المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي جعل أيام السراء أضعاف الضراء عند كل إنسان ، براً كان أو فاجراً وعند كل عائلة وشعب وأمة ، وهو من مصاديق رأفة الله بالناس ، ولا يحصي النسبة بينهما ورجحان كفة السراء والغبطة والسرور إلا الله ، وهذه النسبة ليس صدفة ، إنما هي بلطف ورأفة من عند الله عز وجل ، وتتعلق بالوقائع والأحداث( ).
الحمد لله الذي لم يترك الناس وشأنهم بل منع غلبة الهوى ، وسيادة الظلم ، إذ بعث الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( ) ليهتدي الناس وينزجروا عن المعاصي والسيئات .
وقد تفضل الله سبحانه وجعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة النبوات ، فقال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ) .
ولم يرد لفظ [َخَاتَمَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة على أهل الأرض فانه سبحانه أكرم من أن يرفعها .
فان قلت لقد انتفعت أمم وأجيال سابقة برؤية أشخاص الأنبياء ، والسماع منهم ، ومعاينة معجزاتهم الحسية .
فهل تشمل الأجيال اللاحقة هذه النعمة أو انقطعت بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، الجواب هو الأول ،وأن نعمة النبوة باقية بآيات وسور القرآن كمعجزة عقلية سماوية توثق المعجزات الحسية للأنبياء من آدم ونوح عليهما السلام ، وتجعلها حاضرة في الوجود الذهني عند المسلمين وعامة الناس .
لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوة القرآن واجباً عينياً خمس مرات في اليوم على كل مسلم ومسلمة في الصلاة اليومية ، ولتبقى السنة النبوية ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية حاضرة في الوجود الذهني عند المسلمين ، وفي الصلات والمعاملات بينهم ، وهي رشحة من قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، مع حرص المسلمين على الإقتداء بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاء الحاجز بين القرآن وعامة الناس ، فكل إنسان يستطيع أن يقرأ القرآن ،كما أنه يسمعه طوعاً وعرضاً وقهراً بتلاوة المسلمين لسوره في الصلاة اليومية الجهرية وهي كل من :
الأولى : صلاة الصبح.
الثانية : صلاة المغرب.
الثالثة : صلاة العشاء .
في ساعة الفجر وأول الليل حيث صفاء الذهن ، وعدم الإنشغال بهموم الدنيا ، ليكون إختيار صفو الجهر في هذه الصلوات من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه أمر من عند الله خاصة وأن القراءة الجهرية كانت سبباً لتلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأذى الشديد من كفار قريش سواء كانت صلاتهم في البيت الحرام أو خارجه ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
لقد نزلت هذه الآية في أبي جهل إذ نهى النبي محمداً عن الصلاة ليس في البيت الحرام فقط بل مطلقاً .
وكان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة ( ).
وإلى جانب هذا الأذى فان المنافع العظيمة من تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في المسجد الحرام لا يحصيها إلا الله عز وجل منها دخول طائفة من الناس الإسلام ، ومنها قيام وفد الحاج والمعتمرين بنقل أخبار نبوة محمد وآيات القرآن ومعجزاته إلى مدنهم وقراهم ، وهو من أسباب إمتناع الناس عن نصرة قريش في غزوها وقتالها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد نفذت آيات القرآن إلى قلوب الناس في الحضر والبدو والمنتديات وبلغت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليمن وأهل البوادي .
وورد في خبر أنس (أن الأعرابي قال: يا رسول اللّه من يلي حساب الخلق؟ قال: اللّه عزّ وجلّ قال:هو بنفسه ، قال : نعم ، قال:فتبسم الأعرابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ممّ ضحكت يا أعرابي .
فقال : إن الكريم إذا قدر عفا وروي تجاوز، وإذا حاسب سامح.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ألا ولا كريم أكرم من الله عزّ وجلّ هو أكرم الأكرمين .
ثم قال عليه السلام: فقه الأعرابي)( ).
والخبر ضعيف سنداً ولكنه مشهور ، وأعرض عنه أغلب علماء التفسير وكتاب السيرة .
ولا ينحصر الإنتفاع من التلاوة بالصلوات الجهرية بل ينتفع المسلمون والناس جميعاً من صلاة الظهر والعصر الاخفاتيتين .
ومن إعجاز القرآن قانون الملازمة بين قراءة وسماع الآيات وبين التدبر في معانيها ، وهو من أسرار البيان العام في آيات القرآن ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وكل من تلاوة الآيات والإستماع إليها والتدبر في معانيها من مصاديق البيان القرآني الذي هو علم غير محدود ، ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
الحمد لله صاحب الكبرياء والعظمة ، والذي أحاط علماً بكل ما في السموات والأرض ، وعلى نحو التفصيل بالذوات والأعراض والمقولات العشرة .
لتجمع بعض آيات القرآن بين إحاطة الله علماً بكل شئ وبين قدرته المطلقة ، قال تعالى [أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا باستدامة الحياة الدنيا لآلاف السنين ضمن فيها رزق الناس جميعاً ، من غادر ومن بقي ومن سيولد فيما بعد ، وهو الذي تدل عليه الإحصائيات في خزائن الأرض من الذهب والنفط والغاز والمعادن الأخرى ، والنعمة العظمى العامة الظاهرة وهي الزراعة ، فاذ يستولي السلاطين والحكام أحياناً على كنوز الأرض فانهم لا يستطيعون الحيلولة بين ما يزرعه الإنسان بيده ، بل انهم يحتاجون إلى الزراعة لإستدامة حكمهم ، وهو من اللطف الإلهي بالناس ، وتسخير بعضهم لبعض .
ولا يعلم ما تفتحه رحلات الفضاء على الناس من الكنوز والخزائن إلا الله ، قال تعالى [يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ]( )، والسلطان : العلم والسلطنة.
ولم يرد لفظ [أَقْطَارِ][فَانْفُذُوا][تَنْفُذُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان الشأن العظيم لعلوم الفضاء.
ومن بديع صنع الله عز وجل تعلق الزراعة بالسماء والغيث الذي ينزل منها ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا]( ).
وفيه ترغيب للناس بالدعاء والمسألة ، وبيان التداخل والترابط بين السماء والأرض قال تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وهل قول الحمد لله دعاء أم أنه ذكر فقط ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]( )لذا فرض الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة فرض عين تلاوة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) في كل ركعة من الصلاة اليومية الواجبة ، وهي سبع عشرة ركعة ، ومن النوافل اليومية الراتبة وعددها أربع وثلاثون ركعة .
وهل يصح القول : الحمد لله الذي ينزل الغيث بقول الحمد لله ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله .
الحمد لله الذي جعل السنة النبوية مرآة وترجماناً للقرآن سواء السنة القولية أو الفعلية ، وفيه تثبيت لكلمات وحروف ومضامين آيات القرآن ، ويمكن القول بقانون السنة النبوية من مصاديق حفظ القرآن في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض ، لا يشاركه فيها أحد وهذه الملكية المطلقة رحمة بالناس والخلائق .
الحمد لله الذي يعلم ما كان وما سيكون و[يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، ولولا فضل الله في محو الفتن والمصائب عنا ، وجعل الحياة الدنيا لا تقوم إلا به وفي التنزيل [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا]( )، فنسأل الله تعالى أن يمحو عنا خطايانا ، ويزيح عنا أوجاع البدن ، والفتن العامة والخاصة وأن يجعل الأرض مقام أمن وسلام للناس جميعاً ، وأن يتفضل الله ويتم صدور أجزاء التفسير المبارك هذا بالتعاقب والتوالي ، ويزيد عليّ من فضله بالكم والكيف ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وهل يمكن القول أن النبي محمداً هو أول من فسر القرآن بعد تفسير القرآن لذاته ، الجواب نعم ، وهو مؤسس علم التفسير .
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وهل تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن من مصاديق هذه الرحمة ، الجواب نعم .
فمن الإعجاز في الآية أعلاه أن مصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اللامتناهي ، والتي تتجدد كل يوم ، وتنبسط على آنات وأفراد الزمان الطولية ، وبقاع الأرض كلها ، وفي باب العبادات والمعاملات والأحكام وأمور الآخرة.
لتكون النسبة بين التبيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وبين الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق ، فالآية أعلاه بشارة ورحمة عامة.
وبعد أن صدر الجزء السابق بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب) جاء هذا الجزء وهو الثالث والخمسون بعد المائتين خاصاً بتفسير النبي (ص) للقرآن.
وهذا الجزء والذي جاء بعد أكثر من ثلاثين سنة بعد صدور جزئين من تأليفي بعنوان تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن فيتضمن البيان والإستدلال والتفصيل واستقراء المسائل من تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رحلة علمية تبين مصاديق من الإعجاز في رسالته ، ومضامينها ومنافعها اليومية المتجددة إلى يوم القيامة .
وبفضل ولطف من عند الله عز وجل أقوم بتأليف أجزاء هذا السِفر وتصحيحها ومراجعتها بمفردي والحمد لله وكذا كتبي الفقهية والأصولية .
لقد صدر لي والحمد لله قبل أكثر من ثلاثين سنة الجزء الأول من (تفسير النبي (ص) للقرآن) والمسجل في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم 165 لسنة 1992 ثم صدر الجزء الثاني منه والمسجل برقم 359 لسنة 1992.
وصدر هذا الجزء من (معالم الإيمان) وهو الثالث والخمسون بعد المائتين والحمد لله ، ليتضمن الدراسات والتحقيق فيما يخص هذا الموضوع مع استحضار نصوص من تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ]( ).
حرر في السادس والعشرين من شهر ربيع الأول 1445
11/10/2023
خصائص تفسير النبي (ص) للقرآن
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أول من فسر القرآن ، بعد تفسير القرآن الذاتي ، وفيه مسائل :
الأولى : موضوعية علم التفسير في تكامل الشريعة الإسلامية .
الثانية : حاجة الأمة والأجيال المتعاقبة إلى تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وفي الثناء على القرآن ، قال تعالى [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثالثة : التأسيس السليم والصحيح لعلم التفسير وهو مانع من التأويل الخاطئ والتحريف في علم التفسير .
الرابعة : ترغيب العلماء بتفسير القرآن .
الخامسة : بعث تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن المسلمين على العمل بأحكام الآية القرآنية التي فسرها النبي وآيات القرآن الأخرى وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتجددة إلى يوم القيامة ، لبيان أن علم التفسير مطلوب لذاته ولغاياته الحميدة.
السادسة : التفسير النبوي وسيلة لجني المسلمين الحسنات بالعمل بأحكام وسنن القرآن وإجتناب المعصية.
عن محمد بن شجاع البلخي قال (كنت أقرأ بقراءة الكسائي {مالك يَوْمِ الدين}( )، بالألف ، فقال لي بعض أهل اللغة : الملك أبلغ في الوصف ، فأخذت بقراءة حمزة وكنت أقرأ {مالك يَوْمِ الدين} ، فرأيت في المنام كأنه أتاني آت فقال لي : لم حذفت الألف من مالك.
أما بلغك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : اقْرَؤُوا القُرْآنَ فَخْماً مُفَخَّماً ، فلم أترك القراءة ب : ملك حتى أتاني بعد ذلك آت في المنام فقال لي : لم حذفت الألف من مالك؟ أما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ ، فَلِمَ نقّصت من حسناتك عشراً في كل قراءة؟ فلما أصبحت ، أتيت قطرباً وكان إماماً في اللغة فقلت له : ما الفرق بين ملك ومالك؟ فقال : بينهما فرق كثير . فأما ملك فهو ملك من الملوك ، وأما مالك فهو مالك الملوك . فرجعت إلى قراءة الكسائي)( ).
السابعة : من أسرار حفظ المسلمين لكلمات آيات القرآن ونظمه تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن فكان أهل البيت والصحابة يتلقون الآية وتفسيرها والبيان النبوي لها .
الثامنة : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن معجزة وشاهد على أمور :
الأول : صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثاني : صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : عدم قيام النبي محمد باضافة أو حذف كلمة من التنزيل.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على دعوة كتبة الوحي حال نزول الآية أو الآيات لكتابتها كما يقوم بقراءتها في الصلاة اليومية ، فمن لم يكن حاضراً ساعة نزول الآية يسمعها في الصلاة وفي حال خشوع وخضوع لله عز وجل .
و(عن عثمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله)( ).
ليقوم الصحابة بتلاوة الآيات ونقلها إلى غيرهم ، مع التوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال عن المجمل منها أو الأحكام والمغيبات فيها ، لبيان معجزة أخرى بقانون تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات حال نزولها دعوة لحفظها وكتابتها ، ومنع السهو أو الخطأ فيها.
التاسعة : نقل الصحابة آيات القرآن وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولي والعملي إلى إخوانهم والتابعين وإلى غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين ، وفيه دعوة للإسلام ، وحض على إجتناب قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفرق صحابته في الأمصار ، وقيامهم بتبليغ آيات القرآن والتفسير النبوي لها.
وقد صدر لي والحمد لله (26) جزء بخصوص قانون (لم يغز النبي (ص) أحدا) وهي (159-160-161-163-164-165
-166-167-169-171-172-173-
175-176-177-178-182-185-188
-192-200-208-212-218-226-238).
وتأتي أجزاء أخرى إن شاء الله في ذات الموضوع لبيان قانون وهو في تلاوة وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن غنى عن الغزو والقتال.
وهل هو وسيلة دفاعية ضد المشركين في هجومهم على النبي وأصحابه في معركة بدر وأحد ، والخندق ، وحنين.
الجواب نعم ، لما في هذه التلاوة والتفسير من البيان والبرهان ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
قانون النفع العام في تفسير النبي (ص) للقرآن
هل تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن نافع للمسلمين خاصة أم للناس جميعاً.
الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق الإطلاق في الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وعندما يهب الله عز وجل فانه يهب بالأتم والأوفى وعنده مزيد ، قال تعالى [وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
وليس من حصر لمصاديق الرحمة في الآية أعلاه ، ومنها نزول كل آية من القرآن ، وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها في الصلاة وخارجها ، وتفسيره لآيات كثيرة من القرآن ، وتلاوة وعمل أجيال المسلمين بمنطوق ومضامين آيات القرآن ، وقال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
ليبقى تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن كالخزائن التي يستقرأ منها العلماء والناس جميعاً المسائل والقوانين ، لتكون على وجوه :
الأول : تعضيد آيات القرآن .
الثاني : الترغيب بالعمل بأحكام وسنن القرآن .
الثالث : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلمي في بيان وحفظ آيات القرآن .
الرابع : تعاهد كلمات وآيات القرآن وسلامتها من التحريف وهو من فضل الله ، ومصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
معجزة تفسير النبي (ص) للقرآن
تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن من معجزاته ، والشواهد التي تدل على أمور :
الأول : قانون السنة النبوية مرآة للقرآن .
الثاني : قانون السنة النبوية وحي ، والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم .
الثالث : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمجمل من القرآن ، ليكون منهاجاً لعلماء الإسلام في قراءة وتفسير آيات القرآن.
الرابع : قانون انتفاء التعارض بين القرآن والسنة النبوية فكل منهما وحي ومصدر الوحي واحد ومن عند الله ، وهو من الشواهد على صدق التنزيل .
الخامس : قانون حاجة الأمة لتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
السادس : يتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه من أفصح العرب .
(وقال صلى الله عليه وسلم : بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ)( ).
فجمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين جزالة البادية ، وفصاحة أهل مكة ، حيث تجتمع لغات العرب في موسم الحج فتختار قريش أحسنها.
وقالت أم معبد في وصف النبي محمداً عندما رأته في طريق هجرته إلى المدينة (حلو المنطق فضل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظمن وكان جهير الصوت حسن النعمة صلى الله عليه وسلم)( ).
وفيه بيان للزوم اتقان عالم التفسير اللغة العربية ، ودراسة علومها من النحو والإملاء والصرف والبيان والبلاغة .
وتعلم العربية والإحاطة بعلومها إجمالاً أمر مرغوب به شرعاً ، ولا يشترط أن يكون المجتهد مجتهداً في العربية إنما يكفي معرفته قواعد اللغة والتمييز بين الفعل والفاعل والمفعول به وموارد الرفع والنصب والجر ونحوها.
إرتقاء اللغة أيام النبوة
لقد كان العرب يعيشون حياة بسيطة ، خالية من التكلف والزوائد في المعيشة والصلات ، ليس عندهم أموال كثيرة يعتمدون الرعي وإتباع الكلأ، ويزاول بعضهم الزراعة باستثناء سكان مكة الذين اتخذوا التجارة والسفر بين البلدان صبغة لأيامهم في الدنيا ، لذا نزلت آية قريش [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
لبيان إختصاصهم بصفة التجارة ، والضرب بين الأمصار ليجتمع تحدي النبوة بمتانة اللغة ، وإرتقاء الشعر ، وبالمعارف المكتسبة من بلاد الروم والحبشة وفارس بخصوص النبوة لبيان قانون لا يتم اثبات النبوة في مكة وما حولها إلا بالمعجزة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وجعل القرآن العربية في إرتقاء مستمر إلى يومنا هذا وما بعده ، ومن الآيات أن أكثر علماء النحو من الأعاجم من غير العرب ، ما كانوا ينطقون العربية ، ويتبحرون في علومها لولا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتثبيت القرآن لاصول وقواعد اللغة واقتباسهم قواعد اللغة من القرآن وخطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي وأحاديث الصحابة وأشعار العرب .
ومن علماء العربية أبو الأسود الدؤلي الذي علّمه الإمام علي عليه السلام ، وهو سبب تسمية علم النحو (روي أن علياً عليها السلام لما أشار على أبي الأسود الديلي أن يضعه وعلمه الاسم والفعل والحرف وشيئاً من الإعراب قال: انح هذا النحو يا أبا الأسود)( ).
ومنهم الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي (100-170 هجرية) ، والمبرد محمد بن يزيد (210-286هجرية) شيخ النحويين في بغداد ، ومنهم في الآدب الجاحظ عمرو بن بحر الكناني البصري (159-255هجرية) ، والأصمعي عبد الملك بن قريب (121-216 هجرية) وهو أشهر راوية للشعر العربي .
ومن علماء النحو والعربية الأعاجم :
الأول : سيبويه عمرو بن عثمان فارسي الأصل ، مولى بني الحارث بن كعب ، وكتابه في النحو معروف ، توفى سنة 180 هجرية.
الثاني : أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي ومن أشهر كتبه جواهر النحو ، المقصور والممدود ، المسائل البصريات كتاب الشعر.
الثالث : أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي من أصل رومي ، جمع بين النحو والأدب ، من أشهر كتبه الخصائص ، اللمع في العربية ، توفى سنة 392 هجرية .
الرابع : ابن فارس ، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي القزويني الأصل ، وأشهر كتبه معجم مقاييس اللغة.
والزمخشري محمود بن عمرو بن أحمد .
وعبد القاهر في البلاغة.
طرق معرفة تفسير النبي (ص) للقرآن
السبيل الى معرفة تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن هو الرواية والنصوص الواردة عن أهل البيت والصحابة والتابعين مع لحاظ أمور :
الأول : صحة السند .
الثاني : عدم التعارض مع آيات القرآن .
الثالث : الجمع بين النصوص في كتب السنن والتفسير والمسانيد.
الرابع : استدلال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن.
الخامس : تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضامين الوحي بآيات القرآن ومعانيها .
السادس : إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن سبيلاً لهداية الناس .
وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن صارف للفتنة والقتال لما فيه من مصاديق الصبر رجاء الأجر والثواب.
وقد تجد في كتب التفسير والسيرة باباً خاصاً لتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن أو كتاب التفسير ، وكتاب فضل القرآن ، أو أن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن موزع في طيات هذه الكتب ، خاصة كتب التفسير والتي تتبع منهجية تفسير آيات القرآن آية آية أو كل بضع آيات ، فتذكر التفسير بالمأثور .
أقسام تفسير النبي (ص) للقرآن
يتضمن هذا الجزء المبارك دراسات في تفسير النبي (ص) للقرآن ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل البيت والصحابة آيات كثيرة من القرآن ولكنه لم يفسر آيات القرآن كلها ، بل أن التي فسرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي الشطر الأقل من مجموع آيات القرآن .
فأكثر آيات القرآن ظاهرة المعنى وإن كانت تدعو العلماء لبيانها ودلالاتها وغاياتها واتخاذ السنة النبوية في المقام منهاجاً وتفسيراً.
وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن على أقسام :
الأول : التفسير بالسنة القولية ، وهو الأظهر والمتبادر .
الثاني : التفسير بالسنة الفعلية ، في أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي هي مرآة للقرآن ، وكان قوله وفعله ترجمة للقرآن .
الثالث : التفسير التقريري بإمضاء البيان والتفسير .
الرابع : تفسير النبي (ص) للقرآن بصفاته الخُلقية والأخبار الواردة عن سيرته المباركة والذي استقرأ ويستقرئ ويستنبط العلماء منها المسائل ، ويستشهد عليها بآيات القرآن وهو من التفسير بالسنة.
وهذا الجزء هو الثالث والخمسون بعد المائتين من معالم الإيمان في تفسير القرآن ، ونسأل الله عز وجل التوفيق لإتمامه ، وبيان كيف أن مدارس التفسير الإسلامية فرع تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
ويقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير آيات قرآنية عند نزولها ، وعند سؤال المسلمين وأهل الكتاب والكفار أو يتولى تفسيرها ابتداءً لبعث المسلمين على التفقه في علوم القرآن وأحكام الشريعة ، وقد يشترك جماعة أو أفراد من اكثر من مذهب وملة بسؤال إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ذكر أن جماعة من اليهود قالوا لقريش (سلوا محمداً عن ثلاث ، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي؛ سلوه عن فِتيةٍ فُقدوا ، وسلوه عن ذي القرنين ، وسلوه عن الرُّوح . فسألوه عنها.
ففسَّر لهم أمر الفتية في الكهف ، وفسر لهم قصة ذي القرنين ، وأمسك عن قصة الروح ، فنزلت هذه الآية)( )، وهي [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]( ).
التفسير العملي لقوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ]( )
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى الإسلام حتى اشتد غيظ وحنق كفار قريش ، وصاروا يؤذونه وأهل بيته وأصحابه الذين لم يضرهم هذا الأذى ، مقابل فوزهم بالسبق في دخول الإسلام والأسوة الحسنة لترغيب الناس بالتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فانتقل النبي إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم قريباً من جبل الصفا مستخفياً فيه نحو ثلاث سنين وكان أصحابه يخرجون من مكة إلى الشعاب القريبة منها يصلون فيها ، ويتدارسون القرآن فلحقهم المشركون وصاروا يؤذونهم.
وفي السنة الخامسة للبعثة النبوية نزل قوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ]( )، فخرج هو وأصحابه وصار يدعو إلى الإسلام على نحو علني .
والصدع : الجهر ، والإعلان ، ومنه الصلاة وقراءة القرآن جهراً.
لبيان قانون امتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأوامر الإلهية وإن صاحبه أذى من المشركين ، إذ إزداد أذى قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفرضوا الحصار الإقتصادي والإجتماعي على بني هاشم لمدة ثلاث سنوات من السنة السابعة للبعثة النبوية.
حديث النبي مرآة للقرآن
من الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية أنك ترى لها مصداقاً من آيات القرآن ، وشاهداً من التنزيل يدل عليها ، ويبين أنها مستقرأة من آيات القرآن .
وقد يكون الحديث الواحد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعلق بمواضيع ومسائل متعددة ، وكل مسألة منها مستقرأة من آية أو أكثر من آيات القرآن ، منه ما ورد (عن أبي كبشة الأنماري( )، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة.
ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله بها عزاً.
ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه.
إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل.
وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم ، ولا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم فيه لله حقّاً ، فهذا باخبث المنازل.
وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته فوزرهما سواء)( ).
اشتراك جبرئيل في تفسير القرآن
لقد كان جبرئيل عليه السلام ينزل بآيات القرآن باذن الله وليس له الإضافة أو الحذف من حروف وكلمات آيات القرآن .
وكان يتدارس القرآن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل سنة مرة واحدة في ليالي شهر رمضان ، وتدارسه معه في السنة التي رحل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى مرتين ، فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها أمارة على مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
(قال مسروق عن عائشة، عن فاطمة : أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي)( ).
ويعارضني : أي يعرض جبرئيل القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتدارسه معه وما فيه ضبط كلماته ، وترتيب آياته وسوره التوقيفي ، وإفادة المعنى ورد المتشابه إلى المحكم .
و(وأخرج ابن جريرعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر)( ).
لبعث السكينة في نفوس المسلمين بخصوص أوان كل صلاة من الصلوات اليومية الخمسة ، وأنه بأمر من الله عز وجل ، وهو من عمومات قوله تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وتستحدث مسألة هنا وهي حينما ينزل جبرئيل بالآية أو الآيات القرآنية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فهل يغادر جبرئيل عندما ينقطع الوحي عن النبي محمد أم أنه يبقى يستمع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو الآيات النازلة على كاتب الوحي.
الجواب هو الثاني للطمأنينة الملائكية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغ الآيات مثلما نزل بها جبرئيل هذا إلى جانب موضوعية وحضور الوحي العام عند تلاوة النبي للآيات النازلة والتي نزلت من قبل ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ثواب قراءة القرآن
هل ما ورد (عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة لا أقول (بسم الله) ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول (الم) ولكن الألف ، واللام ، والميم)( ).
من مصاديق التفسير النبوي للقرآن ، الجواب نعم ، وفيه إخبار عن قانون من الإرادة التكوينية في الإنتفاع الخاص والعام في الدنيا والآخرة من قراءة الفرد للقرآن ، فلا ينحصر النفع من الحسنات به شخصياً.
و(عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قرأ [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( )، على طهارة مائة مرة كطهارة الصلاة يبدأ بفاتحة الكتاب كتب الله له بكل حرف عشر حسنات ، ومحا عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، وبنى له مائة قصر في الجنة وكأنما قرأ القرآن ثلاثاً وثلاثين مرة ، وهي براءة من الشرك ، ومحضرة للملائكة ، ومنفرة للشياطين ، ولها دويّ حول العرش تذكر بصاحبها حتى ينظر الله إليه ، وإذا نظر إليه لم يعذبه أبداً.
وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من جاء بهن مع الإِيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء ، وزوج من الحور العين حيث شاء ، من عفا عن قاتله ، وأدى ديناً خفياً ، وقرأ في دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرات [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ) فقال أبو بكر : أو إحداهن يا رسول الله؟ قال : أو إحداهن)( ).
قانون قبح المسألة من غير حاجة
من إعجاز القرآن أن كل آية منه تأديب وتعليم وإرشاد للمسلمين وغير المسلمين ، منها النهي عن الإلحاح في المسألة والحاجة في قوله تعالى [يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
وقد بّين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مضامين ومصاديق هذه الآية في أحاديث كثيرة مع استدلاله بآيات القرآن منها (عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ، واقرأوا إن شئتم لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا( ).
كما وردت أحاديث نبوية متعددة عن قبح سؤال الناس من غير حاجة أو فاقة ، لتكون هذه الأحاديث مدرسة كلامية وإجتماعية وإخلاقية في تهذيب النفوس وعالم الأفعال ، ولا يحصي عدد الملايين الذين انتفعوا من هذه الأحاديث واختاروا التعفف وامتنعوا عن المسألة والطواف على الناس طلب الإعانة وسعوا في الكسب إلا الله عز وجل( )، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
بيان النبي (ص) لفضائل السور
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في علوم القرآن بيانه لبعض فضائل السور بما يبعث الشوق في نفوس المسلمين بتلاوتها والتدبر في معانيها .
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي عن ذخائر من المعارف في عدد من السور.
وأراد الإخبار عن قانون سماوي ، وهو لكل سورة من القرآن فضائل مخصوصة.
وهل تتباين هذه الفضائل كما تتباين بصمة العين واليد عند الناس ، أم أن النسبة بينها العموم والخصوص من وجه.
المختار هو الثاني ، ويمكن دراسة هذا العلم باستعراض فضائل السور في الحديث النبوي مع لحاظ السند ، ثم إجراء مقارنة بينها ، منها مثلاً ما أخرجه البيهقي عن فاطمة عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قارىء الحديد و[إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ]( )، والرحمن يدعى في ملكوت السموات والأرض ساكن الفردوس)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع السور الثلاثة في أجر عظيم يوم القيامة مع ورود أحاديث في فضل كل سورة منها على نحو مستقل .
وعن ابن عمر قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء ، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء ، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء .
وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً : لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء)( ).
وقد ورد بيان فضل سورة الحديد في حديث يشمل عدداً آخر من السور وهي المسبحات .
السور المسبحات
(عن عِرْبَاض بن سارية، أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: “إن فيهن آية أفضل من ألف آية)( ).
وسورة الحديد مدنية ، والمراد من المسبحات هي :
الأولى : سورة الاسراء وأولها [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
الثانية : سورة الحديد وأولها[سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثالثة : سورة الحشر وأولها [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الرابعة : سورة الصف وأولها [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الخامسة : سورة الجمعة وأولها [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
السادسة : سورة التغابن وأولها [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
السابعة : سورة الأعلى وأولها [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى]( ).
لم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه الآية المخصوصة التي هي أفضل من ألف آية لبعث المسلمين على تلاوة هذه السور والتدبر في مضامينها ودلالالتها ، ورجاء الأجر والثواب ، وكأن هذا الإخفاء مثل إخفاء ليلة القدر في ليالي شهر رمضان .
والمراد من المسبحات هي السور التي تبدأ كل واحدة منها بتسبيح الله ، ومن حسن سمت المسلم أن يختم يومه بالتسبيح القرآني رجاء المغفرة من عند الله ولتضمن هذه السور أصول الدين.
ومنهم من خصّ السور المسبحات بالتي تبدأ بـ(سبحّ) أو (يسبح) وهي خمس من السور أعلاه ، وكلها مدنية باستثناء سورة الإسراء والأعلى ، وهما مكيتان .
إذ ابتدأت سورة الإسراء بكلمة (سبحان) وابتدأت سورة الأعلى (سبح) ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في المراد من المسبحات فالأصل هو الإطلاق .
سورة الواقعة
سورة الواقعة هي سورة الرزق والبركة ، وقد سماها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سورة الغنى .
ورغّب المسلمين والمسلمات بقراءتها ، وتعليمها الأولاد وجعلها تركة يومية مباركة في البيوت .
و(عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم)( ).
وسورة الواقعة مكية لبيان فتح الله أبواب الرزق للمسلمين من بدايات الدعوة الإسلامية ، وترغيبهم باللجوء إلى القرآن ، والإستجارة بآياته وسؤال فضل الله عز وجل.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ سورة الواقعة أحياناً في صلاة الصبح .
و(عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور)( ).
وعن (أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم .
وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى)( ).
و(عن أبي طيبة الجرجاني قال : دخل عثمان بن عفان على عبد الله بن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال : ما تشتكي .
قال : أشتكي ذنوبي. قال : فما تشتهي .
قال : أشتهي رحمة ربي. قال : أفلا ندعو الطبيب .
قال : الطبيب أمرضني. قال : أفلا نأمر بعطائك .
قال : لا حاجة لي به. قال : أندفعه إلى بناتك .
قال : لا حاجة لهنَّ بها؛ قد أمرتهنَّ أن يقرأن سورة الواقعة،
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة قراءته للسور التي يذكر لها فضلاً منها سورة الرحمن ، إذ ورد (عن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها ، فسكتوا.
فقال : ما لي أراكم سكوتاً لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم ، كنت كلما أتيت على قوله { فبأيّ آلاء ربكما تكذبان} قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لكل شيء عروس وعروس القرآن الرحمن)( ).
بيان المجمل
يقسم الكلام حسب مرتبة البيان والوضوح ، وتجلي قصد ومراد المتكلم:
الأول : النص : لغة الكشف ، وفي الإصطلاح اللفظ الذي يدل على معناه على نحو القطع والبيان ، كما في قوله تعالى [تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ]( ).
الثاني : الظاهر : البين ، وخلافه الباطن ، وفي الإصطلاح هو المعنى الراجح الذي يدل عليه اللفظ ، مع ترك المعنى المرجوح.
وإفادة المعنى لا تحتاج الى دليل ، أو زيادة بيان ، وعليه صيغ التخاطب بين العرب ، قال تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ]( ).
وقد تبين آية أن المراد من آية أخرى في ذات الموضوع غير الظاهر والمتبادر كما في قوله تعالى [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ]( )، فيظن المستمع حصر الطلاق بمرتين ، ولكن جاءت الآية التي بعدها لبيان أن المراد منهما حق الرجعة للزوج ، لقوله تعالى [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]( ).
وقد بينت التفصيل في رسالتي العملية (الحجة)
(مسألة 25) الطلاق قسمان: بائن ورجعي، والبائن ما ليس للزوج الرجوع بعده الى الزوجة سواء كان لها عدة أم لا، وهو خمسة :
الأول: الطلاق قبل الدخول.
وليس لها عدة، وعليه الكتاب والسنة والإجماع، ونسب إلى المشهور شهرة عظيمة أن طلاق اليائس بائن.
الثاني والثالث : طلاق الخلع والمبارأة مع عدم رجوع الزوجة فيما بذلت والا كانت له الرجعة.
الرابع : الطلاق الثالث، اذا وقع منه رجوعان في البين، بين الطلاق الأول والثاني، وبين الثاني والثالث.
الخامس : الطلاق التاسع وبه تحرم عليه مؤبداً.
(مسألة 26) اذا طلقها ثلاثاً مع تخلل رجعيتين حرمت عليه ولو بعقد جديد، ولا تحل له الا بعد ان تنكح زوجاً غيره، فاذا نكحها غيره ثم فارقها بموت او طلاق وانقضت عدتها جاز للأول نكاحها.
(مسألة 27) كل امرأةطلقت ثلاث مرات تخللتها رجعتان حرمت على المطلق حتى تنكح زوجاً غيره سواء واقعها بعد كل رجعة وطلقها في طهر آخر غير طهر المواقعة ويسمى طلاق العدة او لم يواقعها عند الرجوع بها وهو من طلاق السنة، وهو كل طلاق جائز شرعاً وطلاق العدة قسم منه، هذا في الحرة اما في الأمة اي المملوكة اذا زوجت لغير سيدها فانها اذا طلقت طلاقين بينهما رجعة تحرم على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره وان كانت تحت حر، وقد اعرضنا عن تفاصيل أحكام الإماء لقلة او انعدام الإبتلاء بها في هذه الأزمنة.
(مسألة 28) المطلقة ثلاثاً اذا نكحت زوجاً آخر وفارقها بموت او طلاق حلت للزوج الأول وجاز له العقد عليها بعد انقضاء العدة من الزوج الثاني فلابد من عدة للثاني لإشتراط دخوله بها.
(مسألة 29) طلاق السنة بالمعنى الأعم لا يعتبر فيه المواقعة بعد كل رجوع ويصح النكاح بعقد جديد كما لو خرجت المطلقة من العدة فعقد عليها بعقد جديد او التي لا تحيض او طلقها ورجع اليها من غير ان يواقعها، اما طلاق العدة فيتقوم بامرين فلابد من المواقعة بعد كل رجوع، والرجوع قبل انقضاء العدة اي من غير عقد فاذا رجع اليها بعقد كان طلاق سنة وليس طلاق عدة، ومن الفقهاء من اطلق.
(مسألة 30) العقد الجديد بحكم الرجوع في الطلاق فلو طلقها ثلاثاً بينها عقدان مستأنفان حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره سواء لم تكن لها عدة كما اذا طلقها قبل الدخول ثم عقد عليها ثم طلقها ثم عقد عليها ثم طلقها او كانت ذات عدة رجعية وعقد عليها بعد انقضاء العدة.
(مسألة 31) المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول الا بعد ان تنكح زوجاً آخر ويسمى المحلل ويشترط فيه:
اولاً: ان يكون بالغاً فلا اعتبار بنكاح غير البالغ وان كان مراهقاً.
الثاني: ان يطأها قبلاً وطئاً موجباً للغسل بغيبوبة الحشفة , والأحوط إستحبابا اعتبار الإنزال , وورد النص بذكر العسيلة وهي تصغير العسلة وهي القطعة من العسل تشبيهاً للذة الجماع , وقال سعيد بن المسيب بكفاية العقد , ولكنه إجتهاد مخالف للنص وإجماع علماء الإسلام.
الثالث: ان يكون العقد دائماً لا متعة.
(مسألة 32) لو طلقها زوجها ثلاثاً وانقضت مدة وادعت خلالها انها تزوجت شخصاً آخر بالعقد الدائم واحتمل صدقها تصدق ويقبل قولها بلا يمين، وللزوج الأول ان ينكحها بعقد جديد وليس عليه الفحص والتفتيش.
(مسألة 33) لو شك الزوج في ايقاع اصل الطلاق على زوجته لم يلزمه الطلاق بل يحكم ظاهراً ببقاء علقة النكاح، ولو علم اصل الطلاق وشك في عدده بنى على الأقل.
(مسألة 34) يحرم على المطلق والمطلقة اخفاء عدد الطلقات منعاً من دخول المحلل بينهما، او ادعاء الشك في عددها مع العلم بها، فبدون التحليل عند ثبوته يبقى الجماع في الواقع محرماً بينهما.
(مسألة 35) اذا اخبرها انه غير متزوج او انها اشترطت عليه ذلك في عقد الزواج ثم تبين خلافه فانه يؤثم ولكن لا يبطل العقد ولها ان تطلب منه الطلاق واذا امتنع فالمرجع الحاكم الشرعي فقد يكون فيه ضرر لا تحتمله خصوصاً مع الشرط الذي إرتكز عليه قبولها النكاح.
(مسألة 36) من ارتكب الزنا وستره الله عزوجل فالأولى له ان يكتم الأمر ولكن عليه ان يبادر الى التوبة ويكثر من الإستغفار، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
(مسألة 37) يصح الطلاق في المحاكم الحكومية اذا كان جامعاً للشرائط فيما يتعلق بالمطلق و المطلقة و الصيغة و عدالة الشهود.
(مسألة 38) لا تشترط عدالة من يجري صيغة الطلاق، بل العدالة شرط في الشهود( ).
الثالث : المجمل : وهو لغة المبهم ، وفي الإصطلاح ما دل على معنيين أو أكثر ، لا رجحان لأحدهما ، ويأتي المجمل بسبب الإشتراك اللفظي ، مثل لفظ العين ومعانيه المتعددة مثل :
الأول : عين الإنسان الباصرة .
الثاني : عين الماء الجارية ، قال تعالى [فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ]( ).
الثالث : أهل البلد .
الرابع : طليعة الجيش .
الخامس : كبير القوم .
السادس : عين الشئ ذاته .
السابع : الشراء نقداً، يقول اشترين بالعين لا بالدَين .
الثامن : العين النفيس من كل شئ .
التاسع : وفي طلب الحاجة بعد توفرها ثم فواتها ورد المثل (لاتطلب أثراً بعد عين) ( ).
ومن المجمل صيغ الإطلاق والعموم ، وكثرة استعمال المجاز.
لقد أمر الله عز وجل بالصلاة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ]( )، وجاءت آيات متعددة في الحضّ على الصلاة وتعيين أوقاتها ، قال تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، فدلوك الشمس زوالها عن كبد السماء في إشارة إلى صلاة الظهر والعصر .
وقوله تعالى [إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ] إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء ، و[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ] دليل على صلاة الصبح ، وتأكيد لوجوب تلاوة القرآن في ركعات الصلاة.
وكذا قوله تعالى [فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ]( )، والمراد بالتسبيح هنا الصلاة [حِينَ تُمْسُونَ] إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء ، وقوله تعالى [وَحِينَ تُصْبِحُونَ] إشارة إلى صلاة الصبح ، و[وَعَشِيًّا] لصلاة العصر ، و[وَحِينَ تُظْهِرُونَ] إلى صلاة الظهر .
حديث (صلوا كما رأيتموني أصلي)
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتجددة كل يوم أداء المسلمين الصلاة بالكيفية التي أداها بتعضيد آيات القرآن التي تبين وجوب الصلاة ، ومقدماتها كالوضوء ، وأركانها ، وأجزائها ، كالقيام والركوع والسجود ، والتلاوة ، واستحباب صلاة الجماعة .
والواجب الذي يجب اتيانه في الصلاة ، والمستحب الذي يجوز تركه مع مافيه من الثواب ، مما خصه النص أو الإجماع والسيرة .
وورد الحديث (عن مالك بن الحويرث ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين ليلة ، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلينا ، سألنا عمن تركنا في أهلنا ، فأخبرناه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا ، فقال : ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ، ومروهم ، وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكبركم)( ).
وفي هذا الحديث( ) بلحاظ موضوع هذا الجزء وهو (تفسير النبي (ص) للقرآن) مسائل :
الأولى : إقبال الشباب من النواحي والقرى لدخول الإسلام وكان عمر كل واحد من هؤلاء الأصحاب يقارب الثلاثين سنة.
الثانية : صار مالك بن الحويرث معلماً للصلاة ، إذ اجتهد فيما بعد في تعليم أهل البصرة وغيرهم كيفية الصلاة .
و(عن أبي قلابة قال جاءنا مالك بن الحويرث فقال اني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ولكني أريد أن اريكم كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري ، من أهل البصرة توفى سنة 104 هجرية ، أي أن هذا التعليم كان في البصرة ، ومات مالك بن الحويرث سنة أربع وسبعين بالبصرة( ).
وقال ابن عبد البر (سكن البصرة، ومات بها سنة أربع وتسعين)( )، وهو بعيد وخلاف المشهور ، إذ أنه مات سنة (74) للهجرة.
الثالثة : لم يقل مالك بن الحويرث أقمنا في المدينة أو في المسجد ، إنما قال (أقمنا عنده) أي أنهم كانوا بضيافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتولى العناية بهم ، وبرفق ولطف وتوجيه بعض أصحابه لتوفير حاجاتهم وطعامهم .
ومن معاني هذا الحديث أمور :
الأول : حضور الصلوات اليومية الخمس .
الثاني : رؤية المعجزات الحسية والعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الشواهد أنهم رجعوا إلى أهليهم مؤمنين ، وصار بعضهم أئمة في الدعوة إلى الله ورسوله .
الثالث : سماع خطب وكلام وأجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأسئلة .
الرابع : توجيه الأسئلة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : بيان حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة ، ووجوب مواظبة المسلمين عليها ، وورد (عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حُبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة)( ).
لبيان موضوعية الصلاة في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن هذه الموضوعية والشأن للصلاة عنده إنما هي من عند الله عز وجل ، لتكون الصلاة مادة استدامة الحياة البشرية وتوالي الرزق على الناس جميعاً ببركة صلاة الأنبياء واتقان المسلمين للصلاة بالكيفية والخشوع الذي كان عليه رسول الله ، وهذه الإستدامة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامسة : معرفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن مالك بن الحويرث وأصحابه اشتاقوا إلى أهليهم ، فسألهم عن أحوالهم الخاصة ومن وراءهم من الأهل من الآباء والأمهات والإخوان ، وكانت التوصية بقواعد وسنن الإيمان .
السادسة : إذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه بالعودة إلى ديارهم واقتران هذا الإذن بوجوب تعليمهم الأهل الصلاة ، وهذا الإقتران من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدل بالدلالة التضمنية على إخبار الشباب بأن من أهليهم مسلمين ، وفيه دعوة الباقين إلى الإسلام .
وهل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بتعليم أهليهم الصلاة من تفسيره للقرآن ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : إنه من التفسير القولي .
الثانية : إنه من التفسير العملي .
الثالثة : إنه من التفسير التقريري ، لتقديره وامضائه لصلاة مالك بن الحويرث والشباب الذي معه.
التفسير قبل الهجرة
لقد ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مدينة مكة بجوار البيت الحرام سنة 570م في عام الفيل ، وفي شهر ربيع الأول ، ولا يزال محل ولادته معلماً واضحاً وهو في هذه الأيام بناية مكتبة مكة العامة.
ونزل عليه الوحي وهو في عمر أربعين سنة بعد أن علمت قريش باتصافه بالأخلاق الحميدة ، ومنها الأمانة ، والصدق وكف اليد والفرج ، وهي مقدمات عامة للنبوة ، وشاهد عليها عند إعلانها خاصة وأنها تقترن بالمعجزات التي تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
وأول آية نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، فهل قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفسيرها قولاً وفعلاً ، الجواب نعم ، فمن معانيها الأمن والسلامة من بطش المشركين ، فقد كانوا يقومون بالتصفيق والصفير عند تلاوته القرآن.
و(عن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عز وجل [إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( )، قال : المكاء ، صوت القنبرة . والتصدية ، صوت العصافير وهو التصفيق .
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة ، كان يصلي قائماً بين الحجر والركن اليماني ، فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء ، والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته .
قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ ققال : نعم ، أما سمعت حسان بن ثابت يقول :
نقوم إلى الصلاة إذا دعينا … وهمتك التصدي والمكاء
وقال آخر من الشعراء في التصدية :
حتى تنبهنا سحيراً … قبل تصدية العصافير)( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلو القرآن في البيت الحرام من جهات :
الأولى : اثناء أداء الصلاة .
الثانية : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على عمار المسجد الحرام من أهل مكة والقادمين إليها من المدن والقرى وهذه التلاوة دعوة لهم ولمن خلفهم للإسلام.
الثالثة : احتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على كفار قريش ، فمن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصغاؤهم لهذه التلاوة طوعاً وانطباقاً وقهراً بينما إذا تلا القرآن في الصلاة فانهم يقومون بالشغب.
الرابعة : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن شاهداً على الوقائع والأحداث ، فهي دليل وبرهان .
الخامسة : إجابة وافتاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة.
تفسير النبي (ص) لأصحابه القرآن
مما خصّ الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعجزة العقلية وهو القرآن ، فكان يجتهد في بيان ذخائر الآيات ، ودلائل وشواهد التنزيل ، بالتلاوة والتفسير ، وتثبيت أحكام القرآن.
و(عن عثمان وابن مسعود وابي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها الى عشر اخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمنا القرآن والعمل جيمعا.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء بن السائب عن ابي عبد الرحمن السلمي قال : كنا اذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها)( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : إنه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُعلم أصحابه تلاوة آيات القرآن ، والعمل بأحكامها وما تتضمنه من السنن .
الثانية : الثناء على الصحابة بتلقي آيات القرآن بالقبول والعمل ، وهو من أعظم مصاديق الجهاد في سبيل الله عز وجل .
الثالثة : الحديث من الشواهد على حفظ القرآن من التحريف والزيادة والنقصان في كلمات وآيات القرآن ، وأن هذا الحفظ من الآيام الأولى للإسلام ، فمع تلاوة القرآن في الصلاة فان الصحابة يقومون بتعلم الآيات والتدبر فيها ، وهذا التعلم نوع ترسيخ لكلمات القرآن في الأذهان.
و(عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( )، شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه.
قال : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، إنما هو الشرك)( ).
لم يرد لفظ (يلبسوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
لقد أصاب الصحابة الفزع عند نزول هذه الآية لأن الظلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قلة وكثرة ، كما أنه يكون أزاء النفس والناس ، وتدل الآية على حرمان الظالمين من الأمن يوم القيامة ، وحجب صفة المهتدين عنهم ، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبيان التفصيلي الذي يتضمن التيسير والتخفيف عن أجيال المسلمين ، وهذا التخفيف من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حصر وتقييد الظلم المراد في الآية وهو الشرك بالله.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه استدل في تفسيره بآية قرآنية أخرى ، وفيه دعوة للصحابة وأهل البيت وعلماء الإسلام في الأجيال المتعاقبة بالرجوع إلى القرآن في علم التفسير والإحتجاج وإقامة البرهان ، لمنع الفتن.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية قيام أصحابه باتباع ذات المنهج في التفسير وفيه تأديب للتابعين وتابعي التابعين بعدم الخروج عن منهج التفسير الذاتي للقرآن ، وإن كان لا يمنع من اللجوء إلى اللغة وأسباب النزول والشواهد.
إذ ورد عن أبي بكر أنه سئل عن هذه الآية (قال : ما تقولون ، قالوا : لم يظلموا . قال : حملتم الأمر على أشده ، بظلم : بشرك ، ألم تسمع إلى قول الله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( ).
وكذا ورد عن حذيفة بن اليمان ، وعن أبي بن كعب .
و(عن سلمان الفارسي . أنه سئل عن هذه الآية [وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( )، قال : إنما عنى به الشرك ، ألم تسمع الله يقول إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( ).
كما روي عن عمر ، وابن عباس ، وابن عمر وعدد من التابعين( ).
وهذا التعدد شاهد على تلقي الصحابة وأهل البيت علم التفسير عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضبطهم للحديث النبوي.
وعن عبد الله بن مسعود (قال: لما نزلت [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قيل لي: أنت منهم)( ).
ولم يكتف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير الآية بالقول والبيان ، بل أنه ذكرها واستحضرها بشواهد عملية وأحداث واقعية ليثبت معناها ودلالتها في أذهان الصحابة وعموم المسلمين.
و(عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلما برزنا من المدينة ، إذا راكب يوضع نحونا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كأن هذا الراكب إياكم يريد. فانتهى إلينا الرجل، فسلم فرددنا عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : من أين أقبلت.
قال : من أهلي وولدي وعشيرتي . قال : فأين تريد.
قال : أريدُ رسول الله. قال : فقد أصبته.
قال : يا رسول الله ، علمني ما الإيمان.
قال : تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
قال : قد أقررت .
قال : ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جُرْذَان ، فهوى بعيره وهوى الرجل ، فوقع على هامته فمات .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : علي بالرجل ، فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه ، فقالا يا رسول الله، قبض الرجل.
قال : فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما رأيتما إعراضي عن الرجل ، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة ، فعلمت أنه مات جائعاً.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا من الذين قال الله، عَزَّ وجل [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( ).
ثم قال : دونكم أخاكم. قال : فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه، وحملناه إلى القبر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شَفِير القبر فقال : الحدوا ولا تشقوا ، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا)( ).
وفي الآية تعليم وإرشاد وتأديب للمسلمين بأن الذي يدخل الإسلام يجب أن يتنزه عن الظلم والتعدي والإرهاب.
تعليم النبي (ص) أصحابه التفسير
مع أن مدة البعثة النبوية ثلاث وعشرون سنة فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حرص على بناء صرح أمة متحدة تعمل أجيالها المتعاقبة بشريعة واحدة ، وهو من معجزاته.
وهذا لم يتم لولا نزول القرآن وفضل الله عز وجل في حفظه لإحاطته بأمور الدين والدنيا ، من جهات :
الأولى : تضمن القرآن لمناهج التشريع في كل من العبادات والمعاملات والأحكام .
الثانية : صيغ البيان والوضوح في آيات القرآن .
الثالثة : إنتفاء التعارض أو التضاد بين آيات القرآن .
الرابعة : تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
الخامسة : تعدد الموضوع والحكم في أكثر من آية قرآنية مثل الأمر باقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، وكذا في النواهي مثل النهي عن الزنا والفحشاء والربا.
السادسة : ملائمة آيات القرآن لكل زمان ، وهو من إعجاز القرآن اليومي المتجدد ، والشواهد على صدق نزوله من عند الله عز وجل ، إذ تحيط كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث.
امتثال الصحابة لأوامر النبي (ص)
لقد كان مجتمع الصحابة نواة مثال الأمة المسلمة ، وينعكس أثر فعلهم على الأجيال ، ولو على نحو الموجبة الجزئية .
وقد أمر الله عز وجل بالمبادرة إلى طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعلها كطاعته ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ قال تعالى [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
ولا يختص موضوع أحكام الآية أعلاه بالصحابة بل هو عام شامل للمسلمين والمسلمات والناس جميعاً ، ليكون تقدير الآية : يا أيها الناس من يطع الرسول …).
وفي الآية دليل بأن النبي محمداً [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، ولبيان قانون استجابة المسلمين للبلاغ النبوي .
ومن إعجاز القرآن جمع آية واحدة بين هذا البلاغ ووجوب الإستجابة العامة له ، قال تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
ومن مصاديق صفة المبين للبلاغ أمور :
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الثاني : اجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ العام بخطبه وأوامره ، والخاص للصحابة الحاضرين والسائلين .
الثالث : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ ابتداء من غير سؤال ومنه صعوده المنبر .
الرابع : تضمن خطابات النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشارة والإنذار ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : بيان وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
السادس : وضوح البيان النبوي ، وتضمنه التفصيل ، وصبغة الحوار والإحتجاج .
و(عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال : يا هؤلاء ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم .
قالوا : بلى .
قال : ألستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه أنه من أطاعني فقد أطاع الله ، قالوا : بلى ، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ، وإن من طاعته طاعتك.
قال : فإن من طاعة الله أن تطيعوني ، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم ، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً أجمعين)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبّني أحبّه الله.
فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلاّ أن نتّخذه رباً ، كما في حديث النصارى لعيسى ، فأنزل الله تعالى [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ]( )، فيما أمر به فقد أطاع الله [وَمَنْ تَوَلَّى] عنه [فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] أي حافظاً ورقيباً.
وقال القتيبي : محاسباً ، فنسخ الله تعالى هذه الآية الشريفة ، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله)( ).
ولا دليل على نسخ هذه الآية ، كما أنها تعليم وهداية وإرشاد ، وفي قوله تعالى [فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( )، دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للصبر ، وحفيظاً أي حافظاً ورقيباً ومحاسباً .
وقد صدرت لي والحمد لله (10) أجزاء من هذا السِفر بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهي (202-203-304-210-211-231-240-241-242-249).
ومن إعجاز القرآن أسباب نزول الآيات ، وشهادتها على استجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لآيات القرآن.
وفي قوله تعالى [فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ]( )، ورد عن (معقل بن يسار المزني انها نزلت فيه قال كنت زوجت اختا لى من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها .
فقلت له زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليها ابدا قال وكان رجلا لا بأس به وكانت امرأته تريد أن ترجع إليه.
قال فأنزل الله عزوجل هذه الآية فقلت الان افعل يا رسول الله فزوجتها اياه)( ).
عناية النبي (ص) بأصحابه
لقد أولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عناية بأصحابه على نحو القضية الشخصية والعموم المجموعي والعموم الإستغراقي ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم وهذه العناية بالوحي ، وملاكها البعث على طاعة الله ، وتثبيت معالم الإيمان في النفوس ، والواقع الإجتماعي العام ، والسنن الأخلاقية .
وهل هذه العناية من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، الجواب نعم ، وفيه تنمية لملكة الأخلاق الحميدة عند المسلمين ، وجعلها سجية ثابتة ، وناسخة لعادات عصر الجاهلية ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونشره الحكمة وبعثه إلى طلب العلم والذي أمر الله عز وجل بأول آية نزلت من القرآن ، وهي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
وبعد الهجرة إلى المدينة آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار في آية من التكافل الإجتماعي ، والتعضيد العام والإخلاص والتخفيف عن المهاجرين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
و(عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال والله ما لك علينا من شئ فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له.
فقال ليس لك عليه نفقة فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك المرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذ حللت فآذنيني.
قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد قالت فكرهته ثم قال انكحي أسامة فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حريص على أصحابه في حال السلم والحرب يذب عنهم ويحيطهم برأفته ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
ولم يرد لفظ (حريص) في القرآن إلا في الآية أعلاه وبخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقترن فيها الحرص مع الرأفة والرحمة في لطف وثناء من عند الله ، ولبيان أن خصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي.
وكان أسامة بن زيد أسود اللون من أمه أم أيمن ، ولأنه مولى ، وأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أولوية التقوى.
فرأت فيه البركة والشأن .
معجزات يوم بدر
من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجلي المعجزات في كل واقعة وحدث أيام نبوته ، وتعضيد القرآن لهذه المعجزات من جهات :
الأولى : التوثيق السماوي لهذه المعجزات.
الثانية : تثبيت آيات القرآن المسلمين في مراتب الإيمان .
الثالثة : بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين ، قال تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
الرابعة : تعضيد القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات يوم بدر :
الأولى : إتخاذ النبي الدعاء سلاحاً ، إذ اجتهد في الدعاء عشية معركة بدر وصباح يوم المعركة ، وهو السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
الثانية : فضل الله عز وجل بالإستجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار القرآن عن هذه الإستجابة ، إذ قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
والإستغاثة من أعلى مراتب الدعاء والإلحاح فيه ، لبيان المخاطر التي كانت تحيط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ إذ كانت جيوش قريش تتجاهر بالعزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين قتيل وأسير ، وكانوا يرغبون بأسر المهاجرين ليدخلوا مكة موثقين بالحبال فيمتنع الناس عن دخول الإسلام ، كما كانت قريش تتجنب إشاعة القتل في المهاجرين لأن منهم أبناءهم وأخوانهم ، وخشية الفتنة داخل مكة ، والمطالبة بدياتهم ، وفيه دعوة لأجيال المسلمين لأتخاذ الدعاء سلاحاً.
وتدل الآية أعلاه [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ] والشواهد الحسية في معركة بدر على تحقق نصر المسلمين خلاف قاعدة السبب والمسبب ، وعلى أن الذي يجتهد ويواظب على الدعاء يرى ثمراته .
الثالثة : تجلي المعجزات الشخصية في المعركة ، (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَاتَلَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ الْأَسَدِيّ ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِهِ حَتّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ.
فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْطَاهُ جِذْلاً( ) مِنْ حَطَبٍ فَقَالَ قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكّاشَةُ.
فَلَمّا أَخَذَهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَزّهُ فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ طَوِيلَ الْقَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ فَقَاتَلَ بِهِ حَتّى فَتَحَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ السّيْفُ يُسَمّى : الْعَوْنَ .
ثُمّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى قُتِلَ فِي الرّدّةِ وَهُوَ عِنْدَهُ قَتَلَهُ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيّ)( ).
ولم يذكر ابن إسحاق سنداً لهذا الخبر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحض المسلمين على العمل الصالح ، ويبشر الذين يؤتونه بالجنة مع بيان فضل الله عز وجل عليهم في الدنيا والآخرة .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يَدْخُلُ الْجَنّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ أُمّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ عكاشة : يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ إنّك مِنْهُمْ أَوْ اللّهُمّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ سَبَقَك بِهَا عُكّاشَةُ وَبَرَدَتْ الدّعْوَةُ) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية فرار المشركين يوم بدر مع أن عددهم أكثر من ثلاثة أضعاف المسلمين ، وعندهم مائة فرس في الميدان ، وليس عند المسلمين إلا فرسان ، وأثر ونفع الفرس في القتال معروف عند العرب ، وعامة الناس قبل اختراع الأسلحة الحديثة .
وكثرة قتلاهم والأسرى الذين وقعوا منهم بأيدي المسلمين.
ترجمة محمد بن إسحاق
محمد بن إسحاق (80-151 هجرية) مولى قيس بن مخرمة بن المطلب، وكان يسار جد محمد بن إسحاق بن يسار من سبي عين التمر إذ افتتحت أيام أبي بكر سنة 12 للهجرة ، وكان مع الغلمان في كنيسة عين تمر فاخذه خالد بن الوليد إلى المدينة.
واعتنى إسحاق أبو محمد بن إسحاق بطلب الحديث ، وأخذ عنه ابنه الذي روى عن الإمام محمد الباقر عليه السلام ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن مسلم الزهري ، وقيل لم ير أو يسمع من الزهري ، ونافع مولى بن عمر ، ومحمد بن المنكدر وغيره ، ورحل في طلب العلم إلى الكوفة ، وبغداد ، والري ، ونزل الأسكندرية سنة (115) للهجرة.
وتقرب إلى أبي جعفر المنصور ، وأمره بتأليف كتاب السيرة ، وقيل أنه كلفه لتأليفه لولي عهده ، فلما عرضه على المنصور وجده مطولاً ، فقال له : اذهب فاختصره.
وكتابه على ثلاثة أقسام :
الأول : المبتدأ : وهو تأريخ الأمم السابقة منذ الخليقة .
الثاني : المبعث : وهو تأريخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى السنة الأولى للهجرة .
الثالث : المغازي حتى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تصل النسخة الأصلية من السيرة النبوية التي كتبها ابن إسحاق ، والظاهر أنه قدمها إلى أبي جعفر المنصور .
لذا حابا ابن إسحاق العباسيين في جدهم العباس بن عبد المطلب.
والذي وصل من السيرة ، هو مختصرها الذي كتبه ابن هشام نقلاً عن أحد تلامذة ابن إسحاق وهو البكائي ، لذا ترك ابن هشام قسماً من المبتدأ أعلاه لأن ابن إسحاق أخذه عن وهب بن منبه الذي يكثر من الإسرائيليات ، كما أورد فيه ابن إسحاق اشعاراً ركيكة مع وجود قصائد عديدة في سيرته صحيحة ولا يرقى إليها الشك.
واختلف العلماء في توثيق ابن إسحاق ، والأكثر على توثيقه ، والمختار أن أكثر الأخبار التي أوردها في سيرته صحيحة ، مع أن أكثر الأخبار التي يرويها من غير سند.
فلابد من التدبر في كل خبر ، وموافقته للقرآن والسنة ، ولقد ساهم ابن إسحاق بجذب الملوك والعلماء والناس إلى الإنشغال والتفقه في بدايات الخلق ، وفي بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته واقتباس الدروس والمواعظ منها.
وحتى الروايات المسندة عند ابن إسحاق فبعضها ضعيف ، وقد نعته بالكذب كل من هشام بن عروة ، ومالك بن أنس.
أما هشام فلان ابن إسحاق قال أنه سمع من زوجة هشام بن عروة واسمها فاطمة بنت المنذر ، وقال (والله إن رآها قط) والسماع أعم من الرؤية ، ولعله سمع منها قبل أن تتزوج عروة .
وأما مالك فقد نعته بأنه (دجال من الدجاجلة).
وكانت خصومة شخصية بينه وبين محمد بن إسحاق إذ طعن الأخير في نسبه وعلمه.
وكان محمد بن إسحاق (يقول ائتوني ببعض كتبه حتى أبين عيوبه أنا بيطار كتبه)( ).
وذكر عن الشافعي (أَنّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحّرَ فِي الْمَغَازِي ، فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ)( ).
والمختار أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، إنما كانت بدر وأحد والخندق وحنين وغيرها وقائع تدل على حال الدفاع التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار ، وإضطراهم للحفاظ على بيضة الإسلام وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، واستدامة التنزيل ، ووجوب تركه إرثاً للأجيال اللاحقة بصد المشركين في غزوهم للمدينة ، وإصرارهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تمت ترجمته في الجزء الثاني عشر بعد المائتين من هذا السِفر( ).
شواهد فردية لطاعة الصحابة لله ورسوله
من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور متداخلة :
الأول : دخول أفراد وجماعات في الإسلام في بداية الدعوة ، لقانون الملازمة بين توالي نزول آيات القرآن ودخول الإسلام.
ولا يختص دخول الناس الإسلام بنزول آيات القرآن ، فمن اللطف الإلهي تعدد أسباب هذا الدخول منها الوحي ، والمعجزات الحسية والعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها فضل الله وهدايته القلوب ، وتحقق النصر من غير أسباب مادية أو رجحان كفة المسلمين إنما هي المعجزة ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الثاني : اقتران دخول الصحابة الإسلام بأدائهم الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
الثالث : طاعة الصحابة لله ورسوله ، وهذه الطاعة من مقدمات وأسباب نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الأولى ، وبخصوص معركة أحد قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الرابع : تعدد الشواهد التي تدل على استجابة الصحابة لله ورسوله في حال الرخاء والشدة ، قال تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
ومن هذه الشواهد إمتثال حذيفة بن اليمان لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتسلل إلى معسكر الأحزاب الذين غزو المدينة استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له على نحو التعيين بعد عدم استجابة أي أحد من الصحابة لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم العام مع ما فيه من الترغيب والوعد بالجنة.
و(قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه، قال نعم يا ابن أخي، قال: كيف كنتم تصنعون.
قال: والله لقد كنا نجهد، فقال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه، وفعلنا وفعلنا.
فقال حذيفة: يا ابن أخي والله لقد رأيتُني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة؟ فما قام منّا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيًّا من الليل .
ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم، وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيًّا من الليل.
ثم التفت إلينا فقال: مَنْ رجل يقوم فينظر ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة.
فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا حذيفة فلم يكن لي بدُّ من القيام إليه حين دعاني.
فقلت: لبيك يا رسول الله وقمت حتى آتيه، وإن جنبيّ ليضطربان، فمسح رأسي ووجهي، ثم قال: ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تُحْدِثَنَّ شيئًا حتى ترجع إليّ .
ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته فأخذتُ سهمي، وشددت عليّ سلاحي، ثم انطلقتُ أمشي نحوهم كأنما أمشي في حمام، فذهبت فدخلت في القوم .
وقد أرسل الله عليهم ريحًا وجنودًا لله تفعل بهم ما تفعل، لا تُقرّ لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناءً، وأبو سفيان قاعد يصطلي، فأخذت سهمًا فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ، ولو رميتُه لأصبتُه .
فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحدثنّ حدثًا حتى ترجع إليّ، فرددت سهمي في كنانتي.
فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم، لا تقرّ لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناء ، قام فقال: يا معشر قريش ليأخذْ كل رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت .
فقال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان ابن فلان، فإذا هو رجل من هوازن.
فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف واخلفَتْنَا بنو قريظة، وبلغَنا منهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل .
ثم قال إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم وسمعت غطفان بما فعلتْ قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حِمام فأتيته وهو قائم يصلي، فلما سلم أخبرته الخبر، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل.
قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفاء فأدناني النبي صلى الله عليه وسلم منه، وأنامني عند رجليه، وألقى عليّ طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائمًا حتى أصبحت فلما أصبحت قال: قمْ يا نومان)( ).
مسائل في بعث حذيفة يوم الخندق
وفيه مسائل منها :
الأولى : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على معرفة أحوال المشركين الغزاة ، وكان عددهم عشرة آلاف رجل في معركة الأحزاب في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، الموافق لشهر آذار سنة 628م.
الثانية : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم العيون لرصد جيش المشركين .
الثالثة : الترغيب بطاعة الله ورسوله وأن فيها دخول الجنة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنة)( )، لبيان موضوعية وظيفة العين على المشركين ، وأن الإقتراب منهم والنفاذ في صفوفهم طلباً لمعرفة أحوالهم استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون كمنزلة الشهيد ، وأن دخول الجنة لا يتم إلا بأمر من عند الله عز وجل .
الرابعة : تحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني ، فبعد أن رغّب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذهاب لرصد المشركين ثلاث مرات ولم يقم أحد الصحابة ، أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة باسمه وعلى نحو التعيين فاستجاب في الحال مع شدة خطورة الأمر لأن المشركين أيضاً يبثون العيون والحرس حول معسكرهم ، لذا قال حذيفة (كأني أمشي في حِمام) والحمام قضاء الموت وحلول الأجل .
الخامسة : إحاطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة بالدعاء ، والتضرع إلى الله بنجاته وسلامته وقيامه بمسح رأس ووجه حذيفة .
السادسة : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حذيفة بعدم إحداث أمر ، لذا امتنع عن رمي أبي سفيان مع قربه منه ، ولو رماه لحدثت فتنة ، وتناجى كفار قريش بالقتال والباطل ، لبيان قانون توصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من علم الغيب .
السابعة : قيام رؤساء الجيش بالتعداد في الليل بطريقة فردية ، كل فرد يتعرف على صاحبه .
الثامنة : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة باتيانه بخبر القوم على نحو الإنفراد ، وعدم إطلاع الصحابة ، لإحتمال أن يكون في خبرهم ما فيه خوف وفزع ، وتقيد حذيفه بالأمر .
التاسعة : لقد تفاجئ حذيفة بعزم المشركين على الإنسحاب بعد حصار على المدينة دام أكثر من عشرين ليلة ، لهبوب ريح شديدة عليهم ، وبعد أن قتل الإمام علي عليه السلام فارس مضر عَمرو بن ود العامري .
العاشرة : إنسحاب حذيفة مع الخوف أيضاً وكأنه في قدر وأوان الموت ليحمل البشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يصلي ليستبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكشف الغمة ، وصرف جيوش المشركين ، قال تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( )، وهم كل من :
الأول : قريش وكنانة والأحابيش ، وعليهم أبو سفيان بن حرب.
الثاني : غطفان وعليهم عيينة بن حصن الفزاري إذ تتألف قبيلة غطفان من (فزارة وبني مرة وأشجع)، ومالك بن عوف في ألف من غطفان الذي قاد جيوش هوازن وثقيف في معركة حنين ،.
الثالث : بنو أسد ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي وبنو سليم.
نزول الرحمة في طاعة الرسول
لقد أمر الله عز وجل الناس جميعاً بعبادته وطاعته ، وجعل الحياة الدنيا دار الذكر والعبادة ، قال تعالى [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ]( ).
ونزل القرآن باقتران طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة الله عز وجل ، وفيه إخبار سماوي بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر ولا ينهى إلا بوحي وإذن من عند الله عز وجل .
وفيه ترغيب للمسلمين بالإستجابة لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والفوز بالرزق الكريمة والتوثيق في الدنيا ، والثواب العظيم في الآخرة ، قال تعالى [وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
ومن آيات طاعة الله ورسوله قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، لبيان البشرى بحسن العاقبة بطاعة الله عز وجل.
قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]
ترد (لعل) في آيات من القرآن بمعنى (كي) وتقدير الآية (كي ترحمون) ، وكما في قوله تعالى [لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]( )، فلعل من الله وعد ورحمة ، وتقريب إلى طاعته ، وهي أخص من المعنى اللغوي لها وهو الإشفاق والرجاء والطمع ، وقال عدد من التابعين (لعل من الله واجبة)( ).
و(قال أهل التأويل : عسى ولعلّ من الله جزاء لأنه لايدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور، ولو أن رجلاً قال لآخر : اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عاراً له وتعالى الله عن ذلك)( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (واطيعوا الله والرسول ترحمون) من غير كلمة الإشفاق والترجي ، الجواب من جهات :
الأولى : الرحمة الإلهية للأفراد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فالمراد الزيادة والكثرة في مصاديق الرحمة.
الثانية : الترغيب بطاعة الله ورسوله والإجتهاد في سنن التقوى .
الثالثة : إرادة الإرتقاء في سلم المعارف ، ومراتب الثواب ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وقد تقدم بيان في الجزء الثامن والتسعين من هذا السِفر بخصوص تفسير آية البحث .
من وجوه تقدير (لعلكم ترحمون)
قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ويكون تقدير خاتمة الآية على وجوه منها :
الأول : لعلكم ترحمون وأهليكم .
الثاني : لعلكم ترحمون بزيادة الرزق والبركة والنماء .
الثالث : لعلكم ترحمون بمضاعفة الأجر والثواب .
الرابع : لعلكم ترحمون بصرف البلاء والشرور والأذى .
الخامس : لعلكم ترحمون بود الناس لكم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
السادس : لعلكم ترحمون في الدنيا .
السابع : لعلكم ترحمون في عالم البرزخ .
الثامن : لعلكم ترحمون في الآخرة .
التاسع : لعلكم ترحمون بالثبات في منازل الإيمان .
العاشر : لعلكم ترحمون في هداية الذين كفروا والمنافقين إلى الإيمان ، أي لعلكم ترحمون بغيركم .
الحادي عشر : لعلكم ترحمون باتباع هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاكاته في أفعاله ، قال صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
الثاني عشر : لعلكم ترحمون بالوئام والوفاق مع أهل الكتاب وعموم أهل الملل والنحل ، وقد ذكرت ست ملل في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( )، ولم يذكر هذا العدد من الملل في آية أخرى.
الثالث عشر : لعلكم ترحمون بالإجتهاد بتقوى الله في القول والعمل الفردي والجماعي .
الرابع عشر : لعلكم ترحمون بتعاهد كتاب الله ، والعمل بمضامينه القدسية ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وقد ورد لفظ (لعلكم ترحمون) ثماني مرات في القرآن .
الخامس عشر : لعلكم ترحمون باتباع أبنائكم وذراريكم لكم في طاعة الله والرسول فيأتيكم الثواب من حسن سمتهم ويلحق بكم في عالم البرزح ويوم القيامة.
آيات في وجوب طاعة الرسول
لقد قرن الله عز وجل طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعته ، لبيان عظيم منزلة الرسول عند الله ، ولزوم أخذ المسلمين بما جاء به من الوحي ، وفيه دعوة سماوية لعناية العلماء وعامة المسلمين بالسنة النبوية والأخذ بها.
والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم ومنه السنة النبوية .
وهل آيات طاعة الرسول من مصاديق تزيين الإيمان في النفوس ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ]( ).
ولم يرد لفظ [حَبَّبَ] [زَيَّنَهُ] [كَرَّهَ] [الْعِصْيَانَ] [الرَّاشِدُونَ] إلا في الآية أعلاه مع قلة كلماتها.
ومن الآيات التي تأمر المسلمين بطاعة الرسول :
الأولى : قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
السابعة : قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا]( ).
الثامنة : قوله تعالى [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
العشرون : قوله تعالى [أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الواحدة والعشرون : قوله تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الثانية والعشرون : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
بحث أصولي
يسمى ما يتوقف عليه تحقيق الواجب والإمتثال (مقدمة الواجب) ولا يكون لها شأن او دخل في إيجاب الواجب ويمكن جعلها من المسائل الأصولية لأن ضابطها هو وقوعها في طريق إستنباط الحكم الكلي الفرعي وكونها جزء اخيراً لعلة الإستنباط , وكبرى لقياس يستنتج حكماً كلياً فرعياً مثلاً : الحج واجب ، وما هو واجب تجب مقدماته،فمقدمات الحج من قطع المسافة ونحوها واجب، والواجب لا يمكن اداؤه الا عند وجود مقدماته.
والمقدمة تقرأ لغة – بكسرالدال أو فتحها- والأول أفصح وأظهر، وفي التهذيب- مقدمة الجيش بكسر الدال، أوله الذين يتقدمون الجيش ونسب ابن منظور القراءة بفتح الدال الى القيل، وهو تضعيف له، (وقيل يجوز مقدمة بفتح الدال ويكون المعنى بالفتح ان غيره قدمه)( ).
وتقسم المقدمة بلحاظ الماهية الى:
الأولى : المقدمة الخارجية: وهي الفعل والأمــر الخارج عن ماهية المأمور ذاتاً وتقييداً، وليســـت من الشرائط او الموانع ولكن المأمور به يتوقف عليها، فالطهارة مثلاً ليست من المقدمات الداخلية بل هي شرط خارجي للصلاة، وقيد داخلي لها لوجوب استدامة الطهارة في الصلاة.
وعن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا تقبل صلاة إلا بطهور ، ولا صدقة من غلول)( ).
والغلول : الخيانة والسرقة ، قال تعالى وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
بمعنى ان الطهور شرط ومقدمة للصلاة وهو ايضاً قيد داخلي اثناء الصلاة لذا لم يجعل بعضهم الطهارة من المقدمات الخارجية، ولكن الطهارة كلي طبيعي، فبلحاظ التوضأ وذات الفعل تكون الطهارة مقدمة خارجيـة وبلحـــاظ استـــدامتها تعتبر قيداً ومقدمة داخلية على القول بها.
الثانية : المقدمة الداخلية: وهي أجزاء المأمور به التي تكون جزء منه , بلحاظ ان المركب يتكون من أجزاء ولا يتقوم الا بتمامها، ويتقيد بها، ولكن هذا التعريف والإقرار بانها جزء من الواجب يخرجها من مفهوم المقدمة تخصصاً، فالجزء غير المقدمة وجعل بعضهم القراءة في الصلاة مثلاً من المقدمة الداخلية.
نعم يمكن احتساب تطهير الثياب او الوضوء مقدمة داخلية بلحاظ دخوله جزء في ماهية الفعل العبادي تقييداً لا ذاتاً.
فالطهور غير الصلاة لأن الصلاة أفعال عبادية مخصوصة، ومن وجوه خروج أجزاء الفعل عن معنى المقدمة انها خارجة عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، ومن لا يأتي بالقراءة في الصلاة لا يقال عرفاً انه لم يأت بمقدماتها.
نعم القائل بالمقدمة الداخلية بهذا المعنى جعل الجزء مقدمة للكل وأراد من المقدمة مطلق ما يكون وجود ذي المقدمة متعلقاً بوجوده بغض النظر عن التباين بين وجود المقدمة ووجود ذيها أو عدم حصول التباين والتغاير، لذا تصدق المقدمة على جزء المركب لأنه يتوقف عليه.
والأقوى الأول وان المقدمة ما يكون وجودها مغايراً خارجاً عن وجود ذي المقدمة، وهو المشهور لأن البحث في مقدمة الواجب يتضمن البحث عن الملازمـة بين وجوب الشــيء ووجوب مقدمــته, وان الأجزاء عين الكل، والمركب متكون من ذات الأجزاء فتنحصر المقدمة بالخارجية ولا يتصور الداخلية .
وتقسم المقدمة الخارجية بحسب منشئها الى أقسام ثلاث:
الأولى : المقدمة العقلية: وهي التي يكــون منشؤها في الغالب الأمـــور التكـــوينية ويلتزم العقل باستحالة حصول ذي المقدمة دون حصولها كالعلة والمعلول، فمع عدم وجود العلة لا يوجد المعلول ، فلا يكون النهار حتى تشرق الشمس [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثانية : المقدمة الشرعية: وهي المقدمة التي نص عليها الشـــرع وجعل المأمور به متوقفاً عليها ولا يكون جامعاً للشرائط وصحيحاً الا بها، ووصفها بالشــرعية لأن الشارع هو الذي جعلها مقدمة للواجب مثل ثبـــوت رؤية هلال رمضـــان كأوان للصــيام، والوضوء للصلاة.
الثالثة : المقدمة العادية: وهي المقدمة التي تقتضي العادة الإتيان بها من أجل تحصيل ذيها، دون ان يكون لها دخل في تحصيل ذي المقدمة حتى مع عدم وجودها.
ومنهم من جاء بمثال على المقدمة العادية وهو السفر الى الحج ، ولكن السفر مقدمة عقلية لإستحالة تحقيق الحج بالنسبة للآفاق الا بالسفر الى مكة لذا جعل جزء من الإستطاعة ومنهم من جعل العادة والعرف في اصطلاح الفقهاء واحداً، وعرفه الجرجاني بانه ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول، والظاهر ان العادة أعم من العرف، فملاكها الإعتياد والتعاقب والتوالي في الفعل والوجود، اما العرف فهو أخص، والتبدل والتغيير أسرع اليه من العادة وهو سور ملاحظ عند الفعل، أما العادة فتتعلق بذات الفعل.
والمراد من الطهور في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه هو الوضوء ، أي أن الصلاة لا تصح ولا تتم إلا به ، وهو مقدمة لها ، والحديث بيان وتفسير لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ليجمع التفسير النبوي للآية القرآنية الواحدة بين وجوه :
الأول : التفسير القولي كما في الحديث أعلاه .
الثاني : التفسير الفعلي بقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوضأ لكل صلاة .
الثالث : التفسير التعليمي بتعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته وأصحابه الوضوء والتيمم وفق أحكام هذه الآية .
و(عن أبي ذر قال : اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر ابْدُ فيها ، فبدوت فيها إلى الربذة ، وكانت تصيبني الجنابة فامكث الخمسة والستة.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك)( ).
وأحاديث : التيمم ضربتان مشهورة.
آيات ذكرت اسم النبي محمد (ص)
لقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آيات كثيرة بصفة النبوة ، وصفة الرسالة ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ]( )، كما وردت ذات الصفات مرة أخرى في الآية التالية مع اقتران الإيمان بالله بالإيمان به كما في قوله تعالى [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
وآيات عن وجوب طاعة النبي ، وترغيب الناس باتباعه في نهجه ، ونزول آيات القرآن عليه ، وبيان صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجتهاده في طاعة الله لمنع الغلو في شخصه الكريم .
وقد ورد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمه في أربع آيات وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
كما ذكر اسمه (أحمد) في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
الحد الزماني لتفسير النبي (ص) للقرآن
تحتمل الأطر الزمانية والمكانية لتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن وجوهاً منها :
الأول : أوان نزول الآية القرآنية .
الثاني : موضوعية تقسيم العهد النبوي الى ما قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وما بعدها.
الثالث : تجلي أوان ومناسبة للتفسير .
الرابع : الإيحاء من الله بتفسير شطر آية مخصوصة أو الآية كلها أو عدد من الآيات ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ]( ).
الخامس : عند الإحتجاج والجدال وإقامة البرهان .
السادس : تعليم أهل البيت والصحابة .
السابع : إعانة المسلمين على أداء وظائفهم العبادية وبعثهم على التقوى.
الثامن : مواطن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن صفات النبي محمد ما ورد في قوله تعالى [يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ]( ).
التاسع : التفسير النبوي المنبري ، أي ما يفسره النبي من القرآن وهو على المنبر .
وعن أبي سعيد الخدري (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويؤدي الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة ، حتى أنها لتصطفق ، ثم تلا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ( ).
و(عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة : اليد العليا خير من اليد السفلى ، والعليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة)( ).
و(عن أبي مجلز قال : لما نزلت هذه الآية [يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا]( )، قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل قال : والشرك بالله؟ فسكت مرتين أو ثلاثاً ، فنزلت هذه الآية [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( )، فاثبتت هذه في الزمر وأثبتت هذه في النساء)( ).
العاشر : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية عند تلاوته لها ، بما فيه البشارة والإنذار .
و(عن أبي ليلى قال : صليت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم فمر بآية فقال : أعوذ بالله من النار ، ويل لأهل النار)( ).
استجابة الله لدعاء النبي محمد (ص)
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مدرسة الدعاء ، والنسبة بين الدعاء والعبادة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، العموم والخصوص المطلق ، فالدعاء جزء من العبادة ، والصلاة دعاء .
ومن الآيات في المقام الإطلاق وعدم الحصر أو التقييد في كل من:
الأول : أوان الدعاء .
الثاني : موضوع الدعاء بالخير .
الثالث : الدعاء لأمور الدنيا والآخرة .
الرابع : الدعاء للذات والغير .
الخامس : الدعاء بأي لغة ولسان .
السادس : دعاء الفرد والجماعة بالتأمين على المسألة أو الإشتراك في موضوع الدعاء .
السابع : الإلحاح في الدعاء ، وهذا الإلحاح رزق كريم وتوفيق وبشارة وأمل .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (إن الله كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة وأحب ذلك لنفسه ، إن الله جل ذكره يحب أن يسأل ويطلب ما عنده)( ).
الثامن : الأدب في الدعاء ، وعدم الإستعجال فيه ، وكما كانت معركة بدر ملاقاة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين ، فانها مناسبة كريمة للدعاء.
ودليل على استجابة الله عز وجل لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أشد الأحوال ، استجابة تامة تفوق التصور الذهني ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
قانون استدامة الصبر
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الصبر على الكفار لم ينقطع بعد الهجرة ، بل أضيف إليه الصبر على المنافقين ، هذه الطائفة التي ترشحت عن انتصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، فصاروا يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ، يقفون في صفوف الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخرج بعضهم في سرايا الدفاع ليثيروا الفتنة إذا وجدوا لها منفذاً.
وفي موضوع وأسباب نزول قوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ]( )، ذكر أن رجلين من المسلمين اختصما وهما على الماء في واقعة بني المصطلق ، رجلاً من جهينة حلفاء الأنصار ، ورجلاً من غفار .
فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي وهو رأس النفاق (يا بني الأوس والخزرج ، عليكم صاحبكم وحليفكم . ثم قال : والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسعى بها بعضهم إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : يا نبي الله مر معاذاً أن يضرب عنق هذا المنافق . فقال : لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)( ).
ولم يتأخر الرد على عبد الله بن أبي (فلما بلغوا المدينة أخذ ابنه السيف ثم قال لوالده : أنت تزعم لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، والله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخرج الحميدي في مسنده عن أبي هارون المدني قال : قال عبدالله بن عبدالله بن أبيّ لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل)( ).
و(عن أسامة بن زيد : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق قام عبدالله بن عبدالله بن أبيّ فسلّ على أبيه السيف ، وقال : والله عليّ أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل . فقال : ويلك محمد الأعز وأنا الأذل . فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته ، وشكرها له)( ).
بيان النبي (ص) للآيات
من بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات وعلوم القرآن علم القراءة ، من جهات :
الأولى : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية أو الآيات القرآنية حال نزولها .
الثانية : قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات وسور القرآن في الصلاة اليومية ، وهذه القراءة مدرسة قرآنية ذات نفع يومي متجدد حتى يوم القيامة ، وهي من مصاديق حفظ القرآن ونظم آياته وفيها دعوة للصحابة لحفظ آيات القرآن ، وإبقائه تركة عقائدية للتابعين.
ومن الآيات أن التابعين أضعاف عدد الصحابة ، وأن تابعي التابعين أضعاف التابعين وكذا في الطبقات اللاحقة وانتشارهم في الأمصار وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدق نبوته .
الثالثة : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في الصلاة بعث لتفسيرها ، ودعوة للصحابة للسؤال عن الآيات ودلالاتها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ]( ).
لبيان أن الله عز وجل يحمل الناس على العبادة طوعاً وقهراً وانطباقاً ، وهو من أسرار قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
البيان النبوي العام
قال تعالى [بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على تعلم أصحابه معاني وتفسير آيات القرآن .
و(عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ)( ).
ولم يرد لفظ [لِتُبَيِّنَ] في القرآن إلا في هذه الآية وقوله تعالى [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
ترى ما المراد من الإسم الموصول في [مَا نُزِّلَ] يحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة القرآن .
الثاني : الذكر الذي ذكرته الآية .
الثالث : الوحي ومنه السنة النبوية لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابع : الكتب السماوية السابقة .
الخامس : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
السادس : فضل الله والنعم التي تترى على الناس .
السابع : البشارة والإنذار ، والوعد والوعيد في القرآن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية لبيان النسبة بين ما بيينه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين آيات القرآن عموم وخصوص مطلق .
وهل انقطع البيان النبوي بمغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، الجواب لا ، فهو مستمر ومتجدد إلى يوم القيامة بحضور السنة النبوية في كل زمان واستقراء المسائل والقوانين منها من جهتين :
الأولى : ورود لفظ الناس في آية البحث بقوله تعالى [لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ] والمراد من الألف واللام أعلاه الجنس والإستغراق .
الثانية : خاتمة الآية ، ببعث الناس في التفكر والتدبر في إعجاز القرآن ومضامينه القدسية ، وهذا التفكر نوع طريق للهداية ونشر ألوية السلم في أرجاء الأرض.
وقال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ]( ).
وفي هذه الآية دعوة للعلماء إلى يوم القيامة للغوص في خزائن القرآن ، ولم يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم معنى كل آية من القرآن إنما وضع قواعد وضوابط التفسير ، ومن الآيات ما يكون معناها ظاهراً ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
قانون الخلق العظيم شعبة من الوحي
قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )
هذه الآية هي الرابعة من سورة القلم وهي سورة مكية وقيل أنها السورة الثانية نزولاً ، وتبدأ بقوله تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق “النون” وهي : الدواة. ثم قال له: اكتب. قال وما أكتب؟ قال : اكتب ما يكون أو : ما هو كائن-من عمل أو رزق أو أثر أو أجل. فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]( )، ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصنك ممن أبغضت)( ).
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (النون السمكة التي عليها قرار الأرضين ، والقلم الذي خط به ربنا عز وجل القدر خيره وشره ونفعه وضره [وَمَا يَسْطُرُونَ]( )، قال : الكرام الكاتبون)( ).
ولفظ السمكة كناية عن مجرة وسبح الأرض في فقضاء بقدرة الله عز وجل .
ومن خصائص المشركين رميهم نبي زمانهم بالجنون ، فعندما ألح نوح على قومه بالدعوة إلى الإيمان ، وأنذرهم الطوفان ، وشاهدوا كيف يصنع سفينة في البر ، نعتوه بالجنون وآذوه ، وفي التنزيل [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ]( ).
وكذا نعت فرعون موسى عليه السلام بالجنون لإبطاله وفضحه إدعاء فرعون الربوبية ، ولدعوته لعبادة الله عز وجل ، وفي التنزيل [إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ]( ).
وقد ذّم الله عز وجل قريشاً لنعتهم النبي محمداً بالجنون وبيّن أنهم يحاكون المشركين من الأمم البالية ، قال تعالى [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ]( ).
وهل في الآية أعلاه إنذار ووعيد للكافرين ، وبشارة ودعوة للصبر للمسلمين ، الجواب نعم ، ويدل عليه قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ]( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة يطوف على أسواق مكة لا للشراء والبيع ، ولكن للنداء بكلمة التوحيد التي تتقوم بها الحياة الدنيا ، وهو أمر لم تعهده العرب إذ كانوا ينتظرون موسم الحج وعمارة أسواق مكة للتجارة والتباري في الشعر ، والتفاخر في الإنسان .
وعن رجل من بني الديل اسمه ربيعة بن عباد (وكان جاهليًا فأسلم قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتبع القبائل في مجالسها يدعوهم إلى التوحيد ، ويخبرهم بأنه رسول الله محمد في شهر ذي القعدة وذي الحجة وهما من الأشهر الحرم.
فلا تعتدي عليه قريش خشية الخزي عند العرب ، وفزعهم لنصرته ، ولكنها جعلت عمه أبا لهب يتبعه ويقف خلفه حتى إذا فرغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مقالته قال أبو لهب (يا بني فلان، هذا يريد منكم أن تسلُخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقَيْش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب)( ).
وفيه خبث واجتهاد من رجالات قريش ، إذ تتبادر إلى أذهان أهل الموسم وهي إذا كان عمه صنو أبيه والذي يعيش معه في مكة ينكر نبوته ويحذر الناس منه ، فمن باب الأولوية ألا تستجيب لدعوته ، فنزل قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
أي خسرت وخابت كناية عن ضلالته ، وخسارته وهلاكه.
وفيه إعجاز قرآني أن الله عز وجل يعلم بأن أبا لهب يموت على الكفر ، كما ذم الله عز وجل زوجته في ذات السورة بقوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ).
وهي أروى بنت حرب بن أمية ، أخت أبي سفيان .
وكانت تمشي بالنميمة ، وعن ابن عباس (كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
وكانت تعين زوجها في إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسداً لبني هاشم ، ولكن أبا لهب لم يلتفت لهذا المكر من رجالات قريش.
قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهل هذا الجهاد السلمي من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصبره المتصل من الخلق العظيم الذي يتصف به.
الجواب نعم ، لقانون الخلق العظيم ملازم للرسالة.
لقد كانت سيرة وأخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفسيراً عملياً لآيات القرآن.
قال تعالى [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ]( ).
وقد تقدم في الجزء الواحد والخمسين بعد المائتين تعريف المعجزة وهي (الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، السالم عن المعارضة ، أظهرها الله على أيدي الأنبياء)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمي لم يقرأ الكتب السابقة سواء الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور أو كتب اليونان والفرس والهنود وغيرهم ، ولم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يستنسخ الكتب والأخبار ، ولم يجلس مع القصاصين.
ومما يتصف به الصحابة إحاطتهم علماً باللغة العربية ومفرداتها ومعاني الكلمات ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]( )، وهو من اللطف الإلهي بالناس ، وإقامة الحجة عليهم وهدايتهم الى سواء السبيل ، ولسان قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو اللغة العربية ، ونزل القرآن بلسان قريش ، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فلسان قريش عربي .
أحاديث في تفسير قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]
وفي قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وردت أحاديث نبوية وسنة فعلية كبيان ومصاديق لهذه الآية .
ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)( ).
ومن منافع هذا الحديث تنمية ملكة التنزه عن الظلم عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين.
و(عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً ، فإنه ليس دونها حجاب.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله : اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصراً غيري .
وأخرج أبو الشيخ ابن حبان في كتاب التوبيخ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم يفعل)( ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر)( ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله)( ).
وعن (النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علماً ، ثم يعلمه أخاه المسلم .
وأخرج المرهبي في فضل العلم والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة ، يزيده الله بها هدى أو يرده عن ردى)( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم العطية كلمة حق تسمعها ، ثم تحملها إلى أخ لك مسلم فتعلمها إياه)( ).
كما نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأخلاق المذمومة وأخبر عن سوء عاقبتها يوم القيامة .
و(عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى . وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والديوث ، والرجلة)( ).
ومن أعظم مصاديق الأخوة الإيمانية في السنة النبوية قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد هجرته إلى المدينة ببضعة شهور ولا يحصي منافع هذه المؤاخاة إلا الله عز وجل.
إظهار كسرة (ليعبدونِ)
قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )
الذي يقف عند (ليعبدونِ) لا يذكر الكسرة ولو المسمى ، فيقرأ وفق قواعد التلاوة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
ويجب أن لا تكون قواعد التلاوة ، والقول بالوقوف على ساكن بتغيير المعنى أي لو دار الأمر بين التقيد بقواعد التلاوة إذا خالفت المعنى الحقيقي والفرض ودلالة الآية وبين قواعد التلاوة فيجب الوقوف على متحرك إذا لزم ضبط المعنى وهذا القول المستحدث.
ولم يرد لفظ (ليعبدونِ) في القرآن إلا في هذه الآية من سورة الذاريات ، فقول (إلا ليعبدون) من دون إظهار الكسرة أي مطلق العبادة لله ولغير الله ، قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ]( )، [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا]( )، [بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ]( ).
بينما أخبرت آية البحث أن الجن مخلوقون لعبادة الله ، وآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسوف يتبرأون يوم القيامة ممن يعبدهم ومن المشركين مطلقاً.
وقد ذكرت في رسالتي العملية (الحجة) الجزء الأول والمسجلة بدار الكتب والوثائق في بغداد برقم 345 لسنة 2001 أي قبل اثنتين وعشرين سنة وهي من خمسة أجزاء في العبادات والمعاملات ((مسألة 400) الأقوى جواز الوقف بالحركة والوصل بالسكون والاحوط تركه ، إلا مع تغير المعنى ، والأصل عدم وجوب الوقوف على ساكن وقول علماء اللغة بالوجوب لم يثبت وليس من دليل تعبدي عليه)( ).
فيجب أن تقيد مستحبات التلاوة بشرط وهو عدم تغيير هذه المستحبات معنى اللفظ القرآني فتقرأ (إلا ليعبدونِ) باظهار الكسرة ولكن ليس إظهاراً جلياً كالياء .
وسمع أعرابي مؤذناً يقول : أشهد أن محمداً رسولَ الله –بالنصب رسول- فقال : ويحك يفعل ماذا ، أي أنه ينتظر الخبر ليعلم ماذا يفعل الرسول ، لأن الجملة غير تامة .
وصلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة وقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) لأم الكتاب ولم يقرأ للسورة التي بعدها.
فناداه المهاجرون من كل مكان (يامعاوية أسرقَتَ الصلاة أم نسيت ، لما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن ، وكبر حين يهوي ساجداً)( ).
البسملة في الصلاة
البسملة كنز من كنوز العرش جعلها الله عز وجل عند كل مسلم لتكون مدخلاً لغبطته وسعادته وقضاء حوائجه .
ويجتهد بعض الباحثين في إحصاء الأقوال في :
الأول : هل البسملة آية من القرآن .
الثاني : هل هي آية من سورة الفاتحة .
الثالث : هل هي آية من كل سورة .
الرابع : هل تقرأ في الصلاة .
الخامس : هل قراءتها سراً أو علانية .
وكثرة واختلاف الأقوال أمر لا يخلو من المشقة على المسلم ، بينما جاءت بين الدفتين ، وليس في القرآن إلا ما هو قرآن ، وأخبرت النصوص عن جزئيتهما من القرآن وقراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها ، وقيامه بتنمية ملكة حب وقراءة البسملة عند المسلمين ، وبيان فضلها وبركتها وما في تلاوتها في الصلاة وعند الإبتداء بعمل وغيره من الأجر والثواب.
والنسبة بين التسمية والبسملة عموم وخصوص مطلق ، والتسمية هي (بسم الله) وكما ورد على لسان نوح عليه السلام في الركوب في السفينة [وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد بدأ نزول القرآن بالتسمية [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، ومن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن أنه كان يتلو البسملة في الصلاة ، ويبدأ بها رسائله إلى الملوك والأمراء وغيرهم .
وقال جمع من العلماء أن البسملة ليست آية من سورة الفاتحة ولان غيرها من السور ولا تجب قراءتها في الصلاة ، ولكن وردت روايتان متعارضتان عن أنس .
و(عن قتادة عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين)( ).
كما روي عن قتادة (قال سئل انس بن مالك كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم)( ).
ومع التعارض والتساوي في السند يكون التساقط فيرجع إلى أحاديث أخرى منها حديث (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) [ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا]( ).
وفي صلح الحديبية توافد رجال من قريش ، وحينما (جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد سهل لكم من أمركم)( ).
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء مع أن سهيل بن عمرو خطيب قريش ، وكان أسيراً في معركة بدر.
فقال سهيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (هات أكتب بيننا وبينك كتابا فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم .
قال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب .
فقال المسلمون : والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب باسمك اللهم .
ثم قال : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب : محمد بن عبد الله .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله .
قال الزهري وذلك لقوله : لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)( ).
الأول : تقرأ البسملة جهراً في الصلاة الجهرية مع الفاتحة ومع السورة ، وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام وابن عباس ، وعدد من التابعين وهو مشهور مذهب الشافعي .
الثاني : قراءة البسملة مع الفاتحة والسورة مستحبة وتقرأ سراً حتى في الصلاة الجهرية وبه قال أبو حنيفة والمشهور عن أحمد.
الثالث : لا تشرع قراءتها في المكتوبة سراً ولا جهراً إنما تقرأ في النافلة وقيام الليل وهو مشهور المسلمين.
الرابع : يكون مجموع اسم الجلالة في القرآن (2699) مرة ، وورد سبع مرات في آية واحدة وهي الآية الأخيرة من سورة المزمل التي هي من أول سور القرآن نزولاً بقوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
قانون انتفاء التعارض بين القرآن والحديث النبوي
من إعجاز القرآن انتفاء التعارض بين آياته من جهات :
الأولى : قانون كل آية تدعو إلى مضامين الآية الأخرى .
الثانية : قانون كل آية تمنع من تحريف الآية الأخرى .
الثالثة : قانون الوقاية القرآنية الذاتية من التحريف .
الرابعة : قانون كل آية تمنع من سوء تأويل الآية الأخرى .
الخامسة : تجلي قانون رد المتشابه إلى المحكم .
السادسة : الإعجاز في سياق ونظم الآيات ، وقد صدر لي والحمد لله بهذا الخصوص كل من :
أولاً : الجزء (126) من هذا السِفر ويختص بالصلة بين الآية 152 بالآية 153 من سورة آل عمران .
ثانياً : الجزء (127) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 153 بالآية 151.
ثالثاً : الجزء (129) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 154 بشطر 153.
رابعاً : الجزء (151) ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بالآية 164 منها .
خامساً : الجزء (191) ويختص بالصلة بين الآية 180 بالآية 181 منها.
السابعة : قانون أسباب النزول من أسباب حفظ آيات القرآن .
الثامنة : عدم التعارض بين آيات القرآن والحديث النبوي ، إنما الحديث بيان وتفسير للقرآن ، والمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن.
وقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نزول القرآن على سبعة أحرف.
و(عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد.
ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف . زاجر وآمر ، وحلال وحرام ، ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نُهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله واعملوا( ) بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا( ).
و(عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال : بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضرب الكتاب بعضه ببعض . قال : وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه عليكم فآمنوا به)( ).
الإستخارة
الإستخارة هي طلب الخيرة في الشئ ، وهي في الإصطلاح طلب الخيرة من الله عز وجل للإختيار بين أمرين أو أكثر ولإرادة الفعل لقوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ]( ).
فقد تبدو بعض الأمور حسنة في ظاهرها ولكن المدار على العواقب ، وتبعث الخيرة الطمأنينة في النفس ، وتمنع من التردد والشك والريب ، وأيهما أولى الخيرة أم استشارة أهل الخبرة والعقلاء ، الجواب لاتعارض بينهما ، والمختار هو الثاني لقوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
وكان العرب في الجاهلية يستقسمون بالأزلام ، والأزلام جمع زلم وهو السهم والقدح ، وقد ذمه الله ونهى عنه ، قال تعالى [وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ]( ).
وكانت السهام ثلاثة وقيل سبعة فاذا أراد أحد العرب السفر أو الزواج أو القيام بأمر هام ، ذهب إلى الكاهن ليضرب له القداح فان خرج له حز واحد مضى لحاجته ، وان خرج حزان تركه ، وان خرج له قدح غفل أعادوا السحب ، والحز والجزان عون بدل افعل أو لا تفعل عدن للأميين .
فحرم الله عز وجل الأزلام والخمر والميسر بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وهدى الله عز وجل المسلمين الى الإستخارة وهي شعبة من التوكل على الله ، ورجاء رفده وفضله .
و(عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمر كما يعلمنا السورة من القرآن . يقول : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة.
ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب .
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ، وعاجل أمري وآجله ، فاقدره لي ، ويسره لي .
وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ، وعاجل أمري وآجله ، فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، وأرضني به . ويسمى حاجته باسمها)( ).
وفي الحديث مسائل منها :
الأولى : تسليم الصحابة بتعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم السورة من القرآن ، لقانون المشبه به أظهر من المشبه.
الثانية : هل القدر المتيقن من تعليم السورة تلاوتها أم يشمل بيان معانيها ، الجواب هو الثاني ويدل عليه ما ورد (عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل)( ).
وفي أسباب ومقدمات واقعة بئر معونة أن (عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إليَّ رجالاً يعلموننا القرآن ، ويفقهوننا في الدين ، فهم في ذمتي وجواري)( ).
و(عن ابن مسعود قال : كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه)( ).
الثالثة : بيان كيفية الإستخارة ، وأنها ليست أفعل أو لا أفعل ، إنما هي صلاة ودعاء رجاء تفضل الله عز وجل باتيانه إن كان خيراً ، وصرفه إن كان شراً ، وفي التنزيل [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
قراءة النبي (ص) للقرآن
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ حزباً من القرآن كل يوم لا يتخلف عنه ، ويقرأه ترتيلاً من غير عجلة ويقف عند رأس كل آية ، ويمد حروف المد ، كما في قوله تعالى [الرَّحْمَنُ] [الرَّحِيمُ] وكان يستعيذ بالله من الشيطان في أول قراءته ، ومنه قوله (اعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ آية [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا]( )، فاضت عيناه( )،لاستحضاره لأهوال يوم القيامة ، ورجاء فضل الله عز وجل بشفاعته لأمته .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ على أصحابه القرآن ، ويأمرهم بقراءة القراءة له وهو من مصاديق حفظ القرآن .
وكان يسأل الله الجنة إذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة ونعيمها ويتعوذ من النار إذا مرّ بآية فيها ذكر النار في دعوة للمسلمين للتدبر في آيات القرآن وقانون استثمار التلاوة للدعاء والمسألة.
إذ ورد (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ : إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِى أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ . قَالَ آللَّهُ سَمَّانِى لَكَ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ : نَعَمْ ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ)( ).
و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَإِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ قَالَ إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي قَالَ فَافْتَتَحْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ فَلَمَّا بَلَغْتُ [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا]( ) قَالَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)( ).
وإذا ورد اسم عبد الله من غير ذكر اسم الأب أو الكنية فالمراد منه عبد الله بن مسعود ، وليس عبد الله بن عباس أو عبد الله بن عمر أو عبد الله بن عمرو ، وهي لطيفة خص بها علماء الرجال والتفسير ابن مسعود لسابقته في الإسلام .
إذا اسلم (في حين أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب قبل إسلام عمر بزمان)( ).
وقال عبد الله بن مسعود في سبب إسلامه (كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا غلام ، هل من لبنٍ.
فقلت: نعم، ولكنني مؤتمن.
قال : فهل من شاةٍ حائلٍ لم ينز عليها الفحل ، فأتيته بشاةٍ فمسح ضرعها، فنزل لبن فحلبه في إناء وشرب وسقى أبا بكر.
ثم قال للضرع : اقلص فقلص ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال : يرحمك الله، فإنك عليم معلم)( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اهدوا هدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبدٍ ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحل عبد الله أو رجلا عبد الله في الميزان أثقل من أحدٍ) ( ).
وتسميته ابن أم عبد ، لإرادة كنية أمه وهي صحابية ، وكانت تكنى أم عبد.
لقد كانت تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن مدرسة متكاملة ورثها أهل البيت والصحابة ، وهي من أفراد حفظ وتعاهد كلمات القرآن ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
نظم القرآن
يتجلى في علوم القرآن إصطلاح على شعبتين :
الأولى : السورة المكية وهي التي نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وإن نزلت خارج مكة ، وقيل أن قوله تعالى [ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا]( )، نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الطائف.
وتكون من الآيات المكية لأن المدار على ما قبل الهجرة وما بعدها ، والظل ما نسخته وأزالته الشمس وهو في الصباح ، أما الفيئ فهو الذي ينسخ ضوء الشمس بعد الزوال.
الثانية : السور المدنية وهي التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة وإن كان في مكة مثل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وهناك بعض آيات مكية ضمن سورة مدنية ، وكذا العكس لبيان أن نظم القرآن توقيفي من عند الله عز وجل ، وكان جبرئيل ينزل فيقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضع الآية الفلانية في الموضع الفلاني من السورة.
وعن الحسن البصري قال (كان جبريل عليه السلام يأتي النبي عليه السلام فيقول يا محمد إن الله يأمرك أن تضع آية كذا بين ظهراني آية كذا وكذا من السورة)( ).
وعن (ابن عباس : قلت لعثمان ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول فما حملكم على ذلك.
قال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا.
وتنزل عليه الآيات فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا.
وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم)( ).
لقد نزل القرآن منجماً وتدريجياً حسب الوقائع والأحداث والمصالح وحيث يشاء الله ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا]( ).
و(عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ]( )، فقال جبريل للنبي صلى الله عليهما السلام : يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة)( ).
ومن إعجاز القرآن قيام جبرئيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاً في ترتيب سور وآيات القرآن ، وكان جبرئيل يعارض النبي محمد بالقرآن مرة كل سنة ، وفي السنة الأخيرة من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عارضه به مرتين ، فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه الأجل.
وعارضه أي تدارس معه القرآن ، ومن أظهر وجوه المعارضة هنا تلاوة آيات وسور القرآن سورة سورة .
كتابة آيات القرآن
كان عدد من الصحابة يكتبون القرآن ، منهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنهم ابتداء وطواعية ولتسهيل حفظ الآيات ونشرها ، وعدم الإكتفاء بالحفظ في الصدور وهو من إعجاز القرآن ، وصدق إيمان المسلمين .
وكانوا يكتبون على المتيسر عندهم ومنه :
الأول : العسب : – جمع عسيب – وهو جريد النخل إذ كانوا يكشطون الخوص ، ويكتبون في الطرف العريض منه .
الثاني : اللّخاف : -جمع لخفة – وهي صفائح الحجارة اللينة التي ينطبع بها أثر الكتابة .
الثالث : الرقاع : -جمع رقعة- وتكون من الجلد .
الرابع : الأقتاب : -جمع قتب- وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير للركوب عليه .
الخامس : الرُّق –بفتح الراء- وهو الورق مع قلته .
و(الرِّقُّ( ): الصحيفة البيضاء لقوله تعالى فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ( ).
وسمّي به الورق لرقته .
السادس : الأكتاف : -جمع كتف- وهو العظم للبعير أو الشاة يكتب عليه إذا جف ويبس .
السابع : الكرانيف : وهي (أصول السعف العراض التي إذا يبست صارت أمثال الأكتاف.
وكَرْنَف النخلة: جرد جذعها من كرانيفه، انشد أبو حنيفة:
قد تَخِذَتْ سَلْمى بقَرْنٍ حائطا
واستأجرَتْ مُكَرْنِفا ولاقطا)( ).
لبيان قانون كتابة القرآن في عهد النبوة جهاد وليشكر المسلمون والمسلمات الله عز وجل على نعمة الورق والطباعة الحديثة ، ثم جاءت النسخ الإلكترونية لحفظ ما بين الدفتين ، وعلوم التفسير ، وكتب السيرة.
والجامع المشترك في تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين القرآن في الصلاة ، وكتابته على وسائل بدائية ثم الطباعة الحديثة هو آيات ، منها قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، وقوله تعالى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
قانون آيات القرآن ظاهرة المعنى والدلالة
من إعجاز القرآن أنه بيان لذاته ولغيره ، قال تعالى هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، فمن فضل الله عز وجل تعدد منافع الآية القرآنية ، فمع البيان ذكرت الآية أن القرآن هدى وموعظة للمتقين.
وهل الهدى في المقام مخصوص بالمتقين ، الجواب الآية أعم ، فالقرآن هدى للناس جميعاً ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]( ).
كما ورد بخصوص التوراة والإنجيل بأن كل واحد منهما نازل من عند الله وهدىَ للناس ، قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ]( ).
وجاءت أحكام القرآن بينة وواضحة في كل من :
الأول : العبادات كاقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، والصيام والحج.
الثاني : الأوامر والنواهي في المعاملات ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، وقال تعالى [وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )،
الثالث : بيان القرآن للصلة الحسنة مع أهل الكتاب ، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الرابع : خطط الدفاع ضد المشركين ، ومن إعجاز القرآن أنه عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في صد جيوش المشركين ، والنصر عليهم .
آية الجمع بين الأيتام والنكاح
قال تعالى [وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا]( ).
لقد جمعت الآية بين إنصاف اليتامى وبين إباحة النكاح إذ كانت اليتيمة في حجر وليها ، ويريد أن يتزوجها طمعاً بمالها وجمالها ، أو أنه لا يدفع لها من المهر إلا ما هو أدنى من مهر مثلها ، فدعته الآية لاختيار زوجة غيرها لقاعدة لا ضرر ولا ضرار ، فهذا الإختيار والعدول دفع للضرر بالذات ، والإضرار باليتيمة .
و(عن سعيد بن جبير قال : كان أهل البيت يكون عندهم الأيتام في حجورهم ، فيكون لليتيم الصرمة من الغنم ويكون الخادم لأهل البيت ، فيبعثون خادمهم فيرعى غنم الأيتام ، أو يكون لأهل اليتيم الصرمة من الغنم ويكون الخادم للأيتام ، فيبعثون خادم الأيتام فيرعى غنمهم.
فإذا كان الرسل وضعوا أيديهم جميعاً أو يكون الطعام للأيتام ويكون الخادم لأهل البيت ، فيأمرون خادمهم فيصنع الطعام ويكون الطعام لأهل البيت ، ويكون الخادم للأيتام فيأمرون خادم الأيتام أن يصنع الطعام فيضعون أيديهم جميعاً.
فلما نزلت هذه الآية [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا]( )،قالوا : هذه موجبة فاعتزلوهم وفرقوا ما كان من خلطتهم ، فشق عليهم ذلك.
فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا : إن الغنم قد بقيت ليس لها راع ، والطعام ليس له من يصنعه .
فقال : قد سمع الله قولكم فإن شاء أجابكم ، فنزلت هذه الآية [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى]( ).
ونزل أيضاً [وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى]( )، فقصروا على أربع فقال : كما خشيتم أن لا تقسطوا في اليتامى وتحرجتم من مخالطتهم حتى سألتم عنها ، فهلا سألتم عن العدل في جمع النساء)( ).
تفسير آيات الزكاة
الزكاة فرض ، وركن من أركان الإسلام ، وهي فريضة على كل مسلم عاقل إذا بلغ ماله النصاب.
والزكاة لغة النماء والزيادة والمدح وصفوة الشئ والطهارة ، وهي في الإصطلاح إخراج قدر مقدر قليل من المال الشخصي في وقت مخصوص لأصناف ثمانية مخصوصة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
واقترنت الزكاة مع الصلاة في اثنتين وثمانين آية من القرآن لبيان الملازمة بينهما مع التباين في متعلق التكليف ، إذ أن الصلاة واجب مطلق ، يجب أن تؤدى على كل حال ، أما الزكاة فلا تجب إلا عند بلوغ النصاب في أعيان مخصوصة وتجب في النقدين ، وتسمى الأثمان ، وتشمل العملة الذهبية والفضية وما يعادلها من الأوراق النقدية عندما يحول عليها الحول الهجري القمري .
و(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، يُطَوّقُه يوم القيامة، يأخذ بلِهْزِمَتَيْه – يعني بشدقَيْه- يقول : أنا مَالُكَ ، أنا كَنزكَ ، ثم تلا هذه الآية وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا: ما فينا أحد يحب ذلك يا نبي الله، قال: بل كلكم يحب ذلك، ثم قال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما عدا ذلك فهو مال الوارث)( ).
وفيه تفسير لآية الصدقات ، وحض على أداء الزكاة والخمس والإنفاق في سبيل الله ، والذي يصاحب الإنسان في قبره ، ويكون واقية له يوم القيامة.
و(بهذا الاسناد قال: لما نزلت هذه الآية [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل مال يؤدى زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع ارضين، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الارض)( ).
كما بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجوب الزكاة في أنواع من الحبوب وفي الغنم والبقر والإبل .
و(عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإِبل صدقة . وفي لفظ لمسلم : ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)( ).
والوسق ستون صاعاً ، فيكون المجموع ثلاثمائة صاع ، ويكون بالكيلو نحو ثمانمائة وخمسين كيلو غرام ، وقيل أقل من هذا وأنه (672) كغم.
و(عن جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الابل صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوْسُق من التمر صدقة)( ).
بيان النبي (ص) لمقادير الزكاة
من الإعجاز في فريضة الزكاة أنها تطهير للنفوس ، وتنقية للصلات الإجتماعية ومنع من الفتن ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
والزكاة سنة في منهاج الأنبياء ، ونوع طريق لتثبيت الإيمان في المجتمعات ، وورد في التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
ومن الإعجاز في المقام اقتران وجوب الصلاة والزكاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( )، لبيان المناجاة بين المؤمنين وأمر بعضهم بعضا بأداء الصلاة والزكاة.
لقد فصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدار الزكاة بين الزراعات التي تسقي الأمطار والعيون ، أو بالواسطة والألة.
و(عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر)( ).
وقال أبو حنيفة : يجب العشر في جميع البقول والخضروات كالثمار إلا الحشيش والحطب ، وتجب الزكاة في كل قليل أو كثير منها ، ولكنه خلاف الحصر في ظاهر النصوص أعلاه ومشهور علماء الإسلام.
و(عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انك تأتى قوما اهل كتاب فادعهم إلى شهادة ان لا اله الا الله.
فان هم اجابوك لذلك فأعلمهم ان الله قد افترض عليهم (خمس صلوات في كل يوم وليلة.
فان هم اجابوك لذلك فاعلمهم ان الله قد افترض عليهم صدقة في اموالهم تؤخذ من اغنيائهم فترد في فقرائهم فان هم اجابوك لذلك .
فاياك وكرائم اموالهم واياك ودعوة المظلوم فانها ليس بينها وبين الله حجاب)( ).
من منافع الزكاة
وفي الزكاة مسائل :
الأولى : إنها نظام سماوي للتكافل الإجتماعي ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثانية : الزكاة مصداق عملي مالي لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثالثة : في إخراج الزكاة بعث للأمل في القلوب المنكسرة.
الرابعة : الزكاة دعوة للإيمان وتعاهد الفرائض.
الخامسة : التعاهد العام للزكاة سبب لنشر الأمن في المجتمعات.
السادسة : الزكاة إختيار وامتحان بالأموال وهي من أعز الأشياء عند الإنسان ، ومن معاني تسميتها الزكاة البشارة والوعد بالخلف والعوض من عند الله ، وأن الله عز وجل يبارك وينمي ويزيد المال باخارج الزكاة منه ، ولبيان أن الزكاة استثمار وادخار وحفظ للمال ، قال تعالى [وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
السابعة : تنمية ملكة الصبر عند الغني والفقير .
الثامنة : منع الفقير من التعدي .
لذا وردت النصوص العديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير آيات الزكاة ، وبيان أحكامها ، والتشديد على وجوب إخراج الزكاة ، وبيان الثواب العظيم عليها.
ومن التفسير النبوي للإقتران الزكاة بالصلاة في آيات متعددة في القرآن ، ما ورد (عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة ، وآخر ما يبقى الصلاة ، وأول ما يحاسب به الصلاة.
يقول الله : انظروا في صلاة عبدي ، فإن كانت تامة كتبت تامة ، وإن كانت ناقصة قال : انظروا هل له من تطوّع؟ فإن وجد له تطوّع تمت الفريضة من التطوّع.
ثم يقول : هل زكاته تامة؟ فإن وجدت زكاته تامة كتبت تامة ، وإن كانت ناقصة قال : انظروا هل له صدقة؟ فإن كانت له صدقة تمت زكاته من الصدقة)( ).
وتتصف أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الزكاة بأنها ترغيب وتخويف وكشف للمغيبات في عالم الآخرة ، وفيها بعث للسكينة في النفوس إذ ورد (عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي مال أديت زكاته فليس بكنز)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه ، ومن زاد فهو خير له.
وقال صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح للرجل الصالح)( ).
آيات الرؤيا وتأويلها
وردت الرؤيا وتأويلها في آيات متعددة من القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن تأويل الأحاديث الحكمة والعلم وتعبير الرؤيا .
وتدل الآية على أن تأويل يوسف للرؤيا إنما هو بالوحي ، ويتجلى مصداقه بتأويله لرؤيا ملك مصر ، وفي رواية أن يوسف عليه السلام أخبره ابتداءً عن الرؤيا .
الخامسة : (عن جابر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله [لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ]( )، قال : ما سألني عنها أحد : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ، وفي الآخرة الجنة)( ).
و(عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله [لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ]( )، قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له)( ).
السادسة : قوله تعالى [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ]( ).
وهذه الآية إخبار عن علم الأنبياء بالمغيبات بالمقدار والموضوع الذي يأذن به الله عز وجل لكل نبي وليس مطلقاً .
الثامنة : قوله تعالى [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ * وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ]( ).
وذكرت الآية بصيغة الظن لقوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، هو مصداق لقوله تعالى [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ]( )، وحتى لو أخبر النبي عن تأويل الرؤيا والمغيبات عامة فقد يمحوه الله ، ومنه مثلاً الدعاء والصدقة عند الرؤيا المكروهة فان الله عز وجل يصرفها وإن تم تأويلها بوقوع مكروه وشر.
وعن (أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة)( ).
والمراد من كون الرؤيا جزءً من ستة وأربعين جزءً من النبوة أن الأشهر الستة الأولى من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى فيها الرؤيا ويأتي مصداقها كفلق الصبح.
ومدة البعثة النبوية (23) سنة والأشهر الستة نصف السنة الواحدة لذا فهي جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة.
ولكن هذا التأويل لا يمنع من المعنى الظاهري للحديث ، وأن الرؤيا واقعاً بالعد والإحصاء بذات النسبة من علوم النبوة.
العاشرة : قوله تعالى [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( ).
التاسعة عشرة :قوله تعالى [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]( ).
ويتعلق موضوع الآية في إبراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل ، والمشهور أنه إسحاق .
العشرون : قوله تعالى [فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ]( ).
ويشمل موضوع الآية علم الرؤيا ، لأن هذا الفعل إرادة ذبح إبراهيم عليه السلام لابنه تأويل لرؤياه بلحاظ أن رؤيا الأنبياء حق .
الواحدة والعشرون : قوله تعالى [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ]( ).
الثانية والعشرون :قوله تعالى [قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالثة والعشرون : قوله تعالى [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ]( ).
الرابعة والعشرون : قوله تعالى [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ]( ).
الخامسة والعشرون : قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
قانون رؤيا النبي حجة
في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وتأويل الرؤيا الصادقة والإنتفاع منها ، والإجتهاد بالدعاء محو المكروهة من الحكمة في الآية أعلاه ، وقد رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤى متعددة وأخبر أصحابه بها ، فوقعت كما أخبر منها بخصوص معركة أحد ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إني رأيت بقراً تنحر ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكره الخروج من المدينة لبيان أن رؤيا النبي حجة.
وكان عبد الله بن أبى ابن سلول يرى ذات رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال (يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم) ليقاتلوهم في الأزقة ولكن رهطاً من الصحابة ألحوا بالخروج لملاقاة المشركين خاصة ممن فاتهم حضور معركة بدر ، وقالوا نخشى أن يقولوا حِبنا وخفنا .
ونزلت المصيبة بالمسلمين في معركة أحد بسقوط سبعين شهيداً عدا الجرحى وكان عدد جيش المشركين ثلاثة آلاف ، وعدد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان سبعمائة ، ومع أن عددهم أقل من ربع عدد المشركين ، إلا أنه أفزع المشركين لأنهم يعلموم بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل ثلاث سنوات خائفاً متخفياً ليس معه إلا أحد أصحابه ، قال تعالى [إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وإذا يقف معه في معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة سبعمائة من المهاجرين والأنصار ، يقاتلون دونه مع تقيدهم بالصلاة والفرائض العبادية ، ونبذهم للشرك الذي عليه رجالات قريش.
وتجلى مصداق الوحي في معركة الخندق ، إذ هجم عشرة آلاف من المشركين على المدينة فبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فيها حفروا خندقاً حولها فعجز المشركين عن دخولها ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الرؤيا مقدمة لصلح الحديبية
بعد غزو عشرة آلاف من المشركين مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شوال من السنة الخامسة للهجرة واضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لحفر خندق حول المدينة بمشورة من سلمان الفارسي ومحاصرة المشركين المدينة نحو عشرين ليلة ، ثم انسحبوا بعد أن قتل الإمام علي عليه السلام فارس مضر عمرو بن ود العامري ، وهبوب ريح شديدة عليهم ، قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام بأمان ومنهم من حلق رأسه ومنهم من قصره لبيان أدائهم مناسك العمرة.
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بهذه الرؤيا المباركة ولم يكتمها ، وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يمر عام على معركة الخندق ليبشر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالعمرة.
قال لهم (إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم ومقصرين)( ).
فدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل المدينة ومن حولها إلى التوجه إلى العمرة لبيان إقامته حكماً عاماً على الرؤيا وخرج معه ألف وأربعمائة من الصحابة ليس معهم سلاح إلا سلاح الراكب ، وهي سيوف صغيرة في أغمادها.
حتى إذا وصلوا إلى الحديبية على حدود الحرم وتبعد عن مكة نحو (22) كم تصدت خيل ورجال قريش لمنعهم من دخول الحرم ، ثم جرت مفاوضات بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش برئاسة سهيل بن عمرو وكاد أن يقع بينهم قتال ، وبعد أخذ ورد تم الصلح كما بيناه في الأجزاء السابقة.
ومن شروطه أن يرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم يأتون في العام القادم للعمرة وهو الذي حصل وتسمى عمرة القضاء.
(فقالت قريش : نقاضيك على أن تنحر الهدي مكانه وتحلق وترجع ، حتى إذا كان العام المقبل نخلي لك مكة ثلاثة أيام ، ففعل.
فخرجوا إلى عكاظ فأقاموا فيها ثلاثة أيام واشترطوا عليه أن لا يدخلها بسلاح إلا بالسيف ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة إن خرج معه ، فنحر الهدي مكانه وحلق ورجع حتى إذا كان في قابل من تلك الأيام دخل مكة ، وجاء بالبدن معه ، وجاء الناس معه ، فدخل المسجد الحرام فأنزل الله عليه لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ( ).
أي أن الله عز وجل هو الذي جعل رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصبح صدقاً وواقعاً.
ليكون من بركات رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم التحدي للمشركين ، وحصول الفتح ، والعمرة في العام التالي ، ولا يضر به طعن المنافقين بأنهم لم يعتمروا في ذات السنة وهي السادسة للهجرة ، ومع هذا أجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يقل بوقوع العمرة في ذات السنة .
ونزل في طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الحديبية إلى المدينة قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وعن عبد الله مسعود قاله (لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نائم، قال: فقلنا أيقظوه، فاستيقظ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
فقال : افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، فكذلك من نام أو نسي.
قال : وفقدنا ناقة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فوجدناها قد تعلَّق خطامها بشجرة ، فأتيته بها، فركب فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي .
قال : وكان إذا أتاه اشتدّ عليه; فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بركات الرؤيا التي يراها وكيف وقف بعدها القتال بين المسلمين والمشركين حتى تم فتح مكة سلماً [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
ليتجلى قانون رؤيا النبي تتفرع عنها المعجزات المتجددة.
وهل من ملازمة بين الرؤيا الصادقة وبين وقوع مصداقها في الواقع ، الجواب لا ، لذا لابد من الإجتهاد بالدعاء لتنجز الرؤيا النافعة ورؤيا البشارة ، والدعاء لصرف رؤيا الإنذار.
معجزة قلة عدد المشركين في التصور الذهني
لقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام ليلة بدر أن عدد المشركين قليل ، فقص رؤياه على أصحابه فاستبشروا خيراً واحتسبوها أمارة على النصر على المشركين ثم تجلى مصداق الرؤيا في الواقع يوم بدر عند التقاء الجيشين ، قال تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
ليزداد الصحابة يقيناً ، ويبذلوا الوسع في الدفاع عن النبوة والتنزيل.
و(عن ابن مسعود قال : لقد قللوا في أعيينا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ، قال : لا ، بل مائة ، حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه ، قال : كنا ألفاً)( ).
لقد استخف رؤساء جيش المشركين يوم بدر بالمسلمين من جهة قلة عددهم وأسلحتهم ومؤونهم .
و(عن عكرمة في قوله [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ] إلى قوله { وساءت مصيراً } قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبي العاص بن منية بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف . قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة ، خرجوا معهم بشبان كارهين ، كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد ، فقتلوا ببدر كفاراً ورجعوا عن الإسلام ، وهم هؤلاء الذين سميناهم)( ).
لقد تفضل الله عز وجل ونسب النصر في معركة بدر لنفسه ، وخاطب المسلمين بالآية لأن هذا النصر هبة ونفع عظيم لهم جميعاً ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وفي المثل : إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وفي ابن شهاب وموسى بن عقبة الطويل عن تفاصيل وقائع معركة بدر ورد (فلما حرض أبو جهل قريشا على القتال أمر النساء يعولن عمر فقمن يصحن : واعمراه واعمراه ، تحريضا على القتال فاجتمعت قريش على القتال فقال عتبة لأبي جهل : سيعلم اليوم أي الأمرين أرشد ، وأخذت قريش مصاف هذا القتال وقالوا لعمير بن وهب : اركب فاحذر محمدا وأصحابه.
فقعد عمير على فرسه فأطاف برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم رجع إلى المشركين فقال : حذرتهم بثلثمائة مقاتل زادوا شيئا أو نقصوا شيئا وحذرت سبعين بعيرا ونحو ذلك ولكن أنظروني حتى أنظر هل لهم مدد أو كمين فأطاف حولهم وبعثوا خيلهم معه فأطافوا حولهم ثم رجعوا فقالوا : لا مدد لهم ولا كمين وإنما هم أكلة جزور وقالوا لعمير حرش بين القوم فحمل عمير على الصف بمائة فارس)( ).
وفيه استدراج للمشركين للتجرأ والإبتداء في القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
والمراد من (أَكَلَةِ جزور) أي أن عدد المسلمين كجماعة يستجمعون على أكل بعير فيكفيهم .
وفي رواية (قال أبو جهل : ما هم إلا اكلة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لاخذوهم أخذا باليد)( ).
وبين القولين عموم وخصوص مطلق ، فالمراد من الرأس هو رأس الجزور وحده أي أن عدد الذي يجتمعون عليه أقل ، ولكن عندما التقى الجيشان وسقط عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة رأى المشركون أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عددهم كثير فدّب الخوف في نفوسهم وكان من أسباب هزيمتهم في القتال.
تحريم زواج نساء النبي (ص)
قد حرّم الله عز وجل الزواج من نساء النبي بعد وفاته ، وفيه أذى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ (أن طلحة بن عبيد الله قال : لئن مات محمد لأتزوجن بعائشة فنزل [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا]( ).
يعني : ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد وفاته أبداً [إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا] ( )، في العقوبة)( ).
لقد أخبر الله عز وجل عن صفة تشريف فازت بها نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الأمومة للمؤمنين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
للإكرام المترشح عن صلة الزوجية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما فاز أهل البيت بآية المودة ، قال تعالى [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ).
ويدل قول الله عز وجل [وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا]( )، لبيان أن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير نكاح أزواجه وهو من إعجاز القرآن ، وإن دأب بعض المفسرين على أن علة الإيذاء هي زواجهم من نسائه ، ولكن الآية أعم ، إذ أن نزول آية تحريم الزواج من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده باعث للسكينة ، وبرزخ دون الأذى.
(وروي أن أم الدرداء قالت لأبي الدرداء عند موته إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحاك . وإني أخطبك إلى نفسي في الآخرة فقال لها فلا تنكحي بعدي ، فخطبها معاوية بن أبي سفيان فأخبرته بالذي كان ، وأبت أن تتزوجه)( )، مع سلطانه وملكه.
حرمة التعدي نعمة ورحمة وهداية
لقد قيد القرآن قتال النبي والمسلمين بصبغة الدفاع المحضّ كما في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وابتدأت الآية أعلاه بالأمر إلى المسلمين بالقتال إلا من كان عنده عذر وسرعان ما قيدت الآية هذا القتال ، فليس ثمة كلمات بين الأمر بالقتال وبين تقييد القتال من وجوه :
الأول : اشتراط القتال في سبيل الله نية وفعلاً وغاية ، أي ليس لمصلحة دنيوية ، أو طلب مال أو جاه أو ملك أو غزو ، فان قلت قد يكون قيد توسعة لسلطان الإيمان ، الجواب إنه من مصاديق في سبيل الله.
الثاني : حصر قتال المسلمين بالذين يقاتلونهم ويعتدون عليهم ، ويجهزون الجيوش لقتال وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف التنزيل ، لبيان قانون قتال المسلمين دفاع وعن حاجة ، وقد تقدم البيان ، قال تعالى [لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ]( ).
الثالث : مع ابتداء الآية أعلاه بالأمر العام للمسلمين فانها تضمنت النهي الصريح عن التعدي والظلم بقوله تعالى [وَلَا تَعْتَدُوا] أي في حال السلم والحرب ، وقبل واثناء وبعد المعركة ، للقبح الذاتي للتعدي ولما يترشح عنه ، ولأنه خلاف الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فالرحمة صفة الرسالة ومنها نهي أجيال المسلمين والناس كافة المتعاقبة عن التعدي .
الرابع : بيان قانون بغض الله عز وجل للمعتدين ، الظالمين ، والتعدي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فلابد من التنزه عنه .
و(عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وسن لكم سننا فلا تنتهكوها ، وحرم عليكم أشياء فلا تعتدوها ، وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان من ربكم رحمة منه فاقبلوها ولا تبحثوا عنها)( ).
والتعدي قبيح من الآمر والمأمور ، والسيد والعبد ، والفرد ، والجماعة ، والوالي ، والجيش ، وأول من ظلم قابيل إذ قتل أخاه هابيل.
و(عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِىُّ قَالَ : قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تَيْمَاءَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ ابْنَ هُرْمُزَ ظَلَمَنِى وَاعْتَدَى عَلَىَّ.
فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ شَيْئًا ثُمَّ عَادَ لَهُ فِى الشِّكَايَةِ لاِبْنِ هُرْمُزَ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ شَيْئًا.
فَقَالَ وَغَضِبَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا نَجِدُ فِى التَّوْرَاةِ الَّتِى أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الإِمَامِ مِنْ جَوْرِ الْعَامِلِ وَظُلْمِهِ شَىْءٌ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ فَإِذَا بَلَغَهُ فَأَقَرَّهُ شَرِكَهُ فِى جَوْرِهِ وَظُلْمِهِ ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ نَزَعَ ابْنَ هَرْمُزَ عَنْ عَمَلِهِ)( ).
المقدمات الدفاعية لمعركة الخندق
في مقدمات معركة الخندق ، وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر الخندق لدفع شرور عشرة آلاف من المشركين مجهزين بالأسلحة والعتاد والمؤون زاحفين على المدينة المنورة من مكة والقبائل التي حولها وحلفاء قريش ، وزف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ البشارات إلى أصحابه بالفتح ، وانتشار الإسلام ليدل بالدلالة التضمنية على خيبة جيوش المشركين ، ومنها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم)( ).
إذ روى النسائي (عن أبي سكينة رجل من المحررين عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذ المعول ووضع ردائه ناحية الخندق وقال [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا]( ).
فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه و سلم برقة.
ثم ضرب الثانية وقال : وتمت الآية فندر الثلث الآخر فبرقت برقة فرآها سلمان.
ثم ضرب الثالثة وقال [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا]( ) فندر الثلث الباقي وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ رداءه وجلس قال سلمان : يا رسول الله رأيتك حين ضربت ! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة.
قاله له رسول الله صلى الله عليه و سلم : رأيت ذلك يا سلمان ؟ فقال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله.
قال : فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني – قال له من حضره من أصحابه يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ديارهم ويخرب بأيدنا بلادهم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم.
ثم ضربت الضربة الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني ، قالوا يا رسول الله ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ضربت الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني.
معجزة حديث اتركوا الحبشة والترك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حفر الخندق : دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم)( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي البشارة بالفتح وهم في حال الشدة والضيق والخوف ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]( ).
والمراد ليس الترك أهل بلاد الأناضول ، ودولة تركيا ، إنما رجال هذه أوصافهم من المشرق ، وكأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى المغول .
وذكرت كتب التأريخ أن سبب غزو المغول بقيادة جنكيزخان أطراف إيران إقدام حاكم مدينة أوترار الخوازمية على قتل تجار مغول إذ اتهمهم بالتجسس ، واستولى على أموالهم وكانت نحو (500) بعير محملة بالبضائع من الذهب والحرير الصيني وغيره ، وبيعت في السوق وإرسل ثمنها إلى ملك خوارزم محمد شاه الثاني الذي كان يتبع لحكم السلاحقة.
وبعث جنكيزخان رسالة إلى السلطان محمد خوارزمشاه بتسليم بدل خان ، وتعويض الخسائر ، ولكن بدل خان ابن عمة السلطان ، وقيل تم قتل التجار باذنه .
وكان التتار بحاجة إلى الأسلحة وإلى أسواق لبيع بضائع الدول التابعة له ، وقيل أن السلطان محمد خوارزمشاه غلق الطرق ، وتعطلت التجارة بين الشرق والغرب ، وذكر أن الخليفة العباسي أحمد الناصر لدين الله قد أغرى المغول لغزو خوارزم بسبب العداوة بينه وبين خوارزمشاه.
وقال ابن الأثير (وإن كان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحاً من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد، وراسلهم في ذلك، فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب)( ).
وتتفرد قبيلة جنكيزخان بلقب الخان والسلطان ، فهم رؤساء قومهم ، لا يتقدم عليهم أحد وإن بلغ مرتبة الإمارة والرياسة كما في (تيمور الذي استخلص الممالك وسلك المسالك فرفع سيورغاتمش دفعاً للمطاعن وقطعاً للسان سنا كل طاعن)( ).
وسيورغاتمش من ذرية جنكيزخان ، ولم يحمل تيمور لقب خان لأنه لا ينتسب إلى ذرية جنكيزخان ، ويتمورلنك (736-27 شعبان 807 هجرية) وهو مسلم قرّب علماء الدين وذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لايحكم بالشريعة ويصلي قائماً مع أنه أعرج لذا معنى تيمورلنك أي تيمور الأعرج ، مؤسس الامبراطورية التيمورية في افغانستان وإيران وآسيا الوسطى وقسمت مملكته المترامية الأطراف بعد وفاته.
وكانت مراسلات ودية بين جنكيز خان والسلطان خوارزمشاه ، واغتاظ السلطان عن مخاطبة جنكيز خان له بأنه (أعز أولاده) إذ بعث إلى خوارزمشاه رسلاً وهدايا.
(وقال الرسول : إن القان الأعظم يسلم عليك ويقول لك ليس يخفى علي عظم شأنك وما بلغت من سلطانك ونفوذ حكمك على الأقاليم وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات وأنت عندي (مثل أعز أولادي) وغير خاف عنك أنني تملكت الصين.
وأنت أخبر الناس ببلادي وأنها مثارات العساكر والخيول ومعادن الذهب والفضة وفيها كفاية عن غيرها فإن رأيت أن تعقد بيننا المودة وتأمر التجار بالسفر لتعلم المصلحتين فعلت فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه وبشر جنكزخان بذلك واستمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار.
وكان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر ومعه عشرون ألف فارس فشرهت نفسه إلى أموال التجار وكاتب السلطان يقول إن هؤلاء القوم قد جاءوا بزي التجار وما قصدهم إلا التجسس فإن أذنت لي فيهم فأذن له بالاحتياط عليهم فقبض عليهم وأخذ أموالهم.
فوردت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول إنك أعطيت أمانك التجار فغدرت والغدر قبيح وهو من سلطان الإسلام أقبح فإن زعمت أن الذي فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا وإلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به فحصل عند خوارزم شاه من الرعب ما خامر عقله فتجلد وأمر بقتل الرسل فقتلوا)( ).
وهل فعل خوارزم شاه هذا والذي صار سبباً للبلاء العام خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اتركوا الترك ما تركوكم) الجواب نعم.
لبيان الحاجة للإهتداء بالكتاب والسنة التي هي شعبة من الوحي.
قانون مصاحبة الكتاب السماوي أجيال الناس
الحمد لله الذي أبى أن يترك الناس بعد الرسالة الخاتمة دون كتاب سماوي مصاحباً لهم ، وهو القرآن وزاد الله من فضله وأخبر بأن القرآن كلامه ، لتكون هذه المصاحبة من أعظم النعم على الناس من وجوه :
الأول : القرآن منهاج قويم ، وصراط مستقيم ، وفي التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
الثاني : يضئ القرآن ظلمة الدنيا ، ويزيح الفتن ومفاهيم الكفر والضلالة.
الثالث : نزول القرآن شاهد على حب الله عز وجل للناس ، لذا ليس من حاجب أو برزخ بين تلاوة آيات القرآن ، والتدبر فيها وبين أي إنسان ، بل إن الله عز وجل دعا جميع الناس وأجيالهم المتعاقبة إلى هذا التدبر في آيات القرآن ، إذ أمر رسوله الكريم والمسلمين بتلاوة القرآن بصيغة جهرية على نحو الوجوب العيني في كل ركعة مما يأتي :
الأولى : ركعتا صلاة الصبح .
الثانية : صلاة المغرب ، وعدد ركعاتها ثلاث ركعات .
الثالثة : صلاة العشاء ، وعدد ركعاتها أربع ركعات .
الرابع : نزول آيات الأحكام والمعاملات والمواريث بما يمنع من الخصومة والشقاق .
لقد احتج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض عندما أخبرهم الله عز وجل إذ قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ]( ) فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن فضل الله نهي القرآن عن الفساد والقتل ، وتضمنه العقوبة الحاضرة عليهما ، والإثم والوعيد بالعقاب الأليم في الآخرة .
جمع القرآن أيام النبي محمد (ص)
لقد كان الصحابة يتلقفون ما ينزل من آيات القرآن بالكتابة والتدوين ، والذي أسس علم كتابة آيات القرآن هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحالما تنزل عليه الآية أو الآيات من القرآن ينادي على بعض كتاب الوحي ليكتبوها ، ويتلوها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة فيسمعها المسلمون وينسخها الكتبة بعضهم من بعض .
و(عن زيد بن ثابت قال كنا حول رسول الله صلى الله عليه و سلم نؤلف القرآن إذ قال طوبى للشام فقيل له ولم قال لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه زاد فى الدلائل نؤلف القرآن فى الرقاع)( ).
والمراد من التأليف هنا جمع الآيات والسور كل سورة منفصلة عن السورة الأخرى ، وقوله (حول رسول الله) أي بحضور وعلم وتوجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل أن القرآن لم يجمع أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتجدد التنزيل فيضطر إلى التغيير والتوسعة في كل مرة .
ولكن الحديث أعلاه يدل على جمع القرآن أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكر أن القرآن جمع أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل كل من :
الأول : الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الثاني : عبد الله بن مسعود .
الثالث : أبي بن كعب .
الرابع : معاذ بن جبل .
الخامس : زيد بن ثابت .
وكانت آيات القرآن محفوظة في صدور المسلمين وجمع القرآن من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
وقام أبو بكر يجمع القرآن خاصة بعد معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب التي استشهد فيها سبعون من الصحابة القراء ، وخشي على القرآن من الضياع بتكرار وقائع أخرى يقتل فيها القراء.
فأمر أبو بكر زيد بن ثابت بجمع القرآن ، وهذا لا يعني أن القرآن لم يكن مجموعاً إلا أن أبا بكر أراد نسخة جامعة لما مكتوب عند الصحابة بحيث لا تفوت منه آية أو آيات.
وعن (عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف قال يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويولاها رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه كافر يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبد الله يا أهل الكوفة أو يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله عز و جل يقول : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ” فالقوا الله بالمصاحف)( ).
ومن الذين يجيدون القراءة والكتابة من أهل مكة أيام البعثة النبوية هم:
الأول : الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام. الثاني : عمر بن الخطاب.
الثالث : عثمان بن عفان .
الرابع : أبو عبيدة الجراح .
الخامس : طلحة بن عبيد الله.
السادس : يزيد بن أبي سفيان .
السابع : أبو حذيفة بن أبي ربيعة .
الثامن : حاطب بن عمرو العامري .
التاسع : أبو سلمة المخزومي .
العاشر : أبان بن سعيد الأموي .
الحادي عشر : خالد بن سعيد الأموي .
الثاني عشر : عبد الله بن سعد .
الثالث عشر : حويطب نبعد العُزى .
الرابع عشر : أبو سفيان بن حرب.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جعل بدل فكاك عدد من أسرى بدر تعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة ، وفيه شاهد على صدق نبوته ، وعلى أن آيات القرآن معجزة نازلة من عند الله ، قال تعالى [لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
قانون الدعاء ضرورة
لقد خاطب الله عز وجل المؤمنين في كل زمان ومكان بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]( )، وفيه وعد وعهد ، وفاز الأنبياء بنعمة الإستجابة من عند الله عز وجل .
(وروى المعتمر عن أُبي بن كعب عن أرقم أنّ إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار : لا إله إلاّ أنت سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك.
قال : ثمّ رموه في المنجنيق إلى النّار من مضرب شاسع فاستقبله جبرئيل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة .
قال : أمّا إليك فلا .
قال جبرئيل : فاسأل ربّك .
فقال إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فقال الله سبحانه يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ( ).
وهذا الحديث لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يثبت له سند معروف.
وجبرئيل لا يفعل أمراً إلا باذن وأمر الله عز وجل ، قال تعالى بخصوص الملائكة [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
وكيف يقول إبراهيم (حسبي من سؤالي علمه بحالي) وقد ورد في مواضع عدة من القرآن سؤال إبراهيم عليه السلام الله عز وجل لنفسه ولذريته وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين ، ولعمارة بيت الله.
ومن الإعجاز في المقام ورود سورة في القرآن باسم سورة إبراهيم ، منها ست آيات متتاليات تتضمن الدعاء والمسألة والتضرع والثناء على الله ورجاء الإستجابة وبلغة الدعاء وهي [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ]( ).
لقد أسس آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم مدرسة الدعاء لتبقى حاجة لأهل الأرض ينهلون منها النعم والأجر والثواب ، لقانون (الدعاء ضرورة) شخصية ونوعية ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ]( )، وقال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
أي زيادة على ما كتب لكم من الرزق وطول العمر والعافية والذرية وصرف البلاء وغيرها .
و(وفي الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، و ملح عجينك .
وعن الصادق عليه السلام : عليكم بالدعاء فانكم لا تقربون إلى الله بمثله ، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، فان صاحب الصغار هو صاحب الكبار)( ).
دعاء النبي (ص) يوم بدر
لقد وقعت معركة بدر بين النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار من جهة وبين مشركي قريش من جهة أخرى في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية ، وكانت من أخطر ما واجه الإسلام لأن المشركين سعوا بالسيوف والرماح للإبادة الجماعية وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
لقد نزل قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، قبل الهجرة ، إذ عزم المشركون على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه فنزل جبرئيل عليه السلام وأمره بالهجرة في ذات الليلة كما تقدم بيانه.
ولكن مشركي قريش وحلفاءهم استمروا في محاولات قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو اغتياله ، وحتى بعد فتح مكة كما في واقعة حنين ، وهجوم جيوش هوازن وثقيف المباغت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في وادي حنين.
لولا فضل الله وانزاله جنوداً لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهزيمة المشركين ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
وتسمى معركة بدر في أغلب كتب التفسير والسيرة (غزوة بدر) بمعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا في هذه المعركة ، ولكن الواقع بخلافه ، فلم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، إنما كان يخرج بين الفينة والأخرى بأصحابه للإستطلاع ، ونشر الإسلام والصلاة في أفواه القرى وأكثر أهلها كفار فلم يتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ولا لأنعامهم ومواشيهم.
وفي أسباب معركة بدر أن دعوى إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام وتتألف من ألف بعير محملة بالبضائع ليس من بيت من أهل مكة إلا وقد شارك فيها إلا القليل ، وكأن هذه المشاركة من المكيدة لتحريض أهل مكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند قدوم القافلة ، لذا خرج نحو ألف من أهل مكة في ثلاثة أيام لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدر ، بذريعة إرادته الإستيلاء على القافلة.
واستشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في الطريق إلى بدر عندما علم بقدوم جيوش قريش للقتال ، وأكد طلب المشورة من الأنصار خاصة لأنهم تعهدوا بايوائه والذب عنه في المدينة وهم الآن خارجها ، فاظهروا النصرة والتأييد .
وقال عبد الله بن مسعود (شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال : لا نقول كما قال قوم موسى لموسى [اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا]( )، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره يعني قوله)( ).
ثم أن مقدمات وبدايات ووقائع معركة بدر تكشف بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو الغازي بالإضافة إلى قانون لم يبدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً إذ اصطف الجيشان وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بعدم البدء بالرمي ، وسقط منهم قتيل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث أصحابه على الصبر إلا أنه اجتهد بالدعاء من عشية معركة بدر .
و(عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : اللهم أنشدك عَهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تُعْبَد، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك فخرج وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( ).
والآية أعلاه مكية ، لتصبح بشارة ووعداً يوم بدر ، وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليكون إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن مواضع مصارع رؤساء قريش يوم بدر من مصاديق تفسيره لهذه الآية الكريمة وكذا وعيده لبعضهم وهو في مكة عندما كانوا يكثرون من إيذائه ومع أن عدد جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين في الميدان ، وأسلحتهم وقوتهم وإبلهم أكثر أضعافاً ، وكان معهم مائة فرس ، أما المسلمون فكانت عندهم فرسان.
قانون إمتناع النبي (ص) عن البدء بالقتال
لقد امتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتال ، وكان يرجو أن ينصرف جيش قريش خاصة بعد أن علموا وقبل أن يصلوا إلى بدر بأن قافلة أبي سفيان سلمت ، وصارت قريباً من مكة ، وقد أرسل أبو سفيان لجيش قريش يحضهم على الرجوع إلى مكة.
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ : إنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فَقَدْ نَجّاهَا اللّهُ فَارْجِعُوا.
فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَرِدَ بَدْرًا – وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ سُوقٌ كُلّ عَامٍ – فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا ، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا ، فَامْضُوا)( ).
ورجع الأحنس بن شريق ببني زهرة من الجحفة وكان حليفاً لهم ، إذ قال لهم قد سلمت أموالكم ، ونجى صاحبكم مخرمة بن نوفل وخرجتم لتمنعوه وماله ، فاحسبوا جبنها عليّ وارجعوا ولا تلتفتوا إلى ما يقول هذا يعني أبا جهل ، فاطاعوه وسلموا من القتل والخزي في النشأتين ، وصار الأخنس مطاعاً عندهم.
وعن الإمام علي عليه السلام (قال لما دنا القوم منا وصاففناهم إذا برجل منهم يسير في القوم على جمل أحمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب الجمل الأحمر ثم قال إن يك في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الاحمر.
فجاء حمزة فقال هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويأمر بالرجوع ويقول يا قوم أعصبوها اليوم برأسي وقالوا جبن عتبة وأبو جهل يأبى ذلك وأخرج أيضا نحوه من طريق ابن شهاب ومن طريق عروة وزاد بعد قوله الأحمر وأن يطيعوه يرشدوا)( ).
و(عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة بدر هذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الأرض.
وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الأرض وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الارض وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الأرض.
فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا تلك الحدود جعلوا يصرعون عليها ثم ألقوا في القليب.
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا فلان ابن فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا قالو يا رسول الله أتكلم أجسادا لا أرواح فيها فقال ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يستطيعون ان يردوا علي)( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يحدد أسماء القتلى من كبار رجالات قريش ، مع تحديده للمواضع التي يقتلون فيها.
وفيه مسائل :
الأولى : تجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إنذار عموم المشركين من الهجوم على المدينة .
الثالثة : تثبيت الإيمان في صدور الصحابة والتخفيف عنهم .
الرابعة : ترغيب الناس بدخول الإسلام .
الخامسة : دعوة الصحابة وأجيال المسلمين للشكر لله عز وجل ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
قانون الترغيب بالتلاوة
تلاوة الكتاب السماوي من أسباب استدامة الحياة الدنيا ، وتوالي الرزق على القارئ والسامع وغيرهما ، لأن نعم الله عز وجل لا تختص بعالم الأجر والثواب ، إنما تتغشى البر والفاجر .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على تلاوة القرآن على المنبر وفي المسجد النبوي ، وعلى الراحلة ، وعند الإحتجاج والجدال ، قال تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا]( ).
فلا غرابة أن تجد الأمر الإلهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) أكثر لفظ من ألفاظ الأوامر في القرآن إذ ورد (328) مرة في القرآن ، وورد لفظ (قل) أربع مرات لغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب أوامر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغير لفظ (قل) وهي كثيرة ، منها [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ]( ).
ففي الآية أعلاه مع قلة كلماتها أمران ، وجاء بعدها باربع آيات أمران أيضاً بقوله تعالى [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ]( ).
ومنه أمران في قوله تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( )، وأيهما أكثر :
الأول : الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قل) .
الثاني : الأمر من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفاظ أخرى غير (قل).
الجواب هو الأول لبيان أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة سلام وأمن وبرهان.
بيان معاني القرآن
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ويتجلى هذا البيان من وجوه :
الأول : منطوق الآيات .
الثاني : مفهوم الآيات .
الثالث : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاني الآيات .
الرابع : مصاديق الآيات .
الخامس : أسباب النزول .
السادس : الجمع بين الآيتين أو أكثر .
السابع : كثرة تلاوة القرآن .
الثامن : التدبر في آيات القرآن ، قال تعالى [أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ]( ).
التاسع : أحكام الآيات .
العاشر : استنباط أحكام الوقائع والأحداث من مضامين آيات القرآن.
الحادي عشر : بيان القرآن لأهوال عالم الآخرة وأنها حق وصدق.
بيان النبي (ص) للألفاظ
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيان النطلق السليم بكلمات آيات القرآن ولأن حركة الإعراب والحرف الواحد يغير معنى الكلمة ، كما في قوله تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( )، فاسم الجلالة مفعول به مقدم منصوب بالفتحة ، والعلماء فاعل متأخر مرفوع بالضمة.
وقال في الجدول في الآية (حصر الخشية بالعلماء، كأنه قيل: إن الذين يخشون اللّه من بين عباده هم العلماء دون غيرهم أما إذا قدمت الفاعل، فإن المعنى ينقلب إلى أنهم لا يخشون إلا اللّه. و هما معنيان مختلفان كما يبدو للمتأمل)( ).
ويفيد التقديم والتأخير في الآية إكرام العلماء بخشيتهم من الله ، وهذه مرتبة سامية ، وفيه دعوة للناس للإقتداء بالعلماء في الخشية من الله باتيان ما أمر به ، وإجتناب ما نهى عنه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن في صلاة الجماعة اليومية ، كما يقرأه على المنبر وفي التفسير والتأويل ، ويطلب من أصحابه أن يقرأوا القرآن عليه .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن بكيفية التعليم للمسلمين كيف يقرأونه .
إذ (سئل أنس بن مالك: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : كانت مدًا ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم. يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم)( ).
وجاء بيان واضح في حديث أم سلمة إذ (نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفًا حرفًا)( ).
وورد عنها أنها قالت (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته؛ بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين)( ).
و(عن عبدالله بن السايب قال : قدم علينا سعد بن أبي وقاص بعدما كفّ بصره ، فأتيته مسلّماً عليه ، فانتسبني فانتسبت.
فقال : مرحباً بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن،
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا)( ).
لبعث الخشية من الله في النفوس عند قراءة القرآن أو الإستماع له لبيان أن هذه القراءة نعمة من جهات :
الأولى : إنها مناسبة للتأديب .
الثانية : قانون بعث السكينة في النفوس .
الثالثة : قانون منع التعدي والظلم بسبب الإنقطاع إلى الله عز وجل.
الرابعة : منع الإنشغال بأمور الدنيا عند قراءة القرآن .
الخامسة : تأكيد الخشية من الله عز وجل.
السادسة : رجاء الأجر والثواب والنجاة من النار .
وعن الإمام علي عليه السلام قال (ما بعث الله نبيا قط إلا صبيح الوجه كريم الحسب حسن الصوت وكان نبيكم صلى الله عليه و سلم صبيح الوجه كريم الحسب حسن الصوت مادا ليس له ترجيع)( ).
والترجيع هو ترديد الصوت في الجهربه مثل آ آ آ .
أسباب النزول
لقد تفضل الله عز وجل بانزال آيات وسور القرآن تباعاً ، وكثير منها حسب الأحداث والوقائع ، ليكون علم أسباب النزول على وجوه :
الأول : معرفة أوان نزول الآية القرآنية ، بما هو أخص من تقسيم سور القرآن إلى سورة مكية ومدنية ، أي ذات السور المكية تنقسم إلى أقسام منها في بداية البعثة ومنها في وسطها ، ومنها في آخرها ، بتوثيق أسباب النزول.
وكذا بالنسبة لمكان نزول الآية القرآنية ، ومنها ما نزل في طريق الهجرة مثل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ]( ).
إذ ورد بخصوصها (عن ابن عبّاس : لما خرج رسول الله عليه السلام من مكّة إلى الغار ، التفت إلى مكّة ، وقال : أنت أحبّ بلاد الله إلى الله ، وأحبّ بلاد الله إليّ ، ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية)( ).
لتبين هذه الآية إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسخطه على مشركي مكة كما تتضمن الإنذار والوعيد لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الثاني : توثيق مضامين الآية وتقريبها إلى الأذهان بشواهد حسية تيسيراً لفهم الناس لها على اختلاف مشاربهم ومختلف مداركهم ، وهو من مصاديق العموم الإستغراقي في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، بقانون صيرورة أسباب النزول فرداً وجزءً من وجوه البيان القرآني .
الثالث : قانون أسباب النزول حفظ لآيات القرآن من التحريف لما فيها من استحضار للوقائع والأحداث ، وملائمة الآيات لها ، وتلاوة واستشهاد المسلمين والمسلمات بها .
الرابع : بيان صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ورفعه للواء السلم ، وقد صدر لنا (10) أجزاء من هذا السِفر بخصوص قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهي الأجزاء (202-203-304-210-211-231-240-241-242-249).
في قوله تعالى [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، ورد عن ابن عباس قال (انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا يعلون علينا
اللهم لا قوة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم، فذلك قوله – وأنتم الاعلون.
قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كئيبا حزينا يوم أحد، جعلت المرأة تجئ بزوجها وابنها مقتولين وهي تلدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهكذا يفعل برسولك ؟ فأنزل الله تعالى – إن يمسسكم قرح – الآية.
قوله (وما محمد إلا رسول) الآيات.
وقال عطية العوفى: لما كان يوم أحد انهزم الناس، فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم، فإنما هم إخوانكم، وقال بعضهم، إن كان محمد أصيب ألا ما تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به فأنزل الله تعالى في ذلك – وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل – إلى – وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله
وما ضعفوا – لقتل نبيهم – إلى قوله – فأتاهم الله ثواب الدنيا)( ).
وفي قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً]( )، (قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضى الله عنه لم يكن يملك غير أربعة دراهم .
فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملك على هذا.
قال : حملني أن أستوجب على الله الذي وعدني.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن ذلك لك فأنزل الله تعالى هذه الآية)( ).
إخبار النبي عن المغيبات
لقد ثبت صدق وعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أخبر عن أمور ومغيبات يمكن تقسيمها الى:
الأول: الإخبار عن أصل الخلق.
الثاني: إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أحوال الدنيا ، وهذه الأخبار تقسم بلحاظ الزمان:
الأولى : ما كان وقوعه سابقاً على زمانه كاخبار الأمم السالفة والأنبياء السابقين من الوقائع والأحداث بالإضافة الى ما ذكره القرآن بخصوصها.
الثانية : ما كان مقارناً له في حياته وايام نبوته.
الثالثة : ما سيقع بعد انتقاله الى الرفيق الأعلى على أمته.
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ ، وذلك إذا شربوا الخمر ، واتخذوا القينات ، وضربوا بالمعازف)( ).
الثالث: الإخبار عن عالم الآخرة والحساب، وهذا ينقسم الى اقسام:
أولاً: اخباره عن عالم القبر والبرزخ.
ثانياً: البعث والنشور.
ثالثاً: الحساب والحوض والصراط والميزان.
رابعاً: الأخبار الخاصة بالجنة والنار ، وصفات أهل كل منهما في الدنيا.
و(عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول من يدخل الجنة من خلق الله تعالى ، فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من الملائكة : ائتوهم فحيوهم .
فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ، قال الله تعالى : إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني في الدنيا ولا يشركون بي شيئاً ، وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب [سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة قال : إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوّب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول أقصى الخدم للذي يليه : ملك يستأذن ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ملك يستأذن ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا له . فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا . ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا ، حتى تبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له ، فيدخل فيسلم عليه ثم ينصرف)( ).
والنصوص متواترة على حصول المعاد والجزاء يوم القيامة ، ولهذه النصوص اثر عظيم في تخليص النفوس من الكدورات الظلمانية وفي اصلاح المجتمعات والتوجه الى العبادات واعداد الزاد لسفر الآخرة الذي لا رجعة فيه الى الدنيا، بل هو نفسه رجوع الى الله، فهذا الرجوع يخبر عن أنه رجوع ابدي وعودة دائمة ، للجــزاء.
يخطأ الكافـر والظالم فيرجو ان يكون رجوع آخــر الى الدنيا حتــى اذا جــاء احدهم الموت [ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ]( )، فلم يحصل رجوع إلا لله تعالى ، ولا يكون الرجوع الا بعد الموت.
قانون القرآن سلاح النبي (ص) في عرض نفسه على القبائل
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عرضه نبوته على القبائل في موسم الحج ، يذهب لهم إلى مجالسهم في منى ، وفي مكة بمفرده ، وتارة يكون معه الإمام علي وأبو بكر وهو عالم بأنساب العرب ، أو العباس بن عبد المطلب .
وورد عن المعافى بن زكريا( ) باسناده عن ابن عباس عن الإمام عليه السلام في حديث طويل منه أن أبا بكر تقدم إلى قوم (فسلم، فردوا عليه السلام، فقال: ممن القوم ، قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة.
فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بعد هؤلاء عز في قومٍ. وكان في القوم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن يزيد. وكان مفروق بن عمروٍ قد علاهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم.
قال : إنا لنزيد على ألفٍ ولن نغلب عن قلة، قال: فكيف المنعة فيكم.
قال : علينا الجهد ولكل قوم حد، قال: فكيف الحربُ بينكم وبين عدوكم.
قال: إنا أشد ما نكون غضباً حين نلقى وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا نؤثر جيادنا على أولادنا ، والسلاح على اللقاح، النصر من عند الله تعالى يديلنا لنا وعلينا، لعلك أخو قريش .
قال : إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا في الرحل، قال: قد بلغنا أنه يقول ذلك.
قالوا: فإلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهروا على أمر الله وكذبوا رسله، واستغنوا بالباطل عن الحق ، وهو الله الغني الحميد .
قال فإلى ما تدعو أيضاً ، قال : فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( ): إلى قوله تعالى [ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ] ( ).
قالوا : وإلى ما تدعو أيضاص؟ قال: فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ]( ).
فقال مفروق بن عمروٍ: دعوت والله إلى محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق ولقد أفك قوم ظاهروا عليك وكذبوك)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : لقد ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله بكلمة التوحيد والتصديق برسالته لأن هذا التصديق ضرورة ومقدمة لتلقي آيات القرآن بالقبول والعمل بمضامينها وأخذ الأحكام التكليفية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وفد بني شيبان إيواءه ونصرته ، وهذا الجمع بين الإيواء والنصر من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يرد الفرار من قريش ، وطلب سلامة شخصه ، إنما يريد نصرة الذين يؤونه في الدفاع عن بيضة الإسلام.
ترى ماذا لو قالوا هم أو الأنصار فيما بعد نحن نؤيك ولكن لا ننصرك فهل يذهب معهم طلباً لسلامة شخصه من الإغتيال في مكة ، الجواب لا.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يعلم سيأتي من يأويه وينصره ويدافع عنه فكان وفد الأوس والخزرج ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
الثالثة : شكاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قريش ليس لأنهم أذوه إنما لإقامتهم على الكفر وعبادة الأوثان من الإنذار السماوي بآيات القرآن ، ورفض نعمة العقل لهذه العبادة ولأنهم كذبوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل من قبله بقوله (وكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغنى الحميد)( ).
الرابعة : تأديب القبائل ، والسعي في إصلاح الأفراد ، فصحيح أن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن ذم قريش ، إلا أنه يشمل كل الذين أشركوا وكفروا بالله عز وجل ، ليكون من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم نقل الناس من مستنقع الكفر إلى مقامات الإيمان والأمان والثواب العظيم ، قال تعالى [فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ]( ).
ثم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وإلى ما تدعو يا أخا قريش ، فالتجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القرآن واحتج به إذ أجابهم [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
رسائل النبي (ص) إلى ملوك عصره
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتابته الرسائل والكتب الى ملوك عصره بعد صلح الحديبية يدعوهم إلى الإسلام ويستدل بآيات القرآن ، وممن أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرسائل لهم :
الأول : النجاشي ملك الحبشة ، بعث الرسالة بيد الصحابي عمرو بن أمية الضمري الكناني .
الثاني : هرقل قيصر الروم بعث الرسالة بيد الصحابي دِحية بن خليفة الكلبي.
الثالث : كسرى أبرويز بن هرمز ملك فارس بعث الرسالة بيد الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي .
الرابع : المقوقس ملك مصر والإسكندرية بعث الكتاب بيد حاطب بن أبي بلتعة وفيها (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللّهُ أَجْرَكَ مَرّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيّينَ وَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( ).
وتوجه حاطب إلى الإسكندرية وهي إلى هذا الزمان بذات الاسم ، وتبعد عن القاهرة نحو 215كم.
واتفق أن كان المقوقس يجلس مجلساً مشرفاً على البحر ، فركب حاطب البحر ولما صار في محاذاة مجلسه ، رفع يده وفيها الكتاب إشارة إلى أنه جاء يحمل رسالة للملك فأمر المقوقس باحضاره.
فقدم له الكتاب ولما قرأه قال (ما منعه إن كان نبياً أن يدعو علي فيسلط علي فقال له حاطب: ما منع عيسى أن يدعو على من أراده بالسوء.
قال : فوجم لها. ثم قال له: أعد فأعاد ثم قال له حاطب: إنه كان قبلك رجل زعم أنه الرب الأعلى فانتقم الله منه فاعتبر به وإن لك ديناً لن تدعه إلى دين هو خير منه وهو الإسلام وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارته بمحمد ولسنا ننهاك عن دين عيسى بل نأمرك به)( ).
الخامس : المنذر بن ساوى أمير البحرين ، بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة بيد العلاء بن الحضرمي في شهر (رجب سنة تسع فأسلم المنذر ورجع العلاء فمر باليمامة فقال له ثمامة بن آثال أنت رسول محمد ، قال نعم.
قال لا تصل إليه أبداً فقال له عمه عامر مالك وللرجل قال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد عامراً وأمكني من ثمامة ، فأسلم عامر وأسر ثمامة)( ).
لبيان موضوعية دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سلامة أصحابه ورسله في حلهم وترحالهم وهداية الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وموضوعية الدعاء في قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
السادس : هوذة الحنفي أمير اليمامة .
السابع : إلى الجلندي ملك عمان ، و(عن بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث إليه عمرو بن العاصي يدعوه إلى الإسلام فقال لقد دلني على هذا النبي الأمي إنه لا يأمر بخير الا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يهجر وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد وأشهد أنه نبي ثم أنشد أبياتا منها :
أتاني عمرو بالتي ليس بعدها … من الحق شيء والنصيح نصيح)( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي أن خصاله الحميدة ، وحسن سمته بلغت الأمصار ، وصارت سبباً لدخول الأمراء وعامة الناس الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الثامن : الحارث الحميري حاكم اليمن .
التاسع : الحارث الغساني أمير الغساسنة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزين كتبه إلى الملوك بآيات القرآن ويختمها بأن اثم تابعيه يقع عليه إن امتنع عن الإيمان كما في رسالته إلى هرقل (فَإِنْ تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيّينَ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقدم اسمه في رسائله لبيان رفعة مقام النبوة ، وهو الأمر الذي انكره كسرى.
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إلى قيصر ملك الروم).
يخبره عن نبوته ويدعوه إلى الإسلام فقبل الكتاب ، ودعا تجاراً من قريش كانوا في الشام منهم أبو سفيان يسألهم عن علامات نبي آخر الزمان ، وقد تقدم ، وكتب قيصر (جواب كتابه : إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله لعيسى ، فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : قَدْ ثَبَّتَ الله مُلْكَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَى أدْنَى الأَرْضِ مِنْهَا بِفَتْحِ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى المُسْلِمِينَ)( ).
ومزق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهمّ بقتل الرسول (فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : قَد مَزَّقَ الله مُلُكهم فلا مُلكَ لَهُمْ أبَداً . إذا ماتَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ ، فلمّا ظهرت فارس على الروم اغتمَّ المسلمون لذلك ، فنزل قوله تعالى الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باخباره عن المغيبات بما فيه القبول والتغيير النوعي بانقطاع ملك كسرى وفرعون إلى يوم القيامة وإشراقة ضياء الإسلام على ربوع بلاد فارس وخراسان وبلاد مصر وافريقيا ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
استشهاد النبي (ص) بالقرآن يوم القيامة
من معجزات القرآن حضوره في الدنيا والآخرة شاهداً ودليلاً .
(وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال : يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً ، ثم قرأ {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين }( ).
ثم قال : ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي أصحابي.
فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فأقول كما قال العبد الصالح [وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ]( ) فيقال : أما هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم)( ).
لبيان أن الحساب على خاتمة الأعمال ، وأن الله عز وجل وحده يحيط بالغيب كله ، وفي حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا تحذير من الإرتداد والفتنة.
واستشهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن لبيان أحوال الناس يوم القيامة وإكرام الأنبياء والرسل ، فقوله (أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم)شاهد على تحقق إكساء الناس بالأكفان ونحوها ، وأن الإكرام يبدأ باسبقية إكرام الرسل والأنبياء والشهداء والمؤمنين والمؤمنات ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا]( )
وفي ذات الحديث أعلاه يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سوف يتلو القرآن يوم القيامة للإستدلال بتلاوته على العرض قوله تعالى [وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ]( ) وفيه إنذار من الإرتداد بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وهل أعان هذا الحديث ونظرائه الصحابة وعامة المسلمين على إجتناب الإرتداد ومحاربة المرتدين ، الجواب نعم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنتفاع العام من سننه القولية وإستدلاله بالقرآن بعد وفاته.
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه أمرين :
الأول : عام وهو يجاء برجال من المسلمين .
الثاني : خاص ، أصحابي أصحابي .
معجزة إنقطاع الردة
الذين اشتركوا بالردة بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من جماعة من الصحابة ، فمنهم طائفة لم يروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمعوا منه وهو الذي حصل من الردة واقعاً .
منهم :
الأولى : طوائف من بني حنيفة اتبعوا مسيلمة الكذاب في اليمامة.
الثانية : طوائف من قبيلة أسد انقادوا إلى طليحة بن خويلد الأسدي ، وهم أقرب المرتدين مسكناً إلى المدينة المنورة ، وقد ظنوا الوهن عند أهل المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فاغاروا عليها ، وكانوا اشد خطر عليها لولا فضل الله عز وجل.
الثالثة : جماعات من عنس ومراد وسعد العشيرة ، وجميعهم من مذحج.
ويرأسهم الأسود العنسي ، ويوفر لهم تعدد وسعة ديارهم ومواردهم الأقتصادية والعصبية القبلية وعدم ثبات الإسلام في قلوبهم كثرة الرجال ، ومواصلة القتال ، ولكن خذلهم الله عز وجل بثبات الصحابة في الدفاع عن بيضة الإسلام ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
والأسود العنسي ارتد باليمن كما أنه لم يثبت دخوله الإسلام ، وجمع الجيوش حوله بالسحر والكهانة ، وكان طويلاً شجاعاً ، وامتنع عن دفع الزكاة ، وقال أنها تجبى لقريش بينما أوصى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل بأخذها من أغنياء نجران وأعطائها إلى فقرائهم .
وكان الأسود يكره (الأبناء) وهم ابناء الفرس الذين اقاموا باليمن وتزوجوا من أهل اليمن ، وكان حكم الفرس على صنعاء وما حولها ، ويتقاسم الرؤساء وشيوخ القبائل باقي مدن وقرى اليمن .
وكان خروج الأسود العنسي قبل حجة الوداع في السنة العاشرة ، واستمر أربعة أشهر واحتل نجران ، ثم صنعاء وكان واليها شهر بن باذام ، وخشي الأبناء بطشه فتظاهروا باتباعه ، وقد احتل نجران في اليوم العاشر لمخرجه ، وصنعاء في اليوم الخامس والعشرين لمخرجه ، بعد أن دارت معركة بينه وبين شهر بن باذان قتل فيها الأخير ، وعيّن الأمراء في نواحي اليمن .
وأرسل الأسود إلى المسلمين في اليمن كتاباً (أيها المتوردون علينا ، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ، ووفروا ما جمعتم ؛ فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه)( ).
وهرب معاذ من نجران ونزل السكون لأنه متزوج منهم .
فجاءت الكتب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بها ببعث (الرجال لمجاولته أو لمصاولته) ( ).
وكّلم فيروز الديلمي زوجة الأسود آزاد وهي ابنة عمه بقتله ، وكانت تبغضه لأنه قتل زوجها ، ولا يتورع عن محرم فدخل عليه ومعه اثنان من المسلمين .
وأمر فيروز (الشفرة على حلقه فخار كأشد خوار ثور سمعته قط ؛ فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة ، فقالوا : ما هذا ، ما هذا ! فقالت المرأة : النبي يوحى إليه فخمد)( ) فصدحوا بالأذان.
وأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقتل الأسود في صباح الليلة التي قتل فيها ، وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ ورد عن (ابن عمر ، قال : أتى الخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها العنسى ليبشرنا ، فقال : قتل العنسى البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين ، قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز ، فاز فيروز)( ) وكانت مدة أمر العنسي أربعة أشهر .
واتفق المسلمون على معاذ بامامتهم بالصلاة في صنعاء ، وصلوا ثلاثة أيام فجاءهم الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال فيروز (قتلنا الأسود ، وعاد أمرنا كما كان ؛ إلا أنا أرسلنا إلى معاذ ، فتراضينا عليه ؛ فكان يصلى بنا في صنعاء ؛ فو الله ما صلى بنا إلا ثلاثا ونحن راجون مؤملون ، لم يبق شيء نكرهه إلا ما كان من تلك الخيول التي تتردد بيننا وبين نجران.
حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فانتقضت الأمور ؛ وأنكرنا كثيراً مما كنا نعرف ، واضطربت الأرض)( ).
آية طلوع الشمس من مغربها
ومن المغيبات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد عن حذيفة قال ، (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله ما آية طلوع الشمس من مغربها .
فقال : تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين ، فبينما الذين كانوا يصلون فيها فيعملون كما كانوا والنجوم لا ترى قد قامت مقامها ، ثم يرقدون ثم يقومون فيعملون ثم يرقدون ، ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم حتى يتطاول عليهم الليل فيفزع الناس ولا يصبحون ، فبينما هم ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذا هي طلعت من مغربها ، فإذا رآها الناس آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم)( ).
ويدل سؤال حذيفة (ما آية طلوع الشمس من مغربها) على إخبار سابق من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية الكونية ، لبيان اشتراك الكواكب والنجوم في إنذار الناس ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل المقصود صناعة الناس شمساً أخرى بالتقنية المتطورة.
الثانية : هل لإرتقاء العلم والتغير المناخي موضوعية وأثر في هذا التغيير الكوني.
أما المسألة الأولى فالجواب لا .
وأما الثانية فهو أمر ممكن ، والعلم عند الله .
وعن صفوان بن عسال (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله جعل بالمغرب باباً عرضه سبعون عاماً ، مفتوحاً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من مغربها قبله ، فذلك قوله [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا]( ).
ولفظ ابن ماجة : فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خير)( ).
وروى الحديث عن عدد آخر من الصحابة يرفعونه ، مما يدل على تلقيهم أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعناية والضبط والتصديق وفيه بعث للمسلمين لأداء الفرائض وعمل الصالحات ، وفيه سكينة بطول الزمان لبيان علامة انقضاء الدنيا بعلامة وآية طلوع الشمس من المغرب .
إشارات في عالم التفسير
التفسير هو الكشف والإبانة، وتفسير القرآن لا ينحصر بالمعنى اللغوي للكلمة بل هو اعم فيشمل المعنى والقصد والمراد والتأويل واستنباط الدروس والعبر واستخراج الكنوز والدرر المنثورة في ظاهر آيات القرآن وبين طياتها وفي كلماتها وحروفها مما يكون دليلها معها ولا يحتاج الا إلى كشف الغطاء وازالة الموانع والجمع بين القرائن ودراسة السياق، ومعرفة أسباب النزول، والتفصيل الى المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص.
ومن علوم التفســير إظهار بديــع القرآن وما فيــه من وجـــوه البلاغــة والنحو والصرف، ونحتاج علم التفســير في زمن الثورة المعلوماتية والصــناعية للدراسات المقارنة بينها وبين علوم القرآن ولإعلان أمرين:
الأول: الربط بين الإكتشافات العلمية الحديثة وما موجود من الآيات والدلائل العلمية في القرآن بعدة مصاديق وافراد عقلية علمية كما في الصعود الى الفضاء والإخبار الضمني في قوله تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] ( ).
وجاءت الآية أعلاه بالخطاب لمعاشر الجن والإنس وفيه اشارة الى التعاون الدولي في الصعود الى الفضاء وان الفرد وحده لا يستطيعه، وهذه الآية جاء فيها الخطاب بلفظ (الإنس) والمراد عامة الناس ولم يأت بمفرده بل جاء بالإشتراك مع الجن، ولم يرد بصفة بلفظ الإيمان او الناس لبيان لزوم التعاون الدولي وتظافر جهود المؤسسات في الصعود إلى الفضاء.
ومع هذا فقد تحــدى الله عز وجل معاشــر الجن والإنس بان يأتوا بمثل القرآن قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ] ( ) مما يشمل علم التفسير ومستلزماته وضرورة اشتراك مؤسسات متخصصة لعلوم التفسير والعناية به، وبالمصنفات والرسائل الخاصة به.
وقد مرّ على نزول القرآن أكثر من ألف واربعمائة سنة وعلم التفســير لا يــزال في بداياته ومراحـله الأولى لم يكشف عن معشــار علــوم القــرآن الذي جعــل الله عــز وجل فيه تبيان كل شيء.
الثاني: اســتخراج الآيات القرآنية التي فيها اشــارات الى اكتشافات علمية ومنافع للناس في ميادين الطب والزراعة والصناعة والإقتصاد وتدبير شؤون السياسة والقضاء وغيرها، والإخبار عن إمكان الإرتقاء في هذه الميادين بتوظيف العلوم الحديثة لتحقيق ما يشـــير اليه القرآن لتثبيت الجانب الغيبي للقرآن واخباره عن علــوم الغيــب وفيه تصــديق للمغيبات التي اخبر عنها القرآن من قصص الأمم السالفة ومما لازم التنزيل وما سيأتي في المستقبل.
فحينما يرد قوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ] ( ) ورد ان عمر إبراهيم كان نحــو مائة ســنة وعمر زوجتــه سارة كان نحو تســـعين سنة، وهذه البشـــارة جاءت بآية اعجازية إلا إنها إشارة للعلم الحديث وبشارة الإنجاب العام عن كبر وتقدم في السن، خصوصاً وأن الله عز وجل اذا انعم نعمة على أهل الأرض فانه أكرم من ان يرفعها، والنعمة الخاصة قد تبقى معلقة بانتظار وجود اهل او مستحق لها او بلوغها بالعلم واكتشاف الأسباب لتكون مناسبة للدعاء والنفع العام والشكر لله تعالى .
وكذا بالنسبة لمريم وقوله تعالى [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا] ( ) فانه اشارة وبشارة للزراعة المغطاة ووسائل الحفظ ونقل المواد الغذائية بين اقطار العالم والبلدان المتباعدة، وغيره من أسباب تصنيع وتعليب المواد الغذائية والصناعات الغذائية والإستنساخ فيها.
ووسائل القضاء على المجاعة والأزمات والفقر ومنها اللحوم والأطعمة المصنعة مختبرياً.
سعة علم التفسير
لا ينحصر الأمر بالتفســير برجــاله ومؤسساته بل انه يقتضي العناية النوعية العامة من الأمة بعلوم القرآن وما يستحدث منها وطرح الشاذ والمخالف لظاهر الكتاب العزيز وما جاءت به السنة النبوية الشريفة.
ولم يرد لفظ التفسير في القرآن الا مرة واحدة بقوله تعالى [وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا] ( )، وعن ابن عباس أي تفصيلاً ولكن التفسير علم متشعب وتوليدي تتفرع عنه علوم كثيرة.
وكل علم ينشطر إلى علوم متعددة بحسب اللحاظ والجهة والموضوع، وقد تقدم في الجزء السادس بيان النهي عن التفسير بالرأي( )، ولابد من معرفة وجوه الإلتقاء والإفتراق بين التفسير والتأويل .
وهما مما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا .
ومن علوم التفسير كشف معاني غريب الفاظ القرآن كالبحيرة والسائبة والوصيلة.
والوجوه والنظائر وتعدد معاني اللفظ القرآني وهو من اهم كنوز القرآن وما في نظمه من اعجاز وقواعد الإستنباط وضوابط التفسير ومضامين المعرفة الإلهية.
ولابد من الرجوع الى كتب التفسير هذا التراث الخالد الذي ساهم فيه جهابذة العلماء شكر الله سعيهم، وزاد في اجرهم مع الحرص على اقتفاء آثارهم وجعلهم اساتذة وقادة واجتناب جرحهم وعدم التعجل في الإشكال عليهم والإبتعاد عن الظن بوجود خلاف او تناقض في اقوالهم، فقد تختلف العبارات ولكن المعنى متحد والمراد واحد.
عباراتنا شتى وحسنك واحد
وكل الى ذاك الجمال يشير( ).
من قواعد التفسير
لابد من الإحتراز من استحداث قول لا أصل له من القرآن او السنة او اللغة ففي كتاب الله بحــور من العلم متداخــلة ومتشــابكة تتعانق أمواجــها وهي مملوءة بالــدر والياقوت كلمــا غاص فــريق لإخراج قسم منها ازدادت خزائنها اضعافاً مضاعفة.
تتلألأ للأبصار ، وتجذب العقــول ، وتدعو الناس جميعاً للإنتفاع منها من غير ان ينتقص منها شيء ، يتذوق حسنها كل انسان مسلماً كان او غير مسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، واشاراته يدركها كل عاقــل ذي لب، ولطائفه يتيه في فلكها الأولياء وأهل العرفان.
وعن الإمام الصــادق عن آبائــه عن رسول الله صــلى الله عليه وآله وســلم : أيها الناس إنكم في زمــان هدنة، وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع، فقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعــدوا الجهاز لبعد المفاز.
فقام المقداد فقال: يا رسول الله ما دار الهدنة ؟ قال: دار بلاء وانقطاع ، فإذا البست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فانه شافع مشفع وما حل مصدق.
من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار.
وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل، وبيان تحصيل وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكمة، وباطنه علم .
ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم، وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة ودليل على المعروف لمن عرفه.
وعن عبد الله بن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن، أي ليفكر في معانيه ويتدبر آياته ويستخرج كنوزه.
(وقال بعض العلماء: لكل آية ستون الف فهم، وما بقي من فهمها اكثر)( ).
وجوب التدبر في آيات القرآن
التدبر هو التفكر في الشئ أو الأمر والغوص فيه ، واقتباس المواعظ والعبر منه ، وقد حضّ الله الناس على التدبر في آيات القرآن ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
ومما يختلف به كلام الخالق عن المخلوقين عدم الوقوف على ظاهره بل لابد من تدبر معانيه وأسراره وحقائقه.
و(عن عبد الله ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، لكل حرف منها ظهر وبطنٌ ، ولكل حرف حَدٌّ ، ولكل حدٍّ مُطَّلَع)( ).
وقد بينا الوجوه المحتملة للأحرف السبعة في الجزءالسادس من تفسيرنا.
وعن الإمام علي عليه السلام : القرآن ظاهره انيق وباطنه عميق لا يفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات الا به( ).
وعن ابي الدرداء (لا يفقه الرجل حتى يجعــل للقــرآن وجوهاً)( ).
وهذه دعوة من صــحابي جليل لعدم الوقوف عند الظاهر والى فهم باطن القرآن واظــهار علومه.
وعــن الصادق عليه السلام (ما من آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيه حرف إلا وله حد ومطلع)( ).
فظاهــره التلاوة وباطــنه فهم حقائــقــه والغـوص في كنوزه، والإطــلاع على جانب من اســراره.
والحد : أحكام الحلال والحرام واحاطته بالأحداث والوقائع فما من شيء الا في كتاب الله .
ومن المطلع الإشراق واستيعاب الوعد والوعيد ومعرفة آيات الإنذار.
والسعي الى معرفة اسرار القرآن لابد ان يكون عن طريق معرفة الظاهر وفهم معانــيه لغة وإعراباً ومفاهيــم الألفاظ، ولابد من درجة من الإيمان والصدق وعدم الميل الى الهوى او الإجتهاد في توجيه الآية نحو مذهــب معين وولاءات خاصة، والتخلص من الآراء التي تبعث على الجدال والخصــومة .
ولابد من الحرص على معــرفة مضامين القدرة واللطف الإلهي ووجوه الرحمة في حياة الإنسان مطلقاً، وادراك عصمة الأنبيــاء ، والإنتفاع الأمثل من قصــصــهم ومنه قوله تعالى [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
وقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ) وفيه مسائل :
الأولى : اثبات رمي التراب .
الثانية : إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصرف القتل عنه ، وعن أصحابه ، ولم يستشهد في معركة بدر إلا أربعة عشر منهم ، مع كثرة أفراد جيش المشركين وأسلحتهم وخيلهم .
الثالثة : نسبة رمي التراب إلى الله عز وجل ، لبيان عظيم قدرة الله.
الرابعة : الآية مصداق لقوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الخامسة : ترتب الأثر والنفع العظيم على رمي التراب ، بتحقق النصر .
السادسة : هل من موضوعية لرمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقنة من تراب في سقوط سبعين قتيلاً وأسر سبعين من المشركين ، الجواب نعم ، (وقال السدي الكبير : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى يوم بدر : أعطني حصباء من الارض ، فناوله حصباء عليها تراب، فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله في ذلك فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى( ).
السابعة : التخفيف عن المهاجرين والأنصار في أشد الأحوال ، لتكون نعمة رمي الحصباء يوم بدر كآية إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
الثامنة : زجر المشركين والناس جميعاً عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التفسير بالمأثور
من مقدمات وقواعد علم التفسير الرجوع الى المأثور والأخذ من تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن وان كان ضعيفاً في سنده بشروط:
الاولى : الإشارة الى السند.
الثانية : ان تكون في المواعظ والقصص والمندوبات ونحوها.
الثالثة : عدم معارضته مع آيات القرآن.
مع العناية بالدراسة والتحقيق في النصوص صحيحة السند أو ضعيفة السند ، فكل فرد منها ثروة وتركة نبوية وعلمية خاصة وأن الأصل هو عرضها على القرآن ، وعدم معارضتها له ، وهو من الإعجاز في الجمع بين القرآن والسنة.
فمن خصائص القرآن ان آياته تفسر بعضها بعضاً ، وتعضد الآية الواحدة آيات كثيرة ويأتيها التعضيد من ذات الآيات او من آيات اخرى متصلة بها او قريبة منها أو في نفس السورة أو في سور أخرى ، مكية كانت او مدنية ، ومن السنة النبوية القولية والفعلية.
لذا فان حفظ القرآن وعدم طرو التغيير والتحريف والنقص او الزيادة فيه أمر ضروري لذات القرآن واستخراج علومه والكشف عن اسراره فتفضل الله عز وجل وتولى بنفسه وجنده حفظه ، ولابد أن يكون حفظ الله عز وجل تاماً ، ومن جميع الوجوه ، وما لايحيط به البشر من هذه الوجوه أكثر مما يحيطون به لذا فان علوم القرآن من اللامتناهي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
والحديث يؤخذ بأخس طبقاته فاذا كان أحد رجال السند ضعيفاً او مجهولاً او ان الحديث مرسلاً ومنقطعاً فيحسب ضعيفاً مع وثاقة رجال سنده الآخرين.
والمنقطع في اصطلاح اللفظ القرآني يختلف عنه في مصطلح الحديث .
فالحديث الضعيف هو الآخر ثروة علمية يجب ان لا يفرط به، كما ان عمل مشهور العلماء المتقدمين به نوع توثيق له.
ففي خطبة للإمام علي يذكر خصائص القرآن وفيه منقطع ومنه معطوف.
والمنقطع هو آيات نزلت في موضوع او قصة ثم انقطعت قبل تمامها وجاءت آيات في موضوع او مواضيع اخرى بعدها عطف موضوعها على الموضوع الأول ، كما في قصــة لقمـان [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( ) وانقطــعت وصية لقمان بآيات [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْــهِ حَمَلَتْهُ أُمُّــهُ وَهْنًــا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْــرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِــلْمٌ فَلاَ تُطِعْــهُمَــا وَصَـاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعــْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَــبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُــكُمْ فَأُنَبِّئُكُمــْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
ثم عطف على خبر لقمان فجاء في التنزيل [يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ] ( )
ومثله ما ورد في خصوص قصة إبراهيم كما في قوله تعالى [وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
ثم انتقلت الآيات الى لغة الغائب والعموم وهو الذي يطلق عليه في علم البلاغة الإلتفات، وحمله بعضهم على انه كلام لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه أعم، ثم رجعت الآيات لتتحدث عن قوم إبراهيم وجوابهم على دعوته للتوحيد، وعبادته تعالى [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
والحديث الموضوع لا يجوز الرجوع اليه او احتسابه علماً ، والرجاليون من العلماء المتقدمين بذلوا الوسع لإسقاط الحديث الموضوع وقاموا بتنقيح كتب الحديث والتفسير من افراده، فهناك فرق موضوعي بين الحديث الضعيف والموضوع، وضرورة اجتناب الحديث الموضوع لا تعني الحذر والتوقي من الضعيف، لأن الحديث اجمالاً ثروة علمية لا يمكن التفريط به.
وقد يكون علة الضعف ان راويه مجهول عند الرجاليين .
ولا يصح رمي أحاديث طائفة عظيمة من المسلمين بأنها موضوعة مع أنها موافقة لآيات القرآن.
الإخوة الإيمانية في تعاهد القرآن
من معجزات القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجتهاد المسلمين في تعاهد القرآن آيات ورسماً ونظماً وتفسيراً وإن حصل إختلاف بينهم فكل طائفة منهم تجتهد في حفظ القرآن وهذا الإجتهاد من أسباب إزالة الخلاف والخصومة بينهم.
أما النعت بالضعف بسبب الإنتماء الى فرقة اخرى من فرق المسلمين فهذا امر ليس بصحيح وقد يحول دون الإحاطة العلمية بكنوز الإسلام والثمرات المباركة للسنة النبوية.
ولم تفكر فرقة من فرق المسلمين بتحريف القرآن او تشويه معانيه ومضامينه او تغيير الفرائض والعبادات ليكون من تقدير قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، إخوة في حفظ وتعاهد القرآن وأداء الفرائض العبادية كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فترى كل مسلم يصلي الصلوات اليومية الخمس ويتخذ من هلال شهر رمضان أواناُ لبدء فريضة الصيام ، قال تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
وهلال شوال أواناً لإفطاره، وليس عند المسلمين جميعاً الا هذا القرآن الذي هو بين الدفتين، وفيه عز الإسلام وبشارة ودوام وحدة المسلمين وقوتهم ومنعتهم.
وليس لأحد ان يطعن بغيره بخصوص هذه الحقيقة ، فلا يتهم بعضهم البعض الآخر بان عنده قرآناً غير القرآن الذي انزل على النبي محمد صــلى الله عليه وآله وسلم والموجــود عند المسلمين لأن هذا الإتهام لا اصل له ولعل فيه اضعافاً للإسلام وإساءة للقرآن.
وتتعدد نسخ القرآن لتصل الملايين بصورة ورسم واحد، ولم يكتب بلهجات مختلفة ولم تسقط عنه سورة او آية ولم تضف له آية او سورة أو كلمة وليس بالإمكان تبديل كلمة من التنزيل باخرى غيرها فكل كلمة منه فريدة لها شأن خاص في جمع القرآن ، ولو بدلت بغيرها اذن لاختلف المعنى وان كانت مرادفة لها.
ومن إعجاز القرآن أنه السلاح السماوي في وحدة المسلمين ومنع تفرقتهم وفرقتهم، إذ أمر الله عز وجل باصلاح ذات البين ، ودعا إلى السلم والصبر والصلح والوئام ، ونبذ القتال والحرب ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
وكانت مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمهاجرين والأنصار نواة مباركة للأخوة العامة بين المسلمين بما فيه الصلاح والرشاد ، ونشر ألوية الأمن في الأرض ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
قانون التمسك العام بالقرآن
من إعجاز القرآن ابتداء نزوله بسور قصار تتصف بقلة كلماتها وآياتها.
ومن خصائصها أنها سور إنذار ووعيد وبشارة وتتصف بسرعة الحفظ وهو نوع طريق لنشرها في مكة والقرى والمدن بواسطة وفد الحاج والركبان.
كما في سورة الفاتحة ، وسورة التكاثر ، وسورة العصر ، وبخصوص سورة العاديات ، ورد عن ابن عباس أنه قال (بينما أنا في الحجر جالس أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحاً.
فقال له : الخيل حين تغير في سبيل اللّه ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم ، فانفتل عني وذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم وسأله عن العاديات ضبحاً فقال : سألت عنها أحداً قبلي.
قال : نعم ، سألت عنها ابن عباس وقال : هي الخيل تغير في سبيل اللّه قال : اذهب فادعه لي ، فلمّا وقف على رأسه قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، واللّه إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر ، وما كان معنا إلاّ فَرَسان : فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون العاديات الخيل ، بل العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى مِنى.
قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي)( ) عليه السلام.
كما ابتدأ النزول بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، وهل تشمل القراءة في المقام التفسير أم أنها تختص بتلاوة القرآن ، المختار هو الأول .
لتتمسك أجيال المسلمين بالقرآن ، ويعملون بمضامينه القدسية ، إذ أن التفسير مطلوب لذاته وللعمل بأحكام القرآن .
لقد فوت المسلمون على مشركي قرش ونحوهم فرصة اختراق صفوفهم باظهار الخلاف بينهم في القرآن سوراً وآيات، فيجب ان يحرص الجميع على عدم حصول اختلاف في التفسير والتأويل وان كان موضوعه اسهل بكثير من وجوه:
الأول : ان علوم القرآن لا يمكن تأويلها لغير ما جاءت به وهذا من اعجاز القرآن الذاتي والغيري فانه يمتلك القدرة على حفظ نفسه والحيطة من التأويل الخاطئ، ويمنع من ظلالة أحد او حصول شبهات بسبب الخلل في تفسيره، فهو يفضح مواطن الخلل، ويهدي الى سلامة التفسير ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ) .
الثاني : نقل الزركشي قولاً لبعض اهل الذوق وهو: للقرآن نزول وتنزل، فالنزول قد مضى، والتنزل باق الى قيام الساعة( ).
ولا دليل على هذا المعنى ، لأن المراد من التنزيل مطلقاً هو نزول آيات وسور القرآن من عند الله بواسطة الملك جبرئيل ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا]( ).
وينزل الله عز وجل الغيث ، وينزل آيات الخير والبركة والفضل للناس عامة وللمؤمنين خاصة ، وينزل الله بطشه بالقوم الظالمين.
الثالث : لقد بقي اثر النزول غضاً طرياً حينما يقرأ المسلم القرآن يشعر وكأن القرآن نزل في ساعته وانه خص بالخطاب من بين الناس لوجوه :
الأول : القرآن يخترق شغاف القلوب ، قال تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثاني : يعالج خفايا النفس .
الثالث : يشفي ما عند تاليه من الدرن.
الرابع : يزيل ما علق في الذهن من الوهم.
الخامس : يطرد الحيرة والتردد .
السادس : قانون هداية القرآن الفرد والجماعة والأمة إلى سبل الرشاد .
قانون الصدور عن القرآن
لقد نزل القرآن بالأحكام السماوية التي تجب على الناس ويحتاجون إليها في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام إلى يوم القيامة لبيان أمور :
الأول : قانون إحاطة كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : قانون التباين النسبي بين أحوال الناس في الأجيال المتعاقبة ، فليس من فروق اساسية وكبرى بينهم ، ويمكن أن نطلق عليه قانون توارث السنن .
الثالث : ترشح الحكم من الآية القرآنية أو من الجمع بين آيتين أو أكثر .
الرابع : ملائمة سنن وأحكام القرآن لكل زمان ومكان .
الخامس : قانون دعوة الحكام للصدور عن القرآن وبما يضمن التنزه عن الظلم .
السادس : قانون دعوة الناس للرجوع إلى آيات القرآن وحضورها في الوجود الذهني والواقع اليومي ، وهو من أسرار قيام كل مسلم ومسلمة بتلاوة القرآن خمس مرات في اليوم ، للجوء العام إلى القرآن في حال الرخاء والشدة ، طوعاً وقهراً وانطباقاً.
لتتبادر إلى أذهان المسلمين مجتمعين ومتفرقين آيات القرآن عند المسائل الإبتلائية ومطلقاً في المباحات وضدها ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وتبقى أبواب فهم القرآن واكتشاف كنوزه مفتوحة الى يوم القيامة فلم ينسد طريق العلم او العلمي لها، لقد نزل القرآن من السماء ِايام البعثة النبوية، والهجرة اليه باقية الى يوم القيامة فهو سفر من الحق الى الخلق، وعلى الخلق ان يسافروا الى الحق بالسياحة في علوم القرآن وتلاوته .
والإستنباط من خزائنه وتدبر معانيه بعيداً عن الرأي وما لا أصل له.
النهي عن التفسير بالرأي
من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ)( ).
والكلام أعم من التفسير ويتعلق بالآية الواحدة وبالتنزيل وبما يخص القرآن من الحقائق والمفاهيم والعلوم ويشمل الجملة والكلمة الواحدة والكتابة به لأن القلم أحد اللسانين، فجاء النهي عن الكلام في القرآن بالرأي ومن باب الأولوية القطعية يدل على النهي عن التفسير بالرأي والتشديد على المنع منه.
ومن الإعجاز والتكامل العلمي في الإسلام ان السنة النبوية الشريفة بيان للقرآن بلحاظ أنها المصــدر الثاني للتفسير.
ومن الآيات أنك تجد الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن التفسير بالرأي او القول به بغير علم متواتراً وشائعاً عند المسلمين ويعرفه كل من له متابعة اجمالية لعلوم التفسير.
ليكون الجميع حفظة وحراساً لمناهج تفسيره ولتساهم الأمة في منع توجيه آيات القرآن لغير المقاصد السامية التي انزلت فيها ولها.
ولهذه الواقية منافع عظيمة منها ما اتضح وظهر ومنها ما لم ندركه لأنه عبارة عن دفع الكيد الذي يولد ميتاً بسبب العناية واللطف الإلهي بالقرآن ذاته والسنة النبوية لأنها وحي , والتحذير من التفسير بالرأي, وتعاهد المسلمين لمضامين فلسفة التفسير ووفق القواعد الشرعية والأخلاقية واللغوية المتوارثة.
(وحمل البيهقي النهي الوارد في الحديث على الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به)( ).
و(عن إبراهيم التيمي إن أبا بكر سئل عن قوله [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا]( )، فقال : أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)( ).
ولابد من احراز عالم التفسير قدراً من العلم بالإعراب وحركات الكلمات، وبما يعين على فهم المعنى ومدلولات الألفاظ ومواضع الكلمات كما في قوله تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( ).
فجاء العلماء فاعلاً متأخراً، وظاهر اللفظ من غير تقيد بالإعراب يعطي معنى مغايراً، فانظر كيف كان المسلمون الأوائل يقرأون القرآن من غير حركات ولا تنقيط ومع هذا حرصوا على تعاهده لفظاً ونطقاً ومضموناً ودرساً.
وقد تجد في القرآن مطلقاً ولكنه مقيد في موضع وآية أخرى، او عاماً خص في آية اخرى , لتكون رحلة التحقيق والتفسير في رياض القرآن ذات أسرار وعلوم متجددة.
وقد يرد التقييد في السنة النبوية والملاك هو التخفيف والتيسير ومنع الحرج في الدين ونفي الجهالة والغرر.
ويدل نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن التفسير بالرأي والظن على كفاية القرآن والسنة لتفسير آيات القرآن ، إلى جانب ضابطة اللغة العربية وعلومها ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
قانون العمل في القرآن
لقد جاء القرآن بالبعث على السعي والكسب والعمل في التجارة والزراعة والصناعة ونحوها مع التقيد بالضوابط منها مضامين قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
ومن آيات الكسب وطلب الرزق :
الأولى : قوله تعالى [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا]( ).
كما وردت آيات عديدة تتحدث عن الرزق وأنه من عند الله ، من غير تعارض بينها وبين آيات الكسب والسعي الذي هو مقدمة ونوع طريق للرزق ، قال تعالى [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
ويمكن استقراء حضّ القرآن على العمل والكسب والضرب في الأرض بالجمع بين آيتين أو أكثر .
ترغيب النبي محمد (ص) بالعمل والكسب
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ترغيب المسلمين بالعمل واجتناب الفاقة وسؤال الناس .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تعوذوا بالله من الفقر والقلة)( ).
مع بعث الأمل في النفوس بأن الله عز وجل هو الرزاق .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (خير ما كسب الرجل من عمل يده وإن ولد الرجل من كسبه ، وروي أن أولاد أبي لهب اختصموا عند ابن عباس فتنازعوا وتدافعوا ، فقام ابن عباس ليحجز بينهم ، فدفعه أحدهم ، فوقع على فراشه ، وكان قد كف بصره فغضب وصاح : أخرجوا عني الكسب الخبيث)( ).
وتبين آيات كثيرة وجوب العمل الصالح ، وهو كسب في الحياة الدنيا والآخرة ، وسبب للرزق وتهيئة لمقدماته ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
والنسبة بين كل من الحياة الطيبة والعمل والرزق الكريم عموم وخصوص مطلق .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحضّ أصحابه على العمل والكسب ، ويدعو لهم بالبركة والرزق الوافر.
و(عن أنس : أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : أما في بيتك شيء؟ قال : بلى ، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه من الماء .
قال : ائتني بهما .
فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال : من يشتري هذين؟ قال رجل : أنا آخذهما بدرهم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثاً؟ قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين . فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين ، فاعطاهما للأنصاري وقال : اشتر باحدهما فأنبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوماً فائتني به .
فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ، ثم قال : اذهب فاحتطب وبع فلا أرينك خمسة عشر يوماً ، ففعل فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث : لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع)( ).
والمدقع أي شدة الفقر كأنه يلتصق بالأرض ، والغرم المفظع أي الضمان والدين ، والمفظع أي الشديد .
والدم الموجع هو تحمل الدية والعجز عن أدائها لأصحابها وأهل المقتول.
و(عن الشعبي ، عن حبشي بن جنادة السلولي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعرفة وأتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه فسأله إياه فأعطاه فعند ذلك حرمت المسألة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي إلا لذي فقر مدقع أو غرم مفظع ، ومن سأل الناس ليشتري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة ورضفا يأكله من جهنم ، فمن شاء فليقلل ومن شاء فليكثر)( ).
و(حبشيُّ بن جنادة بن نصر بن أسامة بن الحارث، من بني بكر من هوازن السّلولي، أبو الجنوب. رأى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وعداده في الكوفيين. روى عنه ابنه عبد الرحمن وأبو إسحاق السَّبيعي وعامر الشعبيّ. توفي في حدود السبعين للهجرة. وروى له الترمذي والنسائي وابن ماجة)( ).
ويعد حبشي من الكوفيين .
و(وعن حبشي بن جنادة وكان قد شهد حجة الوداع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي مني وأنا منه ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي)( ).
قانون سرعة امتثال النبي (ص) للأمر والنهي القرآني
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبادرته إلى الإمتثال الفعلي للأوامر والنواهي التي تنزل في القرآن ، وهو من مصاديق وتفسير قوله تعالى [وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ]( ).
وفيه مسائل :
الأولى : البيان العملي لصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثانية : بيان قانون النبي هو الإمام في الإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية.
الثالثة : تجلي مصاديق عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
الرابعة : منع الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : ترغيب الناس بالإسلام .
السادسة : تثبيت الحكم الشرعي في الوجود الذهني ، وفي المجتمعات.
السابعة : إرادة الأجر والثواب .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ]( )، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ]( )، أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدكاً)( ).
فما أن تنزل الآية القرآنية حتى يعمل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول والفعل ، وفيه وجوه :
الأول : قانون إمتثال الرسول للأوامر الإلهية .
الثاني : تأديب المسلمين بالعمل بأحكام القرآن .
الثالث : قانون كل آية قرآنية إصلاح .
الرابع : قانون الأسوة الرسالية ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة .
ثم دعاني فقال لي أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه.
ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله نزل في شيء .
قال. لا، جبريل جاءنا فقال لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك)( ).
وفي قدوم وفد نجران من النصارى إلى المدينة وهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، ورد عن ابن عباس في حديث (ونزل [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ]( )، يقول : من جادلك في أمر عيسى من بعد ما جاءك من العلم من القرآن [فَقُلْ تَعَالَوْا]( )، إلى قوله [ثُمَّ نَبْتَهِلْ]( ).
يقول : نجتهد في الدعاء أن الذي جاء به محمد هو الحق ، وإن الذي يقولون هو الباطل.
فقال لهم : إن الله قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا : يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك . فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم.
قال السيد للعاقب : قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ، ولئن لاعنتموه إنه ليستأصلكم ، وما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم .
فإن أنتم لم تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه علي ، والحسن ، والحسين ، وفاطمة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أنا دعوت فأمنوا أنتم . فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية)( ).
و(عن ابن عباس : أن ثمانية من أساقف العرب من أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب ، والسيد ، فأنزل الله [قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا]( )، إلى قوله [ثُمَّ نَبْتَهِلْ] يريد ندع الله باللعنة على الكاذب . فقالوا : أخرنا ثلاثة أيام ، فذهبوا إلى بني قريظة ، والنضير ، وبني قينقاع ، فاستشاروهم .
فاشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه ، وهو النبي الذي نجده في التوراة .
فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر ، وألف في رجب ودراهم)( ).
والتأخير ثلاثة أيام للعمل بمضمون الآية بناء على طلب الأساقفة لا يضر بصدق امتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بمضامين الآية ، لما من هذا التأخير من المصلحة والموعظة ، وفرصة الاستشارة للطرف الآخر.
علم الإستثناء
من وجوه الإعجاز في القرآن (علم الاستثناء) وهو اصطلاح جديد نطلقه على موارد الإستثناء في القرآن ودراسته.
والإستثناء صرف العامل عن المستثنى الذي يخرج من حكم شئ آخر أعم منه باحدى أدوات الإستثناء وهي :
إلا، غير ،سوى ،خلا، عدا، حاشا، ليس، لا يكون ، لمّا ، بيد.
و(إلا) أم أدوات الإستثناء، لظهور معناها في الإستثناء وملائمتها لجميع اقسامه ، وفي قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً]( )، فالحكم في التداين الكتابة والإشهاد عليه، اما التجارة الحاضرة فخارجة عن هذا الحكم، وتسمى مستثنى، والتداين الباقي يكون مستثنى منه.
فمجئ (الا) او احدى ادوات الإستثناء يجعل الحكم بينهما متضاداً , وقد يلتقي مع استعمال حرف الاضراب بل، ولكن، مع وجود فروق بينهما.
وأقسام الإستثناء هي:
الأولى : الإستثناء المتصل: وهو الذي يتحد فيه جنس المستثنى والمستثنى منه، كما لوقلت (صليت الصلاة اليومية الا العشاء) فصلاة العشــاء واحـــدة من الصــلاة اليومية، وهذا الإســتثناء هو الحقيقي لوجوه الشبه بين المستثنى والمستثنى منه، وهو اخراج بعض من كل.
الثانية : الإستثناء المنقطع: وهو الذي يكون فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وهو قريب من الاستدراك ويصح احياناً استعمال ادوات الاستدراك فيه مثل لكن، بل .
نعم لا تكون المغايرة فيه بين طرفي الإستثناء تامة ،بل لابد من صلة , وعلاقة ووجه شبه بين المستثنى والمستثنى منه قوله تعالى [فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ]( )، لإخبار آية أخرى بأن إبليس من الجن وليس من جنس الملائكة ، قال تعالى [إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( ).
ولم يرد لفظ (ففسق) في القرآن إلا في هذه الآية وفي نعت وذم ابليس لبيان أن فسقه ظلم شديد.
الثالثة : الإستثناء المفرغ: وهو الذي لا يذكر فيه المستثنى منه مع انه هو الأصل والاعم، وسمي بالمفرغ لان العامل الذي قبل (الا) لم يأخذ معموله قبلها نحو (ما صمت الا رمضان)، ويفيد هذا الإستثناء معنى التوكيد والحصر، وقد يكون الكلام قبل (الا) مفيداً ويذكر المعمول نحو (ما تلوت الا القرآن).
وسُمي مفرغاً ، لحذف المستثنى منه مع أنه من أركانه ، كما يسمى الإستثناء الناقص ومنه قوله تعالى [وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ]( ).
فالمستثنى قول الحق ، وأداه الإستثناء (إلا) ويسبق الإستثناء المفرغ باستفهام ، أو نفي أو نهي ونحوه ويعرب حسب موقعه في الجملة كما في قوله تعالى [وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ]( ).
والإستثناء في القرآن مدرسة عقائدية تتضمن التخفيف والرأفة والقواعد الامتنانية، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدَين مِنْ حَرَجٍ]( )، وتســتقرأ منه دروس وعـبر ، ويجعل المسلم يتشوق للحكم الشــرعي وهو في منازل الإستثناء، ويأتيه بشوق عند توجه الخطاب التكليفي، وعدم صرف العامل، وغياب الإستثناء او انقطاعه.
ويرد الإستثناء في القرآن ليكون بياناً وتوضيحاً وعنواناً للطف الالهي بوجه آخر ، بمعنى ان المستثنى منه لطف، وكذا المستثنى، فمع وجود التضاد بين حكميهما فان كلاً منهما لطف ورحمة ، ومن غير تعارض بينهما للتباين الجهتي وان كانا من جنس واحد.
ومن الإعجاز ان الاستثناء دليل وجود علة لخروج المستثنى من حكم المستثنى منه، ومنه لزوم التقيد بالحكم الشرعي، والالتفات الى موارد الإستثناء اثناء الأداء ، وفي عالم الأفعال مع حسن الاستعداد للامتثال في الأمرين معاً، وإمكان السعة في الإستثناء بلحاظ الاسباب والقرائن.
ولا بأس بافراد كتاب مستقل لموارد الإستثناء في القرآن ، فللإستثناء في القرآن دلالات عقائدية, ويتضمن مفاهيم وأسراراً ملكوتية في المستثنى.
الإنذار من الإعراض عن السنة
السنة النبوية بيان وتفسير للقرآن كما أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وفي هذا التعدد بيان لفضل الله ، وضبط لعلوم القرآن ومنع من التأويل خلاف المقصود ، هذا إلى جانب التفسير اللغوي والبلاغي والإعجازي والموضوعي وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]( ).
و(عن ابن إسحاق ، قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة ( )، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث.
وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، إلى قوله تعالى [وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ]( ).
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقبل عبد الله بن الزّبَعْرى بن قيس بن عديّ السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزّبَعْرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم.
فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا : أكلّ من عبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عُزَيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم ، فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزّبَعْرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزّبَعْرى .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبد ، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته.
فأنزل الله عليه [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( ) إلى [خَالِدُونَ]( )، أي عيسى ابن مريم ، وعُزير ، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ، فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ]( )، إلى قوله نَجْزِي الظَّالِمِينَ( ).
والمراد من السنة في المقام القولية والفعلية والتقريرية ولا يمكن الإستغناء عن السنة النبوية في تفسير القرآن وليس من حصر لأفراد ووجوه السنة المبينة لمجملات القرآن ، وكذا التي تؤكد مصاديق آيات القرآن .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحذيره وإنذاره من عدم الإنتفاع من سنته القولية والفعلية ، ومنها تفسيره للقرآن .
ومن الأوامر والنواهي النبوية ما ورد (عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)( ).
لبيان أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع وأن موضوعها لا يختص بتفسير القرآن ، بل بأوامر ونواهي جلية وبينة ، نعم لا تتعارض أو تتزاحم هذه الأوامر والنواهي مع القرآن .
وفي الحديث النبوي أعلاه تعريض بالذي يعرض عن الأوامر والنواهي النبوية بوصفه متكئاً على أريكته أي أنه لم يكلف نفسه التفقه في الدين ، وليس من أهل العلم ، ولا يرجع إلى العلماء ولا يصدر عن القرآن الذي يقول [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وقال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّم هُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وقال تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( ).
هل السنة النبوية تشريع
السنة النبوية على وجوه :
الأول : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنص التنزيل تلاوة ومنطوقاً ومفهوماً .
الثاني : بيان المجمل من الكتاب ، ومعناه والمراد منه ، والأول أعلاه أكثر من الثاني .
الثالث : البلاغ والإبانة ، قال تعالى [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( )، أي بما فيه الهداية والحجة ، وما يحول دون الخصومة والخلاف بين المسلمين ، ويعينهم على الإحتجاج والجدال ، ويمنع من الشك والريب .
وقد بيًن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناسخ من المنسوخ ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، كما في قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، فجاءت الآية مطلقة من جهتين:
الأولى : قطع اليد على السرقة .
الثانية : عدم تعيين مقدار وقيمة السرقة.
فبين أن القطع لليد اليمنى من مفصل الكف ، وفي رواية الإمام الجواد عليه السلام من رؤوس الأصابع.
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن القطع على قيمة المسروق بربع دينار فصاعداً ، والمراد من الدينار هنا مثقال ذهب عيار 18 حبة.
والسنة لغة الطريق والسيرة والفعل المتكرر الذي صار كالقاعدة والمنهاج.
وللسنة تعريف عند علماء اللغة والفقه والأصول ، وعند علماء الأصول هي ما أضيف إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير يرقى بأن يكون دليلاً لحكم شرعي .
والمختار أن السنة النبوية أعم من كونها دليلاً شرعياً إذ أنها على أقسام:
الأول : بيان وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
الثاني : موافقة السنة للقرآن وكونها مرآة له وترجماناً له.
الثالث : ذكر مقاصد الشريعة .
الرابع : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحكم مستحدث لم يذكر في القرآن سواء كان وجوباً أو تحريماً أو مستحباً أو مكروهاً أو مباحاً.
ولم يرد به نص في القرآن ، وهذا هو التشريع وقد اختلف فيه على قولين إيجاباً ونفياً ، والمدار هو عرض هذه التشريعات وهل لها أصل في القرآن أم أنها مستحدثة .
قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، إلا أن يقال أن من هذا البيان تشريع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأحكام.
ولابد من إحصاء وذكر التشريعات التي اختص بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم دراسة كل فرد منها على نحو خاص وهل هو مستقل عن أحكام القرآن أم أنه ترجمة للآية أو آيات من القرآن ، وعلى فرض أنها ترجمة وبيان للقرآن فهل يعد حينئذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشرعاَ أم تنتفي صفة التشريع عنه .
المختار هو الأول وأن صفة التشريع مصاحبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت مرآة للقرآن.
تخصيص السنة للعام القرآني
من معجزات القرآن أن السنة لم تخصص عموم القرآن إلا في موارد قليلة قد لا تتجاوز عدد الأصابع .
والعام هو اللفظ المستغرق للأفراد التي يصلح لها وينطبق مصداقه عليها ، من غير حصر في الكم والعدد ، وصيغ العام والإستغراق كثيرة ، منها :
الأول : (كل) وهو الأصل .
الثاني : جميع .
الثالث : كافة ، قال تعالى في خطاب الى النبي محمد [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : المعرف بأل الجنس والإستغراق .
ولابد من إحصاء الألف واللام للعهد ، والألف واللام للجنس في القرآن ، ثم إحصاء خاص للفظ معين مثل (الناس) فقد يرد للعهد مثل [قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا]( )، أي الناس المحيطين به ، ومثل الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ.
فهذه الآية هي واحدة من بين تسع آيات تكرر فيها لفظ الناس التي ورد فيها لفظ (الناس) مكرراً ويكون الألف واللام في كل واحد منها للعهد.
وورد لفظ (الناس) في القرآن (240) مرة ، وأكثرها للجنس والإستغراق ، قال تعالى [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
كما ورد لفظ الانس في القرآن (18) مرة.
الخامس : النكرة الواقعة في سياق النفي ، أي بوقوع النكرة بعد النفي ومنه :
الأولى : قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، فحرج نكرة واقعة في سياق النفي .
الثانية : قوله تعالى [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا]( )، فسبيلا نكرة واقعة في سياق النفي.
الثالثة : قوله تعالى [وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ]( ) ( )، فكل من لفظ (كاتب) و(شهيد) نكرة في سياق النفي .
الرابعة : قوله تعالى [فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( )، فلفظ (أحداً) نكرة في سياق النفي تشمل نفي الشريك في كل موجود أو معدوم لبيان وجوب التوحيد ، وثبوته عقلاً وشرعاً .
الخامسة : قوله تعالى [مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا]( )، فلفظ (ولداً) نكرة في سياق النفي ، والنسبة بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى [لَمْ يَلِدْ]( )، عموم وخصوص مطلق فنفي اتخاذ الولد أعم.
السادس : أسماء الشرط .
السابع : المضاف إلى جمع .
الثامن : المفرد المضاف .
والاضافة نسبة تقع بين اسمين ، ويسمى الأولى مضافاً ، والثاني مضافاً إليه ، ويشترط أن يكون الأول أي المضاف نكرة أما الثاني فهو على شعبتين:
الأولى : يكون معرفة فيتم تعريفه .
الثانية : نكرة فيتم تخصيصه .
ومنه ما ورد (عن أبي سعيد الخدرى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه)( ).
ويفيد هذا النفي معنى النهي إذ يترشح عن صيغته الخبرية ، فكل من الضرر ، والضرار نكرة ، لتتفرع عنه مسائل متعددة في باب العبادات والمعاملات والأحكام ، ومن مصاديق تخصيص السنة للقرآن .
أمثلة على تخصيص السنة للقرآن
المثال الأول : تخصيص قوله تعالى [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
(وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ يَرِثُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ ، وَلا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا)( ).
وحكم حرمان القاتل من التركة موجود في الشرائع السابقة ، إذ ورد (عن ابن عباس قال : إن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثراً من المال ، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم ، وكان الشيخ لا ولد له.
وكان بنو أخيه ورثته فقالوا : ليت عمنا قد مات فورثنا ماله.
وأنه لما تطاول عليهم أن لا يموت أتاهم الشيطان فقال : هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته ، وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما ، وكان القتيل إذ قتل فطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية.
وأنهم لما سوّل لهم الشيطان ذلك عمدوا إليه فقتلوه ، ثم طرحوه على باب المدينة التي ليسوا بها.
فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا : عمنا قتل على باب مدينتكم ، فوالله لتغرمنَّ لنا ديته .
قال أهل المدينة نقسم بالله ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلاً ، ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا.
فعمدوا إلى موسى ، فجاءه جبريل فقال : قل لهم [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً]( ) فتضربوه ببعضها)( ).
وعن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت : لا يرث القاتل عمداً ، أو خطأ من شيئا من المال والتركة وبه قال الحنفية والشافعية والحنابلة وسفيان الثوري ، وغيرهم ، وعن مالك : يرث قاتل الخطأ من المال ، ولا يرث من الدية ، وبه قال الأوزاعي( ).
وورد (عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لقاتل شئ فان لم يكن له وارث يرثه اقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئا)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ميراث للقاتل)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (عن رجل قتل امه ، أيرثها ؟ قال : إن كان خطأ ورثها ، وإن كان عمداً لم يرثها)( ).
المثال الثاني : ذكر أن السنة النبوية خصصت قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ]( )، بما ورد في أحاديث الزكاة.
منها ما ورد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإِبل صدقة . وفي لفظ لمسلم : ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)( ).
ولكن الإنفاق في الآية مطلق ، يشمل الصدقة الواجبة كالزكاة ، والصدقة المستحبة التي لا تختص بنصاب ولا مقدار معين ، فالمختار أن حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه ليس مخصصاً للآية الكريمة لما فيها من الإطلاق ، وإرادة الأجر والثواب بالإنفاق من القليل أو الكثير ، قال تعالى [لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ) ( )، وقال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
ومما تحبون يفيد الشمول والعموم من جهات :
الأولى : توجه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات كافة .
الثانية : الترغيب العام بالإنفاق القليل منه والكثير ، ويتلقى الله عز وجل الصدقة قبل أن تصل إلى يد الفقير.
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن يتصدق بالتمرة أو بعدلها من الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب ، فتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله حتى تكون مثل التل العظيم ، ثم قرأ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ( ).
ليدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يتصدق بالتمرة أو بعدلها) على أن الإنفاق أعم من الزكاة ، وأن أحاديث الزكاة والنصاب لا تخصص عمومات آيات الإنفاق .
المثال الثالث : تخصيص السنة العموم في قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ]( ).
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال)( ).
لبيان أن تخصيص السنة بيان وتخفيف ورحمة .
المثال الرابع : تخصيص قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، إذ وردت النصوص بنهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الدرهم بالدرهمين ، وعن بيع الغرر ، والجهالة ، والبيع الفاسد .
و(عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَبِيعُهُ ثُمَّ أَبِيعُهُ مِنْ السُّوقِ فَقَالَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ)( ).
و(عن السكوني عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من باع واشترى فليجتنب خمس خصال وإلا فلا يبيعن ولا يشترين: الربا والحلف وكتمان العيب والحمد إذا باع ، والذم إذا اشترى)( ).
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خير الناس من انتفع به الناس، وشر الناس من تأذى به الناس، وشر من ذلك من أكرمه الناس اتقاء شره، وشر من ذلك من باع دينه بدنيا غيره)( ).
لبيان أن التجارة والسعي في الدنيا مقيد بالعمل للنفع العام والإحتراز من خسارة الآخرة من أجل الآخرين .
المثال الخامس : ذكر تخصيص قوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ]( )، باخراج المجوس لما روي عن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال (قال عمر بن الخطاب : لا أدري كيف أصنع بالمجوس ، فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنّوا بهم سنة أهل الكتاب.
قال أبو عاصم : مشيت ميلاً وهرولت ميلاً حتى سمعت من جعفر بن محمد ، حدّثنا ، يعني هذا الحديث)( ).
والحديث صحيح ، ولكنه اجنبي عن موضوع الآية أعلاه والتي تسمى آية السيف ، فالمختار أنها خاصة بمشركي مكة ومن حولها وتمام الآية هو [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لذا ورد عن الحسن البصري أنه قال (قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره)( ).
المثال السادس : ذكر أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خصص قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ]( )، بما ورد عن أنس عن (رسول الله صلى الله عليه وسلم : جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح)( ).
ولكن هذا القول تفسير وبيان للآية وليس تخصيصاً لها.
الفرق بين التفسير النبوي والتفسير بالسنة
لقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير آيات عديدة من القرآن ، واستشهد واحتج بأخرى ، وهذا هو التفسير النبوي للقرآن ، بما فيه بيان ومنع من الإجتهاد خلاف النص أيام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
ومن التفسير استقراء واستنباط التفسير والبيان من السنة النبوية ومن أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمثلاً (عن سعد بن جنادة قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اجمعوا من وجد عوداً فليأت ، ومن وجد عظماً أو شيئاً فليأت به .
قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاماً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أترون هذا؟ فكذلك تجتمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا ، فليتق الله رجل لا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنها محصاة عليه)( ).
فيمكن القول بأن الحديث من تفسير السنة لقوله تعالى [وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا]( )، وقوله تعالى [بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
ومثله ما ورد (عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهُنَّ مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا ، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها)( ).
والنسبة بين التفسير بالسنة والتفسير النبوي هو العموم والخصوص المطلق ، فالتفسير بالسنة أعم ولا يخص التداخل بينهما.
وقد يجتمع التفسير النبوي والتفسير بالسنة في خبر أو حديث واحد.
فهذا التقسيم استقرائي مستحدث ، وفيه بيان .
ومن إعجاز القرآن عدم حصر منافعه للعرب والمسلمين ، والناس كافة ، ومنها إرتقاء اللغة العربية ، وضبط قواعدها ، وتثبيت علم الصرف والبلاغة والبيان.
تقييد السنة للمطلق
المطلق هو اللفظ الدال على الماهية والحقيقة من غير تقييد أو حصر بجزء أو شطر أو نوع منها ، ويعرف أيضاً بأنه ما دل على شائع في جنسه ، والمراد من الاسم الموصول (ما) أعلاه هو اللفظ.
أما المقيد فهو اللفظ الدال على الماهية مع تقييدها بقيد من قيودها ، كما في قوله تعالى [فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ]( )، فورد ذكر الوجوه في الآية مطلقاً ، لذا يجب غسل الوجه مطلقاً.
وقد ورد في رسالتي العملية (الحجة) في أفعال الوضوء بعد ذكر النية :
الثاني: غسل الوجه: وحده من قصاص الشعر الى الذقن طولاً وما اشتمل عليه الإبهام والوسطى عرضاً.
(مسـألة387) الأنزع والأغم ومن زاد وجهه او يده عن المتعارف يرجع الى المتعارف بشرط غسل تمام وجهه، والانزع الذي انحسر الشعر عن جانبي جبهته، والاغم الذي يتسع نبات شعر رأسه حتى يضيق وجهه.
(مسـألة388) يجب اجراء الماء واستيلاؤه على الوجه ولو بالإستعانة باليد ليصدق عليه الغسل.
(مسـألة389) يجب الإبتداء بالأعلى، والغسل من الأعلى الى الأسفل عرفاً ولا يجوز العكس وهو المشهور.
(مسـألة390) لا يجب احراز غسل ما تحت الشعر، بل يكفي غسل ظاهره اذا كان الشعر محيطاً بالمحل، فاذا كان شعر اللحية مثلاً محيطاً بالمحل فيجزي غسل ظاهره ولا يجب احراز غسل ما تحته، اما اذا لم يكن الشعر محيطاً بالمحل فيجب غسل البشرة الظاهرة في خلاله.
(مسـألة391) اذا شك في احاطة الشعر للمحل او عدمها، فيغسل الشعر مع البشرة احتياطاً.
(مسـألة392) الأولى ادخال شيء من اطراف الحد لإحراز الفراغ وحصول العلم.
(مسـألة393) لا يجب غسل العين وداخل الأنف والفم والثقبة في الأنف موضع الخزامة ونحوها للنص ولإصالة البراءة.
(مسـألة394) الشعر الخارج عن الحد كما في الزائد من شعر اللحية عما دار بين الإبهام والوسطى في العرض لا يجب غسله.
يجب تحصيل اليقين بزوال ما يمنع من وصول الماء الى البشرة)( ).
بينما ورد الأمر بغسل اليدين على نحو التقييد إلى المرافق ، و(المرفق مركب من شيء من الذراع وشيء من العضد ويجب غسله بتمامه).
وفيه مسائل :
(مسـألة395) المرفق مركب من شيء من الذراع وشيء من العضد ويجب غسله بتمامه.
(مسـألة396) يجب غسل كل ما في الحد ويصدق عليه انه من اليد كالإصبع الزائدة.
(مسـألة397) يجب غسل الشعر النابت في اليدين مع البشرة حتى الغليظ منه على الأقوى.
(مسـألة398) اليد المقطوعة من فوق المرفق يسقط غسلها، اما لو كان القطع مما دون المرفق فيجب غسل ما بقي من الذراع، والذراع لغة ما بين طرف المرفق الى طرف الاصبع الوسطى.
(مسـألة399) الوسخ الزائد تحت الأظافر يجب ازالته اذا عد ما تحته من الظاهر.
(مسـألة400) ما يعلو البشرة مثل الجدري وآثاره الباقية عند الإحتراق يكفي غسل ظاهره وان انخرق، ولا يجب ايصال الماء الى ما تحت الجلدة.
(مسـألة401) ما ينجمد على الجرح عند البرء يلحق بالجلد من حيث الحكم فيجزي غسل ظاهره ولا يجب رفعه وان كان سهلاً.
(مسـألة402) لا يجب ازالة الوسخ الذي على البشرة الا اذا كان جرماً مرئياً ويجب ازالة الجص والنورة وما يشكل طبقة عازلة.
(مسـألة403) الوسواسي يرجع في تحقق الغسل الى المتعارف ولا يعتبر بالشك الزائد.
(مسـألة404) يصح الوضوء الإرتماسي مع مراعاة الأعلى فالأعلى، ولا يشترط في اليد اليسرى ان يكون قصد غسلها حال الإخراج لأصل النية ونفي الحرج، ويجوز التبعيض أي ان يغسل عضواً ويرمس آخر.
(مسـألة405) يجوز الوضوء بماء المطر ولو تحت الميزاب مع مراعاة الأعلى فالأعلى والترتيب والموالاة ونحوها من شرائط الوضوء.
(مسـألة406) اذا شك في شيء انه من الظاهر حتى يجب غسله او من الباطن فلا يجب غسله، فالأحوط استحباباً غسله.
(مسـألة407) يجب ازالة الأصباغ عن اظافر اليد حال الوضوء والغسل، ولا يجب ازالتها عن اظافر اصابع القدم الا عند الغسل.
(مسـألة408) يستحب ان تبدأ المرأة بباطن الذراعين عند غسلهما والرجل يبدأ بظاهرهما في غسل اليدين من الوضوء.
وورد تقييد الوجه والمسح على على الرأس في الوضوء للمطلق في القرآن ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وهناك أمثلة متعددة في المقام منها [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ]( )، إذ قيدت الرقبة أي العبد أو الأمة المعتقة بأنها مؤمنة .
تقييد السنة لإطلاق الآية
قد يأتي تقييد المطلق القرآني بالسنة النبوية.
ومن تقييد السنة النبوية لمطلق القرآن تقييد أحكام آية السرقة [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وسورة المائدة من آخر سور القرآن نزولاً ، ولم يرد لفظ [السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ] في القرآن إلا في هذه الآية وفيه بيان لمصاحبة التفسير النبوي حتى لآخر آيات القرآن نزولاً.
وجاءت الآية بقطع اليد مطلقاً من السارق ، واليد لغة من المنكب إلى أطراف الأصابع ، والسرقة هي أخذ مال محروز خفية على نحو الإستتار وليس نهباً علنياً أو غشاً وخديعة.
وليس للسارق فيه ملك أو شبهة ملك أو إرث ، ولا تثبت السرقة إلا بالبينة الشرعية عند الحاكم بعد أن ترفع إليه ، أو الإقرار .
ويشمل الإطلاق في الآية وجوهاً منها :
الأول : السارق : وعدم حصر الآية بالمكلف إلا بآيات القرآن الأخرى والسنة النبوية والقرائن .
الثاني : موضع القطع من اليد .
الثالث : مقدار السرقة .
الرابع : حال الإختيار دون الإضطرار .
فجاءت السنة النبوية لتحديد كل من :
الأول : حصر موضع القطع .
الثاني : بيان مقدار النصاب الذي يكون فيه القطع.
و(عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)( ).
والمراد من الدينار هنا هو مثقال ذهب عيار (18) حبة .
الثالث : قطع اليد اليمنى .
الرابع : البينة .
قانون أولوية قضاء الدَين
ورد قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( )، وفيه مسألتان:
الأولى : تقدم الوصية في الآية ، وجاءت السنة بتقديم الدَين لأولويته سواء كان الدَين لله عز وجل كحجة الإسلام أو الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الخمس ، أو كان الدَين للناس.
و(عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير ، لا يطيق الحج ، أفأحج عنه ، قال : أكنت قاضيا دينا لو كان عليه ، فقال : نعم ، فقال : فدين الله أولى حج عنه)( ).
الثانية : ورد ذكر الوصية في الآية مطلقاً ثلاث مرات في آية واحدة وهي [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ]( ).
وورد تقييد الوصية بالثلث لما ورد (عن سعد بن أبي وقاص : أنه مرض مرضاً أشفي منه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال : يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة أفأتصدق بالثلثين؟ قال : لا . قال : فالشطر . . . ؟ قال : لا . قال : فالثلث . . . ؟ قال : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)( ).
وأطرح مسألة مستحدثة في المقام أيهما أكثر :
الأول : تقييد آيات القرآن لإطلاقاته .
الثاني : تقييد السنة لإطلاقات القرآن .
المختار هو الأول ، سواء ما تبين وذكر في علم التفسير والسنة ، أو ما سيظهر من علوم في المقام مستقبلاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وهل من التبيان في الآية أعلاه بيان وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ، الجواب نعم .
والإحصاء وتخصيص دراسات خاصة له أمر ممكن ، وفيه الأجر والثواب ، وإرتقاء في العلم والمعرفة.
رد المتشابه إلى المحكم
لقد جعل الله عز وجل القرآن بياناً جامعاً مانعاً ، يتضمن أحكام الشريعة ، وأًول ومفاتيح العلوم ، وجعل أكثر آيات القرآن محكمة ظاهرة المعنى يتجلى المراد منها بالتلاوة والتدبر .
وقيل المحكم الذي لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً وليس بتام لتعدد معاني اللفظ القرآني ، ومنها ما استظهره العلماء وعامة المسلمين ، ومنها ما تم استنباطه واستقراءه ، ومنها خزائن للفظ القرآني تدعو العلماء لإستخراج دررها.
وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور (254) جزء من معالم الإيمان ولا زلت في سورة آل عمران والحمد لله .
وإلى جانب المحكم فهناك المتشابه في القرآن ، وهو الذي يشتبه على بعض الناس فيرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة ثم العلماء إلى المحكم ، ومن كنوز القرآن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل كقيام الساعة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]( ).
وقد ذكرت وجوه وتعريفات متعددة لكل من المحكم والمتشابه ذكرتها في الجزء( ) من هذا السِفر .
ومن الآيات المحكمات إقامة الفرائض العبادية والمواريث والأحكام الشرعية ، و(عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكم يبايعني على ثلاث ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ]( )، حتى فرغ من الآيات -فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه)( ).
وذكر الحاكم في مستدركه بسنده عن (ابن عباس يقول: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا( ).
والمختار عدم إنحصار الآيات المحكمات بالآية أعلاه خاصة وأن الله ذكر [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ]( )، بصيغة الجمع .
والمختار أن أكثر آيات القرآن محكمات وأن المتشابهات ترد إلى المحكمات فتلحق بها في بيان ووضوح المعنى.
ومن مصاديق قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برد المتشابه إلى المحكم ما ورد (عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( )، شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه.
قال : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، إنما هو الشرك)( ).
كما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين لأصحابه ما يشكل عليهم إذ ورد (عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني الإِسلام ، ونعت لي الصلوات الخمس كيف أصلي كل صلاة لوقتها.
ثم قال : إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتم الصيام إلى الليل ، ولم أدر ما هو! ففتلت خيطين من أبيض وأسود ، فنظرت فيهما عند الفجر فرأيتهما سواء.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظت غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
قال : وما منعك يا ابن حاتم ، وتبسم كأنه قد علم ما فعلت .
قلت : فتلت خيطين من أبيض وأسود ، فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي نواجذه ، ثم قال : ألم أقل لك من الفجر ، إنما هو ضوء النهار من ظلمة الليل)( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ]( )، بينت السنة النبوية أحكام البيع وبما يمنع الجهالة والغرر ، منه نهى النبي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه ، وقبل أن يحمر أو يصفر.
و(عن أبي عبيد القاسم بن سلام بأسانيد متصلة إلى النبي صلى الله عليه وآله في أخبار متفرقة أنه نهى عن المحاقلة والمزابنة ، فالمحاقلة بيع الزرع وهو في سنبله بالبر وهو مأخوذ من الحقل)( ).
والمزابنة بيع التمر بثمر في رؤوس النخل .
(وكان النبي صلى الله عليه وآله إذا بعث الخراص قال: خففوا في الخرص فان في المال العرية والوصية)( ).
والعرية هي النخلة يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً.
السنة النبوية ومناسك الحج
قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
ورد لفظ الناس أعلاه بصيغة العموم الإستغراقي والطولي من أيام أبينا آدم عليه السلام وأمنا حواء إلى يوم القيامة وحينما حج آدم البيت الحرام بشرته الملائكة بقبول حجه.
وفي حديث عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنة ، وكان له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، وفيه قناديل من الجنة.
والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة حذاء الكعبة الحرام.
وأن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى موضع الكعبة وهو مثل الفلك من شدة رعدته ، وأنزل عليه الحجر الأسود ، وهو يتلألأ كأنه بيضاء فأخذه آدم فضمه إليه استئناساً.
ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم فجعله في الحجر الأسود.
ثم أنزل على آدم العصا ، ثم قال : يا آدم تخط . فتخطى فإذا هو بأرض الهند ، فمكث هناك ما شاء الله ثم استوحش إلى البيت ، فقيل له : احجج يا آدم . فأقبل يتخطى ، فصار كل موضع قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة.
فلقيته الملائكة فقالوا : بر حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام .
قال : فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وكان آدم إذا طاف بالبيت قال هؤلاء الكلمات ، وكان آدم يطوف سبعة أسابيع بالنهار)( ).
ويحتمل الحديث وجوهاً :
الأول : إنه خاص بآدم عليه السلام .
الثاني : شمول الأنبياء جميعاً ، وليس من نبي إلا وقد حج البيت الحرام.
الثالث : الحديث بشارة لكل مسلم بقبول الحج .
والمختار هو الثالث ، لذا حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أداء مناسك الحج كاملة ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم)( ).
وقد قام بالإجابة على أي سؤال من قبل المسلمين عن الحج ، سواء في حجة الوداع أو قبلها أو بعدها .
وتتضمن أجوبته البيان والتخفيف ومنع الحرج عند السهو أو النسيان أو الخطأ أو التقديم والتأخير.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وجود حاجز أو بواب بينه وبين المسلمين والمسلمات في حجة الوداع مع أن عددهم بعشرات الآلاف ، وكان يجيب على كل سؤال بما فيه التخفيف والتيسير مثل تقديم الذبح على الرمي سهواً أو نسياناً.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيان التفصيلي لمناسك الحج قولاً وفعلاً ، وإجابته على كل الأسئلة التي تتعلق بالحج بما يفيد التخفيف والتيسير ومصاديق قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
ومن معجزاته أنه منع الإختلاف بين المسلمين في مناسك الحج ببيانه القولي والفعلي بخصوصها وبحضور أعداد كثيرة من المسلمين.
و(عن جابر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)( ).
لبعث الصحابة على اتقان مناسك الحج كما يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن معجزاته إخباره عن قرب أجله .
ولم يحج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلا حجة الوداع التي ودع فيها أصحابه.
وهل حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلها عندما كان في مكة ، الجواب نعم ، وكان يطوف على القبائل في محل إقامتها في منى يعرض عليهم الإسلام.
وعندما اشتد أذى قريش له ولأهل بيته وأصحابه في السنوات الأخيرة التي سبقت الهجرة صار يسأل القبائل ووفد الحاج إيواءه ونصرته.
عدد خطب النبي محمد (ص) في حجة الوداع
قد يتبادر للذهن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب خطبة واحدة في حجة الوداع ، للتبادر من قول الرواة .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب عدة خطب في حجة الوداع منها :
الأولى : خطبة يوم عرفة وتسمى خطبة الوداع .
الثانية : خطبة يوم النحر في العاشر من شهر ذي الحجة بمنى .
الثالثة : خطبة في أوسط أيام التشريق بمنى.
وكان يقول (فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ)( ).
ولم ينحصر ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه العبارة بمناسك الحج بل تشمل مصاديق التبليغ .
(وأخرج أحمد عن معاوية بن حيدة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن ربي دَاعِيَّ وأنه سائلي هل بلغت عبادي ، وإني قائل رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ثم إنكم تدعون مفدمة أفواهكم بالفدام ، إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه)( ).
وقال جابر في ذكره لحج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.
ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مد بصري بين يديه ، من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شئ عملنا به ، فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم ! لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك ، والملك لا شريك لك)( ).
وهل التحق أهل مكة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع ، الجواب نعم .
ويدل عليه ما ورد في حديث الإمام الباقر عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري في حجة الوداع (أمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فاجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة)( ).
والمراد من قريش في الحديث أعلاه رجالات قريش الذين خرجوا من مكة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منى.
وفي عام الفتح في السنة الثامنة للهجرة خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألفان من أهل مكة ويسمون الطلقاء ومسلمة الفتح( ).
وقال القرطبي (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين)( ).
وهذا الاسم (الطلقاء) لا ينطبق على المسمى لأن أكثر هؤلاء قد دخلوا الإسلام قبل فتح مكة ، ومنهم من كان مسلماً قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولكنهم يخفون إسلامهم ، أو تتعذر عليهم الهجرة ، أو هناك عوائق دونها .
فان قلت لقد سماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطلقاء ، إذ قال (ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ.
فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدّعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِئَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ .
إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ، قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ)( ).
والجواب إن القدر المتيقن من النعت الذي أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو رجالات قريش الذين آذوه وأهل بيته وأصحابه وبعد الهجرة قاموا بغزو المدينة وقاتلوه في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، والتي تسمى في كتب السيرة والتأريخ بأنها غزوات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما كان هو وأصحابه في حال دفاع ، وكان المشركون هم الغزاة.
ويحتمل المراد من الغائب في الآية أعلاه وجوه :
الأول : الغائب من الصحابة عن حجة الوداع .
الثاني : التابعون.
الثالث : الناس جميعاً في عهد النبوة لأن الحج واجب على كل مستطيع من الناس .
وخرج المشركون بالتخصيص ، بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار.
الرابع : إرادة المسلمين والمسلمات .
الخامس : الناس جميعاً ، وهو الذي يتجلى بتوثيق السنة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ خطب وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية ، وهذا العموم من مصاديق وتفسير قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
وثائق حجة الوداع
لقد كانت حجة الوداع معجزة متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبيّن فيها أحكاماً عامة في العبادات والمعاملات إلى جانب بيانه لمناسك الحج .
وعن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عليهما السلام قال (دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج.
ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج.
فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثل عمله.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل التوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، وأهل الناس بهذا الذي تهلون به ، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه.
ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته حتى أتينا البيت معه ، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( )، فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين يقرأ فيهما بقل هو الله أحد ، وبقل يا أيها الكافرون ، ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن.
ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، فبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فكبر الله وحده وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك وقال : مثل هذا ثلاث مرات .
ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، فصنع على المروة مثل ما صنع على الصفا حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال : إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة ، فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية وجهوا إلى منى أهلوا بالحج.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة .
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فاجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة.
فنزل بها حتى إذا غربت الشمس أمر بالقصواء فرحلت ، فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس.
فقال : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع.
ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دم عثمان بن ربيعة بن الحرث بن المطلب.
وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله.
اتقوا الله في النساء أخذتموهن بامانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح.
ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ، وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت قال : اللهم اشهد ، ثم أذن بلال.
ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه.
فاستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده اليمنى.
السكينة أيها الناس كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى صعد حتى أتى المزدلفة ، فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح.
ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فرقى عليه فاستقبل الكعبة فحمد الله وكبره وَوَحَّدَهُ ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى محسراً ، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى الذي تخرجك إلى الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها ، فرمى بطن الوادي ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنحر ، فنحر بيده ثلاثاً وستين ، وأمر علياً ما غبر وأشركه في هديه.
ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقتها ثم ركب.
ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت فصلى بمكة الظهر ، ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال : انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فأدلوه دلواً فشرب منه)( ).
مسائل في حجة الوداع
وفيه مسائل :
الأولى : شوق عموم المسلمين للإئتمام بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته في الحج .
الثانية : تسليم المسلمين بوجوب العمل بمثل ما عمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تأكيد عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل ، ومنع الغلو في شخصه الكريم ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
إذ يحرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الفرائض والعبادات وتقيد بكيفيتها وأركانها وأجزاءها وفق ما نزل به الكتاب وما جاء جبرئيل ، ومنه قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتلبية بعد إحرامه في مسجد ذي الحليفة وتوجهه إلى مكة بالقول :
(لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك.
إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)( ).
لتبقى ذات التلبية يرددها وفد الحاج أمس واليوم وغداً .
الرابعة : مواظبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على التلبية إلى حين وصوله إلى البيت الحرام واستلامه الركن والحجر الأسود .
الخامسة : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في البيت الحرام عند المقام [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( )، وقيامه بالصلاة ركعتين خلف المقام .
السادسة : القاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خطباً متعددة في موسم الحج واتخاذه من ناقته القصواء منبراً .
السابعة : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حرمة سفك الدماء والقتل ، وأن قتل النفس التي حرم الله من أكبر الكبائر .
الثامنة : حرمة أكل مال الغير بالسرقة والغش والخداع والغلبة والنهب ، ونحوه من الوجوه التي حرمها الله [وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( ).
و(عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار .
وأخرج أحمد عن أبي حميد الساعدي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرىء أن يأخذ مال أخيه بغير حقه ، وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم)( ).
وفي هذه الأحاديث بيان وتفسير لآيات القرآن منها [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ]( )، [وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا]( )، [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( ).
التاسعة : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إكرام النساء والعناية بهن ، مع الوصية الضمنية لهن بالتقيد بآداب الزوجية.
لبيان أن النبي محمداً يفسر آيات القرآن بالأمثال والشواهد الحسية.
معركة حنين
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أشد الأذى من هوازن وثقيف.
فحينما خرج اليهم بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة بنت خويلد وأقام عندهم عشرة أيام يعرض عليهم الإسلام ، ويسأل وجهاءهم ، لدرء الأذى والضرر عنه .
ولكنه أذوه ورموه بالحجارة ، حتى أدموا كعبيه ، وحرضوا العبيد والصبيان عليه ، لأنهم لا يريدون الخلاف والخصومة مع قريش ، وتعريض مصالحهم للخطر .
وبعد أن تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة تفاجأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بجيش عرمرم من هوازن وثقيف يقطعون على النبي وأصحابه طريق العودة إلى المدينة ولإرادة إبادتهم إبادة جماعية.
إذ هجم نحو عشرين ألف من ثقيف وهوازن بغتة على المسلمين وهم يمشون في الوادي لولا أن منّ الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر بمعجزة عقلية وحسية ظاهرة ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
ولم يذكر اسم حنين في القرآن إلا في الآية أعلاه وهو واد قريب من مكة وقعت فيه أكبر معركة بين المسلمين والمشركين من جهة كثرة عدد المقاتلين ، كما أنها أخطر معركة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمباغتة آلاف المشركين بالهجوم عليهم ، وفرار السرايا الأولى من المسلمين الذين كان مجموع عددهم اثني عشر ألفاً.
عشرة آلاف الذين جاءوا مع الني صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لفتح مكة.
ومنهم ألفان من مسلمي الفتح.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثباته في موضعه واتخاذه الدعاء سلاحاً في ساعة الشدة ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، مما جعل الصحابة يرجعون إليه ، ويحيطون به ويشتد القتال بالهجوم غير المبرر من قبل هوازن وثقيف ، والدفاع الإضطراري من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من الشواهد على أن هذه المعركة ليست غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما دأب كتاب السيرة على نعتها.
ووقعت في أيدي المسلمين غنائم تعادل الغنائم التي غنموها في معارك الإسلام السابقة ، وفيه زجر للمشركين من التعدي على المسلمين.
وقد صدر لنا (26) جزءً بعنوان (لم يغز النبي (ص) أحداً) ، ولم أصل بعد إلى معركة حنين.
وهذه الأجزاء هي :
(159-160-161-163-164-
165-166-167-169-171-
172-173-175-176-177-
178-182-185-188-192-
200-208-212-218-226
-238) من هذا السِفر.
و(عن البراء بن عازب أنه قيل له : هل كنتم وليتم يوم حنين؟ قال : والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً ليس عليهم سلاح ، فلقوا جمعاً رماة هوازن وبني النضر ما يكاد يسقط لهم سهم ، فرشقوهم رشقاً ما كادوا يخطئون ، فأقبلوا هنالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب يقود به ، فنزل ودعا واستنصر ثم قال :
أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب
ثم صف أصحابه)( ).
وهل إتعظ الصحابة يوم حنين من معركة أحد ، وفرار طائفة منهم في المعركة ، وتوثيق القرآن لبعض الوقائع فيها ، كما في قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الجواب نعم ، فقد كانت معركة أحد درساً وموعظة كما يدل رجوع الصحابة السريع ، على زيادة إيمان الصحابة ، وعشقهم للشهادة وكيف أنهم لاذوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند توالي سهام المشركين عليهم والتي لاتخطئ .
وبيان أن النبي محمداً اشجع الناس وكان الأقرب إلى العدو ، وأن اللواذ به يعني بالنبوة والرسالة والقرآن ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة الشدة ، وكذا الدفاع عنه من غير تعارض بين الأمرين.
وهل انقطع مصداق قوله تعالى [رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، في معركة بدر أو فيها وفيه معركة أحد ، الجواب لا ، إنما هو نعمة من عند الله ، والله عز وجل لايقطع نعمه خصوصاً عن الأنبياء ، لذا ورد بخصوص معركة حنين قول الله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
معجزة رمي التراب يوم حنين
لقد توجه عدد من الصحابة يوم حنين نحو صوت العباس وموضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجتمع عنده مائة من الصحابة ، وهذا العدد قليل جداً في مواجهة أكثر من عشرين ألف يهجمون هجمت رجل واحد وقد جاءوا بنسائهم وأولادهم وأنعامهم ليقاتلوا دونها.
فغشى جيش المشركين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل عن بغلته الشهباء وأخذ (قبض قبضة من تراب من الارض واستقبل به وجوههم وقال : شاهت الوجوه.
فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة ، فولوا مدبرين ، فهزمهم الله وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غنائمهم بين المسلمين)( ).
لبيان تجدد عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، لوحدة موضوع في تنقيح المناط ، ولإتصال فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وفي التنزيل [وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ]( ).
وفد ثقيف
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم تمر سنة على معركة حنين التي كانت هوازن وثقيف هم الغزاة المهاجمون فيها إلا وقد قدم وفد رؤساء ثقيف إلى المدينة في شهر شوال من السنة التاسعة وبعد معركة تبوك لدخول الإسلام بعد أن أصابهم القنوط وصاروا عاجزين عن الخروج من حصنهم في الطائف ، إذ يتعرضون للحجز أو القتل .
وتعطلت تجاراتهم وأعمالهم ورأوا المعجزات تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال أحد رؤسائهم وهو عمرو بن أمية وهو من أدهى العرب (قَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ وَإِنّمَا نَحْنُ فِي حِصْنِنَا هَذَا ، مَا بَقَاؤُنَا فِيهِ هَذَا أَطْرَافُنَا تُصَابُ وَلَا نَأْمَنُ مِنْ أَحَدٍ مِنّا يَخْرُجُ شِبْرًا وَاحِدًا مِنْ حِصْنِنَا هَذَا ، فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ)( ).
واتفقوا على أن يبعثوا رجلاً من رؤسائهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاختاروا عبد ياليل بن عمرو ، ولكنه امتنع عن الذهاب بمفرده لا لأنه كان من أشهر الناس إيذاءً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قدم عليهم إلى الطائف ولكنه (خَشِيَ إنْ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ مُسْلِمًا أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةَ حَتّى يَبْعَثُوا مَعَهُ رِجَالًا)( ).
وكان عروة بن مسعود الثقفي زعيم قومه ومن وجوه العرب ، وأسلم بعد حصار الطائف ، ورجع إلى قومه يدعوهم للإسلام فاسمعوه ما يكره .
وفي فجر اليوم التالي أبى عروة إلا أن يؤذن أذان الصبح فصعد على سطح غرفة له ، وأذن للصلاة ، فرمته ثقيف بالسهام ، فخر ميتاً.
ولما بلغ نبأ مقتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (مثل عروة . مثل صاحب يس . دعا قومه إلى الله فقتلوه)( ).
وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسير لقوله تعالى [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( )، إذ قام حبيب النجار بنصيحة قومه ، ودعوتهم للإيمان فوثبوا عليه فقتلوه.
لبيان مسألة وهي تفسير النبي للآية القرآنية بذكر المثل .
وقد انتقم الله عز وجل من قوم حبيب لإصرارهم على الكفر ليكون قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه إنذاراً لثقيف ولكنهم لم يتعظوا ، فانتقم الله عز وجل منهم في معركة حنين بكثرة الأسرى رجالاً ونساء ، وكثرة الغنائم والخزي الذي لحقهم ، والحصار العام عليهم.
ومع أن عبد ياليل من رؤساء وسادة ثقيف فانه طلب أن يبعثوا معه رجالاً آخرين إلى المدينة ، فبعثوا معه ستة ذكر الواقدي أسماءهم( ).
وقيل أن الوفد كانوا بضعة عشر رجلاً وضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ثلاث خيمات من جريد في المسجد النبوي يأتون لها في النهار والليل فيرون معجزة صفوف الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحال خشوع وخضوع بين يدي الله عز وجل.
وتلاوة النبي محمد آيات القرآن بكيفية تنفذ إلى شغاف القلوب طوعاً وقهراً بمعجزة من عند الله عز وجل .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجري عليهم الضيافة ، في دار المغيرة.
واستمعوا إلى خطب النبي محمد وكيف أنه لم يذكر نفسه في خطبته (أَمَرَنَا بِالتّشَهّدِ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَلَا يَشْهَدُ بِهِ فِي خُطْبَتِهِ فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ قَالَ أَنَا أَوّلُ مَنْ شَهِدَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ ثُمّ قَامَ فَخَطَبَ وَشَهِدَ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فِي خُطْبَتِهِ)( ).
مما يدل على أن الصحابة ينقلون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يقوله الناس ، وأنه لم يغضب من قولهم ولم يتجاهله انما استجاب له ، وشهد لنفسه بالرسالة هذه الشهادة اليومية التي هي مصاحبة لأيام البعثة من أيام الدعوة الأولى ، والتي تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسببها الأذى الشديد من كفار قريش وسعوا بسببها إلى قتله مع مصاحبة المعجزات لها ، ويدل الخبر على أن الذي يرفع الأذان غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يؤذن لرسول الله كل من :
الأول : بلال الحبشي .
الثاني : عمرو بن أم مكتوم .
الثالث : أبو محذورة (أوس بن معير بن لوذان بن ربيعة بن عريج بن سعد بن جمح أبو محذورة الجمحي القرشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة غلبت عليه كنيته)( ).
البيان النبوي
لقد كانت أقوال وأمثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن ، وترجمة له ، وبعث للناس على النهل منه ، والصدور عنه ، وكان بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن على وجوه:
الأول : بيان ألفاظ القرآن ، وضبط كلماته وحروفه .
الثاني : ضبط أول وخاتمة الآية بالوقوف عند اختتام الآية ، ومن التفسير النبوي العملي لقوله تعالى [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا]( )، و(عن أنس: أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كانت مدًا، ثم قرأ [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم)( ).
(وأخرج العسكري في المواعظ عن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله [وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا]( ) قال : بينه تبييناً ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة)( ).
وكان النبي يرّغب المسلمين بقراءة القرآن بالإخبار عما ينتظر قارئه من الثواب ، ورد عن (عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارْقَ ، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)( ).
الثالث : نظم الآيات ، بحيث يحفظ ويكتب الصحابة الآيات حسب نظمها التوقيفي الذي نزل به جبرئيل عليه السلام .
الرابع : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسبل النجاة في الآخرة بالإستدلال بآيات القرآن ، و(عن معاذ بن جبل قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقدمت به راحلته ، ثم إن راحلتي لحقت براحلته حتى تصحب ركبتي ركبته ، فقلت : يا رسول الله ، إني أريد أن أسألك عن أمر يمنعني مكان هذه الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]( ).
قال : ما هو يا معاذ؟ قلت : ما العمل الذي يدخلني الجنة وينجيني من النار؟ قال : قد سألت عن عظيم وإنه يسير ، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة ، وايتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروته؟ أما رأس الأمر فالإسلام ، وعموده الصلاة ، وأما ذروته فالجهاد ، ثم قال : الصيام جنة ، والصدقة تكفر الخطايا ، وقيام الليل ، وقرأ [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ]( )، إلى آخر الآية . ثم قال : ألا أنبئكم ما هو أملك بالناس من ذلك.
ثم أخرج لسانه فأمسكه بين أصبعيه ، فقلت : يا رسول الله ، أكل ما نتكلم به يكتب علينا؟ قال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ إنك لن تزال سالماً ما أمسكت ، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك)( ).
وروي (عن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك، ومن صام صوما يرائي به، فقد أشرك، ثم قرأ هذه الآية)( ) فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.
وفي سبب نزول الآية ورد عن مجاهد أنه (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله فيذكر ذلك مني واحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يقل شيئا فنزلت الآية)( ).
وهو من فضل الله في تعضيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بنزول آيات القرآن ، وموضوع الآية أعم من سبب النزول ، إذ أن المدار على عموم المعنى وهي ضياء ينير سبل السالكين .
مقتل القراء في معركة اليمامة
وقعت معركة اليمامة في السنة الحادية عشرة للهجرة أيام أبي بكر ، وهي من حروب الردة ، إذ إدعى مسيلمة الكذاب أنه نبي ، وأن رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أشركه في أمره بشهادة زور من الرجال بن عنفوة ، وقد حذر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منه ومن سوء عاقبته على نحو الإخبار الإجمالي.
إذ ورد (عن رافع بن خديج قال كان بالرجال بن عنفوة من الخشوع واللزوم لقراءة القرآن والخير شيء عجيب ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما والرجال معنا جالس مع نفر فقال أحد هؤلاء النفر في النار قال رافع فنظرت في القوم فإذا بأبي هريرة وأبي أروى الدوسي والطفيل بن عمرو ورجال بن عفنوة فجعلت أنظر وأتعجب وأقول من هذا الشقي فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعت بنو حنيفة فسألت ما فعل الرجال بن عنفوة فقيل افتتن هو الذي شهد لمسيلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشركه في أمره من بعده فقلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق)( ).
لقد بعث أبو بكر على الرّجال ، وأوصاه ، وأرسله إلى أهل اليمامة ليمتنعوا عن الردة وعن نصرة مسيلمة ، فوعده خيراً ، ولكن حينما وصل إلى مسيلمة شهد له زوراً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشركه في نبوته ، فافتتن كثير من الناس وقاتل الرجال إلى جانب مسيلمة.
لقد تنبأ مسيلمة الكذاب أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزداد الرجال والأتباع من بني حنيفة معه عصبية وحمية .
وتسمى معركة اليمامة أيضاً يوم عقرباء باسم موضع المعركة وهي طرف اليمامة لأن مسيلمة أراد أن تبقى أموالهم وعوائلهم وزراعاتهم وريف اليمامة خلفهم فلا تصاب .
و(عن عمير بن طلحة النمري عن أبيه أنه جاء اليمامة فقال أين مسيلمة فقالوا : مه رسول الله)( ).
ومعنى السؤال عنه باسمه ، أي لا أقر واعترف بأنه رسول الله حتى أراه وأسأله فجاءه فقال (أنت مسيلمة ، قال : نعم ، قال من يأتيك ، قال : رحمن.
قال أفى نور أو في ظلمة ، فقال في ظلمة ، فقال أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر فقتل معه يوم عقرباء) ( ).
وسار إليهم وقد وجه أبو بكر عكرمة بن أبي جهل لقتال مسيلمة ، ولم يقدر على المواجهة والثبات أمام جيوش بني حنيفة ، فتراجع ، وبقي شرحبيل بن حسنة في موضعه ينتظر المدد ، فجاءت جيوش الصحابة ومعهم خالد بن الوليد ، ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد استنفر قواته.
واختلف في عدد كل من الفريقين اختلافاً كثيراً وفي قوات بني حنيفة أقوال :
الأول : عدد جيوش بني حنيفة أربعون ألفاً وعدد قتلاهم عشرون ألفاً ، وهذا العدد من القتلى مبالغ فيه.
الثاني : استطاع مسيلمة أن يجمع عشرة آلاف مقاتل .
الثالث : أربعة آلاف رجل .
واليمامة مدينة في نجد شمال مدينة الرياض بـ(30) كم.
أما جيش المسلمين الذي خرج من المدينة فقد وردت الروايات بأنه أربعة آلاف ثم انضمت إليه قبيلة طي قبل بدء المعركة .
ثم قبائل بني أسد وغطفان لما نزل خالد بن الوليد البطاح ، كما وصل إليه مدد آخر من المدينة بعثه أبو بكر لذا يقدر جيش المسلمين بستة آلاف رجل .
وقد قاتل شرحبيل بن حسنة مسيلمة الكذاب قبل وصول خالد.
معجزة غيرية للنبي (ص)
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية اللاحقة أن المسلمين في بني حنيفة كانوا يراسلون جيش المسلمين سراً ، ويبينون لهم ثغرات جيش بني حنيفة ، وينتهزون الفرصة للإنقضاض عليهم وتفريقهم ، فلم يكن بنو حنيفة قد ارتدوا كلهم ومنهم من خرج مع مسيلمة تقية وخشية من القتل مع بقائه على الإسلام.
وثبات المسلمين على دينهم حتى في منازل الردة من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وبشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثبات الإسلام.
وصحيح أن عدداً من القراء قتلوا شهداء في معركة اليمامة وكل فرد من المسلمين خسارة يومئذ إلا أنها كانت معركة فاصلة بين الإسلام والإرتداد.
إذ تنكشف مكة والمدينة أمام المرتدين في حال خسارة المسلمين ، وهل نصر المسلمين في معركة اليمامة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، الجواب نعم ، لبيان معجزة وهو تضمن الآية أعلاه البشارة بالنصر يوم اليمامة وغيره.
الأسود العنسي
لقد ادعى الأسود العنسي النبوة واستولى على اليمن ولكنه قتل غيلة.
وقد ظهرت ردته بعد حجة الوداع ومرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي مات فيه .
(فلما سمع الناس بمرضه وثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة باليمامة، وطليحة في بني أسد)( ).
إذ دامت دعوة الأسود العنسي في اليمن قريباً من أربعة أشهر ، واحتل عدداً من المدن .
ثم تم اغتياله بعد أن اشارت زوجته إلى مكانه الذي يخلو فيه ، واسمها آزاد تزوجها بعد أن قتل زوجها شهر بن باذان.
(وقالت: والله ما خلق الله شخصاً أبغض إلي منه، ما يقوم لله على حق ولا ينتهي عن محرم)( ).
وأتى الوحي من عند الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الأسود العنسي في ليلته ، وبشر به المسلمين ، وهو في مرضه فقال (قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين قيل: من قتله ، قال : قتله فيروز)( ).
ثم جاء خبر مقتله إلى المدينة بعد موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مقتله معجزة من المغيبات وعوناً للمسلمين في جهادهم وتصديهم للردة.
لقد جاءت كتب الأمراء المسلمين من كل صوب من الجزيرة إلى المدينة وتتضمن الإخبار عن إرتداد قبائل العرب ، وصار المسلمون بينهم قلة ، ولم تثبت على الإيمان كقبيلة كاملة إلا الأنصار وقريش وعموم أهل مكة وثقيف.
وهل كان القرآن وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضراً في حروب الردة ، الجواب نعم ، فهو من أعظم الأسلحة في جمع المسلمين وثباتهم في منازل الإيمان ، وفي بقاء طائفة من كل قبيلة من القبائل المرتدة على الإسلام ، وكانوا النواة للقضاء على الردة في مدنهم وقراهم.
قانون تنزيه الأسواق من الربا
يتعلق النهي عن الربا بالمعاملات والأسواق في الحياة الدنيا، بينما النار جزء من عالم الآخرة، ومثوى دائم جعله الله للكفار والظالمين، قال تعالى في خطاب لهم[هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ]( ).
وقد وردت آيات في حرمة الربا والنهي عنه ، لأنه قبض بال من غير عوض ، وفيه برزخ دون مواظبة الناس على العمل التجاري وحصره بفئة قليلة ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وكان الربا الشائع عند العرب قبل الإسلام هو (ربا الديون) بأن يقوم رجل باقراض رجل مالاً إلى أجل معلوم كالحول من غير ربح أو زيادة ، فاذا حلّ الأجل وتعذر على المدين القضاء ، قال له الدائن (إما أن تَقْضِيَ وإمَّا أَنْ تُرْبِيَ ، فإن لم يفعله ضاعف ذلك عليه ثم يفعل كذلك عند حلوله من بعد حتى تصير أضعافاً مضاعفة)( ).
وهو من معاني أضعافاً مضاعفة في الآية الكريمة
قال (عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الورق بالورق ربا الاها وها والذهب بالذهب ربا الاها وها والحنطة بالحنطة ربا الاها وها والشعير بالشعير ربا الاها وها)( )، أي يداً بيد .
ليكون من معاني أضعافاً مضاعفة في الآية وجوه :
الأول : مضاعفة مقدار الدَين كل سنة عدا السنة الأولى ، لبيان الضرر الذي يلحق المدين فاذا كان قد عجز عن وفاء أصل الدَين في السنة الأولى ، فهو من باب الأولوية لا يطيق مضاعفته في السنة التالية ثم تتكرر المضاعفة ، وقد جاء الإسلام بقانون (لا ضرر ولا ضرار) ، إذ ورد (عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضاره الله ، ومن شاق شاق الله عليه)( ).
والنسبة بين هذا القانون وبين أخذ الربا عموم وخصوص مطلق لذا قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتحذير والإنذار والزجر عن الربا.
الثاني : أخذ المربي الأرباح والزيادات على إقراضه اشخاصاً متعددين ، فاذا كان يأخذ من كل واحد ضعفاً ، فالمجموع يكون أضعافاً مضاعفة.
الثالث : صيغة خطاب الجمع في آية البحث ، فكل مربي يجمع ضعفاً ، فتكون عند الجميع أضعافاً مضاعفة .
الرابع : الشركة والمؤسسة في الإقراض وجمع المال الربوي ، فجاء قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، لوجوه :
الأول : تحريم الربا على نحو مؤبد ، وقطع دابره .
الثاني : التخفيف عن المسلمين والناس جميعاً .
الثالث : بيان القبح الذاتي والعرضي للربا ، وقد قال تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ).
الرابع : إصلاح النفوس .
الخامس : تنشيط الأسواق .
السادس : الترغيب بالكسب الحلال .
وصارت السنة النبوية مدداً للصحابة وعامة المسلمين والمسلمات لتحريم الربا منها ما ورد (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : درهم ربا أشد على الله من ستة وثلاثين زنية . وقال : من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به .
وأخرج الحاكم وصححه البيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الربا ثلاثة وسبعون باباً ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)( ).
و(عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياك والذنوب التي لا تغفر . الغلول ، فمن غل شيئاً أتى به يوم القيامة ، وأكل الربا ، فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط ، ثم قرأ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ( ).
و(عن سليمان بن عمرو ( ) عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)( ).
أي لا تًظلمون – بفتح التاء – غيركم بأحد الربا والفائدة على القرض ، ولا تُظلمون –بضم التاء- باقتطاع بعض رؤوس أموالكم ، فلابد من إعادة المدين مقدار القرض كاملاً ، ومن غير مطل
قانون الملازمة بين الوضوء والصلاة
لقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوضوء تاماً وهو في مكة قبل الهجرة وصار يعلم أهل بيته وأصحابه كيفية الوضوء لأن الوضوء مقدمة للصلاة في شريعة الأنبياء.
فقد ورد (عن ابن عمر قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة ثم قال هذا وضوء من لاتقبل له صلوة الا به ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال هذا وضوء من يضاعف له الاجر مرتين ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي.
لفظ حديث ابى عروبة وفي حديث عبد الله بن سليمان لا يقبل الله له الصلوة الا به وقال يضاعف الله له)( ).
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الصّلَاةَ حِينَ اُفْتُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي.
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ فَتَوَضّأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ.
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ ثُمّ تَوَضّأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا رَأَى جِبْرِيلَ تَوَضّأَ.
ثُمّ قَامَ بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّى بِهِ وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَلَاتِهِ.
ثُمّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ (تَعْلِيمُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ الْوُضُوءَ وَالصّلَاةَ.
فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ ، فَتَوَضّأَ لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ فَتَوَضّأَتْ كَمَا تَوَضّأَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ ثُمّ صَلّى بِهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ كَمَا صَلّى بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّتْ بِصَلَاتِهِ)( ).
وعلمه أهل بيته والصحابة الأوائل الآخرين ، لبيان الملازمة بين الوضوء والصلاة منذ أول تشريعها وعدم ثمة فترة بين تعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء وتعليمه لغيره لتثبيت الحكم الشرعي.
لتتوارث الأمة أفعال الوضوء وضبط ترتيبها إلى يوم القيامة ، وكذا بالنسبة لآيات القرآن ، فحالما تنزل السورة أو الآية أو الآيات يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوتها ويدعو كتاب الوحي لكتابتها وتوثيقها ونشرها بين المسلمين والإنتفاع الأمثل منها وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لبيان قانون تثبيت السنة النبوية لأحكام القرآن ، ونزلت آية الوضوء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، في المدينة ، وهي الآية السادسة من سورة المائدة التي هي من آخر سور القرآن نزولاً لتشمل أحكام التيمم وإنتقال المكلف إلى الطهارة الترابية عند فقد الماء ، وتشريع باب وهو وجوب العمل بالحكم الذي جاء به جبرئيل لحين نزول الآية القرآنية بذات الحكم .
لماذا تأخر نزول آية الوضوء
من الإعجاز في الشريعة الإسلامية صيرورة الوضوء مستحباً ذاتياً ، وواجباً غيرياً ، فلابد منه للصلاة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ويدل الحديث الوارد عن (ابن عمر اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يقبل الله صلوة الا بطهور ولا صدقة من غلول)( ).
واقترنت الصلاة مع الأيام الأولى للبعثة النبوية ، ولازم الوضوء الصلاة ، وهما متلازمان إلى يوم القيامة فاذا حان وقت الصلاة اليومية وجب الوضوء كمقدمة غيرية للصلاة .
ترى لماذا تأخر نزول آية الوضوء وهي آية من سورة المائدة التي هي سورة مدنية بالإجماع .
بقراءة وتدارس جبرئيل عليه السلام القرآن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها)( ).
و(عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزِمَام العَضْباء ناقةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تَدُقّ عَضُد الناقةَ)( ).
و(قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع قال : : يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها)( ).
تأخر نزول آية الوضوء
وفي تأخر نزول آية الوضوء مسائل :
الأولى : عمل المسلمين والمسلمات بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية في العبادات والأحكام .
الثانية : الثناء على المسلمين والمسلمات بعملهم بالسنة النبوية ، فلم يقل أحد منهم قبل نزول آية الوضوء لم نجد الوضوء في القرآن خاصة مع شحة الماء في الجزيرة .
و(عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)( ).
فجاءت آية الوضوء لبيان تقيد وعمل المهاجرين والأنصار بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : هل يدل تأخر آية الوضوء عن العمل به على أن النبي محمداً مشرع ، الجواب نعم ، وهل تنسخ آية الوضوء هذا التشريع ، الجواب لا ، إنما هي توكيد له .
الرابعة : منع الإختلاف بين المسلمين في أمور :
الأول : وجوب الوضوء للصلاة ، واجبة كانت أو مستحبة .
الثاني : ضبط كيفية الوضوء وأركانه الخمسة :
أولاً : النية .
ثانياً : غسل الوجه .
ثالثاً : غسل اليدين إلى المرافق .
رابعاً : مسح جزء من الرأس .
خامساً : غسل أو مسح القدمين .
الثالث : التوثيق السماوي لكيفية الوضوء .
الرابع : الأجر والثواب بتلاوة آية الوضوء.
الخامسة : بيان إنعدام التعارض أو التزاحم بين الكتاب والسنة .
السادسة : حب الله عز وجل للمسلمين ، والتخفيف عنهم ، ومنع الفرقة بينهم في العبادات .
السابعة : المدد والعون للعلماء .
الثامنة : تعدد وجوه الإعجاز في نزول القرآن ، ومنه ما نزل بحكم يعمل المسلمون به بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه إكرام وتشريف وتصديق لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل هو من الشواهد في الفرق بين النبي والرسول ، الجواب نعم .
وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأتي بحكم الوضوء بواسطة جبرئيل ثم ينزل جبرئيل بعد نحو اثنتين وعشرين سنة بآية الوضوء مع تضمنها للتيمم للصلاة وأحكامه عند فقد الماء ، مع بيان كل من :
الأول : قانون الوضوء طهارة وتطهير .
الثاني : قانون التيمم طهارة وتطهير .
الثالث : قانون الوضوء نعمة .
الرابع : وجوب شكرنا لله على نعمة الوضوء ونزول آية الوضوء ، قال تعالى [وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
في الإستعاذة
أخرج عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنه كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ونفخه . قال : همزه الموتة ، ونفثه الشعر : ونفخه الكبرياء)( ).
وفيه إرشاد وتأديب للمسلمين بالإستعاذة من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن مطلقاً .
وهل الإستعاذة كمقدمة لقراءة القرآن واجبة أم مستحبة ، الجواب هو الثاني ، وهو مشهور علماء الإسلام ، وقيل بوجوبها عند قراءة القرآن ، قال تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ]( ).
و(أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزلت [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يا رب والغضب ، فنزل وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ …الآية( ).
و(عن معاذ بن جبل قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجه أحدهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب غضبه . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)( ).
ومعنى الإستعاذة الإلتجاء إلى الله والإستجارة برحمته والتحصن بواقية من لطفه وإحسانه والمراد من الشيطان إبليس وأعوانه واتباعه ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
و(عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إتقوا الغضب فإنها جمرة توقد في قلب ابن آدم ، ألم ترَ انتفاخ أوداجه ، وحمرة عينيه ، فمن أحس من ذلك شيئاً فليلزق بالأرض)( ).
لبيان الحاجة إلى الإستعاذة في إمتلاك الجوارح ، باجتناب الغضب .
قانون البيان ابتداءً
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بيّن معاني ودلالات لعدد من الآيات من غير سؤال من الصحابة أو غيرهم ، ويأتي هذا البيان للإستدلال ، ولا ينتظر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صعوده على المنبر ، فيبين الآيات بمناسبة أو غير مناسبة .
ومن منافع هذا البيان حضَ الناس على التقيد بأحكام آيات القرآن والعمل بمضامينها ، وعدم الإكتفاء بقراءتها.
و(عن ابن مسعود في قوله [سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، قال : من كان له مال لم يؤد زكاته طوقه الله يوم القيامة شجاعاً أقرع بفيه زبيبتان ينقر رأسه حتى يخلص إلى دماغه . ولفظ الحاكم : ينهسه في قبره فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك الذي بخلت بي)( ).
ويبعث هذا الحديث النفرة في النفوس من حبس الحقوق الشرعية ومن البخل مطلقاً.
(وعن رجل من بني قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل الله إيّاه فيبخل به عنه إلاّ أخرج الله له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه ثم تلا [وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ]( ) الآية)( ).
الأمة الوسط
(عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت؟ فيقول : نعم . فيدعو قومه فيقال لهم : هل بلغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد .
فيقال لنوح : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، فذلك قوله [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا]( )، قال : والوسط العدل ، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ وأشهد عليك ، لبيان منافع قصص القرآن في الدنيا .
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن ماجة والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم هذا؟ فيقولون : لا .
فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول نعم . فيقال له : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته . فيدعى محمد وأمته .
فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ، فيقولون : نعم . فيقال : وما علمكم .
فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا . فذلك قوله [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا]( ) قال : عدلاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( ).
ووردت أحاديث متعددة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص هذه الآية الكريمة مما يدل على شأن ومنزلة المسلمين يوم القيامة .
و(عن جابر قال : شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني سلمة وكنت إلى جانبه ، فقال بعضهم : والله يا رسول الله لنعم المرء كان ، لقد كان عفيفاً مسلماً وكان ، وأثنوا عليه خيراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت الذي تقول .
فقال : يا رسول الله ذلك بدا لنا والله أعلم بالسرائر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وجبت . قال : وكنا معه في جنازة رجل من بني حارثة أو من بني عبد الأشهل.
فقال رجل : بئس المرء ما علمنا أن كان لفظاً غليظاً أن كان .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت الذي تقول؟ فقال : يا رسول الله ، الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك . فقال : وجبت ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ( ).
ومن معاني الوسط في الآية الكريمة وجوه :
الأول : مرتبة وسط بين الأنبياء وعامة الأمم .
الثاني : أخيار وعدول .
الثالث : يلحق بكم التالي ، ويرجع إليكم الغالي .
الرابع : المسلمون أمة الوفاق والوئام بين الأمم .
وأصل الوسط اسم ، ويجوز أن يأتي صفة مع عدم مغادرة معنى الاسم.
والخطاب في الآية موجه للمسلمين والمسلمات ليكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليكم شهيداً ، لتجتمع شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة مع شفاعته لهم .
وهو من الإعجاز في المقام ، وتقدم الشهادة زماناً وموطناً يوم القيامة لتأتي بعدها الشفاعة .
و(عن أنس : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ…الآية( ).
وفي الحديث دعوة لأمر أهل الكبائر بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، والسعي في اصلاحهم والإستغفار للمسلمين الحي والميت منهم .
و(عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام قال : وما دينه؟ قال : يصلي ويوحد الله . قال : استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه . فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : وجدته شحيحاً على دينه ، فنزلت إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ( ).
وهل مواظبة المسلمين على الدعاء والإستغفار من خصائص الأمة الوسط ، الجواب نعم .
ويأتي الوسط ظرفاً بمعنى (بين) طرفين والوسط المعتدل ، قال تعالى [قَالَ أَوْسَطُهُمْ]( )، أي أعدلهم وخيرهم.
وينعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه وسط قريش نسباً أي خيرهم وأفضلهم.
بحث نحوي
(أو) أحد حروف العطف ويأتي بمعان متعددة :
الأولى : التخيير ، كما في قوله تعالى [فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ]( ) مثل صلً الفريضة أو النافلة .
الثاني : الشك : مثل الليلة أول الشهر أم كمال للعدة .
الثالث : الإبهام ، كما في قوله تعالى [وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ) .
الرابع : الإباحة ، اقرأ القرآن أو الدعاء .
الخامس : التقسيم ، إذا سبقت بجملة خبرية أو كلمة تفيد معنى الخبر ، مثل :
الكلمة : اسم أو فعل أو حرف .
السادس : التفصيل لعمل إجمالي كما في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ]( ) .
السابع : الإضراب وتكون بمعنى (بل) كما في قوله تعالى [وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ]( ) وتقدير الآية بل يزيدون .
الثامن : تأتي (أو) بمعنى الواو كما في قوله تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.
قانون المدار على عموم المعنى
من الدلائل على أن المدار على عموم معنى الآية القرآنية وليس سبب النزول وحده في قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ) وجوه :
الأول : مجئ الآية بصفة العبد لإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به غيره من المسلمين إلى يوم القيامة لإفادة الإنذار للناس جميعاً من إيذاء المسلمين في عباداتهم ودعوة للمسلمين للصبر ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : وردت الآية بصيغة الفعل المضارع [يَنْهَى]ولم تقل أرأيت الذي نهى ، لإفادة تجدد وتكرار وتعدد نهي المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن الصلاة.
الثالث : ورود الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَرَأَيْتَ] لبيان وتوثيق نهي المشركين له ولأصحابه عن الصلاة ، وهل ينحصر هذا النهي بالقول واللفظ أم أنه يشمل الأذى الفعلي ، الجواب هو الثاني .
و(عن عبد الله بن مسعود قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس .
فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على كتفي محمد إذا سجد .
فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه .
قال: واستضحكوا وجعل يميل بعضهم على بعض وأنا قائم أنظر! لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي ساجد ما يرفع رأسه .
حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة وهي جويرية فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم.
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، فكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، فقال : اللهم عليك بقريش ، ثلاث مرات ، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته .
ثم قال : اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط .
وذكر السابع فلم أحفظه! فوالذي بعث محمداً بالحق لقد رأيت الذي سمي صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر)( ).
لبيان سوء عاقبة الذي يؤذي الرسول والمؤمنين في مناسكهم ودور العبادة وفيه دعوة للصبر والتحمل والإجتهاد بذكر الله ، وتعاهد الفرائض العبادية ، فلم ينقطع النبي بعد هذه الحادثة عن الصلاة كل يوم في المسجد الحرام ، وهو من تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العملي لقوله تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ]( ).
ولا يختص نهي صلاة الفرد بأقواله وأفعاله بل يشمل غيره من الناس ، لذا فمن نهي صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام هداية الناس ودخولهم الإسلام ، وتحول دعوة النبي للإسلام من السرية والإختفاء في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند جبل الصفا إلى العلانية لقوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ]( ).
وابتدأت الدعوة العلنية في السنة الخامسة للبعثة وهناك أقوال أخرى في المقام.
قانون الكفاية
لقد كفى الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شرور المشركين ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ومن معاني الكفاية في المقام استدامة صلاته في البيت ، ودخول جماعات من الناس الإسلام بسبب تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في البيت الحرام ، إذ قال تعالى [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ]( ) أي أن أبا جهل والذين ينهون النبي وأصحابه عن الصلاة ليدعوا عشيرتهم ورجالهم [سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ]( ) والزبانية فوج من الملائكة كالشرطة .
و(عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه ، فأنزل الله عز وجل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ]( )، حتى بلغ هذه الآية [لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ]( ).
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقيل : ما يمنعك؟ قال: قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب ، قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه)( ).
ثم قال تعالى [كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ]( ).
لبيان تعاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة بأمر من الله عز وجل .
ولم يرد لفظ (الزبانية) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، مع أن وظائفهم في الدنيا والآخرة كثيرة .
إذ يتفضل الله عز وجل فيدعو الملائكة لحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وصرف أذى المشركين ، مع وجوب تعاهد وأداء الفرائض والواجبات العبادية ، وفيه حسرة وخيبة للمشركين .
لقد توجه الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن وبالصلاة على نحو الإطلاق من غير تقييد ، قال تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ]( ).
وفيه بشارة الأمن والسلامة بأداء الفرائض وهداية وصلاح الناس.
والآية أعلاه من سورة العنكبوت وهي سورة مكية لذا قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة في المسجد الحرام بمرأى ومسمع من المشركين.
الحمد لله على نعمة الإسلام ، وتوارثها وتعاهدها باليوم والليلة باقامة الفرائض العبادية وفيها بعث للسكينة في النفوس .
وهل يدل قوله تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، على انحصار الطمأنينة بالذي يذكر الله ، الجواب لا .
إنما تشمل الطمأنينة القريب عن الذاكر وعياله ، والبعيد عنه خاصة في زمن العولمة ، لبيان أن الفرائض العبادية ألوية سلام يومية متعددة.
يؤدي المسلمون الصلاة خمس مرات في اليوم جماعة وفرادى بقيام وركوع وسجود مع تلاوة للقرآن وذكر لله وتسبيح لجذب المسلم طوعاً وقهراً لذكر الله ، وتعاهد السلم ، والتخلص من كدورات الحياة الدنيا.
وقد جاءت آيات الصلاة في القرآن بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب مع بيانه بلغة الجملة الخبرية في آيات أخرى كما في قوله تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية لبيان كيفية الصلاة وأحكامها ومستحباتها ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عدد سني نبوته ثلاث وعشرون سنة ويدخل أداء الصلاة وبيان أحكامها في أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في كل يوم من أيام هذه السنين ، لفرض الصلاة من الأيام الأولى للبعثة النبوية.
فهل يكون أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة من تفسيره لآيات القرآن ، الجواب نعم .
بحث اخلاقي
يبحث علم الأخلاق في سجايا وطباع الإنسان وتساهم قواعده وضوابطه الكلية في ارتقاء سلوك الإنسان وتهذيب افعاله وسيرته وطرد الكدورات الظلمانية وعدم تضييع المحاسن في القول والفعل ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وكان خلق وسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترجمة قولية وعملية لآيات القرآن ، وقال تعالى في خطاب إلى المسلمين والناس جميعاً [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
لقد كانت سيرة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الشرك وشيوع الكذب والحلف والغزو والرذائل التي كانت سائدة بين الناس أيام الجاهلية .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها . قالوا : لمن هي؟ قال : لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل ، والناس نيام)( ).
وفيه ترغيب بالأخلاق الحميدة ، وبيان الثواب العظيم الذي ينتظر صاحبها ، وهل تدل هذه الأحاديث على صبغة السلم التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، وتدل آيات الخلق الحميد وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديث الأخلاق على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة .
وهل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، من آيات السلم والأخلاق الحميدة ، الجواب نعم .
و(عن جابر قال : لما نزلت هذه الآية [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ]( )، قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ما تأويل هذه الآية؟ قال : حتى أسأل . فصعد ثم نزل فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا ادلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة؟ قالوا : وما ذاك يا رسول الله ، قال : تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك .
وأخرج ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة قال : لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال : والله لأمثلن بسبعين منهم . فجاءه جبريل بهذه الآية [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ]( ) فقال : يا جبريل ما هذا؟ قال : لا أدري ، ثم عاد فقال : إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك)( ).
لبيان موضوعية آيات القرآن في الخلق العظيم الذي يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يجتمع في صلاحه وعصمته كل من :
الأول : آيات القرآن .
الثاني : جبرئيل عليه السلام .
الثالث : الوحي .
قانون الحضّ على الإنفاق
لقد نزل القرآن بالإنفاق في سبيل الله تعالى الذي هو مدرسة اخلاقية متكاملة تشمل البذل والقدرة على اخراج المال الشخصي وعدم التمسك به الى جانب القصد وارادة القربة وهو من افراد التوفيق والصلاح.
وقد نزل القرآن بالتراحم والتآلف والتكافل الإجتماعي بين الناس ، ومنه قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
وقد وعد الله عز وجل بالثواب العظيم على الإنفاق في سبيله تعالى وبذل الصدقات ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
لتأتي السنة النبوية بياناً وتفسيراً وتعضيداً لآيات الإنفاق .
و(عن عبدالله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، انجفل الناس إليه ، فجئته لأنظر في وجهه فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعت منه أن قال : يا أيها الناس ، أطعموا الطعام ، وأفشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام)( ).
وقد دلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب مبارك في الإنفاق في سبيل الله ، وهو البذل والإنفاق على الزوجة والعيال مع قصد أنه إنفاق في سبيل الله ، ومع عدم هذا القصد تخفيفاً ولإرادة توجه أفراد الأسرة المسلمة لأداء الفرائض العبادية وسلامتهم من الإفتتان.
و(عن أبي عبيدة بن الجراح : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو أماط أذى عن طريق فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده فله حظه)( ).
ومن الإعجاز في القرآن والسنة تقييد الإنفاق بأنه في سبيل الله وليس للجاه والرياء والمنافع الخاصة ، ولا للإضرار بالغير والفتنة ومقدماتها.
ليكون قيد في سبيل الله طريق هداية وبرزخاً دون إتخاذ المال وسيلة لفعل المنكر والقبائح أو إتباعه بالأذى والشر ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
لبيان قانون القيد القرآني سبيل هداية ورشاد ، ويمكن إحصاء القيود الواردة في القرآن سواء للمطلق كما في قوله تعالى [وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ]( )، فورد الإنفاق هنا مطلقاً تقيده آيات تقييد الإنفاق في سبيل الله .
ومن إعجاز القرآن أن آيات التقييد هذه أكثر عدداً وموضوعاً من الآيات المطلقة .
و(عن أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة)( ).
(قال ابن إسحاق: كان أبو مسعود أحدث من شهد العقبة سناً ولم يشهد بدراً وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد)( ).
وهو (من بني الحارث بن الخزرج هو مشهور بكنيته ويعرف بأبي مسعود البدري، لأنه كان يسكن بدراً)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير ، وما تصدقت فلك ، وما أنفقت رياء وسمعة ، فذلك حظ الشيطان)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس ، وأجود ما يكون في شهر رمضان .
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعل الإنفاق الواجب على الزوجة والأولاد والأبوين من غير إسراف ولا تبذير صدقة فيها الثواب والأجر ، وهل يشترط قصد المنفق أنها صدقة ، لقانون الملازمة بين النية والقصد وبين الأجر والثواب ، الجواب لا ، والقانون أعلاه في الواجبات العبادية ، وللتسامح في أدلة السند.
وجاءت بعض النصوص النبوية خالية من هذا القصد إذ تتضمن قانون الإنفاق على العيال صدقة مطلقاً ، وهو من اللطف والتخفيف من عند الله يجري على لسان نبيه .
ويساهم الإنفاق في نشر المحبة والمودة بين فئات من المجتمع ولا يآلف بينها الا الإنفاق وتلك خصوصية اعجازية لفلسفة الزكاة والخمس والإنفاق في الإسلام، فهو يضيق دائرة الفرق والخلاف بين الأغنياء والفقراء.
فالفئتان متباعدتان في المستوى المعاشي مما قد يحصل معه تنافر وتباين في السلوك وربما يصاحبه عداء وحسد من الفقراء، واستخفاف واستهزاء من الأغنياء.
إلا مع الإحتراز بالإيمان والقناعة والرضا بفضل الله عز وجل .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (إن المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط)( ).
ويتفاقم الخلاف احياناً الى نفرة وحوادث وتعد وما يخالف القيم السائدة واحكام الشريعة .
قانون الإنفاق تثبيت للأخوة
لقد جاءت آيات الإنفاق لتثبيت الأخوة الإيمانية والإنسانية معاً، الإيمانية بين الغــني والفقير من المسـلمين، والإنسانية بين المسلمين وغيرهم من البشر وبما يرسخ قواعد الإسلام ويكون مناسبة لأداء الفرائض والسنن.
وتتدخل الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ) في خصوصيات هذا الإنفاق وصفات افراده وأن موضوعه يشــمل الإنتقاء والإختيار ولكن ليس الإنتقاء في الحيازة والجمــع بل فيما يخــرج مــن اليــد، وتلك مسـألة تستلزم اعتباراً وتضـحية وتنازلاً من حق وملك شخصي، واحتياطي يحترز به من تقلبات الزمان وآفات الدهر والإبتلاء في البدن والسكن والعمل ومصادر الرزق للثقة بأن الله عز وجل يخلف الإنفاق قال تعالى [وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( )، ويكون سبباً لصرف البلاء الخاص والعام ، قال تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( ).
فينفق المسلم في سبيل الله ، فيصرف الله عنه وعن أهله ودويرته الضرر والبلاء ، ويتقيد ويعمل المسلمون بآيات الإنفاق ، فينزل الله البركات عليهم وعلى أهل الأرض ، ويدفع عنهم الفتن ، قال تعالى [وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وفي الإنفاق رجاء لرحمة الله تعالى وطلب لمرضاته وثقة بفضله وجزائه وقدرته المطلقة ، وتوكيد عملي على الإقرار بان الأرزاق من عنده سبحانه، وفيه خشية منه تعالى وسعي للمغفرة ونزول الرحمة بالشفقة على المحتاجين، وهو تربية روحية وتنمية لقصد القربة في النفس وبروزها للخارج في الفعل بوجوه:
الأول : المبادرة الى الإنفاق والصدقة.
الثاني : جعل الإنفاق في مرضات الله باختيار الموطن الحسن له مما فيه تعظيم لشعائر الله وتثبيت لأركانه.
فمن مصاديق قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] اختيار الجهة المناسبة للإنفاق ، لذا جاءت آية الصدقات بالبيان ومنع الجهالة والغفلة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالث : اختيار المال والأعيان الجيدة للاعطاء والدفع للفقير.
الرابع : السعي في موارد الحلال والكسب الصحيح البعيد عن الحرام والغش والتعدي.
الخامس : التدبر والإختيار والحرص في مواطن الكسب وعدم ولوج ما فيه شبهة، والبحث عن اهل الإيمان والمحتاجين لدفع الصدقات لهم، وهذا البحث والسعي يؤدي بالفقير الى الصلاح وتعاهد الصلاة لأنه يدرك الملازمة بين الصلاح وتلقي الإعانات واسباب الرزق، فيكون الملاك هو التقوى، وتصبح الصلات الإجتماعية بين الجماعات والأشخاص مبنية على الإيمان وأداء الفرائض واجتناب الفواحش ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
قانون الكسب الحلال رزق كريم
لقد قيدت الآيات الإنفاق بـالطيبات من الكسب، والكسب عام ومطلق، يشمل ما يرد للإنسان من الرزق بالسعي المباشر او بالتسبيب ، و(عن عائشة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: اطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وان ولده من كسبه)( ).
و(عن سعيد بن جبير انه سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي كسب الرجل اطيب ، قال: عمل الرجل بيده ، وكل بيع مبرور)( ).
فظاهــر هذه النصوص ان كل كسب الإنسان بالسعي والحلال هو من الطيب لأنه جاء من جهد وطلب وبعيداً عن الحرام والباطل، وهذا الكسب والرزق عام فيه النــوع الجيــد والردئ، كما لو عمل فاشترى تمراً او ان اجــرته كانـت من التمــر المتباين فيه الجيــد والردئ، فكله بالنســـبة له من الكســـب الطيب ولكـنه حينما ينفق لا ينفق من الردئ بل ينفق من النوع الطيب والجيد على نحو الخصوص، بمعنى ان النوع الردئ من الثـمار والقليل من الأجور كلها من الطيبات بالنسبة لصاحبها.
وفي كفارة اليمين ، قال تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ]( ).
و(عن سهل بن حنيف قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة ، فجاء رجل بكبائس من هذا السحل – يعني الشيص – فوضعه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من جاء بهذا ، وكان كل من جاء بشيء نسب إليه ، فنزلت [وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ]( )، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لونين من التمر ، أو يؤخذا في الصدقة الجعرور ولون الحبيق)( ).
أما في الإنفاق فان الموضوع يختلف ويتغير معه الموضوع، لأن الأمر الإلهي جاء بالإنفاق من الطيبات وهي اخص من الطيبات في الكسب، أي ان بين الطيبات في الإنفاق والطيبات في الكسب عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكل طيب في الإنفاق هو طيب في الكسب وليس العكس، فالتمر الردئ الذي يحصل عليه الإنسان من سعيه وكسبه وهو من طيبات الكسب، ولكنه ليس من طيبات الإنفاق.
وهذه النسبة بين الكلي والكلي تظهر الإعجاز والدقة في الحكم القرآني فتكــون الطيبات هنا من المترادف المعنوي، وتظهر مفاهيم التراحــم بين الناس التي ســنها الإســلام وجاء بها القرآن ليصبح الإنفاق ايثاراً قهرياً واختيارياً، ولا يعني اعطاء الطيبات من الكسب للفقراء وفي ســبيل الله والإكتفاء بالخبيث والردئ من انواع الرزق، بل ان الآية جــاءت بانفاق بعض الطيبات وجزء منها، سواء بالزكاة الواجبة والتي لها نصاب معلوم، او بالتطوع والصدقة المستحبة وهي باب رحب وواسع ، ومن الأخلاق الحميدة.
وهل الإنفاق في سبيل الله من الشكر لله في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( )، الجواب نعم ، وقال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أعطى أربعاً أعطي أربعاً ، وتفسير ذلك في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله لأن الله يقول [اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]( ).
ومن أعطي الدعاء أعطي الإِجابة لأن الله يقول [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة لأن الله يقول [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( )، ومن أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله يقول اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا( ).
البشارة باستدامة الكسب الحلال
من الإعجاز في التنزيل بشارة اتصال الكســب ، وتهيئة مقدماته ، وايجاد أسباب الرزق الكريم للمسلمين فحينما يأمــرهم الله سبحانه بالإنفاق لابد وانه ضمن لهم الرزق الكريم والكسب الحلال أي ان منافع الإنفاق للمكلف متعددة منها :
الأولى : ضمان الكسب والسعي واتصال موارد الرزق ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
و(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله إني والجن والإِنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري)( ).
وقد ذم الله عز وجل الكفار والمشركين لتخلفهم في باب الرزق ، إذ قال [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ]( ).
الثانية : وجود فائض من فضل الله عن المؤونة والإنفاق على النفس والذين تجب نفقتهم كالوالدين والزوجة والأولاد.
الثالثة : تنمية ملكة الإيثار وملاحظة احوال المسلمين ومعرفة حوائجهم ، ومستلزمات نشر لواء الإسلام، لأن الأمر بالإنفاق لا ينحصر بحاجات الفقر والمساكين بل يشمل أموراً :
الأول : تعظيم شعائر الله وبناء المساجد .
الثاني : نشر علوم القرآن واحكام الشريعة لذلك ذكر سهم في سبيل الله في آية الصدقات [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالث : تثبيت دعائم الدين
الرابع : تهذيب النفوس والمجتمعات .
الخامس : السعي في اصلاح ذات البين ، و(عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام والصدقة ، قالوا : بلى. قال : إصلاح ذات البين” قال : وفساد ذات البين هي الحالقة)( ).
وعن (أم كلثوم بنت عقبة : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا -أو يقول خيرًا ، وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)( ).
وفي حديث ضعيف سنداً (عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: “ألا أدلك على تجارة؟” قال: بلى: قال : تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا)( ).
وذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس بصيغة العموم الإستغراقي الشامل لأهل الأديان والمذاهب المتعددة ولم يخصه بالمسلمين ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس : اجتناب النفرة ونبذ الخصومة والفرقة.
الرابعة : نيل الثواب والأجر الجزيل في الدار الآخرة ، فمما يدركه الإنسان بالفطرة ان حسن الإمتثال للأمر الإلهي مدخل كريم لنيل الجزاء الحسن في الآخرة ، قال تعالى [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
سبل بسط الرزق
لقد أخبر القرآن بأن الرزق بيد الله من جهات :
الأولى : الكم .
الثانية : الكيف .
الثالثة : أوان الرزق .
الرابعة : كيفية الكسب .
الخامسة : قرب أو بعد الرزق ، قال تعالى [أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يمد الله في عمره ، ويزيد في رزقه ، فليبر والديه وليصل رحمه)( ).
وفيه بيان لسبل تحقيق الرغائب بطول العمر والزيادة في الرزق ، وكل منهما غاية لكل إنسان ، فذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الطريق إلى الفوز بهما بأمرين :
الأول : بر الوالدين ، ليكون من وجوه تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( )، وقوله تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا]( ).
الثاني : صلة الرحم ، وجاءت السنة النبوية بالتأكيد عليهما .
و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول اللهم صِلْ من وصلني واقطع من قطعني.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والحاكم وصححاه والبيهقي عن عبد الرحمن بن عوف : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته ومن بتها بتته)( ).
وفيه تأكيد لتعاهد صلة الرحم وبيان نفعها في الدنيا والآخرة وهذه الأحاديث تفسير لقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ]( )، وقوله تعالى [وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ).
و(عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث تحت العرش : القرآن له ظهر وبطن يحاج العباد ، والرحم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني ، والأمانة)( ).
وعن عمر بن الخطاب (إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا)( ).
حديث شيبتني هود
لقد دبّ الشيب مبكراً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه يقضي ساعاته مجتهداً صابراً بالدعوة إلى الله ، وتلاوة القرآن والعناية بأصحابه وإصلاحهم في أمور دينهم ودنياهم وإنذار الناس من أهوال يوم القيامة.
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم الصبر التام على أذى المشركين ، والذي كان سبباً بتدبر كثير منهم بمضامين ودلالات آيات القرآن والمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخولهم الإسلام.
ليكون هذا الصبر النبوي والمترشح عن الوحي تفسيراً عملياً لقوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( ).
وقيل (نسختها آية القتال) ( )، والمختار أن الآية محكمة غير منسوخة.
و(عن عِكْرِمَة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبتَ ، قال : شيَّبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعَمَّ يتساءلون ، وإذا الشمس كورت)( ).
ومن معاني هذه السور تأكيدها على وجوب عبادة الله ، وبيانها للوقائع والحوادث التي نزلت في الأمم السابقة وجحود الكافرين بالتنزيل ، قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وفي سورة هود جانب من قصة نوح ، وتوسل هود عليه السلام بقومه لجذبهم للإيمان ، وبعثهم على الإستغفار ، قال تعالى في ذمهم على جحودهم [وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ]( ).
وفي قوله تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( )، (قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له أسرع إليك الشيب يا رسول الله شيبتني هود والواقعة)( ).
ولكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر سورة كاملة وسورة الواقعة كعلة لتعجل الشيب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فالحديث النبوي بخصوص الشيب أعم من أن ينحصر بآية واحدة.
(وروي أنَّ بعض العلماء رأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوْمِ ، فقال : يَا رَسُولَ اللَّه ، بَلَغَنَا عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ : شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا ، فَمَا الَّذِي شَيَّبَكَ مِنْ هُودٍ ، فَقالَ لَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ( ).
وهذا الخبر ليس بحجة لجهالة الرائي ، ولعدم أهلية المنام لمعارضة النصوص الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام.
و(عن أبي جحيفة قال : قيل : يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب.
قال : شيبتني هود وأخواتها : الحاقة ، والواقعة ، وعمّ يتساءلون ، وهل أتاك حديث الغاشية.
وعن زيد قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال : يا زيد قرأت ، فأين البكاء)( ).
مدح النبي والإمام علي لأهل العراق
حكى الزمخشري عن الإمام علي عليه السلام (لا يصلح لكم يا أهل العراق إلا من أخزاكم وأخزاه الله)( ).
ولا أصل لهذا القول ، وليس له سند ، خصوصاً وأن الزمخشري من رجال القرن الخامس ولد سنة (467) هجرية ، ولد في تركمانستان ، وجاور في مكة ، فلقب جار الله ، وهو لقب غير صحيح.
وكان يجاهر بالإعتزال بمناسبة وغير مناسبة وقيل كان أمراء مكة يومئذ من الزيدية ويؤخذ على الزمخشري في تفسيره قلة النقل عن الصحابة والتابعين ، وفيه أحاديث موضوعة وكان يقول بالرأي ، وبخلق القرآن وهو حنفي المذهب ، معتزلي العقيدة .
وتوفى في جرجانية وهي قصبة تابعة لخوارزم سنة 538 ، والتي خربها التتر ، وقتلوا أكثر أهلها .
وقد انتقل الإمام علي عليه السلام إلى الكوفة لوجود الناصر ، وقاتل معه أهل العراق ببسالة وشجاعة في مواطن عديدة.
وقد مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل العراق ، و(عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر نحو الشام فقال اللهم أقبل بقلوبهم ثم نظر نحو اليمن فقال اللهم أقبل بقلوبهم ثم نظر نحو العراق فقال اللهم أقبل بقلوبهم ثم قال اللهم بارك لنا في ثمرة أرضنا وبارك لنا في صاعنا ومدنا)( ).
وعندما بعث الإمام علي عليه السلام إلى أهل الكوفة يستنجدهم وهو ف يطريقه من المدينة إلى البصرة إجتمع رؤساء أهل الكتاب مع أبي موسى الأشعري (وقال عبد الخير الخيراني: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير؟ قال: نعم. قال: هل أحدث علي ما يحل بن نقض بيعته؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، نحن نتركك حتى تدري، هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة؟ إنما الناس أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو. فقال أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة. فقال عبد الخير: غلب عليك غشك يا أبا موسى)( ).
وخطب الإمام علي عليه السلام في النخيلة بأهل الكوفة وأهل البصرة الذين قدموا لنصرته (فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري، وأعواني على الحق، وصحابتي على جهاد عدوي المحلين بكم، أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم، فلم يأتني منهم إلا ثلاثة آلاف ومائتا رجل ، فأعينوني بمناصحة جلية خلية من الغش)( ).
وصية النبي (ص) بأهل الكتاب
لقد أوصى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل الكتاب خيراً ، ولم يُكره أحداً منهم على دخول الإسلام ، وما الجزية إلا للدفاع عنهم وعن أموالهم ، وهذه الوصية من مصاديق قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]( ).
و(عن أبى بكرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ان ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام وما من عبد يقتل نفسا معاهدة الا حرم الله عليه الجنة ورائحتا ان يجدها ، قال أبو بكرة اصم الله اذنى ان لم اكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا)( ).
لبيان وجوب عدم التعدي على أهل الكتاب ، وكافة الذين لهم عهد عند المسلمين ، وهو من مصاديق قول الخطاب الإلهي إلى المسلمين [وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
و(عن ابن كعب بن مالك عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا افتتحتم مصرا فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحماً)( ).
والذمة : العهد والأمان .
ويشير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الرحم إلى هاجر أم إسماعيل ، ولعل الإشارة هنا أعم من القضية الشخصية.
وهل تختص هذه الوصية بالصحابة وأوان فتح مصر أم مطلقة في كل أجيال المسلمين ، الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، ولزوم اقتداء المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
قانون السلم في السنة النبوية
لقد ابتدأ نزول القرآن بآيات السلم والسلام والأمن بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، فصحيح أن الآية تبعث على طلب العلم النافع والتحصيل وعلى قراءة القرآن والتدبر في آياته إلا أنها تدعو بالدلالة الإلتزامية إلى السلم ، وتحث عليه ، من غير أن يتعارض هذا الحث مع دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى التوحيد وسنن الإيمان .
والآية أعلاه من سورة العلق وهي أول سورة نزلت من القرآن وتتضمن الإنذار والوعيد للذي يحارب النبي محمداً ويمنعه والمسلمين من الصلاة بقوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
لبيان وجوب عمارة الأرض بالصلاة وأن الله عز وجل يدافع عن المصلين ، وليس من نبي إلا وجاء بالصلاة ، وتعاهدها وتركها إرثاً مباركاً لأتباعه.
وفي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، وجوه :
الأول : افتتح قراءة آيات وسور القرآن باسم ربك أي أن [بِاسْمِ رَبِّكَ] منصوب على الحال .
ولم تقل الآية باسم الله ، لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس له رب إلا الله عز وجل ، وقد بينت ذات الآية أن الرب هو الله بقوله تعالى [الَّذِي خَلَقَ] وفيه حرب على مفاهيم الشرك السائدة آنذاك.
الثاني : اقرأ اسم ربك ، فيكون مفعولاً به .
الثالث : المعنى الأعم للقراءة والوحي مطلقاً .
الرابع : الوعد من الله عز وجل بالأمن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقراءتهم القرآن .
الخامس : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة القرآن من غير زيادة أو نقص في كلماته .
السادس : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والضرر إلى حين تمام نزول آيات وسور القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
السابع : الوعد من الله عز وجل بتأييد وتعضيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته للإسلام وتبليغه آيات القرآن ، وفي التنزيل [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ).
وهل تختص الآية أعلاه بأسباب النزول أي بالذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن عبد المطلب.
و(عن الشعبي : المستهزئون سبعة)( ).
والجواب موضوع الآية أعم ، وهو وعد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكفايته المستهزئين في أيام حياته ، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى وإلى يوم القيامة.
وهل للقرآن وتلاوته موضوعية في هذه الكفاية المتصلة والمتجددة كل يوم ، الجواب نعم ، لتكون أول آية من القرآن نزولاً وعداً وأمناً وحصناً.
و(عمرو بن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بحراء إذا أتاه ملك بنمط من ديباج فيه مكتوب [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )] إلى مَا لَمْ يَعْلَمْ( ).
والنسبة بين القراءة والسلم عموم وخصوص مطلق ، فالسلم فرع قراءة القرآ، ، والوحي ، وتحصيل العلم .
كما أن النسبة بين طاعة الله بالقراءة وبين القتال هي التضاد ، وقد ثبت في الفلسفة عدم اجتماع الضدين .
ومن تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن إجتهاده في قراءة القرآن في الصلاة وخارجها .
ومن معاني [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، كفاية معجزة القرآن والوحي في التبليغ وهداية الناس ، إلا أن يدل دليل آخر على التوسعة والإضافة في المقام ، وقد تقدم في الأجزاء السابقة عن الأمر بالقتال إنما هو للدفاع المحض ، وهو الظاهر والجلي من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون صلح الحديبية سلام عام
وفي شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة وعندما توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألف وأربعمائة من أصحابه لأداء العمرة من غير إذن أو اتفاق مع رؤساء قريش ووصل إلى الحديبية بعد أن تجنب ملاقاة خيل طليعة لقريش برئاسة خالد بن الوليد ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)( ).
ولم يستحضر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إيذاء قريش له ، ولا إصرارهم على القتال في معركة بدر ، ولا غزوهم المدينة في معركة أحد ، ثم الخندق.
إنما أراد السلام والعفو والتسامح والصلح ، وهو فرع قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( ).
وتم عقد صلح الحديبية لينزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، لبيان أن ذات الصلح فتح ، وأنه مقدمة لفتح مكة ، واستئصال الشرك ومفاهيمه من الجزيرة العربية ، إنه فتح من غير قتال.
وهل الآية أعلاه من آيات السلم ، الجواب نعم ، والنسبة بين السلم والصلح عموم وخصوص مطلق ، وعلى هذا يمكن استقراء آيات قرآنية كثيرة تدل على منهاج السلم وإن لم تكن بلفظ السلم وما يردفه.
وعن الإمام الصادق عليه السلام (فما انقضت تلك المدة حتى كاد إلاسلام يستولي على أهل مكة)( ).
أي أن فتح مكة لم يتم على قوم مشركين ، لذا لم يقع قتال يعتد به يوم الفتح ، وقد اختلف العلماء هل فتحت مكة صلحاً أو عنوة ، والمختار قول مستحدث وهو أنها فتحت سلماً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
من آيات السلام
فمن آيات السلام في القرآن :
الأولى : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [َإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
وتدل آيات القرآن وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قانون الإسلام دين السلام ، وعلى قانون الإسلام دين الأمن العالمي ، وتدل عليه آيات قرآنية منها [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
والحروب ضرر لكل أطرافها إلا ما ندر.
وتدل وثيقة المدينة على تثبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسس التعايش السلمي بين أهل الملل والنحل ، والقوميات المختلفة الوثيقة التي عقدها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة في السنة الأولى للهجرة لتكون رسالة أمن وأمان ومنها :
(وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار ِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ.
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ .
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ.
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ)( ).
تعدد مكر قريش
قال تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا]( ).
يحتمل الألف واللام في (الأرض) في الأعلاه وجوهاً :
الأول : إرادة العهد ، والمقصود أرض مكة ، وأن المشركين يسعون لإخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة .
الثاني : إرادة الجنس والإستغراق ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وابعاده عن الوجود بين الأحياء .
الثالث : العنوان الجامع للجنس والعهد .
والمختار هو الثالث ، وأن تقسيم النحويين الألف واللام إلى لام عهدية وجنسية تقسيم استقرائي ، ولغة القرآن أعم منه ، نعم قد تأتي اللام للعهد ، على نحو الخصوص كما في قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( )، وقد تأتي للجنس كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( )، أما في آية [لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ] فهي تشمل الوجهين من العهد والجنس ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (يخرجوك) في القرآن إلا مرتين وكلاهما في مكر كفار قريش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وذكرت الآية أعلاه ثلاثة وجوه لمساعي قريش للإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان بين ظهرانيهم في مكة قبل الهجرة وهي :
الأول : احتجاز وسجن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من الإختلاط بالناس ، وما نعتهم له بأنه مجنون إلا مقدمة لإرتكاب هذا الفعل ، وتهيئة أذهان الناس لقبوله ، لتكون هذه المقدمة من مصاديق مكرهم في قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثاني : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات القرآن لقوله تعالى [أَوْ يَقْتُلُوكَ] .
الثالث : إرادة إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة على بعير ليهلك في الصحراء أو يقتله بعض العرب بايحاء من قريش أو من دونه ، والقصد هو نفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة فلا يلتقي يوفد الحاج والمعتمرين ويتلو عليهم آيات القرآن التي تدعو إلى عبادة الله وحده ، وذم عبادة الأوثان ، وما في هذا الذم من التعريض برجال قريش وآبائهم لإقامتهم على تقديس الأصنام .
و(عن ابن عباس في قوله [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ]( )، قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق – يريدون النبي صلى الله عليه وسلم – وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه .
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار.
وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه علياً رضي الله عنه رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا.
قال : لا أدري .
فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال)( ).
وفي توثيق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الوقائع وتفسيره للآية أعلاه ورد عن أنس بن مالك قال (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيام ، سئل عن يوم السبت فقال : هو يوم مكر وخديعة. قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال : فيه مكرت قريش في دار الندوة إذ قال الله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( ).
البشارة والإنذار في السنة النبوية
من خصائص الأنبياء القيام بالبشارة والإنذار ، البشارة بالثواب واللبث الدائم في النعيم على الإيمان والعمل الصالح ، والإنذار بالعذاب الأليم على الكفر والجحود والظلم ولم تكن البشارة والإنذار مختصة بالرسل إنما هي وظيفة كل نبي من الأنبياء المائة ألف والأربعة والعشرين ألف نبي ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ]( ).
ومن الإعجاز تقديم الآيات البشارة وفيه ترغيب بالإيمان ، ودعوة للتدارك والاستغفار ، وبعث للأمل في النفوس ، وقد ورد لفظ [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ] أربع مرات في القرآن واحدة في النبيين وهي الآية أعلاه ، وثلاثة في المرسلين ، وقال الله تعالى مخاطباً النبي محمداً [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
ومن الإعجاز في دلائل ألفاظ القرآن ، ورود لفظ (شاهداً) ثلاث مرات في القرآن ، كلها تخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثنتين في خطاب إليه ، والثالثة خطاب للناس جميعاً بقوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا]( ).
لبيان إكرام الله عز وجل للأنبياء ، وبيان جهادهم في تبليغ الرسالة ، وإصلاح الأمم ، وتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بمرتبة الشهادة في الدنيا والآخرة .
وأخرج (عن محمد بن فضالة الأنصاري وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ومعه ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وناس من أصحابه ، فأمر قارئاً فقرأ.
فأتى على هذه الآية [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا]( ).
فبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه ، وقال : يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أره)( ).