المقدمـــة
الحمد لله الذي اجتبى الأنبياء لتبليغ أحكام الشريعة ، وجعلهم صفوة عباده ، وأمدهم بالوحي والتنزيل ، وتفضل الله عز وجل وجعل الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، وأنزل عليه القرآن الجامع لأحكام الشريعة والسنن ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) فأفاض نور الإستبصار على الأجيال المتوارثة المتعاقبة بلغة وصراطاً مستقيماً.
الحمد لله الذي وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات السعادة الأبدية بالخلود في النعيم ، وتفضل ووصف كلاً من الجنة والنار بأنها [الْمَأْوَى] مع التناقض بينهما كمرآة للتناقض بين أفعال المؤمنين ، وأفعال الكافرين ، قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
ومن الإعجاز العددي في القرآن ذكر المأوى صفة للجنة ثلاث مرات ، وصفة للنار مرة واحدة في القرآن ، للبشارة وبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين ، وهل يستقرأ من هذا التباين العددي أن أهل الجنة ثلاثة أضعاف أهل النار.
الجواب لا دليل عليه ولكنه ليس ببعيد لرجاء فضل وإحسان الله عز وجل ، ولبيان اللطف الإلهي في الكتاب الذي يخاطب العقول مع إختلاف مدارك الناس رحمة بهم جميعاً ، وجذباً لهم لمنازل الإيمان .
وأشهد أن لا إله إلا الله أمس واليوم وغداً شهادة أرجو حضورها يوم تعجز الألسن عن النطق وتتولى الأيدي الجوارح والأركان الشهادة وكشف صحيفة الأعمال ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( )، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ومع أن الدنيا دار مناجاة ودعاء وتسبيح الخلائق ، فانه لم يرد لفظ [تُكَلِّمُنَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وبخصوص شهادة أعضاء البدن على الناس .
وهل الختم على الأفواه حكم عام لأهل المحشر يوم القيامة أم أنه خاص بالكفار ، الجواب هو الثاني ، وهو الظاهر من سياق الآية أعلاه .
وفي الآية ورد عن أنس قال (كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون ممن ضحكت؟
قلنا : لا يا رسول الله قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول : يا رب ألم تجرني من الظلم .
فيقول : بلى .
فيقول : إني لا أجيز عليَّ إلا شاهداً مني فيقول : كفى بنفسك عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول بعداً لكن وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل)( ).
إذ أن صدور الشهادة من الأعضاء والأركان غير الناطقة أبلغ في الحجة والإلزام ، وفيه إزدراء وعذاب آخر للكافرين يوم القيامة.
ولأنهم أنكروا جحودهم ومعاصيهم ، وفي التنزيل [وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ]( ).
الحمد لله الكريم الوهاب الذي يرزق ويعطي أضعاف حاجة الإنسان ، ومن معاني [الْوَهَّابِ] وجوه :
الأول : كثير المواهب .
الثاني : قانون من الإرادة التكوينية وهو إنعدام الحاجز والبرزخ بين هبات الله والخلائق .
الثالث : يرزق ويهب الله عز وجل للبر والفاجر ، ولا يقدر على رزق عامة الناس ، ورزق عدوه والإفاضة عليه على نحو متكرر إلا الله عز وجل .
الرابع : يهب الله عز وجل للمنفرد والجماعة والطائفة والأمة مجتمعة ومتفرقة بتشعب توليدي .
الخامس : عجز الخلائق عن إحصاء هبات الله في كل ساعة من ساعات الليل والنهار( ).
السادس : تنزه المسلمين عن الإرهاب بعصمة وهبة من الله عز وجل.
السابع : وقاية الله للمسلمين والناس من الإرهاب بفضحه وقطعه.
الثامن : من الهبات في المقام بعث آيات القرآن على نفرة النفوس من الإرهاب إذ أن الهبات مادية وروحية.
الحمد لله الذي وقانا من الشرك ومفاهيم الضلالة ، وجعلنا نولد في زمان خال من الأوثان ببركة وجهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار لنتسلح بآيات القرآن للإحتراز من طرق الضلالة في الإعتقاد والقول والفعل والأمن من صيغ العنف والتعدي والظلم والإرهاب .
وهل الحمد والشكر لله عز وجل واقية متجددة من هذه الصيغ وقبحها ، الجواب نعم.
ومن خصائص القرآن نهيه عن تنامي الأحقاد والحسد ، ولزوم الإستعاذة منها ، وقد اختصت السورة قبل الأخيرة من نظم القرآن بهذه الإستعاذة قال تعالى [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ]( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، نزول القرآن بثقافة التسامح والتعايش ، وإكرام جنس الإنسان مطلقاً ، وتتضمن آياته منع الأسباب التي تهدد السلم المجتمعي وأمن عامة الناس.
وتبرز في هذه الأيام مصطلحات توافق زمن العولمة والتداخل الحضاري والتغطية الإعلامية المتحدة لجميع الدول والبلدان مثل (التعايش) (السلم المجتمعي) (العيش المشترك) (النسيج الإجتماعي) (حسن التكافل) (قبح الإرهاب).
فهل هي مستحدثة أم أن القرآن والسنة النبوية جاءا بها مجتمعة ومتفرقة ، الجواب هو الثاني وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الحمد لله عدد ما خلق ، ولا يعلم ما خلق إلا هو سبحانه ، وهذا الإقرار منا نعمة تستحق الحمد لله هي الأخرى ، الحمد لله عدد ما في السموات وما في الأرض أمس واليوم وغداً .
ومن بديع صنعه الزيادة في الخلائق كماً ، وكيفاً ، ونوعاً ، ورزقاً ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ) .
وهل خلق الإنسان من التوسعة التي تذكرها الآية أعلاه ، الجواب نعم ، ويدل عليه إخبار الله للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )
لبيان تعدد ضروب التوسعة في المسألة الواحدة وعلى نحو دفعي من جهات :
الأولى : خلق آدم وحواء .
الثانية : نفخ الروح في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الثالثة : خلافة الإنسان في الأرض .
الرابعة : عمارة الإنسان للأرض .
الخامسة : تكاثر الناس في الأرض .
السادسة : بعث الله عز وجل الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( ).
السابعة : زيادة عدد المؤمنين على نحو متصل إلى يوم القيامة .
الثامنة : قيام الأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة على أتم وجه بتوفيق من عند الله عز وجل .
التاسعة : التوسعة في الآخرة حتى على القول بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وهو مشهور المسلمين والمختار .
ومن التوسعة التي يتفضل بها الله عز وجل تفقه الناس في الدين ، وإدراك قبح الإرهاب ، وتبرأ الإسلام منه جملة وتفصيلاً .
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً متجدداً ، وهل تلاوة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) من صيغ الحمد التي يحبها الله عز وجل ، الجواب نعم ، لذا تفضل بأمور :
الأولى : مجيؤها آية كاملة مستقلة في سورة الفاتحة ، كما ورد في خمس آيات أخرى من القرآن .
الثانية : ترتيب هذه الآية الثانية في نظم القرآن بعد البسملة .
الثالثة : نزول هذه الآية في مكة لأنها جزء من سورة الفاتحة التي هي مكية ، لبيان أن الآية دعوة إلى الله ، ونطق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بها جهاد في سبيله تعالى .
الرابعة : وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة لآية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) سبع عشرة مرة في كل يوم ، لتكون بلحاظ كثرة المسلمين وتعاهدهم الصلاة على نحو الوجوب العيني من أكثر كلمات أهل الأرض نطقاً في اليوم والليلة حتى على القول باكتفاء المأموم بقراءة الآيات في الصلاة لموضوعية وإضافة صلاة النوافل اليومية وغيرها.
الخامسة : الأجر والثواب على تلاوة آية الحمد (عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة . لا أقول { بسم الله } ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول { الم } ولكن الألف ، واللام ، والميم)( ).
ومن خصائص هذه الآية أنها مدرسة في التوحيد ، وحرب على الشرك وعبادة الأوثان لما فيها من الإقرار بأن الله عز وجل وحجه هو رب العالمين والخلائق كلها ، وأنه الذي تجب عبادته .
ولفظ (تجب عبادته) أفضل من القول (يستحق العبادة) لبيان أن العبادة ليس فضلاً من الناس أو أنهم لم يتوصلوا إليها إلا بعد السبر والتقسيم ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مجيؤه بالوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة لقول الحمد لله .
فان قلت ليس من نبي إلا وقد جاء بالحمد لله ووجوبه ، وأول كلمة نطق بها آدم هي الحمد لله ، والجواب هذا صحيح ، وهو من لطف الله عز وجل بالناس ، ولكن شريعة الإسلام جعلتها من أكثر الكلمات نطقاً على وجه الأرض ، لتكون سبباً لإستدامة الحياة الدنيا لعمومات وشآبيب الرزق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ) لبيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصدح الآفاق والجبال بالحمد لله ترديداً لما يقول المسلمون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
ترى ما هي النسبة بين قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ] والإرهاب ، الجواب هو التضاد من جهات:
الأولى : النطق بالحمد لله واقية من القيام بفعل إرهابي .
الثانية : قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ] سور الموجبة الكلية الذي ينطقه كل المسلمين ليكون مادة للتعاون بينهم على البر والتقوى والصلاح ، ونبذ الإرهاب ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ) .
الثالثة : قول الحمد لله إنشغال بذكر الله ، وهو برزخ دون الإلتفاف إلى ما هو ضده من الإرهاب والظلم العام .
وهذا الجزء هو الثاني والخمسون بعد المائتين من كتابي المبارك الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وأقوم بالتأليف والتصحيح والمراجعة لأجزائه المتعاقبة بمفردي والحمد لله .
الحمد لله حمداً لا ينبغي إلا له هو ، ولا يقدر على الإجزاء والثواب عليه إلا هو سبحانه ، وهل يختص هذا الثواب بذات الحامد ، الجواب لا ، إنما يشمل آباءه ممن غادر الحياة ومن كان حياً ، ويشمل أبناءه .
وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات للإنقطاع إلى الحمد ، والنسبة بين الحمد لله وبين الإرهاب هي التضاد ، فلا يجتمعان في قلب أحد ، ولا في محل واحد ، لذا يجب تنمية ملكة الحمد عند المسلمين لأنها برزخ دون الإرهاب .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل نطق المسلم والمسلمة بالحمد له وحده سبع عشرة مرة على نحو الوجوب العيني ، ليحترس المسلمون من الإضرار بالآخرين .
ومن خصائص الحمد لله عدم إنحصاره بالنعم المنجزة بل يشمل النعم التي تأتي في الحال ، وفي قادم الأيام ، ولا يعلم بكثرتها كماً وكيفاً إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
حرر في الخامس عشر من شهر محرم الحرام 1445
2/8/2023
قانون العبادة واقية من الإرهاب
لقد أراد الله عز وجل أن تعبده الخلائق ، كل جنس منها بالكيفية والشأن الذي يناسبه ، ويتجلى في الإنس والجن بغلبة العقل على الهوى ، وبانقياد الجوارح إلى طاعة الله ، ومنه الإمتناع عن الإرهاب وعن الفساد والقتل .
إن قوله تعالى أعلاه ببيان علة خلق الناس هي العبادة شاهد على أن قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) ليس احتجاجاً على جعل الناس خلفاء في الأرض ، إنما أرادوا إخلاص الناس في عبادة الله وتحقيق الغاية التي خلقهم الله عز وجل من أجلها إذ أنهم يعلمون أن الله عز وجل خلق الناس لعبادته ، فأراد الملائكة إخلاص الناس جميعاً في العبادة ، فأجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) لبيان قانون الدنيا دار اختبار وامتحان ، وهي مزرعة للآخرة .
وذكر مسألة وهي أن الجمع بين قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ) وبين قول الملائكة أعلاه دليل على أنهم لم يحتجوا إنما سألوا الله عز وجل بما ينفع الناس ويحقق الغاية التامة من خلقهم ، وأن لا يكتب الملائكة عليهم إلا الذكر والصلاة والتسبيح ، لبيان أن أكثر الكلمات نطقاً من قبل أهل الأرض في هذا السِفر على وجوه :
الأول : بلحاظ قانون هذا الجزء فان أكثر الكلمات نطقاً هي ذكر الله والثناء عليه وهي زاجر عن الإرهاب ، وقد أفردت له فصلاً في هذا الجزء ، وإذا كانت النساء والمرضى وكبار السن معذورين وساقط عنهم القتال فان حرمة الإرهاب ومقدماته وتمويله تشملهم جميعاً ، وهو من إعجاز العام والخاص في القرآن ، ودليل على قبح الإرهاب وشدة ضرره على الإسلام ، ولزوم التعاون بين المسلمين والمسلمات لدحره وإستئصاله .
الثاني : لقد صدرت ستة وعشرون جزء بقانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) وأكثر كلمات المسلمين نطقاً:
الأولى : الله أكبر.
الثانية : بسم الله الرحمن الرحيم .
الثالثة : الحمد لله .
وفيها شاهد على الفتح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحجة والبرهان ، وليس بالغزو ، ويدل عليه تسمية صلح الحديبية فتحاً جلياً ظاهراً واضحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، ليكون من إعجاز الآية أعلاه وصدق نزولها من عند الله عز وجل أن أكثر كلمات أهل الأرض نطقاً تتعلق بذكر وعبادة الله عز وجل ، وتولي المسلمون وراثة هذا الذكر ، وفيه زاجر لهم عن الإرهاب .
(وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث في قوله [إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً]( ) قال : نزلت في الحديبية ، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة ، أصاب أن بويع بيعة الرضوان فتح الحديبية ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبايعوا بيعة الرضوان ، وأطعموا نخيل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، وفرح المؤمنون بتصديق كتاب الله وظهور أهل الكتاب على المجوس) ( ).
ولم يذكر السيوطي مصدر اسم الذي قال الحديث أعلاه ، وأطلق اسم (غزوة ) على الحديبية .
وهل هو صحابي أم تابعي .
نعم ورد (عن الشعبيّ، قال : نزلت (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) بالحديبية، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصبه في غزوة، أصاب أن بُويع بيعة الرضوان ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس ، وبلغ الهَدْيُ مَحِله، وأطعموا نخل خيبر، وفرح المؤمنون بتصديق النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم، وبظهور الروم على فارس)( ).
وفيه شاهد بأن إطلاق لفظ (الغزوة) على كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقصد به الإغارة والهجوم على القرى والمدن ، إنما هو الخروج من المدينة في كتائب وسرايا في دعوة إلى الله عز وجل وإقامة الصلاة .
الثالث : قد صدرت عشرة أجزاء بخصوص (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وتدل عليه كثرة ذكر الله عز وجل وأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتقوم بالسلام والأمن والموادعة ، وما صلح الحديبية وتسميته في القرآن [فَتْحًا مُبِينًا]( ). إلا شاهداً على صبغة السلم التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أحكام شريعته باقية إلى يوم القيامة ، فاذا طرأ عمل مخالف للشريعة كالإرهاب فسرعان ما يفتضح أمره.
تواضع النبي (ص) طارد للإرهاب
هذا الجزء هو الثاني والخمسون بعد المائتين من كتابي الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ويختص بقانون التضاد بين القرآن والإرهاب .
وقد صدرت ستة عشر جزء من هذا السِفر بخصوصه مع أنه عنوان بكر لم يرد في كتب المسلمين أو غيرهم ، ولحداثة إصطلاح الإرهاب في هذه الأيام ، لبيان صعوبة إعداد منهجية خاصة وصدور جزء أو أجزاء خاصة به.
ولكنه اللطف والمدد والتوفيق من عند الله عز وجل خاصة وأن الإرهاب ومحاولة بعضهم لصقه بالإسلام مسألة إبتلائية عامة في مشارق ومغارب الأرض .
ومن إعجاز القرآن نفيه الإرهاب عن نفسه ، فهو كتاب ناطق بالسلم ، ناشر للأمن ، باعث على السكينة ، يتلقاه ملايين المسلمين بالقبول والرضا ، والعمل بمضامينه بعيداً عن العنف والبطش .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً بالمقت العام للإرهاب وإخافة الناس .
وعن عبد الله بن مسعود قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلم رجلا فأرعد، فقال: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديدة)( ).
والقديدة مفردة القديد وهو اللحم المنشر المقدّد الذي يشرح طوالا، ويصف في الشمس حتى يجف للإحتفاظ باللحم لأيام صالحاً للأكل ، إذ لم يكن عند الناس ثلاجات ونحوها مما يحفظ اللحم طرياً ، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القديدة بصيغة المفرد لبيان رضاهم بالقليل من اللحم والإقتصاد فيه .
لم يخف الرجل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن كانت هيبته طاغية ، فلم يمض النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحال ، وخفف وعن الناس بتواضعه وزهده .
و(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ قَالَ أَهْدَيْتُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم شَاةً فَجَثَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ فَقَالَ أَعْرَابِىٌّ مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِى عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا عَنِيدًا)( ).
لبيان قانون خلو الحياة اليومية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مفاهيم الإرهاب ، وأظهر صفة العبودية تفاخراً بها واقراراً بالخضوع والخشوع لله لمنع الغلو في شخصه ، والنهي عن تأويل سنته بما يؤدي إلى العنف والإرهاب ، وفيه دعوة للمسلمين للتنزه والإبتعاد عن مفاهيم الإرهاب .
ومن خصائص القرآن أنه حرب لما ينافي مضامينه القدسية كالعنف والإقتتال والإرهاب ، فكل آية منه تدعو إلى السلم وتنشر الأمن في ربوع الأرض .
وجاء هذا الجزء لبيان فرائد ومصاديق من هذه القوانين التي تصاحب القرآن ، وتحول دون التأويل الخاطئ الذي يوقع بعض الشباب في الوهم ، خاصة وأن كل آية تطرد الغفلة عن الناس بتلاوتها وسماعها ، فلا سبيل إلى نسبة الإرهاب إلى الإسلام .
ولا أصل لهذه النسبة وهي شبهة بدوية سرعان ما تزول بذاتها ، وبذل العلماء والأدباء الوسع في بيان ذخائر القرآن ، والتباين والتضاد بين السنة النبوية والإرهاب ، والإستشهاد بالآيات والنصوص التي تحرمه بالنص والظاهر والمفهوم .
وفي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شواهد كثيرة على حرمة الإرهاب ، وعلى تحقيق الغايات الإيمانية الحميدة من غير اللجوء إلى العنف ومعصية الله الذي جعل حمده وشكره أكثر الكلمات التي ينطقها أهل الأرض ، وهو من الشواهد على تحقق مصاديق يومية لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )بمعنى أن الله عز وجل أعان الناس على عبادته وجعلهم يتخذون عبادته والخشوع له منهاجاً يومياً في حياتهم بالثناء عليه والشكر له ، وهذه النعمة تستحق منا الحمد له سبحانه لأنه الذي وفقنا لعبادته بالحمد لله وإقامة الصلاة وصيام شهر رمضان وأداء الحج والزكاة والخمس.
ويحتمل تأهيل وهداية الناس لعبادة الله من جهة أفراد الزمان وجوهاً :
الأول : قبل خلق الناس .
الثاني : أثناء خلق الناس .
الثالث : بعد خلق الناس .
الجواب لا تعارض بين هذه الوجوه تسبق علم الله عز وجل بالوقائع والأحداث.
قانون التنزيل رحمة عامة
من لطف الله عز وجل بالناس أنه لم يتركهم في تيه أو غفلة أو جهالة ، فمن مصاديق الخلافة في الأرض استدامة الصلة بين الله عز وجل والناس إلى يوم القيامة.
وتتجلى هذه الصلة بالنبوة والتنزيل ، والملاك فيها وجوب عبادة الله والعمل باوامره ، وإجتناب نواهيه .
لبيان قانون التنزيل رحمة ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : التنزيل رحمة .
الصغرى : الإرهاب ضد للرحمة .
النتيجة : الإرهاب ضد التنزيل .
وقال تعالى [وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ]( )، ومضامين هذه الآية باقية أيام النبوة وما بعدها ، وليس فيها عنف وإرهاب للذين يكذبون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو الإحتجاج والبرهان .
وإنقطاع المؤمنين إلى الذكر والدعاء ، وانتظار ما يلحق المكذبين للتنزيل والآيات الكونية ، ومعجزات النبوة من البلاء لقوله تعالى في خاتمة الآية التالية [فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ]( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لو أن رجلاً قُتل بالمشرق وآخَرُ رضِي بالمغرب لأَشرَك في دمه)( ).
لبيان التغليظ في عقوبة القاتل والذي يرضى بهذا القتل ، وفيه دليل على حرمة الرضا بالعمل الإرهابي وتوفير ملاذ آمن له والتسبيب في إزهاق الأرواح ، وتلف الأموال العامة والخاصة .
وقال أبو حامد الغزالي بخصوص هذا الحديث (لم أجد له أصلا بهذا اللفظ ولابن عدي من حديث أبى هريرة : من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فأحبها فكأنما حضرها)( ).
قانون التلاوة حصن من الفعل الإرهابي
لقد أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بتلاوة القرآن ، والتي تتصف بأمور :
أولاً : التلاوة واجب عيني على كل مسلم ومسلمة .
ثانياً : إنها واجب يومي ، فليس من يوم إلا ويتلو المسلم القرآن.
ثالثاً : قانون تكرار التلاوة سبع عشرة مرة على نحو الوجوب بعدد ركعات الصلاة .
رابعاً : كثرة الآيات التي يقرأها المسلم والمسلمة في كل فريضة بالجمع بين سورة الفاتحة وسورة أخرى ، أو الجمع بين الفاتحة وآيات من سورة أخرى .
خامساً : قانون تلاوة المسلمين لآيات القرآن بشوق ورغبة متجددة كل ساعة وكل يوم ، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، قال تعالى [كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
ومع كثرة ترديد المسلمين (الله اكبر) فانه لم يرد في القرآن ، إنما ورد ذات الاسم ولكنه بمعنى خاص ثلاث مرات في القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( ).
لقد صدر جزءان من هذا السِفر وهما (246-248) بخصوص (علم إحصاء القرآني غير متناه) وبمناسبة هذا الباب تدخل فيه مسائل :
الأولى : وبخصوص الإعجاز العددي فان اكثر الكلمات التي وردت في القرآن هو اسم الجلالة وورد بصيغ إعرابية متعددة :
الأول : اسم (الله) ورد في القرآن (2395) مرة .
الثاني : (لله) ورد في القرآن (143) مرة .
الثالث : (بالله) ورد في القرآن (139) مرة .
الرابع : (تالله) وردت في القرآن (9) مرات .
الخامس : (فالله) وردت في القرآن (6) مرات .
السادس : (فلله) وردت في القرآن (6) مرات .
السابع : (ابالله) وردت في القرآن مرة واحدة .
ويكون المجموع هو (2699) مرة وهو عدد أولي لا يقبل القسمة إلا على نفسه وعلى واحد ، وهو من الشواهد على التوحيد وأن هذه الأعلاه ولم تكن صدفة وإتفاقاً.
وتظهر السياحة في أفراد ذكر اسم الجلالة في القرآن سنخية الصبر والعفو والصفح والتسامح في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودلالتها على الزجر عن الإرهاب ، والظلم والتعدي .
وقد ورد اسم الجلالة في آية واحدة سبع مرات وهي [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وهذه السورة مكية ، ومن أوائل سور القرآن نزولاً من القرآن لبيان حرب القرآن والنظام العددي فيه ضد الشرك.
وفي تبرئة إخوة يوسف عليه السلام أنفسهم من السرقة ورد حكاية عنهم في التنزيل [قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ]( ).
وفيه إعجاز فمع أنهم في بلاد كفر فقد أقسموا بالله .
ثم كلمة (يوم) ومشتقاتها إذ وردت في القرآن نحو (415) مرة.
ثم فعل الأمر (قل) إذ ورد في القرآن (332) مرة منها (328) مرة أمراً وخطاباً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمد ، لتكون دعوة إلى السلم والأمن.
ويمكن تتبع آيات (قل) وإحصاء التي تتعلق بموضوع الزجر عن الإرهاب مثل [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( )، فليس في الآية إلا طلب الود في مرضاة الله ، والدعوة للتآخي والوفاق والوئام.
أما المشركون الذين القرآن من عند الله ، ويكذبون النبوة فقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج عليهم وليس قتالهم أو إرهابهم أو محاربتهم أو الغدر بهم ، إذ قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
نعم بعد فتح مكة بأكثر من سنتين ودخول الناس أفواجاً في الإسلام ، ولم يبق إلا نفر قليل في الجزيرة على الكفر والشرك بالله ، نزلت الآية التي تسمى آية السيف بقوله تعالى [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )وكأنها إيذان بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ولزوم سيادة الإسلام قبل هذه المغادرة .
قراءة في عنوان هذا الجزء
الحمد لله الذي جعل القلوب تستميل وبالفطرة لإشراق وبهاء آيات القرآن فتحس معها بالبهجة والسكينة ، لتكون واقية من الكدورات و العنف والبطش والإرهاب .
ت الجزء عدد القوانين
1 الجزء الرابع والثمانون بعد المائة 122 ( )
2 الجزء الخامس والثمانون بعد المائة 123 ( )
3 الجزء الثامن والثمانون بعد المائة 95 ( )
4 الجزء الخامس والتسعون بعد المائة 104 ( )
5 الجزء الثامن والتسعون بعد المائة 42 ( )
6 الجزء التاسع والتسعون بعد المائة 132 ( )
7 الجزء الثالث بعد المائتين 53 ( )
8 الجزء العاشر بعد المائتين 217 ( )
9 الجزء الحادي عشر بعد المائتين 49 ( )
10 الجزء التاسع عشر بعد المائتين 85 ( )
11 الجزء الخامس والثلاثون بعد المائتين 173 ( )
12 الجزء السادس والثلاثون بعد المائتين 141 ( )
13 الجزء الثامن والثلاثون بعد المائتين 107 ( )
14 الجزء الثالث والأربعون بعد المائتين 193 ( )
15 الجزء الرابع والأربعون بعد المائتين 288 ( )
16 الجزء السادس والأربعون بعد المائتين 182 ( )
17 الجزء الثاني والخمسون بعد المائتين 244
المجموع 2350
وهذا هو الجزء الثاني والخمسون بعد المائتين من معالم الإيمان في تفسير القرآن ، ويختص بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) ومن فضل الله ومدده غير المتناهي ورحمته الواسعة قيامي وبمفردي بكتابة وتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء هذا السِفر المبارك وكذا كتبي الفقهية والأصولية.
ولو كانت عندي مؤسسة تتولى استخراج المصادر والمراجعة والتصحيح اللغوي والتنضيدي ونحوه لتضاعفت أجزاء هذا التفسير ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا]( ).
ولكن من منافع هذا الإنفراد تجلي النوع والكيف خاصة علوم التفسير المستحدثة ، وأكثر من عشرين ألف من القوانين المستنبطة من آيات القرآن ، وكل قانون أو اثنين أو أكثر تصلح أن تكون رسالة ماجستير أو دكتوراه [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
وقد صدرت سبعة عشر جزءّ من هذا السِفر بخصوص ذات عنوان التضاد هذا لبيان سعة كنوز القرآن ، وإمكان نهل العلماء والباحثين وأولي النهى من آياته سواء على نحو الإستقلال في الآية محل البحث ، أم على نحو الجمع والتداخل الموضوعي أو الحكمي بين آيات القرآن .
وقد صدرت أجزاء متعددة بخصوص قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وهو قانون ثابت ومتجدد وظاهر إلى يوم القيامة ويتجلى بمضامين آيات القرآن ودعوتها للصبر والسلم والأمن العام ، وزجرها عن الإضرار بالناس وسفك الدماء ، ونزول القرآن بآيات الأحكام الجنائية ، ومنها قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وتضمن كل جزء عدداً من القوانين الخاصة بالمقام والتي تصلح أن تكون مادة ومنهاجاً للدراسة والتحقيق .
قانون زجر الحكمة عن الإرهاب
لقد جاء القرآن بما يدل على أمور :
الأول : قانون حضور الحكمة بين ظهرانينا ، بفضل من الله عز وجل ، ودعاء الأنبياء السابقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
الثاني : قانون قرب الحكمة من النفوس والجوارح ، و(عن قتادة ، في قوله [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، قال : الحكمة : السنة)( ).
الثالث : ظهور الحكمة للملأ بآيات التنزيل وسنن المرسلين والآداب العامة للمؤمنين فضلاً من الله تعالى .
الرابع : قانون المنافع العامة والخاصة للحكمة .
الخامس : قانون جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إيصال الحكمة إلى الناس ، وإصلاحهم باتخاذها منهاجاً ، ويتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية الواجبة ، وهل منه الصراط في الآخرة وعبوره بسلام ، والنجاة من النار ، أم أن القدر المتيقن الإيمان والعمل الصالح في الدنيا ، المختار هو الثاني .
ليتجلى قانون الصراط المستقيم في الدنيا طريق للعبور بسلام على الصراط في الآخرة ، والعمل الإرهابي خلاف الإستقامة والرشاد.
وفي حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله وما الجسر.
قال : دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان.
فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخذوش مرسل ومكدوس في نار جهنم.
حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون.
فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه.
ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به.
فيقول عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا.
ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا.
ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا.
ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا ، وكان أبو سعيد يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا( ).
والنسبة بين الصراط المستقيم وبين الحكمة على وجوه :
الأول : قانون الصراط المستقيم من الحكمة.
الثاني : قانون الحكمة مقدمة للصراط المستقيم.
الثالث : قانون ترشح الحكمة عن الصراط المستقيم .
ويجمع هذه الوجوه قوله تعالى الدعاء [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، لذا أمر الله عز وجل كل مسلم ومسلمة بتلاوته في كل ركعة من الصلاة.
فالتدقيق لسؤال الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم حكمة.
والنسبة بين كل وجه من هذه الوجوه والإرهاب هي التضاد لبيان قانون محاصرة الآية القرآنية للإرهاب ، ومنع وجوده في الأذهان إلا على نحو النفرة والإحتراز منه.
ومن معاني الصراط في الآية (أنه كتاب الله تعالى ، وهو قول علي عليه السلام وعبد الله ، ويُرْوَى نحوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ( )( ).
ليستطيع كل انسان الأخذ منها ، وجعلها مصدراً لإختياره ، ونبراساً لعمله ، ومنطلقاً لقوله ، ومرتكزاً لفعله ، وسوراً لغاياته ومقاصده ، وحرزاً دون الخطأ ، ومانعاً من الخلل وما يؤدي الى الخسارة والزلل، ومناسبة للشكر والثناء على الله سبحانه، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ]( ).
ومن الشكر لله عز وجل التحلي بالتقوى وتأديب الأبناء بالتنزه عن الظلم والإرهاب ، وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
ولم يرد لفظ (لابنه) في القرآن إلا في هذه الآية ، لبيان انحصار تعليم وتأديب الأبناء بالتوحيد وعلومه ، وبيان قبح الشرك ومفاهيم الضلالة.
قانون المنافاة بين الحكمة والإرهاب
من معاني الحكمة :
الأول : الحكمة في الإصطلاح الفقهي معرفة الأحكام الخمسة من الوجوب والندب والاباحة والكراهة والحرمة.
الثاني : قانون نيل المعارف النظرية , واحراز الفضائل الخلقية.
الثالث : إعمال الفكر والتلطف لنيل الرغائب.
الرابع : صدور الشيء على الوجه الأكمل والأصح والأتم.
الخامس : قانون العلم المقترن بالعمل.
السادس : الإحاطة علماَ بالأشياء ، كما هي من جهة التصور والتصديق وحسب الإمكان .
و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه)( ).
فليس من منافع ببقاء العلم في الصدور إذا لم يترجل في الخارج بالصلاح والدعوة إليه ، وطرد الإرهاب ، لذا ورد التعدد في وظائف المسلمين العبادية والثواب العظيم عليها ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السابع : إتيان الفعل على ما ينبغي.
الثامن : الحكمة صناعة نظرية لمعرفة الواجب , واجتناب الحرام , واكتساب النظريات واقتناء الملكات.
التاسع : بلوغ المرتبة السامية في عالم الممكنات، وخروج النفس من القوة الى عالم الفعل بحسب الممكن علماَ وعملاَ.
العاشر : الحكمة ملكة تحول دون الإفراط والتفريط في القول والفعل، وسجية ثابتة تؤدي الى نظرية الوسط الاخلاقي والحكمة الخلقية، وتمنع من عدم التعقل ، وتخلص الانسان من التدني في منازل الغباوة.
الحادي عشر : إتباع نهج القرآن الإمام في الحكمة ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الثاني عشر : العلم الذي يحترز به الإنسان من فعل القبيح، ومعرفة الواجبات والنواهي كما في قوله تعالى [ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
الثالث عشر : قانون طاعة الله عز وجل وحسن الامتثال لأوامره.
الرابع عشر : في قوله تعالى [ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ]( ) ذكر ان الحكمة النبوة , والموعظة الحسنة هي القرآن.
الخامس عشر : مواعظ القرآن ، وأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس عشر : الفهم والقدرة على الإستدلال.
السابع عشر : المعرفة الإلهية وفعل الصواب، واجتناب الزيغ والخلل.
الثامن عشر : الوعد بالخير والنعيم، والوعيد بالنار.
التاسع عشر : الترغيب بالصالحات، والإنذار والتخويف من السيئات.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من الفيض الإلهي ، ومن اللطف الإلهي والمدد في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
إن ذكر القرآن لحرص لقمان الحكيم على تعليم ووعظ ابنه دعوة للمسلمين لتعليم أبنائهم سنن التقوى ، والإمتناع عن الإرهاب.
آيات الحكمة واقية من الإرهاب
لقد ورد لفظ [وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ثلاث مرات في القرآن كلها بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، مرتين هبة وفضلاً ابتداءً من عند الله ، والثالثة بدعاء إبراهيم عليه السلام .
وكل آية منها دعوة للمسلمين للقيام بالأمر بالصلاح والسلم والموادعة والرفق والنهي عن الظلم والإرهاب ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
الثانية : قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
كما وردت الآية بصيغة الخطاب [كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( ).
والنسبة بين الحكمة والإرهاب هو التضاد ، وكذا ذات النسبة بين الكتاب والإرهاب .
لبيان إجتماع العقل والحكمة وإمامة التنزيل والنبوة لتوقي المسلمين من إتيان الفعل الإرهابي ، وبما يجعل الناس جميعاً يشهدون لهم بالتنزه عنه ، إذ تتجلى مصاديق الحكمة في الواقع اليومي للمسلمين .
وذكرت هذه الآية التزكية بقوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ] ليكون من معانيه تنزه المسلمين عن الشرك وعن الظلم والإرهاب ، فلفظ (يزكيهم) لا يختص بالشرك ، إنما هو حسب الحال والشأن وضروب البلاء التي تواجه المسلمين في الأزمنة المتعاقبة ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمصاحبة سلاح التزكية للمسلمين في كل حال وزمان ، وخروجهم سالمين من الفتن وشرورها .
لذا ترى سرعة انكشاف بطلان لصق صبغة الإرهاب بالإسلام ، ومن إعجاز هذه الآيات إجتماع ذات الآيات والخصال الحميدة في كل منها ، وكل خصلة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، وهي سد ومانع من الإرهاب.
معجزة إني عبد الله ورسوله
من خصائص الأنبياء إعلانهم المتكرر بأنهم عبيد لله عز وجل ، وتتفرع النبوة بهذا الإعلان عن العبودية الخالصة لله عز وجل ، ولتأديب المؤمنين والناس جميعاً بوجوب الإقرار بالعبودية لله عز وجل ، فهي سور الموجبة الكلية الذي يشمل الناس جميعاً ، ويكون الأنبياء أئمة فيها فيجب طاعتهم ولا يصح الغلو باشخاصهم ، ومن طاعتهم نبذ الإرهاب والتبرأ منه ، فانه من أفعال الجاهلية .
ونزل القرآن بتأكيد عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل من جهات منها :
الأولى : قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
وعن ابن عباس في الآية (قال أبو جهل بن هشام : حيث رمى رسول الله بالسلا على ظهره وهو ساجد لله عز وجل)( ).
مما يدل على أن سبب نزول الآية صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفرة ومحاربة المشركين للصلاة التي هي عمود الدين.
وفي صبر النبي على أذى المشركين في الصلاة دعوة لأجيال المسلمين بتعاهدها في كل حال ، لذا ذكرت في علم الأصول أن الصلاة واجب مطلق ، في مقابل الواجب المقيد كالصيام المقيد بالحضر والسلامة من المرض ، وحج البيت الحرام المشروط بالإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
بينما وردت آيات الصلاة بما يفيد الإطلاق بأدائها في مختلف الحال ، ومنه قوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( )، أي واجباً على كل مؤمن ومؤمنة .
والنسبة بين أداء الصلاة والإرهاب هو التضاد ، لبيان قانون أمر الله المسلمين بالصلاة للعصمة من الإرهاب والظلم.
وعن قتادة في الآية (قال : نزلت في عدوّ الله أبي جهل ، وذلك أنه قال : لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه ، فأنزل الله [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى]( )، قال : محمداً [أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( )، يعني بذلك أبا جهل [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ]( )، قال : قومه وحيه [سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ]( )، قال : الزبانية في كلام العرب الشرط)( ).
وهل تختص الآية بسبب النزول ، الجواب لا ، فالآية عامة وموضوعها متجدد لذا جاءت بصيغة المضارع (ينهى) وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات للصبر على الصلاة ومبادئ الإيمان وفي خطاب وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى]( ).
وفيه شاهد على أن الأوامر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من لفظ (قل) أو (افعل) والنسبة بينها وبين (قل) عموم وخصوص مطلق وكما نحصي كلمة (قل) لابد من إحصاء كل من :
الأول : إحصاء الأوامر الإلهية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها (قل).
الثاني : إحصاء الأوامر الإلهية إلى المسلمين .
الثالث : إحصاء الأوامر الإلهية إلى أهل الكتاب.
الرابع : إحصاء الأوامر الإلهية إلى النساء .
الخامس : إحصاء الأوامر الإلهية إلى الكفار والمنافقين .
السادس : إحصاء الأوامر الإلهية إلى الناس جميعاً .
ومثلها ستة وجوه تتعلق بالنواهي من الله ، وقد يجتمع الأمر والنهي العام في آية واحدة كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
لبيان رأفة الله عز وجل بالناس جميعاً ، وبسط الرزق الكريم لهم فلا يجوز اتخاذ الإرهاب وسيلة للإضرار بهم .
الثانية : ورد وصف النبي بالعبودية لله في آية الإسراء ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
وحالما عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإسراء أخبر قريشاً وعتاة المشركين عما رآه في بيت المقدس مع الشواهد والبينات التي تدل على صدقه كما ذكر عيرهم التي في الطريق وأوان إطلالتها عليهم ، فكان كما قال .
الثالثة : قال تعالى [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ]( ).
وفيه ترغيب للناس باخلاص العبودية لله عز وجل ، فصحيح أن النبوة انقطعت ، ولكن الآية تدل على أن النعم التي تأتي بصدق العبودية لله باقامة الفرائض والإمتناع عن المعاصي لا يحصيها إلا الله عز وجل ، وتدل الآية على لزوم إجتناب العنف والبطش والإرهاب في مواجهة حتى الكفار ، إنما هو الإحتجاج والبرهان.
هل الردة إرهاب
يمكن تقسيم ردة عدد من القبائل إلى قسمين :
الأول : الردة التي حدثت في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي ردة مسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة ، والأسود بن كعب العنسي بصنعاء واسمه عبهلة ، اطلق عليه اسم الأسود لسواد وجهه.
ومن إعجاز النبوة رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصهما وتأويل رؤيا وبشارة القضاء عليها ، إذ ورد (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ النّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ أُنْسِيتهَا ، وَرَأَيْت فِي ذِرَاعَيّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَرِهْتهمَا ، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا.
فَأَوّلْتهمَا هَذَيْنِ الْكَذّابَيْنِ صَاحِبِ الْيَمَنِ ، وَصَاحِبِ الْيَمَامَةِ)( ).
وفي رواية عبد الله بن عمر (لن يضرا أمتي شيئاً)( )، وقد قُتل الأسود بن كعب قبل وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاءت البشارة برؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان موضوعيتها في تأريخ النبوة ، ولإمضاء الرؤى التي وردت في القرآن منها رؤيا يوسف عليه السلام [إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( ).
ليبعث النبي محمد السكينة في قلوب أصحابه بأن مسيلمة وأن اشتد عضده وكثر رجاله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه إلى زوال وهلاك .
وهل كان إرتداد بعض القبائل هذا من الإرهاب ، الجواب نعم ، فهو فتنة وجهالة وطلب للقتال ، وسفك الدماء ، وخروج عن أحكام النبوة بعد تجلي المعجزات.
وقد ذكرتُ هذه الرؤيا في كتابي الموسوم (فلسفة الرؤيا في الإسلام) قبل أكثر من ثلاثين سنة ان (اقتران تأويل النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعلانها سلاحا وحرزا ذا حدين وكانت سداً لمنع الانخداع بهما وبشارة للمسلمين في حتمية القضاء عليهما ودحرهما.
وربما كانت لتلك الرؤيا أهمية خاصة حين ازداد نشاط مسيلمة الكذاب وهو أحدهما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
الثاني : بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارتدت كثير من قبائل العرب أما أن ترتد القبيلة كلها أو شطر منها ، وصارت أخبار الردة تتوالى على مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فارتدت غطفان ، وتميم وخواص بني سليم ، وبعض قبائل عبد القيس .
وأمسكت هوازن عن دفع الزكاة وظهر أمر مسيلمة وتضاعف عدد أتباعه حمية ، واجتمع على طليحة عوام أسد وطيء ، وظهر النفاق .
(وقال محمد بن إسحاق ارتدت العرب عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة)( ).
وفيه شاهد على أن فتح مكة قبل وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقهر هوازن وثقيف ، وخزيهم في تعديهم حاجة للإسلام والناس جميعاً ، فأوان فتح مكة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية بعد وفاته قضاء الصحابة على الردة بالصبر والموعظة والدفاع والقتال .
وهل كانت ردة القبائل أشد ما واجه الإسلام بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
لقد كانت الردة إرهاباً ، وتم القضاء عليها بآيات القرآن ومعجزات النبوة وحسن التوكل على الله .
ولم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا بعد أن انتشر أداء الصلاة في أرجاء الجزيرة ، وهو عون وعضد في تهاوي الردة وأسبابها.
لبيان موضوعية قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، فكمال أحكام الشريعة سبب في النفير العام ، وواقية من استمرار الردة التي لو استمرت لعادت عبادة الأوثان ، ووأد البنات والأخلاق المذمومة.
تكرار كلمة ثماني مرات في آية واحدة
تتكرر بعض الكلمات في الآية الواحدة ، ولابد له من دلالات.
وقد ورد لفظ [بُيُوتِ] عشر مرات في آية واحدة هي قوله تعالى [لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، وهي الكلمة الأكثر عدداً في آية واحدة من القرآن .
مع أن مجموع كلمة (بيوت) في القرآن هي (38) مرة لبيان الرخصة والمندوحة في الشريعة الإسلامية ، ولزوم التعاون في إطعام الطعام ، وتوفيره لذوي القربى ، وهل صلة القربى والألفة والكرم بينهم مانع من الإرهاب ، الجواب نعم ، لما فيه من التنشئة الحسنة .
ويمكن أن يطلق اسم آية البيوت على هذه الآية لتأكيد إعجازها في كثرة لفظ البيوت وبصيغة الجمع ولزوم تعاهد صلة الرحم .
ومنهم من أطلق اسم (آية البيوت) على قوله تعالى [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ]( ).
وفيه شاهد على المندوحة وكثرة الرخصة ، ولزوم إجتناب الحرام والإرهاب والتعدي وأكبر رقم ورد في القرآن هو مائة ألف ، قال تعالى [وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( ).
الدعوة إلى الخير نهي عن أصل الإرهاب
الله عز وجل هو الذي يقطع دابر الفتن ويمنع من الإقتتال وإن اجتمعت مقدماته ، ولا يعلم ما صرف من القتال أيام نبوة محمد وما قبلها وما بعدها إلا الله عز وجل .
إذ أن آيات القرآن تدعو إلى السلم والود والتراحم والرأفة بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( )،
وكل جملة وصفة من الصفات أعلاه واقية من القتال ، وباعث للنفرة في النفوس من سفك الدماء إذ توجه الأمر الإلهي للمسلمين والمسلمات جميعاً بصيرورة أمة منهم تدعو إلى الخير ، وهو من الواجب الكفائي المتعدد ، وهذا الإصطلاح الأصولي مستحدث في هذا الجزء ، والنسبة بين الخير والإرهاب هي التضاد لبيان وجوه :
الأول : قانون كل دعوة إلى الخير تنزه عن الإرهاب .
الثاني : قانون كل دعوة إلى الإرهاب ضد للخير ولوظائف الخلافة في الأرض .
الثالث : قانون العمل الإرهابي مناف للخير ، وحاجب له .
ولم يرد لفظ [لتكن] في القرآن إلا في آية البحث أعلاه لبيان إكرام الله للمسلمين بوجود أمة منهم في كل زمان تدعو إلى الخير ، وجاء زمن العولمة هذا ليكون ملائماً لإعجاز الآية بايصال هذه صوتها ودعوتها إلى الخير لكل الناس.
والخير سور الموجبة الكلية الشامل لمصاديق الفعل الحسن ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون الخير مانع من الإرهاب .
الثانية : قانون الإرهاب ضد للخير ، فلا يجوز أن يعمل بعض المسلمين بخلاف ما يدعو له القرآن من الخير والصلاح .
الثالثة : قانون حب الله لفاعل الخير ، وبغضه للظالم والإرهابي.
الرابعة : لابد من سيادة الخير زماناً ومكاناً.
الخامسة : الإرهاب برزخ دون النفع العام من الخير وبخصوص يوم القيامة ، قال تعالى [أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ]( ).
و(عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :أحبّكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً الموطؤن أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون ، وأبغضكم إلى الله المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأخوان الملتمسون للبراء العنت)( ).
والخير أمر حسن مطلقاً من غير تقييد بمفاهيم وشروط في ذاته وجهة صدوره وغايته ، لبيان وحدة المسلمين في الإصطلاح وإعانة الناس جميعاً ، والإقبال على أعمال البر والإنفاق ، وقضاء حاجة المحتاج ، والإمهال في الدًين ، والحث على فعل الخير ، والدعوة إلى الخير غير فعله مما يدل على قبول صدور الخير من غير المسلم أيضاً ، نعم ذات الدعوة خير محض.
والنسبة بين الدعوة إلى الخير والإرهاب هي التضاد ، كما أن الأمر بالدعوة إلى الخير باعث للنفرة من الإرهاب ، وشاهد على تحريم الدعوة إلى الإرهاب والإعانة عليه .
وتبين الآية جواز الدعوة إلى الخير النوعية والفردية ، وجاءت الآية بصيغة الجمع لتفيد وجوهاً .
الأول : دعوة الجماعة والأمة إلى فعل من أفعال الخير .
الثاني : تكرار الدعوة إلى فعل الخير .
الثالث : الدعوة الشخصية والفردية إلى الخير .
الرابع : الدعوة إلى الخير بالقلم والكتابة والتدوين ، وهو من مصاديق أول آية من القرآن نزولاً [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
الخامس : الدعوة إلى الخير بالقول واللسان .
السادس : الدعوة إلى الخير بالفعل والعمل الصالح .
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض رغبته المطلقة بالخير ، لقانون الملازمة بين الفطرة والخير ، ولقانون ترتب الثواب على قول وفعل الخير ، بينما لا يترتب على الدعوة إلى الإرهاب إلى الشر والإثم في الدنيا وفي الآخرة .
ويدل قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] على النهي عن الإرهاب وعن الدعوة إليه والترغيب فيه .
أقسام الدعوة إلى الخير
القسم الأول : الدعوة إلى الخير من جهات :
الأولى : ابتداء الآية بفضل الله عز وجل بتوجيه الأمر إلى المسلمين بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ]( ) وهذا الخطاب تشريف وإكرام ، وهل يشمل المسلمات أم أنه خاص بالرجال من المسلمين لصيغة المذكر فيه ، الجواب هو الأول ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ولتكن منكم رجالاً ونساءً أمة يدعون إلى الخير .
الثاني : ولتكن منكم أيها الرجال أمة يدعون إلى الخير .
الثالث : ولتكن منكن أمة تدعو إلى الخير .
الثانية : بيان قانون كل دعوة إلى الخير حرب على الإرهاب .
الثالثة : قانون التضاد بين الخير والإرهاب .
الرابعة : قانون الدعوة الخاصة أو العامة إلى الخير برزخ دون الإرهاب.
الخامسة : حب الله عز وجل للذين يدعون إلى الخير ليترشح عن هذا الحب المدد والتوفيق والرشاد .
السادسة : قانون الدعوة إلى الخير إصلاح للذات ، فمن يدعو إلى فعل الخير والصالحات يجتهد لإتيانها ، وإجتناب ضدها من الفعل القبيح .
السابعة : من إعجاز الآية ذكر لفظ [أُمَّةٌ] لبيان وجوه :
الأول : قانون التفقه في الدين واقية من التعدي على الغير وإخافة الناس.
الثاني : التعاون لإجتماع أفراد وطائفة على الدعوة إلى الخير .
الثالث : الترغيب بالإجتماع على الهداية والرشاد .
الرابع : قانون التضاد بين الدعوة إلى الخير والإرهاب .
الخامس : الدعوة إلى الخير مانع من الدعوة إلى الإرهاب لعدم إجتماع الضدين.
الثامنة : من إعجاز الآية مجيؤها بالإجمال في الدعوة إلى الخير لوجوه :
الأول : الحسن الذاتي للخير .
الثاني : قانون دعوة القرآن إلى فعل الخير والإحسان للغير .
الثالث : قانون الترغيب بفعل الخير .
الرابع : إزالة الموانع التي تحول دون فعل الخير ، ومنها الكدورة والبغضاء والشح وآفة الحسد.
الخامس : أداء الفرائض العبادية وهو مانع من الإرهاب لما يبعث في النفس من الخشية من الله ، ولعدم إجتماع الضدين ، فلا تجتمع طاعة الله مع الإضرار بالغير .
السادس : كل دعوة إلى نبذ الإرهاب هي دعوة إلى الخير .
التاسعة : بيان قانون الدنيا دار الخير .
العاشرة : قانون تقوم الحياة الدنيا بالدعوة إلى الخير .
والخير عنوان شامل لما فيه الصلاح والنفع في النشأتين ، وسنامه أداء الفرائض العبادية ، والتفقه الإجمالي في الدين ، والتمسك بمبادئ التوحيد ، وبر الوالدين ، وصلة الرحم ، والإجتهاد بالدعاء والإستغفار .
وعن حذيفة بن اليمان قال (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير وكنت اسأله عن الشر مخافة ان يدركني فقلت يا رسول الله انا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر.
قال نعم ، قلت( ) فهل بعد ذلك الشر من خير قال نعم وفيه دخن .
قلت وما دخنه قال قوم يهدون بغير هديى تعرف منهم وتنكر…) الحديث ( ).
القسم الثاني : الأمر بالمعروف بقوله تعالى [وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ]( )، وتقديره الآية على وجوه :
الأول : ولتكن منكم أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أي ذات الأمة والطائفة تقوم بالأمور الثلاثة مجتمعة ومتفرقة .
الثاني : ولتكن منكم أمة تدعو إلى الخير ، وأمة أخرى تأمر بالمعروف .
الثالث : ولتكن منكم أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
والأصل هو الأول لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولا مانع من التفريق بينها للتخفيف والإختصاص ، ومناسبة الحال والمقال ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( ).
مصاديق المعروف
يحتمل المراد من المعروف وجوهاً :
الأول : ما يعرف الناس حسنه الذاتي .
الثاني : ما تميل إليه النفوس .
الثالث : إرادة المجاز فيما يكون محل رضا .
الرابع : المراد المعروف من الوظائف العبادية والأحكام التكليفية ، لبيان قانون إبلاغ الله عز وجل الناس الأحكام بالنبوة والتنزيل، والوسائط في خلق وسنخية الناس وبالآيات الكونية ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الخامس : المراد العرف العقائدي الإيماني ، وليس العرف العام ، فحتى إذا انحرف هذا العرف فان هناك أمة تتعاهد معالم الإيمان وسنن الشريعة .
والنسبة بينه وبين المعروف في قوله تعالى [فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ]( ) عموم وخصوص مطلق ، فالمراد بالمعروف أعلاه ما تعارف من الإحسان والرفق عند الطلاق والفراق لما جعل الله بين الزوجين من المودة ولطول حسن العشرة أيام الزوجية .
السادس : البر والعمل الصالح.
أما المعروف في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ]( ) فالمعروف هنا أعم ، ومنه سبل الصلاح وسنن التقوى والتنزه عن الظلم والإرهاب.
ومن مصاديق المعروف ما يكون مستحدثاً بحسب الحال والمحل ، فاذا اظهرت فتنة كالإرهاب سعى المسلمون إلى وأدها بفعل الخير والإحسان.
القسم الثالث : النهي عن المنكر ، من خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب بقائها خالدة إلى يوم ينفخ في الصور وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عامة المسلمين والمسلمات ، وهو من أسباب استدامة الإيمان في الأرض ، ونزول الرزق والبركة على الناس جميعاً ، فكما خاطب الله عز وجل المسلمين بقوله [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( )، فكذا بالنسبة لعامة الناس وتقديره : فلتكن منكم أمة وهم المسلمون يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
ومن شرائط ومستلزمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التفقه في الدين ، ومعرفة مصاديق المعروف ، ومصاديق المنكر ولو في الجملة.
و(عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مُروا بالمعروف، وانْهَوْا عن المنكر، قبل أن تَدْعوا فلا يستجاب لكم)( ).
ترى ما هي النسبة بين الأمة التي ذكرتها آية البحث ، والطائفة في قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الجواب إنه العموم والخصوص المطلق ، فالآمة في آية البحث أعم وأكثر في الأفراد والعمل من الطائفة التي تذكرها الآية أعلاه ، وهو من الإعجاز في ألفاظ القرآن والمراد منها لفظ الأمة أكثر وأعم من الطائفة ، كما أن الآية أعلاه ذكرت علة نفر الطائفة ، من جهتين:
الأولى : التفقه في الدين وتعلم أحكام الشريعة ، ولم يرد لفظ (ليتفقهوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ليتجلى قانون النسبة بين الفقاهة والإرهاب هو التضاد لذا فان السعي في تفقه الشباب في علوم القرآن والسنة واقية من العنف والتعدي والأخلاق المذمومة.
الثانية : إنذار المسلمين وغيرهم ممن هم في دويرتهم ، ويصل إليهم البلاغ .
ومن الإعجاز في المقام ذكر القوم ، فلم تقل الآية ، لينذروا إخوانهم أو أهليهم ، إنما ذكرت لفظ (قومهم) لبيان عموم إنذارات القرآن ، ولزوم وصولها للناس جميعاً.
ولم يرد لفظ (لينذروا) في القرآن إلا في آية البحث ، فان قلت قد ورد في قوله تعالى [هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ]( ).
الجواب هناك فرق بين الفعلين بلحاظ التباين بين البناء للمعلوم في آية البحث ، والبناء للمجهول في الآية أعلاه ولكن النسبة بينهما ليست التنافي إنما هي العموم والخصوص المطلق ، فالآية أعلاه أعم .
وكل من الآيتين تتضمن الإنذار من الإرهاب وأن عاقبته إلى خسران في الدنيا والآخرة .
ولو تزاحم النهي عن المحرم ، والنهي عن المكروه فيقدم النهي عن المحرم لقاعدة تقدم الأهم على المهم .
قانون وجوب الإيمان
تدل ذات آية [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ]( )، على الصبغة الإيمانية للفظ المعروف لقوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] نعم تذكر الآية أداء الوظائف العبادية ، وعمل الجوارح والأركان في مرضاة لقوله تعالى [يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ] فلابد أن الأمر بالمعروف قد ترشح عن إقامة الصلاة والفرائض الأخرى ، وهو من المعروف الذي يأمرون به ، أي أن المسلمين على أقسام :
الأول : الذين يؤدون الوظائف العبادية ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ]( ).
الثاني : الذين يؤدون وظائفهم العبادية باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها ، ويدعون إلى الخير ، ومن الخير الصلاح ونشر الرأفة والرفق ، ومفاهيم اللطف والإحسان بين الناس ، وكل فرد منها منع من الإرهاب ، وصرف له عن الوجود الذهني وفي المجتمعات .
الثالث : الذين يؤدون الواجبات العبادية ، ويدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف .
الرابع : الذين يؤدون الواجبات العبادية ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
الخامس : الذين يؤدون الواجبات العبادية ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر .
كل فريق من هؤلاء مفلحون وفائزون لأن خاتمة آية البحث [وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] سور الموجبة الكلية الشامل للجميع ، وفيه دليل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن لقمان أوصى ابنه [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
أما المسلمون فقد توجه لهم الخطاب والأمر المتعدد من عند الله عز وجل نزل به جبرئيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قام بتلاوته وعمل به في الحال ، فهو الإمام في الإمتثال على نحو الموجبة الكلية والعموم الإستغراقي للأوامر والنواهي الإلهية .
وهل يمكن القول بقانون أن كل أمر بالمعروف نهي عن الإرهاب ، الجواب نعم للتضاد بين المعروف بمفهومه اللغوي والإصطلاحي وبين الإرهاب.
بحث أصولي
بلحاظ ذكر اسم الآية في علم الأصول يمكن تقسيم الواجب الكفائي إلى أقسام :
الأول : الواجب الكفائي الشخصي ككفاية رد السلام من قبل فرد واحد من الجماعة وكتغسيل الميت ، فان قيامه به يسقطه عن الآخرين .
الثاني : الواجب الكفائي المتعدد والذي يلزم جماعة وطائفة من المسلمين أداءه وإتيانه ، ومنه آية البحث التي تتضمن ثلاثة واجبات من هذا القسم هي :
أولاً : الدعوة الجماعية إلى الخير .
ثانياً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل طائفة وأمة .
ثالثاً : النهي عن المنكر من قبل طائفة وأمة .
ومن إعجاز القرآن ودلائل عصمة مبادئ الإسلام من الإرهاب مسائل :
الأولى : مجئ هذه الأفراد بصيغة الواجب .
الثانية : كل فرد منها إصلاح ونهي عن الإرهاب .
الثالثة : إنها مجتمعة مدرسة في تأديب المسلمين وهدايتهم للخلق الحميد.
الثالث : الواجب الكفائي الشخصي والمتعدد .
ومنه في الدعوة بالمعروف والنهي عن المنكر ، ما ورد في التنزيل عن لقمان في تأديبه لابنه [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
لبيان أن التوصية بالمعروف والزجر عن المنكر أمر متوارث بين الأنبياء وإتباعهم والصالحين ، فلم يكن لقمان نبياً ، ولكنه بدر صالح آتاه الله الحكمة .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم . والنجاشي . وبلال المؤذن)( ).
وعن عكرمة في حديث أن لقمان كان مملوكاً وهو من أوهن مملوكي سيده عنده ولكنه رأى منه الحكمة ، وسكر مولاه فخاطر قوماً أي راهنهم على رهن بأن يشرب ماء بحيرة (فلما أفاق عرف ما وقع منه ، فدعا لقمان فقال : لمثل هذا كنت أخبؤك فقال : اجمعهم ، فلما اجتمعوا قال : على أي شيء خاطرتموه؟ قالوا : على أن يشرب ماء هذه البحيرة قال : فإن لها مواد فاحبسوا موادها عنها قالوا : كيف نستطيع أن نحبس موادها؟ قال : وكيف يستطيع أن يشربها ولها مواد)( ).
فكما تدعو الآية أعلاه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل أمة من المسلمين ، فان آية البحث تدعو شخصاً واحداً للقيام بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتدل الوقائع اليومية على الحاجة إلى الواجب الكفائي الشخصي في البيت والسوق والمسجد والمنتديات .
ومنه بيان القبح الذاتي للإرهاب ، وأضراره العامة ومخالفته لأحكام الشريعة.
الواجب العيني
يقابل الواجب الكفائي الواجب العيني .
وقد يكون ذات الواجب كفائياً بالنسبة لجماعة ، وعينياً بالنسبة لفرد أو أفراد مخصوصين في ذات الموضوع أو الموضوع المتحد ، فمثلاً قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) دليل على إستحباب الإستهلال وترائي الهلال في ليلة الشك التي يحتمل أن تكون ليلة الثلاثين من شهر شعبان أو الأول من شهر رمضان .
وكذا بالنسبة للشهور الأخرى من السنة ، وقد يكون الإستهلال واجباً عينياً على حاد البصر ، وله معرفة بمنازل القمر ، ويتصف بالعدالة .
كما يقسم الواجب إلى واجب تعييني وواجب تخييري .
ويكون من معاني الآية أعلاه الدعوة إلى الواجب الكفائي الشخصي والمتعدد ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ) أن ضبط الأهلة والإعانة على تعيين أوان الصيام والحج وغيره من الخير العام ، لذا قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ).
وليكون من معاني ذكر الأهلة في الآية البعث على الإستهلال والدعوة إلى ترائي الهلال ، والقول المشهور أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي.
ولكن آية البحث أعم من هذا القول ، لقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ]( ).
سواء كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمر المتحد بأن تنهى شخص عن الإرهاب أو لإصلاح جماعة وفرقة أو لمنعها عن الظلم والتعدي والإرهاب ، لبيان قانون حاجة علماء الأصول إلى الرجوع إلى القرآن ، واستقراء القواعد والقوانين والتقسيمات الإستقرائية منه .
وقد ورد تفسير الآية أعلاه وهي الرابعة بعد المائة من سورة آل عمران في الجزء الثاني والسبعين من هذا السِفر ، ويأتي هذا البحث بمضامين مستحدثة أخرى للآية الكريمة ، وإن قيل يمكن إطلاق لفظ (أمة) على الشخص الواحد كما في قوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ]( ).
فالجواب أنه قياس مع الفارق ، فقد وردت الآية أعلاه بخصوص معجزة لرسول من الرسل الخمسة أولي العزم ، ونزلت بصيغة المفرد [قَانِتًا] [حَنِيفًا][ وَلَمْ يَكُ] أما آية البحث فقد وردت بصيغة الجمع فيه [يَدْعُونَ] [يَأْمُرُونَ] [يَنْهَوْنَ] [الْمُفْلِحُونَ] ، والأصل هو حملها على الجمع والمتعدد إلا مع القرينة الصارفة.
ووردت عشرات الآيات التي تتضمن لفظ [أُمَّةً] ويراد منه الجماعة والطائفة ، منه قوله تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً]( ).
والآية بشارة محاصرة الإرهاب والإجهاز عليه من قبل المسلمين والمسلمات من جهات متعددة لبيان أنه ظاهرة محدودة سرعان ما تمحى وتزول إذ تتوجه للقضاء عليها أمم من المسلمين بالدعوة إلى الخير الذي هو ضد الإرهاب ، وبالمعروف في حسن الصلات والمعاملة مع الناس.
النسبة بين الإرهاب والحرام
لقد جعل الله عز وجل كل حكم من الأحكام التكليفية الخمسة ضابطة شرعية وعقلية تحكم سنن الحياة الدنيا ، وهي حاضرة في الوجود الذهني والتبادر ، إذ يتبادر إلى الأذهان الحسن الذاتي للواجب ، والقبح الذاتي للحرام ، وهو من الإعجاز في التقاء الناس وأجيالهم المتعاقبة بثوابت شرعية بالفطرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )
ولتكون مقدمة لتصديق ما يأتي به الأنبياء من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ]( ) وصحيح أن آيات أخرى أخبرت عن كون ما بين يديه من الكتاب ،إلا أن لفظ [الْكِتَابِ] أعم من التوراة والإنجيل ، وشامل لهما ، والمراد التنزيل ، وما أخذه الله عز وجل من العهود من الإنسان كخليفة في الأرض.
ومن الإعجاز في الأحكام التكليفية عجز الإنسان عن تحويل الواجب إلى حرام ، وبالعكس ، لأن الفطرة الإنسانية وعامة الناس لا يرضون به ، وإن اجتهد بعض ذوي الشأن فيه فسرعان ما تنقضي أيامه ويتبدد ما سعى إليه ، وإن لم يفصح عنه في حياته نعم ، وللضرورة أحكام ، وفيها إباحة أفراد من الحرام بقدرها وموضوعية العنوان الثانوي في تحويل الحرام إلى مباح ، والمباح إلى مستحب إلا أنه فرد نادر في حياة ذات الإنسان .
ويزول بزوال أسبابه ، وقد أباحه الله عز وجل بقوله تعالى [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ]( ) وهذه الضرورة فرد نادر ويغادر شطر من الناس الدنيا ولم تحدث ضرورة شخصية متعددة حرصاً على الروح ، وحفظاً للمهجة .
والنسبة بين الضرورة والإرهاب هو التضاد والتنافي ، فليس من ضرورة تقود إلى الإرهاب والظلم ، وهذا من بديع صنع الله ، والآيات في الأنفس ومصاديق نفخ الروح من الله عز وجل في آدم.
البسملة سلاح ضد الإرهاب
البسملة اصطلاح ومصدر منحوت من قول [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] الذي أفتتح به القرآن ، وإجماع علماء المسلمين على أنها أول آية من سورة الفاتحة ، وأختلف في جزئيتها من سور القرآن الأخرى والتي عددها (114) سورة باستثناء سورة براءة (التوبة ) التي لم تبدأ بالبسملة ، والتي نزلت في السنة التاسعة للهجرة النبوية.
لبيان أن البسملة تنزل في بدايات السور ، فمنذ أول البعثة ثم الهجرة إلى المدينة إلى السنة الأخيرة من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي الثالثة والعشرون للنبوة فنزلت فيها سور متعددة مثل سورة المائدة وسورة النصر ، وأنفردت سورة براءة بخلوها من البسملة في أولها ، وهل فيه أمارة على أن البسملة جزء من سور القرآن الأخرى ، الجواب نعم .
وسميت سورة التوبة لذكرها لقصة ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن كتيبة تبوك ، ثم توبتهم إلى الله ، وقبول الله توبتهم ، قال تعالى [وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
ولم يرد لفظ [الثَّلَاثَةِ] و[خُلِّفُوا] إلا في الآية أعلاه ، لبيان قانون قلة الصحابة الذين يتخلفون عن الكتائب والسرايا ، وقانون سرعة توبة الله عز وجل على الصحابة والمؤمنين مطلقاً .
وكان من عادة العرب إذا أرادوا نقض عهد وميثاق أن يكتبوا كتاباً وإشعاراً بالأمر ، ولا يبدأون الكتاب بذكر اسم الله عز وجل ، فنزلت السورة وفق عادة العرب ، والسبب الأصل أنها آية إنذار وتخويف ووعيد ، وتشديد في الدعوة إلى الله ، وتبدأ قراءة سورة التوبة بالإستعاذة بالله من الشيطان ، قال تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
لبيان أن البسملة في أول آيات القرآن نشر لألوية السلام في الأرض ، وإن استثناء سورة التوبة وتسمى أيضاً البراءة لإستئصال الإرهاب والذي هو نهج المشركين ، وإصرارهم على غزو المدينة ومحاربة رسول الله وأصحابه.
أما إذا كانت القراءة من وسط وآخر سورة التوبة فيؤتى بالبسملة عند القراءة لأن الوعيد خاص بالآيات الأولى من السورة .
وقد وردت البسملة في القرآن (114) بعدد سور القرآن فمع عدم ورودها في أول سورة التوبة فقد وردت جزء آية من سورة النمل بقوله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) وهي مفتاح كل كتاب سماوي ، وأقرب إلى الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها ، وليس من حصر لمواطن استحباب النطق بالبسملة منها عند الصباح والمساء وعند الوضوء والإبتداء والشروع بالفعل لما فيها من البركة ، وعند الخروج من البيت ودخوله فهي واقية من العين .
وابتدأت البسملة بحرف الباء الذي يفيد الإستعانة واقرار الإنسان بضعفه وحاجته إلى المدد والفضل من عند الله ، لبيان أن مورد الإستعانة هو فعل الخير ، وأن البسملة سبيل هدى وصلاح ، والحض على النطق بما يدل في مفهومها على الصرف والإبعاد عن الإرهاب ، وخاصة أنها تتضمن ثلاثة من أسماء الله عز وجل ، كل اسم منها زاجر عن الإرهاب ، وشاهد على حرمته ، ومانع منه سواء كان الإرهاب موجه في ضرره إلى المسلم أو الكتابي أو غيرهما.
إذ جاء اسم الجلالة (الله) لبيان عبودية الناس جميعاً لله عز وجل ، وأنهم خلقه ، وهو سبحانه أعلم بهم وبما ينفعهم ، إنما جعل لهم الدنيا دار إمتحان وإختبار ، وبعد اسم الجلالة جاء اسمان من الأسماء الحسنى هما [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وفيه وعد وعهد من الله عز وجل لتغشي رحمته الخلائق كلها ، والإنسان أولى بها ، وقد جعله الله [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) مما يدل على لزوم سلامة الناس من الإرهاب فعلاً وتلقياً فمن رحمة الله أمور :
الأول : قانون إمتناع الإنسان عن الإرهاب .
الثاني : قانون سلامة الإنسان من نزول الإرهاب والبطش به .
الثالث : قانون بغض الله للإرهابي ، لأن فعله مناف لمصاديق الرحمة الإلهية بالناس جميعاً.
وتتجلى في البسملة أمور :
الأول : قانون قبض البسملة الأيادي عن الإرهاب ، فالذي ينطق بالبسملة يمتنع عن الإبتداء بفعل فيه ضرر عام أو خاص .
الثاني : قانون البسملة حرز من الإرهاب .
الثالث : قانون البسملة فقاهة في الدين ، ومن رشحات الفقاهة نفرة الناس من الإرهاب ، ليكون من معاني قوله تعالى [لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( ) ليتحرزوا من الإرهاب .
الرابع : قانون البسملة براءة من الإرهاب ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكرار هذه البراءة من قبل كل مسلم ومسلمة سبع عشرة في اليوم عند قراءة الفاتحة ، وضعفها عند قراءة السورة التي بعدها على القول بأن البسملة جزء من كل سورة من القرآن عدا سورة براءة ، وهو المختار.
الخامس : قانون البسملة باعث للسكينة في النفوس ، وهذه السكينة حرز من النفس الغضبية وطرد الكدورات .
السادس : قانون البسملة رفق وود مع الناس جميعاً .
السابع : يستحب ابتداء الخطبة والقول والفعل ببسم الله الرحمن الرحيم ، لبيان قانون بداية الفعل مانع من الإرهاب .
الآية القرآنية معجزة توليدية
من خصائص الآية القرآنية تجدد علومها وظهور الشذرات من كنوزها في كل زمان.
وذكرت حرف الجر (من) أعلاه لبيان عدم نفاذ كنوز وذخائر القرآن إلى يوم القيامة ، ومن معاني قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ) إطلاع الناس على قسمين :
القسم الأول : العلوم التي تم استنباطها واستظهارها وهي على شعب :
الأولى : العلوم التي استظهرها وبينّها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة القولية والفعلية .
الثانية : كنوز القرآن التي أظهرها أئمة أهل البيت والصحابة .
الثالثة : العلوم والتفسير الذي بينّه علماء الإسلام من التابعين وإلى يومنا هذا .
الرابعة : ما يستظهره العلماء من ذخائر القرآن اليوم وغداً وإلى يوم القيامة .
ومنه أجزاء (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ومنها هذا الجزء وهو الثاني والخمسون بعد المائتين وأسأل الله عز وجل إعانتي على إصدار أجزاء كثيرة منها .
القسم الثاني : علوم وخزائن القرآن التي لم تفتح إلى يوم القيامة ، فلا يتوصل لها العلماء.
وأيهما أكثر ، الجواب أفراد القسم الأول الأربعة أعلاه أم القسم الثاني ، الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق إنفراد الله عز وجل بالإحاطة بعلم كل شئ ، فان قلت ما هو الدليل القرآني على أن علوم وخزائن القرآن التي لم تنكشف هي الأكثر ، الجواب هو الجمع بين الآيات وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) وقوله تعالى [قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ).
مع الفارق الرتبي والنسبي بين كل شئ الذي أحاط به الله علماً مما في السموات والأرض ، والتبيان الإجمالي في القرآن .
وقد يزين بعضهم الباطل بوسائل متعددة ، ويتخذ من سكوت أهل الحق ذريعة وزيادة في التجرأ ، ولم يعلم أن الآية القرآنية تتصدى له كل يوم بتلاوة المسلمين والمسلمات لها على نحو الوجوب العيني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ]( ) .
والنسبة بين الباطل والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، لذا فان الآية القرآنية وتلاوتها نهي وزجر عن الإرهاب ومفاهيمه .
معجزة توارث مفتاح الكعبة
مفتاح باب الكعبة عنوان سدانتها وتولي شؤونها وتنظيمها وغسلها وكسوتها ، ويفتح لعمار البيت فيدخلون في أوقات مخصصة من السنة إلى الكعبة والصلاة فيها ، وكانت تخصص أيام للنساء خاصة لدخول الكعبة .
وتوارث المفتاح قبائل متعددة منها قبيلة جرهم إذ بقي المفتاح عندهم عدة قرون ، إلى أن أخذته منهم خزاعة ، واستمر عندهم إلى أن صار عند قصي بن كلاب الجد الرابع للنبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، ثم صار المفتاح بيد ابنه الأكبر عبد الدار الذي ورثه لأولاده .
واستمر توارث المفتاح في أحفادهم ، وهم في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنو أبي طلحة .
وأبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجابة في ولد عثمان بن أبي طلحة وهم بنو شيبة من بني عبد الدار (وأما اللواء فلم يزل في ولده إلى أن جاء الإسلام، فقال بنو عبد الدار: يا رسول الله اجعل اللواء فينا. فقال: الإسلام أوسع من ذلك فبطل)( ).
لبيان أن المهاجرين والأنصار حملوا ألوية الإسلام في كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسرايا التي بعثها ، وهي سرايا سلم وأمن ، ولتأكيد بأن موضوع اللواء اختلف في الإسلام فلم يكن للحروب والإقتتال إنما للدفاع والدعوة إلى الله ، وفيه دلالة على حرمة إتخاذ الألوية للعمل الإرهابي.
وقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى من بني شيبة منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يدخل الكعبة مع عامة الناس قبل الهجرة إلى المدينة ، فدفعه وصدّه عثمان بن طلحة الذي يروي بعد أن دخل الإسلام (قَالَ كُنّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النّاسِ فَأَغْلَظْتُ لَهُ وَنِلْتُ مِنْهُ فَحَلُمَ عَنّي.
ثُمّ قَالَ : يَا عُثْمَانُ لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت.
فَقُلْتُ لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلّتْ ، فَقَالَ : بَلْ عَمَرَتْ وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ)( ).
وهذا القول معجزة للنبي من جهات :
الأولى : إنه من المغيبات .
الثانية : بشارة فتح مكة .
الثالثة : إجهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحقه في أخذ مفتاح الكعبة ، ودفعه لمن يشاء ، وفيه تهديد لبني عبد الدار وشأنهم ،ودعوة لهم للإسلام.
وهل هو من أسباب استبسالهم في قتالهم النبي محمداً وحملهم لواء المشركين في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، الجواب لا ، وعثمان بن طلحة هذا أسلم بعد صلح الحديبية ، وهاجر هو وخالد بن الوليد معاً .
(قال محمد بن عمر: وكان قدوم عثمان المدينة فيِ صفر سنة ثمان، ولم يزل مقيماً بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى مكةَ، فنزلها حتى مات بها)( ).
وهو ابن حامل لواء المشركين الذي قتل يوم أحد ، قتله الإمام علي عليه السلام ، وقتل معه يومئذ ابنائه كل من :
الأول : الحارث بن طلحة .
الثاني : كلاب بن طلحة .
الثالث : مسافع بن طلحة .
معجزة في المغيبات
(وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطّبَقَاتِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ كُنّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ (إلى أن قال : ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم) الْكَعْبَةَ فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَى مَا قَالَ.
فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ يَا عُثْمَانُ ائْتِنِي بِالْمِفْتَاحِ فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَأَخَذَهُ مِنّي ثُمّ دَفَعَهُ إلَيّ وَقَالَ خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلّا ظَالِمٌ يَا عُثْمَانُ إنّ اللّهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ فَكُلُوا مِمّا يَصِلُ إلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ.
قَالَ فَلَمّا وَلّيْت نَادَانِي فَرَجَعْتُ إلَيْهِ فَقَالَ : أَلَمْ يَكُنْ الّذِي قُلْتُ لَكَ.
قَالَ : فَذَكَرْت قَوْلَهُ لِي بِمَكّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت.
فَقُلْتُ بَلَى أَشْهَدُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ.
وفيه مسائل :
الأولى : بيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : استحضار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأقواله وان صدرت منه قبل عشرين سنة .
الثالثة : تذكير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس بمعجزاته ، وجعلهم شهوداً على هذه النعمة .
الرابعة : توثيق المسلمين لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية بما يزيد في ايمانهم وصلاحهم ، ومن منافع هذا التوثيق تنزه المسلمين عن الإرهاب لأنه خلاف الصلاح.
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ الْعَبّاسَ تَطَاوَلَ يَوْمَئِذٍ لِأَخْذِ الْمِفْتَاحِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَرَدّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ )( ).
(وعثمان هذا لا وَلَدَ له، وله صحبة ورواية)( ).
وفي قول أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة إنما اسلم يوم الفتح كما هو ظاهر في (تفسير قوله تعالى [إنً اللهَ يَأمُرُكُم أن تُؤَدُوا الأماناتِ إلى أهلِهَا]( ) نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي، أمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بمفتاح الكعبة، فأبى عليه وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح، وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه. فلوى علي يده، وأخذ منه المفتاح، وفتح الباب)( ).
(فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج، سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله الآية. وأمر صلى الله عليه وسلم علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي فقال : أكرهت وآذيت، ثم جئت ترفق.
فقال علي عليه السلام : لقد أنزل الله في شأنك… وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن محمداً رسول الله.
فجاء جبريل فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان، فكان المفتاح معه، فلما مات دفعه إلى شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة)( ).
سُلافة أم عثمان بن طلحة
وفي يوم فتح مكة أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن طلحة أن يأتي بالمفتاح فجاءه به ، وقيل أن أمه سُلافة وهي من الأوس من أهل المدينة امتنعت في البداية.
ويدل زواج بعض رجال قريش من نساء المدينة من الأوس على صلات المصاهرة والقرب بين قريش وأهل المدينة .
وقد حضرت سُلافة بنت سعد بن شهيد هذه معركة أحد مع المشركين ورأت مقتل كل من :
الأول : زوجها طلحة بن أبي طلحة .
الثاني : ابنها مسافع بن طلحة .
الثالث : ابنها الحارث بن طلحة .
الرابع : ابنها كلاب بن طلحة .
الخامس : ابنها جلاس بن طلحة .
وهم حملة لواء المشركين يوم معركة أحد ، وقتل أكثرهم الإمام علي عليه السلام يومئذ بعد اصرارهم على المبارزة.
وحينما حمل ولدها (مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وقال: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! فقتله، فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد وهي مع النساء، فقالت: من أصابك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح! قالت سلافة: أقلحي والله! أي من رهطي.
ويقال قال: خذها وأنا ابن كسرة كانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب.
فقال لأمه حين سألته من قتلك؟ قال: لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن كسرة.
قالت سلافة: إحدى والله كسرى.
تقل : إنه رجلٌ منا. فيومئذٍ نذرت أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر، وجعلت تقول: لمن جاء به مائة من الإبل)( ).
إذ تبادر إلى ذهنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما بعث رسولاً ليأخذ المفتاح لا يعيده لهم ، إذ كان عثمان جعل المفتاح عند أمه عندئذ سأل عثمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسله إلى أمه ليخلص المفتاح منها ، وكان عثمان من الصحابة الذين دخلوا مكة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاتحين ، فقال لها (يا أمه ادفعي إلي المفتاح، فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل الي، وأمرني أن آتيه به، فقالت أمه : لا.
واللات والعزى لا أدفعه اليك أبدا)( ).
فقال عثمان كلمة خالدة (لا لات ولا عزى) أي بدأت إشراقة شمس التوحيد ولعلها لم تعلم بعد بالتهاوي وسقوط الأصنام ، وأن الصور والأصنام التي في الكعبة تنتظر دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمحوها وتكسيرها .
وكانت أمه سُلافة تحذره من ذهاب مآثر قومه على يديه، وأن التأريخ سيوثق أخذ مفتاح الكعبة منه ، فأجابها بأنه لابد من أخذ المفتاح ، وإن لم أخذه أنا يأتي غيري ليأخذه .
فلابد من نفاذ وإمضاء قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فادخلت المفتاح في (حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده ها هنا؟ فبينا هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار ، وعمر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان، اخرج إلي.
فقالت أمه: يا بني، خذ المفتاح فأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيمٌ وعدي. فأخذه عثمان فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فناوله إياه)( ).
معجزة دخول النبي (ص) الكعبة
لقد كان النبي يوم فتح مكة قائماً قرب باب الكعبة ينتظر المفتاح لفتحه ، وقد انحدر منه العرق مثل الجمان( ) ولما وصل عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثر فسقط منه المفتاح ، فحنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوبه.
وكان بنو أبي طلحة يقولون لا يفتح الكعبة إلا نحن ، ففتحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ودخل الكعبة ، ورفعت صور إبراهيم ، إذ صوروه وهو يستقسم بالأزلام ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قاتلهم الله، جعلوه شيخا يستقسم بالازلام)( ).
ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صورة مريم في الكعبة فأمر بمحو الصور التي فيها ، وتجرد المسلمون من من بعض ثيابهم ، وأخذوا دلاء الماء من بئر زمزم وصاروا يغسلون الكعبة ظاهرها وباطنها ، ولم يبقوا فيها أثراً من آثار الشرك إلا محوه ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أزاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مظاهر الشرك عن البيت الحرام ، وفيه دعوة لتنزيه القلوب من الضغائن والأحقاد ، وليس في نصب الأصنام إلا الجهالة والضلالة ، والتعدي ، والظلم ، فجاء القرآن بمبادئ التوحيد والأخلاق الحميدة مع كل الناس ، وفيه نشر لألوية السلام ، أما الإرهاب فانه سبب للضرر بكل الناس ، وباعث على الكراهية ، فهو عنف مناف لقواعد وسنن شريعة ومنهاج وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ليلة الهجرة خائفاً بعد أن عزمت قريش على قتله في فراشه ، وهذا العزم من أقبح ضروب الإرهاب ، لبيان درس للمسلمين بأن يجعلوا نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت من سيوف كفار قريش مادة وسبباً للتنزه عن الإرهاب الذي هو لباس المشركين .
ولم يقابل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كفار قريش بالمثل ، إنما أعرض عنهم وهاجر إلى المدينة بصبر وجهاد وبأمر من جبرئيل عليه السلام ليس معه إلى أحد أصحابه مع التخفي في الطريق لتمنع منه المعجزة ، إذ أن موضوعها نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه وهو الذي تم.
ليعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد ثمان سنوات ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، لفتح مكة والصلاة في الكعبة التي تدل على أن هذا الفتح سلام وأمن ، فهو لم يستبح مكة ، ولم يستبح أي مدينة أو قرية ، وفيه دعوة لكل مسلم لنشر ألوية السلم ، وعدم إخافة الناس وبث الرعب بينهم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وقوف عرفة سلم وضد للإرهاب
قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( ).
وعرفة هو اليوم ، أما عرفات فهو الموضع المبارك المعروف ، ويبعد عن البيت الحرام نحو أربعة وعشرين كيلو متراً.
وقد ذكرت في رسالتي مناسك الحج والمطبوعة سنة 2001 للميلاد ، وكان بودي تسميتها شوق وعشق ، شوق إلى الشاخص المبارك وعشق لواجب الوجود.
وقد صدرت لي من معالم الإيمان في تفسير القرآن (10) أجزاء بخصوص (آيات السلم محكمة غير منسوخةِ).
فهل قوله تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ] من آيات السلم أم أنها من آيات الأحكام وحدها ، المختار أنها منهما معاً ، لأن الوقوف على عرفات سلم وأمن وانشغال بالذكر ، وعهد على الإمتناع عن الإضرار بالغير.
والنسبة بين عرفة وعرفات عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي كل منهما عبادة وبركة وفيها نص وانحصارهما في وقت واحد بصيغة الوجوب إذ يعمرها وفد الحاج في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة من كل سنة ، أما مادة الإفتراق فأحدهما زماني والآخر مكاني .
وعرفة متبدل ومتغير لا يأتي الا مرة كل سنة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، أما موضع عرفات فهو مكان ثابت له حدوده من أيام آدم عليه السلام .
و(عن ابن عباس قال : حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبال عرفة إلى ملتقى وصيق ووادي عرفة)( ).
كما سمى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات الموضع (عرفة) إذ ورد عن الإمام علي عليه السلام (قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال : هذه عرفة وهو الموقف وعرفة كلها موقف ، ثم أفاض حين غربت الشمس وأردف أسامة بن زيد.
وجعل يشير بيده على هينته والناس يضربون يميناً وشمالاً ، يلتفت إليهم يقول : يا أيها الناس عليكم السكينة .
ثم أتى جمعاً فصلى بهم الصلاتين جميعاً .
فلما أصبح أتى قزح وقف عليه وقال : هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ، ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر ففزع ناقته فخبب حتى جازوا الوادي.
فوقف وأردف الفضل ، تم أتى الجمرة فرماها ثم أتى المنحر)( ).
لبيان جواز تسمية ذات موضع عرفات بعرفة.
فالمراد من عرفة هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة من كل سنة وأما عرفات فهي ذات الموضع الذي يقف عليه وفد الحاج من زوال شمس هذا اليوم إلى غروب الشمس ، ويجوز تسمية الموضع عرفة.
وورد ذكر عرفات في القرآن ، أما يوم عرفة فورد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوم عرفة في عموم الأرض ، ويتجدد كل سنة ، وعرفات موضع محدد يبعد عن المسجد الحرام نحو (24) كم ولا يختص يوم عرفة بساعة الوقوف على عرفات بل يبدأ من طلوع الشمس إلى مغيبها.
والوقوف على عرفة كل سنة من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد صدر هذه الأيام جزء من هذا السِفر بخصوص مئات المعجزات الحسية المستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عرفة من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
الجواب نعم ، فهو سلاح ردع وزجر وليس مثالاً ، فهذه الآية ضد للإرهاب ، ومنع منه وقد ورد هذا المعنى تفصيلاً في أجزاء متعددة من تفسيري للقرآن .
لما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، احتجوا على فساد الإنسان في الأرض وسفكه للدماء فاجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ليعلم الملائكة في كل سنة وفي يوم عرفة أهلية الإنسان للخلافة في الأرض وعمارته لها بالنسك والعبادة .
ويعرف المسلمون وأهل الأرض يوم عرفة قانون عدم حاجة الإسلام إلى الإرهاب ومنافاته لمناسكهم.
ويوم عرفة تبرأ عام من الإرهاب والظلم والتعدي ، من وجوه :
الأول : قانون مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعبادات والمناسك .
الثاني : قانون بقاء الفرائض العبادية والمناسك في الإسلام إلى يوم القيامة.
الثالث : قانون المنافاة بين المناسك العبادية والإرهاب .
الرابع : قانون تعاهد المسلمين للفرائض العبادية والمناسك باعث للنفرة في نفوسهم من الإرهاب .
الخامس : قانون حسن صلات أهل الملل والنحل مع المسلمين لإقامتهم على الفرائض ، فلا عبرة بالعمل الفردي الشاذ عن مسالك المسلمين في التهذيب وحسن الخلق والرفق العام.
إيذاء المشركين للنبي (ص) وأصحابه دعوة للمسلمين للإمتناع عن الإرهاب
عندما نزل جبرئيل بالإذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة في ذات الليلة لأن قريشاً عزموا على قتله في فراشه ، لم يترك أصحابه في ضياع فقد سارع إلى إخبارهم بهجرته ، ودعاهم إلى الهجرة كل واحد منهم بحسبه .
وقد تقدم أن من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجرة طائفة من أصحابه إلى الحبشة وهو لا يزال في مكة ، وعددهم ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة.
و(عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي)( ).
وعند الصباح ولما شاع بين قريش فقدان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه وأن الذي كان نائماً فيه هو علي بن أبي طالب عليه السلام ، وفقدوا بعض الصحابة كأبي بكر ، إزداد تعذيب المشركين للمستضعفين من الصحابة فأخذوهم وأذاقوهم أشد العذاب منهم :
الأول : بلال الحبشي .
الثاني : خباب بن الأرت.
وهو تميمي الأصل ، ولحقه سباء في الجاهلية فاشترته امرأة من خزاعة واعتقته ، وهو حليف بني زهرة ، لبيان عظيم نفع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس بانقطاع الغزو والسبي بين القبائل .
الثالث : سمية بنت خِباط أم عمار بن ياسر ، التي أبت الرجوع عن الإسلام (فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها)( )، كما عن ابن عباس ، وكان تعذيبها وأهل بيتها قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : عمار بن ياسر الذي رآى قتل أمه ، واشتد عليه تعذيب قريش فذكر ألهتهم بالثناء والمدح ، وسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتركوه .
لبيان أن المشركين هم أهل الإرهاب والعنف والإضطهاد ، وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أسلم ، وصار يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (فكان إذا أملى عليه:”سميعًا عليمًا”، كتب هو:”عليمًا حكيمًا”، وإذا قال : عليمًا حكيمًا ، كتب : سميعًا عليمًا ، فشكّ وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله.
قال محمد : سميعًا عليمًا.
فقلت أنا : عليمًا حكيمًا ، فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار.
فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ.
فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر، فأبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتولاه .
فأنزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا( )، عن السدي.
وفي قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( )، ورد عن ابن عباس أن الآية (نزلت في عمَّار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فوافقهم على ذلك مُكرَها وجاء معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية أن قريشاً تركوا أصحابه الآخرين الذين لم ينالوا منه ، ولم يمدحوا الكفار وآلهتهم مثل بلال وخباب مع تعرضهم للعذاب الشديد.
وعن عبد الله بن مسعود في حديث أن من أوائل من أظهر الإسلام (عمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد فأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه.
وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم إنسان إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد)( ).
الخامس : صهيب الرومي .
ولا يعني هذا أن أكثر الصحابة الأوائل من الأرقاء فمن بين الأربعين رجل وامرأة في بدايات الدعوة وفي السنة الثالثة منها كان مجموع الفقراء والمستضعفين والأرقاء والموالي ثلاثة عشر .
ولم يكن سبب دخول الإسلام طلب الحرية والغنى ، إذ يلاقي الذي يدخل الإسلام أشد الأذى والعذاب من كفار قريش.
ليكون الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وعامة أصحابه الأوائل السيد والمولى ، والغني والفقير والقرشي وغير القرشي شاهداً على صدق إيمانهم فلذا لم يكن قبل الهجرة وقبل معركة بدر نفاق .
لبيان قانون سيرة الصحابة الأوائل تأسيس لقانون حرمة الإرهاب وايذاء الناس.
قانون الأُسوة والموعظة في صبر النبي (ص)
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صبره على الأذى الذي لاقاه وأصحابه طيلة سني الدعوة إلى حين مغادرته الدنيا ومنها زحف جيوش قريش لمحاربته في معركة بدر وأحد والخندق.
لذا يجب على كل مسلم ومسلمة التحلي بالصبر والأخلاق الحميدة ، وإجتناب الإرهاب ومقدماته ، والإمتناع عن إخافة الآمنين في مساكنهم ومنتدياتهم ومحل عملهم .
لقد كان الأذى الذي لاقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه موعظة وعبرة لأجيال المسلمين قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، ومن العبرة والموعظة في المقام وجوه :
الأول : قانون شكر أجيال المسلمين الله عز وجل على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، فقد كانت سلامته كل يوم معجزة مستقلة بذاتها ، ليكون عدد المعجزات في هذا الباب بعدد أيام سني الدعوة 23×355=8165 يوماً ومعجزة.
وتدخل معها مدة انقطاع الوحي لأربعين يوماً كما عن ابن عباس وقيل أكثر منها ، لعدم التعارض بين استدامة وصدق النبوة وبين انقطاع الوحي أياماً معدودة ، ولاستمرار أذى قريش رجالاً ونساءً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في تلك الأيام.
ويدخل نبذ المسلمين الإرهاب والإبتعاد عنه في مصاديق الشكر القولي والفعلي من المسلمين لله عز وجل على نعمة نجاة النبي محمد من القتل حتى نزول آيات وسور القرآن كلها ، لتبقى أعظم تركة وإرث بين أهل الأرض مجموعاً بين دفتي المصحف ، وفيه آيات تشهد على الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لتكون درساً للمسلمين لإجتناب ايذاء غيرهم.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عدداً من أصحابه الذي لاقوا أشد الأذى ليسوا من العرب ، وهو من الشواهد على أن رسالته للناس جميعاً ، وفيه بشارة على تصديق الأمم والشعوب المختلفة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الصحابة سلمان الفارسي وفيروز الديلمي ، وسالم مولى أبي حذيفة وهم من الفرس ، وصهيب الرومي ، والأزرق بن عقبة عبد ومولى لثقيف وهما من الروم .
ومن الأقباط مارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اهداها له المقوقس حاكم مصر في السنة السابعة للهجرة ومعها أختها سيرين بنت شمعون أهداها الرسول إلى حسان بن ثابت فانجبت له ولده عبد الرحمن.
وعداس غلام نصراني من نينوى ، وأم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبلال بن رباح من الحبشة وغيرهم كثير.
لبيان قانون عالمية الإسلام وقبول الناس لمبادئه القائمة على السلم والرفق والإحسان العام ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
أكثر الكلمات نطقاً اسم الجلالة
توفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ستون ألفاً ، ثلاثون الفاً بالمدينة ، وثلاثون ألفاً في غيرها على قول ، وهو المختار.
وقيل توفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رآه وسمع منه أكثر من مائة ألف ، لذا قيل حج مع النبي مائة ألف من الصحابة .
فلا بأس في إحصاء أكثر الكلمات التي ينطق بها أهل الأرض في اليوم أو الليلة سواء في العبادات وعدد أهل وأتباع كاملة أو في المعاملات ، وتلاوة القرآن والإنجيل والتوراة والكتب المقدسة عند الملل الأخرى ، ولغة التخاطب بين الناس ، فلابد لهذه الإحصائية من الإحاطة بحياة الشعوب اليومية ، وتستقرأ منها أن أكثر الكلمات هي اسم الجلالة ألفاظ العبادة والإنقياد لله عز وجل ، وفيه نهي ومنع من الإرهاب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( ) فهو أكبر وأكثر من كل لفظ آخر ، وقد صدر الجزء الخامس والأربعون بعد المائتين ، والسابع والأربعون بعد المائتين من هذا السٍفر بخصوص (علم الإحصاء القرآني غير متناه ) .
ومن الكلمات التي يردها المسلمون بكثرة السلام عليكم ، لبيان معجزة في نظم الحياة اليومية وهي أكثر الكلمات التي ينطقها أهل الأرض في دعوة للسلم المجتمعي ، وإشاعة للرفق والتراحم ، وزجر عنه .
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية المتجددة كل يوم .
ومن الكلمات التي ينطقها الناس مع إختلاف لغاتهم هي (ألو ) في الرد على الهاتف ، والأرجح أنها أختصار لكلمة (Hello)ومعناها مرحباً بالأنكليزية ، وقد تكون كلمة استفهام تعجبي من قبل المتلقي للإتصال الهاتفي .
قانون التضاد بين قتلى الدفاع والإرهاب
لا يصح الجمع بين الذين قتلوا بالدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيضة الإسلام , وبين الذي يقتل نفسه بعمل إنتحاري فبينهما تباين وتضاد .
وهذا القتل ظلم للنفس والغير ممن يلحقه الأذى أو يسمع به , قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ]( ).
وفي الحديث القدسي (عن أبي ذر : [ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا .
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم .
يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم .
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم .
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ( )يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)( ).
قانون سلامة آيات الصفح من النسخ
من الإعجاز مجئ الأمر المتعدد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسلم والأمن والعفو في آية من بضع كلمات كما في قوله تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
وقيل الآية منسوخة بآية السيف ، ولكن الآية في منطوقها إخبار على أنهم سوف يعلمون ، وأن التوبة قريبة منهم وهو الذي تحقق بعد صلح الحديبية ثم تم بفضل الله في فتح مكة .
ونزلت في حجة الوداع سورة النصر ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وهل من موضوعية لقانون سلامة آيات الصفح من النسخ في هذا الزمان ، الجواب نعم ، وهناك مسألتان :
الأولى : تكررت مادة (صفح) بصيغة المفرد والجمع في القرآن ، منها قوله تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ) ومنها قوله تعالى [فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ]( ) خطاب إلى المسلمين [وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) وقوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثانية : تشمل آيات الصفح في المقام آيات العفو والتسامح واللطف ومقابلة السيئة بالحسنة ، وكظم الحنق ، ومنع السخط من الترجل على الأعضاء والجوارح ، قال تعالى في وصف المتقين والثناء عليهم [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالثة :توجه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات في صيغة الجمع [وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
الرابعة : الأجر والثواب على الصفح والعفو عن المفرد والمتعدد من الناس ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال (وما زاد الله عبدا يعفو إلا عزا)( ).
وهل يحمل الأمر بالصفح في هذه الآياتعلى الوجوب أم الندب ، الجواب الأصل هو الأول ليتوجه الخطاب إلى كل مسلم بالصفح والعفو من جهات :
الأولى : وجوب الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إمتثاله لأوامر الصفح القرآنية ودلالة السنة عليه .
الثانية : شمول المسلمين بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصفح بالإلحاق .
والنسبة بين الصفح ونظائره وبين الإرهاب هي التضاد ، لبيان قانون التنافي بين الأوامر الإلهية بالرحمة والعفو وبين الإرهاب .
قانون التضاد والتنافر بين العلم والإرهاب
النسبة بين العلم والإحصاء هو العموم والخصوص المطلق ، فأبواب وأقسام الإحصاء التي نذكرها هنا أفراد من العلم.
والعلم لغة هو إدراك الشئ على حقيقته إدراكاً قاطعاً ، أما في الإصطلاح فهو القواعد والقوانين والمبادئ والحقائق والنظريات وكشف الصلة بين الظواهر والأحداث.
والإحصاء علم قائم بذاته تنتفع منه كل العلوم ولا يحيط بعلم الإحصاء إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
قال تعالى [وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا]( ).
وعن محمد بن مسلم أنه سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام ([يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ) قال : السر ما كتمته في نفسك، وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته)( ).
فتنسى الأمنية والرغبة ، ولكن الله لا ينساها ، ليتفضل بتنجزها بالدعاء والمسألة ، أو بما يفيد معناها ، ليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، أي استجب لكم في الرغائب التي كتمتموها في نفوسكم والتي طرأت على بال أحدكم ثم نسيها كما يكون من معاني قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ]( )، يمحو الله المصداق الواقعي لما يكتمه الإنسان في نفسه من الحقد والشر والإنتقام والإرهاب ويصرفه عنه ويجعله يدرك عدم الحاجة إليه.
قانون العداوة بين النعم والإرهاب
علم الإحصاء من العلوم التي صاحبت الإنسان من أول خلق آدم عليه السلام إذا امتحنه الله عز وجل بمحضر من الملائكة بقوله تعالى [قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، لبيان أن علم الإحصاء فرع أهلية الإنسان للخلافة في الأرض ليتفرع عنه إحصاء أحكام الأوامر والنواهي ، وموضوع كل واحد منها .
ومن هذا العلم أول كلمة نزولاً من القرآن وهي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، لبيان الإحصاء النافع للناس في معاشاتهم ودينهم.
وليس من حصر وإحصاء للنعم الإلهية على الإنسان وعلم الإحصاء مطلوب لذاته ولغيره .
وهو وسيلة ضبط في العبادات والمعاملات ترى ما هي الصلة بين قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وبين الإحصاء ، الجواب الإحصاء فرع خلافة الإنسان في الأرض ، ويحب أن يسخر لمنفعة الناس ، واستدامة الحياة الإنسانية والتعايش السلمي شرط لهذه الإستدامة لبيان أنه حاجة لتدل في مفهومها على حرمة الإرهاب الذي ضد للتعايش ، ولبيان ضرره العام .
لقد بعثت آيات القرآن على العفو والتسامح ونبذ الإرهاب ، ومن هذه الآيات التذكير بنعم الله عز وجل ، والعجز عن إحصائها، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( )لبيان قانون كل نعمة زاجر عن الإرهاب ، وكثرة النعم إصلاح للنفوس والمجتمعات ، ودعوة للتألف والوئام بين البشر جميعاً .
والتكبيرات أثناء الصلاة مستحبة ومع هذا يحرص عليها كل مسلم عدا تكبيرة الإحرام ، والتي سميت بهذا الاسم لأن بنطقها تبدأ الصلاة ، ويحرم على المصلي الإتيان بما هو خارج أفعال الصلاة ومناف للصلاة من الكلام والأكل والشرب والإلتفات والضحك.
ويشترط الإتيان بلفظ (الله اكبر) بالعربية ، ولا يصح مرادفها أو قول (الله أعظم) أو (الله أرحم) ولا يصح الإتيان بها بلغة أخرى.
وكلمة (الله أكبر) حجة في اصلاح القول والعقل ، فلا يصح اتخاذها نداء وشعاراً بما فيه ضرر للناس أو إزهارق للأرواح.
لبيان معجزة للقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحضور في الواقع اليومي للناس في كل يوم الحضور النافع في الدنيا والآخرة بالخشية من الله التي هي وقاء من الظلم والجور والإرهاب.
قانون الذكر رحمة ورأفة عامة
ومن مصاديق قوله تعالى [بِذِكْرِ اللَّهِ]( ) أن أكثر الكلمات التي ينطقها الناس كل يوم ألفاظ العبادة والخشوع لله عز وجل ولقد أحتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )ليكون من علم الله عز وجل قيام الملائكة بكتابة ذكر الناس لله عز وجل ومعرفتها بأن أكثر كلمات أهل الدنيا هي الذكر والتسبيح والتهليل ، وفيه الثواب العظيم يوم القيامة ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
ومن أكثر الكلمات التي ينطقها الناس كلمة (الله أكبر) التي يختص بها المسلمون ، إذ يأتي بها المسلم في أول الصلاة ، وهي التي تسمى تكبيرة الإحرام ، سميت بهذا الاسم اقتباساً مما وورد عن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحريمها التسليم ) وهي الركن الثاني في الصلاة بعد النية ، وعلى وجوب تكبيرة الإحرام الكتاب والسنة النبوية القولية والفعلية ، قال تعالى [وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ]( )يحمل الأمر هنا على الوجوب ، وخالف الحنفية وقالوا بعدم إشتراط افتتاح الصلاة بلفظ (الله أكبر) وتكفي عندهم الصيغة التي تتضمن تعظيم الله عز وجل وحده من غير أن تشمل الدعاء والمسألة ونحوها ، فاذا قال المصلي سبحان الله أو الحمد لله ، أو لا إله إلا الله ، أو الله رحيم صحت صلاته ، ولو قال استغفر الله أو أعوذ بالله لا تصح الصلاة لجمع هذه الكلمات بين التعظيم وسؤال المغفرة والإستغفار .
والأمر من المحكم وليس من المتشابه ، ولو أمد الله عز وجل في عمري لكتبت رسالة عملية في العبادات والمعاملات وفق الجامع من المذاهب الأربعة كمنهاج رسالتي العملية الحجة خمسة أجزاء .
نعم قالت الحنفية بأن إفتتاح الصلاة بقول الله أكبر واجب ، وشرط وليس ركناً ، وهم يقسمون الأحكام التكليفية إلى سبعة وهي:
الأول : الفرض .
الثاني : الوجوب .
الثالث : الندب .
الرابع : الإباحة .
الخامس : الكراهة التنزيهية .
السادس : الكراهة التحريمية .
السابع : التحريم .
ولأن بنطقها يحرم على المصلي الإتيان بما هو خارج أفعال الصلاة ، والمنافي لها من الكلام والضحك والأكل والشرب .
ويمكن القول بقانون نطق تكبيرة الإحرام تحريم للإرهاب فهي أمان عام للناس لأن المسلم يدخل معها في الصلاة وحال الخشوع والخضوع التام لله عز وجل .
ولا يجتمع المتضادان وهما حال الخشوع والتقوى وحال الإرهاب ، فمن ينطق بتكبيرة الإحرام يحرم عليه الإرهاب جملة وتفصيلاً ، ولا يجوز له سفك الدم وإثارة الرعب بين الناس .
كما تسمى تكبيرة الإفتتاح ثم تأتي التكبيرات المستحبة ، ومن معانيه افتتاح المسلم يومه بالدعاء والسكينة والتسبيح الذي هو أمان لأهل الأرض جميعاً ، وتفضل الله عز وجل.
ويتكرر افتتاح الصلاة بالتكبيرة خمس مرات في اليوم والليلة لتنمية ملكة حبس الجوارح عن الإضرار بالناس .
لذا جعل الله عز وجل التحية بين المسلمين والناس : السلام عليكم .
وعددها في كل ركعة خمس تكبيرات ، فيكون المجموع في الصلاة الثنائية كصلاة الصبح إحدى عشرة تكبيرة ، وتكون في مجموع الصلوات اليومية الواجبة تسعين تكبيرة عدا تكبيرة القيام من التشهد الأول من الصلاة الثلاثية والرباعية عند مشهور المسلمين .
ومن الإعجاز في الصلاة أن هذه التكبيرات مستحبة ، ومع هذا يحرص على إتيانها الإمام والمأموم ، والمنفرد ، فاذا كان عدد المصلين من المسلمين في اليوم الواحد خمسمائة مليون مصلي ، يكون المجموع نحو خمسين مليار تكبيرة ، وتضاف إليها تكبيرات صلاة النوافل اليومية وغيرها ، ونطق المسلمين بلفظ (الله أكبر ) خارج الصلاة.
وكل تكبيرة دعوة للسلام ، والرأفة ، والرفق بكل إنسان من أهل الأرض ، فالله له ملك السموات والأرض ، ومشيئته مطلقة ، وقد حرم على الناس سفك الدماء ، وجعل افتتاح الصلاة عنواناً متجدداً لهذا التحريم.
قانون الحكمة فرع الخلافة
تنهل مرتبة الخلافة من السماء ، نعم السماء فيها عرش الله ، ولا يكون فيها خليفة ، إذ تتلقى الخلائق في الجملة فيها الأوامر مباشرة من عند الله عز وجل ، ومنه أمر الله تعالى لآدم بتعليم الملائكة الأسماء بقوله تعالى [قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( )، فلم يأمر الله عز وجل جبرئيل أو ملكاً آخر لإبلاغ آدم بالأمر ، إنما كلمه الله قبلاً ، ومنه نهي الله لآدم وحواء من الأكل من الشجرة واشتراك حواء بالنهي لبيان تلقي سكنة الجنة الأوامر والنواهي من عند الله من غير واسطة.
ومنه إنقياد الملائكة التام لله عز وجل ، ومنه قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( )، ومنه إحتجاج الله عز وجل على ابليس عندما امتنع عن السجود لآدم .
لقد تفضل الله عز وجل ومنح الإنسان رتبة لم ينلها جنس من الخلائق حتى الملائكة وهي الخلافة في الأرض ، فلابد أن يرزقه الله عز وجل الحكمة لضرورتها وحاجته لها في تيسير الأمور واستدامة الحياة ، والصلات الحسنة بين الناس ، واتخاذ الحكمة وسيلة لأداء الوظائف العبادية ، وهذا الأداء نفسه حكمة متعالية ، ورفعة بين الخلائق وتحتمل الحكمة وجوهاً:
الأول : فرض كفاية .
الثاني : اختصاص الأنبياء بالحكمة المطلقة .
الثالث : تحلي حكام الأرض من الملوك والسلاطين والرؤساء بالحكمة.
الرابع : الحكمة فرض عين على كل انسان أن يتحلى بالحكمة ، وهو المختار ، وهي فرع العقل الذي رزقه الله عز وجل للإنسان .
خاصة وأن الحكمة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، ولابد من إحراز الحد الأدنى منها الذي يكون معه التدبر في الأمور وجلب المصلحة ودفع المفسدة.
ومن الحكمة الإيمان بالله وأداء الفرائض العبادية ، وحسن السمت والعدل والتنزه عن الظلم لبيان قانون التضاد والمنافاة بين الحكمة والإرهاب ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا]( ).
نعم حاجة أولي الأمر إلى الحكمة أكثر من غيرهم لتعدد وظائفهم العامة ، ومن الحكمة تسخير وسائل الإعلام لبيان قبح الإرهاب ، ولزوم الإبتعاد عنه ، وكيف أنه ضرر محض بذاته وسوء عاقبته.
الغلبة على النفس الشهوية والغضبية
لقد تفضل الله عز وجل وخص أفراداً من الناس بمرتبة النبوة ، وهي أسمى المراتب ليكونوا أئمة الحكمة ، لقانون الملازمة بين الوحي والحكمة ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : قانون الوحي حكمة .
الصغرى : النبي يوحى إليه .
النتيجة : النبي حكيم .
ولا يغادر أي نبي الحياة الدنيا إلا ويترك بصمات ومفاهيم الحكمة عند أنصاره وأتباعه ، وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة الأصحاب ، فلم يغادر إلى الرفيق الأعلى إلا وأصحابه نحو ستين ألفاً ، وقول أنهم مائة الف ، ومائة وعشرون ألفاً ، ولم يترك لهم خزائن بيت مال مملوءة بالدينار الذهبي ، والدرهم الفضي.
إنما ترك لهم الأحكام السماوية والحكمة ، وهو مصداق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وهل يدل الضمير هم في (عليهم) (ويزكيهم) و(يعلمهم) وكذا الوافي (إن كانوا) و(آخرين منهم) للعرب أم عامة المسلمين ، الجواب هو الثاني ، لأصالة العموم.
فالمراد الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة على اختلاف جنسهم وأممهم ، ومن الآيات أن عدداً من الصحابة لم يكونوا من العرب ، وكانوا من حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة سلمان الفارسي ، وبلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصهيب الرومي .
ومن الصحابة أيضاً أم أيمن واسمها بركة ، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورثها عن أمه آمنة بنت وهب ثم اعتقها ، فلازمته ، وزوجها لزيد بن حارثة فولدت له أسامة بن زيد .
ومارية القبطية وهي سرية رسول الله ، وأم إبراهيم ، اهداها المقوقس حاكم مصر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة سبع للهجرة .
وسالم مولى أبي حذيفة فارسي : وهو من المهاجرين شهد المشاهد كلها ، واستشهد في حروب الردة في اليمامة.
وفيرور الديلمي صحابي يماني فارس الأصل .
وعداس غلام عتبة وشيبة بني ربيعة شهد زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف وإيذاء قريش له فدخل الإسلام.
ومع بعد الجزيرة عن بلاد الشام وفارس فقد كان هناك أشخاص في مكة والمدينة من غير العرب فبادروا إلى دخول الإسلام ، وكذا عدد كبير من يهود المدينة ونصارى نجران ، وفيه شاهد على تدبرهم لمصاديق الحكمة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنبوته ، مما يملي على أجيال المسلمين إكرام القوميات ، وأهل الأمصار وعدم الإضرار بهم بالإرهاب والعنف والبطش.
والإرهاب مناف للحكمة وهو خلاف قواعد خلافة الإنسان في الأرض ، والشأن الرفيع الذي جعله الله للمسلمين بين الناس ، ولزوم تعاهد هذا الشأن باشاعة الأمن والمحافظة على السلم المجتمعي.
ليكون كل واحد منهم ممثلاً ورسولاً وسابقاً لأمته ، ورمز وبشارة دخولهم الإسلام ، وأن النبي محمداً يحب هذه الأمم ، ويحرم مزاولة الإرهاب ضدهم سواء المسلمين وغير المسلمين منهم .
وهذا المعنى العام لا يتعارض مع الأميين في الآية ولا مع دعاء إبراهيم وإسماعيل [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ]( ) .
ولو دار المراد بين العام والخاص فالأصل هو العام ، وأن الأنبياء يدعون للنفع العام ، خاصة وأن كلاً من إبراهيم وإسماعيل نبي رسول ، واتصف إبراهيم بأنه من الرسل الخمسة أولي العزم ، ومما يتصف به الرسول هو بعثه للناس جميعاً ودعاؤه فرع لرسالته .
وحتى على القول بأن المراد من الأميين العرب فان الله عز وجل أخبر بأن النبي محمداً رسول إلى الناس جميعاً بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
لبيان أن عطاء وفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته أعظم من مسألة إبراهيم وإسماعيل.
وبيان قانون حرمة صدور الإرهاب من أي طائفة أو فرقة أو أهل ملة ولتكون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق سماوي لتطهير الأرض من الإرهاب والمسلمون هم الأسوة في العصمة من الإرهاب.
ويكون المعنى يتلو عليهم وعلى غيرهم من المؤمنين والناس آياتك ، ويدل على العموم قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( )
وفي هذه الآية حجة على إرادة عموم المسلمين والمسلمات من موضوع وأحكام تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات وتعليمه لأمته الحكمة .
فيكون بين الآية أعلاه وبين آية دعاء إبراهيم وإسماعيل بأمه مسلمة عموم وخصوص مطلق ، فالآية أعلاه أعم ، وليس من نبي من نسل إسماعيل إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أنبياء كثيرين من نسل إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام .
منبر الجمعة ضد للإرهاب
ليس من حصر لحضور القرآن اليومي في حياة المسلمين والميراث الذي تركه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ومنه اللقاء الأسبوعي العام للمسلمين وبصبغة العبادة والخشوع لله عز وجل في صلاة الجمعة مع إقرار العلماء بخصوصية في هذا اللقاء ، وهي إلقاء خطبتي الصلاة ، وإمامتهم للصلاة لبيان عظيم مسؤوليتهم في الإصلاح ، وبناء صرح الأخلاق الحميدة ، وتعاهد السنن الرشيدة .
ومن الإعجاز أن صلاة الجمعة وثيقة قرآنية لا تقبل التبديل أو التحريف أو التغيير ، سواء في الرسم أو النص والتلاوة أو العمل بمضامينها إذ قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
وورد لفظ (نودي) أربع مرات في القرآن ثلاثة في موسى عليه السلام ، ورؤيته لنار مشتعلة وهي نور ، عندما كان يسير مع أهله في ساعة ظلام ، قال تعالى [فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى]( ).
وواحدة أعلاه بخصوص صلاة الجمعة في خطاب من الله إلى المسلمين إلى يوم القيامة مع التكامل في عالم الفعل الإمتثال بتهيئة مقدمات وشرائط الجمعة ، في الآية أعلاه من جهات :
الأولى : ابتداء الآية بعموم النداء إلى المسلمين بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والأصل فيه شمول الرجال والنساء إلا مع الدليل على الإستثناء ، ومنه عدم وجوب الجمعة على النساء لأولوية الستر وصلاة المرأة في بيتها وإجتناب محافل الرجال ولكن إن حضرت المرأة صلاة الجمعة صحت صلاتها ، وأجزءها عن صلاة الظهر أي أن عدم حضورها الجمعة رخصة وليس عزيمة .
والعزيمة ما يلزم معه الطاعة والإمتثال.
أما الرخصة فهي رفع وجوب اتيان الفعل من غير تحريمه ، وهو من موارد التخفيف عن المرأة ، ولتعاهدها المنزل والأولاد ساعة الصلاة ومنع خلو البيوت من ساكنيها ، وحدوث سرقات ونحوها عند ثبوت غياب الآباء والأمهات والأولاد والبالغين ساعة الصلاة في وقت معلوم للجميع.
ومن الإعجاز في صلاة الجمعة إجتماع القرآن والسنة على وجوب تعاهدها وقيام أجيال المسلمين بحضورها بشوق وغبطة ، وبلحاظ عنوان هذا البحث مسائل :
الأولى : قانون صلاة الجمعة عنوان وحدة المسلمين في مسالك التقوى ، وتعاهد للأمن العام ، وبعث للسكينة في نفوس الناس .
الثانية : قانون صلاة الجمعة تأديب واصلاح ، ودعوة للعفو والتسامح .
الثالثة : صلاة الجمعة إمتثال لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابعة : الإجتماع في صلاة الجمعة زاجر عن الإرهاب .
الخامسة : لزوم تنزيه صلاة الجمعة عن أسباب العنف والتطرف.
السادسة : من معاني صلاة الجمعة التعاون في البر والخيرات ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
السابعة : صلاة الجمعة عهد وميثاق بين الله وبين أجيال المسلمين المتعاقبة .
الثامنة : صلاة الجمعة عنوان السلم المجتمعي ، وهي أمن للمسلمين وغيرهم في عموم أهل الأرض ، حيث يتوجه المسلمون إلى الله في ذكر وخشوع وخضوع وأداء أفعال عبادية جامعة .
التاسعة : الأجر والثواب العظيم لمن يتخذ صلاة الجمعة عصمة من الإرهاب.
الدعوة إلى السلم بعد صلاة الجمعة
لقد نزل الأمر الإلهي للمسلمين بذكر الله بعد إنتهاء الصلاة وفيه دعوة للسلم وشاهد على حرمة الإرهاب إذ قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، إذ تتضمن الآية أموراً :
الأول : الإنتشار في الأرض وعدم اللبث في المسجد بعد الصلاة.
الثاني : السعي في المكاسب وطلب الرزق ، وهناك تضاد بين إبتغاء فضل الله وبين الإرهاب .
وقوله تعالى [وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] أي لكم ولعوائلكم وللناس ، وليس في الإرهاب إلا الضرر ، للذات والعائلة وعامة الناس حتى الذي لا يقع عليه الإرهاب والذي يسكن بلدة أخرى بعيدة عن الحدث الإرهابي ، وهو من مفاهيم العولمة في هذا الزمان.
لبيان الإعجاز في صلاة الجمعة ، وهو إشراقة بركاتها على الأمصار بالأمن والطمأنينة .
الثالث : ذكر الله عز وجل بعد إنقضاء الصلاة ليس في التعقيب وحده ، بل عند الإنتشار والسعي في الأرض .
الرابع : صلاة الجمعة حصن عبادي وأخلاقي دون الإرهاب والتعدي .
لقد تضمنت الآية الأمر بأمور بعد إنقضاء الصلاة وهي :
الأول : الإنتشار في الأرض أمن وبعث على الطمأنينة العامة.
الثاني : طلب الرزق من عند الله عز وجل ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما من نبي إلا رعى الغنم . قالوا : وأنت يا رسول الله ، قال : نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة.
وفي الصحيح : أن داود ، عليه السلام، كان يأكل من كسب يده)( ).
الثالث : المداومة على ذكر الله وعدم إنقطاع الصلةٍ مع المسجد والذكر والتسبيح بانتهاء الصلاة .
وكل فرد من هذه الأفراد الثلاثة زاجر عن الظلم والتعدي ، ومانع من الإرهاب .
لقد وصفت الآية ذكر الله بكونه [كَثِيرًا] لبيان نكتة عقائدية من وجوه :
الأول : قانون الإنصراف من الصلاة واقية من الإرهاب .
الثاني : قانون صلاة الجمعة سلم بذاتها وما بعدها .
الثالث : قانون التضاد بين ذكر الله كثيراً وبين الإرهاب .
الرابع : قانون ذكر الله كثيراً إنشغال عن الإرهاب ، وباعث للنفرة منه .
الخامس : الفوز والفلاح والتوفيق بالمواظبة على الذكر ، والتنزه عن الإرهاب لقوله تعالى في خاتمة الآية [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ].
ومن الفلاح الصلاح وجني الحسنات ، والخلق الحميد .
وفي الآية تذكير بأن الإرهاب برزخ دون الفلاح والتوفيق في النشأتين .
العاشرة : حب الله عز وجل للذين يحضرون صلاة الجمعة ، ومن رشحات هذا الحب اللطف الإلهي في بعث النفرة في نفوسهم من الإرهاب ، وابعادهم عنه وعن مقدماته وأضراره .
الحادية عشرة : من خصائص خطبة الجمعة الحض على الأخلاق الحميدة ، والتذكير بالآخرة ، وهو مانع من الإرهاب لإدراك كل ذي لب أن جزاء الفعل الإرهابي العقاب الأليم .
وهل يختص موضوع الآية وأعمال ما بعد الصلاة بخصوص القدر المتيقن وهو صلاة الجمعة أم المراد المعنى الأعم الشامل لكل صلاة ، الصحيح هو الثاني .
حرمة الدعوة إلى الإرهاب
من القواعد الأصولية حرمة الدعوة إلى الحرام ، والنهي عن المقدمات التي تؤدي إليه ، وهو من سبل الوقاية منه ، واستئصاله ومفاهيم الضلالة ، وأسباب الفتن ، قال تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ]( ) .
ومن السبل المنهي عنها الغواية والضلالات والإرهاب ، والتطرف والتكفير .
وعن جابر بن عبد الله قال (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخط خطاً هكذا أمامه فقال : هذا سبيل الله ، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال : هذا سبيل الشيطان . ثم وضع يده في الخط الأوسط وتلا { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه . . . } الآية )( ).
ومن الإعجاز تعليم الله عز وجل لآدم وحواء وهما في الجنة باجتناب الشبهات خشية الوقوع في الحرام ، قال تعالى [وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ]( ).
ومن وجوه ومعاني الآية : ولا تدنوا من هذه الشجرة فتكونا من الظالمين بالأكل منها ، أي أن القرب من الشجرة نوع طريق ومقدمة لإتيان المنهي عنه ، وهو الأكل من الشجرة بعد أن حرمه الله عز وجل عليهما .
ومن مقدمات الإرهاب التطرف العنيف ، التطرف الذي يفضي إلى الإضرار بالمخالف ، والبطش العشوائي بالناس من غير حق لحرمة هذا البطش كتاباً وسنة ، وإجماعاً وعقلاً .
ولابد من إختيار الخطاب الديني الذي يبين القبح الذاتي لهذا التطرف ، ويحض على الإمتناع عنه ، مع لزوم اشتراك المؤسسات الدولية والسياسية والإجتماعية في تنزيه وإنقاذ الشباب منه .
(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَلَالٌ بَيِّنٌ وَحَرَامٌ بَيِّنٌ وَشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ مَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَهُوَ لِلْحَرَامِ أَتْرَكُ وَمَحَارِمُ اللَّهِ حِمًى فَمَنْ أَرْتَعَ حَوْلَ الْحِمَى كَانَ قَمِنًا أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ)( ).
ومن علل الإرهاب الشبهات وسوء التفسير ، وتحريف قراءة التأريخ والزيف في الوقائع ، وقد تأتي الدعوة إلى الإرهاب بالكلمة والقول ، وبالكتابة وبالتأويل الخاطئ ، للآية وقول النبي والسيرة ، فلابد من بذل الوسع لبيان هذا الخطأ ، ومنع الشباب من التأثر به والإنقياد إلى أربابه .
ولابد من العناية بدور المرأة أماً كانت أو أختاً أو زوجة في صلاح المجتمعات والتماسك الإجتماعي ، وتوثيق عرى المحبة والإلتصاق اليومي بين أفراد الأسرة ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ولا يختص التصدي للدعوة إلى الإرهاب بالأسرة والمدرسة والمنتدى بل يجب أن تكون له مبادئ وقوانين وآداب عابرة للحدود والمذاهب ، وتبذل فيه الأمم المتحدة ، والدول الأعضاء ، ومنظمات المجتمع المدني ، ورجال الدين الجهد النافع.
مع الخطاب الواسع في قطع دابر الإرهاب والعنف ببيان قبح وحرمة الدعوة إليه ، وتأكيد قانون الدعوة إلى الإرهاب ضرر عام .
ومن أسباب حرمة الإرهاب العواقب الوخيمة التي تؤدي إليه بالنسبة للذين يقومون به .
قانون التسلح ضد الإرهاب
تحتمل حرمة الدعوة إلى الإرهاب وجوهاً :
الأول : الحرمة الذاتية .
الثاني : الحرمة الغيرية بسبب حرمة ذيها ، وهو الإرهاب فتحرم الدعوة إليه .
الثالث : الحرمة الذاتية والغيرية .
والصحيح هو الأخير لبيان سوء هذه الدعوة وأنها تجلب الويلات ، وقد يفوق ضررها وشدته ما موجود في ذهن الداعي إليه.
ومن أهم وسائل الزجر عن هذه الدعوة وإبطال أثرها حتى إذا وجدت التفقه في الدين ، وتسليح الناشئة بالمعرفة والأهلية للفصل والتمييز بين الحق والباطل ، والحلال والحرام .
قال تعالى [وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ]( ) ففي كل أمة وفرقة من الأمم السابقة هناك نبي أو سلطان أو عالم ينذرهم من الجحود والكفر ، ويخوفهم سوء عاقبة الفسوق والضلال .
ولبيان قانون توارث الأمم للبشارة والإنذار ، فذكر الإنذار في الآية أعلاه يشمل البشارة في مفهومها عند الإمتناع عن الباطل والمنكر .
وذكر الآية أعلاه للأمة وكثرتها لبيان وجود فترة عند بعض أهل البوادي والأطراف على نحو محدود زماناً ومكاناً لأنهم أيضاً يتصلون بالحضر والحاضرات فيرون معالم التوحيد ، ويسمعون الإنذار والبشارة .
وهل أنذر الأنبياء السابقون من الإرهاب ، الجواب نعم ، إذ حاربوا النفس الغضبية ، وتصدوا للعنف والظلم والتعدي ، ومن الأنبياء من قُتل في محاربته للإرهاب والظلم ليكون من معاني قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) أن قتال عدد من الأنبياء وأنصارهم ضد للكفر والشرك والإرهاب .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً ليرى الناس كيف أن المشركين يسعون في قتله ، وفيه محاولة لإيقاف نزول القرآن الذي هو [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) الذي أبى الله إلا أن يتم نزوله على نحو النجوم والتدريج .
من ضروب الإرهاب
من الدعوة إلى الإرهاب التعدي على المقدسات ، وإظهار الكراهية الدينية والمذهبية ، والتركيز على نقاط خلاف ، وإنتزاع الأحكام التي تبرر العنف والإرهاب .
وتارة يكون الفرد جامعاً بين الدعوة إلى الإرهاب ، وفعل العمل الإرهابي ، وأخرى داعياً له فقط ، وتراه يخفي رأسه ، ويتجنب لحوق الضرر به ، إنما يغري الشباب ويتخذ من المغالطة والأخبار الضعيفة والأموال وسيلة لبعثهم لأعمال ضارة بالمجتمع والذات ، وليس فيه من أجر ، إنما هو الحسرة والندامة والأذى للأهل في الدنيا ، والعقاب الأليم في الآخرة .
قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( ) والدعاة إلى الإرهاب أفراد قلائل وفي تناقص، وتجري هذه الدعوة بالقول والفعل خاصة مع شبكات التواصل الإجتماعي مما يلزم فضحها بالحجة والبرهان ، وتسليح الشباب بالفكر ومفاهيم الحكمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) وليس من حصر لوسائل التوقي من الإرهاب لأنه خلاف حكم الشرائع والعقل .
ومن إعجاز القرآن نهي أول آية منه نزولاً عن الإرهاب ، إذ أن قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ) وتقييد القراءة بانها باسم بالله دعوة للرفق ، وإلزام لكل مسلم ومسلمة أن يختار القراءة النافعة التي في الكتب ، والصحف أو في شبكة التواصل ، وهي الأكثر قراءة في هذا الزمان ، وفيه بعث للقراءة الإيمانية وما فيه الصلاح والنفع والبناء والإعمار والتآخي بين الناس ، ومفاهيم الود والرأفة وعامة الشعوب .
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وأمره بتعلم سبل الخير والنفع ، والتوقي من الشرر والضرر ، وأيهما أكثر كماً وكيفاً سبل الخير أم سبل الشر.
الجواب هو الأول ، لذا فرض الله عز وجل الصلاة والعبادات الأخرى كالزكاة ، والصيام ، والحج ، والخمس ، لتكون خيراً بذاتها ، ووسيلة إلى فعل الخير والصلاح ممن يؤديها وغيره .
والنسبة بين الشر والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فكل ضروب الإرهاب فرع من الشر والأذى ، لذا لابد أن تأتي العبادات وسبل الخير والصلاح عليه وتستأصله من المفاهيم والواقع اليومي خاصة مع قلة أفراد حزبه .
قانون الإبتعاد عن الإرهاب بالفطرة
لقد ابتدأ الإرهاب من بدايات عمارة الإنسان الأرض ، إذ قام قابيل بن آدم بقتل أخيه هابيل ليؤسس إلى الإرهاب ، وتقيد هابيل بقواعد التقوى فامتنع عن مقابلته بالمثل أو المبادرة إلى قتله قبل أن يهم قابيل بقتله خاصة مع إعلانه عزمه على إرتكاب هذا الفعل ، إذ ورد في التنزيل [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
لبيان وصية آدم لأولاده بلزوم الخشية والخوف من الله عز وجل في آداء الواجبات ، والإمتناع عن المحرمات ، ومن ارتكاب الإرهاب والعنف وأشده القتل ، وامتنع هابيل عن القتل المتبادل بينهما حفاظاً على النفوس ، ولإرادة إعمار الأرض ، كما تدل الآية أعلاه على إخبار آدم النبي أولاده بعالم الثواب والجزاء في الآخرة .
وعن الحسن البصري (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا أيها الناس ألا إن ابني آدم ضُربا لكم مثلاً ، فتشبهوا بخيرهما ولا تتشبهوا بشرهما.
وفيه دليل على نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الإرهاب وسفك الدماء .
وأخرج ابن جرير من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : قلت لبكر بن عبد الله : أما بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً ، فخذوا خيرهما ودعوا شرهما)( ) وفيه دعوة نبوية للإتعاظ من قصص القرآن بما يحصن المسلمين والناس من مفاهيم الإرهاب .
ولبيان أن التعدي والقتل شر وظلم وأن الإرهاب ضرر وشر لابد لكل مسلم من تركه وإجتنابه .
ومن خصائص الإرهاب والدعوة إليه تحمل إثم الذين يرتكبون الإرهاب ويفتكون بالأبرياء بالآلة الجارحة أو بالسلاح الناري أو التفجيرات العشوائية .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مَا مِنْ نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلْماً إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ)( ).
وهل يبتلى الذي يبتدع إرهاباً في قتل وسفك للدماء بالإثم من محاكاة غيره له حتى بعد وفاته ، الجواب نعم .
لقد امتنع هابيل بالفطرة عن مقابلة أخيه قابيل في تهديده ووعيده بالقتل .
وتدعو الشريعة كل مسلم وغير المسلم الإبتعاد عن الإرهاب ، وتتضمن أحكامها النهي عنه والوعيد عليه بالعذاب الأليم ، خاصة وأن أضرار الفعل الإرهابي توليدية ، فهو إذا نزل بشخص يكون سبباً باستيلاء الحزن والأسى على والديه ويتم الأبناء وترمل الزوجة ، وحتى الذي يُقتل في العمل الإرهابي فانه من الأجل المنخرم فيحرم بقهر مؤبد من الزواج والنسل والذرية وهذا الحرمان يشمل الإرهابي نفسه.
لبيان قانون الإبتعاد عن الإرهاب حاجة للذات والغير.
لقد ابتنت الشرائع السماوية على الرحمة والتراحم بين الناس ، ومن تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن في المقام أن أول آية في نظمه هي (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي آية من سورة الفاتحة باجماع المسلمين .
وعدد آيات البسملة مائة وأربع عشرة آية ، إذ تفتتح بها كل سورة ، باستثناء سورة براءة وجاءت بدلها جزء آية في سورة النمل بقوله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
وكل آية منها زاجر عن الإرهاب ، وبيان لمنافاته لأخلاق النبوة وإخبار سماوي بأن البسملة سلاح الأنبياء وهي ميراثهم ، وبهجة وإشراقة رسائلهم وخطاباتهم إلى الملوك والرؤساء في زمانهم.
ومنه افتتاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتبه ورسائله إلى ملوك زمانه مثل قيصر ملك الروم ، وكسرى ملك فارس .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) دلالة آيات القرآن على حرمة الإرهاب ووجوب الإبتعاد عنه ، وقال تعالى مخاطباً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وفيه دعوة للمسلمين للإقتداء بالنبي في سنته وحسن سمته ، أما الإرهاب فهو شر عظيم على الأمة وإن قام به فرد واحد لما يجلبه من الضرر واللوم ونسبة الفعل إلى المذهب والعقيدة وهي براء منه.
أول كلمة نزولاً عصمة من الإرهاب
لأول آية وآخر آية نزولاً من القرآن موضوعية ودلالة خاصة ، وهي مناسبة لإستقراء المسائل ، وكل آية من القرآن رحمة ونعمة ومدرسة عقائدية ، وأول آية نزلت من القرآن هي آية [اقْرَأْ] لبيان أولوية الوظيفة الذهنية للمسلم ، وقيدت هذه القراءة بأنها باسم الله ، إذ أن أول آية نزلت من القرآن هي آية [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ) وقد ابتدأ نظم القرآن بالبسملة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] لبيان أن المقصود من [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] أي اقرأ وادع إلى الله بالرحمة والعفو والأمن ، وما يبعث السكينة في نفسك ونفوس الناس جميعاً.
فمن إعجاز القرآن الملازمة بين أول آية نزولاً من القرآن ، وبين أول آية في نظم القرآن ، وابتداء كل سورة بها ، وهذه الملازمة هدىً وإصلاح للمؤمنين باجتناب الإرهاب ، وبيان لمنافاته لقوانين الرحمة التي نزل بها القرآن ، والتي تحكم الصلات بين أهل الأرض ، فحتى إن طالت أيام وحوادث الإرهاب فانها إلى زوال وانقراض .
وآخر آية نزولاً من القرآن قوله تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ]( ) كما عن ابن عباس ( ).
لتكون عهداً بين الله عز وجل وبين المسلم عند اللقاء والجمع يوم الحشر ، وعدد آياتها (24) آية .
وابتدأت وانتهت بآيتين من آيات التسبيح لله عز وجل ، وقد ورد فيها لفظ الحشر مرة واحدة بخصوص بني النضير ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
وتسميتها هذه توقيفية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في روايات منها :
الأولى : (عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال حين يصبح عشر مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة)( ).
الثانية : (عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ خواتيم الحشر في ليل أو نهار فمات في يومه أو ليلته فقد أوجب له الجنة) ( ).
الثالثة : (عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ آخر سورة الحشر غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر)( ) .
وأول كلمة نزولاً اقرأ لبيان وجوب طلب العلم ، وبينه وبين الإرهاب تضاد وتناف ، ولذا فمن إعجاز القرآن نهي أول كلمة منه عن الإرهاب .
ثم جاء تقييد القراءة بأنها باسم الله ، وبصيغة الإيمان ، وأن الأولى في القراءة هو قراءة آيات القرآن ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ]( ) لبيان أن قراءة القرآن عصمة من الإرهاب وزاجر عنه .
لقد أراد الله عز وجل للناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العامة فهداهم إلى أداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، وقال تعالى بخصوص شهر رمضان ووجوب صيامه [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) وقال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
وكل فريضة عبادية واقية من الإرهاب ، وهي مجتمعة عصمة منه ، ودعوة للمسلمين للأمر بالأمن والسلم المجتمعي ، والنهي عن العنف والتطرف والإرهاب .
ومن إعجاز القرآن أن أول كلمة وأول آية منه تنهى عن الإرهاب ، وتبرء ساحة المسلمين منه ، وإذا تعدى وقام به بعضهم فهو لا يمثل إلا نفسه .
قانون أكثر الكلمات نطقاً باليوم الواحد تنهى عن الإرهاب
قال تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ]( ).
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الدنيا دار الحمد والشكر له سبحانه ، وجعل القرآن مرآة لها فهو كتاب الحمد والشكر له سبحانه فيبدأ نظم القرآن بالبسملة ، وهي من مصاديق الإقرار بالعبودية لله عز وجل ، ورجاء الخير والبركة منه سبحانه .
ثم يأتي بعد البسملة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) هي الآية الثانية من سورة الفاتحة ، ولعل كلمة الحمد لله والشكر لله أكثر الكلمات نطقاً من قبل أهل الأرض بعد التكبير (الله أكبر) الذي يؤتى به في تكبيرة الإحرام ، وفي حال الانتقال من ركن إلى ركن في الصلاة عند الركوع ثم السجود ، وعند الرفع من السجود ثم السجود الثاني ، والرفع منه .
سواء للإمام أو المنفرد أو المأموم ، ذكراً أو أنثى ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية بأن يكون صدور نداء الله أكبر من كل فرد من أمته وعلى نحو التعدد اليومي وفي حال خشوع وعبادة وقد يكون أكثر الألفاظ والكلمات التي يرددها ويقولها أهل الأرض ، وفيه استدامة للحياة الدنيا وسعة الرزق فيها ، وتوالي النعم والبركة على أهل الأرض .
فلا بأس في إحصاء أكثر الكلمات التي ينطق بها أهل الأرض في اليوم والليلة سواء في العبادات وعدد أهل وأتباع كاملة أو في المعاملات ، وتلاوة القرآن والإنجيل والتوراة والكتب المقدسة عند الملل الأخرى ، ولغة التخاطب بين الناس ، فلابد لهذه الإحصائية من الإحاطة بحياة الشعوب اليومية.
وتستقرأ منها أن أكثر الكلمات هي الفاظ العبادة والإنقياد لله عز وجل ، وفيه بيان إلتقاء الناس في العبودية لله عز وجل ، وحب الله ونهي ومنع من الإرهاب ، وهل من مصاديق قوله تعالى [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( )، أن ذكر الله عز وجل في كل زمان هو أكثر الكلمات نطقاً ، الجواب نعم ، وهذا من إعجاز القرآن ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
والنسبة بين ذكر الله وبين التكبير والبسملة عموم وخصوص مطلق ، فالذكر أعم وأكثر ، ولا يختص بالمسلمين وألفاظ العبادة والتلاوة بل يشمل ذكر أهل كل ملة لله عز وجل .
ويكون معنى وتقدير الآية على وجوه :
الأول : فهو أكبر وأكثر من كل لفظ آخر ، وقد صدر الجزء الخامس والأربعون بعد المائتين ، والثامن والأربعون بعد المائتين من هذا السٍفر بخصوص (علم الإحصاء القرآني غير متناه).
ومن الكلمات التي يرددها المسلمون بكثرة (السلام عليكم) لبيان معجزة في نظم الحياة اليومية وهي أكثر الكلمات التي ينطقها أهل الأرض دعوة للسلم المجتمعي وإشاعة للرفق والتراحم .
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية المتجددة كل يوم .
ومن الكلمات التي ينطقها الناس مع إختلاف لغاتهم هي (ألو) في الرد على الهاتف ، والأرجح انها اختصار لكلمة (Hello) ومعناها مرحباً بالانكليزية ، وقد تكون كلمة استفهام تعجبي من قبل المتلقي للإتصال الهاتفي .
والنعم التي تأتي بلفظ (الله أكبر ) والبسملة و(الحمد لله ) تشمل البر والفاجر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بأن يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا ليترك لأجيال المسلمين ما فيه الرحمة والبركة .
وأكثر الكلمات التي يحصيها الملائكة وأكثر كلمات التوحيد والحمد لله عز وجل ، وفيه شاهد على أن الإسلام دين الرحمة والتراحم ، والتنزه عن الإرهاب ، وإيقاع الضرر بالناس.
لقد جلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البركة لأهل الأرض ،فلا يصح أن يأتي من ينتسب إليه بالفعل الذي يؤذي الناس .
وتستقرأ المواعظ والدروس من قول (الله أكبر) وقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) ومن الجمع بينهما بما ينشر ألوية السلام والطمأنينة على المجتمعات ، ورجاء غد مشرق .
قانون الإسلام دين العلم والمعرفة
من بركات أول آية نزولاً من القرآن دخول الناس الإسلام أفواجاً وهم يعلمون أنه دين العلم والمعرفة والصلاح ، ويترشح الصلاح عن تقييد القراءة بأنها بسم الله وبذكره .
ومن معاني أول كلمة من القرآن بخصوص موضوع هذا البحث وجوه :
الأول : قانون أول كلمة نزولاً من القرآن سلام وأمن .
الثاني : قانون أول كلمة نزولاً من القرآن حجة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
الثالث : (اقرأ) دعوة للناس للتدبر في عقيدة التوحيد التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : قانون بيان أول كلمة نزولاً من القرآن الحاجة العامة إلى العلم ، وعن (أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سيأتيكم قوم يطلبون العلم ، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا)( ) .
وهذا الحديث من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من المغيبات وهؤلاء غير الطائفة التي تتفقه في الدين عند النفر الوارد في قوله تعالى [فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) ولكنهم يصيرون منها زيادة فيها ، إنما أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مجئ أفراد وجماعات من التابعين بقصد طلب العلم والتفقه في الدين ، والإختصاص فيه ، فلا يصح نعتهم بالقعود ، بل لابد من إعانتهم في أرزاقهم وطلبهم العلم ، وهم من حماة الشريعة بالعلم ، وبيان قبح الظلم ، وتبرأ القرآن والسنة النبوية من الإرهاب.
الخامس : قانون العلم يقود إلى الإيمان .
السادس : قانون الملازمة بين الإرهاب والجهالة .
السابع : الأمر في (اقرأ) خطاب للنبي وتلحق به الأمة.
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اقرأوا باسم ربكم.
وهل تشمل الآية المنافقين والمنافقات ، الجواب نعم ، وأنهم نطقوا بالشهادتين ، ومن منافع أول آية من القرآن رجوع كثير من المنافقين إلى مسالك الإيمان.
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تناقص عدد المنافقين مع نزول كل آية من القرآن ، وكل واقعة يتجلى فيها الإعجاز والمدد الإلهي .
التيمم بالصعيد
التيمم في الإصطلاح (اتخاذ التراب مادة للطهور وفق فعل مخصوص واصل تشريعه قوله تعالى [فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا]( )، وعليه النصوص المتواترة والإجماع، ومسوغه تعذر الماء والعجز عن استعماله، ويتحقق بأمور:
الأول: عدم تحصيل الماء بقدر الكفاية للغسل أوللوضوء سواء كان المكلف في حضر او سفر، فتنتقل وظيفته للتيمم وان وجد مقداراً من الماء غير كاف، نعم يجب الفحص عن الماء وهو على قسمين :
أولاً : في الحضر ، ويجب الفحص إلى حد القطع الظن العادي بتعذر الماء.
ثانياً : في البرية ، ويكفي طلب الماء غلوة سهم في الأرض الحزنة أي الوعرة، وغلوة سهمين في السهلة وفي الجوانب الأربعة، والغلوة هي رمية السهم وقيل انها من ثلاثمائة ذراع الى اربعمائة هذا مع احتمال وجود الماء في الجهات الأربعة، ويسقط الفحص في الجهة التي يعلم بعدمه فيها ويسقط في الجميع مع العلم بعدمه فيها جميعاً كما لو شهد عدلان بعدم الماء في جميع الجوانب ، وما أفاده التحقيق العلمي.
(مسـألة982) لا تجب المباشرة في طلب الماء ، وتجوز الإستنابة فيه.
(مسـألة983) اذا احتمل وجود ماء في بيته وضمن ملكه وقدرته الشرعية وجب الفحص عنه، وكذا لو احتمله في رحله او القافلة اثناء السفر.
(مسـألة984) اذا طلب الماء قبل دخول وقت الصلاة ولم يجده، ثم احتمل العثور عليه بعد دخول الوقت فلا تجب اعادة الطلب، وكذا في غيرها من الصلوات ، والأحوط الإعادة في الصورة الأخيرة مع احتمال العثور.
(مسـألة985) اذا كان وقت الصلاة مضيقاً كما لو لم يبق لطلوع الشمس الا مقدار ركعتين يسقط وجوب الطلب وتنتقل وظيفته الى التيمم.
(مسـألة986) اذا ترك الطلب حتى ضاق الوقت اثم، ولكن صلاته صحيحة، وكذا لو ترك الطلب وصلى في سعة الوقت على الأقوى وللنصوص لأن الطلب ليس شرطاً في صحة التيمم ولأن التكاليف الإضطرارية كالتيمم لا تختص بحال الإضطرار التام.
(مسـألة987) اذا طلب الماء بمقتضى وظيفته من غير تفريط او تقصير متعمد فلم يجد وتيمم وصلى ثم تبين وجود الماء في محل الطلب كما لو كان ضمن منزله في الحضر فان صلاته صحيحة ولا تجب الإعادة والقضاء، وكذا لو اعتقد ضيق الوقت عن الطلب فتركه وتيمم وصلى ثم تبين سعة الوقت.
(مسـألة988) اذا كان عنده ماء كاف للوضوء او الغسل فلا يجوز اراقته اذا علم بوجود ماء آخر.
(مسـألة989) اذا كان في طلب الماء خوف على نفسه او ماله او نحوهما، يسقط وجوب الطلب، وكذا لو كان فيه حرج ومشقة لا تحتمل.
(مسـألة990) اذا كانت بعض جوانب الأرض حزنة وبعضها سهلة يلحق كلاً منها حكمه من الغلوة والغلوتين.
الثاني: عدم الوصول الى الماء الموجود بسبب العجز من كبر او خوف من سبع او لص او لتعذر الآلة التي يستقي بها كالدلو والحبل ونحوه.
(مسـألة991) اذا توقف تحصيل الماء على شراء آلته وانائه ونحوهما او على شراء الماء وجب الا ان يكون مضراً بحاله.
(مسـألة992) يجب شراء او استئجار آلة او اناء الماء ولو باضعاف العوض المتعارف اذا توقف تحصيل الماء عليهما، الا ان يكون فيه ضرر او حرج او مشقة.
(مسـألة993) لو وهبه غيره ماء من غير حرج او منّة وجب القبول، ولو تمكن من حفر بئر قام به.
الثالث: الخوف من استعمال الماء على نفسه وبدنه او احتمال مرض او بطئ برء مرض مصاب به وصعوبة علاجه ونحوه مما يعسر تحمله عادة، كما لو كان الماء يسبب في بشرته خشونة موجبة لتشقق الجلد او خروج الدم، ويكفي الظن العادي في هذا الخوف او قول الطبيب الحاذق.
(مسـألة994) اذا تيمم باعتقاد الضرر او خوفه فتبين عدمه صح تيممه وصلاته، الا ان يكون التبين قبل الدخول في الصلاة فيجب الوضوء او الغسل، وكذا يصح الوضوء والإغتسال باعتقاده عدم ضررهما ثم يتبين وجود الضرر.
(مسـألة995) لو اجنب مع العلم بعدم وجود الماء او كون استعماله مضراً صح تيممه.
(مسـألة996) قيل لا يجوز للمتطهر بعد دخول الوقت ابطال وضوءه بالحدث الأصغر اذا لم يتمكن من الوضوء بعده لعدم جواز تفويت التكليف الإختياري المنجز، والأقوى الجواز على كراهة لإطلاقات الطهارة البدلية وعمومات موثقة عمار عن الكاظم عليه السلام.
الرابع: الحرج في تحصيل الماء او في استعماله.
الخامس: الخوف من استعمال الماء على عياله او متعلقيه، كما لو خاف باستعماله عطش الولد ومن يجب حفظه او حصول مشقة وحرج، ويكفي ما يوجب الخوف.
السادس: وجود ما هو أهم من الوضوء او الغسل في استعمال الماء، فلو كان بدنه او ثوبه نجساً ولا يكفي ما عنده من الماء الا لرفع الحدث بالوضوء والغسل او لرفع الخبث بتطهير النجاسة، فيجب استعماله في رفع الحدث ويتيمم لأن للوضوء بدلاً هو التيمم بخلاف رفع الخبث، والأولى ان يرفع الخبث ثم يتيمم ليتحقق كونه فاقداً للماء حال التيمم، ولو اغتسل حينئذ صح.
السابع: ضيق الوقت عن استعمال الماء بحيث يلزم من الغسل او الوضوء خروج وقت الصلاة، ووقوعها خارج الوقت، والمناط على ادراك ركعة منها في الوقت، فلو دار الأمر بين التيمم وادراك تمام الوقت، او الوضوء وادراك ركعة او ازيد من غير تفويت قدم الثاني.
(مسـألة997) اذا كان واجداً للماء وأخر الصلاة عمداً الى ان ضاق الوقت عصى، ولكن تيممه وصلاته محكومان بالصحة.
(مسـألة998) اذا شك في سعة الوقت وضيقه بنى على بقائه وتوضأ واغتسل للإستصحاب واصالة بقاء الوقت.
(مسـألة999) اذا كان قادراً على تحصيل الماء وضاق الوقت، وكان تحصيله يستلزم خروج الوقت انتقلت وظيفته الى التيمم لأنه يصدق عليه عدم الوجدان والتمكن من استعماله ولقاعدة تقديم الأهم وهو أداء الصلاة في الوقت على المهم.
(مسـألة1000) من كانت وظيفته التيمم من جهة ضيق الوقت عن استعمال الماء اذا خالف وتوضأ او اغتسل صح على الاقوى، سواء كان لقصد الصلاة او بقصد الكون على الطهارة ونحوه من الغايات.
(مسـألة1001) الذي تيمم لضيق الوقت يجب عليه تحصيل الماء للصلاة الأخرى، وان توانى قصر، ولكن يجوز له مع ضيق وقت الأخرى الصلاة بالتيمم الأول على الأقوى.
(مسـألة1002) التيمم لضيق الوقت تستباح به الغايات الأخرى على الأقوى فيجوز مثلاً مس كتابة القرآن.
(مسـألة1003) المقصود بضيق الوقت عدم استيعابه لواجبات الصلاة فقط لا المستحبات معها، فلو كان الوقت كافياً للواجبات دون المستحبات وجب الوضوء والاقتصار عليها.
(مسـألة1004) لو تيمم باعتقاد ضيق الوقت فبان بعد الصلاة سعته فالأقوى صحة التيمم والصلاة اما لو تبين قبل الشروع في الصلاة سعة الوقت للوضوء والصلاة فيجب عليه الوضوء للصلاة.
الثامن: عدم امكان استعمال الماء لمانع شرعي كما اذا كان الماء منحصراً بالمغصوب.
(مسـألة1005) يجوز التيمم مع التمكن من استعمال الماء في موضعين الأول صلاة الجنازة وان لم يخش فوت الصلاة مع الوضوء، والثاني اذا آوى الى فراشه برجاء المطلوبية لأن الوضوء فيهما استحبابي.
ما يصح به التيمم
(مسـألة1006) يجوز التيمم على مطلق وجه الأرض على الأقوى وأدعي عليه الإجماع سواء كان تراباً او رملاً او حجراً او مدراً او غير ذلك لصدق اسم الصعيد عليه.
(مسـألة1007) لا يجوز التيمم على المعادن كالذهب والفضة والملح والعقيق ونحوها مما لا يصدق عليه اسم الأرض لغة وعرفاً.
(مسـألة1008) لو فقد الماء و ما يصح التيمم به يجوز التيمم بغبار الثوب والجدار ونحوهما مما فيه غبار اذا تمكن من جمع هذا الغبار بالنفض ونحوه.
(مسـألة1009) لو فقد الغبار ايضاً تيمم بالطين اذا لم يمكن تجفيفه والا وجب التجفيف.
(مسـألة1010) لو فقد الماء للوضوء وما يصح التيمم به يكون فاقداً للطهورين، والأقوى فيه سقوط الأداء ووجوب القضاء , وقيل باستحباب الأداء أيضا. وفاقد الطهورين هو الذي لا يجد الماء أو التراب , أو يتعذر عليه استعمال أي منهما لتحصيل الصلاة في وقتها للضرر .
(مسـألة1011) لو لم يجد فاقد الطهورين الا الثلج والجمد ولم يمكن اذابته يصح المسح به على اعضاء الوضوء.
(مسـألة1012) مع جواز التيمم بمطلق وجه الأرض فالأحوط تقديم التراب مع وجوده ومع فقده الرمل ثم المدر أي قطع الطين المعدة للبناء ثم الحجر.
(مسـألة1013) في حال عدم وجدان التراب والمدر والحجر والغبار والطين يجوز التيمم بالجص المطبوخ والآجر والخزف والرماد.
(مسـألة1014) لو تيمم بالطين فلصق بيده يجب ازالته ثم المسح بها.
(مسـألة1015) لا يجوز التيمم بالتراب والطين الممزوج بغيره كالتبن والرماد الا اذا كان المخلوط مستهلكاً فيهما.
(مسـألة1016) اذا كانت وظيفته التيمم فيجب تحصيل ما يتيمم به مع الإمكان وعدم الحرج ولو كان تحصيله بالشراء.
(مسـألة1017) يجوز التيمم بالأرض الندية والتراب الندي والمبتل اختياراً، والأولى تقديم اليابس منه.
(مسـألة1018) اذا تيمم بما يعتقد جواز التيمم به فبان خلافه بطل، واذا صلى به فتجب الإعادة في الوقت والقضاء خارجه، اما لو اعتقد انه من المرتبة المتقدمة فبان انه من المتأخرة فالاقوى صحة صلاته تلك.
شرائط ما يتيمم به
(مسـألة1019) يشترط فيما يتيمم به ان يكون طاهراً، فيبطل التيمم بالنجس وان كان جاهلاً نجاسته او ناسياً لها لأنه شرط واقعي، واذا لم يكن عنده من مراتب التيمم المتقدمة الا النجس ينتقل الى اللاحقة فلو كان ما عنده من التراب نجساً فينتقل الى الرمل وهكذا.
(مسـألة1020) يشترط ان يكون ما يتيمم به مباحاً، ولكنه يصح مع الجهل بالغصبية او نسيانها.
(مسـألة1021) اذا اشتبه التراب بغيره تيمم بهما، واذا اشتبه المباح بالمغصوب اجتنبهما معاً، وكذا لو كان عنده ترابان يعلم ان احدهما نجس.
(مسـألة1022) لو انحصر طهوره بماء او تراب يعلم انه مغصوب او هما معاً يكون فاقد الطهورين.
(مسـألة1023) يجوز التيمم بالتراب مشكوك الطهارة لإصالة الطهارة الا مع العلم بأن حالته السابقة النجاسة لإستصحابها.
(مسـألة1024) لو شك في كون الذي عنده هل هو تراب او غيره مما لا يتيمم به فانه ينتقل الى المرتبة اللاحقة فيما يتيمم به.
(مسـألة1025) المحبوس في مكان مغصوب يجوز ان يتيمم فيه على الأظهر، نعم التصرف في الماء اذا كان له قيمة يعد تصرفاً زائداً فلا يخلو من اشكال.
(مسـألة1026) اذا لم يكن عنده من التراب او غيره مما يتيمم به ما يكفي لكفيه معاً يكرر الضرب حتى يتحقق الضرب بتمام الكفين عليه.
(مسـألة1027) يستحب ان يكون ما يتيمم به من ربى الأرض وعواليها لبعده عن النجاسة وان يكون عليه غبار يعلق باليد وهو المشهور، ويستحب ايضاً نفض اليدين بعد الضرب وعليه الإجماع، ويجوز التيمم من الغبار الذي على الحائط اذا لم يتيسر الأفضل، والأولى مراعاة الأكثر فالأكثر.
(مسـألة1028) يكره التيمم بالأرض السبخة اذا لم يكن يعلوها الملح والا فلا يجوز لأن الملح من المعادن، وكذا يكره بمهابط الأرض وتراب الطريق.
كيفية التيمم
يجب في التيمم :
اولاً : ضرب باطن الكفين معاً دفعة على الأرض، فلا يكفي الوضع بدون الضرب على المشهور وفي حال الإضطرار يكفي وضعهما ويجوز بظاهرهما.
ثانياً : مسح الجبهة بتمامها والجبينين باليدين ومن قصاص الشعر الى طرف الأنف الأعلى والحاجبين، والأحوط كون المسح بمجموع الكفين على المجموع.
ثالثاً : مسح تمام ظاهر الكف اليمنى بباطن اليسرى ثم مسح تمام ظاهر اليسرى بباطن اليمنى من الزند الى اطراف الأصابع، والزند هو ملتقى الساعد مع الكف)( ).
وهناك مسائل بخصوص شرائط التيمم ، وأحكام التيمم ، ذكرناها في الرسالة العملية (الحجة) وفي مباحث الفقه.
وفي التطهر اليومي للصلاة تنمية لملكة الطهارة من الذنوب عند المسلمين متفرقين ، ومجتمعين ، كما في أثر صلاة الجماعة وترى ما هي النسبة بين الذنوب والإرهاب ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالذنوب أعم.
تعدد أقسام الواجب
يقسم الواجب إلى أقسام :
التقسيم الأول : وهو على شعبتين :
الأول : الواجب المطلق مثل الصلاة ، وحتى الصلاة مشروطة بدخول الوقت كزوال الشمس لصلاة الظهر، ولكن هذا الشرط كوني ، وهو علامة على دخول وقت الصلاة .
الثاني : الواجب المشروط مثل شرط الإستطاعة في أداء الحج قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
ولكن المراد من الإطلاق بخصوص المكلف وليس الآيات الكونية وترجع القيود إلى الواجب وليس الوجوب فوجوب الحج فعلي ، ولكن الواجب في أشهر الحج وكذا بالنسبة للصيام ، فوجوبه فعلي والخطاب بتكليفه قائم بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، ولكن الواجب عند رؤية هلال شهر رمضان لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) والإستقامة والخلق الحميد واجب مطلق ، ويتنافى الإرهاب معه .
التقسيم الثاني : وهو على شعبتين :
الأولى: الواجب النفسي : وهو مطلوب لذاته كالصلاة.
الثانية : الواجب الغيري كالوضوء فهو مطلوب للتوصل لأداء واجب آخر وهو الصلاة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) والتنزه والإبتعاد عن القيام بفعل إرهابي واجب نفسي وغيري لأن الإرهاب مناف للفطرة الإنسانية ، ولأنه ضرر محض على الذات والغير .
التقسيم الثالث : وهو على شعبتين :
الأولى : الواجب المؤقت .
الثانية : الواجب غير المؤقت كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحياناً ، وينقسم الواجب المؤقت إلى فردين :
الأول : الواجب الموسع وهو الذي يكون زمانه ومدته أطول من وقت الأداء كوقت صلاة الفجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، بينما مدة أداء الصلاة لا تتجاوزخمس دقائق .
الثاني : الواجب المضيق الذي يكون أداء الواجب بمقدار الوقت مثل صيام أيام شهر رمضان فهو واجب عيني في وقت مضيق وتعييني .
التقسيم الرابع : وهو على شعبتين :
الأولى : الواجب المنجز ، ومن المنجز وجوب الصيام عند رؤية هلال شهر رمضان .
الثانية : الواجب المعلق كحصول الإستطاعة عند المكلف قبل أوان الحج فان الحج لا يكون إلا في أوانه ، فلذا سمى الله عز وجل يوم العاشر من شهر ذي الحجة يوم الحج الأكبر.
ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسمية يوم التاسع من شهر ذي الحجة بيوم عرفة .
التقسيم الخامس : وهو على شعبتين :
الأولى : الواجب المعين .
الثانية : الواجب المخير مثل كفارة اليمين فهي واجب والمكلف مخير بين ثلاثة أفراد عتق رقبة أو اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ثم تكون تعيينية عند التعذر بصيام ثلاثة أيام ، قال تعالى [لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) والأمر بالصلاح وحسن الخلق واجب معين .
تقسيم جديد للواجب الكفائي
يمكن تقسيم الواجب الكفائي تقسيماً مستحدثاً استقرائياً من القرآن إلى أقسام :
الأول : الواجب الكفائي الشخصي ، كرد التحية ، قال تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا]( )، فرد السلام من قبل فرد من الجماعة يغني ويكفي وإن لم يرد أحدهم يؤثمون جميعاً ، وكغسل وتكفين الميت .
الثاني : الواجب التخصصي المتعدد ، وهو الذي يلزم جماعة من ذوي الإختصاص ويدل عليه قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
ولابد من بذل العلماء والأدباء ورجال الإعلام الوسع في الدعوة إلى الرفق والرحمة والإحسان بين الناس بما يغلق باب الإرهاب ومقدماته ويبين حرمته .
وهل هذه الآية من علم المغيبات وأن الله عز وجل يعلم أن المسلمين سيكونون على فرق ومذاهب متعددة ، المختار نعم ، وهل في هذه الآية ذم لهذا الإنشطار ، الجواب لا ، إنما تدعو لبعث طائفة من كل فرقة للتفقه في القرآن والسنة ، ويكون عمل واجتهاد هذه الطوائف نوع تقارب بين المذاهب ، وتعاهد لوحدة المسلمين ، وهذه الوحدة ضرورة لنبذ العنف والتكفير والإرهاب .
وكلهم يسلمون بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقوله (خذوا عني مناسككم)( ) مع توثيق كتب التفسير والسنة كيفية صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليومية وأدائه مناسك الحج في حجة الوداع إذ كان معه ستون ألفاً وقيل مائة ألف من الصحابة.
وهل من مفاهيم هذه الآية حرمة تكفير بعض فرق المسلمين لبعضها الآخر ، الجواب نعم ، للألوية في قوله تعالى [وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالث : الواجب الطوعي المتعدد الذي يدل عليه قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ومن الخير نشر ألوية السلم والحلم والأمن بين الناس ، ومن الأمر بالمعروف العصمة عن الإرهاب وسفك الدماء ، ومن النهي عن المنكر بيان قانون الإرهاب منكر ويجب إجتنابه والتنزه عنه .
قانون استقراء التضاد بين القرآن والإرهاب من آيات (قل)
من إعجاز القرآن تعدد وكثرة الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قل) وأكثر الكلمات وروداً في القرآن هي :
الأولى : اسم الجلالة وورد (2699) مرة في القرآن .
الثانية : لفظ يوم ومشتقاته (472) مرة في القرآن منها بصيغة المفرد المعرف (اليوم ) ثلاثمائة وثمانية وأربعون مرة ، وبصيغة الجمع سبع وعشرون مرة منها قوله تعالى [وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ]( ).
لبيان وجوب تعاهد المسلمين الأمن في الحضر والطرق العامة ووسائل السفر البرية والجوية والبحرية .
الثالثة : لفظ (قل) وذكر في القرآن (332) مرة .
وباستثناء أربعة من لفظ (قل) في القرآن فان (328) مرة كلها خطاب وأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه إكرام وتفضيل له ، وشاهد بأنه أكثر الأنبياء ذكر في القرآن .
والأصل أن كل لفظ (قل) في الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو إلى كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة إلا ما دلّ الدليل على أنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مخصصاته [إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ) ولكن هذا لا يمنع من استقراء المسلمين المسائل والقوانين من هذا اللفظ.
مثل : يا أيها الناس أن رسول الله إليكم جميعاً بالسلم ونشر الأمن على المجتمعات والطمأنينة للنفوس .
وفيه دعوة لكل مسلم لحمل لواء السلم والتنزه عن الإرهاب ومقدماته سواء في البلدان الإسلامية أو أمصار الأرض كلها ، وهذا العموم هو المستقرأ من سور الموجبة الكلية [جَمِيعًا]في الآية أعلاه .
ومن الإعجاز في المقام نهي آيات (قل) عن الإرهاب ومقدماته والدعوة إليه .
والنسبة بين آيات (قل) وآيات [يَسْأَلُونَكَ] الخمس عشرة العموم والخصوص المطلق ، لورود الجواب على أسئلة الآيات أعلاه من عند الله عز وجل بلفظ (قل) وكلها تدعو للصلاح والإحسان والمنفعة في الدين.
والنسبة بين كل من هذه الأفراد الثلاثة والإرهاب هو التضاد والتنافي منه قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
ويدل الأمر بالإنفاق على الوالدين والأقربين بالأولوية القطعية على عدم إيذائهم بالإرهاب وإصابتهم بالحزن والكآبة والمساءلة القانونية عند قيام الذي يمت لهم بصلة بعمل إرهابي .
وتدل الآية في مفهومها على حرمة الإنفاق والبذل على الإرهاب ومقدماته ، ونشره والترويج له ، لأنها تبين موضوع الإنفاق وهو الإحسان والإعانة المالية بما يدفع الحاجة والفاقة .
وقد ذكرت الآية أعلاه أمرين :
الأولى : الإنفاق من الخير أي من المال .
الثانية : فعل الخير بقوله تعالى [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ]( ).
والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فعمل الخير هو الأهم ، والإنفاق جزء منه ، وتدل عليه خاتمة الآية وإكتفاؤها بضمير المفرد (به) الشامل للإنفاق والخير مجتمعين ، وليس من حصر لوجوه الخير والعمل الصالح .
وإذ ذكرت الآية أعلاه الذين ينفق عليهم ، فمن إعجازها ذكرها لعمل الخير مطلقاً ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : وما تفعلوه من خير لأنفسكم .
الثاني : وما تفعلوه من خير لأهل الكتاب .
الثالث : وما تفعلوه من خير لإخوانكم .
الرابع : وما تفعلوه من خير للأجيال اللاحقة .
الخامس : وما تفعلوه من خير لأهل الأرض .
السادس : وما تفعلوه من خير يكون مانعاً من الإرهاب .
السابع : وما تفعلوه من خير من تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات بما فيه الوقاية من الإرهاب .
وإذ يكون الإنفاق حسب اليسر والقدرة فان فعل الخير شامل للمسلمين والناس جميعاً ، فكثير من مصاديقه لا تستلزم الإنفاق وبذل المال .
وأختتمت الآية أعلاه بالترغيب بالصالحات وإجتناب السيئات بالإخبار بأن الله عز وجل يعلم بكل فعل صالح يقوم به الفرد أو الجماعة أو الطائفة ، ليدل في مفهومه على الإنذار من فعل السيئات ، ومن الظلم والتعدي .
ومن خصائص المؤمن لهجه بالدعاء وسؤال الله عز وجل ، ومما يسأله الخلود ، فأخبر الله عز وجل عن استجابته لهذا الدعاء من قبل أن يخلق آدم ، وتبعث فيه الروح بأن يكون الخلود في الآخرة ، وهو على قسمين متناقضين :
الأول : الخلود في نعيم الجنان .
الثاني : الخلود في نار الجحيم .
قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( )وقد رزق الله سبحانه الإنسان العقل ليكون عوناً وضياء للسعي إلى الخلود في النعيم ، والعصمة من دخول النار .
قانون نهي العقل عن الإرهاب
من موارد وظائف العقل الإيمان والتقوى ، وكل فرد منهما ينهى عن الإرهاب ، ويبين قبحه الذاتي وحجبه صاحبه عن النعيم في الدنيا والآخرة , ومن المؤمنين من يدخل الجنة للإحسان ولإمتناع عن بث الخوف بين الناس وحزن وعذاب .
ومن مصاديق التضاد بين العقل النوعي والإرهاب حال الإزدراء العام من الإرهاب ، وإستحواذ النفس الغضبية على الجوارح والإقدام على سفك الدماء .
و(عن ابن عباس قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل يمر بالنبي والنبيين معهم الرهط ، والنبيين معهم القوم والنبي والنبيين ليس معهم أحد ، حتى مر بسواد عظيم .
فقلت : من هؤلاء .
فقيل موسى وقومه ، ولكن ارفع رأسك وانظر ، فإذا سواد عظيم ، قد سد الأفق من ذا الجانب وذا الجانب ، فقيل لي : هؤلاء وسوى هؤلاء من أمتك ، سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب .
قال : فدخل ولم يسألوه بأنفسهم ولم يفسر لهم .
فقال قائلون : نحن هم .
وقال قائلون هم أبناؤنا الذين ولدوا في الإسلام ، فخرج فقال : هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون .
فقام عكاشة بن محصن فقال : أنا منهم يا رسول الله؟
فقال : أنت منهم ، فقام رجل آخر فقال : أنا منهم؟
قال : سبقك بها عكاشة)( ).
ومن خصائص يوم القيامة عرض الله عز وجل أفعال الناس عليهم ، ومنها المصاديق اليومية لقوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )وكيف أن الله عز وجل صرف عن العبد المكروه والبلاء الشديد ، مما يلزم مقابلته بالشكر له تعالى بالإقبال على الفرائض ، والتنزه عن الظلم والجور والتعدي على الآخرين في أنفسهم وأموالهم .
والجنة واللبث الدائم فيها غاية كل مؤمن ، ولابد من السعي والإجتهاد ، وجهاد النفس ، وإتخاذ الصبر والتقوى بلغة إليها ، ومغادرة الدنيا بالصلاح والتنزه عن الإضرار بالناس ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي على الذي عليه دين للناس ، لبيان أن حقوق الناس لا تغتفر ، ومن باب الأولوية القطعية أن ظلم الناس وإخافة المجتمعات وإرهابهم لا يغتفر أيضاً .
فصحيح أن هذه الإخافة لا أثر مادي عام لها مثل سفك الدماء والجرح إلا أنه إضرار عام وحال فزع عامة بسبب عمل إرهابي منفرد ، وتعطيل للأعمال ، وتبدل وتغيير بالإنفاق الشخصي والعام ، إذ تتجد الدول إلى زيادة الإنفاق على الأمن وصنوف منتسبيه وتسخير الإعلام للتوقي من الإرهاب .
كما ينهى العقل صاحبه عن القيام بعمل إرهابي ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) ولم يرد لفظ التهلكة في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن إعجاز القرآن اقتران هذا النهي بالأمر بالإحسان لبيان أن الله عز وجل لا يرضى للمسلم بالإكتفاء بالإمتناع عن الإرهاب بل لابد وأن يحسن لنفسه وإخوانه والناس جميعاً .
و(أخرج أحمد والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَين)( ).
وعلى إرادة المعنى العام للدَين ، فان الذي يقوم بالإرهاب والتفجيرات العشوائية لا يصدق عليه أنه شهيد لأن ديون الناس تلاحقه ليس في المال وحده بل بما هو أعظم من المال من النفوس وزهوق الأرواح ، وما يترتب عليه من الأضرار الإجتماعية وإصابة عوائل باليتم والفقر .
معجزات الأنبياء زاجر عن الإرهاب
من حب الله عز جل للناس تفضله ببعث الأنبياء على نحو التعاقب والتوالي ، وقد يكون نبيان أو رسول ونبي في زمان وبلدة واحدة أو أكثر ، وخلافة الإنسان في الأرض نصرة من الله عز وجل للأنبياء وأهل الإيمان ، وللمنع من الإرهاب ، وهو من مصاديق استدامة مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ليكون تقدير هذه الآية على وجوه :
الأول : قانون النبي خليفة لله في الأرض .
الثاني : قانون بعث النبي لإستدامة خلافة الناس العامة في الأرض .
الثالث : قانون النبي فرد من خلفاء الأرض يتصف بالإيماء له من عند الله عز وجل ، وفي خطاب وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ]( ).
والمعجزة أمر خارق للعادة تجري على يد النبي وغالباً ما تكون من نوع العلم أو الفن الذي برع فيه قومه وأهل زمانه ، فمعجزة نوح بناء سفينة في الرمال وإستدامة بنائها ، وقيل بدأ ببنائها وعمره خمسمائة عام ، واستمر بناؤها مائة عام ، وهي من ثلاث طوابق ، وقيل بناها في أربعين سنة .
(وروي أنّ نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين ، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً ، وكانت من خشب الساج.
وجعل لها ثلاثة بطون ، فحمل في البطن الأسفل : الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط : الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد.
وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء ، وعن الحسن: كان طولها ألفاً ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة)( ).
والحسن البصري (21-110) هجرية تابعي فقيه مولى زيد بن ثابت الأنصاري ولد ونشأ في المدينة المنورة وتزوج فيها ، وسافر إلى كابل وعمل كاتباً للربيع في خراسان أيام معاوية ثم استقر في البصرة ، وأبوه من سبي ميسان.
و(حدث أبو علي الأهوازي، قال سمعت أبي يقول، كان بين الحسن البصري وبين ابن سيرين هجرة، فكان إذا ذكر ابن سيرين عند الحسن يقول: دعونا من ذكر الحاكة، وكان بعض أهل ابن سيرين حائكاً، فرأى الحسن في منامه كأنه عريانٌ، وهو قائمٌ على مزبلة يضرب بالعود ، فأصبح مهموماً برؤياه، فقال لبعض أصحابه: ” امض إلى ابن سيرين، فقص عليه رؤياي على أنك أنت رأيتها.
فدخل على ابن سيرين وذكر له الرؤيا فقال ابن سيرين : قل لمن رأى هذه الرؤيا، لا تسأل الحاكة عن مثل هذا .
فأخبر الرجل الحسن بمقالته، فعظم لديه، وقال: قوموا بنا إليه، فلما رآه ابن سيرين، قلم إليه وتصافحا وسلم كل واحدٍ منهما على صاحبه، وجلسا يتعاتبان .
فقال الحسن : دعنا من هذا، فقد شغلت الرؤيا قلبي.
فقال ابن سيرين : لا تشغل قلبك فإن العري عريٌ من الدنيا، ليس عليك منها علقة. وأما المزبلة فهي الدنيا، وقد انكشفت لك أحوالها، فأنت تراها كما هي في ذاتها، وأما ضربك بالعود، فإنه الحكمة التي تتكلم بها وينتفع بها الناس .
فقال له الحسن : فمن أين لك أني أنا رأيت هذه الرؤيا .
قال ابن سيرين : لما قصها علي فكرت، فلم أر أحداً يصلح أن يكون رآها غيرك.
وقال رجل لابن سيرين قبل موت الحسن : رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاةٍ بالمسجد ، فقال ابن سيرين : إن صدقت رؤياك؛ مات الحسن . فلم يكن غير قليل، حتى مات الحسن، ولم يحضر ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما. ثم توفي ابن سيرين بعده بمائة يوم)( ).
ومحمد بن سيرين البصري (32-110) هجرية تابعي أبوه من سبي عين التمر البلدة القريبة من كربلاء ، كان مملوكاً لأنس بن مالك فاعتقه ، وأمه (صفية) أمة لأبي بكر فاعتقها أيضاً ، واشتهر بالوعظ وتأويل الرؤيا.
و(قال ابن عباس : اتخذ نوح (عليه السلام) السفينة في سنتين ، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ، وطولها في السمك ثلاثين ذراعاً ، وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام.
وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو في البطن الأعلى ،عمّا يحتاج إليه من الزاد.
روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، فأوحى الله عزّ وجلّ لما كان آخر زمانه وغرس شجرة (فعظمت وذهبت كلّ مذهب ثمّ قطعها) ويقطع ما يبس منها.
ثمّ جعل يعمل سفينة ويمّرون عليه قومه فيسألونه فيقول : أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون : يعمل سفينة في البر فكيف تجري :
فيقول : فسوف تعلمون ، فلّما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك ، خشيت أُمّ صبي عليه وكانت تحبّه حبّاً شديداً ، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه.
فلمّا بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم الله أحداً منهم لرحم أُمّ الصبي)( ).
وفي هذا الحديث النبوي إنذار من البلاء العام الذي لا ينفع معه الإحتراز الشخصي ، فلا يتصور أحد يومئذ أن الماء يصل إلى قمة الجبل ، وفيه أيضاً دعوة للرأفة والرفق بالناس ، وعدم الإضرار بالناس وأن الأم تحب بالفطرة ابنها .
وواجب المؤمن عدم فجع الأم بفقد ابنها ، ولا ضياع الابن بفقد أمه أو أبيه بعمل إرهابي طارئ لا يكسب قضية ولا وداً وهو خال من المصلحة ويتجلى مع الأيام قانون الإرهاب عديم المنفعة.
ومعجزة صالح استجابة الله عز وجل لدعائه عندما طلب منه قومه أن يخرج لهم ناقة من الصخرة .
ومعجزة إبراهيم سلامته من النار التي قام قوم نمرود بجمع الحطب لها مدة شهرين ، ليحرق في وسطها لأنه كسر أصنامهم ، ودعاهم إلى عبادة الله وحده ، قال تعالى [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ) ويجب أن يكون المؤمن برداً وسلاماً على الناس .
وإبراهيم عليه السلام جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكره في روايات عديدة منها بخصوص إلقائه في النار ، ورد عن أنس (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسبوا الضفدع ، فإن صوته تسبيح وتقديس وتكبير ، إن البهائم استأذنت ربها في أن تطفئ النار عن إبراهيم فأذن للضفادع ، فتراكبت عليه فأبدلها الله بحر النار برد الماء)( ).
كما أن الأنبياء اللاحقين كانوا يحافظون ميراث الأنبياء السابقين ، ويذكرونه ويوثقونه .
قانون نهي معجزات الأنبياء عن الإرهاب
لقد أنفرد القرآن بالتوثيق السماوي لمعجزات الأنبياء ، فحفظها من الضياع خاصة وأنه سالم من التحريف والزيادة والنقيصة ، كما تضمنت السنة النبوية بياناً وتفصيلاً لعدد من هذه المعجزات .
ومن دلالات توثيق القرآن لمعجزات الأنبياء التدبر فيها ، وبيان أن الله لم يبعثهم بالسيف والقتل العشوائي إنما بعثهم بالمعجزة الحسية والبراهين التي تدل على صدق قولهم بالدعوة إلى عبادة الله عز وجل ، ويمكن القول بقانون كل معجزة باعث للنفرة من الإرهاب .
مع علم الله عز وجل بكفاية المعجزة للتبليغ والهداية وإقامة الحجة على الناس ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) .
وقد اختص الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية وهي آيات القرآن ، وكل آية منه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
ومن معانيه أن كل آية من القرآن مانع عن الإرهاب ، وزاجر منه في تلاوتها ومضامينها القدسية ودلالاتها .
ومعجزات الأنبياء إكرام للناس جميعاً ، وتشريف ورفعة للأنبياء ، وموعظة للمؤمنين لبيان وجوه :
الأول : قانون كل نبي جاء بالنهي عن الإرهاب .
الثاني : قانون الإقتداء بالأنبياء واجب ، ومنه نبذ الإرهاب والتبرء منه .
الثالث : قانون التدبر في معجزات الأنبياء مدرسة في التفقه في الدين ، وهناك تضاد بين الفقاهة والإرهاب لما فيه من الجهالة والغرر والغواية .
وفي التنزيل [وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ]( ) والنسبة بين الآية والمعجزة العموم والخصوص المطلق فالآية أعم ، بلحاظ تكون المعجزة من عدة آيات ، ويتجلى قانون كل معجزة وآية دعوة للإيمان والتنزه عن الإرهاب لقانون المنافاة بين الإيمان والإرهاب .
المقولات العشرة ضد للإرهاب -بحث فلسفي-
أصل تقسيم المقولات قال به أرسطو لتقسيم الموجودات إلى قسمين :
الأول : الجوهر ، وهو الذي لا يحتاج في وجوده لشئ آخر يقوم به إلا المشيئة الإلهية ، قال تعالى [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]( )وقيل أن الجوهر غني عن المحل وليس بتام ، وهو متحيز بالذات قابل للإشارة الحسية للدلالة على جهته ومحله ، ويقابله العرض ، وإذا كان الجوهر حالاً في جوهره مع أخر فهو صورة .
الثاني : العرض ، وهو صفة من صفات الجوهر ، ولا يكون العرض وحده وبذاته ، كلون الجدار ، فالجدار هو الجوهر ، وصبغه ولونه هو العرض .
والمقولات العشرة الجوهر وتسعة من العروض ، وتسميتها العشرة نوع تسامح متوارث والعروض وهي :
الأول : الكم : وهو عرض يقبل القسمة والتعدد بذاته وأجزائه ، لبيان أن العرض لا يكون متحداً .
الثاني : الكيف : وهو عرض لا يقبل القسمة والنسبة لذاته سواء كانت كيفية محسوسة كحرارة النار ، والطعام اللذيذ ، أو كيفية نفسانية كالملكة الراسخة أو غير راسخة والتي تسمى حالاً .
الثالث : الأين : وهو عرض وصفة تعرض للشئ بلحاظ مكانه والحيز الذي يمتلكه كمكان سكن الإنسان ومحل الدار ، وقد جعل الله عز وجل الأرض محلاً لسكن وإقامة الناس إلى حين ، وقد يكون الأين متحركاً كما في منازل وسير القمر ، قال تعالى [وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ]( ) لبيان أن للأين يشمل الحركة والسكون ، وله منافع عامة وخاصة .
الرابع : المتى : وهي الصبغة والصفة الزمانية بلحاظ وجود الشئ في زمان مخصوص ، قال تعالى [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ]( )
ومن إعجاز القرآن أن ذات أفراد الزمان متحركة ، بمن فيها ، قال تعالى [وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ) .
وقد يكون وجود الشئ والجوهر بالنسبة للزمان على نحو الموجبة الكلية مثل قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) وقد يكون أعم ، فيسمى يوماً ولكنه أطول من اليوم الذي يكون بين طلوع الشمس إلى مغيبها ، قال تعالى [يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ]( ).
وقد يكون على نحو الموجبة الجزئية كما في قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ) فسمي يوم حنين مع أن المعركة في بضع ساعات من اليوم وليس جميعه ، وإن كان الإعجاب بالكثرة في الآية أعم من ساعة المعركة ، كما لو قلت نزل المطر يوم أمس ، ولم ينزل في كل ساعات اليوم .
الخامس : الإضافة وهي النسبة العارضة للشئ بلحاظ نسبة أخرى ملازمة لها ، كالأبوة والبنوة ، وكوجوب النفقة على الزوجة عند عقد النكاح ، وكالملازمة بين النطق بالشهادتين وأداء الفرائض العبادية .
السادس : الوضع : وهو هيئة ونسبة أجزاء الشئ بعضها إلى بعض ، والقرب والبعد بلحاظ الأشياء الأخرى ، مثل أجزاء وأفعال الصلاة ، إذ يكون المصلي واقفاً عند تكبيرة الإحرام القراءة ثم يركع ثم يسجد سجدتين وهكذا .
السابع : الملِك : وهي هيئة وعرض يطرأ على الجسم ، ويحيط به أو بجزء منه ، مثل حمل السلاح ، وكما في قوله تعالى [فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ]( )، لإرادة وصف يضاف إلى الجوهر ، وهو هنا المؤمن ، ومن عدم الملك كالأعمى ، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا]( ) ، والمراد من الأعمى في الدنيا هو عمى القلب ، وغياب البصيرة ، قال تعالى [فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ]( ).
وفي الآية أعلاه دعوة للتدبر في مصاديق المقولات العشرة ، الجوهر والأعراض التسعة الأخرى ، بالبصر والبصيرة والوجدان لعظيم قدرة الله بخلق السموات والأرض وما فيهما بالكاف والنون ، وإمساكه لهما في كل دقيقة .
ويبعث التدبر في خلق السموات والأرض الخشوع والخضوع في النفس ، ليكون كلاً منهما زاجراً عن التعدي والإرهاب للملازمة بين الخشوع لله وإمساك الجوارح إلا في مرضاته تعالى .
والنظر إلى الأعراض من النعم على الناس مجتمعين ومتفرقين في الكم ، والكيف ، والمكان ، والزمان في الليل والنهار ، والشتاء والصيف ، وما يطرأ على المخلوقات من الإضافات كالكسوف ، والخسوف للشمس ، الحر والبرد في تعاقب الأيام ، والإضافة بعلو السماء وصيرورة الأرض هي السفلى ، وسحبها والكواكب في الفضاء ، وفعل الجواهر ، وعدم فعل الأصنام وعجزها عن التأثير والأثر
وحرمة الإرهاب مطلقة من جهة كل مقولة من المقولات العشرة ، في أصل الجوهر وفي الكم والكيف والمكان والزمان والفعل والإنفعال والإضافة والوضع.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا طاف بالكعبة يقول له بعض رؤساء قريش مثل أبي جهل عمرو بن هشام وأمية بن خلف ، استلم آلهتنا كي لا تضرك ، فأنزل الله تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا]( ).
و(عن ابن عباس ، أن ثقيفاً قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أجّلْنا سنة حتى نهدي لآلهتنا ، فإذا قبضنا الذي يهدى للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة . فهم أن يؤجلهم فنزلت { وإن كادوا ليفتنونك . . . } الآية)( ).
الثامن : الفعل وأن يفعل ، بتأثير الجوهر في غيره مثل تسخين النار للماء ، بما يكون معه الجوهر فاعلاً وله أثر .
ومن المعجزات ما تكون من الفعل ويترتب عليها الأثر كناقة صالح وعصا موسى ، ونضيف للمقام تفصيلاً بتقسيم الأثر إلى :
الأول : الأثر الذاتي ، ومنه ترتب إصلاح النفوس على الإيمان بلحاظ الإيمان أمر وجودي ، والإمتناع عن الإرهاب .
الثاني : الأثر الغيري كهداية الناس بآيات القرآن ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ) ومن معاني أقوم في الآية أعلاه الطريق الأحسن والأصلح والأصولية لتتجلى التضاد بين أثر آيات القرآن وبين الإرهاب .
التاسع : الإنفعال بحيث يتعلق بالشئ أمراً ينفعل به كقطع غصن الشجرة.
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )
، إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء يوم بدر ، فأمره الله عز وجل أن يأخذ حفنة من التراب ويرميها على المشركين ، فمع كثرتهم وأن عددهم نحو تسعمائة وخمسين رجلاً ، لم يبق واحد منهم إلا وقد وقع التراب في عينية وفمه ومنخريه .
وصارت هذه الرمية سبباً لإنفعالهم وتأثرهم وانهزامهم في ميدان المعركة .
وتترشح علوم الفلسفة وقراءتها بصبغة إيمانية ، والأكثار من الأمثلة القرآنية بخصوصها النفرة من الإرهاب وإخافته للإنسان في مكان أو زمان مخصوص ، ولابد من التدارك بالتوبة والإنابة .
[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] استئصال للإرهاب
وردت الآية أعلاه خطاباً من الله عز وجل بصيغة الإفراد [إِنِّي] للملائكة وتكرر لفظ [إِنِّي] في الآية مرتين ، وتمام الآية هو [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ) ، ولم يقل الله (نحن أعلم )، وكذا في قوله تعالى [إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ]( )، لبيان عظيم قدرة الله في الخلق وأختصاصه ببديع الصنع ولتأكيد نفي الشريك ، وهو لا يتعارض مع مجئ آيات بصيغ الجمع لبيان عظيم سلطانه .
وفي الآية أعلاه ثناء على الناس والملائكة لبيان قانون يوم خلق الإنسان عيد في السموات والأرض .
إذ تبين الآية العلم الغزير الذي يمتلكه الملائكة ومع هذا فانهم قاصرون ومتخلفون عن الإحاطة بعلم العواقب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا]( ) .
ومن إحاطة الله عز وجل بالأشياء علمه بعاقبتها وخاتمة الأمور ، وفيه تحذير من الإرهاب لأنه قبيح ذاتاً وعاقبة ، ولا يختص ضرره وسوء عاقبته بالآخرة بل يشمل الدنيا ، ويدل عليه الوجدان والشواهد الكثيرة الظاهرة للعيان .
نعمة الأسواق
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وصارت لهم أسواقهم ، وأصبحوا يتجولون في أسواق المشرق والمغرب فيجب أن يكونوا سفراء السلم ، وأن يبعثوا السكينة في نفوس الناس منهم ، وما يجعلهم يقابلونهم بالترحيب والمودة.
ومن إعجاز القرآن وصفه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يمشي في الأسواق ، قال تعالى [وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا]( )، وفيه مسائل :
الأولى : سعي النبي محمد في طلب الرزق ، وكان يسمى أيام الجاهلية (الصادق الأمين).
الثانية : الأمن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في الأسواق.
الثالثة : اقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكسب والمعاش .
الرابعة : قانون وجوب عدم خشية أهل الأسواق من المسلمين .
الخامسة : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسواق لتبليغ الرسالة خاصة في الأشهر الحرم ، ووردت فيه نصوص عديدة.
السادسة : شجاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم خوفه من المشي في الأسواق ، وهذا المعنى لا يتعارض مع تسالم الناس على الأمن في الأسواق .
وأقام الله عز وجل الحجة وأتى ببيان قانون مشي الأنبياء في الأسواق ليس بمعنى الصفق فيها بل للتبليغ وهو الذي تجلى في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا]( ).
وعن (ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليًا فأسلم -قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : أيهما اكثر : النفع من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأسواق أم الضرر الذي لحقه وأصحابه بهذه الدعوة.
الثانية : هل بيعة العقبة من رشحات نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد في أسواق مكة .
أما المسألة الأولى فالجواب ليس من حصر لمنافع دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان في أسواق مكة ، وقد صرف الله عز وجل عنه ضرر المشركين ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى]( ) .
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، وأن بيعة العقبة من رشحات نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأسواق ، ودعوته الناس فرادى ومجتمعين للإسلام في البيت الحرام طيلة أيام السنة ، وما عند أهل البيت من البشارة ببعثته .
تنزيه الأسواق عن الإرهاب
الأسواق جمع سوق وهو المكان الذي يلتقي فيه البائعون والمشترون للسلع والخدمات ولوازم البيع والشراء والنشاط الإقتصادي .
وفي هذا الزمان صار عنوان السوق أعم من المكان ويشمل شبكة التواصل الإجتماعي وكأن بقاع الأرض سوق مشتركة ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ، وفيه التقارب بين العرض والطلب ، وغياب الإكراه والقهر والإضطرار بالرضا بالغبن ، وقد عرف الإنسان الأسواق من قديم الزمان والأصل فيه أنه مكان للألفة.
وقد حرصت الدول والرئاسات المختلفة على تأمين السوق وحماية العملية الإقتصادية ، وقد أنعم الله عز وجل على العرب بالأشهر الحرم الأربعة ، رجب ، وذي القعدة ، وذي الحجة ، ومحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
فيأمن فيها الناس ، وتعمر الأسواق في إنحاء الجزيرة فتزهو التجارات ، ويتسوق الناس حاجاتهم في رجب والأشهر الحرم الثلاثة المتصلة أعلاه.
لبيان معجزة الأشهر الحرم في باب التجارة والإقتصاد والعمل ، وتحبيب حال السلم والأمن إلى الناس ، وإطفاء نائرة الثأر والإنتقام والغزو عند الناس ، وهل أسواق العرب مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وتجلي معجزاته وتدبر الناس فيها ، الجواب نعم .
وهل هي مقدمة بأمر ولطف وتعاهد سنوي متصل من عند الله ، أم أنها مقدمة بالصدفة والأمر الواقع ، الجواب هو الأول .
فقد أراد الله عز وجل لرسالة إبراهيم وإسماعيل أن تكون مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والبلاغ وعالم الفعل ومنه المناداة بالحج ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وأسواق مكة وما حولها فرع الحج ، وإجتماع العرب في الموسم ليتلقوا البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمارات وعلامات أوانها ، وما أن بعثه الله عز وجل حتى تغيرت سنخية هذه الأسواق ، فبدل إلقاء القصائد الشعرية ، والتفاخر بالآباء والأجداد ، وذكر البطولات نثراً ورجزاً وشعراً .
فصار الحديث العام في الأسواق آيات القرآن والتدبر في مضامينها وهل كان لقريش موضوعية وأثر كبير في هذه الأسواق ، الجواب لا .
فلم تستطع قريش منع الناس من تناقل الآيات والتفكر فيها ، وتتبع سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاجه وتجليات الإعجاز في سنته .
كان العرب ورجال القبائل يحضرون أسواق مكة ، يلقون القصائد الشعرية ويكرمون الشعراء ، فهي تظاهرة سياسية وإجتماعية وثقافية ، وقيل أن بداية سوق عكاظ قبل نحو مائة سنة من ظهور الإسلام ، فنزلت آيات القرآن بشارة وإنذاراً للناس .
وإن كان الشعر عنوان الثقافة في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز فان الآية القرآنية سياسة وإجتماع واقتصاد وثقافة ، وهو من إعجاز القرآن مع قصر الآيات والسور المكية ، فمثلاً آية الدَين مدنية وعدد كلماتها 129 كلمة وحروفها (551) حرفاً وكلماتها أكثر من كلمات سبع سور من قصار السور المكية ، ومن إعجاز هذه السور أن كل واحدة منها زاجر عن الإرهاب والعنف وظلم الذات والغير .
والأسواق مرافق عامة ، وباب للرزق وأهلها أبرياء في الجملة يجمعهم المعاش والتكسب وتجذبهم إليها الحاجة ، وربما الفقر والفاقة ويجب أن تكون أكثر الأماكن أماناً ، لبيان قانون حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية في السوق مطلقاً وفي أي بلد كان ، ولمنافاتها لمبادئ الإسلام وسنن الإيمان .
ومن الوظائف العامة والواجبات العينية تعاهد الأمن والأمان فيها ، والتنزه عن التعدي فيها سواء على الأفراد أو الممتلكات .
وقد مارس كفار قريش الإرهاب في أسواق مكة ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه لم يقم إلا بالمناداة بكلمة التوحيد .
الأوائل في القرآن
قال تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، لبيان تعدد وجوه القراءة والعلم ، والأجر والثواب فيها ، ومنها :
الأولى : التلاوة .
الثانية : التعلم والتفقه في الدين .
الثالثة : التعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مقامات العلم والمعرفة .
الرابعة : منع التأويل الخاطئ والإفتراء .
الخامسة : التصدي للإرهاب ، وكشف تضاده مع القرآن والسنة النبوية.
الحمد لله الأول قبل الإنشاء والإحياء ، والآخر بعد فناء الأشياء.
ممكن إنشاء مبحث على أقسام :
الأول : الأوائل في القرآن ، مثل أو آية نزولاً ، وهي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، وأول آية في نظم القرآن ، وهي [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وإمكان الجمع بينهما هي (اقرأ باسم ربك الرحمن الرحيم ) اقرأ القراءة الإيمانية النافعة والتي تتضمن الرحمة والتراحم.
لتدل أول آية نزولاً من القرآن في مفهومها على النهي عن القراءة التي تدعو إلى العنف والإرهاب والظلم .
وهذه الملازمة هدىً ورشاد لبيان أن مبحث الأوائل في المقام ليس للإحصاء وحده مع أهميته ولكن لاستقراء المسائل واستنباط القوانين والإنتفاع الأمثل من كل بحث في القرآن .
دلالة الأوائل القرآنية على حرمة الإرهاب
تدل أول آية نزولاً وأول آية في نظم القرآن على حرمة الإرهاب ، وزجر القرآن عنه ، وأن حوادثه إلى زوال وهو من أسرار بقاء القرآن غضاً طرياً إلى يوم القيامة أي ليس غضاً في رسمه وتلاوته فقط ، بل في إصلاحه للنفوس وتهذيبه لعالم الأفعال ، وفضح ما يتنافى ويتضاد معه.
لإنشاء فرع من هذا المبحث وهو استقراء المواعظ من الجمع بين الأوائل في القرآن ، ومنه هبوط آدم وحواء معاً إلى الأرض ، وهبوط إبليس معهما وكيف أنه شر محض ، ومصدر فتنة .
ومن الأوائل آدم أبو البشر وهو أول نبي ، وأول إنسان تلقى الوحي من عند الله عز وجل.
(وقال أبو ذر : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء .
قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً.
قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم .
قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء .
قلت : أكان آدم نبياً .
قال : نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده ، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك.
قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب .
قال : مائة وأربع كتب ، منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوح ، وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان)( ).
وأول سورة نزلت في المدينة وهي سورة البقرة كما عن ابن عباس( ).
كما نقل عنه أن (أول ما نزل بالمدينة {ويل للمطففين})( ).
وعن الحسين بن واقد قال (حدثني أبي قال: سمعت علي بن الحسين يقول : أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة: اقرأ باسم ربك، وآخر سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة: المؤمنون، ويقال العنكبوت، وأول سورة نزلت بالمدينة: ويل للمطففين.
وآخر سورة نزلت في المدينة براءة، وأول سورة علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة: والنجم، وأشد آية على أهل النار (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا)( ) وأرجى آية في القرآن لاهل التوحيد (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) الآية)( ).
والحسين بن واقد مولى عبد الله بن عامر بن كريز قاضي مدينة مرو ، مات سنة (157 ) هجرية .
وأول فريضة في الإسلام وهي الصلاة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، دعوة للسلم المجتمعي ، ومن صلاة الجماعة فريضة عبايدة ، واقية من الإرهاب .
الثاني : الأوائل في السنة النبوية مثل أول من أسلم ، وأول صلاة جمعة وأول المهاجرين إلى الحبشة .
الثالث : الأول بخصوص الصحابة وأهل البيت مثل أول شهيد في الإسلام هي امرأة وهي سمية بنت خباط .
وأول كلمة نزولاً من القرآن بعث على طلب العلم النافع وتوظيف العلم في مرضاة الله ، وفي قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( ) دليل على حرمة الإرهاب .
بين المطلق والمقيد
المطلق هو الذي دلّ على الماهية ، وعلى معنى شائع في جنسه .
والمقيد هو الذي يخص معيناً وأمراً موصوفاً بأمر زائد على الحقيقة الشاملة وقيل هما متقابلان تقابل الملكة وعدمها ، فالملكة التقييد والإطلاق عدمها.
وهذا القول ليس بتام ، لأن المطلق لا يزول تماماً في حال التقييد.
والملكة صفة راسخة في النفس وأول آية تنهى عن الإرهاب سواء من جهة الإطلاق (اقرأ) فان القراءة علم وعمل ليس فيه عنف وضرر ، وكذا المقيد بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( ).
ولابد من هذا القيد السماوي ، ولكن ذكرت نهي الإطلاق الإرهاب لبيان تعدد النهي عن الإرهاب في أول آية من القرآن مع قلة كلماتها ، كما أن قوله تعالى [الَّذِي خَلَقَ] قيد آخر يفيد حرمة الإرهاب لأن الله عز وجل خلق الناس وجعلهم خلفاء في الأرض فلا يصح إخافتهم والتعدي عليهم وقتلهم ، لذا فالصلاة أمن وسلام كما يحرم التعدي والإرهاب والقتل بغير حق بغض النظر قراءة البسملة أو عدمها كما في الصلاة على أقوال :
الأول : تجب قراءة البسملة جهراً في الصلاة الجهرية ، وسراً في الصلاة الإخفاتية في الصلاة لأنها جزء من الفاتحة والسورة التي بعدها عن الإمام الباقر وعن ابن عباس ، وعدد من التابعين ، وهو المشهور من مذهب الشافعي ، وتقرأ على أنها آية من القرآن .
الثاني : قراءة البسملة في الصلاة مع الفاتحة مستحبة وتقرأ سراً حتى في الصلاة الجهرية وكذا مع كل سورة من القرآن ، وبه قال أبو حنيفة ، وأحمد في المشهور عنه .
الثالث : لا تشرع قراءتها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً إنما تقرأ في النافلة وقيام الليل وهو مشهور المذهب المالكي .
وعن أبي (بكر بن حفص بن عاصم قال : صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة ، وقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لأم القرآن ولم يقرأ للسورة التي بعدها)( ).
فناداه المهاجرون من كل مكان (يا معاوية أسرقَتَ الصلاة ، أم نَسيتَ)( ).
وتوفى معاوية بن أبي سفيان في شهر رجب سنة ستين للهجرة.
وورد عتق الرقبة مطلقاً من غير تقييد قال تعالى [لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وكذا في كفارة الظهار أما في قتل الخطأ فورد مقيداً بعتق رقبة مؤمن قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ]( ).
لذا اختلف هل يشمل التقييد كفارة اليمين والظهار ، أم لا .
وقال الأحناف بأن المطلق لا يحمل على المقيد إلا بدليل فيجوز عتق الرقبة الكافرة في الظهار واليمين ، ولكن الرق للأمن من شره والخشية من تعديه على الإسلام والمسلمين ، والمختار الجواز في موارد شخصية مخصوصة مع إحراز عدم الضرر .
وفي علم الأصول قال بعض العلماء أن المطلق والمقيد متقابلان تقابل الملكة وعدمها ولكن النسبة بينهما ليس التعاكس والتباين إنما هي نسبة العموم والخصوص المطلق .
فقوله تعالى [اقْرَأْ] مطلق ، وقد قيد [بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، فيبقى موضوع القراءة قائماً في المقيد فكيف يكون من تقابل الملكة وعدمها.
إذ المراد من الملكة وعدمها أمران :
الأول : وجودي .
الثاني : عدمي .
ولا يجتمعان كالسواد والبياض ، والحرارة والبرودة ، والبصر والعمى ، والحياة والموت.
وقال الشيخ الأنصاري (اذا استحال التقييد استحال الاطلاق) .
فالكلام الذي يقبل التقييد يقبل الإطلاق ، ولكن يتجلى الإطلاق بالمشيئة والإرادة الإلهية وملك الله عز وجل وسعة رحمة الله فانه يستحيل معها التقييد ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ) وقال تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( ) وفي كل من الآيتين دعوة سماوية للتنزه عن الإرهاب ، وبيان أنه حاجب دون الفوز برحمة الله ، وفيه بيان لقانون الإطلاق في التضاد بين القرآن والإرهاب ، ومن الإطلاق السلبي الذي يستحيل تقييده انتفاء الشريك.
(أن الشك في التقييد يرجع فيه إلى أصالة الاطلاق وعدم التقييد)( ).
نعم لا يجتمع المطلق والمقيد في محل وموضوع واحد في زمان واحد ، وجهة واحدة .
لذا قيل بأنها من المتقابلين كتقابل الوجود والعدم ، وهناك فرق بين التقابل والتنافر فمثلاً الصلاة والصوم ليس متنافرين ، وكذا القلم والقرطاس بينما ، والإطلاق والتقييد ليسا من المتنافرين.
ولكن تجمع المطلق والمقيد وحدة الموضوع ببقاء موضوع المطلق حتى عند تقييده ، بل لا يعرف المقيد إلا بمعرفة المطلق .
أقسام التقابل
يقسم التقابل إلى أربعة اقسام وهي :
الأول : النقيضان : وهما المتنافران اللذان لا يجتمعان في محل وزمان واحد ، ولا يرتفعان ، فلابد أن يبقى أحدهما ، كالإيمان والكفر ، والنهار والليل ، والصيام والإفطار ، والحضر والسفر .
الثاني : الملكة والعدم : وهما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان فيما يصلح إتصافه بهما مثل البصير والأعمى من الناس ، فالشجر والنبات لا يسمى بصيراً أو أعمى ، والملكة وعدمها أمران وجودي وعدمي ، وقيل منه الإطلاق والتقييد ، وليس بتام .
الثالث : الضدان : وهما أمران وجوديان متقابلان ، لا يجتمعان في محل واحد ولكن يمكن أن يرتفعا ، مثل اللون الأبيض والأسود ، فانهما لا يجتمعان في محل وزمان واحد ، ولكن يرتفعان باللون الأصفر والأحمر مثلاً.
الرابع : المتضايفان : وهما أمران وجوديان ، لا يجتمعان بالإضافة إلى جهة واحدة فلا يعقل أحدهما إلا مع الآخر كالأبوة والبنوة ، فلا يكون شخص أباً وابناً لشخص معين ، إنما إما أن يكون أباً أو ابناً له ، وكالضيف والمضيف ، والعلة والمعلول ، والسبب والمسُبب ، والوسيلة والغاية.
ومن أهل المعقول من قسم العرضين المنتسبين إلى موضوع واحد إلى ستة باضافة الخلافين والمثلين.
والخلافان هما الوجوديان من نوعين مع إمكان إجتماعهما في محل واحد كالبياض والحلاوة .
أما المثلان هما العرضان من نوع واحد كالبياضين ، والباردين والنورين.
والغرض من التعريف تقريب المعنى الذي وضع له اللفظ على نحو الحقيقة ، أو انتقاله إلى المجاز بالقرينة ، وقد أطنب بعض المعاصرين في التعريف سواء في الفقه أو الأصول ، مع إتحاد المعنى والدلالة.
والمختار أن المطلق والمقيد ليسا من الملكة وعدمها لأن التقييد لا ينفي المطلق كموضوع إنما يقيده بمعنى يخرج منه بعض المصاديق ، وتبقى المصاديق الأخرى .
وليس بالضرورة أن يكون المطلق والمقيد من المتقابلين ، خاصة وأنهما من العام والخاص ، فالصلاة واجب مطلق ، والحج واجب مقيد ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ) وعندما يتوفر قيد الإستطاعة وهو الملكة لا يكون حج البيت عدماً ، بل يجب أداء الحج.
وهل يمكن اضافة قسيماً خامساً إلى المتقابلين وهو المطلق والمقيد ، وقسيماً آخر وهو العام والخاص .
الجواب لا ، لأن المطلق والمقيد ليسا من المتقابلين ، وكذا العام والخاص فلا ينطبق عنوان تقابل الملكة وعدمها على المطلق والمقيد للتباين الموضوعي وعدم إحاطة التعريف بهما ، فهما ليسا كالبصير والأعمى والزوجية لملكة العزوبية عدمها.
والمتقابلين هما المتنافران بالذات وليس من تنافر بين المطلق والمقيد لاتحاد الجنس والموضوع .
لعدم استقلال وإنفكاك المقيد عن المطلق إنفكاكاً تاماً ، وكذا بين المستثنى والمستثنى منه .
ومن المتضادين القرآن والإرهاب ، فهما لا يجتمعان في قلب أحد ولا في الواقع ، كما لا يجتمعان في الدلالة والأثر والعاقبة في الدنيا والآخرة.
كما أن حرمة الإرهاب مطلقة في كل الأحوال .
قانون إنذار النبي محمد (ص) للناس من الفساد
من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بشير ونذير ، إذ جاء بالبشارة على الإيمان والعمل الصالح باللبث الدائم في النعيم ، والإنذار من الكفر والجحود والمعصية وسوء عاقبتها بالقاء الملائكة لصاحبها في النار .
والبشارة والإنذار والبرهان على كل منهما من الشواهد الوجدانية على صدق النبوة ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ]( ).
وجاء التحذير والإنذار من الفساد من وجوه :
الأول : انذار الله عز وجل من الفساد لمنافاته مع خلافة الإنسان في الأرض ولسوء عاقبته ، قال تعالى [وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وهل يمكن القول أن كل آية من القرآن تنهى عن الفساد في منطوقها أو مفهومها ، الجواب نعم ، والنسبة بين الفساد والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الفَساد حرام .
الصغرى : الإرهاب فساد .
النتيجة : الإرهاب حرام .
لبيان عدم وقوف وظيفة الناس باجتناب الفساد بل لابد معه من الدعاء وأداء الصلاة والوظائف العبادية خوفاً من بطش الله عز وجل في الدنيا والآخرة ، وطمعاً ورجاء في فضله في الدنيا وثوابه في الآخرة.
واختتمت الآية أعلاه بالمبادرة إلى عمل الإحسان للغير لبيان قانون عدم إنحصار الصالحات بأداء العبادات بل لابد من اشاعة شآبيب الرحمة والصفح والعفو واعانة المحتاجين.
ليكون كل فرد منها جزء من ملكة العصمة من الفساد ، ونفرة النفوس منه ، وهناك مسائل بلحاظ الآية أعلاه:
الآولى : قانون الإرهاب فساد .
الثانية : قانون وجوب تعاهد إصلاح الأرض بالتنزه عن الإرهاب .
الثالثة : قانون التنافي والتضاد بين الإرهاب ودعاء الله خوفاً وطمعاً ، فالذي يخاف الله لا يفسد في الأرض ويسفك الدماء ويصيب الناس بالرعب والفزع ، والذي يطمع برحمته يتخذ التقوى طريقاً ومنهاجاً ، ومنه الإبتعاد عن الإضرار بالناس وممتلكاتهم .
الرابعة : قانون الإحسان إلى الغير مانع من الإرهاب من الطرفين ، المحسن ، والمحسن إليه ، لذا تفضل الله عز وجل وشرّع الزكاة والخمس ، مع السعة والمندوحة في الصدقة المستحبة والترغيب بهذا الإنفاق ، والوعد بالخلف العاجل واللاحق عليه ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثاني : إنذار الملائكة من الفساد ، ومن الإعجاز اقتران هذا الإنذار باخبار الله عز وجل لهم بجعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلم يتأخروا عن هذا الإعلان والإنذار إلى حين ظهور مصاديق هذا الفساد كقتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل.
وفيه دلالة على الاضرار الفادحة للفساد في الأرض ، ولزوم احتراز الناس منه ، ومن معاني قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، سؤال وتضرع الملائكة لله عز وجل بتنزه الناس عن الفساد في الأرض ، وعن الإقتتال بينهم ، فان قلت هذا المعنى والتأويل مستحدث فهل استجاب الله عز وجل للملائكة.
الجواب نعم ، فما محاه الله من الفساد ببعثة الأنبياء لا يعلمه إلا هو سبحانه ، وكذا فضله تعالى في صرف أكثر أسباب القتال وإزهاق الأرواح .
لذا اختتمت الآية أعلاه بقانون العلم المطلق لله عز وجل وحده [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، فأكثر ما محاه وصرفه الله عن الناس لا يعلمه إلا هو سبحانه ، خاصة وأنه لا يتجلى للحواس فلا وجود مادي له .
ولكنه يتجلى للبصائر ، ويستبين يوم القيامة ، وهذه الإستبانة من مصاديق قوله تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( )، وأيهما أكثر حجة لله على الناس في الدنيا أم في الآخرة .
الجواب هو الثاني ، لذا لابد أن يحترز الإنسان من الظلم والتعدي والإرهاب لأن حسابه وعقابه يوم القيامة أليم.
ويتوجه سؤال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) في مفهومه إلى كل إنسان وطائفة وأمة ، وتقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الإنسان لا تفسد في الأرض.
الثاني : يا أيها الإنسان لا تسفك الدم .
الثالث : يا أيها الناس لاتفسدوا في الأرض .
الرابع : يا أيها الناس لا تسفكوا الدماء .
ويجب أن يتلقى المؤمنون هذا الإنذار بالقبول التام ، ومنه العصمة من الإرهاب خاصة وأنه جامع للفساد وسفك الدماء .
ومن استجابة الله عز وجل لسؤال وتضرع الملائكة جهات :
الأولى : استدامة الحياة الدنيا ، وعمارة الإنسان للأرض ، وكان قتل قابيل لهابيل أمارة على امكان انقراض البشر بالإقتتال بينهم وانقطاع النسل ، ولكن الله عز وجل محا وصرف هذا الإنقراض .
الثانية : حلاوة الحياة الدنيا .
الثالثة : انتشار الناس في الأرض ، وصعوبة حكم الظالم والقاتل على ربوع كثيرة من الأرض .
فمع سلطان وطغيان فرعون فان ملكه لم يتعد حدود مصر مع استبداده وطغيانه ، وقوله [أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى]( )، فعندما خرج موسى عليه السلام إلى مَدين قال له شعيب عليه السلام [لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، أي لا سلطان لفرعون وجنوده على أرض مدين.
الرابعة : بعثة الأنبياء وحكم القصاص ، وتوارثه في الأرض ، وفيه حياة للذي يجتنب القتل خشية القود ، والذي يُراد قتله ، لذا قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالث : إنذار الأنبياء من الفساد ، وقيامهم بالتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن آيات النبوة إلتقاء الأنبياء بالجهاد ضد الفساد ، وتحمل الأذى لمنع الناس منه ، وليس من حصر لوجوه هذا الجهاد وأظهرها الإنذار من الفساد ، وبيان ضرره في الدنيا والآخرة .
ويكون تقدير قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( )، على وجوه منها :
الأول : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين رحمة بالناس .
الثاني : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين على الإيمان والعمل الصالح.
الثالث : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين بالجنة ، والوعد الكريم من الله.
الرابع : وما نرسل إلا منذرين للناس جميعاً .
الخامس : وما نرسل المرسلين إلا منذرين من الظلم والتعدي والإرهاب.
السادس : وما نرسل المرسلين إلا منذرين من أهوال يوم القيامة.
السابع : وما نرسل المرسلين إلا منذرين ومخوفين وزاجرين عن المعاصي ومنها الإرهاب والفتك بالناس .
الرابع : نزول القرآن ببيان قبح الفساد والزجر عنه ، ومن الفساد الإرهاب وإخافة الناس ، والتمرد على قوانين السلم المجتمعي .
و(عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة ، وصلة الرحم . وحسن الخلق ، وحسن الجوار ، يعمران الديار ويزيدان في الاعمار)( ).
(وعن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)( ).
وهل يشير الحديث أعلاه إلى حق المواطنة وهل هو بمرتبة حق الجوار ، الجواب نعم يشير إليه بالرفق العام وحسن الخلق ، ويلحق بعمومات حق الجوار وإن كان حق الجوار له خصوصية وورد فيه الكتاب والسنة النبوية ، وقوانين المواطنة ملزمة لجميع أهل البلد بالحفاظ على الأمن والسلم المجتمعي.
سؤال الملائكة رحمة بالناس ودعاء لهم
من رحمة الله عز وجل بالناس سبق إنذارهم من الفساد والقتل قبل هبوط آدم إلى الأرض ، وهذا السبق من بديع صنع الله ، وجرى على السنة الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
فقد تساءلوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) وهل هذا السؤال إنكاري أو تعجبي كما قد يترائى .
الجواب لا ، لقانون إنقياد وقبول الملائكة لكل أمر أو نهي من عند الله ، إنما أرادوا الرحمة بالناس وتنزههم عن الفساد والقتل ليدخلوا جميعاً الجنة ، فهو ليس سؤال استعلام واستجلاء فقط ، إنما هو تضرع ورجاء ، ففي الآية حذف وتقديره على وجوه :
الأول : اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وهي ملك طلق لك وحدك .
الثاني : اتجعل فيها ما يختلف عن سنن التقوى والعبادة في السماء .
الثالث : اتجعل فيها من تكون عاقبته إلى النار .
الرابع : اتجعل فيها من يقع عليه الظلم والفعل الإرهابي فيتضرر منه .
الخامس : تجعل فيها سلطاناً للظالمين وانت سبحانك القائل [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السادس : اتجعل فيها الإرهابي الذي يبطش بعبادك ويخيفهم.
السابع : إنما ندعوك ونسألك أن تجعل الناس في الأرض لا يفسدون ولا يسفكون الدماء .
الثامن : اتجعل فيها على الضد من سنخية عملنا بالطاعة التامة لك [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
التاسع : اتجعل فيها الإرهابي الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، والناس كلهم عبيد لك يعيشون في كنف رحمتك .
ليكون قول الملائكة هذا أول إنذار يتلقاه الناس ووثقه القرآن ليبقى مصاحبا لهم إلى يوم القيامة ، ويحتمل سماع آدم عليه السلام لقول وإحتجاج الملائكة هذا وجوهاً :
الأول : لم يسمع آدم عليه السلام هذا الحوار بين الله عز وجل والملائكة .
الثاني : سمع آدم هذا الحوار في ساعته .
الثالث : علم آدم بهذا الحوار فيما بعد .
والمختار هو الثالث لأن الحديث والحوار بين الله وملائكته في السموات التي هي ملكه سبحانه .
والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه .
وهل الناس خلفاء لله عز وجل ، الجواب لا ، إنما خليفة يعمر الأرض بالذكر ، وأحكام الشريعة ، ويتعاهد سنن التوحيد ، ويخلف الناس بعضهم بعضاً في الأرض .
وقول أن الناس خلفاء لأجناس الخلائق التي كانت تقطن الأرض ، ومنهم الجن الذين أفسدوا في الأرض .
ومن مصاديق جواب الله عز وجل للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) تفضله ببعث الأنبياء بما يصل معه تبليغ الرسالات إلى الناس ، ويحد من الإرهاب والظلم والجور .
قانون خاتمة النبوات رحمة عامة
لقد جعل الله عز وجل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة للنبوات ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
لتتصف رسالته في المقام بأمور :
الأول : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أجل الصلاح والإصلاح .
الثاني : محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للفساد .
الثالث : حقن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدماء ، وإجتهاده في صرف ودفع الحروب والإقتتال .
الرابع : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن سوء عاقبة القاتل والظالم والمعتدي يوم القيامة .
الخامس : نزول آيات القصاص لبيان الجزاء العاجل على القتل والتعدي سواء ورد هذا البيان في القرآن أو الكتب السماوية السابقة ، قال تعالى [أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
السادس : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدفع الدية إذا حدث قتل خطأ من قبل أحد الصحابة.
السابع : نيل المقتول ظلماً درجة الشهادة وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد)( ).
وهل يدل الحديث أعلاه على حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية وضحايا العنف المذهبي أم أن القدر المتيقن من الحديث هو خصوص الذي يدافع عن ماله ، الجواب هو الأول ، للأولوية القطعية.
الثامن : إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإنتقام وإشاعة القتل ، والقتل العشوائي ، ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (اعدى الناس على الله من قتل غير قاتله)( ).
وهل يشمل الحديث أعلاه الإرهاب والتفجيرات العشوائية ، الجواب نعم من باب الأولوية القطعية ، لأن المراد من الحديث الثأر بغير محله كقتل أخ أو ابن عم القاتل مع أنهما بريئان ، ولا ذنب لهما لقوله تعالى [وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( )، وتتضمن هذه الآية في دلالتها النهي عن الإرهاب والعنف والبطش بالناس .
وأسباب نزول قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى]( ) أنه كان حياً من العرب بينهم قتال وثأر قبل الإسلام بقليل ، ثم أسلموا فطلبوها في الإسلام ، وأقسم رجال الحي الذي يشعر بالغبن ليقتلن بالأنثى الذكر منهم ، وبالعبد الحر منهم.
فلما نزلت الآية علموا أن حكم القصاص وقيوده تشملهم وأن الله عز وجل لا يرضى منهم هذا التخويف والوعيد ، فرضوا وسلموا .
قانون دفاع النبي حرب على الإرهاب
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً في مكة التي كانت قبلة وفد الحاج والمعتمرين ، وليس من بلدة مزدهرة بكثرة الزوار في العراق والجزيرة واليمن والشام مثل مكة.
وهو مقدمة إعجازية لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للمسلمين للشكر لله تعالى بتعاهد الحج وضروب العبادات وإجتناب الظلم والإرهاب ، لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت للفرائض العبادية ، ومنه من الظلم والتعدي والجور.
فمن الإعجاز في نصب البيت الحرام فيها أنها أكثر المدن زواراً في كل زمان مع اتحاد الغاية وهي الزيارة والطواف بالبيت الحرام وعمارته ، وهو من أسباب تسمية الله عز وجل لها (أم القرى) في قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ومن الشواهد على كثرة زوار مكة آنذاك ان رجال قريش الذين بادروا للنفرة والخروج في السنة الثانية للهجرة إلى معركة بدر في ثلاثة أيام كان عددهم نحو ألف شخص مع تعيير رؤسائهم كل من يتخلف عن الخروج لإنقاذ قافلة أبي سفيان.
فمثلاً لم يسأل أمية بن خلف الخروج ، ولعله كان يعلم أن دعوى انقاذ القافلة نوع خدعة لجر الناس لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي سبق وأن أنذره من إيذائه ومحاربته.
بينما ساروا وحلفاؤهم من المشركين إلى معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة ، وعددهم عشرة آلاف رجل لخروج رجال القبائل معهم وهي :
الأولى : قبيلة غطفان ومنهم بنو مرة وأشجع .
الثانية : قبيلة بني فزارة .
الثالثة : قبيلة بني أسد .
الرابعة : قبيلة بني سليم .
الخامسة : الأحابيش .
وقبل الهجرة وعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أمر طائفة من أصحابه بالهجرة من مكة الى الحبشة عندما اشتد أذى قريش عليهم ، ولما عزمت قريش على قتله في فراشه ليلة المبيت نزل جبرئيل يأمره بالهجرة إلى المدينة مع أنه طيلة إقامته في مكة لم يحمل أو يشهر سيفاً وهي معجزة له في الصبر على الأذى ، وصرفه بعظيم قدرة الله عز وجل .
وبعد الهجرة قام المشركون بتجهيز الجيوش لقتاله لا لشئ إلا لانه قال لا اله إلا الله ، وقام بتبليغ كلام الله للناس ، واضطر للدفاع هو وأصحابه مع قلة عددهم واسلحتهم بالنسبة لكثرة جيوش المشركين وعدتهم وخيلهم ، وكان الهجوم بهذه الكثرة يهدد حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون نجاته يومئذ معجزة له.
لقد كان دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضد المشركين استئصالاً للإرهاب ، وتأسيساً لأنظمة اجتماعية قائمة على العدل ويتغشاها السلم.
ومن الإعجاز في المقام صبره وأصحابه ، إذ أن صبرهم معجزة غيرية له وشاهد على صدق نبوته ، وبيان لوظائف النبوة الخاتمة بسيادة السلام في الأرض ، وإنقطاع الغزو بين القبائل والنفرة منه ومن الإرهاب مطلقاً.
بيان السنة النبوية للقبح الذاتي للإرهاب
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً بنعم لا تعد ولا تحصى إلى جانب عظيم نفع هذه النعم ، وتجدد انتفاع الناس منها من وجوه :
الأول : قانون نهل وأخذ الناس من السنة النبوية كل يوم وإلى يوم القيامة ، وهو معجزة يومية متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : قانون حاجة الناس للسنة النبوية وهي مادة الإصلاح .
الثالث : قانون السنة النبوية حرب على الإرهاب .
وقد روي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ]( ) فلما قبلت ذلك منه قال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ( ).
ليأتي التأديب والإصلاح للمسلمين من الكتاب والسنة مجتمعين ومتفرقين ، فلابد أن يكون العفو عن القريب والبعيد منهاج المسلم ، ويتنافى الإرهاب مع العفو ، كما أن الأمر بالمعروف زاجر عن الإرهاب ، وحصانة للأمر به ، والإعراض عن الجاهلين في المقام على شعبتين :
الأولى : الصفح عن الذي يؤذي الإسلام والمسلمين .
الثانية : الإمتناع عن الإصغاء لدعوة الإرهاب وتمويله.
للدلالة على قبح الإرهاب من أي جهة ، ولزوم تنزه المسلمين عنه ، قال تعالى [مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ]( ).
وعن (عمرو بن الحمق الخزاعى ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا امن الرجل الرجل على نفسه ثم قتله فانا برئ من القاتل وان كان المقتول كافراً)( ).
والمراد في الحديث أعلاه أعم من القضية الشخصية فيشمل حق الجوار ، وحقوق العشرة والمعاملات التجارية ونحوها والمواطنة ، والقوانين المحلية التي تحرم القتل بين أفراد الشعب.
الرابع : السنة النبوية القولية والفعلية مانع من الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يقوم في الصلاة حتى تتورم قدماه.
و(عن عائشة قالت : لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، اجتهد في العبادة فقيل يا رسول الله : ما هذا الإِجتهاد؟ وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً)( ).
وورد مضمون هذا الحديث عن عدد من الصحابة يرفعونه إلا أن الخبر أعلاه يوثق تأريخه ، وهو عند عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
إن تورم قدمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القيام المستمر في الصلاة دعوة للشباب المسلم للتقوى وكف الأيادي عن الإضرار بالناس للتنافي بين تكرار الصلاة وبين الإرهاب.
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا]( )، قام الليل كله حتى تورمت قدماه ، فجعل يرفع رجلاً ، ويضع رجلاً ، فهبط عليه جبريل ، فقال (طه) يعني : الأرض بقدميك يا محمد [مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( )، وأنزل فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ( ).
قانون التنزه عن الإرهاب طمأنينة
من مصاديق قوله تعالى [طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( )، وجوه :
الأول : قانون جهاد النبي في إقباله على العبادة ومواظبته على الفرائض ، وفيه دعوة للمسلمين للعزوف والإعراض عما يتنافى مع العبادة ، ومنه الإرهاب.
الثاني : قانون صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أداء الصلاة وكثرتها.
الثالث : التخفيف من الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمسلمين ، ولابد من شكرهم لله عز وجل تأسياً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن هذا الشكر العصمة من الإرهاب.
الرابع : بيان عملي لقانون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في أداء الصلاة كماً وكيفاً.
الخامس : قانون أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة اليومية جماعة وفرادى مانع من الغلو لما في هذا الأداء من إظهار وتأكيد متجدد على عبوديته لله عز وجل ، وسط مجتمعات الشرك وعبادة الأوثان ، وفي مرتبة العبودية تشريف للنبي محمد وجهاد وفي إصلاح للناس .
ومن آيات عبودية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل:
الأولى : قوله تعالى [قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
الرابعة : قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
السادسة : قوله تعالى [فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى]( ).
السابعة : قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
وهل الإرهاب من الظلمات التي تذكرها الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن منها هو الكفر والشرك .
الجواب هو الأول ، إذ أن الإرهاب ضلالة وغي وظلم وخيانة لذا ورد (عن الهرماس بن زياد قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على ناقته فقال : إياكم والخيانة فإنها بئست البطانة ، وإياكم والظلم فإنه ظلمات يوم القيامة ، وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح حتى سفكوا دماءهم ، وقطعوا أرحامهم)( ).
والهرماس من صغار الصحابة رأى وهو صغير النبي محمداً يخطب في منى إذ قال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وانا صبى اردفني أبى يخطب الناس بمنى يوم الاضحى على راحلته)( ).
وبقي إلى سنة تسعين للهجرة ، وهو آخر من مات من الصحابة باليمامة ، وقيل أنه لم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه خرج يريده فبلغه وفاته ، والأرجح أنه رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومما رواه قال (رأيت النبي صلى الله عليه وآله و سلم يصلي على راحلة نحو المشرق)( ).
والمراد صلاة التطوع ، وسقوط شرط استقبال القبلة عند السير على الراحلة أو في السيارة أو القطار أو الطائرة إذ ورد التقييد والحصر بالتطوع والنافلة في حديث (جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ)( ).
والراحلة البعير الذي يتحمل الأسفار والأحمال ، ويطلق لفظ الراحلة على المذكر والأنثى .
نهي النبي محمد (ص) عن قتل الكتابي
لقد أخبر الله عز وجل الناس عن وظيفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض بقول [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، لتعلق البشارة والإنذار بأمور :
الأولى : البشارة بإعلاء كلمة التوحيد ، والرفعة لأهل الإيمان ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثانية : البشارة على العمل الصالح .
الثالثة : البشارة لحسن العاقبة ودخول الجنة .
الرابعة : الإنذار والتخويف من الكفر والجحود .
الخامسة : الإنذار من النار وشدة لهيبها مع بيان أسباب دخولها في آيات عديدة من القرآن منها قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )وقوله تعالى [بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ) للبعث إلى التوبة والتدارك والإنابة ، وجمعت آية قصيرة بين أهل الجنة وأهل النار مع بيان التضاد بينهما موضوعاً وحكماً بقوله تعالى [لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ]( ) ولا يرضى الله عز وجل عن العمل الإرهابي الذي فيه سفك للدماء وتعطيل للتجارات ، وإدخال الخوف والرعب في قلوب عامة الناس بغير حق .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخرج وأصحابه في كتائب حول المدينة ويبتعدون عنها ، وهي التي تسمى عند المؤرخين وكتّاب السنة بالمغازي ، والمختار أنها كتائب إستطلاع ودفاع ، ومنع للمشركين من غزو المدينة ، وقد صدرت من هذا التفسير ستة وعشرون جزءَ بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه في الكتائب يمر على أنعام وأملاك المشركين فلا يتعرض لها ، ويأتي على القرى التي أهلها على الشرك وسيادة الأوثان فيصلي في أفواهها ولا يتعرض لأهلها .
وهذه الصلاة من أعظم وجوه الدعوة إلى الإيمان ، وهي درس وموعظة للمسلمين بوجوب التنزه عن الإرهاب ، والإمتناع عن الإساءة والإضرار بالناس .
و(قال أبو بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة)( ).
والمعاهد الذي بينك وبينه عهد ، ويطلق على المستأمن ، وأكثر ما يرد بخصوص أهل الذمة ، ويطلق على الكفار الذين صولحوا على ترك الحرب مع المسلمين ولو لمدة وأجل معين .
ويشمل المعاهد الرجل من أهل الحرب ويدخل دار الإسلام بأمان من أحدهم فيحرم على المسلمين قتله ، كما لو كانت فترة حرب بين بلاد المسلمين وبلدة مجاورة لهم ، فيأتي بعضهم من تلك البلدة بأمان أحد المسلمين حراً أو عبداً فلا يجوز قتله والإضرار به ، ولا نعته بأنه جاسوس وإيداعه السجن من غير بينة وحجة.
لبيان مسألة وهي تحريم الإسلام للتعدي على الناس في أوطانهم من باب الأولوية القطعية.
لبيان نهي أحكام القرآن والسنة عن سفك الدماء ، وعن صرف ودفع القتل بأدنى سبب ، وأيهما أولى بالحفظ والعناية المعاهد أم الذي تجمعك معه المواطنة ووحدة الدولة ، الجواب هو الثاني ، لذا يحرم الإرهاب بين الناس وإن اختلفت الملل .
و(عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما)( ).
فيبين هذا الحديث أن الذي يقتل يهودياً أو نصرانياً وعامة أهل الكتاب لا يصل إلى أبواب الجنة ، ويكون بعيداً عنها مسافة أكثر من أربعين سنة ، وفيه دلالة على حرمة قتل الذي ينطق بالشهادتين أيضاً بالأولوية ، ويبين الحديث حرمة الإرهاب والقتل العشوائي .
ويدل هذان الحديثان وشبههما على تحريم الكتاب والسنة النبوية للإرهاب ، إذ أن القتل وسفك الدماء وإصابة الناس بالجراحات من مصاديق وخصائص الإرهاب المنهي عنه.
قانون الإمتثال للنبوة
من خصائص النبوة كل قول وفعل للنبي يكون على وجوه :
الأول : قانون النفع العام من قول وفعل النبي .
الثاني : قانون ترتب الأجر والثواب على العمل بما يقوله النبي ، لذا ورد قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، ولا يحصي إتيان المسلمين والمسلمات لما جاء به النبي وإمتناعهم عما نهى عنه إلا الله عز وجل .
الثالث : موضوعية الوحي في قول وفعل النبي .
الرابع : قانون استمرار النفع من سيرة الأنبياء حتى بعد مغادرتهم الحياة الدنيا.
وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أتاه الوحي من جهات :
الأولى : آيات القرآن ، وكل آية وحي مستقل بذاتها ، ووحي بالصلة بينها وبين غيرها من الآيات .
الثانية : الحديث القدسي بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل.
الثالثة : الوحي العام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومن خصائص القرآن ثبوت نص التنزيل ، فهو كلام الله لا يجوز لجبرئيل الملك الواسطة بالتنزيل ، ولا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تغيير أو تبديل كلمة أو حرف منه .
وتفضل الله عز وجل ووعد بحفظ القرآن إلى يوم القيامة ، قال تعالى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
ومن حفظ الله للقرآن بيانه وسلامة تأويله ، وفضح وإماتة التفسير والتأويل الباطل ، قال تعالى [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( ).
وعن قتادة (في قوله [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، وقال في آية آخرى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ]( )، والباطل إبليس . قال : فأنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلاً ولا ينقص منه حقاً ، حفظه الله من ذلك والله أعلم بالصواب)( ) .
لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين والناس بعجز الإنسان عن إيجاد ذريعة وحجة من القرآن تؤيد الإرهاب أو تدعو إليه .
الرابع : قانون حاجة الناس للنبوة ، ومن مصاديقه إذ أظهر الكفر رأسه صدّته النبوة ، وإذا هاج الإرهاب فضحه منهاج النبوة ، ومنع الناس من الإنقياد له .
الخامس : قانون إنجذاب الناس للنبوة والتدبر في معجزات الأنبياء وصيروتها حديث الركبان .
السادس : قانون وجود أمة في كل زمان تعمل بأحكام النبوة ، الأمر الذي بعث الرعب في قلوب مشركي قريش ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
إذ كانوا يظنون أنهم رؤساء وأشراف المجتمع ، وأن آباءهم الأسوة والرمز الذي يتفاخرون بهم في أسواق مكة وعند العرب وغيرهم ، فنزلت آيات القرآن بالتعريض بهم بأن ذمت عبادة الأوثان ، وسوء عاقبة الذين يعبدونها ويتخذونها وسائط تقربهم إلى الله زلفى .
وهذا المعنى فرد من أفراد الرعب الذي تذكره الآية أعلاه ، وهو لا يتعارض مع موضوع نزولها وهو معركة أحد.
لبيان أن الظلم عاقبته الرعب والفزع في الدنيا ليكون مقدمة وتذكير بالفزع الأكبر الذي يلحق الكفار والظالمين يوم القيامة والذي يكون المؤمنون الذين يعملون الصالحات في مأمن منه ، قال تعالى في الثناء عليهم ووعدهم وبعث السكينة في نفوسهم في النشأتين [لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
والنسبة بين العمل الصالح والإرهاب هي التضاد لبيان قانون الإرهاب حاجب ومانع عن الأمن يوم القيامة.
ويتجلى الإمتثال للنبوة باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتصديق الوحي إليه لما جاء به الأنبياء السابقون ، قال تعالى [وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ]( ).
توثيق القرآن لمنافع النبوات
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية جمع القرآن بين أمور :
الأول : أنه حق وصدق من عند الله ، وفيه تكامل الشريعة ، ومنه بيان التنافي بين التنزيل والإرهاب ، فمن معاني الحق الرحمة والأمن ، قال تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( )، ومن معاني قوله تعالى [فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] تجلي الحق والصدق من دون حاجة إلى الإرهاب والظلم .
الثاني : إحتواء القرآن لمضامين الكتب السماوية السابقة .
الثالث : تصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء السابقين ، ومن معاني هذا التصديق قانون توثيق القرآن والمسلمين للكتب السماوية وبعثة الأنبياء كل يوم وإلى يوم القيامة.
بعد أن إنقطعت النبوة بفترة نحو ستمائة سنة بين عيسى عليه السلام والنبوة الخاتمة نزل القرآن بحفظ جهاد الأنبياء وصبرهم في الدعوة إلى الله عز وجل وبيان اتحاد سنخية النبوة وليس فيها إرهاب أو ظلم ليقتدي بها المسلمون وأهل الكتاب والناس جميعاً لأن النبوة ثروة ومصداق الخلافة في الأرض حتى على القول بالمعنى الأعم للخلافة وأنها تشمل غير الأنبياء.
الرابع : إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنهاج وسنن الأنبياء السابقين ، وهو من مصاديق تصديقه لهم ، قال تعالى [ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، ومن مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، بيان مناهج الأنبياء ، ومنها حنيفية إبراهيم عليه السلام وليس فيها إرهاب إنما كان الصبر على الأذى في الدعوة إلى التوحيد والصلاة.
ومنه إلقاؤه في النار لتهشيمه الاصنام فانقذه الله بمعجزة حاضرة في الوجود الذهني عند كل مسلم ومسلمة حتى يرث الله الأرض وما عليها.
وهذا الحضور من مصاديق قوله تعالى [وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً]( )، لأن الله عز وجل إذا أنعم على الناس بنعمة فانه أكرم من أن يرفع هذه النعمة ولبيان قانون إحياء نعم الله على الأنبياء بالقرآن وآياته ، وهو الأمر الذي يختص به القرآن ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومن البيان وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : قانون خلو منهاج الأنبياء من الإرهاب .
الصغرى : قانون وجوب اتباع الأنبياء .
النتيجة : قانون خلو سيرة المسلمين من الإرهاب .
قانون أضرار الإرهاب عامة
قد تقدم مبحث (الضرورات الخمس) وأنه مصطلح علمائي ، فلم يرد في الكتاب والسنة تعيين هذه الضرورات وهي :
الأولى : حفظ الدين .
الثانية : حفظ النفس .
الثالثة : حفظ العقل .
الرابعة: حفظ النسل ، ومنهم من جعل بديلاً لها وهو حفظ العرض .
الخامس : حفظ المال .
قال تعالى [قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا]( ).
وهل هناك خزائن خاصة لكل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم أن خزائن رحمة الله عامة .
الجواب لاتعارض بين الأمرين ، وكل منهما فضل من الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ]( )لبيان أن خزائن الله من اللامتناهي .
وهل الخلق الحميد من الخير في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
والنسبة بين هذه الضرورات مجتمعة ومتفرقة وبين الإرهاب وفق النسب الأربعة في علم المنطق هي التضاد والتنافي بين الإرهاب وحفظ الدين.
لقانون التضاد بين أحكام الشريعة والإرهاب لقد جعل الله عز وجل الدين الأصل والركيزة في عمل الإنسان لأنه اعتقاد ثابت في الجَنان ، ويخالط الجوانح والأركان .
والدين لغة الطاعة والإنقياد ، وهو في الإصطلاح المنهاج المترشح عن المبادئ ، والدين على شعبتين :
الأولى : الدين السماوي النازل من عند الله عز وجل ، وهو الباقي في الأرض ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ]( ).
الثانية : الدين الذي هو من صنع البشر ، والذي سرعان ما يتبخر ويزول لإدراك الناس بالوجدان بطلانه ، ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض عجز هذا الدين والطرائق الروحية عن مزاحمة الدين السماوي ، وقانون سبق الدين السماوي والذي يتقوم بالتوحيد مع الإختلاف بين الشرائع في الجزئيات .
من معاني [مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ]( )
لم يهبط آدم وحواء من الجنة إلا ومعهما دين التوحيد ، وهل ينطبق على آدم قول الله تعالى [مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى]( )أم أن هذه الآية خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
المختار هو الأول ، وأن الله عز وجل لم يترك آدم عندما هبط إلى الأرض بلا وحي وتنزيل ، ومعنى [مَا وَدَّعَكَ] أي ما تركك ، و[وَمَا قَلَى] أي ما أبغضك منذ أحبك واختارك.
(عن ابن عباس قال : احتبس جبريل ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ، وحزن فأتاه جبريل وقال : يا محمد {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا} يعني من الدنيا {وما خلفنا} يعني من الآخرة)( ).
وقيل احتبس الوحي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر يوماً ، وقول أربعين يوماً .
و(عن السدي قال : احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة حتى حزن واشتد عليه ، فشكا إلى خديجة ، فقالت خديجة : لعل ربك قد ودعك أو قلاك ، فنزل جبريل بهذه الآية [مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى]( ) قال : يا جبريل ، احتبست عني حتى ساء ظني ، فقال جبريل وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ( ).
والسدي من التابعين ، ولم يرفع الحديث ، وورد الحديث عن ابن عباس وغيره من الصحابة ، ولم ينسبوا لخديجة هذا القول .
ومنه ما ورد عن (عروة عن خديجة قالت : لما أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحي جزع من ذلك فقلت له مما رأيت من جزعه : لقد قلاك ربك مما يرى من جزعك ، فأنزل الله { ما ودعك ربك وما قلى})( ).
وهو منقطع ومرسل ، إذ ولد عروة بن الزبير سنة (23) للهجرة النبوية.
بينما توفيت خديجة قبل الهجرة النبوية بثلاث سنوات ، وكانت تشد عضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنفق مالها في سبيل الله ، وتحملت أذى قريش في حصار بني هاشم مع أنها ليست منهم ، إنما هي من بني أسد من قريش .
ومثله ورد عن عبد الله بن شداد وهو تابعي من أهل الكوفة.
لبيان قانون وهو إذا ورد خبران متعارضان عن الصحابي والتابعي يقدم خبر الصحابي مع صحة السند ، وكذا إذا ورد عن أهل البيت والتابعي ، فيقدم خبر أهل البيت .
و(عن زيد بن أرقم قال : لما نزلت {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى}( ) إلى {وامرأته حمالة الحطب}( ) فقيل لامرأة أبي لهب : إن محمداً قد هجاك . فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في الملأ ، فقالت : يا محمد علام تهجوني .
قال : إني والله ما هجوتك ، ما هجاك إلا الله .
فقالت : هل رأيتني أحمل حطباً أو رأيت في جيدي حبلاً من مسد؟ ثم انطلقت . فمكثت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً لا ينزل عليه ، فأتته فقالت : ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك ، فأنزل الله { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى })( ).
لبيان أن الآية الكريمة رد على المشركين ، وبعث للسكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولا يختص موضوعها في سبب وأوان النزول ، بل هي بشارة حضور الوحي عند الشدائد في معركة بدر ، وأحد والخندق وحنين .
إرهاب قريش في طريق الهجرة
لقد كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له في أوانها وموضوعها ، وكيف أنها سبيل النجاة من المشركين ، مع الإقرار بأن عدد طرق نجاته لا يعلمها ويقدر عليها إلا الله عز وجل.
لقد كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة شاهداً على أن المشركين هم أهل الإرهاب ، وبنو هاشم من سادات مكة ، وعندهم السقاية والرفادة ، ولم تكن سقاية الحاج وتوفير الماء لوفد الحاج بالأمر الهين لقلة وندرة الماء في مكة ، فيجمع بنو هاشم المياه العذبة بأحواض من الجلد ، وتنقل على الإبل لتوضع في فناء الكعبة ، كما يقومون بشراء العنب والزبيب من الطائف لتحلية ماء زمزم .
وأهم وظائف البيت الحرام هي السدانة أو الحجابة ثم السقاية ، ولا ينحصر موضوع الحجابة بموسم الحج.
فالذي بيده مفتاح الكعبة يقوم بفتح بابها للناس في أوقات وأشهر مخصوصة ، ويغلقه ، وكانت السدانة في بيت بني عبد الدار ، وهي إلى الآن في أحفادهم من بني شيبة .
ويستحيل استدامة هذا الأمر مع تقلبات الأيام وتعاقب الدول والأنظمة والرياسات على مكة لولا معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة ، فحينما أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة من بني عبد الدار وهو سادن الكعبة .
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكعبة وأزاح الأصنام والصور التي في داخلها ، ثم صلى فيها ، وعندما خرج وكان عثمان بن طلحة شديد الخوف على المفتاح خاصة وأن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع لبني هاشم السدانة مع السقاية .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفعه إلى عثمان بن طلحة وقال له (خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلّا ظَالِمٌ يَا عُثْمَانُ إنّ اللّهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ فَكُلُوا مِمّا يَصِلُ إلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ)( ).
لبيان مسألة وهي تثبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للوظائف التأريخية والأعراف منعاً للشقاق وغلبة النفس الغضبية والإرهاب.
وفيه منع لغلبة النفس الشهوية والغضبية على الإنسان وإن تقلبت الأحوال العامة والخاصة.
وعن صفوان بن سليم (عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ألا من ظلم معاهدا وانتقصه وكلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فانا حجيجه يوم القيامة وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باصبعه إلى صدره ، ألا ومن قتل معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله حرم الله عليه ريح الجنة وان ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفاً)( ).
وقد تقدم في حديث عبد الله بن عمرو يرفعه أن ريح الجنة ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ، فهل يمكن الجمع بين الحديثين للدلالة على إفادة بعد المسافة لانتشار عطر الجنة ، أم أن الإختلاف من قبل الرواة والتسامح فيه ، المختار هو الثاني .
وفي طريق هجرة النبي من مكة إلى المدينة ، وعندما جعل كفار قريش جعالة لمن يأتي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياً أو ميتاً مائة ناقة ، طلبه الناس ، فدخل هو وأبو بكر في الغار ، ونزل قوله تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
فقوله [اللَّهَ مَعَنَا] والذي لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية مرتبة عظيمة ثم أخبرت الآية عن نزول السكينة عليه ، وتأييد الله عز وجل بالجنود التي لا يراها الناس ، لبيان أن الدنيا ملآ بالجنود ، وهم حفظة للذي يحفظ دينه وإيمانه ويتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة ، ومن هذا الحفظ العصمة من الإرهاب .
وهل يمكن القول بقانون سلامة الدين بالتنزه عن الإرهاب ، الجواب نعم ، ليترشح عنه قانون ضرورة عصمة المسلمين من فعل الإرهاب .
وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : قانون حفظ الدين ضرورة .
الصغرى : قانون ترك الإرهاب حفظ للدين .
النتيجة : قانون ترك الإرهاب ضرورة .
الثاني : حفظ النفس
من واجبات الإنسان تعاهده لبقائه حياً بتناول الطعام والشراب ، ومستلزمات اللباس والسكن ، والإمتناع عما يهدد حياته وأسباب الهلاك ، وما يجلب لها الضرر .
ومن المعنى الأعم لحفظ النفس النكاح وطلب الولد ، وهو الذي جعله الله عز وجل مزروعاً بالفطرة عند الإنسان ، فالله عز وجل الذي [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ]( ) جعل الإنسان ذكراً أو أنثى يبذل الوسع والأموال للإنجاب ويتولى العناية بأولاده إلى أن يشبوا ويبلغوا سن الرشد .
ليدرك المسلم حب الناس لأبنائهم ، ولزوم عدم التعدي عليهم ، قال تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
ليفوز المسلم بحفظ الدين في نفسه وفي أبنائه ، ومنه تأديبهم بالتنزه عن الإرهاب ، ولبيان منافاته للإيمان ، وتضاده مع حرمة الإضرار بالنفس والغير ، قال تعالى [وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ) وذكر في معنى حفظ النفس حكم القصاص لموضوعية الحدود ، ولكن هذا الحفظ أعم ويبدأ من يوم خلق آدم ، وسؤال الملائكة نجاة الناس من الفساد وسفك الدماء .
ومن حفظ النفس وجوب قيام الحكومات بتأمين سلامة الناس في الحضر والسفر والطرقات ، ومنع سفك الدماء ، بالجيش والشرطة والتربية والقضاء وسبل الأمن ، ومن الآيات أن هذه الوظيفة العامة من أهم وأظهر الوظائف التي اعتنت بها الحكومات في عموم الأرض بمختلف الأديان والمذاهب ، أي أن حفظ النفس على نحو القضية الشخصية والنوعية.
ومن وجوه قبح الإرهاب مجيؤه على النفس بهلاكها ونفوس الآخرين ، مع حالات الكآبة والكدورة وتعطيل الأعمال ، لذا فهو مضاد لضرورة حفظ النفس ، فلابد من إجتنابه والتحذير منه .
وترك الإرهاب سبب لنزول الرحمة على الذي يتركه ويعزف عنه ، وعلى الذي يدعو لإجتنابه وهجرانه ، إذ قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن الولاية الذاتية بين المؤمنين التواصي بالعدل والصلاح ، وما يبعث النفرة من الإرهاب ، ويتجلى قانون حفظ النفوس المتعددة بالإمتناع عن الإرهاب ، لبيان أن هذا الإمتناع ضرورة للذات والغير ، وهو من أسباب التراحم بين الناس ، والوقاية من الفتن ، فمن قبح الإرهاب الغيري صيرورته سبباً للفتن ، والإضرار بالأهل والأقارب والمذهب والملة ، للمؤاخذة العامة بالجريرة والإنتساب ، مع أن المذهب والملة بريئان من الإرهاب .
الثالث : حفظ العقل
لقد رزق الله الإنسان العقل ، ولا يختص هذا الرزق بأهل الإيمان ، إنما هو فضل عام من عند الله عز وجل ، لتأهيل وإصلاح الإنسان للخلافة في الأرض ، والتمييز بين الحق والباطل ، والنافع والضار .
ويجب على الإنسان تعاهد هذه النعمة العظمى التي يحتاج إليها الإنسان في كل ساعة من ساعات حياته يقظاً كان أو نائماً لتوجيهه بالعمل في دائرته حتى عند نومه .
ومنهم من قيد موضوع حفظ العقل بحد السكر، أي جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ، ولكن القرآن جاء بالمعنى الأعم والطاقة الإيجابية ، وإشاعة مفاهيم الحكمة ، واللطف ، والإحسان ، ونشر مبادئ الإيمان بين الناس ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ]( ).
فمن خصائص العقل أنه يقود إلى الإيمان والتقوى ، ويملي على الإنسان التصديق بمعجزات الأنبياء وما يترتب عليها من الإنقياد للأوامر والنواهي التي جاءوا بها .
ومنها الصلاح ونشر ألوية الأمن والإمتناع عن الإضرار بالناس ، إذ يحكم العقل بقبحه وخلوه من النفع ، والنسبة بين هذا الإضرار والإرهاب عموم وخصوص مطلق.
فالإرهاب فرع الضرر والإضرار وسبب من أسبابه ، وهل ينحصر ضرر الإرهاب بأوانه ومحل فعله ، الجواب لا ، إنما هو عام ويأخذ بالإتساع بواسطة الإعلام والتفصيل حتى من غير مبالغة وتهويل فيه .
لقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب ، ومنه إتخاذ نعمة العقل لبذل الوسع في تهذيب الأخلاق ، والزجر عن الإرهاب والتعدي على الناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومللهم.
قانون خلو الإرهاب من المصلحة
من وظائف العقل إزدراء العمل الإرهابي ، وإدراك سوء عاقبته في الدنيا والآخرة بلحاظ أن العقل يؤمن بما في التنزيل من الوعد بالجنة للصالحين ، والوعيد بالنار للظالمين ، وقد صدر الجزء الخمسون بعد المائتين من هذا السفر خاصاً بتفسير قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
ومن خصائص العقل تعيين المصلحة والسعي لجلبها ، وتشخيص المضرة ودفعها والمفسدة وموارد الإثم ، مع إختلاف الناس في المدارك العقلية ، ومنهم شديد الذكاء ، ومنهم أدنى منه بمرتبة أو مراتب ، ولكن الجميع يدركون خلو الإرهاب من المصلحة للذات والغير ، وعدم جلب السعي إليه إلا الضرر والخسارة والندامة .
وبخصوص الأشهر الحرم ، قال تعالى [فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ) ولم يرد لفظ [َظْلِمُوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، والإرهاب ظلم للنفس في أي يوم من أيام السنة كان فعله ، فلابد من التنزه عنه .
ومن منافع العقل حفظ التنزيل وتوثيق السنة النبوية ، ومنع وصول يد التحريف إلى آيات القرآن ، ومنه :
الأول : قانون تحريم التنزيل للإرهاب .
الثاني : قانون نهي السنة النبوية عن الإرهاب .
الثالث : قانون نهي العقل عن الإرهاب ، فحتى غير المؤمن يدرك قبح الإرهاب ، وأنه ضرر محض ، ليكون من باب الأولوية القطعية إجتناب المؤمنين عن الإرهاب وتنزههم عنه ، وهو الذي تحقق في الواقع ، ولا عبرة بالقليل النادر .
الرابع : حفظ النسل
لا ينحصر الإعجاز بمجيئه على أيدي الأنبياء سواء بالمعجزات الحسية أو المعجزات العقلية بل ذات خلق الإنسان معجزة عظمى يتساوى فيها وفي أصل التدبر فيها الأنبياء وعامة الناس ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) وقال تعالى [وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ]( )ومنه تكوين الإنسان من [ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ).
وقيل بحفظ النسل باقامة حد الزنا وحذ القذف ثمانين جلدة ، ولكن موضوع الضرورة بحفظ النسل أعم ، ويبدأ بالنكاح ولكل أمة قواعد في النكاح ، وبما يقيهم الزنا والسفاح .
وجاء الإسلام بضبط أحكام النكاح وتأكيد حرمة الزنا ، والحيطة والحذر بالترغيب بالإنجاب الشرعي .
ومن حفظ النسل الواقعي الحصانة من الإرهاب لأنه إزهاق للنفوس وقتل للآباء والأبناء ، وأما التعليقي فان الذي يُقتل في العمل الإرهابي تفوته قهراً فرصة إنجاب الأولاد ، وحتى الذي يقتل بالعمل الإرهابي وعنده ولد أو أكثر ، فان هذا العمل حائل دون زيادة نسله ، ومضاعفة هذا النسل بالأجيال اللاحقة ، قال تعالى [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( ).
و(عن عبدالله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة ، يزيده الله بها هدى أو يرده عن ردى)( ).
ولم تقيد الآية أعلاه مقدار الأذى الواجب على كل مسلم تركه باليد والفعل إنما يشمل اللسان لإرادة الإطلاق فيه ، فكل إيذاء للغير قبح لبيان مسألتين :
الأولى : قانون الحكمة واقية من الإرهاب ، فمعها يدرك الإنسان أن الفعل الإرهابي مخالف للعقل وأحكام الشريعة .
الثانية : النسبة بين الردى والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فليس في الإرهاب إلى الهلكة ، لذا فان نشر وتلقي الحكمة حصن من الردى والهلكة .
وكذا صفة العموم ، فلا يجوز للمسلم إيذاء أي فرد أو جهة من الناس ، والإرهاب أشد أنواع الأذى والضرر ، وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين ونجاهم من أضرار كفار قريش بهم ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى]( )، وفيه نهي عن الإضرار بالعباد .
الخامس : حفظ المال
وهو ضرورة للفرد والجماعة ، وإرادة المال الخاص والعام ، قال تعالى [لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( ).
وقد سنّ الإسلام ضوابط وقواعد أحكامه لحماية الأموال من الضياع والتلف في التجارة والمكاسب والبيع والشراء ، والرهن والضمان ، والكفالة والقرض ، منه خيار الغَبْن ، وقاعدة نفي الجهالة والغرر ، بل ونهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التلقي ، أي تلقي الحضري البدوي والذي يجلب بضاعته إلى البلدة قبل وصوله البلد ، فيخبره مثلاً بكساد بضاعته كذباً ليشتريها منه بثمن أقل من المثل ، وإذا تبين خلاف قوله ثبت للبائع الخِيار بكسر الخاء ولما فيه من حجب المنافسة في الشراء.
ومن الإعجاز مجئ أطول آية في القرآن بخصوص التداين وأولها [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ) .
وقد صدر الجزء 49 والجزء 139 من هذا السِفر في تفسير هذه الآية الكريمة .
وامتاز الإسلام بتحريم الربا بآيات من القرآن تبين قبحه وضرره ولزوم إجتنابه ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ( ) .
مما لم يردع عنه الشارع والمصالح المرسلة ، أعم من الضروريات الخمس ، وتطلق المصلحة هنا على جلب المنفعة ودفع المضرة ، وليس في الإرهاب مصلحة ، ولو على نحو الموجبة الجزئية التي تتداخل مع الضرر المترشح عن الإرهاب ، فكل فرد من الإرهاب باللسان والقلم واليد هو ضرر محض ينهى عنه الشارع ، كما ينهى عن مقدمات الإرهاب لحرمة المقدمة لحرمة ذيها ، والإنسان بفطرته يحب الإقتناء الخاص ، ومنه جمع المال والإحتفاظ به ، قال تعالى [وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا]( ) أي حباً مفرطاً وشديداً .
ولم يرد لفظ [جَمًّا] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان المنزلة الفريدة للمال في حياة الناس ، فجاء الأمر بدفع الزكاة للإمتحان والأجر والثواب ، وسماها الله الزكاة ، وعداً منه تعالى على الخلف والعوض العاجل والآجل ، إذ أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) لبيان حرمان الذي يقوم بالفعل الإرهابي نفسه من مضامين الآية والوعد الكريم الذي تتضمنه الآية لأنه عمل غير صالح .
معجزة تضاؤل النفاق
هل يمكن القول كما أن لكل إنسان بصمة يد وعين خاصة ، فان لكل إنسان عاقبة وخاتمة لحياته ينفرد ويختلف بها عن غيره ، الجواب نعم ، ولا تعلم الملائكة خواتيم حياة الإنسان ولا يحيط بافراده وتفاصيله لأي إنسان إلا الله وحده ، وهو من عظيم فضله وسعة سلطانه، لوجود قانون المحو والإثبات الذي هو بيد الله وحده ، ولا يقدر عليه غيره ، قال تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
ومن الإعجاز البياني في القرآن وضوح احتجاج الملائكة إذ أنهم ذكروا مسألتين :
الأولى : فساد الإنسان في الأرض .
الثانية : سفك الدماء وقتل الإنسان لأخيه الإنسان ، مع توجه الملائكة بالشكر لله عز وجل على أنهم لا يفسدون في السماء ، ولا يقتل بعضهم بعضاً ، إنما هم منقطعون إلى الذكر والتسبيح ، فسألوا الله عز وجل أن يكون الناس مثلهم ، لبيان قانون احتجاج الملائكة رحمة بالناس ودعاء وتوسل رجاء محاكاتهم للملائكة.
ليكون من معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ) غلبة حال السلم والأمن في أكثر أيام الحياة الدنيا ، وأن الذي يقوم بالفساد والقتل هم القلة.
ومن اللطف الإلهي أن أيام السلم أضعاف أيام القتال والحرب والإرهاب ، وأن البلاء يلاحقهم في الدنيا ، وينتظرهم العذاب الأليم في الآخرة .
ليشكر الملائكة الله عز وجل على حسن حالهم وسلامتهم من البلاء ومن سوء العاقبة ، لبيان إعجاز في خلق آدم ، فلما أخبر الله عز وجل الملائكة بجعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ذكروا أنهم بمأمن وسلام .
ومن علم الله عز وجل حال الظلم والتعدي وقيام بعض الأفراد والجماعات بالإرهاب وبرداء صبغة مشروعة زوراً ، ومن علم الله عز وجل فضح زيف هذه الصبغة وإنحسار الظلم والإرهاب بسرعة لأن الله عز وجل جعل الدنيا دار رحمة للناس جميعاً .
وهذه الرحمة من مصاديق خلافتهم في الأرض ، لبيان وجوه :
الأول : قانون تنافي الإرهاب مع خلافة الإنسان في الأرض .
الثاني : قانون الخلافة في الأرض تأديب وإصلاح للناس .
الثالث : قانون خلافة الأرض استئصال للإرهاب للتضاد بينهما ، فمن خصائص خلافة ووراثة الأرض التحلي بالتقوى والصلاح ، والإمتناع عن الإضرار بالناس .
وكل من الفساد وسفك الدماء ضرر خاص وعام ، فلا تنحصر أضرار القتل بالمقتول بل تشمل أسرته باليتم للصبيان والترمل للزوجة ، والحزن والحسرة والألم للوالدة والوالد والأقربين.
واتصف الإرهاب باتساع دائرة الضرر بما هو أعم من الأسرة وأهل البلدة وإن لم يقع قتال في العمل الإرهابي فانه إرباك وإخافة للمجتمعات فهو فساد عام فمن أبجديات الإيمان التنزه عنه ، والإبتعاد عن مقدماته لأن بطش الله قريب من الذين يؤذون المجتمعات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
لما فيه من الوعد للملائكة ، وبعث السكينة في نفوسهم بتهذيب قول وعمل خلفاء الأرض ، وعزلة أهل الظلم والعدوان والإرهاب ، وإنحسار ضررهم وسوء عاقبة الظلم .
فمن علم الله في المقام أن خلافة الناس في الأرض لا تستديم ولم يكتب الله لهم فيها الخلود ، إنما هناك عالم الجزاء والحساب الذي يحضره الملائكة في الآخرة ، وفيه إنذار من ساعة حضور الملائكة عند الأجل ويوم القيامة ، قال تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
والنسبة بين القتال والإرهاب عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، ومن وجوه الإلتقاء :
الأول : الضرر .
الثاني : الخسارة في النفوس والأموال .
الثالث : حال الخوف والفزع والإرباك .
الرابع : منافاة الفطرة الإنسانية .
الخامس : كل من القتال والإرهاب خلاف وظائف الخلافة في الأرض ، وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن مادة الإفتراق وقوع القتال بين فريقين أو أكثر ، أما الإرهاب بمفهومه في هذا الزمان فهو غدر وغيلة .
قانون جهاد النبي (ص) بالبسملة
لقد ذكرت عنوان هذا القانون في الجزء التاسع والثلاثين بعد المائتين ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون البسملة بيان قولي لسنخية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها رحمة وأمن .
الثانية : قانون البسملة تذكير بالله ونفي للشرك ، وحرب على مفاهيمه.
الثالثة : قانون البسملة بشارة الفتح ، لأنها عنوان التوكل الصادق على الله عز وجل .
الرابعة : ترغيب الناس بالإسلام ، لأنه دين الرحمة والتراحم .
الخامسة : من أسرار ابتداء كل سورة من القرآن بالبسملة عدا سورة براءة أن كل آية منه رحمة من الله عز وجل .
السادسة : البشارة بالتوفيق والفلاح لمن يتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم له لتغشي الرحمة الإلهية للمؤمنين.
السابعة : موضوعية البسملة في دخول الناس الإسلام ، فذات قول (بسم الله الرحمن الرحيم) فقاهة .
الثامنة : قانون البسملة وقاية من كيد الكفار لذا فهي جهاد احترازي من غير سل للسيوف أو دخول معارك وحروب .
التاسعة : الأجر والثواب العظيم بتلاوة البسملة.
العاشرة : إتخاذ البسملة أو شطر منها دعاء وتضرعاً ومقدمة للمسألة.
و(عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ذات يوم ، فدعا ربه فقال في دعائه : يا الله . . . يا رحمن . . . فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ، ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين . فأنزل الله [قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ]الآية( ))( ).
الحادية عشرة : البسملة فاتحة القول والعمل لتضفي عليه البركة وينتفع منه الخاص والعام ، وعن الإمام علي عليه السلام قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله حدثني عن الله جل وعز أنه قال: كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر)( ).
والإبتداء بالبسملة في القول والفعل مستحب ، ومن جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبسملة الإجهار بها في البيت الحرام في سني البعثة الأولى وبين ظهراني قريش .
و(عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فقال [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ]( )، فقالت قريش : دق الله فاك)( ).
وأصل الفض الكسر .
وقد تلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أذى الكفار بالصبر مع شدة هذا الأذى وأنه بالقول والفعل والحصار والإضرار بالأبدان ، وفيه حجة ودعوة للمسلمين للصبر على الأذى ، وعدم اللجوء إلى الإرهاب لأنه أذى للذات والغير وللمبادئ.
وهل قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ]( )، خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أما خطاب عام يشمل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، الجواب هو الثاني .
لبيان قانون وجوب الصبر واقتران التسبيح به وفيه بعث للسكينة في النفوس ، والآية أعلاه شاهد على حرمة الإرهاب في كل الأحوال.
قانون استقراء النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب من آيات (قل)
كثرة وتعدد موضوع آيات (قل) عبرة وحكمة وهدىً.
إذ ورد لفظ (قل) خطاباً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل (328) مرة ، وهو بذاته معجزة ورحمة ، ومدرسة لاقتباس الدروس والأحكام ووجوب جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالكلمة ، والموعظة والإحتجاج ، وفيه غنى عن الإرهاب وبراءة منه .
وهناك سور بدأت بلفظ (قل) وتسمى القلاقل الخمس :
الأولى : سورة الجن .
الثانية : سورة الكافرون .
الثالثة : سورة الإخلاص .
الرابعة : سورة الفلق .
الخامسة : سورة الناس .
وكذا كثرة المواضيع والأحكام التي ورد فيها لفظ قل وأيهما أكثر :
الأول : الخبر في موضوع لفظ (قل) .
الثاني : الأمر في موضوع لفظ (قل) .
ويدخل الحكم الشرعي في باب الأمر ، وإن كان نهياً لإرادة صيغة الإنشاء .
المختار هو الثاني ، وإن اكثرها وردت في الأحكام والإحتجاج والأوامر منها قوله تعالى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ]( )، [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ]( ).
لبيان تعدد الأحكام التكليفية وصيغ التبليغ التي تتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل لفظ (قل) بلحاظ جهة الخطاب وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو وحده المقصود في الخطاب مثل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( )، ومنه [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ]( ).
الثاني : الخطاب الذي قام الدليل على أنه عام وإن جاء بصيغة المفرد ، كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( )، إذ تلحق الأمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجواب.
ولو كان السائل من المسلمين في آيات (يسألونك).
فهل تلحق الأمة وأجيالها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر وذات الإجابة ، الجواب نعم إلا ما دل الدليل فيه على التخصيص.
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص توجيه الأسئلة له من وجوه :
الأول : يسأله المسلم فيزداد ايماناً ، ويقوم بتبليغ الإجابة إلى الناس.
الثاني : صيرورة السائل لرسول الله رسولاً منه إلى الناس برهم وفاجرهم.
الثالث : يسأل الكتابي النبي محمداً فيدرك أنه رسول من عند الله ، ليمتنع عن قتاله ومحاربته .
الرابع : يسأل الكافر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، فتكون الإجابة سبباً ونوع طريق لدخوله الإسلام .
قانون كثرة الأمر (قل) نهي عن الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه مدرسة (قل) وتقدير آيات الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : (قل يا محمد).
الثاني : يا أيها الرسول جاهد بالقول ففيه الكفاية في دعوة الناس للإيمان.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قولوا كما قال الرسول ، نعم يخرج الخطاب الخاص بالتخصص.
فان قلت فما هو شأن معركة بدر وأحد ، والخندق ، وحنين ، ولماذا قاتل فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والجواب إنما قاتلوا دفاعاً عن أنفسهم وعن النبوة والتنزيل ، وكان المشركون هم الغزاة والمعتدون في كل معركة منها.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد اثناء المعركة بالقول ومنه نداؤه بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
وهناك مسألة وهي هل كان لتعدد وكثرة أوامر (قل) موضوعية ونفع عام ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : هداية الناس للإيمان .
الثانية : قانون أولوية الإحتجاج .
الثالثة : إنزجار المشركين عن كثرة القتال .
الرابعة : انقطاع المعركة بسرعة ، فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كلاً من معركة بدر وأحد لم تستمر إلا شطراً من يوم واحد .
الخامسة : قانون تجدد منافع (قل) القرآنية في كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
السادسة : من مصاديق الصبر آيات (قل) لما فيها من كف الأذى ، وإشغال الناس ، ودعوتهم للجوء إلى الحجة والبرهان ، ومنها اللجوء إلى التسبيح والذكر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ]( ).
أسر العباس يوم بدر
هو أبو الفضل العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان العباس أسن منه بسنتين .
وكان يتولى السقاية في الجاهلية ، وكذا العمارة وهي منع الناس من السب والشتم والهجر والهجاء في البيت الحرام ، وعنده أعوان في عمله هذا .
و(عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ، فقال : كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( ).
قال : فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة .
قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه ، قال : الأعمش فبذلك تفتخر بنو العباس ، ويقولون : فيهم نزلت إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ( ).
وذكر أن العباس ذبّ ودافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وقد وقع بعدها أسيراً بيد المسلمين يوم معركة بدر ، واقترح أحد الصحابة قتله.
بينما أوصى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرفق لكل من أسدى اليه معروفاً ، أو سعى في كف أيدي قريش عنه .
وحينما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة ومعهم الأسرى لم ينم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلته.
(فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا رسول الله؟
فقال: اسهر لأنين العباس، فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لي لا أسمع أنين العباس .
فقال الرجل: أنا أرخيت وثاقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فافعل ذلك بالأسرى كلهم)( ).
وفي هذا الخبر شاهد على أن الأسرى كانوا قريبين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما لو كانوا في المسجد النبوي ليروا عبادة المسلمين وتآزرهم وتعاونهم .
وقيل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يوم بدر : من لقي منكم العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج كارهاً)( ).
وفي أيام الأسر وحينما طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمه العباس دفع بدل الأسر (ادعى أنه كان قد أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك وسيجزيك ، فادعى أنه لا مال عنده.
قال : فأين المال الذى دفنته أنت وأم الفضل وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبنى الفضل وعبد الله وقثم .
فقال: والله إنى لاعلم أنك رسول الله، إن هذا شئ ما علمه إلا أنا وأم الفضل)( ).
ولعل العباس أكثر رجال قريش دفعاً للمال في فكاك الأسرى ، وكان رجلاً موسراً ، فدفع مائة أوقية من الذهب عن كل من :
الأول : نفس العباس .
الثاني : عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب .
الثالث : نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
الرابع : عتبة بن عمر ، حليف للعباس .
ليدخل العباس الإسلام فيما بعد ويهاجر إلى المدينة وتأتي الأموال وينال منها العباس سهماً ، ويكون أبناؤه قادة وأئمة .
و(عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوتى بمال من البحرين فقال : انثروه في المسجد ، فكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني، إنى فاديت نفسي وفاديت عقيلا.
فقال: خذ.
فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال مر بعضهم يرفعه إلى.
قال: لا.
قال: فارفعه أنت على.
قال: لا.
فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلى.
قال: لا.
قال: فارفعه أنت على.
قال: لا.
فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق.
فما زال يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرصه ، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ لنفسه أو لعياله من هذا المال مع كثرته شيئاً ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن سنة النبي محمد صارفة للمسلمين عن العنف والظلم والتعدي والإرهاب وأكل المال بالباطل.
ويتجلى الصبر بأبهى معانيه بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يختلف اثنان على حاجة الإنسان للصبر وكيف أنه واقية وحرز من الإقدام على العمل الإرهابي.
وقد ثبت عند كل المسلمين ذبّ ودفاع أبي طالب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وورد عن جابر بن عبد الله قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( )، فذهب ليبعث معه فقال : يا عم ، إن الله قد عصمني حاجة لي إلى من تبعث)( ).
ومثله عن أبي سعيد الخدري.
ولكن ورد عن عائشة أنها قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( ) فأخرج رأسه من القبة فقال : أيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله)( ).
وهل يحتمل نزول الآية مرتين ، الجواب لا .
والمشهور أن الآية أعلاه نزلت في حجة الوداع ، والمختار أنها في بيعة غدير خم .
قانون تكرار (قل) نهي متجدد عن الإرهاب
من الإعجاز في تكرار لفظ (قل) في القرآن ومضامينه القدسية ودلالاته وجوه :
الأول : مضامين آيات قل دعوة إلى الإسلام .
الثاني : قانون كل آية من آيات (قل) حكمة وموعظة .
الثالث : تبعث آيات (قل) السكينة في نفوس المسلمين .
الرابع : بيان قانون كفاية الإحتجاج القرآني في الدعوة إلى الله ، وليس كل احتجاج يجذب الناس للإيمان ، ولكنه الإحتجاج النازل من عند الله وهو سبحانه والمتفرع عنه يعلم سبل إصلاح الناس وهدايتهم ، وفي التنزيل [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ).
الخامس : بيان آيات (قل) لقبح الإرهاب ، ولزوم إجتنابه والعزوف عنه .
السادس : التضاد بين مضامين السلم والموادعة والرحمة التي وردت في آيات (قل) وبين الإهاب.
السابع : كثرة الأمر (قل) بعث على الجهاد بالكلمة وكف الأيدي وفي التنزيل [وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ]( ).
فلا يبطش النبي بالذين يؤذونه من المنافقين ونحوهم ، وكان يقبل اعتذارهم وإن لم يكن له وجود واقعي .
و(عن السدي قال : اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ، وجحش بن حمير ، ووديعة بن ثابت ، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنهى بعضهم بعضاً وقالوا : أنا نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بكم ، وقال بعضهم : إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ…الآية( ).
لبيان قانون منع السنة النبوية من العنف وأسباب الكراهية ، والبغضاء.
ومن معاني [هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ] توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبليغ الأحكام لعامة الناس ، وتثبيت معالم الإيمان ، وأحكام الفرائض .
وعدم الإنشغال بالمسائل الشخصية ، والتحقيق هل صدر هذا القول من فلان ، وهل يقصد فيه الذم ونحوه .
ووصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أذن يسمع من كل أحد معجزة له ، لبيان قانون وجوب سماع الناس منه ، لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وليس سماعه منهم إلا من جهة الاستشارة والتي لا تأتي ابتداءً منهم في الغالب لقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ]( )، أي أن النبي محمداً هو الذي يشاور أصحابه ، ويرغبهم فيها ، وهذه المشاورة تأديب ، وحرب على الإرهاب ، ومنع منه.
تلاوة النبي (ص) الآيات عصمة من الإرهاب
لقد أخبر القرآن عن جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن على المسلمين والناس جميعاً ، وقد تحمل بسبب هذه التلاوة أشد الأذى من قريش إلى أن سادت آيات القرآن وصارت منهاجاً عملياً للمسلمين والمسلمات من جهات :
الأولى : ذات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الإرهاب ، فمع أول يوم من بعثته ونزول الوحي عليه بدأ إنحسار الإرهاب ، وارتبك الظالمون وهو معجزة له ، ومن الشواهد عليه أن أول آية من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، ومنه ترشح تعليمه الكتاب والحكمة للمسلمين والمسلمات فلا يقرأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين إلا ما هو حصانة من الظلم والإرهاب وزاجر عنه .
الثانية : لا يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا كلام الله الذي نزل به جبرئيل وهو من معجزاته ، ولم ترزق أمة مثل هذه النعمة العظيمة وهو من أسرار بقاء القرآن سالماً من التحريف والزيادة والنقصان يدعو الناس كل يوم إلى التآخي والتوادد .
وهل سلامة القرآن من التحريف معجزة خاصة به ، أم هي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ، الجواب هو الثاني.
ليتجلى قانون التراحم بين الناس ببركة وهدى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أي أن الرحمة الإلهية في بعثة النبي محمد لا تنحصر بذات وأوان رسالته ، بل هي توليدية متفرعة الأغصان متعددة الثمار اليانعة في كل زمان .
الثالثة : من معاني وتقدير [يتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) وجوه :
الأول : يتلو عليهم آياتهم التي تأمر بالعدل والإحسان.
الثاني : يتلو عليهم آياته التي تصلح أحوالهم .
الثالث : يتلو عليهم آياته التي تنهى عن الظلم والإرهاب.
الرابع : يتلو عليهم آياته ليبلغوا مراتب الفقاهة والعلم .
الخامس : يتلو عليهم آياته فتنعكس بسيرتهم الحسنة ، وأخلاقهم الحميدة ، فيتعلم الناس منهم .
السادس : يتلو عليهم آياته التي هي ضياء يقودهم إلى الجنة .
السابع : يتلو عليهم آياته ليتوارثوا كلاً من :
الأولى : تعاهد آيات القرآن رسماً ولفظاً ونظماً .
الثانية : حفظ آيات القرآن .
الثالثة : تلاوة أجيال المسلمين لآيات القرآن .
الرابعة : قانون عمل المسلمين بمضامين آيات القرآن ، وهذا العمل من رشحات تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها.
لقد جعل الله عز وجل تلاوة القرآن مدرسة إصلاح يومية تنفذ دروسها إلى كل بيت ، وتخالط شغاف القلوب لوجوبها على كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم ، وكل واحدة منها تأديب ودعوة للسلم ، وبعث للنفرة من الإرهاب والظلم والعنف.
قانون تعاضد القرآن والسنة في النهي عن الإرهاب
لقد أراد الله عز وجل للتنزيل أن يكون دستور الحياة يخلو منهاجه من التزاحم وتعارض الأحكام ، وتفضل الله عز وجل بسلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقيصة ، قال تعالى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
والسنة النبوية هي المصدر الثاني للقرآن ، وفيها تعضيد للقرآن في تثبيت أحكام الشريعة في الأرض .
ومن مصاديق هذا التثبيت الإستقرار المجتمعي بالنبوة وأحكامها ، وتعاهد أسبابه ليكون الفعل الإرهابي مكروهاً ومرفوضاً من الجميع لما فيه من مخالفة لأحكام الشريعة وسنن المجتمع .
وهل هذا الإستقرار من مصاديق الخلافة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب نعم ، لذا إذ حدثت الإضطرابات اختل النظام العام ، وسعى العقلاء لإعادته وإزاحة أسباب الإختلال ، ومن أسبابه العمل الإرهابي وتطبيق مفاهيمه في الواقع اليومي للناس ، وهو خلاف وظائف الإنسان مطلقاً ، والمسلم على نحو الخصوص.
إذ ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (بعثت لاتمم صالح الأخلاق).
و(عن النًّواس بن سَمعان الانصاري قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والاثم فقال البرحسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وكرهت ان يطلع عليه الناس)( ).
ليبين الحديث قانون التضاد بين حسن الخلق والإرهاب ويترشح عنه قانون التضاد بين الإيمان والإرهاب لأن حسن الخلق من الإيمان.
وقانون الإرهاب أشد وأقبح من الإثم ، ويبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث تحريم صدور الإرهاب من أي إنسان مسلماً أو غير مسلم ، وحرمته ضد أي إنسان لأن حسن الخلق من الوظائف العامة للخلافة في الأرض ومصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وهناك تضاد بين حسن الخلق وبين الإرهاب ، فلابد من الإمتناع عنه والتنزه عن مقدماته ، لبيان أن السنة النبوية تعضد القرآن في قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وتبين الآية أعلاه قانون التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجب أخلاقي إلى جانب كونه واجباً شرعياً والذي يريد القيام بالفعل الإرهابي يعلم بأن الناس لا يرضون على هذا الفعل ويمنعون منه ، وليس فقط يكرهونه كما في الحديث أعلاه.
فلابد من تركه وصرف النظر عنه ، ودعوة الشباب لإجتنابه لأنه ضرر محض ، وخلاف أحكام آيات القرآن والسنة النبوية .
وهل تعضيد السنة النبوية للقرآن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو تعضيد يومي متصل ليس له انقطاع إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تعاهد المسلمين للسنة النبوية .
وتكفي الآية القرآنية الواحدة للنهي عن الإرهاب ، ولكن الله ذو فضل عظيم على المسلمين والناس جميعاً ، ومنه تعدد الآيات التي تنهى عن الإرهاب والتي تحرمه وتجرمه ، وتوعد عليه سوء العقاب في الآخرة ، لتكون السنة النبوية القولية على وجوه :
الأول : الترجمة العملية لآيات القرآن .
الثاني : التذكير بمضامين آيات النهي عن الإرهاب .
الثالث : صبغة السلم والموادعة واللطف والرفق في السنة النبوية.
قانون تناقص الإرهاب
لقد أخذت مسألة الإرهاب من الإعلام في هذه السنوات أكثر من حجمها في حوادث فردية آخذة بالتضاؤل والتناقص كما تناقص المنافقون والنفاق في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وخفت وطأته وأذاه فان حوادث الإرهاب آخذة بالتلاشي ، وللقرآن وآياته نفع عظيم وموضوعية في هذا التلاشي والإنحسار وهو من إعجاز القرآن الغيري من وجوه :
الأول : إدرك ومعرفة الناس لشذرات من معاني المضامين القدسية للقرآن .
الثاني : موضوعية الآية القرآنية في حياة الناس اليومية ، وحضور مضامينها القدسية عند الإقدام على الفعل .
الثالث : كشف آيات القرآن لماهية النفاق ، فقد يزاوله الإنسان دون أن يعلم بضلالته ، ومنافاته للواجب الشرعي والأخلاقي ، ولا يدرك التضاد بين علانية الإيمان وإخفاء الكفر الذي هو عليه ، فنزلت آيات القرآن لكشف هذه الحال للناس جميعاً ، قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا]( ).
الرابع : توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يجذب الناس للهدى والإيمان ، ومن هذه المعجزات اتصافه بحال الدفاع في كل معركة وانتصاره فيها .
وكما تناقص النفاق سريعاً في الإسلام وقل عدد المنافقين والمنافقات ، فان الإرهاب بدأ بالتناقص حالما رفع رأسه بحوادث شخصية .
ومن أسباب هذا التناقص وجوه :
الأول : إدراك التنافي بين أحكام الشريعة والإرهاب .
الثاني : قانون السخط العام على الإرهاب من المسلمين وغيرهم .
الثالث : هجران الأفراد للإرهاب للتسليم بعدم الجدوى منه ، فهو ضرر محض حتى على فاعله وإن لم يصب باذى في حينه .
الرابع : قانون الإحتجاج بآيات القرآن لبيان حرمة الإرهاب .
الخامس : إتخاذ المسلمين آيات القرآن والسنة النبوية حصناً من الإرهاب .
السادس : إجراءات الدول والحكومات والمؤسسات المختلفة للحد من الإرهاب .
قانون الآية القرآنية مدد للعمل بمضامينها
ينقاد المسلمون بالفطرة والمدد من الله عز وجل لمحاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته ، ومن مصاديق هذا المدد قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
فصحيح أن الآية تتضمن الأمر والنهي ولكن من الإعجاز قانون الآية القرآنية مدد للمسلمين للتوفيق للعمل بمضامينها ، وهل يختص قانون المدد هذا بذات الآية القرآنية وحدها ، الجواب لا.
إذ يأتي من عدة آيات سواء في المنطوق أو المفهوم ، ومنها آيات البشارة والإنذار ، والثواب والعقاب .
وتدل سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أنه برئ من الإرهاب ولا يرضى به ، وهل نهى عنه ليكون من معاني [وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، الجواب نعم .
وتقدير الآية : نهاكم عن الإرهاب فانتهوا ، أي ابتدأت شريعة الإسلام بالتنزه عن الإرهاب ، وعدم نقل عادات الجاهلية من الغزو والثأر والعنف إلى الإسلام .
ولم يرد لفظ (نهاكم) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، بنيما ورد لفظ (آتاكم) ثماني مرات في القرآن.
والفاعل الذي يؤتي الناس فيها كلها هو الله عز وجل باستثناء هذه الآية ، لبيان أمور :
الأول : كثرة النعم الإلهية .
الثاني : لفظ (ما آتاكم الرسول) أعم من الواجبات والمستحبات فيشمل النعم العظيمة من عند الله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزول القرآن.
الثالث : قانون تعدد النواهي التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان مسائل :
الأولى : وجوب التنزه عما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه .
الثانية : تجلي معجزة وهي قانون انتفاء التزاحم أو التعارض بين آيات القرآن والسنة النبوية .
الثالثة : سهولة تفقه المسلمين في النواهي لقلتها كشرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وفي قوله تعالى [وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( )، ورد عن ابن عباس أنه قال (كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر ويستقبحونه في العلانية ، فحرَّم الله الزنا في السر والعلانية)( ).
الرابعة : قانون إعانة السنة النبوية المسلم للعمل بأحكام آيات القرآن ، من وجوه :
الأول : من السنة ما يدخل في أسباب النزول .
الثاني : عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين آيات القرآن .
الثالث : تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة في عملهم بآيات القرآنية ، وثناؤه على الذي يتقيد بها.
الرابع : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن بما يساعد المسلمين في أجيالهم على العمل بمضامينها ، ويمنع من التفسير بالرأي أو الإجتهاد خلاف النص ، لذا فان الذي يحاول نسبة الإرهاب إلى القرآن أو السنة سرعان ما يفتضح أمره ، ويتبين بطلان إدعائه.
التفسير بالرأي
وهل من الباطل سوء التأويل ، واتخاذ علوم القرآن ذريعة في الظلم والإرهاب ، الجواب نعم ، لذا سرعان ما ينكشف هذا الزيغ لحامله ولغيره ، وليكون من مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعاهد سلامة التأويل بما فيه النفع العام من الآية القرآنية .
وقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوانين التفسير والتأويل الصحيح ، ومنع من التفسير بالرأي .
(وقال ابن جرير: حدثنا العباس بن عبد العظيم العَنْبَرِي، حدثنا حَبَّان بن هلال، حدثنا سهيل أخو حزم، حدثنا أبو عمران الجَوْني، عن جُنْدب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ)( ).
وقد ذكر الحديث الترمذي وأبو داود والنسائي ، وتكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم .
ويصح التفسير بوجوه :
الأول : تفسير القرآن بالقرآن .
الثاني : التفسير بالسنة النبوية واستقراء الشواهد منها .
الثالث : تفسير الصحابة وأهل البيت عليهم السلام .
الرابع : تفسير التابعين الذين يرجعون إلى الصحابة وأهل البيت.
الخامس : التفسير وفق علوم اللغة العربية .
السادس : التفسير على الظاهر .
والمراد من التفسير بالرأي ، ليس الإجتهاد الذي يستند الى النص أو اللغة ، إنما هو القول الذي لا أصل أو مستند له في القرآن والسنة .
ومن التفسير بالرأي الذي لا يصح ولا يجوز هو الإجتهاد في مقابل النص ، كما لو ورد تفسير للآية القرآنية بآية قرآنية أخرى أو بحديث نبوي ثم جاء شخص ليفسر الآية بخلافه من غير دليل .
ترى ما هي النسبة بين الرأي والهوى في المقام ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالتفسير باتباع الهوى أعم ، وكل منهما لا يجوز ، والهوى أعم ، ويجلب الويلات .
ترى ما هي النسبة والصلة بين الهوى والعمل الإرهابي ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإرهاب من الهوى وهذا المعنى لا يتعارض مع كونه من غلبة النفس الغضبية فهو خلاف الصبر والحكمة والخشية من الله ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
وورد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف بخصوص أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ومنها (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ان أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله في قلبه ، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس أنه أحسن الحديث وأبلغه)( ).
ومن إعجاز القرآن سقوط التفسير بالرأي ، فلا يأخذ به الناس ، ولا يستديم أثره وموضوعه ، وان كان الذي يقوله ذا شأن ومنزلة في الدين والمجتمع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
وليس من حصر لسبل وطرائق وكيفية حفظ الله عز وجل للقرآن ، وهو معجزة متجددة في كل زمان بحسب الأحوال.
ومن سبل حفظه قانون براءة القرآن من الإرهاب وإن حاول بعضهم إلصاقه به.
آية النفر زاجر عن الإرهاب
آية النفر هي قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) وفسرت آية النفر بخروج صلى الله عليه وآله وسلم للجهاد أو الغزو ، ولكن الآية لا تدل عليه وموضوعها أعم .
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خروجه وأصحابه في كتائب وسرايا لأمور :
الأول : التبليغ .
الثاني : الإحتراز من المشركين .
الثالث : إخافة المشركين ومنعهم من غزو مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إقامة الصلاة في أفواه القرى ، وفي الجادة العامة .
الخامس : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسئلة من الناس ، وإدراكهم لمعجزاته الحسية والعقلية ، إذ ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن ، وكلها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان مصاديق من كثرة الأسئلة التي كانت توجه إليه .
السادس : بيان قانون الإسلام دين الرحمة .
السابع : الدفاع ومنع المشركين من غزو المدينة ، كما في معركة أحد إذ زحف ثلاثة آلاف من المشركين في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة لقتال وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى إذا ما صاروا على مسافة (5) كم عن المسجد النبوية خرج له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومع هذا تسمة غزوة أحد للنبي محمد ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وقد صدرت لي والحمد لله ستة وعشرون جزء من هذا السِفر بخصوص قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً ) وهي الأجزاء
(159-160-161-163-164
-165-166-167-169-171-
172-173-175-176-177-
178-182-185-188-192
-200-208-212-218-226-238)
وكان الذين يخرجون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب أو يخرجون بامره في السرايا على أقسام :
الأول : المؤمنون من المهاجرين والأنصار .
الثاني : عامة المسلمين .
الثالث : المنافقون وهم أقلهم عدداً ، إذ أنهم أفراد معدودون ،وفي تناقص متصل مثل عبد الله بن أبي بن أبي سلول وهو رئيسهم ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ونبتل بن الحارث ، وجُلاس بن سويد بن الصامت ، والمنافقون هم الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر .
وقيل وصل عددهم أكثر من ثلاثمائة شخص ، وهذا العدد مبالغ فيه خاصة وأن كتاب السيرة والتأريخ لم تذكر إلا أسماء وعدداً قليلاً للمنافقين .
فمن إعجاز القرآن والسنة النبوية الحسية وجوه :
الأول : قلة عدد المنافقين ، إذ نزلت الآيات بفضحهم وسوء عاقبتهم ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا]( ).
الثاني : تناقص عدد المنافقين مع تقادم الأيام .
الثالث : توقي الصحابة من النفاق .
ولم يكن قبل الهجرة ولا قبل معركة بدر نفاق ، إنما أخرج النفاق رأسه بعد أن قويت شوكة المسلمين ، وراجت إشاعات بهجوم مشركي قريش على المدينة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإبادة الجماعية للمسلمين ، وكذا ينشط المنافقون عند خروج السرايا والكتائب ، ويقتل أو يموت بعض الصحابة خاصة الأنصار ، وورد قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ) .
كما يظهر النفاق والإفتراء عند وقوع الأعمال الإرهابية لذا لابد من تنزه المسلمين عن الإرهاب لأنه مخالف للشريعة وكونه سبباً في ظهور الإفتراء.
وتبين آية النفر موضوعية التفقه في الدين في حياة المسلمين والمسلمات والحاجة إليها ، ولم تترك الآية التفقه عند الشدائد والكتائب إلى النساء ، وتأمر يخروج الرجال للثغور والدفاع والجهاد ، إنما أمر الله عز وجل في هذه الآية بأن تبقى طائفة ورجال من كل فرقة وقرية ومذهب من المسلمين في أماكنهم .
وهل تدل آية النفر على اختصاص الإجتهاد والإفتاء بخصوص الرجال ، المختار لا ، وهو من فروع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى]( )، لتقوم طائفة الفقهاء بأمور :
الأول : تفسير آيات القرآن .
الثاني : توثيق السنة النبوية ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : التفقه في أمور الدين ، وتعاهد علوم الشريعة.
الرابع : إتقان أداء الفرائض العبادية من الصلاة والصيام والحج والزكاة .
الخامس : تعليم الناس أحكام الشريعة ، لذا قال تعالى [وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ]( ).
ليشمل الإنذار الذين بقوا ويبقون في المدينة والقرى ، والضعفاء ، والذي يتعذر على عياله الكسب بغيابه عند النداء للنفير ، قال تعالى [وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ]( )والذين لم يبلغوا سن البلوغ والنساء.
السادس : تعلم أحكام المعاملات ، وفض الخصومات.
السابع : بقاء طائفة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحفظ آيات التنزيل والتدبر فيها ، وتوثيق السنة النبوية.
ولما قال تعالى [وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) فانها دعوة لعدم مفارقة طائفة من المسلمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي من أيام حياته لقانون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علم وحكمة ، وفي الآية دليل على أن النفير فرض كفاية .
ومن التفقه في الدين بيان قبح الإرهاب ، ولزوم تنزه المسلمين منه ، وعدم استحواذ النفس الغضبية على المسلم ، فحتى في حال الدفاع والنفير هناك أمة تدعو إلى السلم بقيامها بالفقاهة ، وتحريم القتل وسفك الدماء ، والمنع من الأخلاق المذمومة مثل السرقة والظلم والتعدي .
لفظ [غُزًّى] في القرآن
لم ترد مادة غزا يغزو ، غزوة ، بصيغة المفرد أو المثنى أو الجمع في القرآن ، إلا في آية واحدة بلفظ [غُزًّى] قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
وغزىً جمع غاز وهو جمع منقوص لا يتغير لفظه في رفع أو نصب أو جر ، مثل صائم وصوم.
وموضوع الآية أعم من أن يختص بخروج المسلمين في غزو ، إذ أنها ذكرت الكافرين وقولهم عن إخوتهم وهذه الأخوة عنوان جامع للنسب والإنتماء العقائدي ، وهذا القول سبب الحسرة والأسى في قلوب الذين كفروا ، وهل يحتمل أن المراد بالغزاة المشركون ، وأن خروجهم إلى بدر سبب لقتلهم ، ولو بقوا في مكة أو رجعوا إليها عند ورود الأخبار بسلامة قافلة أبي سفيان لما قتلوا ، الجواب نعم ، كما أنها عامة موضوعاً وحكماً.
وتتضمن الآية ذماً للذين كفروا والمنافقين ، والإخبار عن إستيلاء الحسرة على قلوبهم في الدنيا ، ولتكون موعظة وتذكرة وإنذاراً ، ودعوة لهم للتوبة والإنابة ، وإلا فان العقاب الأخروي بانتظارهم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
إرهاب قريش ضد النبي وأصحابه بسبب نزول القرآن
لقد كان نزول القرآن فيصلاً بين حياة الغفلة والجاهلية وبين الإيمان ، إذ انتقل الناس بالقرآن إلى عالم جديد يتصف بتقديم الفطنة والذكاء ، واستحضار عالم الآخرة وما فيه من الثواب والعقاب .
لقد كانت كل آية تنزل من القرآن كالحسام المهند ضد المشركين ، من جهات :
الأولى : سمو وارتقاء لغة القرآن على الشعر والنثر مع تقدم العرب في كل منهما .
الثانية : قانون عجز الناس عن معارضة آيات القرآن .
الثالثة : قانون ذم آيات القرآن لعبادة الأوثان .
الرابعة : وجوب انقياد قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس بعنوان الرئاسة والمشيخة فقد عرضوها عليه مع الأموال والنساء ، ولكن يتبعونه رسولاً من عند الله ، قال تعالى في صفته [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ]( ).
وهل المراد من الخبائث من المأكول ، كالدم والميتة ولحم الخنزير لقرينة ذكر الطيبات ، أم أن الآية أعم فتشمل الأحكام كالزنا ، وشرب الخمر ، والمكاسب الخبيثة ، والمحرمة كأجرة الزانية ، والقمار والربا ، الجواب هو الثاني ، لأصالة الإطلاق.
الخامسة : ظن رؤساء الكفر بأن القرآن والإسلام يزيحهم عن مراتب الرياسة والأمرة ، وهو من أسرار محاربة الطواغيت للأنبياء من غير تدبر في صدق دعوتهم ، وأولوية الإيمان برسالتهم ، والنفع العظيم المصاحب للتصديق بالنبوة.
فلو آمن فرعون برسالة موسى عليه السلام لبقي في ملكه لأن موسى عليه السلام لم يطلب الحكم ، ولم يقصد أخذه من فرعون ، إنما دعاه إلى أمور :
الأول : الإيمان بالله ، ومنه الصلاح والإمتناع عن إدعاء الربوبية والطغيان ، وما في هذا الإدعاء من الإرهاب وأسباب البطش.
الثاني : الإقرار بأن موسى عليه السلام رسول من عند الله .
ولم يأت موسى عليه السلام إلا بالرحمة ، والمنع من إذلال بني إسرائيل .
ومن اللطف الإلهي في النبوة أن موسى عليه السلام لم يدع فرعون إلى التصديق برسالته إلا بعد أن رآى المعجزات المتعددة ، والبراهين الدالة على صدق نبوته خاصة آية العصا وأكلها لعصي السحرة.
الثالث : تسريح بني اسرائيل مع موسى والكف عن تعذيبهم وتوليهم الأعمال الشاقة والذليلة ، وفي خطاب إلى موسى وهارون ورد في التنزيل [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى]( ).
ويلاحظ في هذه الآية وجوه الشبه بينها وبين الآيات والسور المكية والتي تتصف أيضاً بالقصر وقلة الكلمات ولغة الإنذار .
لبيان اختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسور والآيات كثيرة الكلمات والتي تتضمن أحكام الشريعة وفي سورة المائدة التي هي من آخر سور القرآن نزولاً ، ورد قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
معجزة كف الأيدي
تلتقي معجزة عصا موسى الحسية ، والمعجزة العقلية وهو القرآن بالتبليغ والدعوة إلى الله ، وإيمان شطر من الناس بالرسالة ، وإذ امتنع فرعون عن الإيمان والتصديق فان بني إسرائيل صدقوا بنبوة موسى وهارون .
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل أظهره على كفار قريش ، ولحقتهم الهزيمة في كل معركة من معارك الإسلام الأولى الى أن تم فتح مكة سلماً من غير قتال يعتد به.
وفي قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( )، ورد (عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم)( ).
(وعن قتادة : بطن مكة الحديبية)( ).
ولكن موضوع الآية أعم إذ يشمل خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألف وأربعمائة من أصحابه إلى العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة من غير أن يحملوا معهم اسلحة للقتال فتم صلح الحديبية فهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوة للمسلمين لإنتهاج السلم والموادعة حتى في أشق الأحوال.
كما يشمل كف الأيدي في الآية أعلاه الأيام والليالي التي اعقبت الصلح من غير أن ينقض من أحد الطرفين ، إلا بعد أن جرى اعتداء بني بكر على خزاعة ، وإعانة قريش لهم ، وهذا الإعتداء والإعانة لا يتعارض مع مضمون الآية أعلاه ، فهو ليس فيه تعد أو هجوم من قبل المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لتعلق موضوعه بالقبائل المتحالفة.
إلى أن تم فتح مكة بذات آية كف الأيدي أعلاه وكان قتال المشركين إرهاب وتعد ، أما قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فكان دفاعاً محضاً ، لبيان قبح الإرهاب ، وانه من خصال المشركين ، فانتقم الله عز وجل منهم ، ليتعاهد المسلمون السلام والإستقرار المجتمعي .
وهل يستمر كف الأيدي أم ينقطع ، الجواب هو الأول وكف الأيدي من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه برزخ دون الإرهاب ، والإرهاب الموازي.
قانون تبرء القرآن كل يوم من الإرهاب
لقد أنعم الله عز وجل علينا بهذا العنوان البكر المبارك مع حاجة الناس إليه ، والمدار على المعنون والموضوع المسمى ومنهجيته وأدلته فكان الغوص في بحاره واستقراء القوانين منه عملاً شاقاً لولا فضل الله عز وجل ، وهذا التيسير وإزاحة الموانع من مصاديق المحو في قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، فتوالى صدور الأجزاء في هذا الباب المستحدث من العلوم.
لقد صارت مسألة الإرهاب ابتلائية عامة ذات صبغة دولية ، فلابد من كشف الحقائق ببيان قانون براءة الإسلام من الإرهاب بمفهومه اللغوي والإصطلاحي المعاصر .
ومن إعجاز القرآن في المقام أمور :
الأول : قانون اقتران التدبر بقراءة القرآن ، فاي قراءة في القرآن يصاحبها تدبر في آياته ، وإن كان هذا التدبر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
الثاني : قانون تجلي تبرء القرآن من الإرهاب مع أدنى تدبر في آياته.
الثالث : قانون بعث آيات القرآن النفرة في النفوس من الإرهاب.
الرابع : من خصائص القرآن آنه حاضر في الوجدان والوجود الذهني للمسلمين ، وهو من إعجاز ورشحات تلاوة كل مسلم ومسلمة له خمس مرات في اليوم ، وهو من سبل حفظ آيات القرآن في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
ليكون من معاني حفظ القرآن حضور آياته في الواقع اليومي للمسلمين والناس جميعاً ، فتكون براءته من الإرهاب زاجراً للمسلمين عنه ، ودليلاً مصاحباً لهم إلى يوم القيامة بالتنزه عن الظلم والتعدي وسفك الدماء بغر حق ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولا عبرة بالقليل النادر من الأفراد إذ ينادي القرآن في المساجد والمنتديات والبيوت والأسواق بحرمة الإرهاب ، والمنع من التعدي على الناس ومن التفجيرات العشوائية .
وجاء زمن العولمة ليطلع الناس جميعاً على آيات القرآن ويفصلون بين منطوق آياته بالرحمة ، ودعوتها للصبر ، وبين جحود وبطش الذين كفروا .
قراءة في أجزاء (التضاد بين القرآن والإرهاب)
لقد ابتدأ هذا السِفر المبارك بتفسير آيات القرآن وفق نظم المصحف الشريف فصدر الجزء الأول من معالم الإيمان بخصوص تفسير سورة الفاتحة وصدوره مسجل في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم 213 لسنة 1996.
وقد سبقه طبع وصدور كتابي الموسوم تفسير سورة يوسف وفلسفة الصيام ومصطلحات فقهية وكتب أخرى.
ثم صدر الجزء الثاني في عدد من الآيات الأولى من سورة البقرة ثم الثالث ، ليصدر ثلاثون جزءً في تفسير سورة البقرة ، ثم تمت في السنوات المتعاقبة الإضافة والتنقيح ليكون مجموع تفسير سورة البقرة خمسين جزءً والحمد لله .
ثم انتقلت إلى تفسير سورة آل عمران ويتقوم تفسير الآية القرآنية في هذا السِفر بمنهجية علمية مستحدثة تتجلى فيها فرائد في التفسير والتأويل ، وشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله.
وهو من الدلائل على بقاء خزائن الآية القرآنية ترفد العلماء والناس عامة بالعلوم والفيوضات السماوية وتقريب المدركات العقلية بالمحسوسات والشواهد من الحوادث ، والوقائع ، ومفردات اللغة ، والبلاغة .
وقيل في الدفاع عن القرآن أنه استعمل الإرهاب ضد القوى الشريرة والخبيثة ، ولم يستعمله ضد الآمنين من الناس .
ولا أصل لهذا القول ، فلم يتخذ القرآن الإرهاب وسيلة أو بلغة أو مادة ، إنما جاء بمصاديق التراحم والتعايش السلمي والصفح ، ومنع الغزو والثأر وسفك الدماء ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
والجواب إنما هذه الآية في الإحتراز من مباغتة المشركين للمسلمين ، وليتفرغ المسلمون للإنقطاع إلى الرهبة والخشية من الله عز وجل بحمل لواء التوحيد ، والإقامة على الفرائض العبادية ، وفي التنزيل [وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
لبيان قانون الرهبة من الله واقية من إرهاب الناس ، ترى لماذا الذي يرهب الله لا يخيف أو يرُهب الناس ، الجواب من جهات :
الأولى : استيلاء خشية الله على الجوانح والجوارح .
الثانية : إدراك حضور المشيئة الإلهية بالمحو والإثبات .
الثالثة : التسليم بقانون حب الله للعباد ، وتحريم الظلم بين الناس.
الرابعة : إقرار المؤمن باليوم الآخر ، ووقوف الناس بين يدي الله للحساب ، فهم لا يرهبون الناس ولا يسفكون الدم للتضاد بينهم وبين المجرمين في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا]( ).
الآية القرآنية ضد للإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية كياناً مستقلاً يتضمن الحكم والأمر والنهي ، والبيان والخبر والمثل ، لتحيط كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث .
فما أن يظهر في الأفق منهاج مستحدث أو دعوة أو طريقة في الإعتقاد أو السياسة أو الإجتماع والإقتصاد إلا والقرآن قد أبان حكمها ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ]( ).
ومن خصائص القرآن هدايته إلى سبل الصلاح ، ومنه تلاوة كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومن أبهى مصاديق هذا الصراط التقوى والإمتناع من الظلم والإضرار بالآخرين .
ومن آيات القرآن آيات الأحكام لبيان أن الدنيا دار إمتحان وإختبار ، وأن الإنسان مكلف فيها بواجبات ، ومنهي عن أقوال وأفعال ذات صبغة المعصية ، ولا ينحصر التكليف بآيات الأحكام وعددها بل كل آية من القرآن تدعو إلى الصلاح ، وتبعث النفرة من الظلم والإرهاب ، وهو من مصاديق عنوان هذا الجزء (التضاد بين القرآن والإرهاب) والذي صدرت بخصوصه ستة عشر جزء أخرى من هذا السِفر ، وهي الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثامن : الجزء العاشر بعد المائتين .
التاسع : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
العاشر : الجزء التاسع عشر بعد المائتين .
الحادي عشر : الجزء الخامس والثلاثين بعد المائتين .
الثاني عشر : الجزء الثامن والثلاثين بعد المائتين .
الثالث عشر : الجزء الثالث والأربعين بعد المائتين .
الرابع عشر : الجزء الرابع والأربعين بعد المائتين .
الخامس عشر : الجزء السادس والأربعين بعد المائتين .
وتضمنت هذه الأجزاء عشرات الآيات في الإستدلال على براءة الإسلام من الإرهاب .
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بتلاوة آيات القرآن ، وهذه التلاوة موعظة وتأديب وإصلاح وتفقه في الدين ، ويدرك معها المسلم وجوب التنزه عن الظلم.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب المسلمين أحياناً بصفة (يا أهل القرآن) كما ورد عن الإمام علي عليه السلام (الوتر ليس بحتم كالصلوة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اوتروا يا أهل القرآن فان الله تعالى وتر يحب الوتر)( ).
وعن عبد الله بن مسعود (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ان الله وتر يحب الوتر فاوتروا يا أهل القرآن)( ).
والنسبة بين أهل القرآن وإرتكاب الفعل الإرهابي التضاد ، إذ أن القرآن حرز وواقية من الإرهاب (عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله أهْلِين من الناس.
قيل : من هم يا رسول الله ، قال : أهْل القرآن هم أهل الله وخاصته)( ).
[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] حجة على حرمة الإرهاب
من إعجاز القرآن ورود لفظ [ادْفَعْ] مرتين في القرآن ، كلاهما خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي موضوع العفو والرفق وهما :
الأولى : قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ) .
وفيه نهي عن مقابلة السيئة والجفاء والإفتراء والأذى الصادر من الكفار بمثله ، إنما يكون الرد بالحلم والإحسان والصفح والعفو ، وقيل الآية (نسختها آية القتال)( ) .
ولكن موضوعها عام يشمل الصلات فيما بين المسلمين والصلات مع أهل الكتاب ، وملاقاة الكفار بالصبر والحجة والبرهان ، وهو من مصاديق الأحسن ، فالإحتجاج بالدليل أمر حسن ، ومنه الحوار بالبرهان مع المذاهب والملل المختلفة ، وبما يجعل عامة الناس يميلون إلى الحق ، ولا يستطيع رواد الإرهاب الإحتجاج والجدال بخصوصه ، فسرعان ما يتم فضح فعلهم وبيان منافاته للحق والتنزيل .
والخطاب [ادْفَعْ] ليس من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده ، وإن توجه الخطاب ظاهرياً له ، إنما هو له وللمسلمين والمسلمات كافة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) .
وعن الإمام علي بن موسى الرضا (قال : قال رسول الله : عليكم بحسن الخُلق فإنّ حُسن الخُلق في الجنّة لا محالة ، وإياكم وسوء الخُلق فإنّ سوء الخُلق في النار لا محالة)( ).
ويدرك عامة الناس التضاد والمنافاة بين حسن الخلق والإرهاب ، إذ أنه قتل وتخويف وتفجيرات عشوائية ، وتعد بالسلاح على الأبرياء والعزل ، والذين يسعون في أرزاقهم ، لذا فان الإرهاب يبعد صاحبه عن الجنة ، ويحرمه من شم ريحها .
فتفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بالدفع بالأحسن من الخلق الكريم ، والرأفة والتراحم ، والإمتناع عن قطع الرحم ، أو الإساءة للجار ، لتسود بين الناس الأخلاق الحميدة ، وهي مناسبة ووعاء للذكر والتسبيح وأداء الفرائض العبادية ، والتدبر في الآيات الكونية ، والمعجزات الحسية والعقلية .
ومن مفاهيم قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) لا تقابل السيئة بمثلها ، ولا تعتدي ابتداءً على الناس الأبرياء ، والذين لم يسيئوا لك.
كما تدل الآية على أن الإرهاب والعنف لا يؤديان إلى الإصلاح والخير والنفع العام أو الخاص.
وهل الدفع بالأحسن مطلق أو مقيد ، الجواب وردت الآية بصيغة الإطلاق في الموضوع والجهة المقصودة والحال والزمان.
لبيان أنه من منهاج النبوة وفيه الأجر والثواب ، مع سلامته من المعارضة أو النسخ ، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
وتبين الآية أن مقابلة السيئة بالحسنة لا يؤدي إلى وهن في الدين أو ضعف وتفرق في صفوف المسلمين ، إنما هو شاهد على منعة مبادئ الإيمان ، وهو من أسرار مجئ الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ادْفَعْ] أي تدفع بما أنت نبي رسول ، وهذا الدفع من الوحي ، ليكون منهاجاً للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة ، وإذا أمر الله عز وجل بدفع السيئة بالحسنة ، فمن باب الأولوية أمور:
الأول : قانون الصبر على السيئة التي تصدر من الغير .
الثاني : قانون الدفع بالحسنة على الحسنة والإحسان ، قال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ]( ).
الثالث : قانون الإمتناع عن فعل السيئة ، ومنه الظلم والإرهاب والتعدي .
الرابع : قانون التحلي بالحلم والحكمة .
الخامس : الأجر والثواب العظيم على الكف عن الإرهاب ، والتعدي ، قال تعالى [وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ]( ).
السادس : كثرة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدفعه بالتي هي أحسن ، لبيان أنه الإمام في الإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية.
وقد صدر الجزء السابق وهو الواحد والخمسون بعد المائتين بعنوان (مئات المعجزات الحسية المستحدثة للنبي محمد (ص)).
ليكون الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية على نحو الوجه الأتم والأكمل من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يختص الإعجاز في المقام بالإمتثال النبوي على نحو العموم المجموعي أم الإفرادي ، وكل امتثال هو معجزة له ، الجواب هو الثاني ، وكذا فان اقتداء المسلمين به في الإمتثال الحسن للأوامر والنواهي الإلهية معجزة له ، لذا يجب أن يتعاهد الشباب العصمة من الإرهاب ، ففيها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون موضوعية السنة النبوية في سلامة القرآن من التحريف
من مصاديق الجمع بين قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( )، وقوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ) تفضل الله عز وجل بالأمر العام للمسلمين بأخذ ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الواجبات والمستحبات ، وإجتناب ما نهى عنه مما حرم الله عز وجل كالزنا والربا وشرب الخمر ، وما ورد تحريمه في السنة النبوية .
بالإضافة إلى بيان السنة النبوية للأحكام التكليفية الخمسةومصاديقها الواردة في القرآن .
لقد أخبر الله عز وجل عن قانون مصاحب للحياة الدنيا ، وهو سلامة القرآن من التحريف بوعد وعهد منه تعالى يتجلى بآيات منها [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
ومن معاني الحفظ في المقام [وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] من التأويل بالباطل وما قد يؤدي إلى الفتنة والإرهاب وإشاعة القتل ، خاصة وأن القرآن كتاب السلم والأمن ، فقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً بقوله [ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) هذا بخصوص المشركين الذين يقاتلونه وأصحابَه مما يدل بالأولوية القطعية على السلم فيما بين المسلمين وعلى السلم والموادعة مع أهل الكتاب .
ومن التنزيل الآيات التي تأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة القرآن وتعليمه المسلمين ، وبيان وتفسير آيات منه .
ومنه الأوامر الإلهية بالعمل بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لتكون السنة النبوية حرزاً من تحريف القرآن ، ومن سوء التأويل الذي يؤدي إلى الإرهاب ومقدماته .
لبيان عظيم شأن السنة النبوية بتعاهدها لآيات القرآن نصاً ومضموناً ، وكان قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن ، وترجمة له لترغيب الناس بالقرآن والسنة معاً ، وكل واحد منهما ينهى عن الإرهاب ، ويبين حرمته ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل القرآن سالماً من التحريف .
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت سنن وقوانين وقواعد القرآن بخطبه على المنبر ، وإجاباته على الأسئلة ، وإخباره المسلمين ابتداءَ ، وقيامه بسؤالهم وبالمعجزات التي رزقه الله عز وجل ، ومنها المعجزات التي تتعلق بحفظ القرآن من التحريف لبيان قانون حفظ المعجزة العقلية بالمعجزة الحسية ، وبالعكس .
ومن معاني هذا الحفظ سلامة واستدامة الأخلاق الحميدة للمسلمين بالإبتعاد عن الإرهاب من جهات :
الأولى : حفظ المعجزة العقلية بالحسية زاجر عن الإرهاب .
الثانية : حفظ المعجزة الحسية بالعقلية ضبط للجوارح ، وعدم تسخيرها في التعدي وضروب المعاصي.
والنسبة بين كل من التعدي والمعصية وبين الإرهاب عموم وخصوص مطلق.
الثالثة : إجتماع المعجزة العقلية والحسية في تأكيد النهي والزجر عن الإرهاب ، وهو من أسرار إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية مع مجيئه بالمعجزات الحسية.
ليكون هذا الحفظ حجة في لزوم الإبتعاد عن الإرهاب ، وهو من الشواهد على عصمة أحكام القرآن ، وآداب الإسلام بعيداً عن الظلم والإرهاب.
قانون النسبة بين التعدي والإرهاب
التعدي تجاوز الحد ، وظلم وفساد ، وإضرار بالغير من دون حق ، والإرهاب عنوان جامع لسفك الدماء بغير حق ، وتخويف الناس ، والتهديد وإرتكاب العنف ، وإختيار البطش لغايات سياسية بما يتعدى لغة الإكراه .
والنسبة بين التعدي والإرهاب هي العموم والخصوص المطلق ، فالتعدي أعم بذاته وكثرة مراتبه في الشدة والخفة والضرر ، أما الإرهاب وفق الإصطلاح فمراتبه كلها شديدة وضارة على الفاعل والذي يقع عليه أثر الإرهاب ، وقد أنذر الله عز وجل المسلمين من التعدي بقوله تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وقد ورد هذا النهي في آيتين من القرآن إحداهما بخصوص القتال ، والأخرى في الطعام والمائدة ، فهل يشمل النهي المسلمات أم أنه خاص بالرجال إلحاقا باختصاص الرجال بالتكليف بالدفاع ، الجواب هو الأول.
وتقدير الآية : ولا تعتدين إن الله لا يحب المعتديات ، لذا لا يجوز للمرأة القيام بعمل إرهابي ، ولا المساعدة عليه ، أو تقديم العون والمال له ، إنما يشملها التكليف بالأمر بالمعروف والصلاح ، وأداء الفرائض والخلق الحميد ، وقيامها بالنهي عن التعدي مطلقاً ، وعن الإرهاب خاصة سواء كانت أماً أو أختاً أو زوجة أو أجنبية عن الذي تنهاه .
فمن إعجاز القرآن صيغة العموم في التكليف بالأمر بالعدل والإحسان والنهي عن المنكر وعموم الأطراف والجهات التي يتوجهان إليها ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في إصلاح الأمم ، وحمل لواء التوحيد ، والسعي للإستقامة وفق منهاج التقوى .
ويمكن القول بأمرين :
الأول : قانون النهي عن التعدي نهي عن الإرهاب .
الثاني : قانون الزجر عن الإرهاب زجر عن التعدي .
ولا يستلزم الدور لإتحاد الموضوع في تنقيح المناط ، ولما تقدم بأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، وكل نهي ومنع من الإرهاب فيه خير الدنيا والآخرة .
وعن عطاء (عن جابر قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم غزاة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .
قالوا : وما الجهاد الأكبر .
قال : مجاهدة العبد هواه)( ).
والغلبة على الهوى حصانة من الإرهاب ، ومن إتباع ومحاكاة أهل السوء والأشرار .
والتعدي في الإصطلاح يحمل عنوان الظلم لما فيه من تجاوز الحد شرعاً وعقلاً ، فيشمل التعدي على الذات والغير ، والتعدي على الأمانة والوديعة والوظيفة ، وفي التعدي الضمان ، ولكن من التعدي ما فيه القصاص ، ومنه الإضرار بالغير بما يشمل حكم القصاص والإفساد في الأرض كالقتل العمد .
والإرهاب من أشهر ضروب التعدي ، وفيه إزهاق للأرواح ، لذا فان الإرهاب حرام بذاته ومقدماته وأثره على الناس ، وفيه أذى لعموم الناس فلا يعلم مقدار وكم وكيف مجموع الأذى والأسى والخوف منه الذي يلحق عامة الناس بسبب الإرهاب إلا الله عز وجل.
فلو جعلنا رقماً أدنى وآخر أعلى للأذى والخوف عند الناس .
وجمعت هذه الإرقام في وقوع فعل إرهابي باحصائية فلا يقدر على إحصاء كثرتها وشدتها إلا الله عز وجل ، ومن مصاديق سعة رحمة الله إرادته سبحانه الأمن لأهل الأرض برهم وفاجرهم ، بينما يخيف ويرعب الإرهاب المؤمن وغير المؤمن ، ويُدخل الخوف إلى البيوت ، فتصبح المرأة خائفة على زوجها وابنها لا شئ إلا لغلبة الروح الغضبية والجامع بين السخط والجهالة .
وما من غاية حميدة يريد الإنسان الوصول إليها إلا وقد جعل الله عز وجل لها طرقاً متعددة خالية من الضرر والأذى للذات والغير ، وإن تعذر الوصول اليها يفتح الله عز وجل للإنسان أبواباً أخرى من رحمته ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
وفيه حجة على الناس بأن الإرهاب لا يحقق أي غاية حميدة إنما هو جلبة للضرر على الذات والغير ، ولا يختص ضرره بأوانه أو محل وقوعه ، لأنه تعد على القيم والمفاهيم العامة ، وعلى الأشخاص والأمة لبيان أن التعدي من الكلي المشكك فهو على مراتب متعددة قوة وضعفاً في موضوعه وضرره.
والإرهاب من أقبح ضروب التعدي ، وأكثرها إتساعاً في دائرة ضرره فلابد من إجتنابه ، والإحتراز من مقدماته والتبرأ منه ، والنسبة بين الإيمان والتعدي هو التضاد لذا خاطب الله المسلمين بقوله [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
مما يلزم الإمتناع عن الإرهاب والعنف والتطرف وإخافة الناس والتعدي عليهم في مساكنهم أو الطرق أو المرافق العامة خاصة وأن الإرهاب لا يجلب النفع لصاحبه أو لعقيدته أو لطائفة من الناس.
العمل الإرهابي عقوق للوالدين
من إعجاز القرآن قرنه بين التوحيد والإحسان للوالدين ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
وتفصيل سنخية إحسان الوالد لوالديه بأن لا يقول لهما أف ، لبيان قبيح التقصير في العناية والرأفة بهما .
وأشد ما يؤذي الوالدين قيام الابن بالتعدي والظلم والإرهاب ، فالفعل الإرهابي يؤذي الوالدين ، ويُنزل بهما الحرج والخجل ويعرضهما للمسائلة والحساب .
ولم ينحصر الأمر بالنهي عن إيذاء الوالدين بل أمر الله عز وجل بالإحسان اليهما والشكر لهما ، قال تعالى [أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( )، وورد الشكر هنا مطلقاً ليشمل الشكر القولي والفعلي ، وفي حياتهما وبعد وفاتهما ، وتوجه عيسى عليه السلام بالشكر لله عز وجل لهدايته للبر بوالدته ، وفي التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا]( ).
لبيان علم عيسى بأنه ولد بمعجزة من غير أب ، ولقانون أن مريم عليها السلام طاهرة نقية تستحق الإكرام .
ثم جاءت السنة النبوية لتأكيد بر الوالدين ، وجعله منهاجاً ثابتاً في حياة كل مسلم ومسلمة ، ولا تستطيع أي مدرسة اجتماعية أو قوانين وضعية أن تضبط صلة الإنسان الحسنة مع والديه بمعشار ضبط القرآن والسنة لها ، وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو قَالَ : أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ أَوِ الْجِهَادِ أَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ : فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَىٌّ . قَالَ : نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ : فَتَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا)( ).
وإقدام الشاب على إرتكاب المعاصي والفعل الإرهابي يؤذي والديه وإن لم يكونا مؤمنين ، للقبح الذاتي لهذا الفعل ، مما يلزم التحلي بالصلاح والخلق الحميد واجتناب إيذاء الوالدين من أهم أسباب دخول الجنة واللبث الدائم في النعيم ، لبيان قانون إجتناب الإرهاب عمل صالح فيه رضا الله والوالدين .
ومن الكبائر عقوق الوالدين كما ورد في السنة النبوية ، ترى ما هي النسبة بين العقوق والإرهاب ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإرهاب فرع العقوق ، ووجه من وجوهه .
ويبين قانون الإرهاب عقوق للوالدين محاصرة الشريعة للإرهاب ومنعها من مقدماته البعيدة والقريبة ، والخاصة والعامة ، مما يملي بيان وجوه :
الأول : قانون التضاد بين بر الوالدين والإرهاب .
الثاني : قانون الإرهاب عقوق للوالدين وسبب لجلب الذم واللعنة لهما.
و(عن عبد الله بن عَمْرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أكبر الكبائر أن يَلْعَن الرجلُ والديه.
قالوا : وكيفَ يَلْعَنُ الرجلُ والديه ، قال : يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه)( ).
الثالث : قانون المنافاة بين الإرهاب وصلة الرحم .
الرابع : قانون بر الوالدين في الإبتعاد عن العمل الإرهابي أو الإعانة عليه .
الخامس : قانون وجوب بر الوالدين زاجر عن الإرهاب .
السادس : قانون حب الوالدين للابن الذي يتنزه عن الإرهاب والعنف وفيه التوثيق .
السابع : قانون نهي القرآن والسنة عن الإرهاب بالتأكيد على بر الوالدين .
فمن إعجاز القرآن بيان كثرة طرق الهداية والصلاح ، فهو من اللطف الإلهي بالعباد ، وقانون حاجة الناس إلى التنزيل ، وكم من أب وأم تعرضوا للمسائلة والتحقيق والتفتيش والإحراج والخجل ، أو الحجز بسبب ابن قام بعمل إرهابي .
ويجب أن لا يتكل الإنسان في عمله الخاطئ على إخفائه وعدم علم الناس والسلطات به إذ ورد (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة صماء لا باب فيها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائنا ما كان)( ).
قانون تعدي كفار قريش إرهاب
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما أن بدأ دعوته ، وتلاوته آيات القرآن في المسجد الحرام حتى صار الناس يدخلون أفراداً وجماعات في الإسلام ، وهو الذي ملأ قلوب رؤساء قريش بالغيظ والحسد والحنق ، فزاولوا العنف والإرهاب والظلم ، من جهات :
الأولى : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه أثناء الصلاة ، ودونها ، وفي البيت الحرام .
لقد استنكف كفار قريش من سجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض استكباراً منهم ، قال أبو جهل (هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم.
قالوا : نعم .
قال : فو الذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته)( ).
لبيان أن ذات سجود النبي محمد جهاد في سبيل الله من غير غزو أو إراقة دماء ، وأنه تعرض للقتل بسبب هذا السجود والتطامن إلى الله عز وجل لولا فضله وإحسانه تعالى .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم منع هذا الإستكبار من سادة وشرفاء قريش من دخول أبنائهم الإسلام ، وهجرة عدد منهم إلى الحبشة بدينهم.
وهذه الهجرة من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ).
والآية أعلاه من سورة لقمان وهي مكية ، ونزولها في مكة وقبل الهجرة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعون له ولأهل بيته وأصحابه للصبر على الحصار والأذى ومحاولات الصبر على إكراه رؤساء الشرك أبناءهم على الكفروالإرتداد.
ومنهم من أكرهه أبوه بالخروج معه إلى القتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وعندما بدأت المعركة انتقل إلى صفوف المسلمين .
لبيان عدم اكتفاء كفار قريش بحمل أولادهم على الكفر، إنما حملوهم على قتال النبي الرسول ، وهو من أسباب بعث النفرة في النفوس منهم.
وكان أبو حذيفة بن عتبة الصحابي بجانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، وهو يرى قتل أبيه عتبة بين ربيعة وعمه شيبة بن ربيعة وأخيه الوليد بن عتبة على الكفر.
قانون النفرة العامة من الإرهاب
لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل الشخصي والنوعي ، ومن النوعي العرف العام ، والرضا بالعمل الصالح ، والنفرة العامة من الفعل القبيح ، والنسبة بين النفرة والإعلان عنها عموم وخصوص مطلق ، فليس كل نفرة يعلن عنها صاحبها ، فمن الناس من يعلن النفرة من الظلم ، ومنهم يلتزم السكوت مع تعدد أسبابه.
أما الإرهاب فان الناس جميعاً يعلنون النفرة منه ، ويواسون الضحية ، ويتألمون ويحزنون على الأبرياء الذين فقدوا بسبب العمل الإرهابي ، وجاءت وسائل الإعلام الحديثة لتصل أنباء وصور الإرهاب وأضراره إلى أهل المشرق والمغرب مع أنه يقع في بقعة لا تتجاوز مساحتها متراً مربعاً أو بضعة أمتار .
لبيان وجوب عصمة المسلمين من الإرهاب لقبحه وتأذي عامة الناس منه .
لقد أخبر الله عز وجل عن ماهية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
لبيان وجوه في المقام :
الأول : قانون التضاد بين الهدى والإرهاب .
الثاني : تجلي قانون عدم مجئ الهدى بالإرهاب وبالدليل النقلي والعقلي.
الثالث : خلو دين الحق من الإرهاب .
الرابع : قانون نهي القرآن عن الإرهاب .
الخامس : قانون تجلي سبل الحق للناس جميعاً ، وليس فيها ظلم أو إرهاب.
وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وأكرم الله القرآن ، ووصفه بأنه بلاغ عام للناس بقوله تعالى [هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ]( )، وهناك مسائل :
الأولى : لو دار الأمر في لفظ الناس بين العموم والخصوص ، فالأصل هو العموم ، وإفادة الألف واللام الإستغراقي .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل في أيصال مضامين التوحيد ، والأوامر والنواهي التي في القرآن إلى الناس كافة .
الثالثة : إنذار القرآن من الإرهاب بلحاظ أنه فرع الظلم ، نزل القرآن بتحريمه .
السادس : قانون وجوب إتباع المسلمين منهاج الهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : ظهور الإسلام على الملل بالحجة والموعظة والبرهان.
وهل الإرهاب عائق دون هذا الظهور لمنافاته للعلل الثلاث أعلاه ، الجواب لا ، لدلالة الآية أعلاه على الوعد من الله عز وجل بالإظهار والبيان والوضوح والظفر ، إنما يضر الإرهاب أصحابه ورواده وأربابه.
ومن الآيات في خلق الإنسان عدم إنحصار النفرة من الإرهاب بطائفة أو أهل ملة ، أو أهل البلد الذي يقع فيه الفعل الإرهابي .
ومصطلح (النفرة العامة) اصطلاح مستحدث في هذا الجزء من معالم الإيمان لبيان ثوابت من الفطرة زرعها الله عز وجل عند الناس جميعاً.
وموضوعية الكيفية النفسانية العامة التي تترتب عليها أمور متعددة من الدولة والمؤسسات المختلفة ، وتضمن القرآن والسنة بياناً للأفعال التي تجلب محبة الله والناس لصاحبها.
وورد عن أنس في حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (وما تقرب إلي عبدي المؤمن ، بمثل أداء ما افترضت عليه ، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته.
وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه.
وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك.
وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا القسم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير)( ).
وفي كتب الفقه يدرس إجماع الفقهاء وحجيته كدليل .
ومن معاني قانون النفرة العامة من الإرهاب وجوه :
الأول : حب الله لأهل الأرض ، المترشح عن تفضله بمنحهم مرتبة الخلافة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الثاني : قانون تعدد مصاديق خلافة الإنسان في الأرض .
الثالث : النفرة العامة سور الموجبة الكلية لضوابط وثوابت يجب أن يتوارثها البشر.
الرابع : كل من قانون (الرضا العام) وقانون (النفرة العامة) مقدمة للتصديق بالنبوات .
الخامس : قانون نفرة الناس العامة من إيذاء كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتجهيزهم الجيوش لمحاربته ، لتكون هذه النفرة دعوة لأجيال المسلمين للإمتناع عن الظلم والإرهاب والعنف.
السادس : قانون (النفرة العامة) من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، إذ خلق الله عز وجل آدم بيده ، ثم بعث فيه الحياة بالنفخ من روح الله ، وهو من أسرار عجز الناس عن معرفة ماهية الروح إلى الآن مع إرتقاء العلوم ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
والقلة المذكورة في الآية أعلاه مصاحبة للناس في كل زمان ، نعم هذه القلة تمنع من الإرهاب ، وتبين حرمته ، وتجعل الناس عامة غير راضين عن الفعل الإرهابي.
قانون الرضا العام
لقد ذكرت قانون (النفرة العامة) بين الناس من الفعل القبيح والظلم والتعدي والإرهاب .
وهذه النفرة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ويقابلها قانون واصطلاح (الرضا العام) وهو مستحدث هنا أيضاً إذ يكون كسور الموجبة الكلية في قبول الناس لمصاديق الإيمان كالصلاة ، ورضاهم عن الإحسان والكرم والعفو والصفح .
والمراد من رضا الناس هنا ، الرضا العام على فعل مخصوص وانطباق مصاديقه في الفعل الشخصي كالصدق والعدل ، والكرم ، والعفة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، ليكون موضوع روح الله حاضراً بين الناس ، وبه تتقوم خلافتهم في الأرض .
فمن خصائص هذه الخلافة الرضا العام من الناس على فعل الخير ، والسخط العام على فعل الشر .
ومن خصائص المؤمن التحلي بالخلق الحميد وهو من أظهر أسباب التعايش السلمي ، ودرء الفتن بين الناس .
والمراد من اصطلاح (الرضا العام) في المقام هو الجمع بين رضا الله ورضا الناس وهو أعم وأشمل مما ورد بأن رضا الناس غاية لا تدرك ، إذ ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (رضا الناس غاية لا تدرك فتحر الخير بجهدك و لا تبال بسخط من يرضيه الباطل)( ).
كما نسب إلى أكثم بن صيفي .
و(عن يونس بن عبد الأعلى ، يقول : قال لي الشافعي رحمة الله عليه : يا أبا موسى رضاء الناس غاية لا تدرك ليس إلى السلامة من الناس سبيل ، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه ودع الناس وما هم فيه)( ).
ورضا الناس على قسمين :
الأول : الرضا الثابت ، ويتعلق بسنخية الأقوال وعالم الأفعال ، وهو مقدمة للتصديق بالنبوات ، وإصلاح ما فسد من أمور الناس.
الثاني : الرضا المتحرك ، وهو الذي يتعلق بالأشخاص ، وهذا التحرك بلحاظ تعاقب الأجيال ، وعمومات قوله تعالى [تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
وقد تتعلق بذات الشخص في سيرته الذاتية ، مما يلزم حرص المسلم على الثبات في مقامات التقوى ، ومسالك الإيمان والتنزه عن الإرهاب بمراتبه وأشكاله المتباينة.
قانون محق الإرهاب للبركة
تتجلى البركة من العناوين الجامعة للمعجزة الحسية والعقلية في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والبركة لغة النماء والزيادة ، والفيض من الله عز وجل ، ونزول الرحمة ، وإستدامة النعمة ، ونزول الغيث ، وصرف ومحو البلاء ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )وقال تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البركة والزيادة والنماء ، وهو أمر يدرك بالوجدان والعقل والحواس ، فمن خصائص خلافة الإنسان في الأرض تجلي البركة في حياة كل إنسان ، والبركة في الرزق ، ومنه معجزة تحسين الملبس والمأكل على تقادم السنين والأحقاب ، ووسائط النقل السريع ، ووسائل الإعلام وكثرة الأموال .
فلا يعلم أهل الأجيال السابقة أن الناس سيكونون بحال الإرتقاء والبركات والخدمات والغذاء التي هم عليها الآن ، وتسخير وسائط النقل الجوية والبرية والبحرية السريعة لهم ، والكهرباء وشمول أهل الأرض بشبكة اتصالات واحدة ، وتوفر الأموال عند الناس لدفع تكاليف هذه المعيشة ، وكذا الحال بالنسبة للمهن لبيان قانون إرتقاء مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، وهو من البشارات التي يتضمنها قوله تعالى [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن الآية أعلاه من أول الآيات التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون من البشارات برسالته ، مما يلزم مقابلة هذه النعم بالشكر لله عز وجل بحسن السمت والأخلاق الحميدة ، وتعاهد الأمن والسلم المجتمعي.
و(عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوماً وحضر رمضان : أتاكم شهر بركة يغشاكم الله فيه ، فتنزل الرحمة وتحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء ، ينظر الله إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل)( ).
ومن فضل الله عز وجل أنه جعل البركة والنماء بما يعين ويساعد الناس على عباداتهم ، ويقربهم إلى طاعته ، وهل من البركة المنازل والأسباب التي تحول دون المعصية والفسوق والإرهاب ، الجواب نعم ، إذ أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى.
وليس من حصر لوجوه البركة في السموات والأرض ، ومع بعثة كل نبي هناك مصاديق مستحدثة من البركة ، ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبتها بالبركة وتغشيها المسلمين وأهل الأرض بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل يضر أو ينقص الإرهاب من هذه المصاديق ، الجواب لا ، إلا بخصوص الذي يقدم على الفعل الإرهابي ، للملازمة بينه وبين جلب الضرر للذات والغير .
والإرهاب سحابة ظلماء سرعان ما تتبدد في طيات الزمن ، أما بركات النبوة فهي مصاحبة لأداء الفرائض العبادية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإتخاذ السلم والموادعة والصفح منهاجاً .
لقد أكرم الله عز وجل الناس بالقرآن كلاماً منه تعالى ، وهبة سماوية إلى الأرض وساكنيها ، فلابد أن تتغشى بركات كلام الله الناس جميعاً ، وجعل الله عز وجل تلاوة القرآن خمس مرات في اليوم لتنقل الرياح كلام الله إلى الأسماع ، وفي الآفاق ، فيطرد عن النفوس الكدورة والعصبية .
ويتجلى قانون التضاد بين البركة والإرهاب ، ومن وظائف الإنسان السعي للفوز بالبركة ، وزيادة الخير ، وتعدد المنافع ، والإرهاب حاجب وبرزخ دونها ، لذا قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
جواب الله للملائكة إبطال للإرهاب
لقد أكرم الله عز وجل آدم وذريته إلى يوم القيامة بإخباره الملائكة بنصب [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) هذا التشريف الذي لم ينله جنس من الخلائق ولا أفراد من جنس مخصوص ، بينما نال مرتبة الخلافة الناس جميعاً حتى إن كانت خاصة بالأنبياء ، لبيان عظيم المسؤولية على الناس في تعاهد سنن التوحيد ، وعمارة الأرض بالذكر والتسبيح ، وتفضل الله وجعل له بيتاً في الأرض ، وأمر آدم وحواء بالإقامة عنده وأداء مناسك الحج لتكون هذه الإقامة مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وسلامته من الكيد والمكر ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ) ، ومن بركات البيت الحرام أنه مانع من الإرهاب والتعدي .
لبيان أن النسبة بين مكة والبيت الحرام عموم وخصوص مطلق ، وسميت مكة [بَكَّةَ] لأنها تبت أعناق الرؤساء ، والجبابرة بخضوعهم عندها لله عز وجل ،وبكثرة بكاء الناس في مكة ، وأيضاً لإزدحامهم فيها ، وفيه دعوة لكل مسلم للتقيد بسنن التقوى ، واستحضار ذكر الله عز جل والذي يترشح عنه كف الأيدي عن إيذاء الغير مطلقاً.
والبيت الحرام هو الموضع المبارك الوحيد الذي تجوز فيه صلاة النساء أمام الرجال لأن عماره في غنى عن الإفتتان لإنقطاعهم إلى الذكر والتسبيح والتلبية (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك).
لبيان حاجة الإنسان في الدنيا للإنقطاع إلى ذكر الله ، ويتعارض الإرهاب مع هذا الإنقطاع الذي هو برزخ دونه.
وعندما خلق الله عز وجل آدم في الجنة تفضل الله باحاطة الملائكة علماً عن هذا المخلوق الجديد وأنه لن يسكن ويقيم معهم في الجنة ، وجنسه يتناسل ويتكاثر ولم يحتج الملائكة بخصوص خلق آدم لا على خلافته أو خلافة الناس في الأرض لأنها من مصاديق وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إنما احتجوا على أمرين بالعرض وهما الفساد وسفك الدماء ، لأنهما خلاف قواعد الخلافة في ملك الله ، إذ يكون الحاكم والمحكوم في الأرض من جنس الناس أنفسهم .
لقد ورد لفظ (اني اعلم) ثلاث مرات في القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( ).
الثالثة : ما جاء حكاية عن يعقوب النبي عليه السلام في خطابه مع بنيه بعد ثبوت سلامة ونجاة وحياة يوسف عليه السلام في قوله تعالى [أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
وهل يدل علم يعقوب من الله أكثر من بنيه على اختصاص خلافة الأرض بالأنبياء ، الجواب لا .
ترى لماذا أخبر الله عز وجل الملائكة عن خلق آدم وجعله [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب هذا من علم الغيب الذي لا يحيط بأسبابه القريبة والبعيدة إلا الله عز وجل ، إذ ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
قراءة في الجزء (250) من هذا التفسير
من ثروات المسلمين العلمية المتراكمة منهاج وكتب وطرائق تفسير آيات القرآن ، وإستقراء ذخائرها من جهات :
الأول : رسم وألفاظ القرآن .
الثاني : معاني كلمات القرآن .
الثالث : البيان الذاتي بتفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
الرابع : تصديق آيات القرآن لبعضها ، والنسبة بينه وبين انتفاء التزاحم والتعارض بين آيات القرآن عموم وخصوص مطلق .
الخامس : المضامين القدسية لآيات القرآن .
السادس : الدلالة والغايات والمقاصد السامية للتنزيل.
السابع : إعجاز القرآن ، وهو على وجوه :
الأول : إعجاز الآية القرآنية الذاتي .
الثاني : إعجاز الآية القرآنية الغيري .
وقد أفردت في تفسير كل آية فصلاً لإعجازها الذاتي ، وآخر لإعجازها الغيري .
الثالث : استنباط العلوم من الآية القرآنية .
الرابع : إعجاز القرآن على نحو العموم المجموعي لآياته ، وهو الذي كتب فيه علماء التفسير ، وصدرت كتب بخصوصه ، أما هذا التفسير (معالم الإيمان ) فهو نعمة ولطف وفضل من عند الله عز وجل ، في إستحداث وجوه وأبواب من الإعجاز ، فمجموع آيات القرآن هو (6236) آية ليكون مجموع فصول الإعجاز الذاتي والغيري له هو (6236×2 = 12472 ) إعجاز ، وكل فصل منها يتضمن عدداً من المعجزات اللغوية والفقهية والكلامية والعلمية ، وفيه دعوة للسلم والأمن العالمي ، ونبذ التطرف والإرهاب ، وهو بذاته إعجاز للقرآن .
وهو حاضر وبتفصيل مبارك والحمد لله ، ومنذ بداية العقد الأخير من القرن الماضي ، وأنا أكتب في هذا السٍفر المبارك إلى جانب تدريس البحث الخارج في الحوزة العلمية والفتيا ، ولا زلت في سورة آل عمران مما يتعذر معه تنجز الأرقام أعلاه من الإعجاز ، ولكنه تأسيس لمنهجية في التفسير ، وأساله الله عز وجل أن يسخر ويوفق من يقوم باتمامها.
بحث أصولي مستحدث
الدعوة إلى الخير واجب كفائي على شطر وطائفة من الأمة ، ويقسم الواجب إلى قسمين :
الأول : الواجب العيني هو الذي أمر به الشارع على المكلف باتيانه ، ولا يسقط بأداء الغير له ، كأقامة الصلاة والصيام ، والزكاة ، والحج ، والخمس .
الثاني : الواجب الكفائي ، ويتساوى المكلفون في تلقي الواجب الكفائي ، ولكن أتيان بعضهم يسقطه عن الآخرين لتحقق الغرض والإكتفاء به لذا سمي الكفائي ، مثل تكفين ودفن الميت .
ويتعلق الواجب العيني بذات المكلف بأدائه ما فرض الله عليه ، أما الواجب الكفائي فيتعلق بالمصالح والمنافع العامة ، وهو نوع طريق لأداء الواجب العيني ، وهذا لا يمنع من كون الواجب العيني أيضاً طريقاً للواجب الكفائي والتعاون فيه .
وقد يتحول الواجب الكفائي إلى عيني عند الإختصاص والإنحصار ، كما في الطبيب المختص لاجراء عملية ، وقد يتعدد الواجب الكفائي ، وينقسم إلى شخصي ومتعدد.
ومن البحث المستحدث في المقام وجوه :
الأول : قانون تعلق الواجب الكفائي بالأفراد المتعددين الذي لا ينحصر بشخص واحد .
الثاني : استقراء هذا القسم من الواجب من آيات القرآن ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : الواجب الكفائي المتعدد بأن يأتي المكلف بعدة واجبات كفائية من غير ملل أو كلل إذ تدل الآية أعلاه على الجمع بين الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لبيان نكتة عقائدية بقانون عدم اكتفاء المؤمن بواجب كفائي متحد ، إنما تتعدد واجباته بما يكفل له الفلاح والفوز في النشأتين ، فمثلاً النهي عن الإرهاب إصلاح للذات والغير ، وتهذيب للمجتمع ، وباعث للألفة بين الناس .
وهل يمكن القول باجتماع الواجب العيني والكفائي في قضية شخصية واحدة ، الجواب نعم .
كما لو قام شخص بدعوة أصحابه وأصدقائه إلى فعل الخير والمسارعة فيه وأمرهم بأداء الفرائض والعبادات ، ونهاهم عن المعصية والإرهاب ، مع إنحصار هذه الدعوة والأمر والنهي في المقام به.
أو أنها تنحصر بجماعة أو طائفة أو أمة فيقومون بهذه الأفراد الثلاثة المباركة وتقبل الآية أعلاه تقسيم الأوامر في الآية أعلاه بينهم وإمكان هذا التقسيم من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع.
الوضوء والتيمم تنزه عن الإرهاب
من الإعجاز في الشريعة الإسلامية جعل الطهارة مقدمة للصلاة ، وهذه الطهارة ليست تخييرية أو مطلقة أو تتضمن التشديد أو عكسه ، إنما هي أفعال مخصوصة باتخاذ الماء لطهارة الوجه واليدين والرأس والقدمين ، ومع تعذر الماء يكون التيمم بالتراب ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لقد أخبرت الآية أعلاه عن قانون نفي الحرج في الدين ، فلا يختص هذا النفي بالوضوء والتيمم وغسل الجنابة ، إنما يشمل أمور الدين والدنيا ، وأحكام العبادات والمعاملات .
لبيان حرمة الإرهاب لما فيه من الأذى والضرر على النفس والناس ، وهذا الأذى اشد بمراتب من الحرج ، لبيان أن الله عز وجل لم يأمر بالإرهاب ولا يرضى به ، ولم يأت أي كتاب سماوي به ، ولا تجوز نسبة الإرهاب إلى الدين والمعتقد.
ومن إعجاز الآية أعلاه الإطلاق وصيغة المضارع في نفي الحرج بقوله تعالى [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ]( ).
لبيان حضور هذه الآية في الواقع اليومي للمسلمين ، بالتخفيف من عند الله عز وجل عنهم ، ولزوم الإبتعاد عن مواطن الحرج ، وخاتمة الآية أعم في موضوعها من الإنتقال من الطهارة المائية إلى الترابية كبديل عنها.
و(عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)( ).
وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( )، ومن معاني التطهر هنا التنزه عن الذنوب ، والإرهاب من أقبح الذنوب.
فلابد من التقرب إلى الله عز وجل بعدم الإضرار بالناس وإخافتهم ويتوضأ المسلم خمس مرات في اليوم للصلاة ، أو يدمج صلاتين أو أكثر ليكون تذكيراً بلزوم حبس الجوارح عن الإضرار بالناس .
والحرص على مغادرة الدنيا بطهارة من الذنوب والمعاصي وظلم الناس ، والتعدي على الحقوق والأملاك العامة والخاصة.
الآدمي بنيان الرب
لقد اثنى الله عز وجل على نفسه أنه خلق الإنسان بقوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ]( )، وهذا الخلق بأحسن صورة ، والشباب ، وأن كل شئ من الدواب خلقه الله منكباً على وجهه إلا الإنسان .
وموضوع الآية أعم ، وأكبر من أن تحيط به عقول البشر لتلقي الناس التنزيل والنبوة بالقبول والتصديق ، وأداءه الفرائض العبادية ، ولبيان أهلية الإنسان البدنية على الحركات المتباينة في الصلاة من قيام وركوع وسجود وقعود ، وإمساكه عن الأكل والشرب والجماع أيام شهر رمضان.
والتباين بين الناس في جمال الصورة ، والضد يظهر حسنه الضد ، وإذا ورد لفظ الإنسان في القرآن فهو يحتمل وجوهاً :
الأول : آدم عليه السلام .
الثاني : إنسان مخصوص .
الثالث : جنس الإنسان .
الرابع : المؤمن .
الخامس : الكافر .
ويعرف المراد بالقرينة والأمارة ، أما إذا كان اللفظ مبهماً ، فالمختار أن المراد هو اسم الجنس وهو الظاهر في الآية أعلاه.
ويتجلى في هذا الزمان بيان أسرار وبدائع خلق الإنسان ، وامكان الغلبة على الأمراض المستعصية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
ونسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القول (الآدَمِيُّ بُنيَانُ الربِّ ، مَلعُونٌ من هَدمَ بُنْيانَ الربِّ)( ).
وقال الزمخشري وفي الحديث (إن هذا الإنسان بنيان الله . ملعون من هدم بنيانه)( ).
ولم يقيد الحديث صفة الإنسان ، واختصاصه بالمؤمن ، بل ورد مطلقاً لبيان مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحرمة التعدي على أي إنسان.
فلا يصدر الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالوحي والإذن من عند الله عز وجل ليجتمع الوحي والإذن السماوي معاً على حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية ، وسقوط الضحايا من الرجال والنساء والأطفال.
بين الإسلام والإيمان
لقد جعل الله عز وجل كلاً من الإسلام والإيمان مصاحبين للحياة الدنيا والمراتب هي :
الأولى : مرتبة الإسلام ، وأركان الإسلام أفعال عبادية ظاهرة ، وهي النطق بالشهادتين وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت الحرام لمن [اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، أما أركان الإيمان ، فهي التصديق بالجنان منها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله .
الثانية : مرتبة الإيمان : وهي أسمى وأعلى درجات الإسلام ، إذ قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وليس من نص في القرآن والسنة يذكر لفظ (اركان الإسلام) أو ( أركان الإيمان) أو يحدد مصاديق أي منهما ، والظاهر أنه من استنباط الفقهاء بما يفيد التسهيل على المسلمين والمسلمات في معرفة أحكام الشرعية.
ويلاحظ فيها ذكر التوحيد والنطق بالشهادتين في كل من أركان الإسلام ، وأركان الإيمان ، مع تقديمها لبيان موضوعيتها في الأفعال العبادية ، وإرادة قصد القربة ، والتنزه عن الشرك الظاهر والخفي ، وُتذكر الشهدتان مجتمعتين كركن واحد لعدم التفكيك بينهما ، وكل ركن عليه أدلة من الكتاب والسنة.
نعم تكرر لفظ ركن في السنة النبوية القولية والفعلية بالنسبة لأركان البيت الحرام ، بحيث إذا ورد لفظ ركن أو أركان فانه ينصرف إلى أركان الكعبة وأداء المناسك .
و(عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحد ركن من أركان الجنة)( ).
وأكثر الأخبار التي ورد فيها لفظ الركن وأركان البيت وردت عن الصحابة وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستلم من أركان البيت الركن الأسود مثل قول عبد الله بن عمر (قَالَ لَمْ أَرَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ أطرافه)( ).
والظاهر أنه ليس في الحديث النبوي مثلاً استلموا ركن الحجر ، أو الركن اليماني ، أو استلمت الركن .
وهل ترك الإرهاب ركن في الإسلام أم أنه ركن في الإيمان أم ليس بركن فيهما .
الجواب إنه ركن الإسلام وركن الإيمان ، فيجب أن يتنزه المسلم عن الإرهاب وإخافة عامة الناس ونشر الرعب وما يترشح عنه من الكراهية والبغضاء بين الأمم.
الثالثة : جعل بعضهم مرتبة ثالثة وهي الإحسان وقال أنها أعلى من الإسلام والإيمان وانها أعلى المراتب ، وهي ثبوت القلب على الإيمان .
(وأخرج الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري .
انه مر برسول الله فقال له : كيف أصبحت يا حارث؟
قال : أصبحت مؤمناً حقاً . قال : انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟
فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي ، واظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . قال : يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً)( ).
ولم يثبت هذا التقسيم إلى مراتب ثلاثة ، وإن وردت آيات كثيرة تبين أهمية الإحسان ، وحاجة الفرد والمجتمع إليه ، وهو واقية من الإرهاب ، بل كان مرتبة وكل ركن من أركان الإسلام والإيمان زاجر ومانع من الإرهاب وكذا كل آية من القرآن تدعو إلى الحكمة والسلم والصبر وتنهى عن الإرهاب .
ولم يثبت التقسيم بأن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان وإن ذكره بعضهم واستدل بآيات تثني على المحسنين .
لبيان أن مرتبة الإيمان ومرتبة اليقين هي أعلى مرتبة ، وهي تشريف لكل مسلم ، وبشارة الأجر والثواب في الدنيا والآخرة ويجب صيانة كل من مرتبة الإسلام والإيمان واليقين بالعصمة من الإرهاب والإضرار بالناس .
وقد ورد (وفي الحديثِ : لاَ ضَرَرَ ، وَلاَ ضِرَارَ ، رواه مالكٌ في الموطإ مرسلاً)( ).
النسبة بين الأمارة والأصل العملي
الأَمارة –بالفتح- لغة العلامة والدلالة والوقت .
والإمارة –بالكسر- الولاية ، ومنه دار الإمارة .
والأمارة في الإصطلاح دليل ظني فلا تصل إلى درجة العلة الموضوعية للقطع بالفعل أو الترك فهي أدنى رتبة من العلم الذي يفيد القطع .
ومن الأمارات ، قاعدة اليد ودلالتها ظاهراً على الملكية ، وأمارة سوق المسلمين ، وأمارات القبلة وتعيينها .
وإذا شهد شاهدان على رؤية الهلال فهو أمارة ، أما إذا تم رؤيته من قبل المكلفين فهو دليل وقطع على دخول لاشهر ، وقد لا تتطابق الأمارة مع الحكم الواقعي .
ومع القطع الطريقي أو الموضوعية لا تصل النوبة إلى الأمارة .
وتجتمع الأمارات والأدلة الفقهية والكونية على حرمة الإرهاب ، وأن إرتكاب الفعل الإرهابي خلاف الشريعة والعقل .
وتتقدم الأمارة على الأصل العملي رتبة ، فمع الأمارة كالبينة الشرعية وخبر الثقة لا تصل النوبة إلى الأصل العملي كالإستحصاب والتخيير .
فكيف وقد جاء القرآن والسنة وكل منهما قطعي الصدور قطعي الدلالة بحرمة الإرهاب ، وبيان أنه ظلم وإثم ، مما يلزم الإجتناب العام عنه.
النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي من جهات :
الأولى : كل من الأمارة والأصل العملي ظن .
الثانية : إتخاذ الأصولي لهما مادة عند تعذر الدليل الذي يفيد القطع.
الثالثة : منع بقاء المكلف متحيراً.
الرابعة : كل من الأمارة والأصل العملي لها أصل في الشريعة.
يثبت متعلق الأمارة ، ولكنه لا يبلغ درجة القطع واليقين مثل خبر الواحد ، والظواهر .
وأما الأصول العملية فهي لا يثبت متعلقها ، بل وضعت لرفع حيرة وشك المكلف بالنسبة للحكم الواقعي ليأخذ بمضمونها ودلالتها عند الشك بالحكم ، وهي :
الأول : الإستصحاب .
الثاني : التخيير .
الثالث : البراءة .
الرابع : الإحتياط.
قانون بعث آيات الأحكام النفرة من الإرهاب
من مصطلحات علم التفسير (آيات الأحكام) وهي الآيات القرآنية التي تبين الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأحكام .
وقد كُتبت مجلدات عديدة بخصوص آيات الأحكام ، ومنها ما اختص ببيان أحكام مذهب معين والدفاع عنه كما في كتاب أحكام القرآن للجصاص (ت370 هجرية) إذ بين المباني الفقهية للحنفية ، وكان يقسو على الذي يخالف مذهبه .
ففي مسألة إفساد الحلال بالحرام ، وخصوص زواج الرجل من بنت امرأة قد زنى بها قام بالذم والطعن لأحد كبار الفقهاء فقال (مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُنْتَدَبُ لِمُنَاظَرَةِ خَصْمٍ يَبْلُغُ بِهِ الْإِفْلَاسَ مِنْ الْحُجَّاجِ إلَى أَنْ يَلْجَأَ إلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ سَخَافَةِ عَقْلِ السَّائِلِ وَغَبَاوَتِهِ)( ).
ومنها كتاب أحكام القرآن لابن عربي الأندلسي (ت543 هجرية) وهو متعصب لمذهبه المالكي ولم يتجه صوب ذم غيره وكان يتعرض للآيات التي فيها أحكام وهي عنده نحوه ثمانمائة آية.
ويبتعد عن الأحاديث الضعيفة ، وعن الإسرائيليات.
ومنها الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي القرطبي (سنة 600-671هجرية) وهو مالكي المذهب ، يفسر القرآن كله ، ولكنه يقف كثيراً عند آيات الأحكام لذا فهو يسمى غالباً تفسير القرطبي .
وأول من قام بتفسير آيات الأحكام الشرعية هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت قواعد هذا العلم ، وحرص الصحابة وأهل البيت عليهم السلام على بيان مضامين هذه الآيات وكيف أنها آيات محكمة ، مع نفي المتشابه عنها والتحريف فيها.
وليس من طائفة من طوائف المسلمين إلا وعندهم من تصدى لآيات الأحكام بالبيان والتفسير .
وهذا العلم ملك للمسلمين ولعموم الناس ويستقرأ منه حرمة الإرهاب ، ومنع وتبرأ آيات القرآن منه.
وقد أنعم الله عز وجل علينا بالبيان والإستقراء والإستنباط من كل آية من آيات القرآن التي تضمن هذه السِفر المبارك تفسيرها ومنها آيات أحكام خاصة وأن لي رسالة عملية في أحكام العبادات والمعاملات وهي (الحجة) خمسة أجزاء ومسجلة في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم 345 لسنة 2001م.
ومن خصائص القرآن أن كل آيات الأحكام تنهى عن الإرهاب وتزجر عنه لأنها تبعث على العمل بمضامينها وهو خصوص العبادة والإنشغال بالخضوع والخشوع لله عز وجل ، والتقيد العام بالضوابط الشرعية.
والمختار المستحدث هو الإحصاء التفصيلي لآيات الأحكام بذكر عدد الأحكام والأوامر والنواهي في الآية الواحدة ، لذا تجد الآية القرآنية تتضمن الدعوة المتكررة للعبادة ، وتدعو للتفقه فيها.
وتشمل آيات الأحكام وجوهاً :
الأول : آيات الأحكام الاعتقادية .
الثاني : آيات الأحكام العملية الفرعية .
الثالث : آيات الأحكام الأخلاقية والإجتماعية والسلوكية.
وإذا ورد ذكر آيات الأحكام مطلقاً فانه ينصرف إلى آيات الأحكام العملية الفرعية ، والتكاليف الخمسة :
الأول : الوجوب .
الثاني : المندوب .
الثالث : المباح .
الرابع : المكروه .
الخامس : المحرم.
وتقدم ذكر الإختلاف في عدد آيات الأحكام ، والمشهور أنها خمسمائة آية ولكنها أكثر ، وهناك مسألتان :
الأولى : عدم إختصاص آيات الأحكام بالأوامر والنواهي إنما تشمل الآيات التي يستنبط منها الحكم الشرعي وإن وردت بصيغة الجملة الخبرية ، والقصة قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الثانية : تعدد الحكم الشرعي في الآية الواحدة ، فقد ترد ستة أو سبعة أحكام أو أكثر في الآية الواحدة ، ومن معاني بيانه تجلي إعجاز القرآن وتهذيب النفوس ، والعصمة من المعصية والظلم.
قانون تعدد الأحكام في الآية الواحدة
يطلق لفظ آيات الأحكام على كل آية تتضمن حكماً فعلياً فرعياً كاقامة الصلاة وتشمل آيات الإعتقاد ، وقد تأتي عدة أحكام في الآية الواحدة ، فلابد من البيان .
وذكر أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تبين هذا التعدد ولزوم الإلتفات إليه ، فهذا الإلتفات من مصاديق التفقه في الدين ، لبيان قانون حاجة العلماء وعامة المسلمين للسنة النبوية ، ومن خصائص السنة أنها تنهى عن الإرهاب .
بل وعن بث مفاهيم الكراهية التي هي أدنى بمراتب من الإرهاب ، ليقطع الطريق على صيغ العنف في الأسرة والمحلة والمجتمع ، وليرفع المسلم لواء السلم والتسامح والعفو ، قال تعالى [وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
والمراد من قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، السنة النبوية لبيان أنها فرع القرآن وترجمان له ، ويدل عليه ظاهر تأويل عبد الله بن مسعود إذ ورد عنه أنه قال (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات لخلق الله . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت إليه فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت.
قال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في كتاب الله .
قالت : لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئاً من هذا قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته أما قرأت [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه والله أعلم)( ).
و(لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرماً وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك. فقال الرجل : اتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله ، قال : نعم مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( ).
ولابد من إنشاء مؤسسة علمية لإحصاء مفردات الأحكام في آيات الأحكام في آيات القرآن ، منطوقاً ومفهوماً فقد يبلغ أكثر من عدد آيات القرآن وهو (6236) آية قرآنية كما في تعدد الأحكام الفرعية في آية الدَين.
ومنها آية الوضوء ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومما تضمنه من الأحكام الفرعية والجزئية وجوه كل فرد منها صارف عن الإرهاب ، وزاجر عملي عنه ، وهي :
الأول : إبتداء الآية بنداء الإيمان لبعث المسلمين على الإصغاء لمضامين الآية والإستعداد لتلقيها بالقبول والرضا مع الشكر لله عز وجل على ما يتضمنه هذا النداء في ثناياه من الشهادة والإكرام ، وسيأتي قانون نداء الإيمان نهي عن الإرهاب.
الثاني : القيام إلى الصلاة ، وجاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية (إذا قمتم) وهو من الإعجاز إذ تشمل الصلاة الواجبة والمندوبة ، ولدفع وهم فلا يظن أحد أن الوضوء خاص بالصلاة الواجبة كصلاة الظهر أو العصر ، إنما يجب الوضوء للصلاة مطلقاً.
ولم يرد لفظ (قمتم) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، نعم ورد لفظ أقمتم بخصوص وجوب الصلاة على بني إسرائيل في قوله تعالى [وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( ).
وهل القيام إلى الصلاة زاجر عن الإرهاب ، الجواب نعم ، لأنه مقدمة للعبادة وإنشغال بها ، وإنقطاع عن الدنيا وزينتها ، وفيه منع من استحواذ النفس الشهوية والغضبية على المسلم.
الثالث : نزلت آية البحث بصيغة الجمع للندب الى صلاة الجماعة والمنفرد.
وتقديرها بصيغة المفرد : يا أيها الذي آمن إذا قمت الى الصلاة فاغسل وجهك.
وبخصوص الانثى : يا أيها التي آمنت إذا قمتِ إلى الصلاة .
لبيان اللطف الإلهي بمخاطبة الله عز وجل للمسلمين والمسلمات في آيات القرآن ، فيغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ولكن الأمر والخطاب من الله للمسلمين متجدد كل يوم.
ومن معاني الآية والتفضيل فيها ، وجوه :
الأول : إذا قمتم إلى صلاة الصبح .
الثاني : إذا قمتم إلى صلاة الظهر .
الثالث : إذا قمتم إلى صلاة العصر .
الرابع : إذا قمتم إلى الصلاة الواجبة .
الخامس : إذا قمتم إلى الصلاة المندوبة والمستحبة .
السادس : إذا قمتم إلى صلاة الجمعة.
قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، ومع موضوعية يوم الجمعة في الشريعة الإسلامية فانه لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة في الآية أعلاه.
وسميت السورة باسمه سورة الجمعة ، لبيان الشأن العظيم لصلاة الجمعة ولزوم اتخاذها حصانة اسبوعية لإجتناب الظلم والتعدي أو مزاولة الإرهاب .
بينما ورد اسم يوم السبت أكثر وفي باب الإحتجاج وفي المرسل عن (عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة ، فإنه مشهود تشهده الملائكة ، وإن أحدا لا يصلي علي إلا عُرضت عَلَيّ صلاته حتى يفرغ منها.
قال : قلت : وبعد الموت ، قال : وبعد الموت ، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء : فنبي الله حي يرزق)( ).
وقريب منه ورد عن الصحابي أوس بن أوس الثقفي .
لبيان أن ذكر يوم الجمعة بعث للمسلمين للعبادة والذكر والإكثار من الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمل الصالحات .
وهل صلاة المسلم وحدها تعرض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقدرة الله ، الجواب لا ، إنما ذكرت الصلاة لبيان وجوب تعاهد أفراد العبادة الأعم ، إنما يعرض أداء الفرائض العبادية الأخرى ، ولابد أن يتنزه المسلم عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يعرض عليه فعل المعصية ، ومنه الإرهاب ، وسفك الدماء ، وقتل الناس الأبرياء غيلة ، وغدراً .
ومن معاني [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ] أنها مع التوبة والإنابة والبراءة من الإرهاب .
الرابع : حكم غسل الوجه ، وهو أول أفعال الوضوء لقوله تعالى [فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ]( )، فالمنهاج هنا أن هاتين الكلمتين حكم خاص وليس كل آية الوضوء حكماً واحداً ، ومن منافع هذا التفصيل كشف الحقيقة ودعوة المسلمين للتقوى ، والإنزجار عن الإرهاب.
ونزل الحكم بالفاء في (فاغسلوا) لبيان الفورية في المباشرة في أفعال الوضوء فحال القيام يتوجه المسلم إلى الوضوء لينقطع عن أمور الدنيا والتجارة والزراعة ، وليقبل على الوضوء بقلب خاشع لذا تشترط النية وقصد القربة في الوضوء بلحاظ أنه فعل عبادي ، وإن كان مقدمة لغيره .
وحد الوجه معروف وهو من منابت شعر الرأس المعتاد إلى أسفل الذقن طولاً ، ومن شحمة الإذن إلى شحمة الإذن الأخرى عرضاً أو (ما اشتمل عليه الإبهام والوسطى عرضاً) ( ).
وهكذا بالنسبة لأفعال الوضوء الأخرى من غسل اليدين إلى المرافق والمسح على بعض الرأس ، وغسل أو مسح القدمين .
لبيان أن الوضوء طهارة بدنية تسبق الصلاة ، وما هو مهم أيضاً الطهارة الفعلية ، وبراءة الجوارح من فعل المعاصي والسيئات.
لقد أراد الله عز وجل للمسلم أن يستحضر أفعاله خمس مرات في اليوم عند الوضوء ثم الصلاة ، ولزوم الحصانة والعصمة بين كل صلاتين ، ومن إرتكاب المعصية ، وذات الإرهاب معصية وكما تستلزم الصلاة المقدمة الواجبة من الطهارة فان الإسلام يحرم مقدمات العمل الإرهابي والإعانة عليه .
من معجزات النبي (ص) يوم عرفة
وفيها مسائل :
الأولى : إحياء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سنة آدم أبي البشر ، وهو وحواء أول من أديا الحج ، ويجب الحج في الإسلام على الرجل والمرأة عند تحقق الإستطاعة عند المكلف.
الثانية : عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحنيفية إبراهيم عليه السلام في الحج ومناسكه .
وهل شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مجموع ولفظ (الناس) الوارد في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، أم أن القدر المتيقن منه أهل زمان إبراهيم ، والذي يصلح للبلاغ .
الجواب من إعجاز القرآن وتفضيل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين توثيق وتجديد دعوة إبراهيم للناس للحج بالآية أعلاه مع بيان أحكام الحج ، لتكون هذه الدعوة غضة حاضرة في كل موسم ، فيشكر المسلم والمسلمة الله للتوفيق لأداء فريضة الحج .
الثالثة : إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته باحياء مناسك الحج وإلى يوم القيامة .
الرابعة : حج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع وليس في مكة مشرك ولا في البيت الحرام والجزيرة صنم يعبد أو يتزلف إليه.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه في سنتين بين فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وحجة الوداع لم يبق صنم في الجزيرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ]( )، وفيه تذكير للناس بالحسن الذاتي للأمن ، وحاجة المسلمين والناس إليه ، وفيه موعظة وحجة بلزوم عدم إخافة الناس في بيوتهم ومنتدياتهم ودور العبادة .
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام (من رأى أنه في الحرم وكان خائفا أمن)( ).
وقد ورد ذكر هذه الآية والحديث أعلاه في كتابي الموسوم (فلسفة الرؤيا في الإسلام).
الخامسة : بالوقوف على عرفة حفظ للبيت الحرام ، وتعاهد للصلاة والفرائض العبادية كالزكاة والصيام والخمس ، ولابد أن يحرص المسلم على إبراء ذمته من الزكاة والخمس عند التوجه إلى البيت الحرام.
السادسة : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسك الحج كما أداها الأنبياء السابقون ، وفيه حفظ لتركتهم العقائدية .
السابعة : كثرة عدد وفد الحاج الذين حجوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع ، فما أن علم أهل المدينة والبوادي والقرى أنه يريد الحج حتى توافد الآلاف منهم إلى المدينة ليخرجوا معه ويشهدوا إحرامه من مسجد الشجرة ، ومنهم من أدركه في الطريق ، ومنهم من التحق به في مكة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث في السنة العاشرة للهجرة عدداً من أصحابه (على الصدقات، فبعث المهاجر بن أبي امية بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العبسي وهو بها.
وبعث زياد بن أسد الانصاري إلى حضرموت على صدقاتها.
وبعث عدي بن حاتم الطائي على صدقة طيئ وأسد ، وبعث مالك بن نويرة على صدقات حنظلة، وجعل الزبرقان بدر وقيس بن عاصم على صدقات زيد بن مناة بن تميم.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
وبعث علي بن أبي طالب عليه السلام إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ففعل وعاد، فلقي رسول الله صلى الله عليه واله في حجة الوداع)( ).
الثامنة : معجزة خطبة الرسول في الوداع وتعدد مضامينها وبيان الأحكام فيها ، وموضوعية كثرة عدد المسلمين الذين حضروا فيها ، ونهيه عن القتل وسفك الدماء ، ونهب وغصب الأموال ، وتوصيته بالنساء خيراً ، وحفظ وأداء الأمانة ، وتأكيده على الأشهر الحرم الأربعة ، وتعيينها ، وهي فرائد في تثبيت قواعد الشريعة بما يمنع من الإرهاب.
و(قال زيد بن أرقم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أمَّا بَعْدُ ، أيُّهَا النَّاسِ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه ، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ ، فِيهِ الهُدَى والنُّور ، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال : وَاهْل بَيْتِي ، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي)( ).
التاسعة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم الإكتفاء ببيان الأحكام والموعظة وسنن الأمامة في ذات مناسك الحج ، فعندما غادر وأصحابه مكة في حجة الوداع ، ووصلوا إلى غدير خم الذي يبعد عن مكة نحو (159) كم في مفترق طرق خطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه ونزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وسلموا على الإمام علي عليه السلام بالولاية.
ومن خصائص كل خطبة من خطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها تتصف بالدعوة إلى عبادة الله ، والإخلاص في العبادة والزهد في الدنيا ، والإمتناع عن الإضرار بالناس عامة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لبيان قانون خطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زاجر عن الإرهاب.
عدد الصحابة في حجة الوداع
اختلف في عدد وفد الحاج يومئذ على وجوه :
الأول : أربعون ألفاً .
الثاني : تسعون ألفاً .
الثالث : مائة ألف تقريباً .
الرابع : مائة ألف وأربعة عشر ألفاً ، ومنهم من جعل هذا العدد هو عدد الصحابة عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم( ).
الخامس : مائة وأربعة وأربعون ألفاً .
السادس : قدوم بشر كثير وعدد هائل من أطراف المدينة لمصاحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ عن الإمام الباقر عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثل عمله)( ).
وهذا الحديث وكثرة الناس الوافدين إلى المدينة للحج معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدمة أن يأتي في هذه الأزمنة ملايين الحاج كل سنة لزيارة قبر ومسجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل التوجه إلى مكة لأداء مناسك الحج أو العمرة ، أو بعد أدائهما .
السابع : في الحديث أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في المسجد النبوي وركب ناقته القصواء ، وخرج وأصحابه من المدينة حتى صار ووفد الحاج على البيداء ، قال جابر (نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به.
فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) وأهلّ الناس بهذا الذي يهلون به)( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي بعد عذاب وأذى قريش له ولأهل بيته وأصحابه في مكة .
خرجت كتائب وسرايا الدفاع والإستطلاع بالعشرات والمئات من المهاجرين والأنصار التي تخرج من المدينة بعد الهجرة.
سار عشرات الآلاف من المدينة ليس للقتال ، إنما لأداء مناسك الحج ، وفيه شاهد على إنقطاع الإرهاب بالقرآن والسنة النبوية ودفاع الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ثم تجلي صيغة السلم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحشد ونفير الصحابة لأداء مناسك الحج الذي هو سلم محض .
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تختتم أيام نبوته وحياته بأداء فريضة الحج هو وجميع نسائه وعشرات الآلاف من أصحابه وفيه دعوة للسلم ونبذ العنف والإقتتال والإرهاب.
لقد غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا حاملاً لواء السلم والإخلاص في العبادة لله ، وفيه دعوة لأجيال المسلمين للإقتداء به.
النسبة المنطقية بين فتح الحديبية ودخول مكة
تستقرأ هذه النسبة من آيات القرآن أولاً ثم من السنة النبوية ، والوقائع ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاء التعارض بين كل من :
الأولى : آيات القرآن .
الثانية : السنة النبوية .
الثالثة : ذات الوقائع نفسها ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالاسم الحسن ، وقام بتغيير عدد من أسماء الصحابة ذكوراً وإناثاً .
لقد توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه إلى مكة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وهو لا يريد قتالاً إذ خرجوا معتمرين ملبين ، وتم الصلح يومئذ ، فوصفه الله سبحانه بأنه فتح مبين وجلي ودليل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث للقتال والحرب ، وأن منافع معجزته في هداية الناس أكثر بكثير من القتال ، فقال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
والاسم السائد هو صلح الحديبية واسميته هنا (فتح الحديبية) لقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، وورود النصوص بأن المراد من الفتح هنا هو صلح الحديبية .
أما الاسم السائد والمتوارث عن دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فهو (فتح مكة).
وأخذت اصطلاح دخول مكة اقتباساً وترجمة لقوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
إحصاء قوانين أجزاء التضاد بين القرآن والإرهاب
من إعجاز القرآن تنمية ملكة الإحصاء عند المسلمين وموضوعية الصدق والإمانة ، والضبط والتثبت فيه ، وإتخاذه بلغة في سبيل الهداية والصلاح .
وقد ورد في الجزء الخامس والأربعين بعد المائتين من هذا السٍفر (الحمد لله على نعمه التي لا يقدر على عدها وإحصائها إلا هو سبحانه وعلى عطاياه وهباته السابقة والحاضرة واللاحقة ، الظاهرة منها والباطنة ، وكل فرد منها أمر وجودي بما فيها الإعانة على الصبر ، والمنع من البلاء والإفتتان.
الحمد لله الذي هدانا لتعداد النعم ليكون شكراً له سبحانه ، قال تعالى [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( )، ومن معاني الآية الإقرار بأن كل نعمة فضل من الله عز وجل ) .
ويحتاج الفرد والأسرة والجماعة والأمة كل يوم الإحصاء في العبادات والمعاملات وتنظيم الحال والألويات .
ومن أقسام الإحصاء :
الأول : الإحصاء الوضعي .
الثاني : الإحصاء الموضوعي .
الثالث : الإحصاء الإستدلالي .
الرابع : الإحصاء التحليلي .
ويتم في هذا السِفر إحصاء القوانين التي وردت في الأجزاء الخاصة بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) .
ويمكن تقسيمها وفق أقسام الإحصاء أعلاه أو وفق أحكام الشرعية في العبادات والمعاملات ، والأحكام ، لبيان قانون وهو دلالة كل قسم من أقسام الشريعة على حرمة الإرهاب ومحاصرتها له ، وهو من الإعجاز في نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح الأجيال المتعاقبة ، وفضح الشاذ عن منهاج الأمة بالصلاح والتقوى .
بين الثبوت والإثبات
الثبوت هو عالم العقل ويتعلق موضوعه بامكان الشئ أو امتناعه ، وبالأمر الإلهي والواقع .
أما عالم الإثبات فهو عالم الأدلة الواقعية والخارجية فلو قال شخص هناك جبل من ذهب ، فهذا القول من عالم الثبوت والعقل ، وهو ممكن غير ممتنع عقلاً ، فالثبوت مأخوذ من الفعل (ثبت) وهو فعل لازم.
أما الإثبات فهو وجود هذا الجبل في الخارج أو عدمه ، وقد يأتي الإثبات بمعنى الطريق لمعرفة الواقع والثبات ، ودليل الاثبات يساوي الثبوت كما في ثبوت رؤية الهلال.
وكما في نظرية النسبية الخاصة والعامة لأينشتاين (1879-1955) فاضافة الزمن كبعد رابع مع كل من الطول والعرض والإرتفاع للمادة من الثبوت والنظرية .
وتأكيد مصاديقها في الواقع من عالم الإثبات ، ومن قبله نيوتن (1642-1727م) الذي قال أن الجسم لا يتحرك من تلقاء نفسه ولابد من تأثير وقوة خارجية تحركه وهو من عالم الثبوت ، ليستدل على عدم اثباتها بحركة النجوم بالفراغ بذاتها ، وغاب عنهم أن الله عز وجل هو الذي سخر هذه النجوم والكواكب وجعلها سابحة في الفضاء بنظام دقيق لا تستطيع الخروج عنه ، قال تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]( ).
لبيان أن البعد الرابع وهو الزمن مسخراً أيضاً بأمر الله فلابد للإنسان من التنزه عن الإرهاب لأن النظام الكني يمنعه ويزجر عنه ، وذات الإنسان يتحرك من غير تأثير قوة من الخلائق تحركه ، لإقامة الحجة عليه ووقوفه بين يدي الله للحساب يوم القيامة ، فيجب التوقي من دعاة الإرهاب ، وما في دعوتهم من الأغواء.
وعدم الإيجاد أعم من عدم الوجود ، فقد يكون الواقع موجوداً ولكن لا تدركه وقد يكون الهلال موجوداً ولكن حجبته الغيوم لذا ورد (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم ، ولا تصوموا حتى تروه ، ثم صوموا حتى تروه ، فإن حال دونه غمام فأتموا العدة ثلاثين ، ثم افطروا)( ).
لوجود المقتضي وفقد المانع ، فهو كالعلة والمعلول ، فالهلال موجود الليلة وهو من عالم الثبوت ، وثبوت رؤيته من عالم الإثبات.
وكذا دليل عدم الثبوت يساوي عدم صحة الإثبات لأنهما كالأصل والفرع ولكن عدم الإثبات لا يدل على عدم الثبوت لاحتمال التخلف عن إدراك الثبوت إذ إنه من عالم الإثبات فقد يكون الهلال قد طلّ في الخارج ولكن تتعذر رؤيته بسبب الغيم فقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ]( )، من عالم الإثبات .
فاذا ورد الدليل بعدم وجود جبل من ذهب فلا يصح اثباته لأنه منتف في الخارج .
والخطاب الشرعي من القرآن والسنة القولية من عالم الثبوت ، وإظهار الحكم الشرعي .
وعالم الثبوت هو عالم الواقع وهو في علم الله الذي [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( )، ومنه إرادة أداء المكلفين الصلاة لما فيها من المصلحة للعباد ، أما عالم الإثبات فهو عالم الأدلة سواء الواقعية أو الظاهرية .
وإقامة الصلاة من عالم الإثبات وتحقق الأمارات الكونية التي تدل على حضور وقت الصلاة لتتجلى منافعها في عالم الثبوت وبشاراتها وما فيها من المغيبات من خلال المستقرأ من عالم الإثبات.
ومن يريد الأجر والثواب فانه يجمع الذخائر بالصلاة ، أما الإرهاب فهو ضد للصلاة في الذات والموضوع والأثر فلابد من الإنصراف عنه.
والتلازم بين الثبوت والإثبات من المتضايفين كالعلة والمعلول ، ومبحث الثبوت والإثبات مستحدث في مباحث علم الأصول في الحوزة العلمية ، ولابد من إطلاع العلماء على تعريف كل منهما ومعرفة موضوعيته والنفع منه.
والمراد من (الثبوت) الواقع وذات الأمر ، أما عالم الإثبات فهو عالم الدلائل والبرهان واظهار ما هو في الواقع وان قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( )، من عالم الإثبات لإخباره عن الإرادة الإلهية التي تتعلق بالصلاة في عالم الثبوت ، وعالم المصالح والمفاسد وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عالم الإثبات ، لأنه مرآة لعالم الثبوت ، وعالم الميثاق وهو عالم الذر فيخبر عالم الإثبات عن عالم الثبوت.
وليس من اصطلاح ثابت ودقيق لتعيين كل من عالم الثبوت والإثبات فهو مصطلح جديد ، ولكنه ظاهر في تجلي عالم الإثبات في المبرز الخارجي ، ولابد من ضبط مصاديقه.
وقال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )،
فالحكم التكليفي كالوجوب أو الحرمة له مرحلتان :
الأولى : مرحلة الثبوت للحكم ، بتعيين ما في الفعل من المصلحة ويسمى الملاك ، ومع وجود مصلحة في الفعل تنشأ إرادة اتيان الفعل أو إجتنابه وفق المصلحة المدركة ، فيصوغ المولى إرادته للفعل بلحاظ مخصص بامتناع الترخيص في حال النهي كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( )، وقال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ]( )، فيكون في مرحلة الثبوت وجوه :
الأول : الملاك.
الثاني : الإرادة .
الثالث : الإعتبار .
وقد يسمى الوجه الأول والثاني (مبادئ الحكم) فينتقل الأمر إلى ذمة المكلف بعدها تأتي مرحلة الإثبات بصدور جملة إنشائية بأمر أو نهي أو جملة خبرية تتضمن معنى الأمر أو النهي ليكون من حق الولي على المكلف اتيان المأمور به أو المنهي عنه ، كما في الأمر بالحج بصيغة الجملة الخبرية [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
وليس من ملاك ومصلحة في الفعل الإرهابي مطلقاً من جهة الكم والكيف والجهة التي يتوجه إليها ، فهو خلاف آيات التنزيل وسنن الرحمة التي بعث الله عز وجل بها الأنبياء ، وتفضل وخاطب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقوله [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
القطع الطريقي والموضوعي
لقد نزل تحريم الخمر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ويعود الضمير (الهاء) في (فاجتنبوه) إلى الرجس لبيان أن وجوب الإجتناب يشمل الأفراد التي وردت في هذه الآية وما هو أعم منها ، بلحاظ الجمع الموضوعي لآيات التي تذكر الرجس والتحريم.
والخمر معروف وهو كل مسكر وما خامر العقل فاسكره .
والميسر هو القمار المعروف ، وفيه أكل المال بالباطل.
والأنصاب أشياء كانوا في الجاهلية ينصبونها ، ويذبحون عندها الذبائح لأصنامهم.
وأما الأزلام فهي سهام صغيرة من نوع الخشب يستقسمون بها لحاجاتهم ، كما لو أرادوا سفراً أو حاجة ، فيكتبون على أحد الأزلام :
الأول : افعل .
الثاني : لا تفعل.
الثالث : غفل وترك ليس فيه كتابة.
ويضعونها في كيس ثم يسحب أحدها ، فاذا خرج الغفل أعادوا الكرة.
فحرمها الله عز وجل ، وهداهم إلى الدعاء والصدقة والتوكل على الله والخيرة الشرعية عند الإقدام لقضاء حاجة.
والقطع الطريقي بعد حكم الشارع بحرمة الخمر فيترشح عنه أمران :
الأول : يقطع المكلف بحرمة الخمر .
الثاني : يقطع بأن هذا الإناء فيه خمر فلا يجوز الشرب منه.
فيصبح التكليف منجزاً بوجوب اجتناب الخمر ، ويسمى هذا القطع القطع الطريقي لأنه طريق وكاشف عن الحرمة وليس له دخل في واقع الحال ، لثبوت الحرمة للخمر سواء قطع المكلف بأن هذا خمر أو لا .
والقطع الطريقي ينجز التكليف لأنه كاشف عنه وأخرى يحكم الشارع أن على المكلف إذا قطع في الأناء خمر فهو حرام ، فلا يحرم ما في الإناء إلا اذا قطع المكلف بأن في الإناء خمراً ويسمى القطع في هذه الحالة بالقطع الموضوعي لثبوت الحرمة بالنسبة لموضوع الخمر .
ولا يتنجز هذا التكليف إلا مع القطع بحرمة مقطوع الخمرية ، وكما لو قطع المكلف بأن الماء مضر له إذا توضأ فتنتقل وظيفته إلى التيمم ، ولو انكشف الخلاف وان الماء ليس مضراً له فالتيمم صحيح لأن انكشاف الخلاف بخصوص متعلق القطع وليس الموضوع المترتب عليه الحكم.
والقطع كيفية نفسانية قائم بالنفس وصادر عنها ، وهو مثل القدرة والإرادة .
وقد ثبت أن الإرهاب فعل منهي عنه ، والقطع بأنه من التعدي وليس فيه إلا الأذى والضرر الحاضر واللاحق ، فلابد من إجتنابه.
مسلك الطاعة
هل تختص المنجزية بالقطع وأن لا يتم الفعل الواجب أو الترك ، الجواب لا .
إذ أن التكليف المقطوع من أمور الطاعة لله عز وجل ، ولا تختص الطاعة بالقطع والجزم ، بل يشمل ما ينكشف من تكاليفه ولو بالحكم الظاهري والإنكشاف الإحتمالي كما في قبول شهادة رجلين عدلين في تحديد رؤية الهلال ، دون انتظار القطع بالرؤية في قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
نعم القطع أعلى مرتبة وتنجزاً وتاكيداً ، ويسمى هذا المسلك مسلك الطاعة .
والظن غير المعتبر لا يكون موضوعاً على وجه الطريقية .
مسلك قبح العقاب بلا بيان
منهم من اتخذ مسلك الملازمة بين المنجزية والحجية مع القطع فاذا لم يكن قطع أو علم فلا منجزية ولا تكليف ، ويسمى مسلك قبح العقاب بلا بيان.
وهل يدل قوله تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ]( )، على أن القرآن قطعي الصدور قطعي الدلالة ، الجواب نعم .
لأنه مبين للفرائض العبادية ولبديع صنع الله ، وعظيم قدرته وسلطانه ، ومبين لصدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين ، وفاضح لزيف الوثنية والشرك والبدع والضلالة .
وهل يمكن تقسيم الكلمات القرآنية إلى شعبتين :
الأولى : قطعية الدلالة .
الثانية : ظنية الدلالة .
الجواب لا ، فكل كلمات القرآن قطعية الدلالة ، بينتها السنة النبوية ، أما ظنية الدلالة فهي كلمات قليلة يطرد عنها الظن بيان آيات القرآن الأخرى لها والسنة النبوية القولية والفعلية.
وهذا العنوان (قبح العقاب بلا بيان) قبيح إن أريد به علم التوحيد والذي يسمى أيضاً علم أصول الدين ، وعلم الكلام ، لتنزيه الله عما لا يجوز عليه .
وقد ثبت عقلاً وشرعاً البيان والقطع ووضوح الأحكام من عند الله ، وأدى الأنبياء وظائفهم الجهادية في هذا البيان .
أما أن يضرب مثلاً بأن السيد إذا عاقب عبده على فعل لم يبينه له فهو قبيح فهذا صحيح ، ولكن لا يتخذ مثلاً ، بل يقف الموضوع عنده فلذا يخرج هذا الإصطلاح من علم الأصول بالتخصيص .
وقد سمى الله عز وجل القرآن بياناً للناس جميعاً إذ قال هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، ومن بيان القرآن الحرمة المطلقة للإرهاب ، وتبرأ القرآن والنبوة من الفعل الإرهابي ، وحرمة لصقه بالقرآن.
قانون نداء الإيمان حصانة من الإرهاب
نداء الإيمان مصطلح جديد في هذا السِفر والمقصود به هو الخطاب من عند الله عز وجل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والمراد المسلمون والمسلمات ، إذ ورد هذا النداء تسعاً وثمانين مرة في القرآن .
وكل واحد منها تفتتح به الآية إلا بخصوص قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
ومن مقدمات التسليم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأجيال المتعاقبة البراءة من الإرهاب ، وما يسبب الضرر لعامة الناس لأنه يتضاد مع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه والدعاء له من مصاديق الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه ، الجواب نعم ، لبيان استدامة صلة أجيال المسلمين الشخصية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه الصلاة والفلاح ، والإبتعاد عن العنف والبطش والإرهاب ، لأن الإنشغال بالسلام والتسليم ترقيق للقلب .
والله عز وجل لا يصلي إنما هو الفضل والمغفرة والرحمة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن (كعب بن عجرة قال : لمّا نزلت [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ]( ) قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك
قال : قل : اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد)( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية سلام أهل الأرض عليه كل يوم وإلى يوم القيامة سواء السلام في الصلاة بالقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته أو مطلقاً.
وفي التسليم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إظهار لحبه والتصديق برسالته واتباعه ، والإمتناع عما يخالف سنته .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا مدر ولا جبل إلا قال له السلام عليك يا رسول الله وأنا أسمعه)( ).
وسلام الحجر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة دعوة للناس للإيمان ، وهي أيضاً حضّ لأجيال المسلمين للتسليم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإضرار بالأملاك العامة والخاصة.
ومن الإعجاز في المواظبة على السلام على النبي ترقيق القلوب ، وانبساط الرفق على الجوارح ، والعصمة من الإرهاب.
الأخوة الإنسانية
لقد أخبر القرآن عن إتحاد أصل وسنخية البشر وأنهم جميعاً أبناء آدم وحواء، وفيه دعوة للتألف والتعاون والتكافل، مع تقييد الإكرام بالإيمان والتقوى، وبيان الذم للظالمين على لسان الملائكة من أول يوم خلق الله فيه آدم
وكان احتجاج الملائكة على أمرين :
الأول : الإفساد في الأرض .
الثاني : سفك الدماء .
وهل يكون تقدير الآية : أتجعل فيها خليفة يفسد فيها ويسفك الدماء ، الجواب لا ، وإن بدا أنه الظاهر.
إنما احتجوا على الذي ينسلخ من الخلافة في الأرض ولا يتقيد بأحكامها وسننها ، فدعوا الله عز وجل ، لتنزيه الناس عن الفساد الإقتتال فيما بينهم ، وسفك الدماء والإرهاب من هذا الإنسلاخ.
ليكون من دعاء الملائكة في الآية أعلاه توسل الملائكة بامتناع الناس عن الإرهاب ، لتجلي رأفة الملائكة بالمسلم وغير المسلم بأن لا يرتكب العمل الإرهابي ، وأن لا يقع أثر هذا الفعل المنكر على أي من الناس ما داموا قد شملتهم العناية الإلهية بمرتبة الخلافة في الأرض.
لذا ورد النداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن ، وفيها دعوة للسلم العالمي والتعايش المجتمعي ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، والإرهاب ضد التعارف والتعايش.
ولم يرد لفظ (تعارفوا) أو (لتعارفوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، واللام في (لتعارفوا) للتعليل في الخلق والخلافة ، وتقسيم الناس إلى طوائف وأمم .
وتدل خاتمة الآية [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] على وجوب تسخير الإنتماء العقائدي والنسبي وأواصر المصاهرة في طاعة الله ، وطلب مرضاته ، وليس في الأرهاب إلا المعصية ونزول السخط من الله ، قال تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وهل النظم الإجتماعية والسياسية المترشحة عن قوله تعالى [وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ]( )، مستديمة وإن تباينت كماً وكيفاً ، أم يأتي على الناس زمان تنقطع فيه الإنساب والقبائل والشعوب ويكون أهل الأرض شعباً واحداً .
الجواب لا تمنع الآية منه ، ولكنها تدل على الأعم الأغلب في حياة الناس ، نعم تحذر الآية من حمل الناس على إختلاط الإنساب والشعوب بالإكراه ، فمصيره إلى الفشل.
وسواء كان تقسيم الناس إلى حسب الملة والدين ، أو حسب القومية والنسب أو حسب المواطنة وحدود الدولة .
فان الآية أعلاه تحرم الإرهاب مطلقاً لأنه خلاف التقوى ، وفيه ابتعاد عن رحمة الله ، بينما يحتاج كل إنسان الإبتعاد عن نار الآخرة بعمل الصالحات في الدنيا ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( ).
ولم يرد لفظ (مبعدون) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وفيه بشارة الأمن والفوز يوم القيامة للذين أحرزوا رضا الله في الدنيا ، أما الظلم والتعدي والقتل العشوائي فهي أسباب تحجب رضا الله عز وجل.