص للنبي ، وهذا القيد يذكر هنا لأول مرة ، ومن معاني هذه الآية (لا تخافون) إمتناع الخوف عن النفاذ لقلوب المسلمين عند توجههم إلى مكة وعند دخولها وما بعده أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيشمله هذا الخبر والبشارة مع مائز وهو عنده السكينة الخاصة المصاحبة له ، لتكون رحمة للمسلمين جميعاً.
وهذا المائز النبوي من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ]( ).
وإذ ورد الفتح بخصوص صلح الحديبية ومع النبي يومئذ ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار بلباس الإحرام ، وسيأتي معجزة صلح الحديبية مقدمة للدخول ، أي دخول مكة.
وقد ورد لفظ الفتح في موارد متعددة في القرآن منها ما نزل بعد فتح مكة ويتضمن البشارة بقدوم الفتح كما في قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وهل من موضوعية لأوان فتح مكة في حجنا هذه السنوات وما قبلها وما بعدها ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ).
وجاء قوله تعالى [لَا تَخَافُونَ] بعد الحلق والتقصير لبيان انبساط الأمن وعدم الخوف على وفد الحاج حتى عودتهم إلى أمصارهم ، وهل قوله تعالى [لَا تَخَافُونَ] وعد من الله لأجيال المسلمين ، ووفود الحاج المتعاقبة ، الجواب نعم ، وهو الذي تتجلى مصاديقه في هذا الزمان.
تصدي سهيل للإرتداد
عندما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة جعل عليها عتاب بن أسيد والياً ، وحج بالمسلمين سنة ثمان ، ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توارى عتّاب بنُ أسِيد عن الأنظار ، واختفى فقام سهيل بن عمرو خطيباً وحاملاً سيفه في الدعوة إلى الله.
(قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هموا بالرجوع عن الاسلام وأرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى ، فقام سهيل بن عمرو ، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: إن ذلك لم يزد الاسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه.
فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد)( ).
وذكر أن أهل مكة ضجوا وتوافدوا إلى المسجد الحرام فخرج عتاب من مكة ودخل شعباً من شعابها .
فدخل سهيل بن عمرو المسجد فقال : أين عتاب وهو شاب ، لأنه الوالي الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعل يسأل عنه ويستدل عليه حتى أتى عليه في الشعب .
(فقال : ما لك ؟ قال : مات رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : قم في الناس فتكلم قال : لا أطيق مع موت رسول الله صلى الله عليه و سلم الكلام قال : فاخرج معي فأنا أكفيكه فخرجا حتى أتيا المسجد الحرام فقام سهيل خطيباً)( ).
وأخبرهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحضهم على البقاء على الإيمان ، وتوعد الذي يرتد عن دينه .
وكان هذا العمل منه سبباً في استتباب الأمن في مكة وعدم إرتداد أهلها وهو مصداق لقول النبي لعمر أيام معركة بدر (إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه) وفي قول (دعه فعسى أن يقوم مقاماً يسرك).
واستشهد عبد الله بن سهيل بن عمرو في اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة وعمره ثماني وثلاثون سنة (وقال الواقدي: لما حج أبو بكر لقي أباه بمكة فعزاه به ، فقال سهيل : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يشفع الشهيد لسبعين من أهله ، فأرجو أن يبدأ بي)( ).
وسهيل من المؤلفة قلوبهم الذين أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل واحد منهم مائة من الإبل .
وكان بعد اسلامه كثير الصلاة ، والصوم والصدقة وخرج إلى الشام مع جماعة أهل بيته ، ومات هناك في طاعون عمواس .
(وقيل إنه مات باليرموك وكان أميراً على كردوس وقيل قتل بمرج الصفر)( ).
والأرجح والمختار أنه مات في الطاعون في السنة الثامنة عشرة للهجرة .
(وكان عدة من مات في طاعون عمواس خمسة وعشرين ألفاً)( ).
ومن مات فيه أبو عبيدة الجراح وهو الأمير، ومعاذ بن جبل ، ويزيد بن أبي سفيان ، والحارث بن هشام بن المغيرة ، وعتبة بن سهيل بن عمرو.
موضوعية المعجزة في حسم القتال
من خصائص المعجزة أنها أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي ، سالم عن المعارضة ومن خرقها للعادة في ميدان القتال صيرورتها هي المرجح للغلبة والنصر ولا تستطيع الأسباب المادية كثرة رجال العدو وأسلحتهم وخيلهم معارضتها ومنها نزول الملائكة يوم بدر لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فقال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لقد استحوذت الغفلة على المشركين ، ولم يدركوا أن الله الذي رزق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعجزة العقلية ، وهي القرآن ، وأظهر على يده معجزات حسية متعددة ، هو الذي ينصره في ميدان القتال ، فجهزوا الجيوش لقتاله ، فكانت مناسبة جلية لحضور المعجزة ، ورؤية عامة الناس لها ، وإذا كانت المعجزات الحسية في مكة مثل معجزة الإسراء وانشقاق القمر .
قد رآها عدد محدود من الناس فان معجزة النصر في الميدان خلاف الأسباب أمر ظاهر للناس ، وكذا بالنسبة لصرف مقدمات القتال ، وسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من القتال ، كما في تكرار لفظ الناس بخصوص واقعة حمراء الأسد في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ) .
وهذا التكرار والتعدد في لفظ الناس في واقعة واحدة شاهد على صيرورة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهراً .
وأن الناس صاروا يرقبون ويتابعون أخباره لما تتضمنه من المعجزات ، فمن أسرار المعجزة أن كل واحدة منها تسلمك إلى الأخرى ، وتدعوك إلى التفكر فيها ، فمن خصائص الحقيقة الإطراد ، وهو علامة فارقة لها عن إعجاز ، ومن الإطراد اتصال واستمرار الصفة والخصلة في كل الأحوال ، وحال الرخاء والشدة ، واليسر والعسر ، كصفة الشجاعة بالنسبة للأسد ، والكرم لحاتم الطائي ، والمعجزة للنبي في كل الأحوال ، وحينما سـأل ابن صوريا النبي محمداً عن كيفية نومه (فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : تنام عيناي وقلبي يقظان قال له : صدقت)( ).
وأيهما أعظم :
الأولى : معجزة خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعارك منتصراً .
الثانية : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منتصراً بالمعجزة.
الجواب هو الثاني ، وفيه دعوة لأجيال الناس المتعاقبة للإقرار بمعجزات الأنبياء عامة ، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة .
معجزة ثبات النبي (ص) في حنين
لقد هاجم رجال هوازن وثقيف المسلمين هجوماً مباغتاً شديداً قاسياً برماح مشرعة وسيوف لامعة وعلى خيل أصيلة ، فانهزمت السرايا الأولى للمسلمين وانكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
فلم يفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يرجع إلى الساقة والخطوط الخلفية إنما بقي في مكانه وهذا البقاء معجزة أخرى له خاصة مع قلة الصحابة الذين يحيطون به وكثرة جيوش المشركين التي زاد عددها على عشرين ألفاً.
ونادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحاب سورة البقرة وفي رواية ذكر فيها المهاجرين أيضاً والأنصار ورواية أخرى ذكر الشجرة بقوله بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا عباس ناديا أصحاب السمرة ، قال عباس : وكنت رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة ؟ قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك)( ).
والسمرة : هي الشجرة التي في الحديبية كانت شجرة سمرة ، وألف الاثنين في (ناديا) اشارة إلى العباس وسفيان بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان آخذا بركاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كان أشد الناس له عداوة وتناجى الأنصار فيما بينهم ، بالثبات والدفاع .
فهم أصحاب بيعة العقبة في مكة ، وبيعة الشجرة في الحديبية ، وهم الذين أكرمهم الله بصفة الأنصار الباقية إلى يوم القيامة لخلود آيات القرآن وسلامتها من التحريف والزيادة والنقيصة ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ) .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكتم وادياً وشعباً لسلكت واديكم وشعبكم ، أنتم شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ثم رفع يديه حتى اني لأرى بياض ابطيه فقال : اللهمَّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار)( ).
لقد كان ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه معجزة له لرجحان صيرورته سبباً لقتله سواء عرفه المشركون كما قصده مشركو قريش في معركة أحد ونادى ابن قمئة قتلت محمداً ، أو أن فرسان هوازن وثقيف لا يعرفون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم يرونه ثابتاً في موضعه منكشفاً لهم ، ليس معه إلا أفراد قلائل ، فيجهزون عليه ، وكثيراً من القادة يُقتلون في وسط الميدان من غير أن يكونوا مقصودين كقادة ورؤساء للجيش .
وهل كان ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يأبى الفرار ، أو أن هذا الثبات من الوحي في ساعة الشدة والحرج ، الجواب هو الثاني ، وهو من عمومات قوله تعالى [مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى]( ).
معجزة استجابة الصحابة لنداء يوم حنين
في حديث عثمان بن شيبة (يا عباس، اصرخ بالمهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، وبالانصار الذين آووا ونصروا)( ).
أي استصرخ جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وذكرهم ببيعة الحديبية ، وهل فيه تعريض بالذين اسلموا يوم دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، الجواب لا .
ولكن المهاجرين والأنصار هم أهل الإيمان والصبر في الدفاع .
وتدل هذه الوقائع على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان في حال دفاع وليس غزواً أو هجوماً .
لقد استجاب المهاجرون والأنصار لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : يا لبيك يا لبيك يا لبيك .
وصار الذين انهزموا منهم يثنون ابلهم وأكثرهم لايقدر على ثنيها فيأخذون دروعهم وسيوفهم واتراسهم ، ويقتحم كل واحد عن بعيره ، ويترك البعير ، لا يسأل عنه ليعلموا بالفطرة بقاعدة تقديم الأهم على المهم فتوجهوا نحو الصوت والنداء حتى اجتمع عند النبي منهم مائة ، منهم جماعة من بني الحارث من الخزرج.
(وكانوا صُبرا عند الحرب)( ).
واجتلدوا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر وهو على بغلته الشهباء منشغلاً بالدعاء (وقال الآن حمى الوطيس أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب).
لبيان أنها بداية تبدل كفة القتال ، وبدأت بشارات الظفر بمعجزة من عند الله تعالى.
لقد كانت واقعة حنين من أشد الساعات التي اقترب القتل فيها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينهزم مع المنهزمين ، إنما ثبت في موضعه ، فكان هذا الثبات بداية النصر والظفر .
وهل يلزم القول الثبات في الميدان ، الجواب لا ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار ، والإمكان التحيز (إِلَى فِئَةٍ)( )، ولأن ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خصوصياته ، وهو معجزة ويوحي من عند الله عز وجل .
معجزة نداء النبي يوم حنين
لقد وقعت معركة حنين في يوم شديد الحر ، وكان الصحابة يسيرون مجهدين فغشيت جيوش هوازن وثقيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ هجموا بغتة عليه وعلى صحابته وهم سائرون في الوادي ، وكان رئيسهم مالك بن عوف قد أوصى جيشه بالهجوم هجمة رجل واحد ، وكانوا مطيعين له وجاءوا للمسلمين من عدة جهات كما يدل عليه حديث سلمة بن الأكوع قال (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه بسهم، وتوارى عنى فما دريت ما صنع .
ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأرجع منهزما وعلى بردتان متزر بإحداهما مرتد بالاخرى، قال: فاستطلق إزارى فجمعتهما جميعا، ومررت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا منهزم وهو على بغلته الشهباء، فقال: ” لقد رأى ابن الاكوع فزعا)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بهذا الفرار شدة هجوم المشركين ، وشدة بأسه بما أفزع الصحابة وحملهم على الإنهزام .
لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس بن عبد المطلب بالنداء على المهاجرين والأنصار كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ينادي (يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله)( ).
وفيه نكتة فنداء العباس للصحابة أما نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان للجيشين ، للصحابة بندبهم لنصرته ، وللمشركين بالكف عن قتاله وبعث الفزع والشقاق بينهم ، ودعوتهم لدخول الإسلام ، ليكون عموم هذا النداء وأوانه معجزة له ، فالمشركون يريدون قتله ، وهو يدعوهم إلى الهدى والنجاة في الدنيا والآخرة .
وحتى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ( أنا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب) فانه دعوة للإيمان وسط الميدان لبيان قانون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد باحلك وأشد الأحوال ، فيزداد المؤمنون إيماناً ويسعون في الدفاع عن النبوة والتنزيل ، ويرتبك المشركون ويدركون أنهم يقاتلون وهم ظالمون لأنفسهم وللنبوة وتكون هذه الوقائع وثائق تأريخية وشواهد للأجيال تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإعجاز القرآن وبيانه للأحداث ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
وقد تقدم أن لفظ (تألمون) لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية وعلى نحو متكرر .
فكان نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره لعمه العباس بمناداة الصحابة مع تذكيرهم ببيعة الحديبية تحت الشجرة ولزوم الوفاء بها في ذلك اليوم معجزة وتخفيفاً عن الصحابة ، وبعثاً للدفاع ومقدمة لنزول النصر من عند الله عز وجل ، وزاجراً للمشركين عن قتال المسلمين وعن الردة .
تعدد معجزة قبضة التراب
لقد تكررت معجزة قبضة التراب أو الحصى بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها :
الأولى : معجزة قبضة التراب ساعة الولادة : أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب حين ولادته بآية من عند الله ، وعن أمه آمنة بنت وهب (قالت : لما وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع جاثيا على ركبتيه معتمدا على الأرض بيديه، ثم أخذ قبضة من تراب ، وقبضها ورفع رأسه إلى السماء، وأضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى)( ).
ولم يعلم أحد أن هذه القبضة ستكون سلاحه علامة لنشر مبادئ الإسلام ، ودحر المعتدين من جيوش المشركين ، إذ يقهر الله عز وجل الطغاة باضعف المخلوقات ويرميهم بالبلاء .
ويمكن تسمية هذه القبضة (قبضة الولادة) .
لبيان أن الذي ينصره الله عز وجل بقبضة من تراب يجب التصديق برسالته ، ولا يستطيع المشركون قهره ، إنها حرز واحتياط وبشارة وآمن وسكينة للمؤمنين ، وإنذار للمشركين من ظلمهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعزم على قتله وحربه ، ولكنهم لم يتعظوا .
الثانية : معجزة التراب ليلة المبيت : لقد تجلت قبضة التراب مرة أخرى عندما اختار المشركون عشرة من شبابهم لضربه في فراشه بالسيوف ضربة رجل واحد ، كي يعجز ينو هاشم عن أخذ ثأره ويرضون بالدية.
وليلة المبيت وأوان مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة مهاجراً إلى المدينة إذ أجمع عدد من سادة قريش على قتله في فراشه وأحاطوا ببيته وكانت بيوت مكة صغيرة ، فخرج وهو يتلو [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ]( ).
وقام على رؤوسهم (فقبض قبضة من تراب وقال شاهت الوجوه وحصبهم فما أصاب رجلا منهم شئ من ذلك الحصى إلا قتل يوم بدر)( ).
ليخرج مهاجراً ويتوجه وصاحبه إلى غار ثور الذي يبعد عن المسجد الحرام 4 كم للإختباء عن العيون والطلب ، قال تعالى [ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اللهم أعم أبصارهم).
وفي قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) ورد عن ابن عباس (تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال بعضهم بل اقتلوه وقال بعضهم بل أخرجوه.
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك الليلة.
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم.
فقالوا أين صاحبك هذا فقال لا أدري فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال)( ).
و(عن عطاء بن ميسرة قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان طالوت يطلبه ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار)( ).
الثالثة : معجزة قبضة التراب يوم بدر : عندما اشتد القتال يوم بدر أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قَبْضَةً مِنْ الْبَطْحَاءِ وَرَمَاهُمْ بِهَا ، فَمَلَأَتْ عُيُونَ جَمِيعِ الْعَسْكَرِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى( ).
لبيان أن معجزة وصول ذرات هذه القبضة القليلة إلى عيون جيش المشركين ، وعددهم نحو تسعمائة وخمسين ألف تم بقدرة وسلطان الله عز وجل فنسب الله سبحانه الرمي لنفسه لأن النبي لم يرم التراب إلا بالوحي ، ولأن هذه القبضة لا تضر من دون المعجزة إلا أفراداً قلائل ، وفيه دعوة للمسلمين لعدم الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولبيان عدم الغلو بالأئمة والصحابة من باب الأولوية القطعية ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
معجزة تبديل النبي (ص) الأسماء
من أطراف الدلالة اللفظية الاسم ما يعرف به الشئ ، ويعرف الاسم بالجر والتنوين ودخول ال التعريف عليه أو حروف الجر والنداء .
والاسم لفظ موضوع للدلالة على معين وتمييزه عن غيره واشتقاقه على وجهين :
الأول : من السمة بمعنى العلامة .
الثاني : من السمو وهو العلو .
ومن الأسماء : محمد ، زيد ، شجرة ، أشجار ، سماء ، حصان.
وقد تتعدد الأسماء لمسمى واحد ، ويتخذ العرب هذا التعدد للتفخيم وبيان الشأن ، وصناعة الاسم ليس إجتهاداً إنما هو مقتبس من ذات المسمى بصفة أو علامة فيه يكون هناك نوع ترابط وصلة بين الاسم والمسمى ، والاسم أحد أفراد الوجود الأربعة للشئ وهي :
الأول : الوجود العيني .
الثاني : الوجود في الأذهان .
الثالث : الوجود على اللسان ويتقوم بالاسم .
الرابع : الوجود في الكتب وتطرح هنا مسائل :
الأولى : هل من فرق بين ذكر الاسم الخاص في القرآن وبين باقي الكتب.
الثانية : هل ذكر اسم زيد في القرآن اكرام خاص له أم هو إكرام عام للصحابة وأجيال المؤمنين ، قال تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ]( ).
الثالثة : هل ذكر اسم زيد توجه مناسبة الموضوع والحكم ، الجواب لا ، فلا تستعصي على الله مسألة.
ويمكن أن يذكر الله عز وجل المسألة بآلاف الصيغ لتؤدي ذات الغرض والإخبار عن الأذن في نكاح زوجة الدعي بعد قضائه مدة معها ، ولكن أراد الله إكرام زيد والصحابة بالتسمية في القرآن .
أما المسألة الأولى فهناك فرق كبير بين الشأن العظيم للاسم في القرآن وبين غيره من الكتب كالفرق بين السموات والأرض ، لما في الذكر في القرآن من البيان ، والمعاني القدسية والدلالة .
وأما المسألة الثانية فلا تعارض بين وجوه الإكرام الثلاثة أعلاه.
وقد يسبق الاسم المسمى وقد يقترن به ، وقد يتخلف عنه .
وهل يحضر الاسم مع الشخص في عالم الآخرة ، الجواب نعم .
معجزة التفاؤل بالأسماء وتبديلها
كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء الحسنة ، كما قام بتبديل بعض أسماء الصحابة من الذكور والإناث.
وسمى برة ، زينب ، وعبد عمرو سماه النبي بكر ، وجويرية بنت الحارث أم المؤمنين كان اسمها برة فسماها جويرية ، وعاصية سماها جميلة.
وسمى المدينة عندما وصلها (طيبة) بعد أن كان اسمها يثرب.
وجعيل سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمراً .
وسهل بن سعد الساعدي : كان اسمه حزناً سماه النبي سهلاً .
و(عن سهل بن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اسم رجل كان اسمه أسود فسماه أبيض)( ).
تفاؤلاً بالألوان ، ولا صلة له بلون البشرة ، وإلا فان بلال الحبشي من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا أسامة بن زيد كان أسود شبه أمه مع أن أباه زيد بن حارثة أبيض .
وكان المدينة تسمى قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها (يثرب) فسماها (طيْبَة) ليتجلى المصاديق الفعلية المباركة لهذا الاسم كل يوم ، وفي ذكرها ودخولها والإقامة فيها سكن ورضا.
قانون ابتداء المشركين القتال معجزة للنبي (ص)
من خصائص الأنبياء صبغة السلم في دعوتهم إلى الله عز وجل ، فهم لا يحتاجون السيف والقتال , لأن المعجزة وأثرها أعظم منهما , لذا لم يرد لفظ السيف في القرآن , ولكن المشركين يصابون بالفزع حينما يرون إقبال الناس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بالأوامر والنواهي التي جاء بها , وهذا الإقبال العام معجزة حسية للأنبياء , وسور الموجبة الكلية التي يلتقون عندها .
ويكون الفعل الصادر من المشركين من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً , وحتى عدد المشركين متزلزل في نقصان لميل طائفة منهم للإسلام , ولكن المتكبرين منهم يصرون على إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإضرار به , ومن الأنبياء من قتله قومه لدعوته إلى الله عز وجل , ومن غير أن يجهزوا الجيوش لقتاله ، وهو من الأمر الذي أرادته قريش بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت فانعم الله عز وجل عليه بالهجرة في ذات الليلة بعد أن تفضل بتيسير مقدمات الهجرة بالبيعة المتعددة .
قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ]( )، لبيان قانون حمل المشركين النبي محمداً على الهجرة وبال عليهم ، وبداية هلاكهم ، وزوال سلطانهم ، وهو الذي تم على مراتب وتنجز في فتح مكة .
ليكون البلاء الذي لحق كفار قريش بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معجزاته الغيرية ، بالإضافة إلى معجزة ذاتية وغيرية مغايرة بفوزه وأصحابه المهاجرين بالأمن والسعة وأداء الوظائف العبادية بيسر ، لعمومات قوله تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الأنصار بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعتين في العقبة بينهما سنة كاملة ، وفي قول أنهم بايعوه ثلاث بيعات .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn