المقدمـــة
الحمد لله الأول قبل الإنشاء ، والآخر بعد فناء كل شئ ، [الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ]( )، فمن بديع صنع الله ، وعظيم سلطانه انتفاء واستحالة الشريك في الأولى والآخرة .
وفيه رحمة للخلائق متصلة ، لبيان قانون وهو كل فعل من الله عز وجل هو رحمة بالخلائق ، ودعوة لها لعبادته تعالى وحده ، هذه العبادة التي جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإتيانها بكل من :
الأول : نفس رسول الله .
الثاني : القرآن الكريم .
الثالث : السنة النبوية القولية والفعلية .
الرابع : أهل بيت النبوة .
الخامس : الصحابة من المهاجرين والأنصار .
السادس : أجيال المسلمين المتعاقبة .
ومن الجهاد جهاد النفس لتعاهد العبادة والتنزه عن الانقياد للهوى ، وإغواء الشيطان ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الحمد لله الذي تفضل بتتايع بعثة الأنبياء إلى الناس [مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ]( )، وليس من نبي إلا ومعه شاهد يدل على صدق نبوته وهو المعجزة الحسية مثل معجزة نوح وهي السفينة ، ومعجزة صالح وهي الناقة بولادتها من صخرة بطلب من قومه ، وكيف أنها تشرب ماء البئر يوماً فتدر من الحليب ما يكفي القبيلة كلها ، ويكون شرب اليوم التالي لأنعامهم ، وفيه شاهد على أن مياه الآبار ناضبة ، وقوم صالح هم ثمود ، وتقع ديارهم في الجزيرة العربية وهي محل ابتداء الدعوة الإسلامية.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم الفتور في دعوته عند عزوف وإعراض أكثر القبائل العربية عنه ، وعضده القرآن كمعجزة عقلية ونزول آياته تباعاً ونجوماً وشطر منها وفق الوقائع والأحداث ويسمى أسباب النزول .
والمختار تحريض رؤساء الشرك من قريش لهم ، وفي معركة الخندق في شوال من السنة الخامسة للهجرة حيث كان الغزاة عشرة آلاف من المشركين واضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لحفر خندق حول المدينة.
زفَ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البشارة لأصحابه بأن ملك كسرى وقيصر سيفتحان للمسلمين ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم .
فتنطبق هذه الصفات على الوقائع والأحداث أيام النبوة ، وما بعدها ، ومنه مصاديق الحديث أعلاه كمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان أنه يفسر القرآن بالقادم من الوقائع ، وبما فيه الرحمة والنعمة وأسباب الهداية للناس جميعاً.
ولم تمر إلا ثلاث سنوات على معركة الخندق إلا وقد سار مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشرة آلاف من الصحابة لفتح مكة سلماً ، فذات العدد الذي زحف به المشركون على المدينة ، خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن مع التباين والتضاد بين الفريقين وإذ عاد المشركون خائبين في معركة الخندق ، بينما تم فتح مكة بيسر وفيض وبركة ، قال تعالى [مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ]( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا أنها دار رحمة الله ، و(عن عمرو بن عبسة قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله [وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ]( )، ما كان النداء؟ وما كانت الرحمة .
قال : كتاب كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ، ثم وضعه على عرشه ، ثم نادى : يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً أدخلته الجنة)( ).
الحمد لله الذي لا تستطيع الخلائق وإن اجتمعت أن تحصي أفراد ومصاديق رحمته في كل طرفة عين ، وكل ثانية من الوجود في عالم الموجودات والكائنات في السموات والأرض ، فلو حددت ثانية معينة أي جزء من ستين جزء من الدقيقة ، واجتمعت الخلائق لسنوات لإحصاء نعم الله عز وجل عليها في تلك الثانية لعجزوا عن إحصائها.
خاصة وأن نعماً كثيرة لا تحيط الخلائق بها علماً ، وأيهما أكثر النعم الظاهرة لنا ام النعم التي خارج مداركنا الحسية ، الجواب هو الثاني .
ليكون تقدير قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( )، وان تعدوا نعمة الله في الثانية والدقيقة الواحدة على الخلائق لا تحصوها ، بل وحتى على جنس واحد من الخلائق ومنهم الناس ، ويدخل في النعم محو الآفات والبلاء والآثام ، واثبات الخير والصلاح والثواب ، قال تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
كما تعجز الخلائق عن معرفة مفاهيم منافع وبركات النعمة الواحدة ومنها نعمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من النفع العظيم على الناس جميعاً ، المسلم ، والكتابي ، والكافر .
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره وتفضل وجعل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، على وجوه :
الأول : قانون الملازمة بين الإسلام وقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني : قانون جزئية قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] من كل ركعة من ركعات الصلوات اليومية.
الثالث : تلاوة كل مسلم قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، بقصد القرآنية .
الرابع : قانون مواظبة المسلمين على الشكر لله بقولهم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] مجتمعين ومتفرقين .
الخامس : قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] سبب لصرف البلاء والعذاب عن القائل ودويرته .
و(عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضيّاً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] فيسمعه الله عزّ وجلّ فيرفع عنهم ذلك العذاب أربعين سنة)( ) ( ).
السادس : حضور قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] وثوابه العظيم في الآخرة .
وهل هذا القول من مصاديق المحافظة في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( )، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قانون ملازمة القنوت والخشوع لقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] سواء في الصلاة أو خارجها من وجوه :
الأول : قانون الإقرار بنعم الله عز وجل .
الثاني : قانون التسليم بأن الله عز وجل رب العالمين .
الثالث : قول الحمد لله دعاء وثناء على الله عز وجل .
و(عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال رجل : الحمد لله كثيرا ، فأعظمها الملك أن يكتبها ، وراجع فيها ربه عز وجل ، فقيل له : اكتبها كما قال عبدي كثيراً)( ).
أي لا يعلم الثواب العظيم على هذه الكلمة إلا الله عز وجل ، وفيه شاهد نبوي على التوسع في الدعاء ، والاجتهاد في صدق الثناء على الله عز وجل ، وهو لا يتعارض مع الحرص على إتيان الدعاء المأثور لبيان المندوحة في فضل الله عز وجل.
الحمد لله على نعمة الأمن والعافية ، والأهلية العامة عند الناس للعمل والكسب ، والسلامة من الأدران أغلب أيام العمر.
و(عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي)( ).
ومن أعظم النعم كمال الدين ، ونزول أحكام الشريعة ، وعمل المسلمين بها ، وثباتها في الأرض قبل أن يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
وليكون من معنى النصر في قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( )، متعدد المعاني ، خاصة وأن لفظ الفتح عطف عليه مما يدل على أن النصر غير الفتح ، ومن النصر في الآية أعلاه توالي النعم على المسلمين ، وإقامة الصلاة ، وتعظيم شعائر الله وبسط الأمن في الأرض ليكون مناسبة لذكر الله .
ولتكون هناك صلة بين أول آية نزلت من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، وآية النصر أعلاه ، فبقراءة القرآن والعمل بأحكامه ثم النصر ، لتبقى قراءة القرآن ، وسنن التوحيد وأداء الفرائض العبادية في الأرض إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
الحمد لله حمداً يقصر اللسان عن الإحاطة به ، الحمد لله الذي جعل نعمه تترى بحيث لو لهج الإنسان كل أيام حياته بقول الحمد لله لم يدرك من أفراد النعم بالشكر إلا كالقطرة في البحر ، ولكن من نعم الله عز وجل أنه يرضى بالقليل ، ويهب الكثير ابتداءً ، فبعث النبي محمداً ليجاهد لتثبيت كلمة الحمد لله في الأرض ، فصار ملايين المسلمين في مشارق ومغارب الأرض ينطقون بها مجتمعين ومتفرقين في الصلاة اليومية وخارجها .
ومن الإجتماع صلاة الجماعة ، فصحيح أن الإمام يتولى القراءة عن المأمومين في صلاة الصبح ، وفي الركعة الأولى والثانية من الصلاة الثلاثية والرباعية إلا أن ثواب قراءته يكتب لكل واحد من المأمومين مع الزيادة في الأجر .
و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً)( ).
الحمد لله ربنا ورب آبائنا الأولين ، الحمد لله خالقنا ورازقنا ومعطينا ، ومنزل الغيث والخير والبركة علينا وعلى الناس ، وتفضل وأنزل القرآن ليكون السور الجامع لمصاديق البركة والفلاح في الدنيا والآخرة .
الحمد لله الغني عن كل شئ ، والذي يفتقر لرحمته وفضله كل شيء في إيجاد واستدامة وجوده ، قال تعالى [فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
أي استغنى الله عز وجل عن إيمانهم ، وجاءت خاتمة الآية لتبين أن الله عز وجل غني بالذات غير محتاج لأحد وفيه طرد وهم بأن الله استغنى بالمؤمنين ، إنما انتفع المؤمنون من غنى الله عز وجل .
ولم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير آيات القرآن كلها لوجوه :
الأول : نعمة العقل التي رزقها الله الناس ومنهم الصحابة .
الثاني : إرتقاء علوم العربية أيام النبوة لتشمل الإبداع في الشعر ، وقوة العبارة والإيجاز غير المخل في الخطابة ومنه كلمة أبي طالب في خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة .
الثالث : البيان والوضوح في آيات القرآن ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين المجمل ، ويخصص العام الذي يلزم تخصيصه لمنع الجهالة والفتنة ، وتقييد المطلق الذي يلزم تقييده بما فيه الرحمة والتخفيف عن الناس ، فهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومنه رد المتشابه إلى المحكم .
وقول بأن السنة تنسخ القرآن ، والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن لآيات كثيرة منها قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، ليكون من معاني الآية أعلاه حفظ آيات القرآن من النسخ والضياع والزيادة والنقيصة.
ثم ما هي الآيات التي نسختها السنة النبوية ، نعم يختلف معنى النسخ عند القدماء ، إذ كانوا يسمون التخصيص نسخاً ، مما يدل على أن الخلاف صغروي ، فالإجماع على أن السنة تخصص العام القرآني ، لكن مع الدليل ، وهذا التخصيص لا يتعدى حروف الأصابع ، ويمكن إحصاؤه في كتاب مستقل عنوانه تقييد السنة لبعض إطلاقات القرآن .
لقد تعلم الصحابة التفسير النبوي مشافهة ونقلاً ، فليس كل ما يذكره الصحابي سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في روايات ابن عباس الذي ولد في السنة العاشرة للبعثة ويتلقى المسلمون رواياته عن البعثة ومعركة بدر ، وأحد ، ونحوها من أخبار وأقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا ، وكان يحرص على الإجابة عن كل سؤال بخصوص القرآن والسنة وكثير من تفسيره تلقاه عن الإمام علي عليه السلام.
وأسلم أبو هريرة في السنة السابعة للهجرة ويروي أخباراً عديدة عن سني البعثة الأولى، وما قبل الهجرة .
ويروي هو وعبد الله بن عباس روايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمعاها منه ، لسبقها لولادة ابن عباس أو أنها وقعت أيام صغره ، كما في رواياته عن معركة بدر وأحد مع أنه ولد في السنة الثالثة قبل الهجرة في مكة , ولسبقها لإسلام أبي هريرة ، فكان أبو هريرة يقول : قال رسول الله، أو يذكر واقعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو لم يسمع هذا القول من النبي ، ولم يشهد الواقعة لسبقها زماناً لإسلامه في السنة السابعة وأنما سمعه من غيره من الصحابة ، ويسمى في علم الحديث بالتدليس .
قال شعبة : كان أبو هريرة يدلس)( )، وقال الذهبي في ترجمته لأبي هريرة (تدليس الصحابة كثير، ولا عيب فيه ; فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم)( ).
والأولى أن يضيف الذهبي إلى أكبر منهم ، أو من سبقهم في الإسلام ، فقد يكون السابق أصغر سناً من الصحابي الذي سمع ونقل عنه.
لذا كان يكثر سؤال التابعين وغيرهم للراوي : أنت سمعت هذا من رسول الله .
ومنه (عن أبي العلاء بن الشخير، قال: كنا بالربذة فجاء أعرابي بكتاب وصحيفة فقال: اقرءوا ما فيها فإذا فيها: ” هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني زهير بن أقيش إنكم إن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم خمس ما غنمتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنتم آمنون بأمان الله عز وجل .
قلنا: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعم.
قلنا: حدثنا بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وغر الصدر.
وقال الجريري : وحر الصدر. قلنا: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أراكم تتهمونني فأخذ الصحيفة ومضى.
فسألنا عنه فقيل: هو النمر بن تولب قال الأصمعي كان النمر بن تولب العكلي أحد المخضرمين من الشعراء وكان أبو عمرو بن العلاء يسميه الكيس.
وقال أبو عبيدة النمر بن تولب عكلي وكان شاعر الرباب في الجاهلية ولم يمدح أحداً ولا هجا وأدرك الإسلام وهو كبير)( ).
والمراد من شهر الصبر هو شهر رمضان.
الحمد لله الذي تفضل ودعا الناس للتمسك بالقرآن ، والعمل بأحكامه ، وإتيان ما أمر الله عز وجل به ، وإجتناب ما نهى عنه ، وهو من معاني كلمة (اعتصموا) في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، لبيان الصدور عن القرآن في عالم الأفعال والتكاليف ، واللجوء إليه في الملمات.
الحمد لله الذي حمد نفسه قبل أن تحمده الخلائق وهو من مصاديق [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( )، وأنطق الخلائق بالحمد له طوعاً وكرهاً ، والذي تفضل على المسلمين وجعلهم يدخرون قول الحمد لله إلى الآخرة ليحضر شفيعاً لهم ، إذ قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]( ).
وقد ورد لفظ (الحمد لله) ثلاثاً وعشرين مرة في القرآن ، منها ستة بالجمع بينها وبين الربوبية المطلقة لله عز وجل على الخلائق بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ويجتمع اسم ومسمى الحمد في شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو اسمه محمد وأحمد ، وكانت كل أيام حياته حمداً قولياً وفعلياً لله عز وجل ، وتسبح جوارحه وأركانه في سكوته وتقلباته وأكله وشربه ، وقيامه وجلوسه.
وفي يوم القيامة يبدأ شفاعته بمقدمة من المحامد لله عز وجل .
كما في حديث الشفاعة عن أنس يرفعه قال (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ لِى وَيُلْهِمُنِى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِى الآنَ)( ).
وهل من موضوعية لقول كل مسلم ومسلمة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، في الصلاة اليومية بتسميتهم في الكتب السماوية السابقة (الحمادون) الجواب نعم.
فلا يقدر على إحصاء قول أجيال المسلمين (الحمد لله) إلا هو سبحانه سواء قولهم في الصلاة الواجية والمندوبة أو في المعاملات وعند الأكل والشرب ، وفي حال الحل والترحال .
ومع أن النسبة بين النعمة والبلاء هو التضاد فان المسلمين يتلقون كلاً منهما بقول (الحمد لله) وهو من اللطف في كلام الله عز وجل لموسى عليه السلام في أمة أحمد (قال : أمته الْحَمَّادون يحمدون صعوداً وهبوطاً وعلى كل حال)( ).
ويجمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين التحميد والتسبيح والتكبير في أدعيته ، وحضه المسلمين على تعاهد الحمد لله وبيان أجره في الدنيا والآخرة .
و(عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم جلوس ما لكم لا تتكلمون من قال سبحان الله وبحمده كتب الله عزوجل له عشر حسنات ، ومن قالها عشراً كتب الله له مائة حسنة ، ومن قالها مائة مرة كتب الله له الف حسنة.
ومن زاد زاده الله ومن استغفر غفر الله له ومن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه.
ومن اتهم بريئا صيره الله إلى طينة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال.
ومن انتفى من ولده يفضحه به في الدنيا فضحه الله على رؤس الخلائق يوم القيامة)( ).
وكما يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن فانه يستدل به في رده على الاسئلة والجدال الذي يأتي على وجه الإسترشاد ورجاء قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوضيح والبيان الزائد .
(وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ ألف آية في سبيل الله، كُتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن شاء الله)( ).
لبيان أن قراءة القرآن والتدبر فيه من مصاديق السعي والعمل في سبيل الله ، وفيه شاهد على قانون تعدد طرق في سبيل الله في اليوم والليلة ، وللفرد والجماعة.
والقرآن لغة هو مصدر (قرأ) ويفيد معنى الجمع والضم .
وفي الإصطلاح هو كلام الله تعالى المنزل على النبي محمد (ص) , المعجز في لفظه ، وتعدد معاني ودلالات الشطر من الآية الواحدة من آياته ، المنقول إلينا بالتواتر ، المتعبد بتلاوته , ومنها قراءته في الصلاة بقصد العبادة ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا].
وبعد أن صدر الجزء الثالث والخمسون بعد المائتين في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن تعقبه هذا الجزء في ذات الموضوع والحمد لله .
وقد يرد في هذه الأجزاء لفظ (تفسير النبي (ص) للقرآن) و(التفسير النبوي) وكلاهما بمعنى ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
حرر في التاسع والعشرين من شهر ربيع الأخرة 1445
14/11/2023
تجليات تفسير النبي (ص) للقرآن
لقد كانت السنة النبوية الأصل في مناهج التفسير ، وأي مدرسة في التفسير يجب أن لا تبتعد وتتعارض مع السنة النبوية .
وكان تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن على أقسام :
الأول : البيان والتفسير .
الثاني : قانون الإستدلال بالآية القرآنية ، وهو من أعظم قواعد التفسير.
الثالث : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحكم الشرعي بالإستشهاد بالآية القرآنية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابع : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأهل الكتاب وعامة الناس عن آيات القرآن .
الخامس : قانون احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن دعوة للعلماء لاتخاذه حجة ودليلاً كما في احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رؤساء قريش مثل الوليد بن المغيرة المخزومي وابي البختري بن هشام ، وأبي جهل ، وغيرهم ، واحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الملل الأخرى بآيات القرآن .
السادس : التفسير حقيقة .
السابع : التفسير حكماً .
الثامن : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقانون خلو آيات القرآن من التزاحم أو التعارض .
التاسع : قانون إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان أن القرآن تنزيل .
لقد بدأت مدة التفسير النبوي للقرآن من حين نزول القرآن وإلى أن غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وهل تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن على نحو يومي أو أحياناً ، الجواب هو الأول .
ولا يختص التفسير النبوي للقرآن بقول أو فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المراد منه صراحة التفسير .
إنما يشمل علم التفسير النبوي كل فرد من أفراد السنة النبوية لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)( ).
منافع تفسير النبي (ص) للقرآن
يدل صدور السنة النبوية عن الوحي على قانون السنة النبوية خير محض ، ونفع دائم .
والنسبة بينها وبين تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالسنة النبوية القولية والفعلية أعم من التفسير النبوي الذي هو فرع منها ، لبيان صحة هذا التفسير ، وحاجة الناس إليه ، ومن منافعه :
الأولى : بيان وتفسير الآيات .
الثانية : منع الخلاف والخصومة بين المسلمين في تفسير الآيات .
الثالثة : طرد الجهالة والغرر .
الرابعة : نفي الغفلة بخصوص علوم القرآن ، قال تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ]( ).
الخامسة : ترغيب العلماء وعامة المسلمين بتفسير القرآن .
السادسة : قانون الحاجة إلى تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
السابعة : تأسيس منهاج علم التفسير وحدوده وضوابطه ، ومنها ترك تفسير القرآن بالرأي.
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم ، فليتبوأ مقعده من النار)( ).
و(عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)( ).
وجندب هو (هو جندب بن عبد الله بن سفيان ومن قال جندب ابن سفيان نسبه إلى جده وقد قيل: إنه جندب بن خالد بن سفيان والأول أصح.
وحكى الطبراني نحو ذلك من طريق (أبي عمران الجوني قال: قال لي جندب كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلاماً جزوراً.
وفي صحيح مسلم من طريق صفوان بن محرز أن جندب بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة بن الزبير قال: اجمع لي نفراً من إخوانك.
وفي الطبراني من طريق الحسن قال: جلست إلى جندب في إمارة المصعب يعني بن الزبير جندب بن عفيف)( ).
و(عن جندب قال: كنا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلمانا حزاورة تعلمنا الايمان قبل ان نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به ايمانا)( ).
ومعنى حزاورة أي قاربنا البلوغ.
لبيان قانون السنة النبوية تنمية لملكة الإيمان ، ومن أسباب زيادة الإيمان الإقرار بالتوحيد والنبوة والمعاد ، وأداء الصلاة والفرائض العبادية .
وهل صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفسير للقرآن ، الجواب نعم ، إنه تفسير قولي وفعلي لآيات القرآن التي تتضمن وجوب أداء الصلاة ، قال تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثامنة : قانون التفسير النبوي وثائق من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
التاسعة : قانون صدور المسلمين عن التفسير النبوي للقرآن .
العاشرة : استحضار المسلمين لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإدراك معجزاته في علم التفسير .
الحادية عشرة : تأكيد قانون انتفاء التعارض بين القرآن والسنة النبوية.
الثانية عشرة : قانون موضوعية الوحي في التفسير النبوي للقرآن.
الثالثة عشرة : عرض المسلمين تفاسير العلماء للقرآن على تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما يتعارض معه يطرح ولا يؤخذ به .
الرابعة عشرة : قانون التفسير النبوي للقرآن شاهد على صدق نزوله من عند الله ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ]( ).
الخامسة عشرة : قانون وراثة أهل البيت سنن التفسير النبوي للقرآن .
و(عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله عز وجل حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي وأهل بيتي ، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض)( ).
السادسة عشرة : قانون حرص أهل البيت وعدد من الصحابة على توثيق تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن مع التسليم بأنه شعبة من الوحي ، وثروة سماوية في الأرض ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السابعة عشرة : بعث الشوق في نفوس المسلمين لتلاوة وحفظ القرآن وفهم معانيه والتدبر فيها ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثامنة عشرة : التفسير النبوي للقرآن ، من مصاديق فضل الله عز وجل في حفظه بقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، إذ أن هذا التفسير من الوحي ، وفيه تثبيت لآيات القرآن والفاظها ورسمها.
التاسعة عشرة : قانون تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن برزخ دون الغلو في شخصه الكريم .
العشرون : من التقوى الرجوع إلى تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن في بيان معانيها ، سواء التفسير القولي أو الفعلي.
في فضل القرآن
و(عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه)( ).
ففي القرآن طمأنينة للنفس ، وتخلية عن مباهج الدنيا واللهث وراءها ، وهو نور يضئ الجوانح وينبسط على الجوارح ، فيجعلها تسارع في الخيرات ، وتنقبض عن السيئات من الغيبة والتعدي والسرقة والظلم .
وفي القرآن غنى عن البدعة وعن الإجتهاد في مقابل النص.
و(عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله قال في خطبته: لا عيش إلا لعالم ناطق، أو مستمع واع.
أيها الناس إنكم في زمان هدنة، وأن السير بكم سريع .
وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود.
فقال له المقداد : يا نبي الله وما الهدنة ؟ فقال: دار بلاء وانقطاع فإذا التبست عليكم الامور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه شافع مشفع، وصادق مصدق .
ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة .
ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، من قال به صدق .
ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل)( ) ( ).
ويتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الخطبة إلى الناس جميعاً بقوله (أيها الناس) فلو دار الأمر بالمراد من الناس هنا هل الألف واللام للعهد وإرادة المشافهين ، أم أنها للجنس وإرادة الناس جميعاً .
فالأصل هو الثاني لأصالة الإطلاق ، ولأن السنة مرآة وبيان للقرآن إذ ورد نداء [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن كلها خطابات إلى الناس كافة باجيالهم المتعاقبة.
وهل تحضر نداءات القرآن العامة والخاصة يوم القيامة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ويتجلى في موضوع أول الخطبة بأن الناس في زمن هدنة وأيام امتحان وإختبار ، وأن الموت يدنو من كل إنسان مع تقدمه في العمر.
الوحي لغة واصطلاحاً
الوحي لغة هو الإعلام والإخبار في خفاء ، وقيل (أصل الوُحِيّ: الكتابة في الحجارة)( ).
والوُحي بضم الواو ، بمعنى الكتابة.
لغة في الوحي ، يقال : وَحَى يَحِي وَحْياً ووُحِيَّا، إذا كتب.
قال الراجز :
لقد نَحاهم جَدُّنا والناحي
لِقَدَرٍ كان وَحاه الواحي
أي كتبه ، وأَوحى يُوحي إيحاءً، فالوحي من الله عزّ وجلّ إلهام ومن الناس إيماء)( ).
ويأتي الوحي في اللغة على وجوه :
الأول : الإشارة ، وقال تعالى بخصوص زكريا [فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( ).
الثاني : الكتابة .
الثالث : الرسالة .
الرابع : الكلام الخفي .
الخامس : الإلهام .
السادس : الإسراع ومنه الوحاء الوحاء أي السرعة السرعة.
السابع : البعث (وأوْحَى إليه بَعَثَهُ، وألْهَمَهُ، و نَفْسُهُ وَقَعَ فيها خَوْفٌ)( ).
ويمكن تقسيم الوحي في الإصطلاح إلى أقسام :
الأول : وحي الإرسال ، وهو الخاص بالأنبياء والرسل ، قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( ).
الثاني : الوحي إلى الملائكة ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى]( )، وقد ورد لفظ (للملائكة) تسع مرات في القرآن كلها في خطاب الله لهم ، ثمانية بخصوص خلق آدم وواحدة تتعلق بعالم الآخرة.
الثالث : الوحي الجامع إلى الملائكة والأنبياء ، ومنه نزول القرآن ، إذ يتلقاه جبرئيل بالوحي ، ثم يلقيه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ]( )، وقال تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( )، والكلام هنا الوحي لقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( )، وقد وردت آيات متعددة في كلام وأوامر الله للملائكة.
وقالت الجهمية والمعتزلة : إن الله لا يتكلم وان القرآن مخلوق ، وقال الأشاعرة : إن كلام الله نفسي ، قديم ، لايسمع منه ، هذا الخلاف الذي تسبب في فتنة عمياء لإشتراك بعض خلفاء بني العباس فيها ، ولقد وصف الله عز وجل القرآن بأنه كلامه ، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ]( ).
وحتى على القول بأن جبرئيل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ فانه لا يتعارض مع كون الله عز وجل متكلم ، وهو الذي يخاطب الخلائق في الدنيا والآخرة.
وأيهما أكثر وحي الله للملائكة أم وحيه للأنبياء ، والمختار هو الأول ، ومنه الوحي لعموم الملائكة ، ولملائكة سماء مخصوصة ، أو لجماعة منهم ، أو الوحي لفرد منهم ، كما في الوحي إلى إسرافيل وجبرئيل وملك الموت ، ولم يرد لفظ (ملك الموت) في القرآن إلا مرة واحدة في قوله تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ]( ).
الرابع : وحي إنقياد الخلائق إلى الله عز وجل ، ومنه قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( ).
الخامس : وحي الإلهام ، كما في قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( ).
والنسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الإصطلاحي للوحي هي العموم والخصوص المطلق ، فالمعنى اللغوي أعم .
والوحي أمر يأتي للنبي من الله عز وجل ، فهو ليس من الذات أو حديث النفس ، وحدة الذكاء .
ويدرك معه النبي أن هذا الوحي من الله عز وجل ، وليس هو من وسوسة الشيطان .
وحتى رؤيا الوحي فان النبي يدرك معها أنها من الله وليس أضغاث أحلام ونحوها ، وهو من اللطف الإلهي في التخفيف عن الأنبياء ، وبعثهم على أداء رسالته من غير شك أو ريب .
قانون مصاحبة الوحي للنبوة
لقد أخبر الله عز وجل عن ملازمة نعمة الوحي للأنبياء ، فالذي ينال درجة النبوة يعضده الله عز وجل بالوحي سواء كان نبياً او رسولاً ، وكان النبي الوحيد في زمانه أو معه نبي آخر أو أكثر .
وقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( )، ويبين القرآن الموضوع الذي يتقوم به الوحي ، إذ قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين الوحي والقول الثابت في قوله تعالى [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ]( )، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، والقول الثابت أعم من الوحي.
و(عن البراء بن عازب : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : المسلم إذا سئل في القبر ، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فذلك قوله سبحانه يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ( ).
ترى هل الوحي إلى الأنبياء من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة ، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
الجواب هو الثاني ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( ).
وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمرتبة الأسمى منه إذ صاحبه الوحي في قوله وفعله في الواجبات والمستحبات والمباحات والمكروهات والمحرمات ، ويدل عليه قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
و(عن عروة قال : قال الحارث بن هشام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي ، قال : يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته ، ويأتيني أحياناً في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاماً وهو أهون عليّ)( ).
وكان جبرئيل يكلم النبي محمداً بالعربية ، ولن تضر صلصلة الجرس في وضوح الحروف والكلمات ، فهذه الصلصلة لشدة الصوت ووقع نزول الملك ، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ]( )، ويعود الضمير الهاء أعلاه إلى القرآن ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه مذكور في التوراة والإنجيل والكتب السماوية السابقة.
قانون الوحي تعضيد للنبوة
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان أنه بشر وعبد لله عز وجل لمنع الغلو في شخصه ، وسؤاله ما لم يحط به علماً ، وللتطلع إلا الوحي كيف يعضد نبوته ، ويشهد له بالرسالة ، ويجعله أهلاً للحكم بين الناس بالحق من غير ميل .
وفي قوله تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( )، ورد عن الصحابي قتادة بن النعمان أنه قال (كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق . بشر ، وبشير ، ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ينحله بعض العرب.
ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، قال فلان كذا وكذا ، وإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال : أو كلما قال الرجال قصيدة أضحوا فقالوا : ابن الأبيرق قالها .
وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة( ) من الشام من الدرمك( ) ابتاع الرجل منها فخص بها بنفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم الشعير .
فقدمت ضافطة الشام فابتاع عمي رفاعة بن زرد جملاً من الدرمك ، فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما ، فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح.
فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بطعامنا وسلاحنا قال : فتجسسنا في الدار وسألنا.
فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم)( ).
أي بقرينة أنهم فقراء لا يملكون شراء القمح فكان إيقادهم التنور أمارة وشاهداً محتملاً على قيامهم بالسرقة ، ولكن طعمة وأخوته من بني ابيرق انكروا السرقة واتهموا فيها لبيد بن سهل وهو ذو صلاح وإسلام الذي شد سيفه وهجم عليهم ، فهدأوا من روعه ، وقالوا له (ما أنت بصاحبها) ( ).
عندئذ ذهب قتادة وبأمر من عمه رفاعة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشكا له الحال ، وقال أما الطعام فلا نريده ، ولكن نحتاج السلاح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأنظر في ذلك.
ولكن بني أبيرق جمعوا قومهم وذهبوا إلى رسول الله وشكوا له قتادة وأن بني أبيرق أبرياء ، فتوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قتادة باللوم لأنه رماهم بالسرقة من غير بينة.
فحزن قتادة هو وعمه وفوضا أمرهما إلى الله ، فنزلت الآية [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( )، أي لا تكون ناصراً ومعيناً لبني أبيرق .
وعن ابن زيد قال (كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت عليّ ، وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي .
ويقولون : يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به ، حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول.
فعاتبه الله في ذلك فقال [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا* وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ]( ) بما قلت لهذا اليهودي)( ).
تقدير (لحافظون)
لقد جعل الله عز وجل الوحي حبلاً ممدوداً بينه وبين الأنبياء ، بين السماء والأرض بين علوم الغيب والواقع ، فيلجأ إليه الناس ليجدوا فيه البيان والبرهان والدليل العقلي والنقلي .
لقد كان الوحي سلاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة السماوية لأجيال الناس المتعاقبة للتصديق بنبوته ، لأن الوحي بآيات القرآن حجة عقلية.
وليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، على وجوه منها :
الأول : لحافظون لآيات القرآن رسماً ولفظاً ونظماً.
الثاني : لحافظون لأخبار الوحي في الأجيال.
الثالث : لحافظون لأحكام التنزيل .
الرابع : لحافظون لآيات القرآن في أيام الدنيا كلها .
الخامس : لحافظون للقرآن من التحريف والزيادة والنقيصة ، قال تعالى [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ]( ).
السادس : لحافظون للقرآن بالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : لحافظون للقرآن بوجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة له في الصلاة ، وإعانتهم على هذه التلاوة وليس من حصر لطرق وسبل هذه الإعانة .
الثامن : لحافظون للقرآن وثوابه في عالم الآخرة .
أي يتخلف الباطل عن الوصول لآيات القرآن ، ويعجز بذاته وأثره عن الإضرار بمعاني ودلالات القرآن ، والمراد من الذكر في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، أنه القرآن.
وقد ورد نعت القرآن بأنه ذكر في آيات عديدة منها قوله تعالى [وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ]( )، وقيل أن المراد من (الهاء) في قوله تعالى [وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] النبي محمد ، وهو بعيد .
وإن استدل عليه بقوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ]( )، والنسبة بين الحفظ والعصمة ليس التساوي إنما هو العموم والخصوص من وجه ، نعم يمكن القول بحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ القرآن ، ويكون تقدير الآية على جهات :
الأولى : وإنه للقرآن والنبي الذي أنزل عليه لحافظون .
الثانية : وانا لحافظون للقرآن وتبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم به في الأجيال المتعاقبة ، وهو من أسرار بقاء السنة النبوية القولية والفعلية بين الناس فهي مرآة وترجمان للقرآن ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالثة : وانا للقرآن والذي ينزل عليه لحافظون .
وانا للقرآن لحافظون وللنبي محمد من الشيطان ووسوسته ، لتكون آية البحث من الشواهد على بطلان مقولة أن الشيطان ألقى على لسان النبي (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) عندما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( )، من سورة النجم .
ومن وجوه بطلان هذه المقولة ما ورد بعد ثلاث آيات من الآيتين أعلاه [إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ]( )، بالأضافة إلى عصمة الأنبياء والمخلصين والأولياء من سلطان الشيطان ، وفيه آيات عديدة منها [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ]( ).
وأخرج (من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بذلك ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال : اقرأ عليَّ ما جئتك به ، فقرأ [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى .
فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا من الشيطان . فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى]( ) إلى آخر الآية)( ).
ولكن ليس في هذه الآيات من سورة النجم آمنية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كي ينفذ الشيطان إلى أمنيته كما لو بعث في نفسه القنوط والضجر ، إنما هذه الآيات إنذار ووعيد .
التاسع : له لحافظون في صدور المسلمين .
العاشر : له لحافظون من الشيطان وخطواته .
الحادي عشر : لحافظون للقرآن من التأويل الخاطئ .
الثاني عشر : لحافظون لعربيته ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثالث عشر : له لحافظون عند نزول جبرئيل بآياته .
الرابع عشر : له لحافظون عند تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون الوحي حجة وبرهان
من الإعجاز أن كل آية تدل على الوحي بمضامينها القدسية ، ودلائلها المتجددة وكذا فان السنة النبوية تدل على الوحي ، وهو يدعو إليها ، ويكون شاهداً على صحة قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
و(عن معاوية بن وهب عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام( ) قال : كان البلاط حيث يصلى على الجنائز سوقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يسمى البطحاء يباع فيها الحليب والسمن والاقط وإن أعرابيا أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم دخل ليأتيه بالثمن.
فقام ناس من المنافقين فقالوا: بكم بعت فرسك؟
قال: بكذا وبكذا قالوا: بئس مابعت، فرسك خير من ذلك وإن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج إليه بالثمن وافيا طيبا.
فقال الاعرابي : ما بعتك والله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : سبحان الله بلى والله لقد بعتني، و ارتفعت الاصوات فقال الناس: رسول الله يقاول الاعرابي فاجتمع ناس كثير فقال الإمام الصادق عليه السلام : ومع النبي صلى الله عليه وآله أصحابه إذ أقبل خزيمة بن ثابت الانصاري ففرج الناس بيده حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أشهد يا رسول الله لقد اشتريته منه.
فقال الاعرابي، أتشهد ولم تحضرنا؟
وقال له النبي صلى الله عليه وآله: أشهدتنا .
فقال له : لا يا رسول الله ولكني علمت أنك قد اشتريت أفأصدقك بما جئت به من عند الله ولا اصدقك على هذا الاعرابي الخبيث.
قال : فعجب له رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين)( ).
لقد أصبح الوحي مصدراً للفقاهة عند الصحابة ، بالإطمئنان الى صحة ما يقوله البني محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يختاره ، قال تعالى [مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الناس بالوحي الذي يأتيه ويحتج بمنزلة الوحي الرفيعة ، ويرجو منهم أن تكون سبباً للتصديق بقوله وفعله من غير شك أو ريب ، ومع كثرة عدد الصحابة وهم عشرات الآلاف فقد يصدر من بعض حديثي الإسلام بعض التجرأ فيقابله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحلم ولغة الإحتجاج أي أنه لم يسكت ، إنما يقيم البرهان على صدق قوله وفعله ، وكيف أن الله عز وجل رزقه نعمة الوحي لينتفع الناس جميعاً منها .
وبالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال (بَعَثَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِى أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا ، قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ .
قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : أَلاَ تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ ، يَأْتِينِى خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً .
قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ.
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اتَّقِ اللَّهَ .
قَالَ : وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ .
قَالَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ.
قَالَ : لاَ ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّى.
فَقَالَ خَالِدٌ وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِى قَلْبِهِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ.
قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ : إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)( ).
لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو أمين الله في الأرض ، وأن الوحي إليه متصل ومتجدد ومتكرر في كل يوم ، وهذا البيان دعوة نبوية عامة للتصديق بالتشريع الذي يأتي به النبي .
أقسام الوحي
من فضل الله عز وجل تعدد كل من :
الأول : اتحاد النعمة مع تعدد الموضوع ، فذات النعمة تأتي في مواضيع متعددة ، من غير أن ينقص أي فرد منها ، ومنه نعمة الرزق والكسب ، ونعمة السلم .
الثاني : تعدد النعمة في الموضوع المتحد ، ومنه نزول الغيث ، وسلامة البدن من الأدران .
الثالث : عموم النعمة الإلهية إذ ينتفع منها القريب والبعيد ، فقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، ومن معانيه إنتفاع كل شعب وأمة من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : النعمة الخاصة والتي ينتفع منها العامة ، ومنها الوحي والتنزيل.
ومن هذه النعم الوحي الذي يتفضل به الله على الأنبياء إذ تتغشى منافعه أنصار وأتباع الأنبياء والناس جميعاً.
لقد ثبّت الوحي معالم الإيمان في النفوس وجعل مفاهيم الشرك أمراً متزلزلاً غير مستقر سواء في النفوس أو المجتمعات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن أقسام ومراتب الوحي إلى الأنبياء :
الأول : رؤيا النبي في المنام ، ومع أن إبراهيم عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم فقد ورد حكاية عنه في التنزيل [قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (المنام) و (اذبحك) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
لبيان اختصاص المنام في القرآن برؤيا الوحي مع ورود آيات عديدة في القرآن تختص بموضوع الرؤيا وتأويلها قد تقدم الكلام عنها مفصلاً في الجزء السابق( ).
ترى ما هي النسبة بين الرؤيا الصادقة ورؤيا الوحي ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق في ذات الرؤيا والتلقي والموضوع ، إذ تأتي الرؤيا الصادقة للناس جميعاً بفضل ولطف من الله عز وجل ، أما رؤيا الوحي فتختص بالأنبياء.
ومن الوحي الذي يأتي إلى النبي محمد فمنه إلقاء الملك في قلبه بما يثبت معه ، ويدرك معه أنه وحي من عند الله عز وجل والنفث أشبه بالنفخ .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَرِزْقَهَا ، فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ)( ).
والنسبة بين رؤيا النبي مطلقاً ورؤيا الوحي عموم وخصوص مطلق ، إذ يرى النبي رؤيا ويدرك اثناءها بفضل من الله أنها وحي .
كما يرى الرؤيا الصادقة التي يراها المؤمنون وعامة الناس ، وقد يرى أضغاث أحلام أيضاً .
لبيان المائز بين رؤيا النبي وغيره من الناس بانفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم برؤيا الوحي ، وهل استعان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرؤيا في عالم التفسير ، الجواب نعم ، ومنه رؤياه عند الخروج لمعركة أحد لتكون تفسيراً لقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعين بالرؤيا سواء رؤيا الوحي أو الرؤيا الصادقة ، فعندما زحف ثلاثة آلاف من المشركين لقتال وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة المنورة ونزلوا عند جبل عينين وأشرفوا على المدينة.
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني رأيت بقراً تنحر ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها)( ).
وإلى الآن تجد الجيوش النظامية صعوبة في المعارك داخل المدن ، وتتحمل خسائر وتلحقها أضرار كثيرة فيها.
فاتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرؤيا أمارة على التحصن بالمدينة وانتظار قدوم الكفار لها ، ولكن رهطاً من شباب الأنصار ، وممن لم يحضر معركة بدر أصروا على الخروج إلى جبل أحد لقتالهم ، فسقط من المسلمين سبعون شهيداً.
وحينما زحف عشرة آلاف من المشركين نحو المدينة بعد مشورة من سلمان الفارسي سنتين حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خندقاً حول المدينة ، وصبروا ، ودارت منازلة تأريخية بين الإمام علي عليه السلام وفارس مضر عمرو بن ود العامري فصرعه الإمام علي عليه السلام ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
بينما في معركة أحد قتل الإمام علي عليه السلام أكثر حملة لواء المشركين ، الذين قتلوا جميعاً وعددهم ، وسقط لواء المشركين على الأرض وحملته امرأة فاجتمعوا حوله.
الثاني : الإلهام ، بأن يقذف الله عز وجل في روع النبي ما يشاء ، ويهديه إليه من قول أو فعل ، بما يطمئن معه النبي في العزم والإقدام على الفعل.
وهل يختص الإلهام بالأنبياء ، المختار لا ، وهو من فضل الله ، ومن التباين بين النبي وغيره كثرة الإلهام عند الأنبياء ، أما الأولياء الصالحون فيأتيهم في حالات مخصوصة.
و(عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن روح القدس نفث في روعي : أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)( ).
والمراد في روعي أي في نفسي.
وعن الإمام الباقر عليه السلام (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع : ألا إن الروح الامين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بشئ من معصية الله.
فإن الله تعالى قسم الارزاق بين خلقه حلالا ، ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله وصبر أتاه رزقه من حله، ومن هتك حجاب ستر الله عزوجل وأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه)( ).
الثالث : الوحي الجلي ، وهو نزول الملك بالوحي ، كما في نزول الملك جبرئيل بالوحي ، وفي التنزيل [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( )، وقال تعالى [وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ]( ).
وهذا الوحي على شعبتين :
الأولى : أن يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوت الملك من غير أن يراه .
الثانية : يسمع ويرى النبي الملك عند الوحي ، والمشهور أن هذه الرؤية تختص بالرسول دون النبي .
الثالثة : التكليم ، كما في قوله تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( )، نعم هذا التكليم مبين ومقيد بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( )،
و(عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظرونه ، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم ، وإذا بعضهم يقول : إن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله .
وقال آخر : ماذا بأعجب من أن كلم الله موسى تكليماً .
وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته .
وقال آخر : آدم اصطفاه الله .
فخرج عليهم فسلم.
فقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم ان إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى كليمه ، وعيسى روحه وكلمته ، وآدم اصطفاه الله ربه كذلك.
ألا وإني حبيب الله ولا فخر ، وأنا أول شافع ، وأول مشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله ، فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر)( ).
تفسير النبي (ص) شعبة من الوحي
مما ينفرد به الأنبياء الوحي ، إذ يوحي لكل واحد منهم الله عز وجل ، ليكون الوحي طريقاً لهداية الناس جميعاً ، فهو نعمة خاصة ذات نفع عام ، ومنه أنك ترى حضور السنة النبوية في أفعال المسلمين اليومية سواء في العبادات كما في اتباعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته لقوله (صلوا كما رأيتموني اصلي)( ).
أو في صيام شهر رمضان قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، أو في أداء مناسك الحج ، وكذا أحكام الزكاة والخمس ، ومقادير النصاب التي هي فرع قوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات الحج تفسيراً عملياً في حجة الوداع ، وقوله (لتأخُذوا عني مناسككم)( ).
وكذا اتباع المسلمين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية في المعاملات ومنها البيع والشراء ، وهناك مسائل :
الأولى : النسبة بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وبين تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن هي العموم والخصوص المطلق ، فتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن شعبة من هذه الرحمة لبيان الصحة والصدق في هذا التفسير .
الثانية : النسبة بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وبين تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن هي العموم والخصوص المطلق ، إذ يتضمن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن خطابات هداية ورشاد الى الناس جميعاً ، وليس من طائفة أو أهل ملة ومذهب إلا وينتفعون من هذا التفسير .
الثالثة : النسبة بين قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، وبين تفسير النبي للقرآن عموم وخصوص مطلق ، فذات تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن فرع الوحي ، وهو بذاته وحي وإخبار من عند الله عز وجل.
لقد أنزل الله عز وجل القرآن وأخبر أنه كلامه ، فليس للملك جبرئيل النازل بالقرآن ولا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إخفاء أو تغيير أو إضافة كلمة له .
وهو من الشواهد على صدق نزوله من الله ، ثم تفضل وأكرم النبي محمداً بتفسيره للقرآن بالوحي والإخبار الملكوتي .
ومن الإعجاز في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن لجوء الناس إليه في تفسير طائفة من الآيات ، إذ يلجأ له ويسأله كل من :
الأول : أهل البيت .
الثاني : الصحابة .
الثالث : أهل الكتاب .
الرابع : المنافقون .
الخامس : المشركون .
ويجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة ببيان ووضوح وترغيب للناس بسماع آيات القرآن .
نعم كان النبي يعلن عن عدم معرفته أوان يوم القيامة ، و(عن ابن عباس قال : قال حمل بن أبي قشير ، وسمول بن زيد ، لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول ، فإنا نعلم ما هي ، فأنزل الله [يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي]( ) إلى قوله [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ])( ).
وفي هذا الإعلان مسائل :
الأولى : إنه من الوحي .
الثانية : بيان عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله ووجوب عدم الغلو في شخصه ، أو شخوص الأنبياء السابقين ، أو أئمة المسلمين ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
الثالثة : بيان اختصاص علوم الغيب بالله وحده وهو سبحانه الذي [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ).
نعم اطلع الله عز وجل النبي محمداً على وجوه من الغيب ولم يطلعه على أوان قيام يوم القيامة ، وهل أطلع الله عز وجل عليه الملائكة ، المختار لا .
كيفية الوحي النبوي
قال تعالى [[إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( ).
وهل المراد من المتشابه في الوحي جنس الوحي أم المراد تمام كيفية الوحي ، المختار هو الأول ، وأن كل نبي له صيغة وطرق من الوحي تختلف عن الآخر في تفاصيلها وموضوعها .
ووحي النبوة يختلف عن وحي الإلهام والتسخير كما في قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( ).
ويأتي الوحي بمعنى الإشارة كما في قوله تعالى [فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( )، وهناك وجوه أخرى للوحي كما في أم موسى وفي الوحي إلى الحوارين ، والوحي إلى السموات [وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ]( ).
والوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أسمى مراتب الوحي ، ومن خصائصه أنه مصاحب وملازم له ، ليكون قول وفعل النبي محمد من الوحي ، لذا يمكن القول بقانون انتشار الإسلام بالوحي.
و(عن عبدالله بن عمرو قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي.
فقال : أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض)( ).
و(عن هشام بن عروة عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها، فما تستطيع أن تحرك حتى يُسَرّى عنه)( ).
بدايات الوحي
لقد كانت بدايات الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثقيلة ، وإن كانت بمراتبها الأولى التي أقل وطأة من اللاحق منها .
إذ (أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي سمعتُ نداءً وقد واللّه خشيتُ أن يكون هذا أمراً.
فقالت : معاذ اللّه ، ما كان اللّه عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك ، فواللّه إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث)( ).
و(عن جندب قال : احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت بعض بنات عمه : ما أرى صاحبك إلا قد قلاك ، فنزلت [وَالضُّحَى]( ) إلى وَمَا قَلَى( ).
و(كان رسول الله صلى الله عليه وآله كثير الرؤيا، ولا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)( ).
وفي بحار الأنوار عن (عائشة: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ، وكان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلا فكان يخلو بغار حراء فسمع نداء يا محمد، فغشي عليه .
فلما كان اليوم الثاني سمع مثله نداء فرجع إلى خديجة وقال: زملوني زملوني فو الله لقد خشيت على عقلي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدم ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق فانطلقت خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل.
فقال ورقة : هذا والله الناموس الذي انزل على موسى وعيسى عليهما السلام وإني أرى في المنام ثلاث ليال أن الله أرسل في مكة رسولا اسمه محمد وقد قرب وقته، ولست أرى في الناس رجلا أفضل منه .
فخرج صلى الله عليه وآله إلى حراء فرأى كرسيا من ياقوتة حمراء، مرقاة من زبرجد، ومرقاة من لؤلؤ، فلما رأى ذلك غشي عليه، فقال ورقة: يا خديجة فإذا أتته الحالة فاكشفي عن رأسك، فإن خرج فهو ملك، وإن بقي فهو شيطان، فنزعت خمارها فخرج الجائي، فلما اختمرت عاد، فسأله ورقة عن عن صفة الجائي فلما حكاه قام وقبل رأسه وقال: ذاك الناموس الاكبر الذي نزل على موسى وعيسى عليهما السلام .
ثم قال: أبشر فإنك أنت النبي الذي بشر به موسى وعيسى عليهما السلام وإنك نبي مرسل، ستؤمر بالجهاد، وتوجه نحوها وأنشأ يقول :
فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي
حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما
من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة
ويشقى به الغالي القوي المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه
وأخرى بأحواز الجحيم تعلل
ومن قصيدة له :
يَا لِلرّجَالِ لِصَرْفِ الدّهْرِ وَالْقَدَرِ
وَمَا لِشَيْءِ قَضَاهُ اللّهُ مِنْ غِيَرِ
حَتّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا
أَمْرًا أَرَاهُ سَيَأْتِي النّاسَ مِنْ أُخُرِ
فَخَبّرَتْنِي بِأَمْرِ قَدْ سَمِعْت بِهِ
فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدّهْرِ وَالْعُصُرِ
بِأَنّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ
جِبْرِيلُ إنّك مَبْعُوثٌ إلَى الْبَشَرِ
ومن قصيدة له :
فَخَبّرْنَا عَنْ كُلّ خَيْرٍ بِعِلْمِهِ
وَلِلْحَقّ أَبْوَابٌ لَهُنّ مَفَاتِحُ
بِأَنّ ابْنَ عَبْدِ اللّهِ أَحْمَدَ مُرْسَلٌ
إلَى كُلّ مَنْ ضَمّتْ عَلَيْهِ الْأَبَاطِحُ
وَظَنّي بِهِ أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ صَادِقًا
كَمَا أُرْسِلَ الْعَبْدَانِ هُودٌ وَصَالِحُ
وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ حَتّى يُرَى لَهُ
بَهَاءٌ وَمَنْثُورٌ مِنْ الذّكْرِ وَاضِحُ)( ).
عن الضحاك (قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه نفراً من الملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان على صورة الملك)( ).
الوحي مدد
لقد خلق الله عز وجل الإنسان ليكون [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وفيه دلالة على أن الله لا يترك الناس وشأنهم ، قال تعالى [أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ).
لبيان فضل الله بهداية الناس إلى سبل الرشاد ، وأنه سبحانه لا يتركهم هملاً من غير أمر ونهي إنما يقفون بين يديه للحساب يوم القيامة ، لبيان إقامة الحجة على المشركين.
وقال قتادة (ذكر لنا أن أبا جهل كان يقول : لو علمت أن محمداً رسول الله ما اتبعت غلاماً من قريش قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : إنّ لكل أمّة فرعوناً وأن فرعون هذه الأمة أبو جهل)( ).
لتوثيق إيذائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، ثم إصراره على القتال يوم بدر .
وليكون قتله يومئذ مفتاح إتساع وانتشار الإسلام ، ولبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهلاك عدوه مع بقاء النبي محمد في المدينة من غير أن يتيهوا كما قصة قوم موسى أربعين سنة في التيه .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة الوحي له من أيام البعثة الأولى في مكة ، ولم يغادره إلى حين مفارقته الحياة الدنيا .
وليس من حصر لوجوه الوحي من عند الله إلى الناس والخلائق ، ويقسم تقسيماً استقرائياً إلى قسمين :
الأول : وحي الإرسال إلى الملائكة والأنبياء .
الثاني : وحي إلهام ، بإلهام بعض المخلوقات لنوع من الأفعال ، وهل قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( )، من باب الحصر أم المثال .
المختار هو الثاني ، لبيان أن الكواكب والحيوانات والطيور والحشرات تجري بانظمة من الإرادة التكوينية ، وهو من مصاديق [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]( ).
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)( ).
(عن أبي جمعة الأنصاري قال ، قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً ، آمنا بك ، واتبعناك .
قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهركم ، يأتيكم الوحي من السماء! بل قوم يأتون من بعدي ، يأتيهم كتاب بين لوحين ، فيؤمنون به ، ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم أجراً )( ).
الوحي تعليم
لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة الأجيال ، وتفضل بالوحي مصاحباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفارقه إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى ، ومنه الوعد الإلهي الذي تجلى بقوله تعالى [مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى]( ).
ومن خصائص التنزيل أنه تعليم وإرشاد وهدى .
و(عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : إنّ الله أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال : إن كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء.
فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأَمَرتُهُم أنْ يشركوا بي ما لم أُنزّلْ به سلطاناً)( ).
لبيان أن الله عز وجل يُعلّم ويفقه النبي محمداً في الدين في اليوم والليلة.
وهذا التعليم غير آيات القرآن ليكون مع القرآن مادة السنة النبوية .
ومن أفراد قانون تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
قانون الوحي أمانة السماء
لما تفضل الله عز وجل بجعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فانه أمده بالوحي والتنزيل ، واختص بهما الأنبياء وهم سادة البشر ، ثم تفضل الله عز وجل وأنزل القرآن على الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وحفظه ورسمه وتلاوته إلى يوم القيامة.
وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أَلَا تَأْتَمِنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرٌ مِنْ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً)( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : إنه دعوة نبوية للصحابة واجيال المسلمين بالتصديق ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : عصمة وتنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الكذب والإشتباه والتفريط والإفراط .
الثالثة : الوحي نعمة عظمى ، وصلة يومية بين السماء والأرض.
الرابعة : مصاحبة صفة الأمانة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صغره ، وتجلت في مضاربته وسفره إلى الشام بتجارة خديجة ، وكانت الأمانة والوثاقة من أسباب رغبتها بالزواج منه لتنال شرف أمومة المؤمنين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
و(لما بنت قريش الكعبة وهو في سنة خمس و ثلاثين من عمره فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه ، فقالت كل قبيلة : نحن نضعها ، ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : جاء الأمين ، فرضوا به ، فأمر بثوب ، فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
أول الوحي إلى النبي محمد (ص)
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الوحي أمور :
الأول : قيام النبي محمد بالحديث التفصيلي عن بدايات الوحي.
و(عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدث عن فترة الوحى قال: فبينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذى جاءني بحراء قاعد على كرسى بين السماء، فجثيت منه، فرقا حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلى فقلت زملوني زملوني ، فأنزل الله [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ]( )، قال : ثم حمى الوحى وتتابع)( ).
ترجمة جابر بن عبد الله الأنصاري
عندنا اثنان بذات الاسم أعلاه وكلاهما من الأنصار ومن بني سلمة :
الأول : جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي .
الثاني : جابر بن عبد الله بن رئاب ، وهو أول من اسلم من الأنصار بعد بيعة العقبة الأولى ، وكان أصغر الذين حضروا بيعة العقبة الثانية( ).
(وأخرج أبو يعلى عن جابر قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة بدر إذ تبسم في صلاته فلما قضى الصلاة قلنا يا رسول الله رأيناك تبسمت قال مر بي ميكائيل وعلى جناحه أثر الغبار وهو راجع من طلب القوم فضحك إلي فتبسمت إليه)( ).
وقول آخر أن جابر بن عبد الله بن عمرو هو الذي شهد العقبة الثانية مع أبيه( ).
وجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام لم يحضر معركة بدر ولا معركة أحد ، منعه أبوه ليقيم مع أخواته وعددهن سبعة ، ليستشهد أبوه في معركة أحد ، فخرج جابر في اليوم التالي مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد .
وجابر بن عبد لله بن عمرو بن حرام أحد مكثري الرواية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ (روى ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعين حديثًا)( ).
كما روى عن عدد من الصحابة ، وروى عنه الإمام الباقر عليه السلام وعدد من أئمة التابعين منهم سعيد بن المسيب ومجاهد ، وعطاء ، والشعبي وغيرهم.
معجزة التفسير النبوي
لقد ثبت تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات كثيرة من القرآن ، ويحتمل هذا التفسير وجوهاً :
الأول : إنه معجزة للقرآن بأن يقوم خاتم النبيين بتفسيره وتأويله.
الثاني : إنه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل جهات:
الأولى : كل تفسير نبوي لآية قرآنية هو معجزة لرسول الله لما في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كشف لعلوم الغيب بما يأذن الله عز وجل له ، وفي قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ]( ).
وورد عن الإمام (موسى بن جعفر عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن طوبى، قال: شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة، ثم سئل عنها مرة اخرى فقال: في دار علي، فقيل له في ذلك، فقال: إن داري ودار علي في الجنة بمكان واحد)( ).
وذكر الثعلبي ذات التفسير بالإسناد (عن جابر عن أبي جعفر قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله طوبى لهم وحسن مآب.
فقال : شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة. ثم سُئل عنها مرة أُخرى.
فقال : شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة.
فقيل له : يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت : شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة، فقال : ذلك في داري ودار علي أيضاً واحدة في مكان واحد)( )وكذا ذكرها القرطبي في تفسيره 9/268.
وكأن في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى غلق الأبواب على المسجد النبوي إلا أبواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباب علي عليه السلام.
(وقال ابن عباس : (طوبى) شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفي دار كل مؤمن منها غصن)( ).
ولم ترد كلمة (طوبى) في القرآن إلا مرة واحدة ، ووردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بخصوص تفسيرها ، وبيان أوصاف شجرة طوبى.
و(عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة)( ).
الثانية : شطر من تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له ، وشطر بلحاظ اللغة وظاهر اللفظ .
الثالثة : اختصاص الإعجاز بخصوص التفسير النبوي المتعلق بعلم الغيب .
والمختار هو الأولى لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بمعجزة ، إنما هو بيان خاصة وأن النبي محمداً أفصح العرب .
والمختار هو الأول والثاني .
معجزة (الكلمة الواحدة)
لقد ظن المشركون أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محصورة في الجزيرة ، وأن الأصل هو عجز التبليغ الدعوة في الجزيرة عن الوصول إلى غيرها من البلدان ، بسبب إنعزالها وكون أهلها مستضعفين ، وليس عندهم ما يقابلون به مراتب الحضارة والجيوش والأموال التي عند الدول العظمى آنذاك ، فنزل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ومن بدايات الدعوة ، وهو في مكة أخبر رؤساء قريش على إنتشار الإسلام في الأمصار وإنقياد الناس في الأقطار إلى دعوته ، وسقوط الطواغيت ، وأظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مكة ، وصار الناس ولو على نحو الأفراد يدخلون الإسلام تباعاً ، وتحلى الصحابة الأوائل بالصبر على أذى واستهزاء قريش ، وصاروا يؤدون الصلاة.
وتلقى عامة الذين يسمعون آيات القرآن بالإنبهار ، والتسليم بأنه فوق كلام البشر ، وأن معاني ودلالات كلماته لا تنحصر في موضوع متحد ، وإن الإجتهاد في تفسيرها وتأويلها شاهد على صدق نزولها على رجل يسمى عند الناس (الصادق الأمين) وبجوار البيت الحرام فرأى كبار رجالات قريش أن يمشوا إلى أبي طالب عم النبي وكافله لإيجاد حل وسط بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن أبا طالب اشتكى وثقل عليه المرض ، وصارت دعوة النبي محمد علنية.
و(عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلّمُوهُ ؟ وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ وَقَدْ حَضَرَك مَا تَرَى ، وَتَخَوّفْنَا عَلَيْك.
وَقَدْ عَلِمْتَ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيك ، فَادْعُهُ فَخُذْ لَهُ مِنّا ، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ لِيَكُفّ عَنّا ، وَنَكُفّ عَنْهُ وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا ، وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ فَبَعَثَ إلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَهُ . فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي : هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِك ، قَدْ اجْتَمَعُوا لَك ، لِيُعْطُوك ، وَلِيَأْخُذُوا مِنْك)( ).
ترى ماذا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب أنه أبى أن يؤخذوا منه ما يطلبون ، وبين أن الأمر ليس أخذا ورداً ، بل قال (كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونِيهَا تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ)( ).
فاندهش رجال قريش لم يصدقوا بأن كلمة واحدة يحوزون بها مفاتيح بلاد فارس والروم كما حازوا مفتاح الكعبة (فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ نَعَمْ وَأَبِيك ، وَعَشْرَ كَلِمَاتٍ)( ).
وهل كان أبو جهل جاداً أم مستهزئاً ، الجواب هو الأول ، وفيه أمارة على إقرارهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخباره عن المغيبات ووقائع الزمان.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تَقُولُونَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ)( )، ويدل هذا الخبر على تعدد وفود قريش لأبي طالب ، وكثرة عروض المشركين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الواقعة أعلاه طلب فيها النبي من المشركين قول كلمة التوحيد فهي متأخرة زماناً على نزول سورة الكافرون وسبب نزولها.
إذ ورد (عن ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ، ويطأون عقبه .
فقالوا له : هذا لك عندنا يا محمد ، وتكف عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها بسوء . فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك فدلوه قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فجاء الوحي [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( )، إلى آخر السورة وأنزل الله عليه قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ* وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ).
وكأنه من الناسخ والمنسوخ ، فلم يقل لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، إنما قال لهم ليس لكم الا النطق بكلمة التوحيد.
ويدل على تأخر الواقعة زماناً وأنها في السنة العاشرة من البعثة أو قريباً منها ما تضمنه أول الخبر بأن أبا طالب اشتكى وثقل المرض عليه إذ (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ وَبَلَغَ قُرَيْشًا ثِقَلُهُ قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضِ إنّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا ، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلّهَا ، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلَى أَبِي طَالِبٍ فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ وَلْيُعْطِهِ مِنّا ، وَاَللّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزّونَا أَمْرَنَا)( ).
ولكن المدة بين اسلام حمزة عمه وبين وفاة أبي طالب أربع سنوات ، دخل فيها رهط وأناس كثيرون الإسلام ، فلعل إسلامهما ليس سبباً لقدوم وفد قريش هذا إلى أبي طالب وهو في آخر أيامه.
لقد بدأت مرحلة الكلمة الواحدة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي كلمة التوحيد ، قبل الهجرة وهي من أسباب عزم رؤساء قريش على قتل التبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومصاديق قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وفيه شاهد على شجاعة وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل ، إذ أنه يعلم بطش قريش ، وإصرارهم على البقاء على الكفر والجحود .
ترى ماذا كان رد رجال قريش على دعوة النبي لهم للنطق بكلمة التوحيد والبشارة بأنها طريق السيادة والعز والرفعة في أقطار الأرض ، لقد (صَفّقُوا بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ قَالُوا : أَتُرِيدُ يَا مُحَمّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا ، إنّ أَمْرَك لَعَجَبٌ.
ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إنّهُ وَاَللّهِ مَا هَذَا الرّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ . قَالَ ثُمّ تَفَرّقُوا)( ).
لقد سقط هؤلاء الرجال صرعى في معركة بدر وهم مشركون ، ولم تمر السنون حتى تحققت البشارة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأذن من عند الله .
وهل هذه البشارة وهي ملكهم العرب وإقرار العجم لهم ، من التشريع الذي اختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إنما هو من المغيبات التي اختص الله عز وجل بها النبي محمداً والتي يأتي مصداقها كفلق الصبح .
وفيه زيادة لإيمان المسلمين ، وفي التنزيل [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، وهو دعوة للكفار للتوبة والإنابة ، والكف عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحض للمنافقين للتوبة والتخلص من النفاق.
كلمة التوحيد في السنة النبوية
إنما كلمة واحدة من أجلها خلق الله عز وجل أجيال الناس المتعاقبة ، وأعد [جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، الذين ينطقون بها ، ويعملون بما يترشح عنها من أحكام.
إنها كلمة [لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] التي جاهد الأنبياء من أجل استدامتها في الأرض ، وفي إبراهيم عليه السلام قال تعالى [وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ]( ).
و(عن ابن عباس [وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ]( ) قال : لا إله إلا الله في عقبه ، قال : عقب إبراهيم ولده)( )، والولد هنا الذكور والإناث.
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرض ومن فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن)( ).
وهذا الحديث من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان فضل كلمة التوحيد ، ومصداق من مصاديق فضل الله عز وجل بتولي الإنسان الخلافة في الأرض بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهاده وأمته في أمور :
الأول : الدعوة الى كلمة التوحيد .
الثاني : الصبر على الأذى في سبيل كلمة التوحيد.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينادي قبل الهجرة (لا إله إلا الله) في البيت الحرام ، وفي أسواق مكة ، ويذكر قانوناً أن في هذا القول الفلاح في الدنيا والآخرة .
(قال طارق بن عبدالله المحاربي : إني بسوق ذي المجاز إذ أنا بإنسان يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه.
فقلت : من هذا ، فقالوا : محمد زعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب)( ).
وأبى الله إلا أن ينصر رسوله في كل موضع وواقعة ، فالكذاب هو الذي ينكر قانون الملازمة بين التوحيد والفلاح .
الثالث : دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسيوف عن كلمة التوحيد ، فما كان غزو المشركين للمسلمين والمدينة في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، إلا لأنهم قالوا كلمة التوحيد ، وعملوا بأحكامها وسعوا لهداية الناس للنطق بها.
الرابع : تثبيت كلمة التوحيد في الأرض ، وهل الأذان خمس مرات في اليوم بكلمة الله أكبر ، وكلمة اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، من هذا التثبيت ،
الجواب نعم ، وهو آية ومائز خص الله عز وجل به النبي محمداً وأمته من بين الأمم.
قانون مصاحبة كلمة التوحيد لعمارة الأرض
لا يختص المسلمون بكلمة التوحيد بل هي السور الجامع للأديان والمذاهب السماوية ، قال تعالى [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]( ).
فكل نبي جاء بها وتحمل الأذى بالدعوة إلى التوحيد هو وأصحابه ، قال تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
و(عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال موسى : يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به . قال : قل يا موسى لا إله إلا الله .
قال : يا رب كل عبادك يقول هذا ..
قال : قل لا إله إلا الله . قال : لا إله إلا أنت يا رب ، إنما أريد شيئاً تخصني به .
قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)( ).
وفيه بيان نبوي لماهية كلام موسى مع الله عز وجل وكيف أن الله يؤدب أنبياءه بكلمة التوحيد ، لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ أهل بيته وأصحابه وعامة الناس وأجيال المسلمين من بعده بوجوب التعاهد اليومي لكلمة التوحيد وأنها مع سهولتها على اللسان ففيها النجاة في النشأتين .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤدب أصحابه ، ويبين لهم موضوعية كلمة التوحيد ، وكيف أن (قول لا إله إلا الله) فيصل بين الإيمان والكفر .
و(عن أبي ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحرقة من جهينة قال : فصبحناهم وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم، قال: فغشيته أنا ورجل من الانصار، فلما تغشيناه قال: لا إله إلا الله.
فكف عنه الانصاري وقتلته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله .
قال : فقلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا من القتل.
قال: فكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ)( ).
وذكرت هذه الواقعة في سرية غالب بن عبد الله الليثي في شهر رمضان سنة سبع للهجرة النبوية الى الميفعة بناحية نجد وفيها بنو عوال وبنو عبد بن ثعلبة في مائة وثلاثين من الصحابة ودليلهم يسار مولى رسول الله .
(وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا شققت قلبه فتعلم صادق هو أم كاذب؟
فقال أسامة: لا أقاتل أحدا يشهد أن لا إله إلا الله)( ).
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من مصاديق قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
وكان أسامة بن زيد الحب ابن الحب ، أي حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان أسود شديد السواد لأن أمه أم أيمن سوداء البشرة ، وكان زيد أبوه أبيض من القطن ( ).
وقيل كان زيد أزهر اللون وكان اسامة شديد الأدمة ، وهذا الوصف هو الأنسب والأقرب للواقع .
(ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كان يحسن أسامة هو صغير ويمسح مخاطه وينقي أنفه ويقول : لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج ، وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر احتبس النبي صلى الله عليه وآله و سلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه ؟
فقالوا : ما احتبس إلا لأجل هذا تحقيرا له فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم)( ).
وكون هذا الإقتباس سبباً للإرتداد أمر بعيد لأنه من الوحي ، وهو حادثة عرضية.
وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غالب بن عبد الله الكلبي الى بني الملوح بالكديد حتى إذا كانوا بالقديد لقيهم (الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال: إني إنما جئت لاسلم، فقال له غالب بن عبدالله: إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك)( ).
وتتصف كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) بأنها خفيفة على اللسان يسهل حفظها ونطقها والتدبر في معانيها ، فمع أن عدد حروفها رسماً اثنا عشر حرفاً ، فهي تتألف من ثلاثة حروف فقط هي (الألف ، اللام ، الهاء) وهي خالية من النقاط ، ليسهل على الإنسان نطقها ، حتى في ساعة الوفاة .
وإذا حذفت حرفاً أو حرفين من اسم الجلالة تبقى تدل على الله عز وجل بلفظ (لله) أو (إله).
لقد ذم الله عز وجل قوماً يعزفون عن سماع كلمة التوحيد ، قال تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل)( ).
في التوحيد
من خصائص الأنبياء إعلاء كلمة التوحيد وجذب الناس الى مقامات الإيمان ، والتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة .
ولقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة حيث البيت الحرام ، ولكن الكفار لم يراعوا قدسيته فنصبوا ثلاثمائة وستين صنماً في المسجد الحرام .
وفي شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عشرة آلاف من أصحابه مكة فاتحاً لها بسلم وأمن وليس بصلح أو عنوة .
ويدل استشهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح وعند كسر الأصنام [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( )، على إقامة أحكام الشريعة في مكة والجزيرة ، وانتفاء مفاهيم الشرك وضروب الفساد والقتل العمدي ، والعصبية في الجزيرة.
لبيان أن اسقاط الأصنام رمز شروق شمس الهدى والإيمان وعنوان إنقطاع فترة الشرك ، وفي التنزيل [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
والمراد من التوحيد هو التسليم والإعتقاد بأن الله واحد لا شريك له ، وهو رب الخلائق كلها وهو الذي خلق الخلائق كلها ، وهي منقادة لمشيئته طوعاً وقهراً ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم والليلة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليكون التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل أول وظائفه ، لذا تفضل الله عز وجل وأنزل القرآن وهو كتاب التوحيد الباقي في الأرض وحفظه من الزيادة والنقصان لقانون ملازمة كلمة التوحيد للناس من أيام أبينا آدم والى أوان النفخ في الصور.
واجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيان وتثبيت مفاهيم التوحيد .
وهل ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهوال الآخرة من توكيد التوحيد ، الجواب نعم .
لبيان أن الدنيا مرزعة للآخرة وأن الناس يقفون بين يدي الله عز وجل للحساب يوم القيامة .
لتتجلى معاني التوحيد حينئذ للإنس والجن ، وفي التنزيل [لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
و(عن جابر قال : بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القصاص ، فأتيت بعيراً فشددت عليه رحلي ، ثم سرت إليه شهراً حتى قدمت مصر فأتيت عبدالله بن أنيس فقلت له حديث بلغني عنك في القصاص فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يحشر الله العباد حفاة عراة غرلاً . قلنا ما هما.
قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب . أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقصه منها حتى اللطمة .
قلنا كيف وان نأتي الله غرلاً بهما .
قال : بالحسنات والسيئآت ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ( ).
وفي قوله تعالى [فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، ورد (عن عبد الله بن الزبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول دبر الصلاة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . ولا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحض المسلمين والمسلمات على ختم يومهم بتلاوة آيات قرآنية تدل على التوحيد ، مع بيانه لمنافع هذه التلاوة وأجرها العظيم .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال: سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول: من قرء آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والابيات حوله.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قرء قل هو الله أحد حين يأخذ مضجعه غفر الله له ذنوب خمسين سنة)( ).
ومن مصاديق الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديثه عن الأنبياء السابقين سواء على نحو العموم المجموعي أو العموم الإستغراقي وذكر بعض الأنبياء .
وهل هذه الأحاديث من مصاديق تفسير النبي محمد للآيات التي تخص الأنبياء.
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، اللهم اجعل في سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي قلبي نوراً.
اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري .
وأعوذ بك من وسواس الصدور ، وتشتت الأمور ، وعذاب القبر .
اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، شر بوائق الدهر)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحذر أصحابه من التفكير في الله للعجز عنه ، ويدعوهم إلى التفكر في عظمة مخلوقات الله للإستقراء والإستدلال على وجوب عبادتهم لله عز وجل .
و(عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنكم لن تقدرونه .
وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا)( ).
وفي قوله تعالى [وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى]( )، ورد عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا فكرة في الرب)( ).
معجزة غيرية للنبي محمد (ص)
لقد وقعت معركة أحد يوم السبت النصف من شهر شوال ، ومع كثرة خسائر المسلمين إذ فقدوا سبعين شهيداً ، فقد انسحب من مشارف المدينة المنورة جيش المشركين الذي يتألف من ثلاثة آلاف رجل في ذات يوم المعركة ، وهذا الإنسحاب معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي الطريق ندم رؤساء جيش المشركين على هذا الإنسحاب وتناجوا بينهم بالباطل في الروحاء التي تبعد عن المدينة نحو 162كم (وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ ، والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل)( ).
ويعني قوله (نستأصلهم) إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإبادة الجماعية للصحابة ، وسمعهم معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو مشرك ، ولكن خزاعة سلم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولبني هاشم.
فأنذرهم بأن محمداً وجميع أصحابه ومنهم الذين تخلفوا عن معركة أحد يتحرقون عليكم (وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم، وغضبوا لقومهم غضباً شديداً ولمن أصبتم من أشرافهم، قالوا : ويلك ، ما تقول ، قال: والله ما نرى أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل)( ).
والمختار أن العلة في إنسحاب المشركين ، وإمتناعهم عن الرجوع إلى غزو المدينة هو قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ، هذه الآية التي نزلت بخصوص معركة أحد وان كان موضوعها أعم من أسباب النزول .
فلا يستطيع المشركون الصبر في ميدان معركة أحد ، ولا الرجوع له لقانون التضاد بين امتلاء قلوب المشركين بالرعب وبين الثبات في الميدان .
ولتكون الصلة بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( )، نوع لوم للصحابة الذين فروا من ميدان المعركة بأن الله عز وجل قد كفل لهم ملأ قلوب المشركين بالرعب ، وأنهم لن يستطيعوا الثبات في المعركة ، وهم يعجزون عن تحقيق النصر في الميدان.
لقانون استيلاء الرعب على قلوب وجوانح المشركين برزخ دون تحقيقهم النصر في الميدان.
كذلك في الآية ذم وتقبيح وخيبة للمنافقين الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
وفي الآية ثناء على صحابة رسول الله الذين خرجوا معه إلى ميدان معركة أحد ، والذين خرجوا معه إلى معركة أحد وإلى حمراء الأسد في اليوم التالي للمعركة ، وفي الثناء عليهم قال تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
لبيان أن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية تفسير لآيات الدفاع ، وبيان لصدق نزولها من عند الله لتجلي منافعها العامة والخاصة ، وصرف كيد المشركين من غير وقوع قتال في حمراء الأسد .
إلى حمراء الأسد
لم يأذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمن لم يشترك في معركة أحد من الصحابة بالخروج معهم إلى حمراء الأسد ، ولكنه اذن لجابر على نحو الخصوص إذ (قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِي كَانَ خَلّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ وَقَالَ يَا بُنَيّ إنّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَك أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنّ وَلَسْت بِاَلّذِي أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى نَفْسِي ، فَتَخَلّفْ عَلَى أَخَوَاتِك ، فَتَخَلّفْتُ عَلَيْهِنّ .
فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَخَرَجَ مَعَهُ)( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جابراً لم يصب بأذى في هذا الخروج ، لأن علة منع أبيه له العناية بأخواته لا زالت باقية.
وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد ، بقوا فيها ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة ليوثق القرآن هذه الواقعة ، وما يترشح عنها من الثواب العظيم مع أنه لم يقع فيها قتال .
وسئل (جابر بن عبد الله كم غزا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال : سبعا وعشرين غزوة غزا بنفسه وغزوت معه منها ست عشرة غزوة لم أقدر أن أغزو حتى قتل أبي رحمة الله بأحد وكان يخلفني على أخواتي وكن تسعا فكانت أول غزوة غزوتها معه حمراء الأسد إلى آخر مغازيه)( ).
والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحدا ، ولعل هذه التسمية من رواة الحديث أو أن المراد من الغزوة أعم من قصد العدو وقتاله وأن معناها العام هو خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معه أصحابه في سرايا حول المدينة ، والإحتراز العام ، ولبعث الخوف في قلوب المشركين وتفريق جمعهم ، ولنشر مبادئ التوحيد ، وأحكام الصلاة ، ورؤية الناس معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
حضر جابر صلح الحديبية ، وكان أحد رواة حديثه وتفاصيله ، وعنه قال (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية : أنتم اليوم خير أهل الأرض ، وكنا ألفًا وأربعمائة. قال جابر: لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة)( ).
وإذا اطلق اسم جابر بن عبد الله في الروايات فهو المقصود .
توفى بالمدينة سنة ثلاث وسبعين ، وهو ابن أربع وتسعين سنة ، وفقد بصره آخر عمره.
أهل القرآن
عن الإمام الصادق عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين و المرسلين فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم فإن لهم من الله العزيز الجبار لمكانا عليا)( ).
ويدل الحديث على تسمية خاصة وهي أهل القرآن ، وهو سور الموجبة الكلية ، وعنوان جامع ويشمل مصاديق وأفراداً متعددة منها:
الأول : الذين يتلون القرآن ليشمل الحديث المسلمين والمسلمات لقراءتهم القرآن على نحو الوجوب العيني خمس مرات في الصلاة اليومية ، والصلاة لا تترك بحال.
الثاني : الذين يحفظون القرآن في عن ظهر الغيب .
وعن قتادة في كلام موسى عليه السلام مع الله عز وجل (قال : رب أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي . قال : تلك أمة محمد)( ).
الثالث : الذين يتدارسون القرآن ، وعلومه مثل أسباب النزول ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيد ، والعام والخاص .
الرابع : الذين يتخذون القرآن إماماً ومنهاجاً ، ولا يصدرون إلا عنه.
الخامس : الذين يأمرون بما جاء بالقرآن من الأوامر والمستحبات ، وينهون عن المعاصي والفواحش التي أنذر منها القرآن ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ]( ).
السادس : المؤمنون والمؤمنات الذين يعملون الصالحات ، ويكثرون من الحسنات للآخرة .
السابع : الذين يتقيدون بأحكام الكتاب والسنة ، ويقتدون بسيرة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
إن وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل القرآن إكرام لكل من يتلو القرآن ويعمل بمضامينه ، ثم انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيان منزلتهم أنها بأعلى مرتبة يوم القيامة بعد مرتبة الأنبياء والمرسلين .
والمختار أن المراد من أهل القرآن هم كل المسلمين والمسلمات لإقامتهم الصلاة ، وتلاوتهم القرآن .
ويدل عليه نصوص منها خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المرسل (عن عبيدة المليكي وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أهل القرآن لا توسدوا القرآن واتلوه حق تلاوته ولا تعجلون ثوابه فإن له ثوابا)( ).
ومعنى لا توسدوا القرآن ، أي لا تناموا عنه ، ولكن يجب المداومة على قراءته وحفظه ، ويدل على معنى (لاتوسدوا) ما ورد (عن السائب بن يزيد قال: ذكر شريح الحضرمي عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ذاك رجل لا يتوسد القرآن)( ).
نعم المسلمون على مراتب في مصاديق أهل القرآن من جهة الإكثار من تلاوته وتعاهده والتفقه في أحكامه ، ورد متشابهه إلى محكمه ، وحسن تأويله ونصرته.
وهل نصرة القرآن من مصاديق [إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ]( )، الجواب نعم.
و(عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لله أهْلِين من الناس ، قيل : من هم يا رسول الله ، قال : أهْل القرآن هم أهل الله وخاصته)( ).
ترى ما هي النسبة بين أهل القرآن ، وبين حملة القرآن ، هذا الوصف الوارد عن الصادق عليه السلام أنه قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ، والمجتهدون قواد أهل الجنة ، والرسل سادة أهل الجنة)( ).
الجواب النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فأهل القرآن أعم.
صاحب القرآن
عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال : يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرأها)( ).
ولفظ (صاحب القرآن) أعم من القراءة ، يتجلى يوم القيامة بالقراءة وأجرها العظيم ، وأجر العمل بمضامين وأحكام القرآن.
فمن معاني صاحب القرآن تلاوة آيات القرآن وحفظها عن ظهر قلب ، والعمل بها ، وتعاهد رسمها وقراءتها في الصلاة وخارجها ، ودعوة الناس إلى العمل بمضامين القرآن ، والصدور عنه .
وهل يشترط بصاحب القرآن حفظ القرآن لتضمن الحديث (إقرأ وارق، ورتل) الجواب لا لصدق القراءة في المصحف ، وبدليل ما ورد بعدها (كما كنت ترتل في الدنيا) أي سواء كنت ترتل بالنظر في المصحف أو عن ظهر قلب .
وقد وردت أحاديث نبوية عديدة تتضمن صفة صاحب القرآن ، وكلها ثناء على أهل القرآن ، وترغيب في قراءته وحفظه والعمل بمضامينه .
و(عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت ، هكذا رواه مسلم والنسائي من حديث مالك به.
وعن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه فقرأه بالليل والنهار، كمثل رجل له إبل ، فإن عقلها حفظها، وإن أطلق عقالها ذهبت، فكذلك صاحب القرآن)( ).
لبيان وجوب تعاهد ما أحرزه المسلم من آيات وسور القرآن حفظاً وتلاوة ، وكتابة ونحوها ، لأن هجرانها سبب لنسيانها .
ليتضمن الحديثان أعلاه التحذير من هذا النسيان من جهات :
الأولى : التحذير من ذات النسيان .
الثانية : الغفلة عن العمل بمضامين الآية القرآنية ، قال تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ]( ).
الثالثة : فوات الثواب لانعدام استحضار الآية القرآنية في الوجود الذهني ، ففي هذا الإستحضار ثواب إذ أن الله عز وجل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين ويسر لهم تعاهد القرآن بتلاوة آياته في الصلاة اليومية تلاوة واجبة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة.
وتتجلى في آيات القرآن لآلئ ودرر الحمد والثناء على الله ووجوب الإيمان بالله وملائكته ورسله والكتب التي أنزلها عليهم .
حامل القرآن
لقد أكرم الله عز وجل الناس جميعاً بحمل كلامه على ألسنتهم ، ومن لم يتلوه يسمعه وإن لم يكن مسلماً ، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
والمراد من كلام الله في الآية أعلاه هو آيات وسور القرآن ، وقد عصمها الله عز وجل من التحريف والزيادة والنقصان إلى يوم القيامة ، كما حصن الله عز وجل كلامه من التأويل الباطل والخاطئ وإن وجد هذا التأويل فسرعان ما يفتضح لدى الناس على مختلف مشاربهم ومراتب عقولهم ، وهو من مصاديق إتصاف القرآن بالمعجزة العقلية .
ولم يقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الحديث عن فضل القرآن وتعلمه بل كان يرغب أصحابه بحفظه ، ويجعل شأناً خاصاً لمن يحفظ القرآن.
وورد (عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثا وهم ذوو عدد، فاستقرأهم فاستقرأ كُلّ واحد منهم، يعني ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنًا .
فقال : ما معك يا فلان ، قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة .
فقال : أمعك سورة البقرة ، قال : نعم.
قال : اذهب فأنت أميرهم .
فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعلموا القرآن واقرؤوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام به كمثل جراب محشو مسْكًا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه ، فيرقد وهو في جوفه ، كمثل جراب أوكِي على مسك)( ).
أي أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرية عددها أفراد كثيرون فاختبرهم بالقرآن وحفظه ، لبعثهم على حفظ القرآن فالذي يحفظ أكثر سور من القرآن يكون أميراً عليهم ، مع تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حفظ سورة البقرة وهي أكبر سورة في القرآن وعدد آياتها (286) آية.
والذي نصبه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أميراً عليهم أصغرهم سناً واعتذر أحد أشرافهم بأنه أعرض عن حفظ سورة البقرة لا لصعوبة حفظها ، ولكنه يخشى من عجزه عن التقيد بما فيها من الأوامر والنواهي فلم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلامه يذهب سدىً ويفهم من سكوته تقرير كلامه ، إنما رد عليه بقانون (تعلموا القرآن واقرؤوه).
وبيّن فضل تعلم القرآن مطلقاً سواء للذات أو لتعظيم شعائر الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأيهما أكثر وأعظم النفع من حمل القرآن في الدنيا أم في الآخرة ، الجواب هو الثاني .
و(عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة)( ).
ويدل هذ الحديث بالدلالة التضمنية على إحراز حملة القرآن اللبث الدائم في الجنة ، وأنهم فيها أسياد وعرفاء.
وروت الحديث سكينة بنت الإمام الحسين عليه السلام (عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حملة القرآن عُرَفاء أهل الجنة يوم القيامة)( ).
و(عن ابن عباس : عرفاء أهل الجنة أي رؤساء أهل الجنة)( ).
فضل تعلم القرآن
من نعم الله عز وجل على الناس نزول الكتب السماوية ، فلم يجعل الله عز وجل الأنبياء وحدهم يدعون إلى الله عز وجل مع قصر أعمارهم ، وضيق دائرة صلاتهم ، وسماع تبليغهم .
فتفضل الله عز وجل بانزال الكتب السماوية من أيام آدم ليتعاضد الكتاب السابق واللاحق مع نبي الزمان ، ومع تقادم الأحقاب دبّ بعض التحريف إلى الكتب السماوية ، فانعم الله عز وجل على الناس بالقرآن نزل نجوماً بدأ في مكة بالسور القصار حيث قلة كتاب الوحي ، وشدة أذى المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه.
فكانت السورة يطير بها وفد الحاج والمعتمرين إلى المدن والقرى والبدو ليتدبروا في معانيها وما فيها من سنن التوحيد كسورة الإخلاص والإنذار والوعيد ، وذكر أحوال الآخرة ، وشدة عذاب النار منها سورة الهزة [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ]( ).
و(عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل)( ).
وأبو عبد الرحمن السلمي عبد الله ابن الصحابي حبيب بن ربيعة السلمي من التابعين ، ولد أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(واسم أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب تابعي ثقة يروي عن علي (عليه السلام) وعثمان وحذيفة بن اليمان وهو أحد الأئمة في القراءة)( ).
(قال أبو عمر أما عبد الرحمن السلمي فالصحيح عنه أنه كان مع علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه وأما مسروق فذكر عنه إبراهيم النخعي أنه ما مات حتى تاب إلى الله تعالى من تخلفه عن علي كرم الله وجهه وصح عن عبد الله بن عمر من وجوه أنه قال ما آسى على شيء كما آسى أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي)( ).
وعن مكحول جاء أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال: يا رسول الله إِنِّى أَخاف أَن أَتعلَّم القرآن ولا أَعمل به. فقال صلَّى الله عليه وآله وسلم : لا يعذِّب الله قلباً أَسكنه القرآن)( ).
لبيان انتفاء الخوف من التخلف عن العمل بآيات القرآن ، وفي الحديث إشارة إلى قول الله تعالى [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، فلابد أن ينعكس تعلم القرآن على أفعال الجوارح والأركان , ويفيض عليها بسنخية الصلاح .
ومع الأذى الشديد من كفار قريش كان الصحابة يكتبون ما نزل من القرآن إلى جانب حفظهم له في صدورهم ، وكانوا احياناً يخرجون إلى بطحاء مكة لضبط تلاوة آيات القرآن ، وتدارسها ، وأداء الصلاة ، ويلحقهم رجالات قريش ويؤذونهم .
ويدل على كتابة الصحابة لآيات وسور القرآن وتدارسهم لها مكتوبة موثقة في مكة قبل الهجرة .
ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب إسلامه عن (أسامة بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جده قال : قال لنا عمر بن الخطاب : أتحبون أن أعلمكم كيف كان إسلامي ، قلنا : نعم ، قال : كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبينا أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طريق مكة ، إذ لقيني رجل من قريش.
فقال : أين تريد يا ابن الخطاب ؟
فقلت : أريد التي والتي والتي قال : عجبا لك يا ابن الخطاب ، أنت تزعم أنك كذلك ، وقد دخل عليك الأمر في بيتك .
قلت : وما ذاك ، قال : أختك قد أسلمت.
قال : فرجعت مغضبا حتى قرعت الباب ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرجل الذي في يده السعة فينالاه من فضل طعامه ، وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين.
فلما قرعت الباب قيل : من هذا ؟ قلت : عمر بن الخطاب ، فتبادروا فاختفوا مني ، وقد كانوا يقرءون صحيفة بين أيديهم تركوها أو نسوها . فقامت أختي تفتح الباب ، فقلت : يا عدوة نفسها أصبوت وضربتها بشيء في يدي على رأسها ، فسال الدم ، فلما رأت الدم بكت.
فقالت : يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا ، فافعل ، فقد صبوت . قال : ودخلت حتى جلست على السرير فنظرت إلى الصحيفة وسط البيت.
فقلت : ما هذا ؟ ناولينيها.
فقالت : لست من أهلها أنت لا تطهر من الجنابة ، وهذا كتاب [لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ]( ).
فما زلت بها حتى ناولتنيها ، ففتحتها فإذا فيها : بسم الله الرحمن الرحيم فلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت منه ، فألقيت الصحيفة.
ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها ، فإذا فيها [سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] ( ) فلما مررت باسم من أسماء الله ذعرت .
ثم رجعت إلى نفسي ، فقرأتها حتى بلغت [آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ] ( ) إلى آخر الآية ، فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فخرجوا إلي متبادرين وكبروا)( ).
تدارس القرآن
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلو القرآن في المسجد الحرام علانية ، وكذا بينه وبين الأشخاص الذين يأتون لأداء العمرة والحج ، وهذه التلاوة جزء من مفاتحته لهم بالإسلام.
وورد عن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه قال : ما جلس قوم يذكرون الله سبحانه إلاّ حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم فيمن عنده)( ).
لبيان فضل الجمع بين تلاوة وتدارس القرآن ، وحب الله عز وجل للذين يعتنون بالقرآن ، ويسلمون بأنه كلام الله.
ويدل الحديث على أن تلاوة وتدارس القرآن وسيلة مباركة لنزول السكينة على الذين يتدارسونه وهي نوع تآخي ايماني بينهم ، وأن الملائكة تحضر عندهم ، وتتفاخر بهم ، وهذا الحضور والتفاخر من مصاديق رد الله عز وجل عليهم حينما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ولا يختص تدارس القرآن بتلاوته ، إنما يشمل التبيان والتفسير واستحضار أسباب النزول مع الإدراك العام بأن موضوع الآية أعم من أسباب نزولها .
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتدارس مع أصحابه القرآن ، الجواب نعم .
فهو الإمام في هذا التدارس والتعليم والإرشاد ، فمن الآيات أن جبرئيل يتدارس مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن كل سنة ، ويقوم النبي بتدارسه مع أهل البيت والصحابة.
والتدارس على وزن (تفاعل) وهو الإشتراك بين اثنين أو أكثر في التحصيل والكسب العلمي ، وتقييد التدارس بالقرآن يشمل تلاوة آياته ، وضبطها وتفسيرها ، واستقراء واستنباط العلوم منها ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ]( ).
ويقال درس الكتاب : إذ قرأه بتمهل بقصد الفهم والتدبر أو الحفظ.
وعن أبي سعيد الخدري أنه شهد (على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده)( ).
ثواب التلاوة بصعوبة
لقد حضّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والمسلمات على قراءة القرآن حتى مع الصعوبة والمشقة في اتقان قراءته .
و(عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)( ).
والأجران أحدهما للقيام بالتلاوة ، والآخر للمشقة فيها ، والذي يتقن قراءة القرآن وحركاتها ومخارج الحروف والمحسنات اللفظية له مرتبة أسمى ، ودرجة أعلى .
والتعتعة هنا ليست بالمعنى اللغوي وحده ، بل لها معنى اصطلاحي وهو صعوبة القراءة ، وهو الضعف في العربية ، لبيان قانون قلة اتقان العربية ليس برزخاً دون تلاوة القرآن للعربي وغير العربي ، وفيه الأجر والثواب.
ويدل على المعنى الإصطلاحي في المقام ما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (إن الذي يعالج القرآن ليحفظه بمشقة منه ، وقلة حفظ له أجران)( ).
نعمة تعليم القرآن
قال تعالى [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ]( ).
لبيان أن تعليم القرآن نعمة من عند الله ، حاضرة في الأرض من أيام تنزيله لبيان حاجة الناس إليها.
والمراد من التعليم في الآية أعلاه تلاوة آيات القرآن على الآخرين ، والسعي في تحفيظها ، وهل يجوز لمن لم يحفظ القرآن أن يقوم بتحفيظه لغيره ، كمعلم الصبيان.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق تعليم القرآن ، ومنها التفقه في علوم القرآن وأحكام الحلال والحرام.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته)( ).
وتعليم القرآن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة ، ومنها :
الأول : التفسير الذاتي وهو تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
الثاني : المحكم والمتشابه .
الثالث : أحكام الحلال والحرام.
الرابع : أحكام وقواعد التلاوة .
الخامس : علم الناسخ والمنسوخ .
السادس : تعليم تلاوة آيات القرآن بالعربية .
السابع : حفظ القرآن عن ظهر قلب .
الثامن : تدوين وكتابة القرآن وآياته في المتيسر من الجلد والورق، والجانب الغليظ من سعف النخيل وغيرها .
وهل حفظ القرآن بالهاتف والحاسوب من هذا التدوين وسبل الحفظ ، الجواب نعم .
وسئل الثوري عن الجهاد وإقراء القرآن فرجح إقراء وتعليم القرآن ، واستدل بقول النبي (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)( ).
لأن خيركم اسم تفضيل .
ولا يأتي تعليم المسلم علوم القرآن للآخرين إلا بعد أن يكون تعلمه ، وهل من ملازمة بين التعلم والتعليم ، وأن الذي يتعلم القرآن يجب عليه أن يعلمه ، المختار نعم ، إلا مع الحرج وشدة الأذى بهذا التعليم.
مسائل في تعلم آية من القرآن
(عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّىَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّىَ أَلْفَ رَكْعَةٍ)( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : تأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ، وإرشادهم إلى سبل النجاة في الدنيا والآخرة ، والتي تتقوم بالقرآن تعلماً وعملاً .
الثانية : بيان الشأن العظيم لأي آية من القرآن وإن كانت من كلمة واحدة مثل [مُدْهَامَّتَانِ]( ).
الثالثة : النسبة بين تعلم الآية وحفظها عموم وخصوص مطلق ، فالتعلم أعم ، نعم قد يتعلم المسلم الآية من غير أن يحفظها وفي كل من التعلم والحفظ الأجر والثواب .
الرابعة : بيان علو مرتبة العلم على التعبد ، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا]( )، وتلحق الأمة بالنبي محمد بهذا الخطاب ، فهو ليس من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لذا ورد عنه أنه قال (العلماء ورثة الأنبياء) ( )، (وقال صلى الله عليه وآله : الفقهاء أمناء الرسول)( ).
الخامسة : الإخبار النبوي ومن الوحي بعلو مرتبة العالم بما يفيد البعث على طلب العلم ، والإجتهاد فيه .
و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فضل العالم على الشهيد درجة.
وفضل الشهيد على العابد درجة .
وفضل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على العالم درجة .
وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه .
وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم)( ).
ومن فضل الله بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمرتبة طالب العلم وإن لم يرق إلى مرتبة العالم والفقيه .
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من جاءته منّيته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة) ( ).
السادسة : كما يتضمن الحديث إكرام العلماء فانه يتضمن إكرام العبّاد وفضل إقامة الصلاة الفريضة والمندوبة .
السابعة : وفي نقل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثواب سواء عمل به أو لم يعمل به أي أنه من باب العبادات البدنية والمالية كالصلاة والزكاة ، أو من باب ما لا يعمل به كالإعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد ، وليس معناه ترك العمل به.
نعم تعليم القرآن وخزائن علومه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فيصح مسمى التعليم ، ولو تعليم الأب لأبنائه القرآن تلاوة وحفظاً وتفسيراً .
ولا يختص الحديث النبوي بتعليم القرآن بل يشمل تعليم أحكام عقيدة التوحيد والفقه ، إذ (قال رسول الله : من علم آية من كتاب الله أو كلمة في دين الله حثا الله له من الثواب حثوا وليس شيء أفضل من شيء يليه بنفسه)( ).
لترغيب المسلم بتولي العمل والتعليم بنفسه وعدم إيكاله إلى غيره ، والهمّة والعزم على تعلم وتعليم القرآن لا يمنع من الدعاء للبعث والتوفيق إليهما مجتمعين ومتفرقين .
لذا ورد في مرسلة الأوزاعي (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اللهم إني أسألك التوفيق لمحَابِّك من( ) الأعمال وحسن الظن بك وصحة التوكل عليك)( ).
تعلم الفرائض
الفرائض : جمع فريضة ، وهي مشتقة من الفرض الذي يأتي بمعنى القطع والتقدير ، وهي في الإصطلاح معرفة الوارث من غيره وسهام كل وارث ، قال تعالى في خاتمة آية المواريث [فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
ويرد لفظ الفرائض ويراد منه العمل الواجب وأداء العبادات كالصلاة والصوم والزكاة.
ويقسم الفرض إلى قسمين :
الأول : فرض عيني يجب على كل مسلم ومسلمة .
الثاني : فرض كفاية إن أداه أحدهم سقط عن الآخرين .
والمقصود في العنوان أعلاه من الفرائض هو علم المواريث .
وعن عبد الله بن (مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض ، وإن العلم سيقبض ، وتظهر الفتن حتى يختلف الإثنان في الفرائض ، لا يجدان من يقضي بها)( ).
والمراد من الفرائض أحكام الميراث وقسمة التركات ، وهل المراد من لفظ (اثنان) في الحديث أعلاه وقوع الخلاف في تركة تنحصر بهما ، الجواب لا .
فقد يكون الورثة متعددين ، وفي حديث آخر عن ابن مسعود يرفعه جمع بين تعلم وتعليم القرآن ، وبين تعلم وتعليم الفرائض ، والعلم مطلقاً إذ ورد عنه (قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعلموا القرآن وعلموه الناس.
وتعلموا الفرائض وعلموها الناس.
وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما)( ).
ولو دار الأمر بين أمرين :
الأول : جمع عبد الله بن مسعود حديثين أو ثلاثة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث واحد .
الثاني : وحدة الحديث وفي مجلس واحد .
فالصحيح هو الثاني لأصالة الظاهر .
الجمع بين تعلم القرآن والمواريث
والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فتعلم المواريث فرع تعلم القرآن ، وهو من مصاديق [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
لقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين تعلم القرآن ، وتعلم المواريث ، ومن معانيه أخذ الأحكام من القرآن ، ومنع العزوف عنه وفيه مسائل :
الأولى : نزول المواريث في القرآن بآيات مخصوصة ، منها قوله تعالى [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الثانية : من معاني تعلم القرآن معرفة الأحكام الواردة فيه ، ومنها أحكام العبادات والمعاملات .
و(قال عبد الله بن مسعود : من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية)( ).
الثالثة : من المقاصد السامية في تعلم الفرائض والمواريث درء الفتن ، والإمتناع عن الظلم والغصب ، قال تعالى [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا]( )، لبيان الإعتداء في المواريث ، والإستحواذ على نصيب النساء والصبيان ، بل كانوا لا يورثونهم.
و[أَكْلًا لَمًّا] أي أكلاً شديداً.
وليس من حصر لأجر وثواب تعليم القرآن بلحاظ تكرار الثواب مع قيام المتعلم بتلاوة الآية .
(وعن أنس عن النبى صلَّى الله عليه وآله وسلم أَنَّه قال : مَن علَّم آية من كتاب الله كان له أَجرها ما تليت)( ).
لأن الذي قام بالتعليم هو السبب في هذا التعلم وتكرار التلاوة ، وفي التنزيل [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ]( ).
ومن معاني الآية أعلاه وجهان :
الأول : (ما قدموا) من القول والعمل الذي قاموا به بأنفسهم مثل أداء الصلاة والصيام والزكاة والحج وعمل الصالحات .
الثاني : آثارهم وهي ما اقتبسه وتعلمه الناس منهم سواء في حياتهم أو بعد مماتهم ، ومنه الإنتفاع العام من العلوم التي ينشرها.
وليكون الأمر بالمعروف جامعاً للوجهين أعلاه ، إذ يكتب الله عز وجل الأمر بالفعل الحسن وأثره بين الناس ، والنهي عن المنكر والفعل القبيح وما يترتب عليه من إنزجار المتلقي عنه.
و(عن جرير بن عبدالله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيء ، ثم تلا هذه الآية وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ( ).
فذات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما قدموا لأنفسهم ، أما الأثر المترتب على كل منهما فهو من الآثار .
و(عن جابر بن عبدالله قال : إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ، ويتحولوا قريباً من المسجد ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم)( ).
وهذا التقسيم لا يمنع من المعنى الأعم للسعي وأثر القدم في طاعة الله .
وعن عبد الله بن (مسعود في قوله [قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ) قال : القدم هو العمل الذي قدموا . قال الله [وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ]( ) والآثار ممشاهم قال : مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين اسطوانتين من مسجدهم ، ثم قال : هذا أثر مكتوب)( ).
تقدير حديث (تعلموا القرآن)
من معاني (تعلموا القرآن) وجوه :
الأول : تعلموا تلاوة آيات القرآن .
الثاني : تعلموا نطق آيات القرآن على نحو صحيح ، وضبط مخارج الحروف والمفردة القرآنية .
الثالث : معرفة مضامين آيات التوحيد ، وهل آية الكرسي من آيات التوحيد ، الجواب نعم .
الرابع : تعلموا أسباب النزول .
الخامس : تعلموا الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبين.
السادس : تعلموا أحكام العبادات في القرآن ، ومنه قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
السابع : تعلموا المعاملات كالنكاح والطلاق ، وعموم الأحكام المدنية ، والشخصية ، والمعاملات المالية ، والعقود .
الثامن : تعلموا تفسير وتأويل آيات القرآن .
التاسع : تعلموا حفظ آيات القرآن عن ظهر قلب .
العاشر : تعلموا تلاوة القرآن في الصلاة .
الحادي عشر : تعلموا الإحتجاج بآيات القرآن .
الثاني عشر : تعلموا آداب القرآن ، والتحلي بالصبر ، وإجتناب الغضب ، قال تعالى [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الثالث عشر : تعلموا الحدود والإنزجار عن السيئات ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
الرابع عشر : تعلموا الصدور عن القرآن ، والرجوع إليه عند الإقدام على الفعل ، وعند الإختلاف .
الخامس عشر : تعلموا أخلاق القرآن ، والحصانة من الشيطان وإغوائه ، قال تعالى [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بالصدق فأن الصدق يهدي إلى البر ، وأن البر يهدي إلى الجنة ، وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً.
وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)( ).
ولم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية قرآنية في الحديث أعلاه ، ولكن مضامينه فرع ومرآة من القرآن.
أجر تعليم الأبناء القرآن
يمكن تقسيم تعليم القرآن إلى قسمين :
الأول : عام لمن يطلبه ، ومن يرغب في تلقيه ، والذي يتم ترغيبه وجذبه إلى مقامات العلم .
الثاني : التعليم الخاص ، ومنه التعليم في المدارس ، وتعليم الأب لأبنائه.
وعن معاذ بن جبل يقول (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من رجل علم ولده القرآن، إلا توج أبواه يوم القيامة بتاج الملك)( ).
لبيان عموم ثواب تعليم القرآن ومجيئه إلى الوالدين يوم القيامة.
والحديث ضعيف سنداً .
و(عن جابر بن عبد الله قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، ما أجر من علم ولده كتاب الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القرآن كلام الله لا غاية له .
قال : فجاء جبريل عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ما أجر من علم ولده كتاب الله .
قال : يا محمد، القرآن كلام الله لا غاية له، ثم صعد جبريل إلى السماء، فسأل إسرافيل : ما أجر من علم ولده كتاب الله .
فقال إسرافيل : يا جبريل، القرآن كلام الله لا غاية له .
ثم إن الله تعالى أنزل جبريل على رسوله عليهما السلام، فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: من علم ولده القرآن فكأنه حج البيت عشرة آلاف حجة، وكأنما اعتمر عشرة آلاف عمرة .
وكأنما غزا عشرة آلاف غزوة، وكأنما أعتق عشرة آلاف رقبة من ولد إسماعيل.
وكأنما أطعم عشرة آلاف مسلما جائعا .
وكأنما كسا عشرة آلاف مسلما عاريا .
ويكتب له بكل حرف من القرآن عشر حسنات ويمحى عنه عشر سيئات، يا محمد إني لا أقول ألم عشرة ولكن ألف عشر ولا عشر وميم عشر.
ويكون معه في قبره حتى يبعث ويثقله في الميزان، وجاز على الصراط كالبرق الخاطف ولم يفارقه القرآن حتى تنزل به هذه الكرامة وأفضل ما يتمنى)( ).
والحديث ضعيف بعلي بن زيد بن جدعان إذ لا يحتج به .
لبيان أنه لا يعلم ثواب تعليم القرآن إلا الله عز وجل ، وقد أخبر بشطر منه به الملائكة والنبي محمداً وهو من مصاديق [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
مصاديق تعليم القرآن
يكون التعليم على وجوه :
الأول : تلاوة آيات وسور القرآن .
الثاني : حفظ آيات القرآن.
وهل يشترط في الثواب حفظ القرآن كله ، الجواب لا ، إنما يترشح الثواب عن أفراد السعي والإجتهاد في تعلم الأولاد ، قال تعالى [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا]( ).
الثالث : تفسير القرآن ، والتفقه في تأويله .
الرابع : معرفة علوم القرآن من المحكم والمتشابه ، وأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وتسمى علوم التنزيل ، وقد أوصلها السيوطي إلى ثمانين علماً ، منها (خمسة وعشرون وجها بخصوص معرفة المكي والمدني)( ).
ولا يتم تعليم القرآن إلا بعد تعلمه ، نعم قد يكون تعليم الأب لابنه القرآن بالواسطة ، كما لو أدخله في الكتاتيب والمدارس الخاصة أو العامة .
وهل يثاب آباء وأمهات الصبيان الذي أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسرى بدر بتعليمهم القراءة والكتابة ، الجواب نعم.
فتعليم الأبناء القرآن وعلومه يتم بالمباشرة والواسطة ، والإنفاق فيه يعوض لأنه إنفاق في سبيل الله.
وهناك مسألتان :
الأولى : أيهما أكثر أجراً وثواباً تعلم القرآن أم تعلمه .
الثانية : أيهما أكثر الأحاديث النبوية الواردة بخصوص تعلم القرآن ، أم النصوص التي تخص تعليم القرآن .
أما المسألة الأولى فان تعلم علوم القرآن وحفظه فعل معلوم ، ولكن تعليمه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة كثرة وقلة ، ومداومة وفتوراً.
فقد يكون التعلم هو الأكثر ثواباً ، وقد يكون التعليم مع كثرته والإجتهاد فيه هو الأكثر ثواباً.
أما المسألة الثانية فالمختار هو الأول لما فيه من النفع للذات والغير ، ولأنه أصل وأساس القيام بتعليم الآخرين.
تعليم النبي (ص) أصحابه القرآن
كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه ويقرئهم القرآن ليتقنوا القراءة ، ويعلموا الصحابة الآخرين والتابعين القراءة الصحيحة ، وما فيه السلامة من تحريف القرآن أو الزيادة والنقصان في كلماته .
و(كان ابن مسعود يقرىء رجلاً ، فقرأ [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]( )، مرسلة ، فقال ابن مسعود : ما هكذا أقرأنيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : وكيف أقرأكها ، قال : أقرأنيها إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]( ) فمدها)( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على اتقان أصحابه قراءة القرآن ومع أنه كان يجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية ويتلو القرآن على المنبر ، وعند الإحتجاج ونحوه فانه قد يسأل بعض أصحابه ليقرأوا عليه القرآن.
و(عن أبي بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أرسل إلي ربي أن أقرأ القرآن على حرف ، فرددت عليه يا رب هوّن على أمتي.
فرد علي الثانية أن أقرأ على حرفين ، قلت : يا رب هوّن على أمتي ، فرد على الثالثة أن أقرأ على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألة فسلنيها .
فقلت : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة إلى يوم يرغب إلي فيه الخلائق حتى إبراهيم)( ).
ثواب تعلم القرآن
من معاني تعلم القرآن :
الأول : تعلم التلاوة ، وضبط الكلمات والحروف وهو حاجة ، خاصة مع دخول الملايين من غير العرب الإسلام ووجوب قراءة سورة الفاتحة بالعربية في الصلاة اليومية .
الثاني : بيان معاني القرآن .
الثالث : تجليات إعجاز اللفظ القرآني .
الرابع : استقراء المقاصد السامية للآية القرآنية خاصة وأن أول الآية في شئ وأوسطها في شئ ، وآخرها في شئ آخر .
الخامس : التبصر في علوم القرآن .
ويشمل تدارس القرآن في المدارس ومراكز التحفيظ والجامعات والمؤسسات العلمية ذات الإختصاص وغيرها ضمن جدول دراسي وزماني ومنهج معلوم .
وهل تشترك هذه المعاني بثواب واحد كما تشترك باسم واحد وهو التدارس ، الجواب لا ، فكل فرد منها له ثواب خاص ، ولا يعلم ولا يحصي هذا الثواب إلا الله عز وجل ، فينطق المسلم بالكلمة القرآنية ، ويعلم الله عز وجل مقاصده في هذا النطق فيكتب له الثواب المتعدد.
وهو من الإعجاز فيما ورد (عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن كتب الله له بكل حرف حسنة . لا أقول [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ]( ) حرف ، ولكن الألف ، والذال ، والألف ، والكاف)( ).
الأخوة الإيمانية
لقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على تعاهد ضروب الأخوة بين الصحابة وكذا بين عامة المسلمين ، وبعد وصوله مهاجراً إلى المدينة ببضعة أشهر آخى بين المهاجرين والأنصار في آية من المنافع العامة للوحي وهدايته إلى أمور لم تطرأ على الوجود الذهني ، وإن طرأت فان الإنسان يتباطئ ويستحضر المعوقات لها ، ويتردد أو يمتنع عن القيام بها .
فتفضل الله عز وجل وأمر نبيه الكريم بالمؤاخاة بين كل اثنين من المهاجرين والأنصار ، ولا يعني هذا أن كل مهاجر يكون أخاه انصارياً ، فقد تكون المؤاخاة بين اثنين من المهاجرين ، أو اثنين من الأنصار .
ومن الإعجاز تلقي الصحابة هذه المؤاخاة بالقبول التام ، وفي أمور المعيشة ، والتكافل الإجتماعي ، والتعاون ، وفي ميدان الدفاع ، وكان التوارث يتم وفق هذه المؤاخاة ، إلى أن نزل قوله تعالى [وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ).
ولا تختص الأخوة الإيمانية بتلك المؤاخاة بل هي مطلقة لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ومن معاني الإطلاق في المقام أن المؤمنين الأحياء إخوة فيما بينهم ، كما أن الحي يكون أخاً للميت من المؤمنين في الإستغفار له وحفظ وصيته وتعاهد ماله ، والإستغفار لعموم المسلمين والمسلمات .
فالآية أعلاه وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية فانها أمر لكل مسلم ومسلمة بتعاهد الأخوة بصبغة الإيمان ، والإحسان ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، ولا يحقره التقوى ههنا وأشار بيده إلى صدره حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)( ).
والجامع المشترك بين المؤمنين هو التعاضد في سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ، والتصافي والحب في الله ليفوزوا بالنعيم الأخروي ، كما يدل عليه تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
إذ ورد (عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله.
قال أعرابي : يا رسول الله أنعتهم لنا .
قال : هم أناس من أبناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة ، تحابوا في الله وتصافوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزع الناس ولا هم يفزعون وهم أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ).
ليجعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية شاهداً ودليلاً ومادة للترغيب بأخلاق القرآن ومفاهيم الأخوة بين المسلمين .
وقد فرّق القرآن بين لفظ (إخوة) في الإيمان ، وبين لفظ (الإخوان) في النسب كما في قوله تعالى [وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ]( ).
و(عن أبي الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : حقت محبتي للمتحابين فيّ ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ ، وحقت محبتي للمتجالسين فيّ ، الذين يعمرون مساجدي بذكري ، ويعلمون الناس الخير ، ويدعونهم إلى طاعتي ، أولئك أوليائي الذين أظلهم في ظل عرشي ، وأسكنهم في جواري ، وآمنهم من عذابي ، وأدخلهم الجنة قبل الناس بخمسمائة عام ، يتنعمون فيها وهم فيها خالدون ، ثم قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ).
لبيان تعدد مصاديق التفسير النبوي للآية القرآنية ، والشواهد عليه .
و(عن جابر بن عبد الله : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) قال : هم الذين يتحابون في الله)( ).
ليفوز المؤمن بنيل مرتبة الولي من أولياء الله بمحبته لأخيه المؤمن في الله ولله من غير طمع أو رياء أو منفعة ، فان قلت وإن جاءت المنفعة بالعرض مع هذه المحبة.
الجواب نعم ، فلا تعارض هذه المحبة مع مرتبة الولاية بل هي من ثمراتها العاجلة .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر.
وفي الصحيح أيضا : المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا” وشبك بين أصابعه)( ).
لبيان لزوم ترجل الأخوة الإيمانية إلى الواقع اليومي بقانون التعضيد بين المسلمين ، وإعانة بعضهم بعضاً والنجدة والمدد وتخفيف وطأة المصيبة.
القرآن مدرسة الإحتجاج
لقد أعلن القرآن أنه مدرسة الإحتجاج وفيه البيان والدليل والبرهان ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ففي القرآن الحجة على وجوب التوحيد وعبادة الله والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزه عن الشرك ومفاهيم الإلحاد.
ومن إحتجاج الني صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن كتابه إلى مسيلمة الكذاب الذي تنبأ في حياة النبي محمد في آخر السنة العاشرة للهجرة وادعى أنه أُشرك مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في النبوة .
وسمى نفسه الرحمن ، وتبعته طائفة من قومه من بني حنيفة عصبية وصار يقال له بين قومه : رحمن اليمامة.
وكان يعتمد الدجل والسجع ، بعد أن وفد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه من أهل اليمامة ، ودخلوا الإسلام ، وعادوا إلى اليمامة ليبنوا مسجداً ، وليدخل قومهم معهم الإسلام .
ولكن مسيلمة ادعى النبوة وشهد له زوراً الرّجال بن عنفوة .
(وكان قد هاجر وقرأ القرآن ثم سار إلى مسيلمة مرتداً وأخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يشركه في الرسالة، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة)( ).
وليقتل مع مسلمة الكذاب في معركة اليمامة في السنة الحادية عشرة للهجرة في حروب الردة.
وكتب مسيلمة إلى رسول صلى الله عليه وآله وسلم (من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه ، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، وبعث بذلك رجلين من أصحابه الرجال بن شهب والحكم بن الطفيل وكان من سادات أهل اليمامة .
فقال لهما رسول اللّه : أتشهدان أن مسيلمة رسول اللّه .
قالا : نعم .
فقال : لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)( ).
فلم يتعرض لهما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن بيّن لهما قبح فعلهما وأنهما في فتنة وضلالة وعمى .
ثم أجاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب ، أما بعد إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( ).
إذ ختم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتابه بشطر آية قرآنية تتضمن تفويض أمور الحكم والسلطة والأحكام في الأرض إلى الله عز وجل .
وتبين الآية أعلاه أن الحكم والسلطان في الأرض لا يكون إلا بمشيئة من الله عز وجل.
وقد تتناوب قوى الخير والشر في قرية أو بلدة ، ولكن الخاتمة والعاقبة لأهل الإيمان ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتج بالقرآن على المشركين ، وعلى أهل الكتاب لبيان أن الإسلام انتشر بالحجة والبرهان وليس بالسيف ، ليؤسس للمسلمين مدرسة الإحتجاج بالقرآن ، ويحتجون معه بالسنة النبوية أيضاً.
و(عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو ، والحرث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد .
قال : على ملة إبراهيم ودينه.
قالا : فإن إبراهيم كان يهودياً.
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فهلُّما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ، فأنزل الله [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ]( )، إلى قوله وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ( ).
الإستشفاء بالقرآن
من خصائص كلام الله في الأرض ترشح البركة والخير والنفع العام عند قراءته والإنصات له ، ومنه الشفاء من الدرن ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
والمتبادر من وصف شطر من آيات القرآن بأنها شفاء الإطلاق ، بالشفاء والوقاية والتعافي من أمراض البدن الظاهرية والأمراض النفسية والباطنية والوسواس وآثار السحر ، وهي شفاء من الهمّ والحزن لما فيها من حسن التوكل على الله ، وتفويض الأمور إليه.
و(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تهجد في الليل يدعو : اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد ، أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق ، وقولك حق ، ووعدك حق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت .
وأخرج أبو داود والنسائي والبيهقي عن زيد بن أرقم قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دبر صلاة الغداة وفي دبر الصلاة : اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد بأنك أنت الرب وحدك لا شريك لك ، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك ، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ، اللهم ربنا ورب كل شيء إجعلني مخلصاً لك وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة ، ذا الجلال والإِكرام اسمع واستجب ، الله أكبر الله أكبر نور السموات والأرض ، الله أكبر الله أكبر حسبي الله ونعم الوكيل ، الله أكبر الله أكبر)( ).
وتلاوة القرآن شفاء من الكفر والنفاق وواقية من الإرتداد ، ولا يحصي كثرة منافع القرآن في القضاء على ردة القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله عز وجل ، سواء منافعه على المسلمين أو منافعه في ميدان القتال أو توبة ورجوع الناس عن الإرتداد.
و(عن أبي سعيد الخدري قال : كنا في مسير لنا، فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نَفَرَنَا غُيَّب، فهل منكم راق.
فقام معها رجل ما كنا نَأبِنُه برقية، فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا .
فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقي.
قال : لا ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي، أو نسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : وما كان يُدْريه أنها رقية، أقسموا واضربوا لي بسهم)( ).
وهل تكون قراءة المسلم سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية رقية وعوذة له .
الجواب نعم وهو من أسرار وجوب قراءتها في كل ركعة من الصلاة ولا يعلم كثرة ما يمحى عن المسلمين من الشرور والآفات بسبب قراءة سورة الفاتحة يومياً إلا الله عز وجل .
والرقية الشرعية ما كانت بآيات القرآن وأسماء وصفات الله عز وجل ، والمأثور في النصوص ، ويؤتى بها بالعربية ويجوز لمن لا يحسن العربية أن يأتي بها بلسانه .
ومن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن بيانه لعلم الطب وسبل الشفاء المستقرأة من القرآن ، وفيه ترغيب بتلاوته والصدور عنه.
إذ ورد (عن أبيّ بن كعب قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال : يا نبي الله إن لي أخاً وبه وجع قال : وما وجعه.
قال : به لمم قال : فائتني به . فوضعه بين يديه فعوّذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفاتحة الكتاب ، وأربع آيات من أوّل سورة البقرة ، وهاتين الآيتين [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( ) وآية الكرسي سورة البقرة ، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة.
وآية من آل عمران [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ]( )، وآية من الأعراف [إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ]( )، وآخر سورة المؤمنين [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ]( )، وآية من سورة الجن [وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا]( ).
وعشر آيات من أوّل الصافات.
وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، و [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( )، و(المعوّذتين) فقام الرجل كأنه لم يشك قط)( ).
والمعوِذتان سورة الفلق وسورة الناس ، سميتا به لأن مبدأ كل واحدة منهما [قُلْ أَعُوذُ].
أي النبي محمداً قرأ على الذي فيه وجع سورة الفاتحة ، وآيات من سبع سورة ، ثم قرأ سورة الفلق وسورة الناس ، من غير أن يمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان عشقه لآيات القرآن ، وعنايته بالناس ، وإجتهاده في بيان إعجاز قرآني في باب الشفاء من الأوجاع والأدران .
قانون القرآن شفاء عاجل
معجزة الشفاء العاجل للمريض الذي يقرأ عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات من القرآن من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وفيه تعليم للمسلمين بقراءة هذه السور والآيات على المريض أو غيرها ، وهو من مصاديق التبعيض بحرف الجر (من) في الآية أول البحث [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا]( ).
وفي خطبة للإمام علي عليه السلام (وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان في عمى . واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لاحد قبل القرآن من غنى.
فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم ، فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال)( ).
(قال الشعبي : سمعت عبد الله بن عباس غير مرّة يقول : إن لكل شيء أساساً وأساس العمارة مكة؛ لأنها منها دُحيت الأرض وأساس السماوات غريباً.
وهي السماء السابعة.
وأساس الأرض عجيباً.
وهي الأرض السابعة السفلى.
وأساس الجنان جنة عدن.
وهي سرّة الجنان.
وعليها أُسّست الجنان.
وأساس النار جهنم.
وهي الدركة السابعة السفلى وعليها أُسست الدركات.
وأساس الخلق آدم .
وأساس الأنبياء نوح .
وأساس بني اسرائيل يعقوب.
وأساس الكتب القرآن.
وأساس القرآن الفاتحة.
وأساس الفاتحة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}( )
فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى)( ).
ولم يرفع ابن عباس الحديث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين دليل موضوعية الأساس في كل شئ ، والأصل فيها قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
و(عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أني أشتكي صدري . فقال : اقرأ القرآن ، يقول الله تعالى [َشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ]( ).
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن واثلة بن الأسقع : أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجع حلقه . فقال : عليك بقراءة القرآن)( ).
لبيان تعدد الطرق التي يتخذها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشفاء بالقرآن ، فمرة يقرأ على المريض عدة آيات وسور من القرآن ، وأخرى يقرر اتخاذ الصحابة سورة الفاتحة رقية ، وأخرى يحض الذي يشتكي المرض على قراءة القرآن .
لينتفع أجيال المسلمين من قراءة القرآن في حال الصحة والمرض وجواز قراءة أي آيات من القرآن طلباً للشفاء لقوله صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه (عليك بقراءة القرآن).
وهو لا يمنع من اللجوء إلى الطب للشفاء أيضاً لأن قراءة القرآن طريق للشفاء ومدخل لجعل البركة في الدواء .
سبل الشفاء بالقرآن
وورد (عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِىٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : خَيْرُ الدَّوَاءِ الْقُرْآنُ)( ).
ترى كيف يكون الدواء بالقرآن ، الجواب من وجوه :
الأول : تلاوة آيات وسور القرآن مطلقاً من غير تعيين .
الثاني : قراءة الآيات والسور التي تتضمن أسباب الشفاء والإشارة إليه ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا]( ).
ومنها [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )، و[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ]( )، و[قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ]( ).
الثالث : تلاوة السور التي وردت النصوص بأنها شفاء .
الرابع : حفظ آيات القرآن عن ظهر قلب .
الخامس : تدارس القرآن .
السادس : الإستشفاء بما أشار إليه القرآن ، كما في قوله تعالى [يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
السابع : ادعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشفاء من الدرن والعلل والأمراض التي تتضمن آيات من القرآن.
و(عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ :كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَالنَّاسُ يَعْتَقِبُونَ وَفِي الظَّهْرِ قِلَّةٌ فَحَانَتْ نَزْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَنَزْلَتِي.
فَلَحِقَنِي مِنْ بَعْدِي فَضَرَبَ مَنْكِبَيَّ فَقَالَ [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ]( )، فَقُلْتُ [ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ] فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ ثُمَّ قَالَ [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ]( )، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ قَالَ إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ فَاقْرَأْ بِهِمَا)( ).
والتداوي بالقرآن لا يتعارض مع طلب الدواء المادي من الأعشاب وسائر الأدوية الحديثة التي هي عصارة الفكر الإنساني في هذا الإختصاص ، وانفقت عليها مليارات الدولارات لتصل الى عامة الناس .
وقد حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الدواء وعيادة الأطباء ، عن أسامة بن شريك قال (اتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أصحابه عنده كأن على رؤوسهم الطير ، جاء الأعراب فسألوه فقالوا أنتداوى قال تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير شئ واحد قال إسماعيل في حديثه الهرم)( ).
و(عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوّذُ الحسن والحسين : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل( ) شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ، ثم يقول : كان أبوكم إبراهيم يعوّذ بها إسمعيل وإسحق)( ).
القرآن شفاء
قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا]( ).
جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع المضاعف (ننزل) لبيان توالي تنزيل آيات القرآن ، وكثرتها ، وأن في نزولها شفاءً ، وكذا في هذا التوالي والتكثير إلى أن نزلت سورة النصر ، ونزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
ورد لفظ شفاء في القرآن أربع مرات وهي :
الأولى : قوله تعالى [ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ثلاثة منها في القرآن كشفاء من الأمراض من كل من :
الأول : الأمراض البدنية .
الثاني : العلل النفسية .
الثالث : الداء الذي يصيب المجتمع .
وهذا التعدد من إعجاز القرآن ، وورد شفاء في القرآن بكسر الشين ، ويجوز أن يكون لغة بالفتح لما ورد في العين (الشَّفاءُ : معروفٌ، وهو ما يبرئ من السَّقم.. شفاهُ الله يشفيه شفاءُ)( ).
ولغة القرآن هي الأصح والأفصح .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترغيبه المسلمين باللجوء إلى القرآن للشفاء وطلب العافية ، والوقاية من الأدران .
كما كان يدعو الله عز وجل للشفاء من كل سقم ، فقد ورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا)( ).
و(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخ .
فَقَالَ : أَكُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ وَتَسْأَلُهُ إِيَّاهُ ، قَالَ : كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبَنِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا .
فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ، لا تَسْتَطِيعُهُ أَوْ لا تُطِيقُهُ، أَلا قُلْتُ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ لَهُ فَشُفِيَ)( ).
فضل قراءة القرآن
من إعجاز نزوله على نحو التدريج وتعاقب الآيات والسور ، ومنها ما هو حسب الوقائع والحوادث ، وافرد لها باب اسمه (أسباب النزول).
ومن إعجازه أن أول آية نزلت جملة إنشائية تتضمن الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
ويشمل التقييد فيه بأن قراءة القرآن ذات صبغة إيمانية وبقصد العبادة وطاعة الله عز وجل ولبيان أن الإسلام دين العلم والإرتقاء في المعارف الإنشائية ، لما في القرآن من تكامل للأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأحكام ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
وفي الآية أعلاه ترغيب بتلاوة القرآن والتفقه في الدين ، وجاءت السنة النبوية لتأكيد البعث على قراءة القرآن ، وحفظ آياته ، والعناية بنظمه الذي هو توقيفي .
و(عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه ، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحداً أعطي أفضل مما أعطى فقد عظم ما صغر الله وصغر ما عظم الله ، وليس ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله)( ).
ومن معاني (أن يجد مع من وجد) أي لا يلهث وراء الدنيا وجمع الأموال مثل الذين يسعون في طلبها ، إنما هو غني بالقرآن ، ويتكفل الله برزقه وصحته وحسن عاقبته ومن مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( )، تنزه المسلمين عن الجهالة ومفاهيم الضلالة والشرك.
ومن خصائص حامل القرآن الإمتناع عن الخوض في الباطل ، ومقدمات الفتنة والجهالة ، ولم يرد لفظ (الجهل) و(الجهالة) في القرآن ، ولكن ورد لفظ [الْجَاهِلِينَ] ست مرات ، ومرتين بالرفع [الْجَاهِلُونَ] قال تعالى [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا]( ).
من منافع القرآن
من إعجاز القرآن إدراك كل مسلم ومسلمة النفع العظيم في قراءته ولجوؤهم إليهم في ساعة الحرج والضيق والشدة .
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة بالقول [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، تفضل وجعل أكثر أيام الإنسان فيها تتصف بأمور :
الأول : الصحة والعافية .
الثاني : الرزق الكريم .
الثالث : الأمن والطمأنينة .
الرابع : الحرية والمندوحة ، والسعة في التنقل والحركة .
الخامس : العناية والتربية من الوالدين في الصغر ، والغبطة والسعادة بالأولاد في الكبر ، وتبعث آيات القرآن على الشكر لله عز وجل على النعم.
وهذا لا يمنع من وقوع الإبتلاء والإفتتان ونزول المصيبة ، قال تعالى [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ]( )،
وتأتي آيات القرآن لتخفف مواضع الإبتلاء وتقلل من المصائب وحدتها ، فمن خصائص القرآن أنه سكينة ، وواقية من الجزع ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وفي قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، ورد (عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم ، أن يقولوا عند المصيبة إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ))( ).
و(عن أم سلمة الأنصارية قالت : قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه .
قال : لا تنحن ، قلت يا رسول الله : إن بني فلان أسعدوني على عمي ولا بد لي من قضائهن ، فأبى عليّ ، فعاودته مراراً ، فأذن لي في قضائهن ، فلم أنح بعد ، ولم يبق منا امرأة إلا وقد ناحت غيري)( ).
لبيان حضور السنة النبوية في العادات والتقاليد بما فيه إصلاحها وتهذيب السلوك المجتمعي العام ، وطرد مفاهيم الجاهلية .
و(قال جبير بن نفير: استقبلت الإسلام من أوله ولم أزل أرى في الناس صالحا وطالحاً)( ).
وجبير بن نفير الحضرمي عاش في الجاهلية وأسلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو ليس من الصحابة ، ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(قال أدركت الجاهلية وأتانا رسول رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم باليمن فأسلمنا)( ).
وفي مختصر تأريخ دمشق (وأتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باليمن فأسلمنا)( )، أي سقط سهواً من النساخ كلمة رسول فتغير المعنى ، ولم يرد هذا الحديث في تأريخ دمشق المطبوع.
ورد (عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن)( ).
لبيان ترقيق الصوت عند تلاوة القرآن ، وهل الخشوع من الصوت الحسن ، الجواب نعم ، وفي الحديث ترغيب لمن وهبه الله صوتاً حسناً بالإجهار بتلاوة وتجويد القرآن .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب اقواما ويضع به آخرين)( ).
وهل قارئ القرآن بصوت حسن ممن يرفعهم الله عز وجل ، الجواب نعم ، وهل هذا الرفع في الدنيا ام في الآخرة ، أم فيهما معاً ، الجواب هو الأخير ، لأصالة الإطلاق ، ولعظيم فضل الله وللشواهد في الدنيا بإكرام عامة الناس لقارئ القرآن ، والأحاديث النبوية عن ثواب قارئ القرآن في الآخرة .
القرآن واقية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختيار ، يداهم فيها الإبتلاء الإنسان طوعاً وقهراً ، وبمقدمات تارة وأخرى بدونها.
وتفضل الله عز وجل وجعل واقية وحرزاً متعدداً للنجاة من الإبتلاء وضروبه ، ومن هذه الواقيات النبوة والتنزيل ، وتعدد الأنبياء ، والكتب السماوية ، إذ أن عدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، أما اتباعهم فلا يعلم عددهم إلا الله عز وجل .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيكون أكثر الأنبياء أتباعاً مع أنه آخر وخاتم الأنبياء .
و(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا)( ).
وورد الحديث أعلاه بصيغة الرجاء والأمور بخواتيمها ، إذ آتى الله عز وجل الأنبياء المعجزات الحسية ، واختص النبي محمداً بالمعجزة العقلية وهو القرآن ، ومن خصائصه أنه واقية وسبيل نجاة في الدنيا والآخرة وهو الذي تجلى في آيات القرآن وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا]( ).
ومنه قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، ومن رحمة الله عز وجل جعله كل مسلم ومسلمة يتلوها سبع عشرة مرة في كل يوم.
ومن منافع القرآن الخاصة والعامة أنه واقية من مفاهيم الضلالة ، ومانع من الزيغ .
و(عن الإمام الصادق عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: القرآن هدى من الضلالة، وتبيان من العمى ، واستقالةَُ من العثرة، ونور من الظلمة ، وضياء من الاحزان، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية .
وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم، وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار)( ).
وهذا الحديث من جوامع الكلم ، فمع قلة كلماته ففيه احدى عشرة فريدة اعجازية للقرآن ، وواقية مصاحبة لكل الأزمنة.
وهو من مصاديق النفع الخاص والعام من وجود كلام الله بين الناس ، وسلامته من التحريف والنقص والزيادة إلى يوم القيامة.
وكما أن القرآن واقية في الدنيا ، فانه واقية في الآخرة ففي قوله تعالى [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ]( ).
ورد عن الأعمش قال (حدثني أبو وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يُجاءُ بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة)( ).
مناجاة النبي عند قراءة القرآن
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن في صلاة الفريضة ، وصلاة النافلة ، وعلى المنبر ، وعلى الراحلة ، أو هو جالس في المسجد ، وعند الدعوة إلى الله ، ومواطن الإحتجاج .
وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة سأل الله عز وجل الجنة ، وإذا مر بآية فيها ذكر النار تعوذ بالله منها ، هذا في غير صلاة الفريضة التي هي توقيفية ، وإذا مر بآية فيها تسبيح سبح الله .
كما أنه كان يناجي الله عز وجل مع تلاوته لآيات القرآن ، وعن الزبير (قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ]( )، إلى قوله [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] فقال : وأنا على ذلك من الشاهدين يارب)( ).
وفيه دعوة لكل مسلم لتعاهد تلاوة القرآن ، وإتخاذ التلاوة شهادة وعهداً عند الله عز وجل .
والمناجاة عند التلاوة نوع تصديق وإقرار وتدبر في معاني الآيات ، ولجوء إلى الله عز وجل .
قانون السنة الفعلية مرآة للقرآن
لقد تعددت مصاديق السنة النبوية التي هي ترجمان للقرآن من جهات :
الأولى : السنة القولية .
الثانية : السنة الفعلية .
الثالثة : السنة التقريرية .
الرابعة : السنة التدوينية .
الخامسة : السنة الدفاعية ، والتي تدخل في السنة القولية والفعلية وهو لا يمنع من استقلالها بعنوان.
ومن السنة الفعلية التي هي تفسير للقرآن شواهد من حج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولبى عبد الله بن مسعود حين أفاض من جمع ليلة العاشر من ذي الحجة ، فقال أعرابي : مستغرباً (من هذا ، قال عبد الله : انسي الناس أم ضلوا؟ سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان : لبيك اللهم لبيك)( ).
لبيان عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين وأحكام سورة البقرة ، ومنها مناسك الحج .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه .
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعمل بمثل عمله.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به .
فأهل التوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، وأهل الناس بهذا الذي تهلون به ، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً منه
ولزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلبيته حتى أتينا البيت معه ، استلم الركن فرمل( ) ثلاثاً ومشى أربعاً ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( )، فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين يقرأ فيهما بقل هو الله أحد ، وبقل يا أيها الكافرون ، ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن.
ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، فبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فكبر الله وحده.
وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك وقال : مثل هذا ثلاث مرات .
ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، فصنع على المروة مثل ما صنع على الصفا حتى إذا كان آخر الطواف على المروة)( ).
هذا في عمرة التمتع ، فبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محل الصلاة عند المقام بأن تكون خلف المقام ، وكان المقام محاذياً وملاصقاً للبيت الحرام إلى أيام عمر بن الخطاب .
ورد عن جابر الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بسورة [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( ) (وبـ [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ) في ركعتي الطواف)( ).
صلاة الطواف( )
وهو الثالث من أفعال العمرة والتاسع من أفعال الحج ، ووجوبها في الطواف الواجب عليه النصوص المتواترة والإجماع، وتتكون من ركعتين كصلاة الصبح ولكن يتخير فيها بين الجهر والإخفات، اما في الطواف المندوب فهي مستحبة، كما يستحب فيها قراءة سورة التوحيد بعد الفاتحة في الركعة الأولى، وسورة الجحد (الكافرون) في الركعة الثانية.
(مسـألة504) الأحوط إستحباباً إتيان صلاة الطواف حال الفراغ منه وعدم تأخيرها زائداً عن المتعارف، ولكن لو أخر لا تبطل صلاته ولا طوافه وان أثم بسبب التأخير بلا عذر.
(مسـألة505) يجب إتيان ركعتي طواف الفريضة خلف مقام إبراهيم عليه السلام مع الإمكان، ولا يتباعد عنه بحيث لا يصدق عليه أنه عنده إلا مع الزحام والعذر.
(مسـألة506) لو تعارض أداء الصلاة خلف المقام مع الطواف وكثرة الطائفين فالأولوية للطواف ويكون الموضع حينئذ من المطاف ويرجع المصلون إلى الخلف.
(مسـألة507) يجوز أن يصلي ركعتي طواف الفريضة في أية ساعة ولو في الأوقات التي تكره فيها النوافل المبتدئة
(مسـألة508) لو تعذر عليه الصلاة خلف المقام أو تعسر بسبب الزحام أو نحوه وقد ضاق عليه الوقت صلاهما حيث ما تمكن من المسجد مع مراعاة الأقرب فالأقرب.
(مسـألة509) لو نسى ركعتي طواف الفريضة وجب الرجوع لفعلهما خلف المقام مع الإمكان، ولو تعذر ذلك أو شق عليه كما لو كان خارجاً من مكة فيصلي حيث يشاء، والأحوط مراعاة إتيانهما في الحرم مع الإستطاعة وعدم الحرج.
(مسـألة510) لو مات الناسي لهما قضاهما الولي أو غيره، والجاهل والعامد كالناسي.
(مسـألة511) لو ترك صلاة الطواف فلا يبطل ما بعدها من الأعمال كالسعي وإن كان الترك عن عمد.
(مسـألة512) إذا كانت الصلاة للطواف المندوب، فيجوز أن يؤديها في أي جزء من المسجد بل والبلد، ولو تركها عمداً أو سهواً لا يجب عليه أو على الولي القضاء.
الملائكة في تفسير النبي (ص) للقرآن
وفي التنزيل [وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا]( )، وقد ورد لفظ (ما) خمس مرات في هذه الآية لبيان فقاهة الملائكة ، وانقطاعهم لعبادة الله عز وجل .
والملائكة خلق عظيم وكريم من خلق الله ، وهم غير الإنس والجن ، و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجن من مارج من نار ، وخلق آدم كما وصف لكم)( ).
ومع طول أعمار الملائكة فان الحساب يوم القيامة مرفوع عنهم ، لإنقطاعهم إلى الذكر والتسبيح وعبادة الله في كل ساعة من ساعات حياتهم.
والإيمان بالملائكة أصل من أصول الإيمان فلا يتم ايمان العبد إلا بالتصديق بهم ، قال تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ]( ).
فقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً إذ شهد له ولأمته بالإيمان بالله والملائكة ، وكل الأنبياء وجميع الكتب السماوية التي نزلت من عند الله عز وجل .
وعن عائشة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ، قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)( ).
وكان جبرئيل وهو من سادات الملائكة ينزل بالوحي والقرآن على رسول الله ، كما قام بتعليمه أحكام الشريعة لتتجلى في أفعال أجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمني جبريل عند البيت مرتين ، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك.
وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله ، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء حين غاب الشفق.
وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم ، وصلى بي من الغد الظهر حين كان ظل كل شيء مثله ، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم ، وصلى بي العشاء ثلث الليل ، وصلى بي الفجر فأسفر.
ثم التفت إلي فقال : يا محمد هذا الوقت وقت النبيين قبلك ، الوقت ما بين هذين الوقتين)( ).
وفيه شاهد بأن تعيين أوقات الصلاة تم بالوحي وفعل الملك جبرئيل ، واقتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به ليقتدي ملايين المسلمين بالملك جبرئيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعاهد الصلاة في أوقاتها وكيفيتها ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
أي واجباً ثابتاً ومنجماً ، كلما مضى وقت واحدة جاء وقت أخرى .
و(عن أبي سعيد : أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اشتكيت يا محمد ، قال : نعم.
قال باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس و عين يشفيك، باسم الله أرقيك.
عن أبي نَضرة ، عن أبي سعيد أو : جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتكى، فأتاه جبريل فقال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين والله يُشفيك)( ).
لقد ذكرت الملائكة في آيات كثيرة من سور متعددة.
ومن علوم الغيب التي أذن الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عنها بعض صفات الملائكة ، ومنها ما ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة)( ).
واتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عظمة خلق الملائكة مناسبة ووسيلة للتدبر في بديع صنع الله عز وجل.
و(عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقال : ما جمعكم قالوا : اجتمعنا نذكر ربنا ، ونتفكر في عظمته.
فقال : لن تدركوا التفكر في عظمته . ألا أخبركم ببعض عظمة ربكم.
قيل : بلى يا رسول الله .
قال : إن ملكاً من حملة العرش يقال له إسرافيل ، زاوية من زوايا العرش على كاهله . قد مرقت قدماه في الأرض السابعة السفلى ، ومرق رأسه من السماء السابعة في مثله من خليقة ربكم تعالى)( ).
شفاعة صاحب القرآن
لحفظ القرآن مرتبة سامية يوم القيامة كما تجلى في أحاديث عديدة منها ما ورد عن الإمام علي عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة.
وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من ذكر الله تعالى .
وذكر الله تعالى أفضل من الصدقة .
والصدقة أفضل من الصيام والصيام جنة من النار.
وقال عليه السلام: اقرؤا القرآن واستظهروه: فان الله تعالى لا يعذب قلبا وعا القرآن. وقال عليه السلام: من استظهر القرآن وحفظه وأحل حلاله، وحرم حرامه أدخله الله به الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجب له النار)( ).
لبيان قانون فضل قراءة القرآن ، واستحضار آياته في الوجود الذهني ، وفي عالم القول والفعل ، فتكون هادية للخير ، وباعثاً على الصلاح ، وزاجراً عن الحرام ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
ومعنى استظهر القرآن أي حفظه عن ظهر قلب .
وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من استظهر القرآن و أحل حلاله و حرامه أدخله الله الجنة و يشفع فيه أو قال : و شفع في عشرة من أهل بيته)( ).
وتتجلى منافع قانون استظهار القرآن للحاجة الخاصة والعامة للعمل بمضامين آيات القرآن.
ومن الإعجاز في الحديث عدم وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند استظهار القرآن بل إنه ذكر كلاً من الفعل والجزاء .
أما بالنسبة للفعل فهو العمل بمضامين آيات القرآن واتيان أوامره ، واجتناب نواهيه ، وأما بالنسبة للجزاء والثواب يوم القيامة فهو على شعب مباركة لا يقدر على أي منها إلا الله عز وجل منها :
الأولى : الأمن وانتفاء الخوف في مواطن الآخرة ابتداء من عالم القبر إلى النشور إلى العرض الحساب .
وعن ابن عمر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ان لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه ، فجثا أعرابي على ركبيته فقال : يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا . قال : قوم من إفناء الناس من نزاع القبائل تصادقوا في الله وتحابوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم ، يخاف الناس ولا يخافون ، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)( ).
الثانية : دخول الجنة [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
الثالثة : الشفاعة بعشرة من أهل بيت الذي قرأ واستظهر القرآن.
الرابعة : صفة الذين وجبت لهم الشفاعة والأصل في حكمهم دخول النار ، لينال هؤلاء مرتبة رضا الله عنهم بشفاعة قارئ القرآن ، بدليل قوله تعالى [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى]( ).
وهل رضا الله عز وجل عنهم سابق للشفاعة أم أنه مقارن لها ، أم متأخر عنها ، ظاهر الآية هو الأول ، لبيان علم الله عز وجل بأن هؤلاء ستنالهم شفاعة صاحب القرآن.
نعمة المسجد النبوي
هل من أسباب الهجرة إلى مكة المندوحة والسعة لقراءة المسلمين والمسلمات القرآن في الصلاة وخارجها ، وتدارس آياته ، والرجوع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعرفة تفسيره وتأويل آياته ، الجواب نعم.
وهذا التفسير هو موضوع الجزء الذي بين يديك من معالم الإيمان وهو الخامس والخمسون بعد المائتين بفيض ولطف من عند الله عز وجل ، وأكتب وأراجع وأصحح أجزاء التفسير المتعاقبة بمفردي والحمد لله .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أول عمل قام به حين وصوله إلى المدينة هو بناء المسجد النبوي وإقامة الصلاة فيه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
لقد منع المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من إقامة الصلاة في المسجد الحرام وتلاوة القرآن فشاء الله أن يبنى المسجد النبوي وسط بيوت وحمائل الأنصار ، ويتلى فيه القرآن في الصلاة وخارجها.
ويتعلم المسلمون آيات القرآن وتأويلها ، سواء في المسجد أو جناح الصفّة أو بيوت الأنصار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
آيات الطاعة
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طاعته لله عز وجل ، وفي تبليغ الناس بوجوب طاعة الله ، ونزل قوله تعالى [طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( ).
ونزل القرآن بوجوب طاعة الله ، وطاعة الرسول ، لبيان أن قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( )، يتضمن وجوب الإمتثال لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب ما نهى عنه .
وهل تدل هذه الآية على أن النبي محمداً مشرع ، الجواب نعم ، ليكون تقدير قوله تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( )، واطيعوا الله في أحكام آيات القرآن ، واطيعوا الرسول في أحكام القرآن والوحي .
والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق فالوحي أعم ، وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير شطر من آيات الطاعة لتأكيد مضامينها ، وترغيب المسلمين بطاعة الله .
و(عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : مَنْ أطاع الله ورسوله فقد رشد)( ).
ولم يرد قوله تعالى [أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] إلا في آيتين بينهما مائة آية هما الآية (31-131) من سورة آل عمران .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أصحابه بوجوب طاعته بأمر من عند الله عز وجل ، وهو من مصاديق تفسير النبي للقرآن ، ودعوة المسلمين للتقيد بأحكامه .
و(عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه فقال : يا هؤلاء ألستم تعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا : بلى .
قال : ألستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه أنه من أطاعني فقد أطاع الله .
قالوا : بلى ، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله ، وإن من طاعته طاعتك .
قال : فإن من طاعة الله أن تطيعوني ، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم ، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً أجمعين)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية ، كانوا على ما كرهته من معصيتي ، ثم تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحوّلت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي .
وما من أهل بيت ولا قرية ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي ، إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من غضبي)( ).
لبيان توالي فضل الله عز وجل على التائبين الذين يختارون طاعة الله ، وورد الحديث القدسي أعلاه مطلقاً ، شاملاً للناس جميعاً ، ولا يختص بضرب من ضروب لطاعة بل يشمل العبادات والمعاملات ويتعلق بالفرد والأسرة والجماعة وأهل القرية والبلدة والملة .
وليس من فترة بين التوبة وبين نزول شآبيب الرحمة والمغفرة ، وكما يتضمن الحديث البشارة لأهل الطاعة سواء التائبين المقبلين عليها ، أو الذين اتخذوها منهاجاً فانه يتضمن الإنذار والوعيد للذين انحرفوا عن جادة الصواب واختاروا المعصية والضلالة بالإبتلاء والعذاب العاجل ليكون دعوة سماوية للعودة إلى مقامات الهدى ، وزجراً عن المعصية ، وسوء عاقبتها يوم القيامة بالخلود في النار ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ]( ).
ونزلت الآية أعلاه في رجالات قريش الذين قتلوا في معركة بدر، وموضوع الآية أعم من أسباب النزول.
وهل الإيمان نعمة ، الجواب .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهات :
الأولى : لم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا وقد نبذ أهل الجزيرة مفاهيم الكفر والضلالة وكسروا الأصنام ، وصاروا مسلمين يقفون صفوفاً بين يدي الله خمس مرات في الصلاة كل يوم .
الثانية : إنعدام الإرتداد في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا تترك طائفة من الناس الإيمان بطاعة الله ، ثم إرتكاب المعاصي ، وهو من بركات آيات القرآن والتفسير النبوي والأحاديث النبوية ، ولا عبرة بالقليل النادر ، كما في مسيلمة الكذاب .
الثالثة : سرعة إنقطاع الإرتداد بين القبائل الذي حدث بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : ثبات سنن ومفاهيم الإيمان في الأرض برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
في الإمارة والحكم
يبين القرآن مسؤولية الحاكم اتجاه الأمة وعامة الرعية بالحكم بالعدل والنزاهة ، وإجتناب الفساد ، قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( ).
وتدل الآية أعلاه على القضاء بالعدل والإنصاف وموضوعها أعم ، لأن القضاء فرع الإمارة .
و(عن زيد بن ثابت أنه قال عند النبي صلى الله عليه وسلم : بئس الشيء الإمارة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها فتكون عليه حسرة يوم القيامة)( ).
وفيه شاهد على أن الصحابة يتكلمون في حضرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه قد يعقب على كلامهم ، ويصحح القول ، فعندما قال زيد بئس الشئ الإمارة فانه اطلق الكلام وأنه تحذير وزجر للمؤمنين عن تولي شؤون الحكم والإمارة مطلقاً.
فرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبيان والتفصيل ، فقد يكون تولي الإمارة والسلطنة واجباً عينياً إذا كان بحق.
وهل يدل الحديث في مفهومه على السنة التقريرية ، الجواب نعم ، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسكت عن كلام زيد بن ثابت بل بيّن التفصيل .
وفي الحديث تحذير للمسلمين من إعانة غير المؤهل للولاية والحكم لأنه يصاب بالحسرة والندامة يوم القيامة.
وقد وردت ثلاث آيات متجاورة في ذم وإنذار وسوء عاقبة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وهي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
وهل في سورة المائدة التي من آخر سور القرآن نزولاً ، والسالمة من النسخ.
تقدير [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )
لقد أمر الله عز وجل الناس بوجوب عبادته وجعل ابتداءها ملازماً لخلق آدم وهبوطه إلى الأرض ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بلحاظ المقام مسائل :
الأولى : (اني جاعل في الأرض خليفة) أوحي إليه ، وهو من مصاديق إحتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، والمقصود من الخليفة على هذا التقدير هم الأنبياء .
ليبين الله عز وجل للملائكة أن خلافة الإنسان في الأرض ليست مطلقة ، وأن الله عز وجل لا يترك الناس وشأنهم إنما ينزل عليهم الوحي الذي فيه صلاح وإصلاح.
الثانية : (إني جاعل في الأرض خليفة) يقيم الصلاة والفرائض الأخرى ، ويأمر بها.
و(عن جرير قال : بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم)( ).
وفي حديث آخر (عَنْ جَرِيرٍ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقُلْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ النُّصْحُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَرْحَمْ النَّاسَ لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ)( ).
الثالثة : (إني جاعل في الأرض خليفة) يثاب على الإيمان والعمل الصالح ، إذ أن الإنسان مركب من جسد وروح ، ويعمل الشيطان على فتنته وإغوائه وجذبه لاتباع الهوى إلا من عصمه الله بفضله ولطفه ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الرابعة : (إني جاعل في الأرض خليفة) يحارب الفساد ، ويصد الناس عن الشرك والباطل .
الخامسة : (إني جاعل في الأرض خليفة) يعظم شعائر الله .
لفظ (قلنا) في القرآن
من إعجاز القرآن مدرسة (قلنا) إذ ورد هذا اللفظ (23) مرة في القرآن منها ست وعشرون مرة كلها كلام لله عز وجل وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
العاشرة : قوله تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى]( ).
العشرون : قوله تعالى [فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى]( ).
الواحدة والعشرون : قوله تعالى [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
الثانية والعشرون : قوله تعالى [فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا]( ).
الثالثة والعشرون : قوله تعالى [وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ]( ).
كما ورد [قَالَ رَبُّكَ] في القرآن تسع مرات منها [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ]( ).
وتسع مرات بلفظ [َقَالَ اللَّهُ] منها [إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
وورد لفظ [قَالَ رَبُّكُمْ] في قوله تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، لبيان أن الله عز وجل كما خاطب الملائكة والأنبياء خاطب الناس جميعاً ، لتتغشى نعمة الوحي الناس والخلائق كلها ، وإن كانت على مراتب متفاوتة ومقاصد متعددة.
وعموم الوحي هذا من مصاديق ملك ومشيئة الله عز وجل المتصلة بين الخلائق.
والنسبة بين المشيئة والقول في المقام عموم وخصوص مطلق ، فالمشيئة أعم ، لبيان أن الله عز وجل متكلم .
ولقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أكثر الأنبياء الذين تلقوا الوحي من عند الله ، لقانون كل آية قرآنية نازلة هي وحي ، خاصة وأن القرآن نزل نجوماً ، وبحسب الوقائع والأحداث.
وقانون كل كلمة نطق بها النبي وحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
المختار في آية السيف (آية [فَإِذَا انْسَلَخَ])
ذكر جمع من العلماء أن آية السيف نسخت أكثر من مائة ، ولا أصل لهذا القول ، وآية السيف هي [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ولم يرد لفظ (السيف) معرفاً أو نكرة في القرآن ، إنما وردت الآية أعلاه بخصوص مشركي مكة ومن حولها ، ليحج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع وقد انقطع الشرك في مكة ، ويدل عليه ابتداء الآية أعلاه بحرف العطف (الفاء) والذي يفيد التعقيب والفورية أي بخصوص الأشهر الحرم ، ويحتمل المراد من الأشهر الحرم وجهين :
الأول : إرادة الأشهر الحرم المعروفة وهي (رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم) وبه قال ابن عباس .
الثاني : المراد الأشهر الأربعة التي ورد ذكرها أربعة أشهر قبل آية السيف بثلاث آيات وهي آية [فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( ).
لذا ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال بخصوص الأشهر الحرم المذكورة في آية السيف قال هي (هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر)( ).
لأن الإعلان والرخصة تبدأ بيوم النحر وهو عيد الأضحى ، العاشر من شهر ذي الحجة لقوله تعالى [وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ]( ).
والمختار هو :
الأول : المراد من لفظ (المشركين) في آية السيف هم مشركو مكة وما حولها أيام التنزيل.
الثاني : لزوم إبدال اسم آية السيف ، فلا أصل لهذه التسمية ، ويمكن تسمية الآية آية (فاذا انسلخ) .
الثالث : تدل الفاء في أول الآية على الفورية في تنجز الإنذار ، بمعنى أن الإنذار محصور بذات السنة .
ومن الأدلة على الحصر أن لفظ (انسلخ) ورد في القرآن مرتين ، والآية الثانية هي قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ]( ).
و(عن سعيد بن المسيب قال : قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، فقال لها : هل تحفظين من شعر أخيك شيئاً؟ قالت : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها)( ).
لبيان وجه من وجوه التفسير النبوي للقرآن بأن يجعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضوع الآية القرآنية مثلاً وشاهداً لتثبيت معانيها ودلالتها .
وعن الشعبي في الآية أعلاه (قال : قال ابن عباس : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعورا ، وكانت الأنصار تقول : هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق ، وكانت ثقيف تقول : هو أمية بن أبي الصلت)( ).
وفيه شاهد على قلة عدد الذين بقوا على الشرك .
الرابع : لا تشمل آية السيف أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس ، إنما هي خاصة بعبدة الأصنام ، الذين نصبوا الأوثان في البيت الحرام .
الخامس : تتضمن آية السيف تعدد الأمر إلى المسلمين بخصوص المشركين منها أخذ أو حصر المشركين .
السادس : ترغيب المشركين بالتوبة والإنابة والتدارك لقوله تعالى [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ]( ).
أي حتى إذا أخذتم المشركين ، ومكنكم الله منهم فان تابوا وأدوا الصلاة والفرائض العبادية فهم إخوانكم ، ولا سبيل عليهم ، وإن كانوا قد شاركوا في غزو المشركين للمدينة ، وقاموا بقتل عدد من المهاجرين والأنصار.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الاسلام يجبّ ما قبله)( ).
وقد صدرت لي (10) أجزاء من هذا السِفر معالم الإيمان ، خاصة بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهي الأجزاء : (202-203-304-210-211-231-240-241-242-249)
وستأتي إن شاء الله أجزاء أخرى بخصوص ذات الموضوع بلحاظ تتبع آيات السلم والصفح والصلح والموادعة التي قيل أنها نسخت ولم يثبت هذا النسخ خاصة وأن النبي محمداً كان يعمل بأحكامها إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
كلمات منفردة في سورة الإنشراح
سورة الإنشراح مكية ، ونزلت بعد سورة الضحى وكأنها تتمة لها ، لذا يجمع بينهما في الصلاة سواء على نحو الوجوب أو الإستحباب ، وهو المختار .
وعن عبد الله بن مسعود (قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قرأ [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ]( ) فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرّج عنّي)( ).
ومع أن هذه الآية من السور المكية ومجموع كلماتها (27) كلمة فانه وردت فيها تسع كلمات لم ترد في سورة أخرى من القرآن.
وهذه الكلمات هي :
الأولى : [نَشْرَحْ]( ).
الثانية : [وَضَعْنَا]( ).
الثالثة : [وِزْرَكَ] ( ).
الرابعة : [أَنْقَضَ]( ).
الخامسة : [ظَهْرَكَ] ( ).
السادسة : [ذِكْرَكَ]( ).
السابعة : [فَرَغْتَ]( ).
الثامنة : [انْصَبْ] ( ).
التاسعة : [َارْغَبْ]( ).
ليكون من إعجاز القرآن نزول كلمات في آيات وسور مكية ، ثم لم ترد هذه الكلمات في سور أخرى مع توالي نزول القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة ، (وعد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعاً وثلاثين كلمة، وقيل وأربعمائة وسبعاً وثلاثين، وقيل ومائتان وسبع وسبعون، وقيل غير ذلك. وقيل وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار، كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز)( ).
فضل آية الكرسي
آية الكرسي هي قوله تعالى [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]( ).
وهي الآية 255 من سورة البقرة ، ووردت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصوص عديدة في فضلها ، واستحباب قراءتها ، ومواطن النفع من قراءتها ، وهي أعظم آية في القرآن .
إذ ورد (عن أبي كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أي آية في كتاب الله أعظم قال : آية الكرسي [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] قال ليهنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش)( ).
وكذا ورد (عن ابن الأسقع البكري : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين ، فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم .
فقال النبي [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ] ( ) حتى انقضت الآية)( ).
والمراد من صفّة المهاجرين وهي موضع مظلل مجاور للمسجد النبوي يقيم فيه المهاجرون الذين ليس عندهم سكن فيحضرون الصلوات اليومية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتعلمون القرآن وأحكام الشريعة ، ويصومون ، ويخرجون في الكتائب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان عددهم يزداد حتى يبلغ نحو 400 ثم ينقص لأن عدداً منهم يجد له مأوى ومسكناً باعانة من الأنصار لعمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ولأن المؤاخاة التي عقدها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار في بدايات الهجرة أصل وتأسيس للتكامل بين عموم المسلمين.
و(عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)( ).
وتقع الصفة في الركن الشمالي الشرقي من المسجد وقيل أقيمت صفة ومظلة أخرى في الجهة الجنوبية للمسجد النبوي بعد تحويل القبلة إلى الكعبة ، وقد ادخلت في توسعة المسجد النبوي.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين لأهل البيت وأصحابه الشأن العظيم لآية الكرسي عندما يسألون عن أعظم آية أو ابتداءً منه ، كما يذكرها في أحاديث جامعة لها ولغيرها من الآيات أو الفرائض ، أو تأريخ النبوة ، كما ورد (عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال : يا أبا ذر هل صليت ، قلت : لا.
قال : قم فصل ، قال : فقمت فصليت ثم جلست.
فقال : يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن” قال: قلت: يا رسول الله أوللإنس شياطين .
قال : نعم ، قال : قلت: يا رسول الله الصلاة قال : خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر.
قال : قلت : يا رسول الله فالصوم ، قال : فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد” قلت: يا رسول الله فالصدقة.
قال : أضعاف مضاعفة.
قلت : يا رسول الله فأيها أفضل .
قال : جهد من مقل أو سر إلى فقير .
قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول قال : آدم.
قلت : يا رسول الله ونبي كان ، قال : نعم نبي مكلم .
قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون ، قال : ثلثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا ، وقال مرة : وخمسة عشر .
قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم ، قال : آية الكرسي اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ( ).
فلم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سورة معينة هي أعظم ما أنزل عليه إنما ذكر آية الكرسي وكلماتها أكثر من كلمات بعض قصار السور .
وعدد كلماتها هو خمسون كلمة أي أكثر من كلمات سورة الكوثر والعصر والنصر مجتمعات ، إذ يبلغ مجموع كلماتها (43) كلمة ، وكل واحدة منها ثلاث آيات .
استحباب قراءة آية الكرسي
قد يأتي الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة آية الكرسي كآية من سورة البقرة .
وهل النصوص التي وردت في فضل سور وآيات القرآن من التفسير النبوي للقرآن ، الجواب نعم .
ومنه (عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما ، ثم قال : اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)( ).
والبطلة : الشياطين ( )، و(البطلة : السحرة) ( ).
من الباطل والبطلان.
وهل يشمل الحديث بطلة الإنس ، الجواب نعم لقوله تعالى [شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
ويقال (أبطل فلان: جاء بالباطل ، وجاء بالأضاليل والأباطيل ، ولقد تبطل ولدك ، وشر الفتيان المتبطل المتعطل)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ومن قرأها حين يأخذ مضجعه أمنه الله على داره ودار جاره ، وأهل دويرات حوله.
وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر وابن الضريس عن علي (عليه السلام) قال : ما أرى رجلاً ولد في الإِسلام أو أدرك عقله الإِسلام يبيت أبداً حتى يقرأ هذه الآية [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) ولو تعلمون ما هي.
إنما أعُطيها نبيكم من كنز تحت العرش ، ولم يعطها أحد قبل نبيكم ، وما بت ليلة قط حتى اقرأها ثلاث مرات ، اقرأوها في الركعتين بعد العشاء الآخرة ، وفي وتري ، وحين آخذ مضجعي من فراشي)( ).
و(عن أبي أمامة يرفعه قال : اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور : سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه ، قال أبو أمامة : فالتمستها فوجدت في البقرة في آية الكرسي [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) وفي آل عمران [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) ، وفي طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ( ).
تسمية آية الكرسي
يتجلى في السنة النبوية أن آية الكرسي هي أكثر الآيات التي ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها وجوهاً متعددة من الفضل والنفع العام والترغيب بقراءتها ، كما اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قراءتها وتأكيد تسميتها بآية الكرسي.
فهذه التسمية ورثتها أجيال المسلمين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقتبس من قوله تعالى [وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ]( )، والكرسي جرم عظيم خلقه الله تحت العرش كما أن كلمة الكرسي هنا عنوان الملك والمسكنة المطلقة وإحاطة سلطان الله بكل الموجودات .
و(في حديث النبي عليه السلام : ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض)( ).
وكانت عند الأنبياء ، لما ورد (عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً : أوحى الله إلى موسى بن عمران : أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة ، فإنه من يقرأها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ، ولسان الذاكرين ، وثواب النبيين ، وأعمال الصديقين ، ولا يواظب على ذلك إلا نبي ، أو صديق ، أو عبد امتحنت قلبه بالإِيمان ، أو أريد قتله في سبيل الله . قال ابن كثير : منكر جداً)( ).
آية الكرسي من آيات التوحيد
آية الكرسي مدنية ، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً فأمر زيد بن ثابت بكتابتها في الحال ، وهذه الآية من آيات التوحيد وتبين إحاطة الله علماً بكل شئ ، وسعة قدرته وسلطانه ، وأن كل الأشياء حاضرة عنده مستجيبه له .
وأنه سبحانه مستغن عن كل شئ لقوله تعالى [الْحَيُّ الْقَيُّومُ] وهو منزه عن التبدل والتغيير والإنفعال لقوله تعالى [لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ]( )، وفيها ثناء من الله عز وجل على نفسه وبيان لملكه لكل شئ ، وهو وحده الحاكم المطلق في الدنيا والآخرة .
و(وعز الله وجل أن يقال له مكان يومى إليه، والله ليس كما يقول الملحدون، ولا كما يظن الجاهلون، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الاذهان)( ).
وكما ابتدأت آية الكرسي باسم الجلالة فقد اختتمت باسمين من أسماء الله (العلي العظيم) أي الله وحده عالي القدر والشأن والسلطان ، وليس هو من علو المكان لأن الله عز وجل منزه عن الجهة والمكان ، فلا يحده مكان ولا زمان ، وهو سبحانه خالق المكان والزمان ويقبضها حيث يشاء ، قال تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ]( ).
نعمة الشفاعة
الشفاعة لغة مصدر شفع ، والشفع ضد الوتر ، قال تعالى [وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ]( ).
والشفاعة لغة هي التوسل والتضرع إلى الله ، لنجاة عباد آخرين، وفي الشفاعة أطراف :
الأول : الشافع .
الثاني : المشفوع له .
الثالث : موضوع الشفاعة .
الرابع : المشفوع عنده .
وتتعدد أفراد كل من الأطراف الأربعة الأولى أعلاه ولكن المشفوع عنده هو الله عز وجل وحده ، لتكون الشفاعة من مصاديق قوله تعالى [لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
وقيل بتقسيم الشفاعة يوم القيامة إلى قسمين :
الأول : الشفاعة المقبولة التي يأذن بها الله عز وجل .
الثاني : الشفاعة المرفوضة .
والظاهر أن آيات القرآن لا تدل على وجود شفاعة مرفوضة ومردودة .
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليخرجن بشفاعتي من أهل الإِيمان من النار حتى لا يبقى فيها أحد إلا أهل هذه الآية [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ]( )، إلى قوله شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ( ).
و(عن ابن مسعود قال : يعذب الله قوماً من أهل الإِيمان ، ثم يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يبقى إلا من ذكر الله [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ]( ) إلى قوله شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ( ).
فالمراد أن شفاعة الشافعين لم تشملهم ، ولم يذكروا فيها مع كثرة الشفعاء يوم القيامة.
ويدل قوله تعالى [فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ]( )، على انتفاء الشفاعة للمشركين ، وليس رد ورفض الشفاعة لهم .
و(قال صلى الله عليه وآله وسلم : يشفع الملائكة ثم النبيون ثم العلماء ثم الشهداء ثم الصالحون ، ثم يقول الله تعالى : شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين ، فلا يبقى في النار من كان له إيمان ، وروى الحسن أن الله تعالى يدخل الجنة بشفاعة رجل من هذه الأمة مثل ربيعة ومضر وفي رواية أبي قلابة أكثر من بني تميم)( ).
وهل المراد عدد أفراد ربيعة ومضر في الأجيال المتعاقبة ، الجواب المختار هو المراد رجال ربيعة ومضر أيام الحديث النبوي.
والظالمون لا يؤذن لهم بالشفاعة ، وهناك أقوام منهم لا يؤذن بالشفاعة لهم ، قال تعالى [وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى]( )، وقال تعالى [وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى]( ).
تبين آية الكرسي الشفاعة ولا تكون هذه الشفاعة إلا باذن الله عز وجل.
ومن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها ما ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري مرفوعاً (شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي)( ).
وفي حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ثمّ يأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فينفخ نفخة الصعق [فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ]( )، فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبّار ويقول : قد مات أهل السماء والأرض إلاّ من شئت،
فيقول الله سبحانه وهو أعلم من بقي فقال : أي ربّ بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت ، وبقي حملة العرش ، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل،
وبقيت أنا فيقول الله عزّ وجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول : أي ربّ يموت جبرائيل وميكائيل .
فيقول : اسكت إنّي كتب الموت على كلّ من تحت عرشي فيموتان.
ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : أي ربّ قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي.
فيقول : بقيت أنتّ الحيّ الذي لا تموت وبقيتْ حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون ، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت.
ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : يا ربّ قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت أنا فقال : أنت خلقٌ من خلقي خلقتك لما رأيت فمتْ فيموت.
فإذا لم يبق إلاّ الله الواحد الأحد الصمد الذي [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ]( )، وكان آخراً كما كان أوّلا طوى السموات كطيّ السِجِلِّ للكتب.
ثمّ قال : أنا الجبّار ، لمن الملك اليوم ، ولا يجيبه أحد ، ثمّ يقول تبارك وتعالى جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه : لله الواحد القهّار [يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ]( )، مطويّات فيبسطها بسطا ثمّ يمدّها مدّ الأديم العكافي [لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا]( ) .
ثمّ يزجر الله الخلق زجرة واحدة ، فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة في مثل ما كانوا فيه من الأوّل ، من كان في بطنها ، كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها.
ثمّ ينزل الله سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال .
ثمّ يأمر السحاب أن تُنزل بمطر أربعين يوماً حتى يكون من فوقهم إثنا عشر ذراعاً ، ويأمر الله سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت ، قال الله سبحانه : ليَحيَ حملة العرش ، فيحيون. ثمّ يقول الله تعالى : ليَحيَ جبريل وميكائيل. فيحييان ، فيأمر الله إسرافيل ، فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثمّ يدعو الله الأرواح فيؤتى بها ، تتوهّج أرواح المؤمنين نوراً والأخرى ظلمة ، فيقبضها جميعاً ثمّ يلقيها على الصور.
ثمّ يأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنّها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض.
فيقول الله سبحانه : ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده ، فتدخل الأرواح الخياشم ، ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السمّ في اللديغ.
ثمّ تنشق الأرض عنهم سراعاً ، فأنا أوّل من ينشق عنه الأرض ، فتخرجون منها إلى ربّكم تنسلون عُراة حفاة عزّلا مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافرون : هذا يومٌ عَسِر)( ).
ويدل التعدد في السند والراوي من الصحابة على فوز آية الكرسي بصفة أعظم آية ، وهو لا يتعارض مع كون كل آية من القرآن عظيمة في ذاتها كونها كلام الله نزل به الملك جبرئيل على النبي محمد وفي أثرها والنفع العظيم من تلاوتها في النشأتين.
آية الكرسي واقية من الجن
و(عن عبد الله بن أبي بن كعب: أن أباه أخبره: أنه كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص.
فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم.
قال أبي : فسلمت عليه فرد السلام. قال: فقلت: ما أنت، جني أم إنسي؟
قال: جني.
قلت: ناولني يدك..
فناولني، فإذا يد كلب وشعر كلب.
فقلت: هكذا خَلْقُ الجن .
قال: لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني، قلت: فما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك.
قال : فما الذي يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية: آية الكرسي.
ثم غدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق الخبيث)( ).
لبيان أن آية الكرسي واقية من الجن وضروب من الشر وهو أمر ظاهر بالوجدان في كل زمان لمن يعاني من الأذى من الجن ، مع قلته في هذا الزمان لكثرة عمارة الناس الأرض .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من التلاوة والإستعاذة بالله عندما يأوي إلى فراشه.
وعن الإمام علي عليه السلام في حديث (كان صلى الله عليه وآله يقرء آية الكرسي عند منامه، ويقول: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إن عفريتا من الجن يكيدك في منامك فعليك بآية الكرسي)( ).
وفيه إرشاد وتعليم للمسلمين بالإحتراز من شرور الجن في المنام ، ليكون المسلم مطمئناً في نومه مع الحاجة إلى هذه الطمأنينة لاستقبال النهار بالعمل .
وعن الإمام الباقر عليه السلام (قال: ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله من نوم قط إلا خر لله عزوجل ساجداً)( ).
لبيان الشكر لله عز وجل للبعث من النوم وللسلامة فيه ، قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ومن فضائل القرآن بيان الحاجة إلى اللجوء إلى الله ومفاهيم التوحيد ، وهو يبعث على التسليم بأن الله عز وجل غالب على كل شئ ، وسلطانه حاكم على الخلائق وهو المسخر لها فهي خاشعة خاضعة له ، مستجيبة لقدرته ، أبى إلا أن يكرم الإنسان بالخلافة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن مصاديق هذا الإكرام دفع الآفات وشرور الجن والسحر عن الإنسان بالتقوى وتلاوة القرآن وهو سبحانه الحي الذي لا يموت وحياته بكمال الوجود والعلم والحكمة والإرادة المطلقة ، لبيان أن حياته تعالى تفوق بمراتب غير متناهية حياة الممكنات التي يهبها الله الوجود ويفيضه عليها حيث يشاء.
قانون قراءة القرآن حرز وواقية
وتفضل الله عز وجل وجعل آيات القرآن حفظاً للناس والبيوت والأموال والمزروعات وواقية من الفساد وسفك الدماء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، عندما تساءل الملائكة عن جعل من يفسد في الأرض ويقوم بالقتل واشعال الحروب والفتن بأن الأرض تصلح بالتنزيل ، ويرتدع الناس عن الفساد بتلاوتهم القرآن والتدبر في معانيه ، وهو من مصاديق وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات وسور من القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني .
ولا يختص طلب السلامة بالليل والنهار بقراءة آية الكرسي في الحديث النبوي ، إنما وردت نصوص أخرى في المقام منها في المرسل (عن آبان بن عثمان( ) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم فقالها حين يمسي لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يصبح وان قالها حين يصبح لم تفجأه فاجئة بلاء حتى يمسي)( ).
و(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا على أبي أيوب الأنصاري في غرفة ، وكان طعامه في سلة من المخدع ، فكانت تجيء من الكوة السنور حتى تأخذ الطعام من السلة ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تلك الغول ، فإذا جاءت فقل لها عزم عليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا ترجعي .
قال : فجاءت ، فقال لها أبو أيوب : عزم عليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا ترجعي.
فقالت : يا أبا أيوب ، دعني هذه المرة ، فوالله لا أعود فتركها ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره قالت : ذلك مرتين ، ثم قالت : هل لك أن أعلمك كلمات إذا قلتهن لا يقرب بيتك شيطان تلك الليلة ، وذلك اليوم ومن غد.
قال : نعم . قالت : اقرأ آية الكرسي [اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( )، قال : فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال : صدقت وهي كذوب)( ).
لبيان عجز الشياطين عن قول غير الحق فيما يخص القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، ولبيان أن الجن ضعيف .
وليكون من معاني الحفظ في الآية أعلاه (وانا له لحافظون) من شياطين الجن والإنس.
وليكون من معاني [وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ]( )، بقراءة آية الكرسي عند الصباح والمساء وساعة النوم.
من فيض آية الكرسي
وقد يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية الكرسي مع غيرها من الآيات أو السور ، أو الفعل العبادي.
و(عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . سأل رجلاً من أصحابه هل تزوّجت ، قال : لا ، وليس عندي ما أتزوج به .
قال : أو ليس معك [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( )، قال : بلى ، قال : ربع القرآن.
أليس معك [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( )، قال : بلى ، قال : ربع القرآن.
أليس معك [إِذَا زُلْزِلَتِ]( )، قال : بلى ، قال : ربع القرآن.
أليس معك [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ]( )، قال : بلى .
قال : ربع القرآن ، أليس معك آية الكرسي .
قال : بلى .
قال : فتزوج)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ابتداء عن أحالهم الخاصة .
الثانية : حض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة على الزواج والإنجاب .
الثالثة : دعوة المسلمين لتسهيل شروط الزواج ، والتخفيف من المهر ، إذ يدل الحديث في مفهومه على رضا الزوجة وأهلها بحامل القرآن وإن كان عديم المال فالحديث من مصاديق قوله تعالى [وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
قانون التفسير النبوي رحمة وتخفيف
من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الوعد من عند الله من وجوه :
الأول : كل آية من القرآن رحمة .
الثاني : السنة النبوية رحمة .
الثالث : تجليات بركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة .
الرابع : قانون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلام دائم لأهل الأرض ، ومن هذا السلام مصاديق التفسير النبوي للقرآن بما يثبت قواعد وقوانين السلام في الأرض ، ومنها تفسيره لقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
فهذه الآية حرب على الإرهاب ، وعلى التعدي إذ تأمر المسلمين بأخذ الحيطة والحذر وتهيئة أسباب الدفاع عن بيضة الإسلام وعن الثغور ، فيخشى المشركون جانبهم ، فلا يقع قتال ، لتكون مندوحة للمعجزة والآية القرآنية في دعوة للناس للإيمان ، ونبذ مفاهيم الكفر.
البيان النبوي لمعنى القوة
و(عن عقبة بن عامر الجهني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ) ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً ، إن الأرض ستفتح لكم وتكفون المؤنة ، فلا يعجزنَّ أحدكم أن يلهو باسهمه)( ).
لبيان أن القوة في الآية ليست تكديس الأسلحة والدروع إنما تعلم الرمي ومستلزماته وآلاته حسب زمانها للدفاع ، وفيه رحمة للمسلمين والناس بعدم توظيف الأموال الطائلة في شراء السيوف والدروع ومؤن القتال ، فلا يصح تسخير الأموال للأسلحة المختلفة مع فقر الناس ، وحال العوز والجوع ، وحتى مع عدم شيوع الفقر ، فان التفسير النبوي أعلاه دعوة للإرتقاء بالمؤسسات العلمية ، والبنى التحتية ونحوها .
و(عن عقبة بن مسافر الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ).
فقال : ألا إن القوة الرمي .
ألا إن القوة الرمي .
ألا إن القوة الرمي)( ).
و(عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ]( )، شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه .
قال : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ) إنما هو الشرك)( ).
و(عن جرير بن عبد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا ، فانتهى إلينا فسلم ، فقال له النبي صلى الله وعليه وسلم : من أين أقبلت.
فقال : من أهلي وولدي وعشيرتي أريد رسول الله . قال : أصبته . قال : علمني ما الإِيمان؟ قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت .
قال : قد أقررت . ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى ووقع الرجل على هامته فمات . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا من الذين عملوا قليلاً وأجروا كثيراً ، هذا من الذين قال الله [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ]( ) إني رأيت حور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنة ، فعلمت أن الرجل مات جائعاً)( ).
ولا تعارض بين الحديثين أعلاه ، لبيان قانون السعة والمندوحة في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
فتشمل الآية أعلاه التنزه عن الشرك ، وتشمل الذي لا يخالط المعصية بعد دخوله الإسلام ، وهل تشمل الذين يستغفرون الله ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
اقتران طاعة الرسول بطاعة الله عز وجل
لقد قرن الله عز وجل طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعته سبحانه في آيات متعددة منها :
الأولى : قوله تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا]( ).
السابعة : قوله تعالى [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
الثامنة : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
و(عن أبي سعيد بن المُعَلَّى قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم أجبه حتى صلَّيت وأتيته، فقال : ما منعك أن تأتيني
قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي.
قال : ألم يقل الله[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]( ).
ثم قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد.
قال : فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن .
قال : نعم الحمد لله رب العالمين هي: السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)( )، وورد مثله عن أبي بن كعب .
الثانية عشرة : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الرابعة عشرة :قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
العشرون : قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]( ).
ومن خصائص طاعة الرسول أنها توبة ، وإيمان ، وطريق إلى الجنة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وقد وردت آيات عديدة تبعث على طاعة الرسول ، وتبين وجوبها وإن لم تأت بذات لفظ (الطاعة) منها [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
لبيان قانون الملازمة بين الرسول وطاعة الناس له ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا دار الطاعة ، لأن عمارتها ابتدأت بآدم عليه السلام وهو نبي رسول إذ تلزم طاعته .
وقال تعالى [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، والنسبة بين طاعة الرسول واللجوء إليه للتحكيم عموم وخصوص مطلق ، فمن خصال المؤمنين قبول حكم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه شعبة من الوحي ، وليكون هذا الحكم ثروة وسنة وتراثاً عند أجيال المسلمين .
كما وردت آيات بوجوب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ]( )، وقوله تعالى [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ووردت آيات بالنهي عن معصية الله منها :
الأولى : قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا]( ).
التفسير النبوي باعث على العمل
العمل والكسب من خصائص الحياة الدنيا ، وهو من مصاديق الإختبار والإمتحان لما فيه من وجوه :
الأول : العمل مناسبة للتحلي بالتقوى عند العمل .
الثاني : التنزه عن الحرام .
الثالث : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : الشكر لله عز وجل كل يوم على الأهلية للعمل .
الخامس : الغبطة والسعادة للرزق الكريم .
السادس : الأمل في العمل وما فيه من البناء وتحقيق الرغائب .
السابع : العمل على شعبتين :
الأولى : العمل للدنيا .
الثانية : التزود للآخرة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ]( ).
والعمل لمعيشة الذات والعيال من الجهاد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحض المسلمين على العمل .
وفي قوله تعالى [وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ]( )،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ، خرجه البخاري وفي التنزيل [وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ]( ) وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه)( ).
، فان قلت قد ورد بخصوص مريم في التنزيل [يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا]( ).
والجواب إنما خشيت أن يظن بها قومها شراَ وسوءً وهي المنزهة التي لم يلمسها رجل ، ولبيان أنها لا تملك عصمة الأنبياء ، وتدرك عظيم فضل الله عز وجل بهذه الولادة المباركة ، فجاءها التخفيف والفضل الإلهي بالحال إذ ناداها عيسى من تحتها [فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا]( ).
وتدل الفاء في (فناداها) على الفورية .
في عصمة الأنبياء
قال تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، لبيان تنزه الأنبياء عن الخيانة والسرقة ونحوها ، وفي الآية أعلاه شاهد على إكرام القرآن للأنبياء ، وتوثيق عصمتهم وحسن سمتهم وأنهم لا يخطأون في التبليغ ، وهو من مصاديق الإصطفاء ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
والمختار أن العصمة فرع الإصطفاء والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق .
وكذا بالنسبة لإجتباء الله للأنبياء ، وقد ورد لفظ (اجتباه) ثلاث مرات في القرآن وهي :
الأولى : بخصوص آدم عليه السلام ، قال تعالى [ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى]( ).
الثانية : بخصوص إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثالثة : في يونس عليه السلام ، قال تعالى [فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ]( ).
وورد بصيغة المضارع (يجتبيك) بخصوص يوسف عليه السلام كما في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وقد ورد فضل الله عز وجل في إجتباء وإختيار المسلمين بقوله تعالى [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
لبيان أن الإجتباء على قسمين :
الأول : القضية الشخصية باجتباء واختيار الأنبياء لتبليغ الرسالة السماوية .
الثاني : إجتباء الأمة ، الذي فاز به المسلمون به إلى يوم القيامة.
وهل هو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف ، الجواب نعم.
و(لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات ، قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يابن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء، قال: بلى .
قال : فما تعمل في قول الله عزوجل [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]( )، وقوله عزوجل [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ]( )، وقوله في يوسف [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا]( )، وقوله عزوجل في داود [وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ]( )، وقوله في نبيه محمد صلى الله عليه وآله [وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ]( ).
فقال الرضا عليه السلام : ويحك يا علي اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله برأيك ، فإن الله عزوجل يقول [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ]( ).
أما قوله عزوجل في آدم عليه السلام [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى]( ) فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه ، وخليفته في بلاده ، لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عزوجل، فلما اهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وأما قوله عزوجل [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ]( ) إنما ظن أن الله عزوجل لا يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله عزوجل [وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ]( ) أي ضيق عليه، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر.
وأما قوله عزوجل في يوسف [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا]( ) فإنها همت بالمعصية ، وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله ، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة ، وهو قوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ]( ) يعني القتل والفحشاء ، يعني الزنا .
وأما داود فما يقول من قبلكم فيه.
فقال علي بن الجهم : يقولون إن داود كان في محرابه يصلي إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع صلاته وقام ليأخذ الطير فخرج إلى الدار، فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه فسقط الطير في دار اوريا بن حنان، فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة اوريا تغتسل، فلما نظر إليها هواها، وكان اوريا قد أخرجه في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدم اوريا أمام الحرب، فقدم فظفر اوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب الثانية أن قدمه أمام التابوت، فقتل اوريا رحمه الله، وتزوج داود بامرأته.
فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته وقال [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ) لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل .
فقال : يابن رسول الله فما كانت خطيئته ؟ فقال: ويحك إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عزوجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا [خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ]( )، فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه فقال [ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ]( )، فلم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة حكمه ، لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع قول الله عزوجل يقول [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ]( )إلى آخر الآية .
فقلت : يابن رسول الله فما قصته مع اوريا ، فقال الرضا عليه السلام إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا ، وأول من أباح الله عزوجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود)( ).
و(عن أنس قال كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)( ).
الملاحم والفتن في التفسير النبوي
النسبة بين الحديث النبوي والتفسير النبوي للقرآن هي العموم والخصوص المطلق ، فالحديث النبوي أعم ، وكل منهما شعبة من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
لذا فان إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفتن منها ما يكون من الحديث النبوي ومنها ما يكون من تفسير النبي (ص) للقرآن.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)( ).
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي (وابن الأنباري في المصاحف عن الحارث الأعور قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت عليّاً فأخبرته.
فقال : أوقد فعلوها؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنها ستكون فتنة.
قلت : فما المخرج منها يا رسول الله .
قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله .
ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس منه الألسن ، ولا يخلق من الرد.
ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا [إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ]( ).
من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)( ).
فيبين هذا الحديث حدوث فتن عند المسلمين ، وعامة الناس وأن الملجأ هو القرآن وفيه تتجلى معالم الإيمان في ساعة المحنة والإبتلاء ، كما يتضمن الحديث تفسيراً لآيتين من القرآن .
قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً]( )، و(عن أم مالك البهزية قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتنة فقربها قلت : من خير الناس فيها؟ قال : رجل في ماشية يؤدي حقها ويعبد ربه ، ورجل أخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخيفونه)( ).
لبيان تعدد سبل النجاة من الفتنة من وجوه :
الأول : الإعراض عن أسباب الفتن .
الثاني : الإبتعاد عن مواطن الفتنة .
الثالث : الإنشغال بالكسب للعيال .
مع التقيد بأداء الفرائض العبادية في كل حال من الوجوه أعلاه .
الرابع : التهيئ للدفاع ، وأخذ الحيطة بالعدة والعدد ، والتحلي بالصبر مع عدم ابتداء القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( )، فهذه الآية لا تدل على قتال المشركين ، إنما تدل على الزجر عن القتال ، واجتناب الفتنة .
ومن أخبار آخر الزمان التي وردت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء (عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم ، فله أربعون ليلة يسيحها في الأرض.
اليوم منها كالسنة ، واليوم منها كالشهر ، واليوم منها كالجمعة ، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه ، وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعاً.
فيقول للناس : أنا ربكم . وهو أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه ك ف ر مهجاة ، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ، يرد كل ماء منهل إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه.
وقامت الملائكة بأبوابها ومعه جبال من خبز ، والناس في جهد إلا من اتبعه ، ومعه نهران أنا أعلم بهما منه ، نهر يقول الجنة ، ونهر يقول النار ، فمن دخل الذي يسميه الجنة فهي النار ، ومن دخل الذي يسميه النار فهي الجنة.
وتبعث معه شياطين تكلم الناس ، ومعه فتنة عظيمة ، يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس ، ويقتل نفساً ثم يحييه ، لا يسلط على غيرها من الناس فيما يرى الناس.
فيقول للناس : أيها الناس هل يفعل مثل هذا إلا الرب؟ فيفر المسلمون إلى جبل الدخان بالشام ، فيأتيهم فيحصرهم فيشتد حصارهم ، ويجهدهم جهداً شديداً.
ثم ينزل عيسى فينادي من السحر فيقول : يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث .
فيقولون : هذا رجل حي فينطلقون فإذا هم بعيسى ، فتقام الصلاة فيقال له : تقدم يا روح الله.
فيقول : ليتقدم إمامكم فليصل بكم ، فإذا صلوا الصبح خرجوا إليه ، فحين يراه الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء ، فيمشي إليه فيقتله ، حتى إن الشجرة تنادي : يا روح الله هذا يهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحد إلاَّ قتله)( ).
والحديث النبوي عن الدّجال مستفيض ومشهور عند جميع فرق المسلمين ، ويتلقاه المسلمون بالتصديق ، وهو من علامات آخر الزمان.
وهل يدخل فيه الذكاء الإصطناعي وآلاته الحديثة والمتطورة ، الجواب نعم ، فجاء ذكر الدجال في الحديث كرمز لتسخير الناس الإرتقاء العلمي في الحروب وأسباب الإستضعاف والقهر ، لبيان الحاجة إلى السعي والدعاء ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
نزول عيسى عليه السلام
وردت أحاديث نبوية عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا]( ).
وعن عثمان بن أبي العاص قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين( )، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام فيفزع الناس ثلاث فزعات.
فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم من قبل المشرق، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين، فيصير أهلهم ثلاث فرق: فرقة تُقيم تقول: نُشَامه ننظر ما هو .
وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم. ومع الدجال سبعون ألفًا عليهم السيجان وأكثر من معه اليهود والنساء، ثم يأتي المصر الذي يليه .
فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقول: نشامه وننظر ما هو؟ وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغرب الشام وينحاز المسلمون إلى عقبة أَفِيق فيبعثون سَرْحًا لهم، فيصاب سَرْحهم، فيشتد ذلك عليهم وتصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد، حتى إن أحدهم ليحرقُ وتَرَ قَوْسه فيأكله.
فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السَّحَر : يا أيها الناس أتاكم الغوث ثلاثا .
فيقول بعضهم لبعض : إن هذا لَصَوْت رجل شبعان ، وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، عند صلاة الفجر، فيقول له أميرهم : رُوح الله تَقَدَّمْ صَلِّ.
فيقول : هذه الأمة أمراء، بعضهم على بعض. فيتقدم أميرهم فيصلي ، فإذا قضى صلاته أخذ عيسى حَرْبَته .
فيذهب نحو الدَّجال، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص ، فيضع حَرْبته بين ثَنْدوَته فيقتله وينهزم أصحابه .
فليس يومئذ شيء يواري أحدًا ، حتى إن الشجرة لتقول: يا مؤمن، هذا كافر. ويقول الحجر: يا مؤمن، هذا كافر)( ).
و(عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم المهدي : تعال صل بنا فيقول : ألا إن بعضكم على بعض امراء تكرمة من الله عزوجل لهذه الامة)( ).
الإنذار من آخر الزمان
تتصف أكثر الأحاديث النبوية عن فتن آخر الزمان بالبيان والإيضاح والإطناب في غير خطل .
والإطناب من البلاغة وحسن البيان يقابله التطويل وهو خلل في البيان ، ويبعث السأم عند السامع .
والنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه .
ويأتي الإطناب في القرآن للتعظيم أو للتعليل أو للتأكيد وللتنزيه ونحوه ، ويأتي للثناء كما في قوله تعالى [قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]( )، فخاتمة الآية مدح ليوسف .
ومن الإطناب في الحديث النبوي ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأخبار ووقائع آخر الزمان ، ليتعظ المسلمون والمسلمات ، ويتخذوا الحيطة والحذر بسلاح التقوى.
وعن حذيفة بن اليمان (قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى .
قال : قلت : يا رسول الله انا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر .
قال : نعم ، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه .
قال: قوم يستنون بغير سنتى ويهدون بغير هديى، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر .
قال : نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا .
قال : هم من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني ان أدركني ذلك.
قال : تلزم جماعة المسلمين امامهم، قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام .
قال : فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض باصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)( ).
ومن خصائص تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات الجنة بعثه التفاؤل والأمل بحسن عاقبة المسلمين يوم القيامة .
و(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن يكون من تبعني من امتي ربع أهل الجنة ، فكبّرنا ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبّرنا.
ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ]( ).
وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحّاك [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ]( ) يعني من سابقي هذه الأمة [وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ]( ) من هذه الأمة في آخر الزمان)( ).
ومن أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آخر الزمان ما يبعث على تأديب المسلمين ، ودعوتهم للتمسك بأحكام الشريعة ، ومكارم الأخلاق ، وتعاهد العلم والتفقه في الدين ، والصدور عن القرآن ، والتقيد بأحكامه ، واتخاذ سنة النبي محمد منهاجاً ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
مع الإنذار من المعاصي واتباع الشهوات ، و(عن معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال الأمة على شريعة ما لم يظهر فيهم ثلاث : ما لم يقبض منهم العلم ، ويكثر ولد الخبث ، ويظهر فيهم السقارون .
قالوا : وما السقارون ، قال : بشر يكونون في آخر الزمان تكون تحيتهم بينهم إذا تلاقوا التلاعن)( ).
علامات آخر الزمان
لقد أخبر الله عز وجل عن الوظائف الرسالية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
ومن مصاديق الآية أعلاه أن النبي محمداً مبشر ونذير لأهل زمانه ، والأزمنة اللاحقة إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق صبغة المعجزة العقلية للقرآن
ووردت نصوص نبوية عن تقلبات الزمان وأحوال الناس فيه ، ولا يعني هذا بالضرورة أن المراد آخر الزمان ، مثل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ، فمن لم يأكله أصابه من غباره)( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا ، ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم)( ).
و(عن معاذ بن جبل قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أطيعوني ما دمت بين أظهركم ، فإن ذهبت فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله وحرّموا حرامه ، فإنه سيأتي على الناس زمان يسرى على القرآن في ليلة فَيُنْسَخُ من القلوب والمصاحف)( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله : يأتي على الناس زمان يحج أغنياء الناس للنزهة ، وأوساطهم( ) للتجارة وقرّاؤهم للرياء والسمعة وفقراؤهم للمسألة)( ).
فلا تدل هذه الأحاديث على أن المراد هو آخر الزمان ، بل هي أفراد زمانية طولية قد تسبق آخر الزمان بأحقاب كثيرة .
وقال بن عطية (ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن وقد أباحه عليه السلام في قوله : يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه)( ).
وليس في الحديث أعلاه إباحة لتمني الموت ، ولكن لبيان قسوة الزمان ، وشدة الإبتلاء ، وضروب الإفتتان .
ذكر النار في التفسير النبوي
لقد ذكرت نار الآخرة في القرآن والتفسير النبوي بأسماء وصفات متعددة منها :
الأول : النار ، وهو أم أسماء نار الآخرة ، والمتبادر حين ذكرها ، وورد في القرآن ذكر النار مطلقاً الشامل لنار الدنيا والآخرة وعددها (145) مرة وهي على شعبتين :
الأولى : عدد ذكر نار الآخرة منها (118) مرة منها قوله تعالى [نَارَ جَهَنَّمَ] الذي ورد تسع مرات في القرآن ، وفي ذم الجاحدين بالربوبية المطلقة لله ، والمكذبين بالرسالة والمعاد ، قال تعالى [يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ]( ).
الثانية : عدد ذكر النار التي في الدنيا (27) مرة منها [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
الثاني : جهنم ، منه قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
الثالث : السعير : وقد يجتمع اسم وصفة للنار في آية واحدة كما في قوله تعالى [وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا]( ).
الرابع : جهنم ، وورد (77) مرة في القرآن ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( )، وورد اسم جهنم في أحاديث نبوية كثيرة ، و(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ.
يَقُولُ قُولُوا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)( ).
ومن التفسير النبوي ما ورد عن (الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دعا بدعوى الجاهلية فأنه من جثا جهنم قال رجل يا رسول الله وإن صام وصلى قال نعم وإن صام وصلى فادعوا بدعوى الله التي سماكم الله بها المسلمين المؤمنين عباد الله)( ).
و(عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عزوجل [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، قال الدعاء هو العبادة ثم قرأ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( ).
لبيان موضوعية الدعاء ، والحاجة إليه ، وأن العبادة لا تختص بأداء الفرائض كالصلاة والصيام ، فمنها ما يكون اختيارياً ويشمل أفراد الزمان الطولية ، لذا يستحب التعقيب بعد الصلاة ، وهو الذي دأب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال لمعاذ (إني أحبك لا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
وعن الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: يا علي عليك بتلاوة آية الكرسي في دبر صلاة المكتوبة، فانه لا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد)( ).
وورد مثله عن أنس يرفعه ( ).
ومن التعقيب بعد الصلاة الإتيان بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله.
و(عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يده كتابان.
فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا لا ، ألا أن تخبرنا يا رسول الله ، قال : للذي في يده اليمنى ، هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم.
ئم قال للذي في شماله ، هذا كتاب من رب العالمين ، بأسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً.
فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان قد فرغ منه.
فقال : سددوا ، وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بيديه فنبذهما ، ثم قال : فرغ ربكم من العباد فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (تدرون كيف أبواب النار ، قلنا : نعم كنحو هذه الباب. فقال : لا ولكنها هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى.
وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض ، ووضع النيران بعضها فوق بعض ، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية)( ).
الإستدلال بالقرآن على التفسير النبوي
الإستدلال : هو الإتيان بالحجة والبينة ، وهو بحث عقلي دقيق وانطلاق من حقيقة معلومة إلى حقيقة مجهولة ، وفيه تقرير للدليل لإثبات المدلول.
ولقد جعل الله عز وجل السنة النبوية ترجماناً للقرآن ، وبياناً لمضامينه ، وسبيلاً لتقريب آيات القرآن للأذهان ، وتيسير العمل بأحكامها .
وورد عن أبي الجارود أن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال (إذا حدثتكم بشئ فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه، إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله .
قال: إن الله عزوجل يقول : [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ]( ).
وقال : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما .
وقال : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)( ).
وأبو الجارود : زياد بن المنذر الهمداني تابعي أعمى ، كوفي ، كان من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام ، وعندما خرج زيد مال إليه ، وصار زيدياً ، تحدث في التفسير ، وهناك فرقة منقرضة تسمى الجارودية نسبة إليه .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتخذ القرآن سلاحاً وحجة في كل من :
الأول : الإستدلال .
الثاني : إتخاذ آيات وسور القرآن دعوة للإيمان ، وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، إنما انتشر بأمور وجهات :
الأولى : المعجزة العقلية وهي آيات القرآن .
الثانية : المعجزة الحسية وهي ما جرى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله ، منها معجزة الإسراء والمعراج ، وانشقاق القمر ، قال تعالى وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
الثالثة : التعاضد بين المعجزة العقلية والمعجزة الحسية .
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن استدلال على أنه فوق كلام البشر ، وأمر خارق لصنوف البلاغة إذ يتصف العرب أيام التنزيل بالبلاغة ، وقول الشعر فنزل كلام الله دعوة سماوية معجزة للهداية والرشاد .
الرابع : استدلال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن ، ليؤسس لقانون الإستدلال بالكتاب السماوي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
وكان هذا الإستشهاد على وجوه :
الأول : الإستشهاد بكامل الآية القرآنية .
الثاني : الإستشهاد بشطر من الآية القرآنية .
الثالث : جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين آيتين أو أكثر للإستدلال .
الرابع : تذكير الناس بالحاجة إلى اتخاذ القرآن دستوراً.
إجتماع تفسير عدد من الآيات في حديث نبوي واحد
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة ، وبيان الأحكام الشرعية ، وتفسير آيات القرآن ، ومن خصائص هذا التفسير ترغيب الناس بالعمل الصالح ، وبعث النفرة من العمل القبيح.
وقد يجمع الحديث النبوي عدداً من الآيات وتفسيرها أو بيان عظيم نفعها ، والحاجة إليها .
وعن (يحيى بن عطارد بن مصعب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أعطي أحد أربعة فمنع أربعة ، ما أعطي أحد الشكر فمنع الزيادة ، لأن الله تعالى يقول [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
وما أعطي أحد الدعاء فمنع الإِجابة ، لأن الله يقول [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وما أعطي أحد الاستغفار فمنع المغفرة لأن الله يقول [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا]( )، وما أعطي أحد التوبة فمنع التقبل لأن الله يقول وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ( ).
فضل الفاتحة في التفسير النبوي
لقد أكرم الله النبي محمداً والمسلمين بسورة الفاتحة من جهات :
الأولى : نزول سورة الفاتحة .
الثانية : نزول سورة الفاتحة في مكة في بدايات نزول القرآن .
الثالثة : تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول سورة الفاتحة ، وتفضل الله بجعلها خاصة برسوله الكريم وأمته.
(وعن ابن عباس قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه.
فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم.
فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة)( ).
الرابعة : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفاتحة على المشركين .
الخامسة : قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفاتحة في الصلاة في المسجد الحرام في بدايات البعثة بمسمع ومرآى من عماره ، وهم من أهل مكة ومن المعتمرين ووفد الحاج ، وأغلبهم يومئذ مشركون .
السادسة : تلاوة المسلمين الأوائل لسورة الفاتحة في الصلاة وخارجها.
السابعة : سورة الفاتحة فقاهة في الدين .
الثامنة : ابتداء نظم سور القرآن بسورة الفاتحة .
التاسعة : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسورة الفاتحة وآياتها وبيانه لفضل الله في نزولها.
وفي حديث طويل عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ومنّ علي ربي وقال لي: يا محمد صلى الله عليك فقد أرسلت كل رسول إلى امته بلسانها، وأرسلتك إلى كل أحمر وأسود من خلقي .
ونصرتك بالرعب الذي لم أنصر به أحدا، وأحللت لك الغنيمة ولم تحل لاحد قبلك .
وأعطيتك ولامتك كنزا من كنوز عرشي: فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة، وجعلت لك ولامتك الارض كلها مسجدا، وترابها طهورا، وأعطيت لك ولامتك التكبير .
وقرنت ذكرك بذكري حتى لا يذكرني أحد من امتك إلا ذكرك مع ذكري ، فطوبى لك يا محمد ولامتك)( ).
العاشرة : سورة الفاتحة دعوة إلى الإيمان ، وحرب على الأوثان.
الحادية عشرة : تعدد المعاني والمقاصد السامية في سورة الفاتحة .
الثانية عشرة : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفضل سورة الفاتحة في نصوص عديدة.
و(عن أنس أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسير له فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إلا أخبرك بأفضل القرآن، فتلا عليه الحمد لله رب العالمين، وقد تقدم قربياً منه عن عبد الله بن جابر( ).
الثالثة عشرة : قانون سورة الفاتحة نعمة عظمى خص الله عز وجل بها النبي محمداً وأمته.
وعن الإمام علي عليه السلام (قال: إن بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات تمامها ببسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله يقول :
إن الله عزوجل قال لي: يا محمد [وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ]( ) فأفرد الامتنان على بفاتحة الكتاب، وجعلها بازاء القرآن العظيم، وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإن الله عزوجل خص محمدا وشرفه بها، ولم يشرك معه فيها أحدا من أنبيائه، ما خلا سليمان عليه السلام فانه أعطاه منها بسم الله الرحمن الرحيم ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ( ).
ومن خصائص سورة الفاتحة تأكيد كلماتها على التوحيد وفيها تنمية لملكة الإيمان في النفوس واصلاح للمجتمعات ، لذا فرض الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة قراءتها في كل ركعة من الصلاة اليومية.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في هذه القراءة وتثبيتها.
ومن خصائص سورة الفاتحة استبشار الملائكة بنزولها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ ورد (عن ابن عباس قال بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع راسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة)( ).
ترى هل من صلة بين استبشار الملائكة بنزول سورة الفاتحة وبين قولهم حين أخبرهم الله عز وجل عن جعل آدم [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، الجواب نعم فنزول سورة الفاتحة من أسباب إنحسار الفساد في الأرض.
وبالإسناد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال لجابر بن عبد الله الأنصاري يا جابر ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه قال فقال له جابر بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمنيها قال فعلمه الحمد أم الكتاب.
ثم قال يا جابر ألا أخبرك عنها قال بلى بأبي أنت وأمي فأخبرني فقال هي شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت)( ).
وعن أبي (زيد وكانت له صحبة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة ، فسمع رجلاً يتهجد ويقرأ بأم القرآن ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع حتى ختمها ، ثم قال : ما في القرآن مثلها)( ).
والفجاج الطريق الواسع ، وفي الحديث مسائل :
الأولى : عدم اتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحراس والحجاب .
الثانية : قانون اتصاف طرق المدينة بالأمن .
الثالثة : قراءة المسلمين القرآن في بيوتهم .
الرابعة : قانون قيام المسلمين بصلاة الليل وتلاوة القرآن ليلاً .
الخامسة : عندما سمع النبي محمد سورة الفاتحة ظل واقفاً إلى أن تمت قراءتها .
السادسة : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفضل سورة الفاتحة ، وإنفرادها بخصائص قدسية سامية .
السابعة : في السنة الفعلية بوقوف النبي محمد عند سماع الفاتحة ، والسنة القولية في الثناء عليها وما في القرآن مثلها ، إرشاد للمسلمين لتعاهد سورة الفاتحة تلاوة وتدبراً والعمل بأحكامها .
البيان النبوي لتعاقب الأزمنة
أخبار آخر الزمان وأحوال الناس فيها أمور تشغل كل جيل من البشر على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، كما جاءت الكتب السماوية وأحاديث الأنبياء ببيان جانب منها .
ولقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، والذي تولى بصفة النبوة وآية الوحي تأويل وتفسير آيات القرآن ، والكشف عن علامات آخر الزمان مع الإستدلال عليها بآيات القرآن .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يخلق القرآن في قلوبهم يتهافتون تهافتاً.
قيل يا رسول الله : وما تهافتهم .
قال : يقرأ أحدهم فلا يجد حلاوة ولا لذة يبدأ أحدهم بالسورة وإنما معه آخرها فإن عملوا قالوا ربنا اغفر لنا ، وإن تركوا الفرائض قالوا : لا يعذبنا الله ونحن لا نشرك به شيئاً أمرهم رجاء ولا خوف فيهم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا( ).
و(عن أبيّ بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب ، فإذا سمع به الناس ساروا إليه ، فيقول من عنده : لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله . قال : فيقتتلون عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون)( ).
وفي الجبل من الذهب هذا وجوه :
الأول : إرادة النفط المستخرج في العراق خاصة وأن معنى (يوشك) قرب الوقوع وأن الفرات كناية عن العراق ، واستخراج النفظ في محيط نهر الفرات .
الثاني : إرادة النفط ومعادن أخرى .
الثالث : أمر بالغيب لم يحصل بعد.
الرابع : استخراج الذهب .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، خاصة وأن ماء نهر الفرات أخذ بالنقصان السريع في بضع سنوات ، بينما كان يجري كالجبال لآلاف السنين ، وكان فيضان نهر دجلة والفرات يتكرر بين الفينة والآخرى.
ففي فيضان (186هـ-283) منع هارون الرشيد الناس من العبور إلى الجانب الغربي من بغداد ، وفي فيضان (1954) غرقت كثير من المزارع والطرق العامة وتعطلت المواصلات ، وأصاب أهل بغداد الذعر ، وهمت السلطات بنقل أهل الرصافة وعددهم (750) ألف نسمة إلى الكرخ لضعف وتآكل السدود وبدائية شبكة الري.
وأعرضوا عنه لأن أضرار هذا الإخلاء أكبر وأخطر لحدوث التزاحم على الجسرين وهما قديمان ، وانتشار السرقة والنهب.
إن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب) معجزة له في علوم الغيب ، ومن معاني كلمة (يوشك) أن الأمر ليس ببعيد ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
و(عن عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين على العدوّ لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)( ).
(وقال حذيفة اليماني : يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر)( ).
ولعل حذيفة سمع ما يقرب من هذا القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ضروب البلاء والشر .
و(عن أنس بن مالك قال: بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والأسود والأبيض، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم في خير تقرؤون كتاب الله وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح ، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها)( ).
ومعنى (يثقفونه) أي يعتنون بمخارج الحروف ، وتعدد القراءات والمباراة والتسابق فيه للسمعة والكسب المالي ، ولا يعتنون بأحكامه ، وما فيه من الأوامر والنواهي .
وعن الإمام (علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليأتينَّ على الناس زمان عَضُوض، يَعَضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل، وقد قال الله تعالى [وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ]( )، شرار يبايعون كل مضطر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغَرَر، فإن كان عندك خير فعُدْ به على أخيك، ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يَحْزُنه ولا يحرمه)( ).
وفيه بيان وتفسير نبوي ، ومن البيان في الحديث أعلاه الإخبار عن أيام قحط وعوز وفاقة ، سواء بحبس السماء الغيث أو بسبب أحوال سياسية وحروب ضروس ومهلكة ، أو حصار ونحوه ، يمر على الناس ، حتى أن المؤمن يقبض يده ، ولا يمد العون للمسلمين ، والله عز وجل يقول [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فاذا كان هذا حال المؤمن يومئذ ، فكيف أحوال غيره من الناس مما يعني كثرة السرقات والظلم والتعدي ، واتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآية أعلاه إنذاراً وتحذيراً وتبكيتاً للزوم التعاون والتكافل ، والترغيب فيه وفي ثوابه العظيم.
وهل يختص الإنذار في المقام بأهل ذات الزمان العضوض أي شديد الوطأة والفاقة ، الجواب لا ، فالإنذار النبوي هنا عام للصحابة والتابعين وأجيال المسلمين .
ولو توجهت أجيال المسلمين بالدعاء للأمن من الزمان العضوض ، ففيه وجوه :
الأول : لابد من وقوع الزمان العضوض القاسي لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عنه .
الثاني : تفضل الله عز وجل بالإستجابة للدعاء فيمحي هذا البلاء للإطلاق في قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث : تخفيف البلاء كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً وأثراً .
والمختار هو الثالث .
وقد ورد في الفلسفة قول مشهور (ما من عام إلا وقد خص) ويمكن القول بقانون عمومات القرآن المحفوظة أكثر من المخصوصة.
إذ يتبادر من القول أعلاه أن كل عام قد خص ، ولكن علوم القرآن أعظم .
ويتجلى العموم المطلق بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، و[اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )، و[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، ونحوها .
إنما يشمل التخصيص حال الناس ، كما مثلاً في قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( )، فالمسلمون يؤمنون بالقرآن والكتب السماوية السابقة.
نعم قد تأتي صيغة العموم في القرآن وليس معناها شمول كل شئ ، إنما المراد ما يدل عليه اللفظ بلحاظ قرائن الحال ، مثل قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]( )، فهذا النعاس لا يستمر إنما هو في ميدان معركة أحد ، ويتجلى بانكشاف الغمة ، وإنصراف المشركين ، قال تعالى [الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا]( ).
إحصاء التفسير النبوي
لقد فسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات كثيرة من القرآن في سنته القولية والفعلية والتقريرية والدفاعية والأسرية.
وينمي التفسير النبوي ملكة التقوى ، والصبر وحسن التوكل على الله في نفوس المسلمين .
وصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسر آيات القرآن كلها ، ولكن لابد من دراسات خاصة في إحصاء الآيات التي فسرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية ، وسيتبين بهذا الإحصاء شمول التفسير النبوي لمئات من آيات القرآن.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحُدّثْت عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ أَنّهُمْ ذَكَرُوا : أَنّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ.
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ . فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ ثُمّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوّرَتْ وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ)( ).
والحديث ضعيف سنداً للإرسال بين ابن إسحاق ورجال من بني سلمة بقوله (فحدثت) إلا أن يكونوا هؤلاء الرجال معاصرين له ، فيبقى ذات الإرسال بينهم وبين الصحابة من رهطهم أو غيرهم.
والظاهر أن المقصود رجال من بني سلمة من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروي الحديث عن ابن عباس( ).
المعجزة العقلية فريدة النبوة
لقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية ، كل نبي يأتي بمعجزة ويستشهد ويدعو بالمعجزة التي جاء بها الرسول قبله .
والمعجزات الحسية يراها الناس بأبصارهم عياناً من غير لبس ، ويدركون أنها أمر خارق للعادة وهل من تشابه بين معجزة اثنين أو أكثر من الأنبياء ، الجواب لا ، وهو من عظيم قدرة الله ، ولأن كل معجزة ملائمة لما يعتني به قوم النبي أو الرسول فقد أولى قوم فرعون عناية بالسحر ، فجاء موسى بالعصا آية من عند الله تلقف عصي السحرة وتبطل السحر.
مثل ناقة صالح وانتصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعارك بالمعجزة ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
واعتنى قوم عيسى بالطب فأيده الله عز وجل بشفاء الأمراض المستعصية ، واحياء عدد من الموتى .
وورد حكاية عنه في التنزيل [وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
والى الآن ومع إرتقاء الطب لم يتوصل إلى علاج لإعادة البصر للأكمه الذي وُلد أعمى ، وحتى إذا تم اكتشاف علاج له فليس من المعجزة الخارقة للعادة ، إنما هو من فضل الله في ارتقاء الطب ، وعمومات قوله تعالى [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
كثرة معجزات النبي محمد (ص)
لقد انفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب المعجزة بالمتعدد من المعجزات الحسية التي جاء بها ، ومنها :
الأولى : انشقاق القمر ، قال تعالى [اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ]( ).
الثانية : تسليم الحجر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أن يبعث .
و(عن جابر بن سمرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث ، وإني لأعرفه الآن .
عن علي عليه السلام قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليكم يا رسول الله)( ).
الثالثة : تسبيح الحصى في يده .
الرابعة : تكثير الطعام والشراب بدعائه .
الخامسة : سفاء المرضى بنفثه ودعائه .
السادسة : حنين جذع النخلة .
السابعة : تعدد نبع الماء بين أصابعه عند حاجة المسلمين لها .
اجتماع المعجزة العقلية والحسية في واقعة واحدة
وهذا مبحث مستحدث هنا لبيان تعدد أقسام المعجزة وبيان قسيم ثالث للمعجزة الحسية والعقلية ، وهو اجتماعها في واقعة وقضية واحدة ، وفيه وجوه .
الأول : المعجزة العقلية : وهو آيات القرآن ، قال تعالى [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثاني : المعجزة الحسية كسفينة نوح وناقة صالح ، وعصا موسى.
الثالث : إجتماع المعجزة الحسية الذاتية والغيرية والعقلية في موضوع وزمان متحد ، كما في قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
وفيه ثلاثة أقسام للمعجزة :
الأول : من الإعجاز العقلي ذات الآية القرآنية ، ونسبة الرمي إلى الله عز وجل .
الثاني : من المعجزة الحسية الذاتية قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برمي كف من الحصى وانتشاره وبلوغه أفراد جيش المشركين وعددهم نحو تسعمائة وخمسين رجلاً .
الثالث : المعجزة الحسية الغيرية بأن امتلأت عيون ومناخر جيش المشركين من هذه الرمية ، وقرارهم ، ويختص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الإجتماع .
(وقال السدى الكبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى يوم بدر : أعطني حصباء من الارض ، فناوله حصباء عليها تراب، فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله في ذلك فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى( ).
وعن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله الأنصاري (قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل على الناس .
فقال ما لكم قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك .
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة( ) فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا فقلت لجابر كم كنتم يومئذ قال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة)( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي نجاة أصحابه من الهلاك عطشاً أو تفرقهم في الوديان طلباً للماء ، وكانت خيل المشركين برئاسة خالد بن الوليد قريبة منهم ، مما يسهل عليه الإجهاز على المسلمين خاصة وأنهم لم يحملوا أسلحة ودروعاً معهم ، كما أن العطش يضعف الإنسان عن الدفاع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وقد صدر والحمد لله الجزء الواحد والخمسون بعد المائتين من هذا السِفر خاصاً بمئات المعجزات الحسية المستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وستصدر بخصوصه أجزاء أخرى إن شاء الله .
وقد خصّ الله عز وجل النبي محمداً بالمعجزة العقلية ، وهي الآية القرآنية ، فكل آية معجزة بذاتها ومعجزة بصلتها مع آيات القرآن الأخرى ، وفي دلالتها والمقاصد السامية من تنزيلها هذه المقاصد الغضة والحية في كل زمان ، لملائمتها لأحوال الناس ، ليكون من إعجاز كلمات القرآن المحدودة إحاطتها باللامحدود من الوقائع والأحداث .
وأظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تفسيره شذرات من إعجاز القرآن ، ودعا العلماء إلى الغوص في بحار كنوزه وذخائره.
الإستغفار في مدرسة النبوة
الحمد لله الذي فتح لنا باب الإستغفار برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن ، قال تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ مائَةَ مَرَّةٍ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ” فهذا معنى قوله [وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ]( )، وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان ، الثقيلتين في الميزان)( ).
ليبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ختم العبد يومه بالإستغفار سبب لمغفرة ذنوبه في أيام حياته كلها ، وهو فضل وعطاء عظيم لا يهبه ، ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
ومن الآيات أن الأنبياء كانوا يستغفرون لأنفسهم مع عصمتهم وتنزههم عن الظلم والتعدي لقانون الملازمة بين النبوة والإستغفار ، وقانون ملازمة الإستغفار الناس .
وأول من استغفر هو آدم وحواء مجتمعين ، وفي التنزيل [رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ]( )، وفيه ترغيب لكل زوجين بالإشتراك في الإستغفار ليكون واقية وزاجراً عن الفعل القبيح ، ومن فضل الله قانون سرعة استجابة الإستغفار ، إذ قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( )، وورد على لسان يونس عليه السلام ، وهو في بطن الحوت [لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورود أحاديث عديدة بخصوص دعاء يونس ولزوم إنتفاع المسلمين منه ، واتخاذه سلاحاً ومنها (عن أنس رفعه : أن يونس حين بدا له أن يدعو الله بالكلمات حين ناداه في بطن الحوت قال : اللهم [لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]( ) فأقبلت الدعوة تحف بالعرش.
فقالت الملائكة : هذا صوت ضعيف معروف في بلاد غريبة .
فقال : أما تعرفون ذلك .
قالوا( ) : يا رب ، ومن هو؟ قال : ذاك عبدي يونس . قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوه مجابة .
قال : نعم . قالوا : يا رب ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء .
قال : بلى . فأمر الحوت فطرحه بالعراء فأنبت الله عليه اليقطينة .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر ، عن الإمام علي (عليه السلام) مرفوعاً : ليس لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى ، سبح الله في الظلمات ( ).
وعن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت [لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]( ) لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له.
وأخرج ابن جرير عن سعد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اسم الله الذي دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى . قلت : يا رسول الله ، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال : هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله [وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ]( )، فهو شرط من الله لمن دعاه)( ).
ويدل تسبيح يونس وهو في بطن الحوت على ثباته على الإيمان وتنزيه مقام الربوبية ، وعدم اليأس من روح الله ، واختلف في مدة لبثه في بطن الحوت هل هي ، ثلاثة أيام ، أو سبعة ، أو عشرون يوماً ، أو اربعون يوماً.
وفي رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام (قال: لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام)( )، وبه قال مقاتل بن حيان.
ومن استجابة الله عز وجل لدعائه قيام الحوت بالدنو من الساحل ، ثم قذفه فالقاه بالساحل ، فلو قذفه في البحر لعجز عن السباحة ولهلك خاصة مع ضعف بدنه ، ورقة جلده ، وكان يونس منقطعاً إلى التسبيح في الليل والنهار ، وسماه الله عز وجل ذا النون بقوله تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا]( ).
إذ بعث الله عز وجل يونس بن متَّى إلى قرية نينوى بارض الموصل ، فاجتهد في دعوتهم إلى الله فلم يستجيبوا له وأصروا على الإقامة على الكفر فتوعدهم بالعذاب بعد ثلاث وخرج مغاضباً لهم.
صلاة النبي (ص) يوم الجمعة
قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
قيل كان يوم الجمعة يسمى عند العرب يوم العَروبة ، وسمي في الإسلام يوم الجمعة ، والمختار أن تسمية الجمعة سابقة لنزول القرآن ، لقوله تعالى [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
إذ ورد ذكر يوم الجمعة في القرآن ، بذات الاسم للدلالة على سبق التسمية على النزول .
وقيل أن جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ أَوّلُ مَنْ جَمَعَ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ وَلَمْ تُسَمّ الْعَرُوبَةُ الْجُمُعَةَ إلّا مُنْذُ جَاءَ الْإِسْلَامُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ هُوَ أَوّلُ مَنْ سَمّاهَا الْجُمُعَةَ فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَخْطُبُهُمْ وَيُذَكّرُهُمْ بِمَبْعَثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُعْلِمُهُمْ أَنّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَيَنْشُدُ فِي هَذَا أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ
يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ … إذَا قُرَيْشٌ تُبَغّي الْحَقّ خِذْلَانًا)( ).
وسورة الجمعة مدنية أي أنها نزلت بعد الهجرة النبوية ، وهذا لا يمنع من فرض صلاة الجمعة قبل الهجرة .
ولم يستطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقامة الجمعة في مكة لقاعدة تقديم الأهم وهو سلامته وأصحابه من بطش قريش ، ولكنه كتب وهو في مكة باقامتها في المدينة .
وبالإسناد (عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ أَذِنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُجَمّعَ بِمَكّةَ وَلَا يُبْدِيَ لَهُمْ فَكَتَبَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ.
أَمّا بَعْدُ فَانْظُرْ الْيَوْمَ الّذِي تَجْهَرُ فِيهِ الْيَهُودُ بِالزّبُورِ لِسَبْتِهِمْ فَاجْمَعُوا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَإِذَا مَالَ النّهَارُ عَنْ شَطْرِهِ عِنْدَ الزّوَالِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَقَرّبُوا إلَى اللّهِ بِرَكْعَتَيْنِ قَالَ فَأَوّلُ مَنْ جَمّعَ : مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ)( ).
ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أقام صلاة الجمعة عند الزوال وأظهر صلاة الجمعة .
وهل إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الجمعة وبنائه المسجد النبوي من أسباب غيظ وحنق قريش وهجومهم في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، المختار نعم.
قانون تنزه النبي (ص) عن الغلو بشخصه
لقد جعل الله عز وجل النبي محمداً سيد البشرية ، وخاتم النبيين وهو لا ينطق إلا عن الوحي وباذن من الله عز وجل سواء في العبادات أو المعاملات أو الأحكام أو سوح الدفاع.
ويبين كل من القرآن والسنة النبوية عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخالصة لله عز وجل ، ويمنعان من الغلو في شخصه ، وفي التنزيل [قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
والآية أعلاه تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ خصه بعدم العلم بالغيب في أمور عديدة ، وقد تضمنت آية أخرى نفي علم الخلائق كلها بالغيب بقوله تعالى [قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ]( ) والتخصيص في آيات أخرى.
مما يدل على الشأن العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند المسلمين والناس جميعاً ، ولمنع الغلو في شخصه ، وتوجيه الأسئلة في المغيبات له ، وقد تجلى مصداق الآية باخبار القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن عدم علمه بأوان الساعة .
و(عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال [عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ]( )، ولكن أخبركم بمشاريطها ، وما يكون بين يديها ، إن بين يديها فتنة وهرجا . قالوا : يا رسول الله الفتنة قد عرفناها الهرج ما هو؟ قال : بلسان الحبشة القتل ، فعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأشراط الساعة من الغيب الذي أطلعه الله عليه.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة وأنا شاهد فقال : لا يعلمها إلا الله ولا يجليها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم بمشاريطها ما بين يديها من الفتن والهرج .
فقال رجل : وما الهرج يا رسول الله .
قال : بلسان الحبشة القتل ، وأن تجف قلوب الناس ، ويلقي بينهم التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحداً ، ويرفع ذو الحجا ويبقى رجراجة( ) من الناس ، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)( ).
وفي قصة يوسف عليه السلام شواهد متعددة عن عدم علم الأنبياء بالغيب ، فلو يعلم يعقوب أن أبناءه سيلقون يوسف في الجب لما أرسله معهم ، إلا أن يقال أنه يعرف عواقب الأمر وأن يوسف سيتولى الوزارة في مصر وتكون به نجاة الناس من المجاعة ولا دليل عليه .
ولم يعلم يوسف عليه السلام سني الجدب والخصب إلا بتأويل رؤيا غلام فرعون ، كما ورد في التنزيل [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ]( ).
لبيان أن إجابة الأنبياء عن أوان الساعة واحدة ، وإن تباعدت أزمنة بعثتهم .
ويبين قوله تعالى [وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ]( )، تطامن وخشوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل ، وإعلانه عدم علمه بحوادث الأيام ، وتصاريف الدهر ومصائبه ، ونوائبه ، إنما هي من علم الله ، ولا يحيط بها غيره إلا أن يشاء الله في بعض الأمور ومنها ما أخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المغيبات وعلامات آخر الزمان بما يكفي للحيطة والحذر والتقيد بسنن التقوى ، كما في قوله تعالى [إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( ).
ليستعد الصحابة للحوادث وعدم الركون إلى الراحة ، إذ يخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم علمه بمقاصد ونوايا المشركين من إرادة الهجوم على المدينة ، وأوان هذا الهجوم ، وسعيهم لإغتياله إلا بما أطلعه الله عليه.
ليكون من معاني الآية أعلاه من سورة الأعراف دعوة أهل البيت والصحابة للحرص على سلامة النبي والمحافظة على آيات القرآن ، وجعلها تركة للتابعين وفي الآية تأديب للناس من القول بالمغيبات والإخبار عن حوادث الزمان ، وتصرف الأقدار ومجرى الحوادث الكونية .
وتبين الآية معجزة يومية متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مع عدم علمه بالغيب يدعو ويتطلع إلى فضل الله ، وكان أحياناً ينفق في اليوم مائتي ألف ثم يأتي المساء وليس في بيوت النبي نار وموقد ، أي يبتون بلا عشاء.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قال: إن الله يقول في كتابه [وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ]( )، يعني الفقر)( ).
وفي الآية تأديب لعلماء الإسلام وغيرهم من أهل الملل والنحل باجتناب الإخبار عن المغيبات وتصاريف الدهر ، كما أنها تمنع المسلمين والمسلمات من الإنصات إلى الكهنة والسحرة وقراء الطالع والمتنبئ بالمستقبل والأبراج الفلكية ونحوها مما لا أصل له ، وفيها تحذير من الذين يدعون العلم بالغيب ، وأحوال الناس في المستقبل.
ومن إعجاز القرآن تعضيد آياته بعضها لبعض ، قال تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ما يلقاه في قادم الأيام فمن باب الأولوية أنه لا يعلم ما يصيب الناس لمنع الصحابة وغيرهم من سؤال النبي عن أحوالهم المستقبلية ، وأرزاقهم.
وسأل يحيى بن عبد الله الإمام موسى بن جعفر عليه السلام (جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب، فقال: سبحان الله ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت شعرة فيه ولا في جسدي إلا قامت، ثم قال: لا والله ما هي إلا وراثة عن رسول لله صلى الله عليه وآله)( ).
وفي حديث للإمام علي عليه السلام (وإنما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ] الآية( )، فيعلم سبحانه ما في الارحام من ذكر أو أنثى أو قبيح أو جميل أو سخي أو بخيل أو شقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد( ) إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي)( ).
أي أن قوله تعالى [وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ]( )، لا ينحصر بجنس الحمل وهل هو ذكر أم أنثى والذي صار الطب الحديث يقرأه ، إنما تفصيل حياة المولود ، وسنخيته ، وأخلاقه ، وعاقبته.
الصادق الأمين
من بديع صنع الله عز وجل تفضله بتهيئة مقدمات الآية والبرهان بآية أخرى سابقة لها ، كما تترشح عنها الآيات الكثيرة ، ومن مقدمات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسُمى (الصادق الأمين).
وصحيح أنه لم يرد هذا الوصف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث مرفوع ينسب إليه ولكنه أمر ظاهر من الأخبار والدلائل مما سبق الدعوة الإسلامية وما بعدها ، ومنه :
الأولى : في قوله تعالى [وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ]( ).
(قال مقاتل : نزلت في أبي جهل وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو جهل : والله إني لأعلم أنه لصادق ، فقال له مه وما دلك على ذلك.
قال : يا أبا عبد شمس كنا نسميه في صباه الصادق الأمين فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن والله إني لأعلم أنه لصادق.
قال : فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به ؟ قال : تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة واللات والعزى إن اتبعته أبدا فنزلت وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ( ).
الثانية : إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحجة على رؤساء قريش باقرارهم بأنه (الصادق الأمين).
و(عن ابن عباس قال : لما نزلت [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( )، ورهطك منهم المخلصين خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه .
فقالوا من هذا الذي يهتف، قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ.
قالوا : نعم . ما جربنا عليك إلا صدقاً قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .
فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ، فنزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ( ).
وعندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سن الخامسة والثلاثين اجتمعت قريش على إعادة بناء الكعبة ، وكانوا يترددون في هدم بناء الكعبة هيبة ، أرادوا تسقيفها لقيام نفر بسرقة كنز الكعبة الذي كان في بئر في جوف الكعبة ، ووجدوه عند شخص اسمه (دويك) مولى بني مليح من خزاعة .
وقيل أن الذين سرقوه وضعوه عنده .
وقال ابن إسحاق (وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة، لرجل من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم، في أنفسهم بعض ما يصلحها)( ).
والمشهور أن ميناء جدة أنشئ في أيام عثمان بن عفان سنة 26 هجرية 646م، وكان قبله ميناء الشعيبة .
ويدل قول ابن إسحاق أعلاه على قدم ميناء جدة وأنه سابق للإسلام ، وبه قال جمع ، قال المغيرة بن عبد الله من بني مخزوم وكان أسن القوم (يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس)( ).
لبيان أن العرب يدركون حرمة وقبح الربا قبل الإسلام.
وقامت قريش بتقسيم أركان وأضلاع الكعبة على القبائل ، وهو أمر غير صحيح إذ أن البيت الحرام لله وحده ، وفيه شاهد على حاجة مكة ودور العبادة إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتفضل الله باظهارها وتحقق الغلبة على مشركي قريش ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
وقال ابن إسحاق (ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي، وهو الحَطيم)( ).
وعندما أكملت قريش بناء جدران وأركان الكعبة وسقفها ، اختصموا فيمن يرفع الحجر الأسود إلى موضعه ، كل قبيلة تريد أن تكون هي التي ترفعه ، وكاد يحدث بينهم قتال ، فاقترح عليهم المغيرة بن عبد الله وهو أسن قريش يومئذ (يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم ، فيه.
ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هَلُمَّ إليَّ ثوبًا ، فأتي به، فأخذ الركن -يعني الحجر الأسود-فوضعه فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب.
ثم قال : ارفعوه جميعا ، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه)( ).
ليكون هذا العمل بشارة إمامته للناس ، ورضاهم بها .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معروفاً بالأمانة في عمله في التجارة ، وهو من أسباب زواجه من خديجة ذات المال والعفة والشرف.
لتكون صفة الأمن والصدق عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة على قريش وغيرهم في إعلان رسالته ، وهو الأمر الذي التفت إليه هرقل الروم حينما جاءه دحية الكلبي بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ أحضر قيصر رجالاً من قريش كانوا في الشام ومنهم أبو سفيان بن حرب .
و(عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوهم وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم به نسبا فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فأجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب.
قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ، قلت لا ، قال فهل كان من آبائه من ملك ، قلت لا ، قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ، قلت بل ضعفاؤهم .
قال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون ، قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ، قلت لا ، قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، قلت لا ، قال فهل يغدر قلت لا)( ).
ويدل الحديث على أن قريشاً لم يعهدوا من النبي محمد منذ أيام صباه إلا الصدق والأمانة ، وهل هذا الخبر من العلامات والدلائل التي تدل على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وبعدها ، الجواب نعم.
حديث (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
من إعجاز القرآن نزوله بوجوب الأخلاق الحميدة في باب العبادات والمعاملات اليومية والأحكام ، وليس من كتاب يتضمن الخلق الحميد مثل القرآن ، ولا كتاب أنشأ الخلق الحميد في نفوس الناس مثله ، وهو من مصاديق كون القرآن معجزة عقلية بالنفع العام لآياته في إصلاح المجتمعات ، وهو من أسرار امتناع القرآن عن التحريف والزيادة والنقصان.
نعم يتجلى قانون كل كتاب سماوي نزل بالأخلاق الحميدة والبعث على فعل الصالحات ، وقانون كل نبي هو إمام في الخلق الحميد وصالح الأفعال.
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترجماناً لآيات الصبر والتقوى والعدل والتهذيب والمبادرة إلى عمل الصالحات.
ورد في الحديث (عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وتمام محاسن الأفعال)( ).
وورد في الحديث المشهور عند كل مذاهب المسلمين (بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق)( ).
ويبين الحديث صيغة الإطلاق في قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، ومن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأديب الله عز وجل له كما ورد في الحديث الضعيف (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي)( ).
لتتوالى آيات القرآن التي تهدي الى الخلق الحميد ، وتصلح للإمامة في محاسن الأفعال ، ويدل عليه قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
وقيل (وقد أجمل صلى الله عليه وسلم البعثة كلها في مكارم الأخلاق في قوله صلى الله عليه وسلم : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وأن الأخلاق هي البعثة).
ولكن النسبة بين تجليات وأفراد البعثة النبوية وبين مكارم الأخلاق عموم وخصوص مطلق ، فالأخلاق الحسنة فرد من الفروع الكثيرة والمتشعبة للرسالة اللامتناهية للرسالة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والتوحيد وأداء الفرائض العبادية أعم من الخلق الحسن ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
و(عن معاذ بن جبل قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقدمت به راحلته ، ثم إن راحلتي لحقت براحلته حتى تصحب ركبتي ركبته ، فقلت : يا رسول الله ، إني أريد أن أسألك عن أمر يمنعني مكان هذه الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]( ).
قال : ما هو يا معاذ؟ قلت : ما العمل الذي يدخلني الجنة وينجيني من النار؟ قال : قد سألت عن عظيم وإنه يسير ، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة ، وايتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروته؟ أما رأس الأمر فالإسلام ، وعموده الصلاة ، وأما ذروته فالجهاد.
ثم قال : الصيام جنة ، والصدقة تكفر الخطايا ، وقيام الليل ، وقرأ [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ] إلى آخر الآية( ).
ثم قال : ألا أنبئكم ما هو أملك بالناس من ذلك؟ ثم أخرج لسانه فأمسكه بين أصبعيه.
فقلت : يا رسول الله ، أكل ما نتكلم به يكتب علينا؟ قال : ثكلتك أمك ،وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ إنك لن تزال سالماً ما أمسكت ، فإذا تكلمت كتب عليك أو لك)( ).
ويتجلى قانون تعاضد القرآن والسنة في إنشاء أسس الخلق الحميد العام ، ومحاسن العادات ، وتهذيب النفوس ، وإصلاح المجتمعات ، كما تتعاضد آيات القرآن بهذا الخصوص ، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم قراءة القرآن في الصلوات اليومية الخمسة.
حديث (لتأخُذوا عني مناسككم)
هذا حديث صحيح قاله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يرمي جمرة العقبة في حجة الوداع وفي اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، ويسمى يوم النحر وهو أول أيام عيد الأضحى .
ذكره جابر بن عبد الله الأنصاري (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)( ).
ويتوجه خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا إلى أصحابه والتابعين وأجيال المسلمين المتعاقبة جيلاً بعد جيل ، وفيه مسائل :
الأولى : حاجة المسلم إلى التفقه في الدين .
الثانية : ضبط مناسك الحج .
الثالثة : تقدير قوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ]( )، فاذا قضيتم مناسككم كما قضاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الحديث أعلاه مثل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني اصلي)( ).
لبيان مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، ومنه أحكام الفرائض والعبادات ، وهل كل ما فعله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجته واجب لابد من اتيانه ، أم فيه مندوب .
المختار هو الثاني ، والأصل هو الوجوب إلا مع القرينة الصارفة كما أن فيه الرخصة ، ومن الواجب السعي بين الصفا والمروة.
و(عن حبيبة بنت أبي بحران قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره ، وهو يقول : اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)( ).
والسعي بين الصفا والمروة بالإبتداء من الصفا ركن من أركان كل من العمرة والحج ، وقال أبو حنيفة إنه واجب وليس بركن ، فمن تركه كفّر بدم ، أي بذبح شاة أو بقرة أو ناقة .
والمستحب الموالاة بين الطواف وصلاة ركعتي الطواف والسعي بين الصفا والمروة .
الخامسة : منع الإختلاف والخصومة وتعدد المذاهب والأقوال سواء في أحكام الحج ، أو عند أداء المسلمين للمناسك أيام الموسم وأيهما أكثر ضرراً في المقام الإختلاف المذهبي في المناسك وإختلاف وفد الحاج أثناء أداء المناسك ، الجواب هو الثاني .
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قطعه لوجهي الخلاف أعلاه وغيرهما ، ليكون من معاني قوله تعالى [لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ]( )، بتقريب أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لتأخُذوا عني مناسككم) فهي من الوحي .
ليكون من وجوه تقدير الآية : ولكن الله ألف بينهم بالقرآن والوحي والسنة النبوية ، ليكون قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لتأخُذوا عني مناسككم)( )، قانوناً حاضراً وفي كل موسم ، وكذا بالنسبة للفرائض العبادية الأخرى.
بيان أحكام الحج
لقد بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحكام الحج في حجة الوداع بالقول والفتوى والسنة الفعلية ، وهو من أسرار ندبه الناس للحج معه وحضور نحو مائة ألف من المسلمين أداء المناسك.
و(عن عروة بن مُضَرِّس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جَبَليْ طيئ، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حَج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من شَهِد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حَجّه، وقضى تَفَثَه)( ).
لبيان أن المناسك في الديار المقدسة إنما قطع المسافة والطريق مقدمة عقلية.
وعن الإمام الصادق عن أبيه الباقر عليه السلام (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِى أَهْلَ بَيْتِى . قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى ذَرٍّ وَأَبِى سَعِيدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ)( ).
إذ ورد ذات الحديث عن زيد بن أرقم من غير أن يذكر بأنه في حجة الوداع قال (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنِّى تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِى أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ وَعِتْرَتِى أَهْلُ بَيْتِى وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِى فِيهِمَا)( ).
وفي المرسل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (خطب رسول الله في مسجد الخيف : نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم يبلغه، يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، و النصيحة لائمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم المؤمنون إخوة تتكافئ ، دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم)( ).
ونضر الله أي نَعَمه وأصلح حاله ، من النضارة ، وهي في الأصل حسن الوجه .
أي إذا أعطى أحد المسلمين أو المسلمات أماناً لحربي مقاتل للمسلمين ، جاز أمانه على جميع المسلمين سواء كان المجيز حراً أو عبداً ، رجلاً أو امرأة.
وقال أبو حنيفة : لا يجوز أمان العبد إلا أن يأذن له مولاه بالقتال( ).
ولكنه خلاف إطلاق الحديث والمشهور ، والمسألة ليست ابتلائية مع إنقطاع عصر العبيد ، وتبدل قواعد الإشتباك بلحاظ الاوطان ، نسأل الله إنحسار ومحو القتال وأسلحته الفتاكة.
وهذا الإنقطاع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، للآيات والنصوص الواردة بالندب إلى العتق والحرية ، قال تعالى في الحنث في اليمين[فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
و(عن أبي عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً أطاقه فليوف به)( ).
صفة نار جهنم في الحديث النبوي
لقد أخبر الله عز وجل عن بعثة النبي محمد رسولاً إلى الناس جميعاً بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، ومن وظائف رسالته البشارة والإنذار ، وليس من حصر لأفراد كل منهما ، وأيهما أكثر البشارة والإنذار في أمور الدنيا أم أحوال الآخرة ، الجواب هو الثاني ، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ]( ).
وقد وردت نصوص نبوية تفسيراً لآيات الإنذار وشدة حرارتها ، وحلول الكفار والظالمين فيها ، بما يبعث على تنمية ملكة التدبر عند الناس ، وعلى التوبة والإنابة.
ومن الإعجاز في السنة النبوية بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفة وشدة حرارة النار والأذى الذي يلاقيه أصحابها مع استشهاده بآيات القرآن.
ومنها ما ورد عن أبي الدرداء (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون بالطعام.
فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة.
فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد ، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم ، وإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم.
فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيدعون خزنة جهنم إن [ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ]( )، فيقولون [أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ]( ).
فيقولون ادعوا مالكاً فيقولون [يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ]( )، فيجيبهم [إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ]( )، فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم ، فيقولون [رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ]( )، فيجيبهم [اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ]( )، فعند ذلك يئسوا من كل خير ، وعند ذلك أخذوا في الزفير والحسرة والويل)( ).
لبيان بديع صنع الله بأن جعل الحياة الدنيا تتصف بأمور :
الأول : الدنيا دار العمل لها وللآخرة .
الثاني : الدنيا دار الأماني والأمل القريب والبعيد .
وجعل الله التصور الذهني للإنسان يفوق واقعه بمراتب كثيرة ، ففتح له باب الدعاء لتحقيق الرغائب ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه عدم انتفاع الكفار من دعائهم في الآخرة .
الثالث : الدنيا دار التوبة والإنابة ، والسلامة من الحسرة والخيبة ، قال تعالى [لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ]( ).
الرابع : في الدنيا ينتفع البر والفاجر من رزق الله والنعم التي تترى على الناس ، أما في الآخرة فتختص النعم بأهل الجنان ، ويحرم منها أهل النار ليجتمع الزفير والحسرة والويل عند الكفار ، وفي قوله تعالى [عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ]( )، بخصوص النار.
ورد (عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( )، أي تسعة عشر ملكاً خزنة جهنم .
والآية أعلاه من سورة المدثر ، وهي من أوائل سور القرآن نزولاً في مكة ، لذا ورد (عن ابن عباس قال : لما سمع أبو جهل [عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ]( ) قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ، فأوحى الله إلى نبيه أن يأتي أبا جهل فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى( ).
ولابد أن ابن عباس سمع سبب نزول الآية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الصحابة لأنه عند نزول آية المدثر لم يولد بعد ، إذ أنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات ، وتوفى سنة 68 للهجرة.
والجمع بين هذا الحديث وحديث البراء أعلاه أن قريشاً كانوا يسألون اليهود عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الصداقة في الحديث النبوي
من أهم ما يميز أيام الصبا والشباب الصداقة مع الغير ، قريباً كان أو بعيداً ، بتوافق تام أو على نحو الموجبة الجزئية أو من غير توافق .
وقد ذكر القرآن الأخلاء وأنهم يحضرون يوم القيامة ، وآخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين كل اثنين من أصحابه من المهاجرين والأنصار لتكون هذه المؤاخاة نواة وأسوة لأجيال المسلمين ، باتخاذ السلم خليلاً يتصف بالإيمان ، وبعد أن أخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه.
قال الإمام علي عليه السلام (يا رسول الله ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت ما فعلت بأصحابك غيري ، فإن كان من سخط علي ، فلك العتبى والكرامة .
فقال : والذي بعثني بالحق ، ما أخرتك إلا لنفسي فأنت عندي بمنزلة هارون من موسى ووارثي .
فقال : يا رسول الله ، ما أرث منك .
قال : ما ورثت الأنبياء .
قال : وما ورثت الأنبياء قبلك ، قال : كتاب الله وسنة نبيهم ، وأنت معي في قصري في الجنة ، مع فاطمة ابنتي وأنت أخي ورفيقي ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية [إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( )، الاخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض)( ).
ومن خصائص اتصاف الخليل بالإيمان التعضيد في طاعة الله ، واتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حبل الصلة بين الأخوة.
و(عن سعد بن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام ، وقلت الأنساب ، وذهبت الأخوّة ، إلا الأخوة في الله وذلك قوله [الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ]( ).
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، عن مجاهد [الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ]( ) قال : معصية الله في الدنيا متعادين .
وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة [الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ]( ) قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : الأخلاء أربعة مؤمنان وكافران ، فمات أحد المؤمنين ، فسئل عن خليله.
فقال : اللهم لم أر خليلاً آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر منه ، اللهم اهده كما هديتني ، وأمته على ما أمتني عليه.
ومات أحد الكافرين ، فسئل عن خليله؟ فقال : اللهم لم أر خليلاً آمَرَ بمنكر منه ولا أنهى عن معروف منه ، اللهم أضله كما أضللتني وأمته على ما أمتني عليه قال : ثم يبعثون يوم القيامة ، فقال : ليثن بعضكم على بعض.
فاما المؤمنان ، فاثنى كل واحد منهما على صاحبه كأحسن الثناء.
وأما الكافران ، فأثنى كل واحد منهما على صاحبه كأقبح الثناء)( ).
وبيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقارنة في سنخية الجلساء وما يتصفون به ، مع الترغيب بالجليس الصالح الذي يأمر بالمعروف ويمتنع عن الغيبة والنميمة ، وينهى عن المنكر.
وفي (حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة .
وعن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير ؟ قال : من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله)( ).
النسبة المنطقية بين الحديث والتفسير النبوي
قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
والنسبة بين الحديث النبوي وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن هو العموم والخصوص المطلق ، فالحديث النبوي أعم ويشمل أحكام العبادات والمعاملات والأحكام .
وقد ورد (عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسول الله صلى عليه وسلم يوماً كالمودع فقال : أنا محمد النبي الأمي ، أنا محمد النبي الأمي ، أنا محمد النبي الأمي ، ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، وعلمت خزنة النار وحملة العرش.
فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذهب بي فعليكم كتاب الله ، أحلوا حلاله وحرِّموا حرامه)( ).
كما ورد (عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لكم فرط وإنكم واردون عليّ الحوض ، فانظروا تخلفوني في الثقلين قيل : وما الثقلان يا رسول الله .
قال : الأكبر كتاب الله عز وجل . سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به لن تزالوا ولا تضلوا.
والأصغر عترتي وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما لتهلكوا ، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم)( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)( )، أي السنة بالوحي.
وهناك مسألتان :
الأولى : ما هي النسبة المنطقية بين الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن التي عددها (6236) آية .
الثانية : ما هي النسبة المنطقية بين الحديث النبوي وتفسير النبي (ص) للقرآن.
والجواب عن المسألة الأولى هو العموم والخصوص المطلق ، فالوحي أعم ، ومنه السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية .
وأما المسألة الثانية فان النسبة هي العموم والخصوص المطلق وأن الحديث النبوي أعم من تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
نعم ليس من حديث نبوي إلا وتجد له أصلاً في آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وفيه بعث للعلماء لدراسة السنة النبوية ، دراسة جديدة ملاكها ذكر كل حديث نبوي وما يقابله من الأصل في القرآن بآية أو آيتين أو آيات عديدة.
قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( )، لبيان قانون أقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع القرآن ومرآة لآياته ، وقانون إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن دستوراً وقوانين تضبط عالم الحكم والأفعال .
وقد تجتمع السنة مع الآية القرآنية في موضوع متحد ومع الفصل الواضح بينهما .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (إن رسول الله صلى الله عليه واله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس ، نزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك إلا علي عليه السلام فدعا رسول الله صلى الله عليه واله عليا فأمره أن يركب ناقته العضباء ، وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة ويقرأه على الناس بمكة .
فقال أبو بكر : أسخطة ، فقال : لا ، إلا أنه انزل عليه أنه لا يبلغ إلا رجل منك فلما قدم علي عليه السلام مكة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الاكبر .
قام ثم قال: إني رسول رسول الله إليكم فقرأها عليهم [بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ]( )، عشرين من ذي الحجة، والمحرم ، وصفر، وشهر ربيع الاول، وعشرا من ربيع الآخر .
وقال: لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك، ألا من كان له عهد عند رسول الله، فمدته إلى هذه الاربعة الاشهر.
وفي خبر محمد بن مسلم: فقال: يا علي هل نزل في شئ منذ فارقت رسول الله ؟ قال: لا ولكن أبى الله أن يبلغ عن محمد إلا رجل منه، فوافى الموسم فبلغ عن الله وعن رسوله بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار، وفي أيام التشريق، كلها ينادي [بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ]( ) ولا يطوفن بالبيت عريان)( ).
و(عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً وأمره أن ينادي بها ، فانطلقا فحجا فقام علي في أيام التشريق فنادى أن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يَحُجَّنَّ بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، فكان علي ينادي بها)( ).
آيات الخلق الحميد للنبي (ص)
لقد وردت آيات عديدة في الثناء على أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته الحسنة ، وفيه تحد متجدد في كل زمان بعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزهه عن الفعل المذموم أو القبيح.
لقد اثنى الله عز وجل على النبي بقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وتتضمن هذه الآية التأكيد مرتين :
الأولى : حرف (إن) الذي يفيد التوكيد .
الثانية : اللام في (لعلى).
وآيات الخلق الحميد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة ، منها آيات (قل) هذا الأمر الذي توجه في القرآن (328) مرة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتبعه أجيال المسلمين إلا ما ورد الدليل على إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ومن الخطابات الخاصة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ]( )، ومنها [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ]( ).
والأصل في خطابات (قل) شمول الأمة باجيالها بالأمر إلا ما ورد به الدليل ، وقد لا يتعدى عدد الأصابع .
ومن الآيات التي تدل على الخلق الحميد للنبي محمد :
الأولى : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لتشمل مصاديق الرحمة وجوهاً :
الأول : آيات القرآن .
الثاني : السنة النبوية القولية .
الثالث : السنة النبوية الفعلية .
الرابع : تفسير العلماء لآيات القرآن واستنباط المسائل والأحكام والقوانين منها ، ومن فضل الله عز وجل تضمن تفسيري هذا إلى الآن أكثر من (خمسة عشر ألف قانون) ، وكل قانون مفتاح للعلم ، ومدرسة في التحقيق والموعظة .
الخامس : عمل المسلمين بأحكام القرآن ، وأداؤهم الفرائض العبادية ، وحرصهم على الأخلاق الحميدة .
السادس : إقتداء المسلمين بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ) ( ).
استقراء الخلق الحميد من سورة الفاتحة
من خصائص الآية القرآنية أن لها منطوقاً ومفهوماً ، ودلالات متعددة ، لذا فرض الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من الركعات السبع عشرة في الصلاة اليومية ، وكل آية من سورة الفاتحة تدعو إلى الأخلاق الحميدة ، وتهدي إليها وهي :
الأولى : قانون البسملة مدد
في البسملة توكل على الله ، وتنزيه للجوارح وعالم الأفعال ، وهي فاتحة خير وبركة ونماء ، وتتجلى معاني الرحمة في آية البسملة فمع قلة كلماتها فانها تجمع ثلاثة أسماء من الأسماء الحسنى ، مع ورود الرحمن صفة لله عز وجل وأن الله عز وجل رحمن بكل الخلائق.
وقيل أن اسم الرحمن عام يشمل الخلائق والناس جميعاً في الدنيا ، أما الرحيم فهو عام الاسم خاص الفعل ، إذ يختص بالمؤمنين في الدنيا والآخرة ، ويستدل عليه بقوله تعالى [وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا]( ).
ليفوز المؤمنون بالإنتفاع العظيم من اسم الرحمن في الدنيا ، ومن اسم الرحيم في الدنيا والآخرة ، أما المشركون فانهم ينتفعون من اسم الرحمن في الدنيا ، وتأتيهم الطيبات وتتوالى عليهم النعم ولكنهم لا ينتفعون من صفة الرحيم في الدنيا ، ولا ينتفعون في الآخرة من اسم الرحمن واسم الرحيم ، حيث يسألون يوم القيامة عن تلك النعم ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
وورد (عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال : عن شبابه فيما أبلاه.
وعن عمره فيما أفناه .
وعن ماله من أين كسبه ، وفيما أنفقه .
وما عمِلَ فيما علم)( ).
لبيان التفصيل في المساءلة يوم القيامة وحبس المشركين للحساب وإحصاء أعمال بني آدم وحضورها يوم القيامة .
وفيه بيان نبوي لآيات القرآن ، وكشف لعالم الغيب ويوم القيامة.
ومن معاني قوله تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( )، سؤال الناس يوم القيامة عن :
الأول : شهادة التوحيد : لا إله إلا الله .
الثاني : عما دعوا إليه من بدعة ، رواه أنس مرفوعاً.
الثالث : عن ولاية علي بن أبي طالب ، حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري)( ).
ولم يرد لفظ (قفوهم) (مسئولون) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وظاهر نظم الآيات أن هذه الآية خاصة بالمشركين .
وهل يمكن تسمية هذه الآية آية الحبس ، كما ذهب إلى معنى الحبس عدد من المفسرين ، الجواب لا ، فالذي يحبس يترك ولا يعمل في السجن في الغالب .
أما معنى (قفوهم) فهو للحساب وعدم وجود ترك أو إهمال للعبد في مواطن الحساب يوم القيامة ، فحالما يوقف الملائكة المشرك تأتيه الأسئلة وهو في طريقه إلى جهنم ، لبيان أنه حساب إضافي ، وإقامة للحجة عليه.
ترى لماذا جاءت الآية بصيغة الجمع ، الجواب لوجود آثام ومعاصي وتآزر على الكفر ، وتابع ومتبوع ، وآمر ومأمور فيه ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، قال تعالى إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ* وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من البسملة في حديثه ، ويبدأ بها عمله ، كما كان يذكر اسم الرحمن واسم الرحيم.
وذات النطق بالبسملة فضيلة ورفعة وعز ولجوء إلى الله عز وجل ، وتفويض عالم الفعل له ، وتهذيب للذات فلا يؤتى بالبسملة في ابتداء الفعل المحرم والقبيح وألعاب اللهو.
وعن الإمام علي عليه السلام (أن رسول الله صلى الله عليه وآله حدثني عن الله عزوجل كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر)( ).
الثانية : منهاج الحمد طريق الزيادة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الحمد والثناء عليه سبحانه ، لقد أحب الله أن يحمد ، فخلق الخلائق ، ومنها الملائكة المنقطعون إلى الحمد والتسبيح قال تعالى [وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
لبيان أن الملائكة سبقوا آدم وذريته في قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وأن المسلمين بقراءتهم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] كل يوم يتعاهدون خشوع وعبادة الملائكة ، فقول الملائكة هذا ليس للتلذذ إنما هو عبادة وإنقطاع إلى التسبيح والشكر لله عز وجل.
إذ ورد في النكت والعيون ([يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ] ( ) وتسبيحهم تلذذ لا تعبد)( ).
المختار هم الملائكة وخلائق أخرى غيرهم ، لبيان ثبات واستدامة الحمد لله وإجماع الخلائق على النطق به مع الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
و(بسند ضعيف عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قلت [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) فقد شكرت الله فزادك)( ).
وعن عبد الله بن عمر (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الخلق أعجب إليكم إيماناً ، قالوا : الملائكة .
قال : وما لهم لايؤمنون ، وهم عند ربهم . قالوا : فالأنبياء .
قال : فما لهم لا يؤمنون ، والوحي ينزل عليهم . قالوا : فنحن .
قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ، ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً ، لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيه)( ).
وفيه مسائل منها في المقام :
الأولى : إيمان الملائكة ، وأن تعلمهم وعملهم عبادة خالصة لله عز وجل ، لذا قالوا بخصوص خلافة الناس في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
الثانية : تفضيل الملائكة بأنهم عند الله ، وقريبين من عرشه منقطعين إلى التسبيح والحمد والثناء على الله ليفوزوا بالنجاة من الحساب يوم القيامة ، قال تعالى بخصوص عالم الآخرة [وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ]( ).
لبيان أن الملائكة شهود على حساب بني آدم ، ولهم وظائف محدودة يومئذ ، منهم خزنة الجنة ، ومنهم خزنة النار وغيرهم .
الثالثة : نصرة الملائكة للأنبياء ، وتعضيدهم .
وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية وصباح يوم بدر وكان يقول (اللهم انجز لي ماوعدتني) و(عن حكيم بن حزام، قالوا: لما حضر القتال ورسول الله صلى الله عليه وسلم رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده يقول : اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين)( ).
وكان حكيم بن حزام يوم بدر في جيش المشركين ، وهو ابن أخ خديجة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم حكيم يوم الفتح ، وكان من المؤلفة قلوبهم وأعطاه الرسول يوم حنين (مائة من الابل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه)( ).
وحسن اسلامه ، وكان جواداً سخياً ، فهو قال : قالوا أي أنه سمع من الصحابة الذين كانوا إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر إذ نزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
لترغيب المسلمين بالدعاء عند الشدة والرخاء ، وبيان منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل.
ومن وجوه تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية أعلاه ما ورد (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه أداة الحرب)( ).
الرابعة : تعضيد الملائكة المؤمنين في الدنيا ، وعن الإمام الصادق (عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة.
وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، وأنه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الارض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الانبياء، إن الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)( ).
الخامسة : تشريف المسلمين يجعلهم يلتقون مع الملائكة في قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، عندما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لبيان أن المسلمين يشاطرونكم الذكر والتسبيح والدعاء وقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وهل يختص المسلمون بهذا القول ، وقراءته في سورة الفاتحة ، الجواب لا ، فهو شعار أهل الإيمان من أيام آدم عليه السلام ، وهو من عناوين التقوى.
الصلة بين الله عز وجل والناس
من مصاديق المشيئة المطلقة لله عز وجل في ملكه للسموات والأرض وما فيها من تعدد الصيغ والطرق في كل نعمة ، ورحمة ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله ، وفيه ترغيب للإنس والجن والملائكة بعبادته ، والإجتهاد في طاعته.
وأبى الله أن يكون جنس من الخلائق بعيداً عن رحمته ، أو منعزلاً عن تلقي الأوامر والنواهي منه تعالى ، ومنه الصلة بين الله والناس وهي على وجوه كثيرة منها :
الأول : الرسول الذاتي وهو العقل الذي يملي على الإنسان التفكر والتدبر في الآيات الكونية ، وبديع صنع الإنسان ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( )، وهل الوحي من هذه الآيات ، الجواب نعم ، في ذاته وموضوعه ونفعه.
الثاني : أمر الله للعباد بأداء الفرائض العبادية بتول صعود من الخلق إلى الحق ، لذا تفضل الله عز وجل وفرض الصلاة من أيام أبينا آدم عليه السلام.
وان اختلفت كيفية الصلاة ، والمشهور والمختار أن الصلوات اليومية الخمس من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ولهم تجمع إلا للنبي محمد ، ولم يصل أحد قبله صلاة العشاء ، إذ ورد (عن معاذ قال بقينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العتمة ليلة ، فتأخر بها حتى ظن الظان أن قد صلى ، أو ليس بخارج فقال لنا صلى الله عليه وسلم : اعتموا بهذه الصلاة ، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم ، ولم تصلها أمة قبلكم)( ).
وقيل صلى آدم عليه السلام الصلوات الخمس كلها ثم تفرقت به الأنبياء.
في دعاء الأنبياء
من مصاديق تعليم الكتاب والحكمة في القرآن بيانه لأدعية الأنبياء لأنفسهم وقولهم والمسلمين والناس جميعاً ، لبيان أن ذات الدعاء عبادة ، وأنه سلاح الأنبياء ، ولجوء إلى الله ، وتوسل لنزول الرحمة والرأفة بالناس ، البر والفاجر وذكر القرآن دعاء آدم عليه السلام وحواء .
[قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ]( ).
وذكر القرآن أدعية متعددة لنوح عليه السلام ، ومنها دعاء هود عليه السلام [إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، وجاءت سورة من القرآن باسم سورة هود ، في القرآن ثم أدعية إبراهيم عليه السلام .
[قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ووردت سورة في القرآن باسم سورة نوح يكثر فيها نوح المناجاة مع الله عز وجل والشكوى من قومه وجحودهم.
وأدعية إبراهيم عليه السلام لنفسه وذريته وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة والمسلمين ولمكة وأهلها.
ووردت سبع أدعية في آية واحدة بقوله تعالى [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا]( )، وتقدير هذا الدعاء هو :
الأول : رب اغفر لي.
الثاني : رب اغفر لوالدي .
الثالث : رب اغفر لمن دخل بيتي مؤمناً .
الرابع : رب اغفر للمؤمنين .
الخامس : رب اغفر للمؤمنات .
السادس : رب لا تزد الظالمين إلا تباراً .
ووردت سورة في القرآن باسم سورة إبراهيم ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ]( ).
وفي دعاء لوط عليه السلام في التنزيل [رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
ومن دعاء يوسف عليه السلام [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( )، ووردت سورة في القرآن باسم سورة يوسف .
وفي دعاء موسى عليه السلام [قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى]( )، وقد وردت في هذه الآيات مع قلة كلماتها عشرة أدعية.
وفي دعاء شعيب [رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ]( ).
وفي دعاء يونس عليه السلام قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ]( )، ووردت سورة في القرآن باسم سورة يونس.
وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يونس عليه السلام في أحاديث عديدة ، وبعد موت أبي طالب وخديجة اشتد أذى قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلى الطائف التي آذاه أهلها فيها ، ولكن أبى الله إلا أن يجعل برهاناً على نبوته في الموضع الذي يصل إليه .
(وقعدوا له صفين على طريقه ، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة ، وكانوا أعدوها حتى أدموا رجليه . فخلص منهم وهما يسيلان الدماء.
فعمد إلى حائط من حوائطهم ، واستظل في ظل حبلة منه ، وهو مكروب موجع ، تسيل رجلاه دماً)( ).
وكان في الحائط غلام نصراني اسمه عداس من أهل نينوى أمره عقبة وشيبة ابنا ربيعة مع كفرهما بأن يأتي بعنب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له (من أي أرض أنت يا عداس ، قال له عداس : أنا من أهل نينوى.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى.
فقال له عداس : وما يدريك من يونس بن متى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يحقر أحدا أن يبلغه رسالة ربه : أنا رسول الله ، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى .
فلما أخبره بما أوحى الله عز وجل من شأن يونس بن متى ، خر عداس ساجداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء .
فلما أبصر عقبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكنا ، فلما أتاهما ، قالا : ما شأنك سجدت لمحمد ، وقبلت قدميه ، ولم نرك فعلته بأحد منا.
قال : هذا رجل صالح ، أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى ، فضحكا به ، وقالا : لا يفتنك عن نصرانيتك ، فإنه رجل خداع ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة)( ).
وفي دعاء أيوب عليه السلام قال تعالى [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ]( ).
وفي دعاء سليمان عليه السلام [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]( ).
وفي دعاء زكريا عليه السلام [رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ]( ).
وفي دعاء عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
ترى من هو أكثر الأنبياء دعاء في القرآن بعد أدعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قل).
المختار أنه موسى عليه السلام ثم إبراهيم ثم نوح .
وتتجلى أدعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر الإلهي (قل) وامتثال النبي صلى الله عليه وآله وسلم له وتلاوة المسلمين والمسلمات له منه قوله تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا]( ) إلى جانب أدعية السنة النبوية.
كما ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أدعية الأنبياء بما يتضمن بيانها ، والتأكيد عليها ، وترغيب المسلمين بذات الأدعية.
ذم النبي محمد (ص) لإبليس
لقد أنذر الله عز وجل الناس من إبليس وشروره ، ومن إتباع خطواته وإغوائه.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من إبليس والإنقياد إلى الهوى ، وورد اسم إبليس إحدى عشرة مرة في القرآن ، كما يرد بلفظ الشيطان ، والنسبة بين الشيطان وإبليس عموم وخصوص مطلق ، فلفظ الشيطان أعم ، لذا يرد أحياناً في القرآن بصيغة الجمع ، قال تعالى [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا]( ).
(وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن جده عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس . قال الله له : اسجد لآدم ، فقال [أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( )، قال جعفر : فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس)( ).
لقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تتضمن الإنذار من إبليس وجنوده ، و(عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عرش إبليس على البحر ، ثم يبعث سراياه فيفتنون ، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)( ).
و(عن ابن عمر قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أقبح الناس وجها وأقبحهم ثيابا ، وأنتن الناس ريحا ، جلق جاف يتخطى رقاب الناس حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من خلقك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله .
قال : من خلق السماء ، قال : الله .
قال : من خلق الأرض ، قال : الله.
قال : من خلق الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله ، وأمسك بجبهته ، وطأطأ رأسه .
وقام الرجل فذهب ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال : علي بالرجل فطلبناه فكأن لم يكن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا إبليس جاء يشكككم في دينكم)( ).
لبيان الحيطة والحذر من تشكيك إبليس وجنوده من الجن والإنس في الدين والإيمان.
دفاع الملائكة
لقد أخبر الله عز وجل في القرآن عن إكرامه لبني آدم بتفضله باخبار الملائكة عن خلق الإنسان وجعله [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، والخلافة في فرد عظيم من ملك الله سبحانه منزلة لم ينلها جنس من الخلائق وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ليقوم الناس بوظائف الخلافة التي تتقوم بعبادة الله والإمتناع عن المعاصي والفساد .
ومن معاني رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ) إخبار الله للملائكة عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم سوف ينزلون لنصرته في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين .
و(عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب)( ).
وهو تفسير نبوي لقوله تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
وتدل صيغة المضارع في الآية الكريمة على عدم إنحصار قتال الملائكة بمعركة بدر ، نعم ورد (عن ابن عباس قال : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاً ، قد أرسلوها في ظهورهم . ويوم حنين عمائم حمراً.
ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون عدداً ومدداً لا يضربون)( ).
ولكن عبد الله بن عباس لم يرفع الحديث ، فصحيح أنه صحابي ولكن كان عمره يوم معركة بدر خمس سنوات ، وفي مكة أي أنه لم يحضر الواقعة ، ولم يكن معاصراً لها .
وحديث قوم الملائكة بعمائم بيض مشهور ، والشهرة والإستفاضة جابرة لضعف السند على فرض مثل هذا الضعف في الأحاديث التالية عن (ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ عَنْ أَبِي دَاوُد الْمَازِنِيّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا.
قَالَ إنّي لَأَتّبِعُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَضْرِبَهُ إذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِي ، فَعَرَفْتُ أَنّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ ، مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ كَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْسَلُوهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ ، وَكَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْخَوْهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ إلّا جِبْرِيلُ فَإِنّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ وَلَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى بَدْرٍ مِنْ الْأَيّامِ وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَيّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ)( ).
وعن(عمير بن إسحاق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بدر : تسوّموا ، فإن الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأحمر في قلانسهم ومغافرهم ، الضحاك وقتادة : (بالعهْن) في نواصيها وأذنها. مجاهد : كانت مجزوزة أذناب خيلهم وأعرافها ونواصيها (معلّمة) الربيع : كانوا على خيل بلق)( ).
شدة أذى قريش للنبي والصحابة
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على أحوال صحابته بما فيه صلاحهم ، والإحتراز من النوائب والسيئات.
وكان قبل الهجرة يوصي أصحابه بالصبر والتحمل ، وعدم مواجهة أذى وتعدي قريش بمثله ، لبيان أنه نبي السلم والسلام والأمن والإيمان.
و(قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام ، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما بلغني : صبرا آل ياسر موعدكم الجنة)( ).
وكان أذى قريش عاماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وهذا الأذى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فيزداد الأذى على أهل البيت أحياناً ، ومنه الحصار الإقتصادي .
(وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ الّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، إذَا سَمِعَ بِالرّجُلِ قَدْ أَسْلَمَ ، لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ أَنّبَهُ وَأَخْزَاهُ وَقَالَ تَرَكْتَ دِينَ أَبِيك وَهُوَ خَيْرٌ مِنْك ، لَنُسَفّهَنّ حِلْمَك ، وَلَنُفَيّلَنّ رَأْيَك ، وَلَنَضَعَنّ شَرَفَك .
وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ وَاَللّهِ لَنُكَسّدَنّ تِجَارَتَكَ وَلَنُهْلِكَنّ مَالَك ؛ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ)( ).
وكان يشتد أذى قريش على الموالي ، والذين ليس لهم عشيرة تذب عنهم ، فكانت سمية أم عمار أول شهيد في الإسلام طعنها أبو جهل بحربة في قلبها ( ).
وكانت أمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي عم أبي جهل .
ليستمر أبو جهل في غيه وطغيانه ، ويصر على القتال في معركة بدر فيكون جزاؤه سقوطه قتيلاً يومئذ .
في مقابلة مع أحد علماء العربية سأله المذيع هل أبو جهل يعلم بمعنى ضم الهاء في [وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ].
ولكن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة وهي خاصة في بيعة الصحابة الحاضرين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأبو جهل قُتل في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، أي أنها نزلت بعد قتله كافراً بأربع سنوات ، ولم يرد لفظ (عليهُ الله) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
والملاك أن علم التفسير عابر للإختصاصات وأعم منها مع حاجته إلى كل علم منها.
وقد أشرنا إليه في الجزء الخمسين بعد المائتين من تفسيرنا معالم الإيمان ، وأن الآية القرآنية علم قائم بذاته.
ليسبق البشير بالنصر يوم بدر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة إذ بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلاً من:
الأول : زيد بن حارثة يبشر أهل السافلة .
الثاني : عبد الله بن رواحة يبشر أهل العالية.
(فجعل عبد الله ينادي على راحلته: يا معشر الانصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وزمعة بن الاسود، وأمية بن خلف ، وأسر سهيل بن عمرو.
قال عاصم بن عدي: فقمت إليه فنحوته، فقلت: أحقا ما تقول يا ابن رواحه ؟ فقال: إي والله، وغدا يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاسرى مقرنين، ثم اتبع دور الانصار بالعالية يبشرهم دارا دارا.
والصبيان يشتدون معه ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى انتهى إلى بني أمية بن زيد)( ).
ويدل نداء صبيان المدينة وشماتتهم بأبي جهل على نحو الخصوص على علم أهل المدينة بالأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منه ، ومعرفتهم له بالكنية التي سماه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المعجزات في المقام أن الذي يسمع باسم أبي جهل وهو عمرو بن هشام وإلى يومنا هذا سرعان ما ينسى هذا الاسم ، إذ شاعت كنيته .
قانون إنذار العشيرة
عندما نزل قوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( )، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام : يا علي قد أمرني الله أن أنذر عشيرتي الأقربين (فاصنع لي طعاماً ، حتى ادعوهم اليه وأنذرهم) ( ).
وعشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأقربين هم بنو هاشم وبنو المطلب ، لإرادة التفريق بينهما وبين أخويهما عبد شمس ، ونوفل ، أي أن أولاد عبد مناف أربعة وهم :
الأول : هاشم ، ومن أولاده عبد المطلب .
الثاني : المطلب ، وهو عم عبد المطلب .
الثالث : عبد شمس ، ومن ذريته بنو أمية .
الرابع : نوفل ، ومن أولاده عدي ، وعمرو ، وعامر أبناء نوفل.
وقيل أن أولاد عبد مناف ستة إلى جانب عدد من الأخوات لهم.
فقام الإمام علي عليه السلام بشراء (رجل شاة فطبخها وجاء بعس من لبن ، فدعا النبى صلى الله عليه وسلم بنى هاشم ، و بنى المطلب إلى طعامه ، وهم أربعون رجلاً غير رجل ، على رجل شاة ، وعس( ) من لبن ، فأكلوا حتى شبعوا ، وشربوا حتى رووا)( ).
وهل شراء الإمام علي عليه السلام هذا المقدار القليل وهو فخذ شاة من اللحم مع أن عددهم أربعون رجلاً بتعيين وتحديد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم بإجتهاد منه.
المختار هو الأول ، لبيان معجزة جلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون مقدمة للدعوة لكلمة التوحيد ، وترغيباً بها ، وشاهداً على الحاجة إلى الإستجابة لنداء لا إله إلا الله .
لقد أدرك بنو هاشم وبنو المطلب الآية وهي ليست مجردة إنما تضاف إلى ما في الوجود الذهني عندهم من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية.
فالتفت أبو لهب إلى الأمر ، وقطع عليهم إنجذابهم إلى المعجزة فقال هذا ما سحركم به محمد ، فان الرجال العشرة يأكلون الجذعة ، والجذعة من الإبل هي التي اتمت السنة الرابعة ، ودخلت في الخامسة ، أي أنها كثيرة اللحم.
وسميت به لأن اسنانها جذعت أي أن مقدم السنان سقطت ، تساءل أبو لهب إذا كان العشرة منا يأكلون الناقة كاملة ، فكيف يشبع أربعون رجلاً من رِجل شاة.
لإنكاره المعجزة التي هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، السالم من المعارضة ، فأرجأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار إلى ليلة أخرى من غير أن يتعارض هذا الإرجاء مع سرعة امتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأمر الإلهي ، إذ تتجلى هذه السرعة بدعوتهم إلى الحضور في الليلة الأولى ، مع إكرامهم بدعوتهم لطعام قبل الإنذار ، ولرؤيتهم المعجزة في ذات الطعام التي هي بشارة أيضاً على ترشح البركة عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم قام الإمام علي عليه السلام بشراء رِجل –فخذ- شاة مع لبن مقدار إناء ودعا بني هاشم وبني المطلب ، فاكلوا حتى شبعوا ، وشربوا من اللبن حتى رووا وعددهم أربعون رجلاً أو ينقص واحد ، وفيهم بعض أعمام النبي محمد الذي بادر إلى القول بصيغة الإنذار (يا بنى هاشم ، ويا بنى المطلب ، أنا لكم النذير من الله ، وأنا لكم البشير من الله إنى قد جئتكم بما لم يجىء به أحد من العرب ، جئتكم فى الدنيا بالشرف ، فأسلموا تسلموا ، وأطيعونى تهتدوا.
فقال أبو لهب : تبا لك ، يا محمد ، سائر اليوم لهذا دعوتنا ، فأنزل الله عز وجل فيه [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، يعنى خاب وخسر أبو لهب)( ).
ومن معاني [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( )، قانون إنذار العشيرة ، لبيان وظيفة كل مؤمن انذار عشيرته ، ودعوتهم للإيمان وقيامه بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، لعمومات قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
فالمختار أن قوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( )، خطاب عام متجدد للمؤمنين والمؤمنات ، وليس هو من مختصات النبي محمد.
ونزل القرآن بقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين البشارة والإنذار العام ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
لذا حينما جاء رؤساء قريش إلى أبي طالب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعرضوا عليه رغائب الدنيا من الجاه والرئاسة والمال والزواج المتعدد باختياره.
فلم يخاطبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه خاطب عمه أبا طالب قائلاً (وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي ، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَدًا)( ).
قانون لسان التبليغ
أخرج (أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لم يبعث الله نبياً إلا بلغة قومه) ( ).
وهو مقتبس من قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( )، إذ يبعث الأنبياء إلى قومهم ، بينما أكرم الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصلة أخرى وهي رسالته للناس جميعاً مع اختلاف ألسنتهم ومشاربهم ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( )، وقال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ليكون النسبة بين جهات الرسالة وبين لغة القرآن عموم وخصوص مطلق.
و(عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة)( ).
(عن ابن عباس قال : كان جبريل عليه السلام يوحى إليه بالعربية ، وينزل هو إلى كل نبي بلسان قومه) ( ).
و(عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ : لَمْ يَنْزِل وَحْي إلا بالعربيةِ ، ثُمَّ يُتَرْجِم كُلّ نَبِيّ لقومِه بلسَانهم ، قَالَ : ولسانِ يَوْم الْقِيَامَة السُّرْيَانِيَّة، ومن دَخَلَ الْجَنَّة تَكَلَّمَ بالعربيةِ) ( ).
ولا دليل على نزول الكتب السماوية كلها للأنبياء بالعربية ،ويفيد قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ] ( )، الإطلاق في وحدة سنخية اللغة عند تلقي النبي للوحي وعند التبليغ والعلم عند الله .
ترجمة الحارث بن هشام
(الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي يكنى أبا عبد الرحمن وأمه أم الجلاس أسماء بنت مخربة)( ).
حضر معركة بدر كافراً مع جيش قريش هو وأخوته كل من :
الأول : أبو جهل عمرو بن هشام وهو شقيقه ، وقد قتل في المعركة .
الثاني : العاص بن هشام ، قتل في معركة بدر .
الثالث : خالد بن هشام ، والذي أسر من قبل الصحابة ثم فدى ومات كافراً.
وكان أخوهم الخامس سلمة بن هشام بن المغيرة من مهاجرة الحبشة بعد أن اُحتبس وعذّب في مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو له وللمستضعفين في مكة ، فلم يشهد سلمة بدراً ، إنما لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعد معركة الخندق.
وفي الثناء عليه والدعاء له (قالت له أمه ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير :
لا هم رب الكعبة المحرمة … أظهر على كل عدو سلمة
له يدان في الأمور المبهمة … كف بها يعطي وكف منعمة)( ).
استشهد سلمة في مرج الصفر في الشام سنة أربع عشرة للهجرة.
ولقد فرّ الحارث بن هشام فعيره حسان بن ثابت بقصيدة ومنها :
(إِن كنتِ كاذِبَةَ الذِي حَدثتِنِي … فَنَجَوتِ مَنجَى الحَارِثِ بنِ هِشَامِ
تَرَكَ الأَحِبةَ أَن يُقَاتِلَ دونَهُم … وَنَجَا بِرَأسِ طِمِرةِ وَلجامِ
يذَرُ العَنَاجِيجَ الجيَادَ بِقَفرَة … مَر الدمُوكِ بِمُحصَد وَرِجَامِ
مَلأت بِهِ الفَرجَين فَارمَدت بِهِ … وَثَوَى أَحِبتُهُ بشَر مقَامِ
وبَنُو أبِيهِ وَرَهطُهُ في مَعرَكٍ … نَصَرَ الإله بِهِ ذوِي الإسلاَمِ
طَحَنَتهُمُ، والله يُنفذُ أَمرَهُ … حَرب يُشَب سَعِيرُها بِضِرَامِ
لَولاَ الإلَهُ وَجَريُهَا لَتَرَكنَهُ … جَزَرَ السبَاع وَدسنَهُ بِحَوَامِ
من بَين مَأسور يُشَد وَثَاقهُ … صَقرٍ إِذا لاقَى الأَسِنَّةَ حَامِي
ومُجَدلِ لاَ يَستَجِيبُ لِدَعوَةٍ … حَتى تَزُولَ شَوَامِخُ الأَعلاَم
بِالعَارِ وَالذل المُبَينِ إِذ رَأَى … بِيضَ السيُوفِ تَسُوقُ كُل هُمَامِ
بِيَدَي أَغَرَّ إِذَا انتَمَى لَم يُخزِه … نَسَبُ القِصَارِ سَمَيدَعٍ مِقدام
بِيضْ إِذا لاَقَت حَدِيداً صَممَت … كَالبَرقِ تَحتَ ظلام كُلً غَمَامِ)( ).
وأجابه الحارث بقصيدة يعتذر فيها ووردت في ذات المصدر أعلاه.
ثم خرج الحارث بن هشام مع جيش المشركين في معركة أحد.
واستأمنت له أم هانئ بنت أبي طالب يوم الفتح ، وأراد الإمام علي عليه السلام قتله (فدخل النبي صلى الله عليه وسلم منزلها ذلك الوقت فقالت يا رسول الله ألا ترى إلى ابن أمي يريد قتل رجل أجرته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ، فأمنه.
هكذا قال الزبير وغيره وفى حديث مالك وغيره أن الذي أجارته بعض بني زوجها هبيرة بن أبى وهب)( ).
واسلم يوم الفتح (وكان من المؤلفة قلوبهم)( ).
وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائة من الإبل كما اعطى مثلها عدداً من المؤلفة قلوبهم .
وانتقل إلى الشام مرابطاً (حتى مات في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة)( ).
معجزة انقطاع الطاغوت
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار النعم والفضل الإلهي على الناس ، وتعجز الخلائق عن إحصاء النعم الإلهية اليومية على الناس ، لذا أمر الله عز وجل كل مسلم ومسلمة بالصلاة خمس مرات في اليوم ، وتلاوة آيات الحمد لتكون صلاتهم شكراً لله عز وجل على النعم التي أنزلها عليهم وعلى الناس .
ولقانون المؤمنون في كل زمان يشكرون الله نيابة عن الناس ليترشح عنه قانون استدامة الحياة الدنيا بأهل الإيمان ، وهو من أسرار ابتداء عمارة الناس للأرض بنبوة آدم عليه السلام لتتوارث ذريته سنن النبوة .
ويتفضل الله عز وجل ببعث النبي تلو النبي بالحكمة المتعالية ، وما فيه إصلاح الناس ، وتعاهد عبادة الله في الأرض ، إلى أن ختم الله عز وجل النبوة والرسالة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
لتكون من فيوضات هذا الختم إنقطاع عبادة الأوثان في الأرض ، وطوي أيام الطواغيت الذي يوثق القرآن توثيقاً سماوياً طغيانهم كما في فرعون ونمرود ليشكر الناس جميعاً الله عز وجل على رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ومن مصاديق العموم في الآية أعلاه أنه ليس من إنسان يسعى ليكون طاغوتاً ، وإن سعى فانه لا يجد الأنصار والأعوان ، وإن وجدهم لبرهة من الزمان وعلى نحو محدود سرعان ما يبطش به الله عز وجل ، ويهدم سلطان حكمه ، وتنقسم مملكته ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]( ).
والدلائل القرآنية ، والشواهد التأريخية والوجدانية كثيرة ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلمتان قالهما فرعون [مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي]( )، وقوله [أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى]( )، قال : كان بينهما أربعون عاماً فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى( ).
و(عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما قال فرعون [آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ]( )، قال : قال لي جبريل : يا محمد لو رأيتني وقد أخذت حالا من حال البحر، فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة)( ).
ويبين القرآن الحاجة إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد تخلف طائفة من الناس عن واجب اجتناب الطاغوت وعدم نصرته ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ]( ).
ومن معاني الجبت : السحر والكاهن ، والطاغوت الذي يعبد من دون الله ، والجامع بينهما هو الطاعة لهما التي هي معصية لتكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق .
وقد ورد الزجر عن الركون والميل للطاغوت بعد آية الكرسي مباشرة ، قال تعالى [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وفي معنى الطاغوت وجوه :
الأول : انه الشيطان عن عمر ومجاهد وقتادة، وقال الطبرسي: وهو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
الثاني : الكاهن، عن سعيد بن جبير.
الثالث : الساحر.
الرابع : الأصنام.
الخامس : مردة الجن والإنس.
السادس : كل رأس في الضلال.
(وفي باب الفقه الجنائي يتحمل الإثم والجزاء المباشر للجناية وليس السبب، الا ان يكون للسبب تأثير في وقوعها ، فمع تحمل الطاغوت قسطاً من مسؤولية ضلالة اتباعه فان الأتباع يؤاخذون على سوء اختيارهم، ولو تخلوا عنه او انهم لم يؤازروه ويناصروه لما استطاع ان يصبح متسلطاً ظالماً لأنه حينئذ سالبة بانتفاء الموضوع)( ).
لبيان تعدد مصاديق الطاغوت ، وشدة ضرره ، ولزوم أخذ الحائطة من مقدمات وسبل الشر والغواية ، ومفاهيم الجحود والكفر ، فالدفع أولى من الرفع ، وإجتناب الظلمة طريق إلى النور ، والتخلية سبيل إلى التحلية.
و(عن كعب بن عجرة : أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جلده ونشاطه ما أعجبهم ، فقالوا : يا رسول الله ، لو كان هذا في سبيل الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن كان يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله .
وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين ففي سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه ليعفها ففي سبيل الله.
وإن كان خرج يسعى على أهله ففي سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى تفاخرا وتكاثرا ففي سبيل الطاغوت)( ).
وقد ورد ذكر (الطاغوت) ثماني مرات في القرآن ، تتضمن الذم والتحذير منه ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ]( ).
والطاغوت كل شيء يعبد من دون الله كالأصنام ونمرود وفرعون .
و(عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما : ألا أحدثكم بما حدثني الله عز وجل في الكتاب ؟ إن الله عز وجل خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه ، فمن شاء اقتنى ، ومن شاء احترث ، فجعلوا مما أعطاهم الله عز وجل حلالا وحراما ، وعبدوا الطواغيت .
فأمرني الله عز وجل أن آتيهم فأبين لهم الذي جبلهم عليه ، فقلت لربي عز وجل أخاطبه : تثلغ قريش رأسي كما تثلغ الخبزة ، فقال لي : أمضه أمضك ، وأنفق أنفق عليك ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، فإني سأجعل مع كل جيش عشرة أمثالهم من الملائكة ، ونافخ في صدور عدوك الرعب ، ومعطيك كتابا لا يمحوه الماء ، أذكركه نائما ويقظانا ، فانصروني وقريش هذه ، فإنهم قد دموا وجهي ، وسلبوني أهلي ، وأنا باديهم ، فإن أغلبهم يأتوا ما دعوتهم إليه طائعين أو كارهين ، وإن يغلبوني ، فاعلموا أني لست على شيء ، ولا أدعوكم إلى شيء)( ).
وعياض هذا صحابي من أهل الصفّة ، سكن البصرة (وكان صديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً وكان إذا قدم مكة لا يطوف إلا في ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان من الجملة الذين لا يطوفون إلا في ثوب أحمسي)( ).
و(عن جابر بن عبد الله ، قال : لما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ، اعتزل كعب بن الأشرف ولحق بمكة وكان بها ، وقال : لا أعين عليه ولا أقاتله . فقيل له بمكة : يا كعب ، أديننا خير أم دين محمد وأصحابه ؟ قال : دينكم خير وأقدم ، دين محمد حديث ، فنزلت فيه [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ]( )، ثم قدم كعب بن الأشرف المدينة معلنا بمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبهجاء النبي صلى الله عليه وسلم)( ).
وفيه شاهد على القبح الذاتي والضرر البالغ ومقدمات الفتنة في تحريض المشركين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
و(عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليقل أحدكم حين يريد أن ينام آمنت بالله وكفرت بالطاغوت وعد الله حق وصدق المرسلون اللهم إني أعوذ بك من طوارق هذا الليل إلا طارقا يطرق بخير)( ).
والطارق هو الذي يأتي ليلاً ويطرق الباب على غير موعد.
قول مستحدث في فتح مكة
اختلف العلماء في فتح مكة على قولين :
الأول : فتحت مكة صلحاً ، وبه قال الشافعي ، ومجاهد ، والزهري ، وعكرمة وآخرون ، بحجة أمان شرط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام غداة فتح مكة بالقاء سلاحهم ، وإغلاق أبوابهم ، ولكنه ليس علة تامة للفتح إنما هو الوحي ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( ).
الثاني : فتحت مكة عِنوة ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحاب الرأي ، وجمع من الفقهاء .
والمختار قول جديد مستحدث وهو فتحت مكة سلماً ، إذ أن الصلح يلزمه طرفان أو أكثر ، وامضاء عقد ، وهو لم يحصل ، وتعني العنوة المبارزة والقتال المعتد به ، وهو لم يقع .
بالإضافة إلى أن أكثر أهل مكة كانوا عام الفتح مسلمين ، كما عن الإمام الصادق عليه السلام ، ينتظرون قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي نادى (اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعز الله فيه قريشاً)( ).
ووجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح في البيت الحرام ثلاثمائة وستين صنماً منصوبة .
و(عن جابر قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها وقال جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا( ).
ولقد كسر إبراهيم عليه السلام أصنام قومه خفية ، وألقوه في النار ونجى بمعجزة وبقوا على كفرهم أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكسرها علانية ولم ينصب صنم يعبد في بلاد الإسلام إلى يوم القيامة ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء.
بين الناس وبني آدم
النسبة بين الناس وبين بني آدم وفق علم المنطق عموم وخصوص مطلق فكل بني آدم من الناس وليس العكس لأن آدم وحواء من الناس وليس من بني آدم لذا تفضل الله وأوجب حج البيت على الناس جميعاً بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قال: لما أفاض آدم من عرفات تلقته الملائكة عليهم السلام فقالوا له: بر حجك يا آدم، أما أنا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام)( ).
عن الإمام علي عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة ، وأنا محمد عبدك ورسولك ، وإني أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم مثل ما باركت لأهل مكة ، واجعل مع البركة بركتين .
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة)( ).
و(عن ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين . أنا من الولدان ، وأمي من النساء)( ).
أدعية النبي محمد (ص)
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه مدرسة الدعاء التي هي قوس صعود من الخلق إلى الحق ، والطريق الأعظم للنفع العام والخاص وهو سلاح الغني والفقير ، والسيد والعبد ، والملك وعامة الرعية ، ومن مصاديق قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، وخلافة الأنسان في الأرض تجلي حاجة كل إنسان إلى الدعاء .
أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خصائص أئمة الدعاء لقانون الملازمة بين النبوة والمواظبة على الدعاء .
وقد أدرك الذين عاصروا النبي محمداً إنقطاعه إلى الدعاء ، ولجوءه إليه في الرخاء والسراء ، كما اتخذه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آلة وسلاحاً للصبر وأظهر فيه شهادته على التوحيد ، واقراره بالعبودية إلى الله عز وجل ، وصدوره من آيات القرآن في الدعاء.
ومع عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه كان يكثر من الإستغفار ليؤسس لأمته والناس مدرسة الإستغفار والتوبة والإنابة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثاً ، وكان يحض على التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين مرة لكل منها وهو المسمى (تسبيحة الزهراء) .
و(عن الإمام علي عليه السلام أنه قال لرجل من بني سعد: ألا أحدثك عني وعن فاطمة عليها السلام إنها كانت عندي – وكانت من أحب أهله إليه.
وإنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها ، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد .
فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبي صلى الله عليه وآله فوجدت عنده حداثا فاستحت وانصرفت، قال: فعلم النبي صلى الله عليه وآله أنها جاءت لحاجة.
قال: فغدا علينا ونحن في لفاعنا فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا ثم قال: السلام عليكم فسكتنا ثم قال: السلام عليكم فخشينا إن لم نرد عليه ينصرف وقد كان يفعل ذلك يسلم ثلاثا فان اذن له، وإلا انصرف .
فقلت : وعليك السلام يا رسول الله ادخل ! فلم يعد صلى الله عليه وآله أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد.
قال : فخشيت إن لم نجبه أن يقوم قال: فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله اخبرك يا رسول الله، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها .
فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل .
قال : أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم ؟ إذا أخذتما منامكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين ، وكبرا أربعا وثلاثين .
فأخرجت عليهما السلام رأسها فقالت : رضيت عن الله ورسوله ، رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر في دعائه المدح والثناء على الله ، وتقديس مقام الربوبية ، وفيه مسائل :
الأولى : الحمد لله عنوان العبودية لله عز وجل .
الثانية : منع الناس من الإفتتان والغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : يقبل الله عز وجل الثناء عليه ، ولا يرد شطر الدعاء والمسألة.
الرابعة : من وظائف النبوة إخبار الناس بالحاجة إلى الدعاء ، وخصائص الدعاء .
الخامسة : بيان قانون الأسوة النبوية في الدعاء ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
بحث أصولي
وجوب عدم ابتعاد علم الأصول عن الكتاب والسنة ، فلابد من الإستدلال بالقرآن وآياته على المسألة الأصولية وتتجلى الحاجة إليه بالقول بالإنسداد الذي لا أصل له في الكتاب والسنة .
مقولة الإنسداد
وهي لايرقى إلى مرتبة الدليل كما يطلقون عليها (دليل الإنسدادي) بل هو نقيض الدليل .
والدليل لغة المرشد والمبين وموضح .
والدلاَلة مصدر الدليل .
والدلالة في اللغة (هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر)( ).
(والدليل ما يوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري).
والنظر هنا التفكر والتدبر وليس النظر بالعين الباصرة وحده.
ومن عكس صحيح النظر المغالطة وهي اتخاذ التفكير غير الصحيح والإستدلال غير السليم في التعليل وقصد البرهان والحجة لإرادة الغلبة على الخصم وإن كان محقاً.
والمطلوب : أي أن الأمر قبل إقامة الدليل دعوى ، ومع التحقيق به يصبح مطلوباً ، وبعد إقامة الدليل يسمى نتيجة تفيد العلم ، أي أربعة مراتب.
أما قول (خبري) فهو منسوب إلى الخبر.
إذ ينقسم الكلام إلى قسمين :
الأول : الإنشاء .
الثاني : الخبر .
ومن الإنشاء الطلب والأمر : مثل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، والنهي [لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، لبيان معجزة قرآنية ، وهي أن أول آية من القرآن جاءت بصيغة الأمر النافع ، والمقيد بأنه باسم الله ، وفيه حرب على الشرك والمشركين ، ومنه النهي كما في قوله تعالى [وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
فلا يكون المصداق الواقعي لهذا الأمر والطلب متحققاً قبل قول :اقرأ ، فليس فيه تصديق أو تكذيب .
أما الخبر فهو يحتمل التصديق والتكذيب لأنه إخبار عن أمر مسبق الحديث عنه كما لو قلت : صمت رمضان الماضي ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
فالإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب ، فلا يحتاج إلى الدليل إنما الدليل بخصوص الذي يحتمل التصديق والتكذيب .
لذا ورد في التعريف (العلم مطلوب خبري).
وليس في آيات القرآن والسنة النبوية وما فيهما من الأخبار والقصص والأمثلة إلا الصدق والحق ، مثل [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( )، لبيان اختصاص القرآن بأحسن القصص في كل زمان حتى مع ثورة الذكاء الإصطناعي الذي تحتاج أخباره التحقيق.
ومنهم من قسم أدلة القرآن والسنة والإجماع إلى قسمين :
الأولى : الأدلة الإجمالية ، وهي جنس الكتاب والسنة والإجماع .
الثانية : الأدلة التفصيلية ، وهي أفراد هذه الأجناس ، ومنه مثلاً [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ]( ).
فهذا دليل على إقامة صلاة الظهر ، وهي وظيفة الفقيه أما وظيفة الأصولي فتتعلق بالأصول الإجمالية والتدبر وبيات الأدلة التفصيلية.
وموضوع كل علم هو الذي يبحث عن عوارضه الذاتية بلا واسطة في العروض ، ليكون التمايز والتباين بين العلوم بالاختلاف بين موضوعاتها ، وفي علم المعقول مثلاً هو الوجود، وينقسم الى واجب الوجود والممكن، والممكن ينقسم الى الجوهر والمقولات العرضية، اذ ان الممكن اذا استغنى في وجوده عن الموضوع فهو جوهر، والا فهو عرض لأن العرض قائم بالموضوع)( ).
وموضوع علم الكلام هو اثبات التوحيد والأسماء الحسنى لله ، وأحكام العقيدة.
وموضوع علم الأصول هو العلم بالدليل وما يقع في طريق إستنباط الحكم الشرعي.
وموضوع علم المنطق هو التعريفات والحجج ، وموضوع علم التأريخ هو دراسة الحوادث والوقائع في الزمن الماضي والإتعاظ منها، والتدبر في سنن الحياة، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، ليكون آلة للقياس والفصل بين الصحة والفساد ، والتأريخ علم وليس فناً لقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ]( )، وكل قصة من القرآن علم خاص.
وموضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين( )، من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة وموضوع علم الحساب هو الأعداد وعملية الضرب والجمع والقسمة والطرح .
وعلم القرآن وهو من أشرف العلوم معرفة رسمه ولفظه وضبط حركاته وترتيب سوره وآياته وأسباب النزول ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيد ، والعام والخاص ، وتفسير وتأويل آياته .
وعلم الحديث معرفة الحديث دراية والحديث رواية ، والسنة النبوية القولية ، والفعلية ، والتقريرية .
وموضوع علم الفيزياء هو الطبيعة وقوانينها العامة وقد يتحد موضوع علمين أو أكثر ولكن التباين بينها بلحاظ الجهة والحيثية فالكلمة موضوع لعلم اللغة والنحو والصرف، فيلحظ في اللغة معنى الكلمة وفي النحو الإعراب والبناء، وفي الصرف تصريف ووزان الكلمة .
وموضوع علم الطب هو بدن الإنسان ، وحال الصحة والمرض .
وكذا باقي العلوم ، وموضوع آيات القرآن أمور الدين والدنيا ، وأحوال الناس في الأولى وفي الآخرة.
والدليل سور الموجبة الكلية للعلوم المختلفة وهو من رشحات نعمة العقل عند الإنسان .
وقد يطلق لفظ القرآن على الآية الواحدة أو بضع آيات ، قال تعالى بخصوص صلاة الصبح [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
وقيل ورد دليل الإنسداد والإشارة إليه في كتب المتأخرين ، فذكر أن العلامة الحلي ذكر في إرشاد الأذهان (المناط عند إنسداد باب العلم الظن).
وعند مراجعتي لهذا الكتاب لم أجد هذه العبارة .
والمشافهون في الخطاب القرآني جميع أجيال الناس المتعاقبة إلى يوم القيامة ، وكلمات القرآن المحدودة تحيط بالامحدود من الوقائع والأحداث .
ولا ملازمة بين القول والإنتساب للمدرسة الأصولية الإجتهادية ، وبين القول بالظن المطلق ، فيجب أن لا تخرج هذه المدرسة وغيرها عن الكتاب والسنة أمس واليوم وغداً ، ومن يخرج عنها لا يجد النجاح.
ولم يرد في كتب السنة نظرية الإنسداد هذه ، وقيل أن القائل بحجية الظن يؤمن بها ، لأن الظن ينشأ عن القياس .
ويتقوم دليل الإنسداد على انسداد باب العلم والعلمي ، والمراد انسداد باب نفس العلم ، أي العلم الوجداني بالأحكام الإلهية الشرعية وباب الطرق المؤدية إليه .
والظن هو الإعتقاد الراجح مع احتمال النقيض والخلاف ، ونزل القرآن بحرمة التعبد بالظن منها :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ]( ).
وقد ورد بعدة اسانيد (عن الصادق عليه السلام قال : القضاة أربعة ، ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنّة)( ).
والأولى أن تسمى مقولة الإنسداد وليس دليل الإنسداد ، وهو يتقوم بمقدمات أربعة :
المقدمة الأولى : العلم إجمالاً بثبوت تكاليف بالغة مرتبة الفعلية ومسؤولية المكلف الإمتثال لها ، وعدم إهمالها وتجاوزها.
ولم يذكر أحد هؤلاء الأصوليين في المقام قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، ويستقرأ من هذه الآية أن الله عز وجل هدى الجن والإنس إلى كيفية عبادته ، لذا قال بخصوص القرآن هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
المقدمة الثانية : عدم وجود طرق تورث العلم بالأحكام الشرعية ، وعدم وجود طرق ظنية خاصة قام الدليل القطعي على حجيتها ، وهو المراد من انسداد باب العلم والعلمي .
المقدمة الثالثة : كأن القائل بدليل الإنسداد ينفي حجية ظواهر الكتاب ، والإجماع على حجيتها .
المقدمة الرابعة : العمل بالإحتياط بإتيان ما يحتمل وجوبه ، وترك ما لا يحتمل وجوبه لإرادة العمل بالأصول العملية وهي :
الأول : أصالة البراءة .
الثاني : أصالة الإحتياط ، وقد تسمى بأصالة الإشتغال ، ولكن بين الإحتياط والإشتغال عموم وخصوص من وجه .
الثالث : التخيير .
الرابع : أصالة الإستصحاب .
والقرعة .
ولكن لم تنجز الحاجة إليها فيرجع إلى الإنفتاح وحجية الكتاب والسنة سنداً ودلالة.
المقدمة الخامسة : يستلزم عدم العمل بمطلق الظن ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً ، قال تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ]( ).
نتيجة البحث
نتائج بحثنا في المقام ، وفيها مسائل :
الأولى : إطلاق صفة دليل على مقولة الإنسداد ، لا أصل له وخلاف تعريف وشرائط الدليل ، فلا يصح أن يكون بعرض واحد ولو في الاسم وحده مع الأدلة الأربعة ، الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والعقل .
الثانية : صدرت مقولة الإنسداد من أحد العلماء في القرن الثاني عشر الهجري وهو الوحيد البهبهاني في كربلاء وتبعه تلميذه أبو القاسم القمي صاحب القوانين ، أي أن الفقهاء والأصوليين المتقدمين والمتأخرين من عامة المذاهب الإسلامية لم يقولوا به ويمكن انشاء كل من :
الأول : قانون وجوب رجوع الأصولي إلى القرآن ، وصدوره عنه .
الثاني : قانون استدلال الأصولي بآيات القرآن.
الثالث : قانون عرض طلبة العلم والمؤمنين ما يقوله الأصولي على الكتاب والسنة إذ تشمله أحاديث العرض .
(عن ثوبان : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا إن رحى الاسلام دائرة ، قال : فكيف نصنع يا رسول الله ، قال : أعرضوا حديثي على الكتاب فما وافقه فهو مني وأنا قلته)( ).
وعن خالد بن أبي كريمة عن الإمام محمد الباقر عليه السلام (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام.
فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس فقال : إن الحديث سيفشو عني فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني)( ).
هل تدل هذه الأحاديث على قانون عدم نسخ السنة النبوية للقرآن ، الجواب نعم ، إنما هي بيان وتفسير وتأكيد للقرآن .
الرابع : يتوارث عندنا أحياناً في الحوزات ان القرآن قطعي الصدور ظني الدلالة ، إنما هو قطعي الصدور ، قطعي الدلالة ، فان ترد كلمات في القرآن يختلف بها مثل [قُرُوءٍ] وهل المراد بها الطهر أم الحيض من بين (77439) كلمة فلا يعني أنه ظني الدلالة ، وهو خطأ وإرباك ، قال تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ] ( ).
والقروء : جمع قرء ، وفيه قولان :
الأول : إرادة أيام الطهر .
الثاني : المقصود أيام الحيض .
والمختار هو الأول .
(وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة حرف وأحد وسبعون حرفاً)( ).
(323671) حرفاً (وتعديد الآي من معضلات القرآن)( ).
وعن (عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: جميع آي القرآن ستة آلاف آية وستمائة آية وست عشرة آية)( ).
الخامس : لم يستدل القائل بالإنسداد بآية قرآنية أو شطر آية ، إنما تبين آيات القرآن ملائمة أحكامه إلى كل زمان ومكان .
السادس : لا أصل لتقسيم العلماء إلى انفتاحي وانسدادي فلم يقل بالإنسداد إلى بضعة أفراد ، ويأتي التفصيل في كتابي (معراج الأصول) ويتضمن شطراً من محاضرتي في الأصول على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
آيات في ذم ترشح الفعل عن الظن
تتقوم مقولة الإنسداد بانسداد باب العلم بالأحكام الشرعية ، والعلمي وهو إنسداد الطرق المؤدية إلى الأحكام الشرعية فيلجأ إلى مطلق الظن ، وقد نزلت الآيات بالنهي عن الظن ، وبيان قبحه وضرره منها ، ومن هذه الآيات :
الأولى : قوله تعالى [وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ]( ).
وفي صحيحة هارون بن مسعدة وعن الإمام جعفر الصادق (عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إياكم والظن ، فإنّ الظن أكذب الكذب)( ).
وورد ذات الحديث عن أبي هريرة مع إضافة فيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً ، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)( ).
و(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا)( ).
والمراد من الوحي في الحديث أعلاه كل من :
الأول : آيات القرآن .
الثاني : الحديث القدسي .
الثالث : السنة النبوية القولية والفعلية ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
عموم الخطاب القرآني
الخطاب القرآني يخاطب أجيال الناس في كل زمان إذ ورد نداء [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] في القرآن عشرين مرة كلها خطاب عام لأجيال الناس المتعاقبة إلى يوم القيامة منها [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ]( ).
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
والمراد من الألف واللام في الناس العموم الإستغراقي الشامل للأجيال المتعاقبة ، وقد صدرت لي والحمد لله الأجزاء (101-102-103-104-105) من معالم الإيمان خاصة بتفسير الآية أعلاه.
وورد نداء التشريف [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، ويتوجه هذا النداء إلى المسلمين ، كل مسلم ومسلمة عاش ويعيش على الأرض أو غيرها من الكواكب إلى يوم القيامة .
فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ]( )، والجواب إنه أيضاً خطاب للناس جميعاً لبيان معجزات الأنبياء الحسية وحفظ القرآن لها.
قانون العلم الوجداني بالأحكام مفتوح إلى يوم القيامة ، وكذا قانون إنفتاح طرق العلم المؤدية إليه ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهل مقولة الإنسداد بدعة في باب الأصول ، المختار لا ، إنما هو رأي غير تام.
وجوب صدور علماء وأساتذة الأصول عن القرآن والسنة
لقد تشعبت مباحث ومفردات علم الأصول ، لكثرة الدراسة والإجتهاد فيه ، وتعدد التفرعات منه ، ومنه بحث دليل الإنسداد الذي لا يصلح أن يطلق عليه دليل ، إذ أن الدليل يوصل بصحيح النظر أي التفكر إلى العلم بمطلوب خبري وليس انشائياً .
ودليل الإنسداد وحجية الظن المطلق عند انسداد باب العلم والعلمي مستحدث وإن نسبت بعض الكلمات إلى المتأخرين أو زج فيه خبر الواحد.
وليس في القرآن أو السنة ، أو في الأصول فقط أمارة على دليل الإنسداد ، بل انها تدعو إلى خلافه.
ولم يستدل القائلون بدليل الإنسداد بكلمة واحدة من القرآن أو السنة على هذا الدليل الذي يعطي رجحاناً وموضوعية للظن ويلبسه لباس الدليل.
وجعلوا معه خبر الواحد وهو أمر مختلف عنه ، ومستقل في حكمه.
والقرآن معجزة عقلية ، وكانت معجزات الأنبياء حسية .
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، السالم عن المعارضة ، ويمكن أن تضاف أفراد إعجازية أخرى لخصوص القرآن ، ومنها إحاطة كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث .
وفي مرسلة (المعلى بن خنيس قال: قال الإمام الصادق عليه السلام : ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزوجل ولكن لا تبلغه عقول الرجال.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول صلى الله عليه وآله وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم اميون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله، على حين فترة من الرسل.
وطول هجعة من الامم ، وانبساط من الجهل، واعتراض من الفتنة، وانتقاض من المبرم.
وعمى عن الحق، و اعتساف من الجور ، وامتحاق من الدين، وتلظي من الحروب)( ).
لبيان أن من معاني قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( )، هو نزول القرآن ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونفي ومحو حال الضلال والجهالة عن الناس.
وفيه رد ونقض وإبطال للقائل بدليل الإنسداد بأن آيات القرآن محدودة ، والأحداث غير محدودة .
قانون ملازمة الكتابة لنزول القرآن
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ما أوحي إليه على من حضر ، ويأمر بكتابته ، ويبعث من حفظته من يعلمه للناس ويطلب من بعض المسلمين أن يقرأ عليه القرآن ويخرج عليهم في المسجد يطلب منهم أن يخفضوا أصواتهم في القرآن كي لا يتغالطوا .
وكان المسلمون يكتبون القرآن على كل من :
الأول : العسب وهو جريد النخل الذي لم ينبت عليه الخوص أو كشط خوصه .
الثاني : يكتبون على الأقتاب من الخشب .
الثالث : اللخاف وهي صفائح من الحجارة والرقاق .
الرابع : الأكتاف وهو عظم الكتف من الأبل والغنم .
الخامس : الرقاع وهي الصحيفة من الجلد أو الورق .
وكان يوضع في بيت النبي الكثير مما يكتب إلى جانب ما يوضع في بيوت أخرى أو ينقل إلى بلدان ونواحي مختلفة.
وانتهى العهد النبوي والقرآن مجموع على هذه الهيئة مجتمعاً بين دفتين ، أو مكتوباً منثوراً في الرقاع والعسب ونحوها ، ولما توفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتنى الصحابة بالقرآن ، فأقسم الإمام علي عليه السلام أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ، وقام أبو بكر في أيام خلافته وكذلك عمر وعثمان بجمع القرآن .
مواطن الحساب
و(عن أبي أيوب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته . والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها ، يشهدان عليها بما كانت لزوجها ، وتشهد يداه ورجلاه بما كان يوليها . ثم يدعى الرجل وخادمه بمثل ذلك.
ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ، ثم دوانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلم ، وسيئآت هذا الذي ظلمه توضع عليه.
ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال : أوردوهم إلى النار . فوالله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا]( ).
وأخرج أحمد والطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول خصمين يوم القيامة جاران)( ).
ولا تعارض بين الحديثين لتعدد مصداق الأول على ضروب من الحساب.
ويمكن القول بأن النبي محمداً هو أكثر الأنبياء ذكراً للأهوال الآخرة ، مع استدلاله عليها بآيات القرآن ، ولا يحصي كثرة الذين انتفعوا من إنذارات الحديث النبوي في كل جيل وطبقة إلا الله عز وجل .
ومن الإعجاز في ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعالم الآخرة اقترانه بالدعاء للفوز يومئذ بالنعيم الدائم ، والنجاة من النار مع ذكره لآيات القرآن ليكون الدعاء ترجمة وتفسيراً لها .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكاً يقول آمين ، فإذا مررتم عليه فقولوا : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)( ).