معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 256

المقدمـــة
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه خاتم النبيين محمد بن عبد الله ، وعلى آله مصابيح الدجى الذين يستضيء بهم الناس .
الحمد لله رب العالمين الذي جعل الحمد له وحده آية من السبع المثاني التي يفتتح بها القرآن مع أنها ليست أول آية أنزلت من القرآن.
الحمد لله الذي جعل الناس والخلائق تنطق بحمده والثناء عليه طوعاً وقهراً وهو من مصاديق ملكه المطلق ، وفي التنزيل [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ]( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد له خزينة في الدنيا والآخرة ، ينتفع منها الفرد والجماعة ، والذي يقولها ووالداه وأهل دويرته ، وهل منه قوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( ).
الجواب نعم ، ليكون الإنذار من رشحات الحمد لله.
الحمد لله على عظيم قدرته ، وسعة سلطانه ، وحضور الأشياء جميعاً عنده ، واستجابتها لأمره .
الحمد لله الذي أبان عن بديع صنعه بآيات تعجز العقول عن إدراك كنهها ، لتكون شاهداً على التوحيد ، ودعوة للإيمان ، وتنقيحاً للأرض من مفاهيم الجحود .
الحمد لله الذي أنزل الكتب السماوية ، وختمها بالقرآن وعصمه من الزيادة والنقصان ، حباً منه تعالى للبشر ، واستدامة لوظائف خلافتهم في الأرض ، وإقامة للحجة في الدنيا والآخرة ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اصطفاه بالرسالة الخاتمة وأنزل عليه القرآن كتاباً [كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
ليكون وسيلة سماوية مباركة لإزاحة الكفر ومفاهيم الضلالة من الأرض ، ولبيان أن النبي محمداً لم ينتصر بالسيف ، إنما انتصر بالقرآن معجزة سماوية خالدة ، وبالوحي الذي لم يفارقه مدة البعثة ثلاثاً وعشرين سنة ، إنما تلقى مشركو قريش ومن حالفهم رسالته بايذائه وأهل البيت والصحابة ، وعندما هاجر إلى المدينة (يثرب) بالوحي وأمر جبرئيل ، شهروا عليه السيوف .
فكانت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة باصرار من كفار قريش ، ثم معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة التي زحف فيها ثلاثة آلاف من المشركين على المدينة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين قتيل وأسير ، فصرف الله كيدهم ، وجعل الخزي يلحق بهم في الدنيا والآخرة .
ثم جاءت معركة الخندق التي حاصر فيها عشرة آلاف من المشركين المدينة ، بعد أن حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خندقاً حولها ، ليكون احياناً ليس معه خلف الخندق سوى ثلاثمائة رجل ، قال تعالى [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا]( ).
إذ استأذن عدد من المنافقين وغيرهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للذهاب إلى بيوتهم بدعوى أن بيوتهم معرضة للسرقة .
وقال جابر بن عبد الله (إن الذين قالوا بيوتنا عورة يوم الخندق : بنو حارثة بن الحارث)( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم منحه الإذن لهم بالإنصراف مما يدل على حسن توكله على الله ، وحضور قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ولبيان قانون لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من الناس إنما كان القرآن والمعجزة والبرهان هي أسباب دخول الناس في الإسلام من غير إكراه ، ولا عبرة بالقليل النادر من الذين أصروا على البقاء على الكفر وعبادة الأصنام فنزلت آية [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ليؤدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسك الحج في السنة العاشرة للهجرة وليس من كافر في مكة وما حولها ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
فالحمد لله الذي قمع الكفر ، وقهر الضلالة ، وأسقط الأصنام ، ومنع من نصبها وعبادتها في بلاد الإسلام إلى يوم القيامة.
الحمد لله على واسع رحمته في إتساع وكثرة أمصار المسلمين لأنها منارة التوحيد في الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن كتاب التقوى وهدانا للخشية منه ، وتعاهد الفرائض العبادية ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
لبيان أن الهداية والرشاد بتوفيق ولطف من عند الله الذي جعل قلوب العباد في يديه يقلبها كيف يشاء .
الحمد لله الذي جعل السماء سقفاً غير محدود ، قائماً بمشيئة الله ، ليس لها عمد أو أوتاد حسية أو عقلية لا ترى ، وشيد بنيانها ومنعها من السقوط والتمايل .
وبعد أن اختص الجزءان السابقان بتفسير (النبي محمد (ص) للقرآن) يختص هذا الجزء وهو (السادس والخمسون بعد المائتين) من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بقانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) وكانت قد صدرت بخصوصه الأجزاء : (164-165-166-168-169-170-171-172-174-176-177-178-180-181-182-183-187-193-196—204-212-216-221-229-239).
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض ملكية مطلقة لا يشركه فيها أحد ، وكل شئ هو مخلوق لله مستجيب لأمره ، فتفضل الله وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لتوكيد هذه الحقائق والقوانين للناس جميعاً.
وتعرضت عدد من الكتب السماوية ليد التحريف والزيادة والنقيصة ، ولأن الله عز وجل لطيف بالعباد ليس للطفه حد ، فقد تفضل وأنزل القرآن [كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
ووعد بحفظه ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، وهذه الآية هي التاسعة من سورة الحجِر وهي مكية.
والحجر مسكن ثمود قوم النبي صالح ، وهي بين المدينة والشام ، وقد سمى بعضهم هذه السورة بسورة الحفظ ، لبيان آياتها لقانون من الإرادة التكوينية ، وهو حفظ الله لكل شئ.
وورد الحفظ بصيغة الإطلاق الموضوعي والزماني والمكاني وهو فرع ملكية الله المطلقة لأفراد الزمان والمكان والأشياء كلها ، وفي التنزيل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ليشمل وجوهاً :
الأول : صفة التنزيل .
الثاني : رسم حروف وكلمات القرآن .
الثالث : لفظ القرآن ولغته ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الرابع : نظم القرآن إذ أن ترتيب آياته توقيفي .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقيده قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة بقوانين الحرب الدفاعية بصيغ أفضل من قواعد الإشتباك في هذا الزمان التي يبرر فيها الهجوم على أساس الضرورة العسكرية والحذر ، وعدم الإفراط في الإضرار بالمدنيين أو البنى التحتية .
إنما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يغزو بلدة أو قرية ، ويوصي أمراء السرايا بعدم التعرض للمدنيين ، وعدم قطع الأشجار إذ كان يحرص على سلامة البيئة وأسباب الرزق للناس.
إنما جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوقف الغزو ، ومنع الحروب ، ووأد البنات .
الحمد لله الذي أهلك أبرهة وجنوده عندما غزا مكة من أجل هدم البيت والإبادة الجماعية.
لينجو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان يومئذ حملاً في بطن أمه .
لقد أراد أبرهة صرف الناس عن البيت الحرام ليحجوا إلى بناء شيده في اليمن اسمه القليس ، ولم يعلم أن البيت هو بيت الله ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
ثم ليطارد البلاء ملك أسرة أبرهة الذي لم يدم كثيراً.
(قال ابن إسحاق وغيره: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة بعده ابنه يكسوم، ثم من بعده أخوه مسروق ابن أبرهة)( ).
إذ قدم سيف بن ذي يزن الحميري بجيش من كسرى أنوشوران الى اليمن وانتزع الملك منه ، وهذا البلاء وانقراض الحكم من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
الحمد لله الذي جعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة وضياءً وسبباً للرزق الكريم والعيش الرغيد ، وتوالي النعم ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
اللهم اني إسالك العفو والعافية في ديني ودنياي ، وفي مالي وأهلي ، والرزق الكريم واجعلني اللهم من أهل قولك الكريم [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إلى رحمتك ، أنت القوي ونحن الضعفاء إليك ، أنت العزيز ونحن الأذلاء إليك ، أنت الأول والآخر والباقي بعد فناء الأشياء ، وأنت [الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ) الذي تفضلت ورزقت النبي محمداً الفتح من غير أن يغزو المدن والقرى إنما أنزلتَ عليه القرآن ليغزو القلوب بريق في كل زمان وحفظته من التحريف والزيادة والنقصان ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( )، اللهم لك الحمد على التوفيق للتوكل عليك ، واصلاحنا للتدارك والإستغفار والإنابة .
اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عنها [وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الحمد لله الذي رزق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دلائل النبوة وجعل المعجزات الحسية تجري على يديه وأكرمه والمسلمين جميعاً بالقرآن ، وكل آية منه معجزة عقلية تترشح عنها معجزات حسية على نحو التجدد ما طلّ على الأرض الحيريرات الليل والنهار .
وهل هذا التجدد من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، أم أن القدر المتيقن حفظ ذات القرآن وكلماته ، المختار هو الأول .
و(عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ.
فَقَالَ : يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِى أَرَاكَ جَالِسًا فِى الْمَسْجِدِ فِى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ.
قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِى وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ.
قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ : قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ.
قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّى وَقَضَى عَنِّى دَيْنِى)( ).
اللهم رب السموات السبع ورب الأرضين ورب العرش العظيم بعدد الحب والنوى ، وقد أحطت بكل شئ علماً سواء الموجود أو المندثر أو القادم من أحوال الدنيا ، وأهوال الآخرة ، وكل فرد منها لا ينشأ ويوجد ولا يضمحل ويختفي إلا بمشيئة منك سبحانك .
اللهم لك الحمد أن بعثت الأنبياء والرسل وختمتهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( )[ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ).
بالمعجزات العقلية والحسية والبدنية وليس بالسيف والقهر ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).

حرر في الخامس من شهر جمادى الآخرة
19 /12/2023

قانون المشورة مقدمة للدفاع
لما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه إلى واد اسمه (ذفران) أتاه الخبر بمسير قريش مسير قتال بذريعة منع القافلة.
ثم أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عيناً للمشركين فأخبره بأمرهم ، وجاء عين للنبي وهو (من جهينة حليف للأنصار يدعى ابن الاريقط فأتاه بخبر القوم)( ).
واستشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في قتال القوم لأنه صار كالأمر الواقع المفروض ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
وتكلم عدد من الصحابة بخير ، وقال المقداد( ) بن عمرو وهو من المهاجرين (يا رسول الله امض لما أمرك الله ونحن معك والله نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى [اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( )، ولكن إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغُماد( ) لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه( ).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا له بخير)( ).
ثم أعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله (أشيروا عليّ أيها الناس).
والتفت الأنصار أنهم المرادون للقيد في بيعتهم له بالعقبة بالدفاع عنه إذا وصل إلى دارهم ، وانهم يمنعونه مما يمنعون عنه ابناءهم ونساءهم ، وهذا القتال إن وقع فانه يكون خارج المدينة .
فقال سعد بن معاذ وهو سيد الأوس والذي أسلم على يد مُصعب بن عُمير أول سفير للإسلام في المدينة فاسلم باسلامه بنو عبد الأشهل كلهم (والله كأنّك تُريدنا يا رسول الله .
قال صلى الله عليه وسلم :أجل .
قال : فقد آمنّا بكَ وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن يلقانا بنا عدوّنا غداً إنّا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء لعل الله عزّ وجلّ يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله .
ففرح بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ونشّطه قول سعد ثمّ قال : سيروا على بركة الله وابشروا فإنّ الله قد وعدكم إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)( ).
ترى ماذا لو استولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على قافلة أبي سفيان ، الجواب لحدث القتال أيضاً ، ولقامت قريش بملاحقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولقاتلوا بحمية وبسالة ، ويستلزم السير بألف بعير محملة بالبضائع التباطئ فتدركهم خيل قريش .
والآية الكريمة أعلاه تمنع من حدوث هذا الأمر لتقييد الوعد الإلهي بإحدى الطائفتين ، أي أن الإستيلاء على القافلة يقود أيضاً إلى ذات الشوكة وقتال جموع قريش ذات القوة والشدة والبطش ، وأصله من الشوك النبت البري ، أي أن الطريق فيها وعر وغير معبد ، والحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى ، وآخرها بلوى .
بينما حدوث القتال بارادة وتخطيط من قريش أدى إلى هلاك رؤسائهم وخزيهم ، ووقوع الأسرى والغنائم بيد المسلمين ، فالإستيلاء على القافلة يؤدي إلى القتال المتجدد ، ويجمع الأنصار والأحلاف لقريش .
أما معركة بدر فهي قطع للقتال ، ومنع للناس من نصرة قريش ومجئ الغنائم إلى المدينة ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
دراسة مقارنة بين معركة بدر ومعركة أحد
بين المعركتين نسبة العموم والخصوص من وجه.
مادة الإلتقاء بينهما من وجوه :
الأول : وقوع كل من المعركتين بين المسلمين والمشركين .
الثاني : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل من المعركتين.
الثالث : جعل المشركين الأولوية لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو موضوع مناجاتهم .
الرابع : قرب القتل والشهادة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : استعداد قريش لكل من المعركتين ، وعدم استعداد المسلمين ، فلم يعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفير للقتال إلا بعد أن وصلوا مشارف المدينة .
السادس : في كل من المعركتين عدد جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف الصحابة الذين في الميدان .
السابع : في كل من المعركتين شارك المهاجرون والأنصار في القتال ، وكان عدد الأنصار أكثر من عدد المهاجرين فيهما .
و(عن ابن عباس أنه قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون ستة وسبعين وكانت هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة)( ).
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْخَزْرَجِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا)( ).
لبيان قانون تلقي أهل المدينة الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن النبوة والتنزيل بالقبول والرضا والنفير ,
الثامن : كان لكل من المهاجرين والأنصار يوم المعركة لواؤهم ، وكان لواء مع الإمام علي عليه السلام ، وحمل لواء المهاجرين يوم معركة أحد مصعب بن عمير وهو أول سفير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، وحمل لواء الأوس أسيد بن خضير ، وحمل لواء الخزرج الحباب بن المنذر.
و(قال ابن إسحاق: ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رايتان سوداوان: إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، وكان سنه إذ ذاك عشرين سنة، وكانت الاخرى مع بعض الانصار.
وقال ابن سعد: كان لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب ابن المنذر، ولواء الاوس مع سعد بن معاذ، وجزم بذلك في الهدى.
قال أبو الفتح: والمعروف أن سعد بن معاذ كان يومئذ على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وأن لواء المهاجرين كان بيد علي)( ).
التاسع : إخلاص وتفاني المسلمين في معركة بدر وأحد ، وتغشي الخوف لجموع المشركين ، ونفاذ الرعب إلى نفوسهم .
العاشر : نصرة الملائكة للنبي وأصحابه ، ففي معركة بدر نزل ألف من الملائكة ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
إذ بني يومئذ عريش على تلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليطلع منه على ميدان المعركة ، وحينما نظر إلى قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين صلى ركعتين ، واجتهد في الدعاء .
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في صلاته (اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم أنشدك ما وعدتني)( ).
وعنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ( ).
أي أنه استحضر آية مكية لبيان أنها كانت بشارة له ولأصحابه وإنذاراً للمشركين تنجز يوم بدر .
و(قال ابن الانباري : وكانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميين فعلمهم الله تعالى بقوله [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ]( ) أي الرؤوس [وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ) أي مفصل)( ).
ولم يرفع الحديث ، وولد الحافظ ابن الأنباري سنة (274) وله مؤلفات عديدة في النحو.
الحادي عشر : تجلي المعجزات الحسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة بدر ومعركة أحد ، وإطلاع المسلمين والمشركين عليه ، أما المسلمون فيزدادون إيماناً ، وأما المشركون ففيها إنذار لهم ودعوة لهم ولمن خلفهم للإيمان .
الثاني عشر : العبرة والإتعاظ من كل من المعركتين .
الثالث عشر : توثيق المسلمين لوقائع المعركتين .
الرابع عشر : لم ينهزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركتي بدر ومعركة أحد ، نعم كانت خسارة المسلمين في معركة أحد كثيرة.
وذهب بعضهم إلى تكفير من قال بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هزم ، وقالوا إنه يقتل ، واختلف هل يستتاب وتقبل توبته ، أو يقتل من غير استتابة .
ولا تصل النوبة إلى التكفير والقتل إنما هو البيان والحجة والدليل الجلي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينهزم وأن المسلمين لم يخسروا المعركة .
وقد ذكر الله عز وجل الذين تركوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع إخبار ذات الآية عن عفو الله عز وجل عنهم ، قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
الخامس عشر : لم يؤسر أحد من المسلمين سواء في معركة بدر أو معركة أحد .
السادس عشر : سقوط عدد من الإخوة والأبناء من قريش على الكفر في كل من المعركتين ، نعم معركة بدر كانت هي الأكثر ، فمثلاً فقد الأسود بن المطلب بن عبد العزى كلاً من أولاده :
الأول : زَمَعَة بن الأسود أبو حكيمة
الثاني : عقيل بن الأسود (قتله حمزة وعلي)( ).
الثالث : الحارث بن زَمَعَة بن الأسود ، وكان الحارث هذا قد أسلم وهو في مكة ولكن اباه زَمَعَة حبسه وفتنه ، وأخرجه معه إلى بدر فقتل فيها ، قال ابن هشام (قتله عمار بن ياسر)( ) بينما ابنه الآخر يزيد بن زَمَعَة بادر إلى الهجرة إلى الحبشة .
وكان ولد آخر للأسود اسمه هبار شديداً على رسول الله مجاهراً بعدائه للإسلام خاصة بعد أن قُتل أخواه وابن أخيه الحارث بن زَمَعَة فكان يسلك كل سبيل فيه عداء وإيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ويقول (لو أسلمت قريش كلها لم أسلم)( ).
السابع عشر : إخلاص وتفاني المهاجرين والأنصار في القتال وحسن توكلهم على الله ، وتخاذل وخوف المشركين .
الثامن عشر : تجلي شجاعة الإمام علي عليه السلام ، وإنفراده بقتل أكثر عدد من المشركين الغزاة ، ودفاعه عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع عشر : عدم استعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمعركة بدر وأحد توكلاً على الله عز وجل ، ولمنع عسكره المدينة وتعطيل الأعمال.
وقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وليس معه سيف ، وفيه شاهد على أنه لم يقصد الغزو والقتال ، إنما كان في كتيبة إستطلاع ونشر الإسلام ، ومعرفة أهل القرى والركبان بالشهادتين ، ووجوب الصلاة والترغيب بها ونبذ مفاهيم الشرك ومبادئ الأوثان .
العشرون : قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة بدر ومعركة أحد.
الواحد والعشرون : نزلت سورة الأنفال بخصوص معركة بدر ، ونزلت آيات عديدة من سورة آل عمران بخصوص معركة أحد منها قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، إلى قوله تعالى وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
الثاني والعشرون : لكل من معركة بدر وأحد معالم وشواهد تأريخية معلومة ، ففي معركة بدر مسجد العريش الذي بناه المسلمون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون محل صلاته ودعائه عشية يوم بدر ، وكان عريشاً من جريد وسعف النخيل ، ومنها العدوة الدنيا التي أقام عندها المسلمون ، قال تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ]( ).
ويدل نفي هذه الآية الميعاد بين الفريقين على عدم قصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال أو الغزو ، إنما اضطر هو وأصحابه للدفاع.
ومن معالم بدر مقبرة الشهداء عند آبار بدر إذ استشهد أربعة عشر من الصحابة وأحدهم مات في الصفراء في الطريق إلى المدينة متأثراً بجراحه ، وهو عبيدة بن الحارث بن المطلب .
الثالث والعشرون : موضع بئر بدر والقليب الذي ألقي فيه قتلى المشركين ، أما في معركة أحد فهناك جبل أحد ، وجبل الرماة (جبل عينين) وخيمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي هي الآن ضمن مسجد الشهداء .
الرابع والعشرون : تفضل الله عز وجل بالقاء النعاس على المسلمين في معركة بدر ومعركة أحد أمنة وطرداً للخوف والفزع ، نعم كان النعاس أظهر وأقوى في معركة أحد لما لاقاه المسلمون من الخسارة ولمنع الهمّ بالفشل والإنسحاب .
وفي معركة بدر قال تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت الشجرة حتى أصبح)( ).
مما يدل على أن النعاس ليس في ميدان المعركة إنما في ليلة المعركة وهو معجزة ذاتية وغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاما الذاتية فبقاؤه قائماً يصلي ويدعو الله في الليل ، وأما الغيرية فهي نوم أصحابه وغلبة الطمأنينة عليهم وغفلة المشركين عن نومهم ، وعدم إجهازهم عليهم ليلاً.
وكأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بات ليلتئذ حارساً لأصحابه بشخصه ونبوته لتأكيد سلامتهم ومقدمة لنصرهم في ميدان المعركة .
وأما في معركة أحد فورد (عن أنس أن أبا طلحة قال : غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد ، حدث أنه كان ممن غشيه النعاس يومئذ ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، وسقط وآخذه . فذلك قوله [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]( )، والطائفة الأخرى؛ المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه وأخذ له للحق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كذبهم إنما هم أهل شك وريبة في الله)( ).
الخامس والعشرون : تحقق مصاديق تدل على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته للناس .
السادس والعشرون : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين .
السابع والعشرون : بعث الفرقة والخلاف بين المشركين .
الثامن والعشرون : لقد استغاث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالله عز وجل في معركة بدر ومعركة أحد ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
أما المشركون فانهم ندبوا في كلا المعركتين الأصنام ، ففي معركة بدر (قال أبو العالية: ولما قتل هؤلاء ورجع هؤلاء قال أبو جهل وأصحابه: لنا العزى ولا عزى لكم، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار)( ).
وفي معركة أحد قال أبو سفيان ذات كلمة أبي جهل ، فعند عصر ذات اليوم الذي بدأت فيه معركة أحد وهمّ المشركون بالإنسحاب تخاذلاً أشرف أبو سفيان على الجبل ونادى في كلام (اُعْلُ هُبَلُ ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَلَا تُجِيبُونَهُ ، فَقَالُوا : مَا نُقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللّهُ أَعْلَى وَأَجَلّ.
ثُمّ قَالَ لَنَا الْعُزّى وَلَا عُزّى لَكُمْ .
قَالَ أَلَا تُجِيبُونَهُ ، قَالُوا : مَا نَقُولُ ، قَالَ قُولُوا : اللّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ)( ).
التاسع والعشرون : مبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في موقع المعركة في الليلة التي سبقتها سواء في معركة بدر أو معركة أحد ، لتكون مناسبة للدعاء والإستغاثة بالله ، وتنظيم الصفوف .
الثلاثون : في معركة بدر لم تخرج نساء قريش معهم ، ولكن خرجت القيان لدق الطبول والغناء ، وردت من الجحفة بخلاف إصرار هند بنت عتبة واصرارها على الخروج إلى معركة أحد( )، وقد خرجت معهم النسوة من قريش بعد خلاف بينهم .
ومعهم القيان يضربن الدفوف ويلقين الأشعار لبعث الحماس في نفوسهم [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
الواحد والثلاثون : نزول آيات قرآنية خاصة بكل من معركة بدر وأحد ، وبما يزيد في إيمان المسلمين ، ويزجر عن النفاق والكفر .
الثاني والثلاثون : عدم أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعض أزواجه معه ، أما في معركة بدر فان خروجه وأصحابه كان للإستطلاع ونشر الإسلام ، وأما في معركة أحد فلقرب ميدان المعركة وإن خرج عدد من النسوة لمداواة الجرحى وجلب الماء للسقاية.
الثالث والثلاثون : موضوعية قافلة أبي سفيان في المعركتين ، أما في معركة بدر فكانت السبب في تجهز وخروج قريش للقتال ، وإصرارهم عليه.
وأما في معركة أحد فقد اتخذت قريش أموال القافلة للإنفاق على المعركة واستئجار رجال القبائل.
فلما رجعت فلول قريش إلى مكة من معركة بدر ، منعوا النياحة على قتلاهم ، وفكاك الأسرى .
ويتعجل أبو سفيان بالعودة إلى مكة ، ولم يفرق أموال القافلة وظلت محجوزة عند دار الندوة المجاورة للبيت الحرام لأن أكثر أهلها غائبين .
وعند عودتهم جماعات وأفراداً مشى عدد من وجهاء قريش إلى رئيس القافلة أبي سفيان بن حرب وهم كل من :
الأول : الأسود بن المطلب بن أسد .
الثاني : جبير بن مطعم .
الثالث : صفوان بن أمية .
الرابع : عكرمة بن أبي جهل .
الخامس : الحارث بن هشام .
السادس : عبد الله ابن أبي ربيعة .
السابع : حويطب بن عبد العزى .
الثامن : حجير بن أبي إهاب)( ).
وكل فرد من هؤلاء موتور بقتل عدد من أهل بيته وأقاربه ، وجمعوا في حديثهم بين الخبر والسؤال والثأر .
(فقالوا: يا أبا سفيان، انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها، فقد عرفت أنها أموال أهل مكة ولطيمة قريش، وهم طيبو الأنفس، يجهزون بهذه العير جيشاً إلى محمد، وقد ترى من قتل من آبائنا، وأبنائنا، وعشائرنا. قال أبو سفيان: وقد طابت أنفس قريش بذلك؟ قالوا: نعم.
قال : فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله الموتور الثائر، قد قتل ابني حنظلة ببدر وأشراف قومي.
فلم تزل العير موقوفةً حتى تجهزوا للخروج إلى أحد، فباعوها وصارت ذهباً عيناً، فوقف عند أبي سفيان.
ويقال إنما قالوا: يا أبا سفيان، بع العير ثم اعزل أرباحها. وكانت العير ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً، وكان متجرهم من الشام غزة، لا يعدونها إلى غيرها) ( ).
ويحتمل المراد من العير التي تم بيعها وجوه :
الأول : ذات العير التي تحمل البضاعة وعددها ألف بعير .
الثاني : البضائع والتجارة التي تحملها العير .
الثالث : الجامع المشترك للعير وحمولتها .
والمختار هو الثاني .
الرابع والثلاثون : مجئ جيش المشركين لمعركة بدر ركباناً ، إذ كانوا مسرعين لبلوغ وإنقاذ قافلة أبي سفيان ، وكذا في معركة أحد فقد كانت معهم ثلاثة آلاف بعير عدا مائتي فرس يقودونها .
الخامس والثلاثون : شهداء المسلمين في الجنة ، قال تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( )، ونزلت الآية أعلاه في شهداء بدر وعددهم أربعة عشر ، ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار .
وكان الناس يقولون للذي يقتل في سبيل الله مات فلان وذهب منه نعيم الدنيا ولذتها فنزلت الآية لتخبر بأنهم أحياء وفي النعيم عند الله عز وجل .
السادس والثلاثون : لقد شاور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في كل من معركة بدر وأحد ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
و(عن ابن عباس قال : لما شاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في لقاء العدوّ ، وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر ، أمر الناس فتعبوا للقتال وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الايمان ، فأنزل الله [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ]( ) إلى قوله [وَهُمْ يَنْظُرُونَ]( ) أي كراهية لقاء المشركين)( ).
وفي معركة أحد شاورهم النبي وأراد البقاء في المدينة وقتالهم فيها ، ولكن رهطاً من شباب الأنصار أصروا على الخروج .
السابع والثلاثون : مشركو قريش هم الذين بدأوا القتال في كل من معركة بدر ومعركة أحد .
الثامن والثلاثون : كل من المعركتين وقعت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
التاسع والثلاثون : دخول طائفة من الناس الإسلام بعد كل من معركة بدر وأحد .
الأربعون : تجلي معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من المعركتين .
الواحد والأربعون : شهادة عدد من الصحابة في كل من المعركتين .
الثاني والأربعون : انتهاء كل من المعركتين في نفس اليوم الذي بدأت به ، وهو معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث والأربعون : ينادي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان في كل من المعركتين (قولوا لا أله إلا الله تفلحوا )وهو ذات النداء الذي كان يسمعه المشركون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة .
الرابع والأربعون : في كل من المعركتين يبدأ نفر من المشركين بالخروج وسط الميدان وطلب المبارزة والإصرار عليها .
الخامس والأربعون : في كل من المعركتين يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بعدم الإبتداء بالقتال .
السادس والأربعون : في كل من المعركتين يخرج الإمام علي عليه السلام إجابة للمبارزة ، ويقتل عدوه ، ولم يبرز إلا بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن خروجه للمبارزة بالوحي لعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).

كراهية الخروج إلى بدر
اتصفت معركة بدر بخصوصية وهي كراهة طائفة من الصحابة الخروج إليها .
ويدل التوثيق السماوي لهذه الكراهة على أثرها ولزوم إجتنابها ، قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ]( ).
وهذه الكراهة من طبائع النفس والميل إلى الإقامة والدعة ، وإجتناب الأمر المجهول ، وقتال المشركين ، لذا يلزم مجاهدة النفس الأمارة بالسوء.
ولا تتعارض هذه الكراهة مع الإيمان ، لقانون نعت الله عز وجل لهم بالمؤمنين دليل على ترتب الأثر على النية المخالفة للإيمان ، وتجلي مصداق أبهى لهذا القانون يوم أحد بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
والهمّ بالفشل أشد أذى على الذات من الكراهة ، فمع الهمّ بالجبن والإنسحاب ونعتهم الله بالمؤمنين للتبعيض في قوله تعالى [طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ] إلى جانب لغة الخطاب في الآية ، وتفضل الله عز وجل بالإخبار بأنه سبحانه وليهم.
ولم يرد لفظ [تَفْشَلَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
لما علم الصحابة أن القتال بينهم وبين المشركين واقع كرهوا لقاء جموع قريش ولمعان السيوف ، وكانوا يظنون أنهم خرجوا لعير أبي سفيان ولم يستعدوا للقتال ، وليس عندهم أسلحة ومؤن كافية ، ولم تكن عندهم إلا فرس واحدة ، وعند المشركين مائة فرس ، وموضوعية وأثر الخيل في المعركة معروف .
وتتضمن الآية الإخبار بأن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته في المدينة بالحق أي أن هذا الخروج حتم وفيه الخير والبركة ، سواء كان القصد الإستطلاع أو قافلة أبي سفيان ، أو القتال.
وقد تكرر لفظ (الحق) في كل من الآيتين المتجاورتين أعلاه من سورة الأنفال ، فهو المراد منهما معنى متحد .
المختار أن النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، والحق الذي يجادل به الصحابة أعم ، ومنه ما كتب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من النصر والظفر يوم بدر مع قلة عددهم وأسلحتهم إذ قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وهل تدل الآية على خشية الصحابة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، الجواب نعم ، ولكنها أخبرت عن حال هذه الطائفة من الصحابة ، وخشيتهم على أنفسهم ، وخوفهم من القتل بقوله تعالى [كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ]( ).
وخصت الآية طائفة وهي فئة قليلة من المسلمين بدليل قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
فالفرقة شطر من المؤمنين والطائفة قسم من الفرقة لذا كرر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشية بدر مشورته لأصحابه في لقاء المشركين .
وكان حريصاً على سماع قول الأنصار على نحو الخصوص إذ ورد عن جابر بخصوص بيعة العقبة الثانية (فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ .
قَالَ : تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ)( ).
وفي هذا الخبر معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه مطمئن لسلامته في مكة ، وفي طريق الهجرة ، لذا قال لصاحبه في الغار [لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا]( ).

سبب معركة بدر مكر وخديعة
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة باتجاه بدر في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة النبوية إلى المدينة ، لتقع المعركة بعد خمسة أيام وبما أن مكة تبعد عن موضع وبئر بدر نحو (300)كم .
وصرفت قريش ثلاثة أيام للنفير والإستعداد للمعركة فانها خرجت من مكة للقتال قبل أن يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، ولا يضر بهذا المعنى وصول كتاب أبي سفيان إلى جيش قريش بسلامة القافلة وهم بالجحفة والتي تبعد عن مكة (183)كم.
مما يدل على عزم قريش على القتال من الأصل ، وما مسألة القافلة واحتمال الإستيلاء عليها إلا عذراً وحيلة ، ولعل إرسال أبي سفيان إلى مكة يخبرهم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يريد الإستيلاء على قافلته (مكر مكروه في مكة قبل خروجها إلى الشام) وفيه مسائل :
الأولى : اشتراك أكثر أهل مكة بأموالهم بقافلة أبي سفيان ، فاذا أتاهم خبر الإستحواذ عليها هبوا لنجدتها من غير تفكر أو تدبر .
الثانية : كان مع القافلة ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش فقط ، وفيهم عمرو بن العاص ، وهو من دهاة العرب.
فان قيل قد يتعارض هذا مع ورود الخبر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أرادوا الإستيلاء على القافلة قصاصاً على أموالهم ودورهم التي استحوذت عليها قريش بعد الهجرة ، ولكنه لم يثبت ، ولو قلنا به فهو على سبيل التمني لقوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
ولم يرد لفظ [إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ] و[الشَّوْكَةِ] في القرآن إلا في هذه الآية ، ليكون من معانيه انقطاع الشوكة والقوة عن المشركين بعد معركة بدر ، لأنها نصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ونصر الله معجزة حسية وعقلية تفوق في نتائجها ومنافعها التصور الذهني ، لذا فان منافع النصر في هذه المعركة متجددة ومستحدثة إلى يوم القيامة.
وابتدأت أسباب معركة بدر والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة إذ أرادوا قتله في فراشه فنزل جبرئيل في ذات الليلة التي اختاروها للإجهاز عليه ، وأمره بالهجرة إلى يثرب.
وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً بالمبيت في فراشه ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهل من وجوه تشابه بين نجاة إبراهيم عليه السلام وبين نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت ، الجواب نعم ، مع كثرة معجزات النبي محمد الحسية والعقلية ومصاحبة الوحي له في كل أيام حياته.
عندما علمت قريش بوصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب ، واجتماع الأنصار حوله ، وابتداء الهجرة أفراداً وجماعات وبنائه مسجداً للصلاة اليومية على نحو العلن والجهر بقراءة القرآن عزموا على الهجوم والغزو فكانت معركة بدر.
فليس السبب في نشوبها قافلة أبي سفيان إنما هو مكر وخبث ودهاء رؤساء قريش لذا فان خاتمة الآية أعلاه دليل على استمرار مكر قريش حتى بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وصرف الله لشرورهم .
وجوه الإفتراق بين بدر وأحد
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : بناء عريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ليتخذه للدعاء والصلاة ، ورصد ساحة المعركة ، ولم يكن في معركة أحد عريش إذ دخل النبي وأصحابه المعركة حال وصولهم ، وكانت سهام جيش المشركين كثيرة أثناء المعركة وقبلها ، إذ سرحوا خيلهم وابلهم في مزارع الأنصار ، وكانوا يرمون الذي يخرج منها بالسهام في الأيام التي سبقت المعركة ، فاشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يلاقونه ، وتلف مزروعاتهم.
الثاني : ثبات الصحابة في معركة بدر ، ومطاردتهم للمشركين أما في معركة أحد فقد تفرق أكثر الصحابة .
الثالث : إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، إذ قام المشرك ابن قمئة بقتل مصعب بن عمير وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رجع إلى قريش: فقال قتلت محمدا)( ).
الرابع : لم يستطع المشركون الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، أما في معركة أحد فقد اقتربوا من النبي محمد ، وصارت حجارتهم تصل إليه وتصيبه ، وليس معه إلا نحو أحد عشر من أصحابه ، فكان يوم أحد امتحاناً عسيراً ، وبلاَء شديداَ .
وقال ابن إسحاق (حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه، فأصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته، وكان الذى أصابه عتبة بن أبى وقاص.
فحدثني حميد الطويل ، عن أنس بن مالك قال : كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وشج في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله ، فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ( ).
الخامس : في معركة بدر قاتل الصحابة صفاً واحداً بعد المبارزة بين ثلاثة من المشركين أصروا على المبارزة هم عتبة بن ربيعة ، وأخوه شيبة بين ربيعة ، وولده الوليد بن ربيعة .
وبين ثلاثة من أهل البيت هم الإمام علي ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب ، أي أن الحارث ليس من ابناء عبد المطلب كما توهم بعضهم ، وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر سنوات ، وأسلم قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم ، وجرح في معركة بدر ، إذ قطع عتبة ساقه ، وتوفى في الطريق إلى المدينة وعمره ثلاث وستون سنة .
والمطلب بن عبد مناف بن قصي هو عم عبد المطلب جد النبي إذ أتى به المطلب من أخواله بني النجار من يثرب ، وسبب تسمية عبد المطلب ، أن أباه هاشماً حينما حضرته الوفاة بمكة قال لأخيه المطلب (أدرك عبدك بيثرب؛ لأنه كان بيثرب عند أمه سلمى بنت عمرو النجارية، فمن ثم قيل له: عبد المطلب، فغلب على اسمه.
وقيل: إن سبب ذلك: أن عمه المطلب بن عبد مناف لما جاء به إلى مكة رديفه، كان بهيئة رثة؛ فكان إذا سئل عنه يقول: هو عبدي، حياءً أن يقول: ابن أخي، فلما أحسن من حاله، وجمله، أظهر أنه ابن أخيه، فغلب عليه عبد المطلب، وهجر اسمه الصريح الخالص)( ).
وقد امتنعت سلمى أم عبد المطلب في بداية الأمر من إعطائه إلى المطلب وأغلظت عليه ، ولكنه صار يحتج عليها بأنه غريب هنا ، ويكون بين قومه خيراً له ، وهو ابنك اينما كان ، فانشد المطلب :
(أبلغ بني النجار ان جئتهم … أني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوماً إذا جئتهم … هووا لقائي وأحبوا حسيسي)( ).
وقال (ودخل به المطلب مكة ظهراً، فقالت قريش: هذا عبد المطلب فقال: ويحكم! إنما هو ابن أخي شيبة بن عمرو، فلما رأوه قالوا: ابنه لعمري! فلم يزل عبد المطلب مقيماً بمكة حتى أدرك، وخرج المطلب بن عبد مناف تاجراً إلى أرض اليمن فهلك بردمان من أرض اليمن، فولي عبد المطلب بن هاشم بعده الرفادة والسقاية، فلم يزل ذلك بيده يطعم الحاج ويسقيهم في حياض من أدم بمكة) ( ).
السادس : تعددت أسماء معركة بدر فتسمى أيضاً بدر القتال ويوم الفرقان لقوله تعالى [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة ، لسبع عشرة مضت من رمضان)( ).
ومثله ورد عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس أما معركة أحد فلها اسم واحد .
السابع : لم يرجع أحد من الصحابة قبل بدء معركة بدر بينما رجع ثلاثمائة من وسط الطريق إلى معركة بدر ، بتحريض وقيادة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الثامن : لقد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة بعد معركة بدر وأرسل مقدمة لدخوله اثنين من أصحابه لبشارة أهل المدينة بالظفر والفتح إذ أرسل زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وأرسل عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية في المدينة المنورة.
وقال كعب بن الأشرف وهو (من طئ ثم احد بني نبهان وكانت امه من بنى النضير احق هذا أترون ان محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذا الرجلان فهؤلاء اشراف العرب وملوك الناس والله ان كان محمد اصاب هؤلاء القوم لبطن الارض خير من ظهرها.
فلما ايقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطلب بن ابى وداعة السهمى وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينشد الاشعار ويبكى على اصحاب القليب ثم رجع إلى المدينة فتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم)( ).
أما في معركة أحد فقد انهزم بعض الصحابة حتى وصل إلى المدينة ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ) .
التاسع : لم يأت من معركة بدر خبر بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن في معركة أحد انتشر خبر مقتله في الميدان والمدينة ، وخرج الرجال والنساء نحو ميدان المعركة فاستقبلهم رسول الله بجراحاته فكان هذا الإستقبال مواساة لهم بستة وستين شهيداً من الأنصار ، وأربعة من المهاجرين .
(ومرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بامرأة من بني دينار قد أصيب أبوها وزوجها وأخوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بأحد، فلما نعوا إليها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه فأشير بها إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل)( )، أي صغيرة .
وعن حمنة بنت جحش الأسدية وهي ابنة عمة النبي محمد أميمة بنت عبد المطلب قيل لها يوم أحد (قتل أخوك ، فقالت: رحمه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فقالوا: قتل زوجك، فقالت : واحزناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن للزوج من المرأة لشغفة ما هي لشئ)( ).
وزوجها هو مصعب بن عمير حامل لواء المهاجرين وكانت ولدت في مكة ، وكانت تسافر مع زوجها إلى المدينة لتقوم بتفقه نساء الأنصار في الدين وأحكام الصلاة ، وبعد قتل مصعب تزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت له محمداً ، وعمران ، وهي أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش.
و(عن أنس بن مالك قال : لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، وقالوا: قتل محمد، حتى كثر الصراخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الانصار محزمة، فاستقبلت بأبيها ابنها وزوجها وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت به أولا، فلما مرت على آخرهم قالوا: أبوك، زوجك، أخوك، ابنك، فتقول: ما فعل رسول الله ؟
يقولون: أمامك، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب) ( ).
العاشر : في معركة بدر خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العريش (خرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ( ).
وتدل السين في [سَيُهْزَمُ] على المستقبل القريب ، وهذه الآية من سورة القمر وهي مكية .
ولم يعلم عدد من الصحابة بأن المراد هو معركة بدر .
والمختار أن المعنى أعم ويشمل تعاقب هزيمة المشركين في المعارك إلى أن تم فتح مكة ، كما تشمل الآية واقعة حنين إذ تحققت هزيمة ثقيف وهوازن بمعجزة، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
أما في معركة أحد فقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المعركة حال وصولهم إلى جبل أحد بابتداء المشركين برميهم بالسهام وطلب المبارزة.
الحادي عشر : في معركة بدر خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبادر المشركين إلى الماء ، أما في معركة الخندق فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه محاصرين .
بخصوص معركة بدر (قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بنى سلمة ، أنهم ذكروا أن الحباب ابن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة .
قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة.
قال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أشرت بالرأى)( ).
و(عن أبى صالح عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يجمع الاقباص وجبريل عن يمينه إذا أتاه ملك من الملائكة فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هو السلام ومنه السلام وإليه السلام .
فقال الملك : إن الله يقول لك : إن الامر الذى أمرك به الحباب بن المنذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبريل هل تعرف هذا.
فقال : ما كل أهل السماء أعرف ، وإنه لصادق وما هو بشيطان.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه فملئ ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية)( ).
الثاني عشر : لقد أسرّ المسلمون سبعين من المشركين يوم معركة بدر ، أما في يوم معركة أحد ، فلم يقع أسرى بيد المسلمين إلا (َأَبَا عَزّةَ الْجُمَحِيّ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَسَرَهُ بِبَدْر ِ ثُمّ مَنّ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَقِلْنِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” وَاَللّهِ لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ بَعْدَهَا وَتَقُولُ خَدَعْت مُحَمّدًا مَرّتَيْنِ اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ .
فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” إنّ الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا عَاصِمُ بْنَ ثَابِتٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ)( ) .
الثالث عشر : همّ طائفتين من المسلمين في معركة أحد بالإنسحاب لشدة ضغط المشركين ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
و(عن جابر بن عبد الله قال : فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا] ( ) وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا])( ).
لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معهم نساء إلى معركة بدر ، لأنهم في كتيبة استطلاع ، ولا يعلمون بوقوع معركة يحتاجون فيها إلى النساء لمداواة الجرحى ، بينما أحضر المشركون معهم إلى بدر القينات للغناء ودق الطبول ، وقيل ارجعوهن من الجحفة.
الرابع عشر : ورد اسم بدر في القرآن بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ولم يرد اسم معركة أحد بالاسم وان وردت آيات كثيرة بخصوصها .
الخامس عشر : أيهما أكثر الآيات التي بخصوص معركة بدر أو الآيات التي وردت بخصوص معركة أحد ، المختار أن الآيات التي تتعلق بمعركة بدر هي الأكثر ، نعم موضوع الآيات مجتمعة ومتفرقة حاضرة وغضة طرية في كل زمان .
السادس عشر : عدد جيش المسلمين يوم بدر (313) وعدد جيش المشركين (950) .
وعدد جيش المسلمين يوم أحد (700) وعدد جيش المشركين (3000) .
السابع عشر : عدد خيل المسلمين يوم بدر فرس واحدة ، وكان كل ثلاثة أو أربعة يتعاقبون على بعير واحد ، وأحضر المشركون مائة فرس .
وقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على النواضح وهي الإبل التي كان الأنصار يستقون عليها لزراعاتهم .
وعن ابن شهاب وموسى بن عقبة في حديث (والمسلمون غير معدين من الظهر إنما خرجوا على النواضح يعتقب الرجل منهم على البعير الواحد وكان زميل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة فهم معه ليس معهم إلا بعير واحد)( ).
الثامن عشر : معركة بدر هي أول معارك الإسلام في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، أما معركة أحد فجاءت بعدها ، وفي شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
التاسع عشر : ابتدأ المشركون القتال في معركة بدر ، وزحفوا في معركة أحد ثأراً لقتلاهم السبعين في معركة بدر .
العشرون : يبعد موضع معركة بدر (150)كم عن المدينة ، بينما يبعد موقع معركة أحد (5)كم من المدينة .
الواحد والعشرون : موضع موقعة بدر بئر سمي باسم الذي حفره ، وكانت سوقاً من أسواق العرب لوقوعها بين مكة والمدينة وهي محطة لمرور القوافل بين الشام ومكة ، قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الثاني والعشرون : أما موضع معركة أحد فهو على مشارف المدينة من الجهة الشمالية ، وسمي جبل أحد لتفرده وانقطاعه عن الجبال التي حوله وطوله سبعة كيلو مترات وعرضه ما بين كيلوين إلى ثلاثة .
الثالث والعشرون : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص جبل أحد (هذا جبل يحبّنا ونحبّه)( ) .
لبيان صبره وأصحابه في معركة أحد ، وعجز المشركين عن تحقيق غاياتهم الخبيثة يومئذ بارادتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وسبي نساء المدينة ، ووقف نزول القرآن الذي لم ولن تنزل آياته على غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقع بجانب جبل أحد جبل (عَينين) وهو جبل الرماة ، وقد ارتفعت الأتربة والأغبرة من حوله حتى صار يبدو منخفضاً ، وسمّي بهذا الاسم لأن عينين من الماء كانتا حوله.
الرابع والعشرون : يبعد موضع معركة بدر عن مكة (300)كم ، وموضع معركة أحد (5)كم عن المسجد النبوي.
الخامس والعشرون : فرار جيش المشركين في معركة بدر ، بينما انسحبوا إنسحاباً منظماً في معركة أحد ، وذات الإنسحاب خزي لهم لكثرتهم وعجزهم عن تحقيق ما قصدوه من الظلم والجور والتعدي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السادس والعشرون : حفر الخندق بمشورة من سلمان المحمدي بالجهة الشمالية من المدينة فقط ، والحدود الشرقية والغربية تحيطها الجبال ، والجهة الجنوبية فيها بنو قريظة ، والأصل تحالفهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نصرته ، وعدم إعانة المشركين عليهم.
وطول الخندق نحو( 5000 )ذراع وقيل (12000) ذراع ، أما عمقه فهو 7 أذرع ، وعرضه تسعة أذرع ، إذ قسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه مجموعات كل مجموعة من عشر رجال مكلفة بحفر (40) ذراعاً.
ومع هجوم عشرة آلاف من مشركي قريش وحلفائهم على المدينة فانها تسمى في التأريخ غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع والعشرون : احضر المسلمون معهم جماعة من النساء لنقل الماء وعلاج الجرحى في معركة أحد ، وأحضر عدد من رؤساء المشركين معهم نساءهم وغيرهن لتشجيع المقاتلين ، والأهازيج وشحذ الهمم ، ودق الطبول .
الثامن والعشرون : من أهم أسباب معركة بدر قافلة أبي سفيان التي أدعى المشركون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يريدون الإستيلاء عليها ، وليس من أسباب مباشرة لمعركة أحد إذ هجم ثلاثة آلاف رجل من المشركين يريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
التاسع والعشرون : لقد وقع الخلاف بين رؤساء جيش المشركين في طريقهم إلى معركة بدر حينما جاءتهم رسالة أبي سفيان بنجاة القافلة وسيرها نحو مكة وقريباً منها بأمان ، وأمره لهم بالرجوع فطائفة منهم أرادوا الرجوع ، ولكن أبا جهل وجماعة أصروا على الزحف ، ولتمرير مكرهم قالوا إنما نسير نحو بدر لمقاصد :
الأول : تأمين طرق التجارة .
الثاني : الإقامة ثلاثة أيام ننحر الإبل ، وتغني لهم القينات ، ونشرب الخمر .
الثالث : إشعار العرب بقوة قريش كي تهابها ، وتمتنع عن دخول الإسلام.
الثلاثون : في معركة بدر رجعت طائفة من جيش المشركين بعد ورود كتاب أبي سفيان (بأنه قد نجا والعير، فارجعوا)( ).
ولما امتنعت عامة قريش عن الرجوع اتباعاً لرأي أبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم.
قال الأخنس بن شريق الثقفي لبني زهرة وهو حليفهم ومطاع فيهم (إنما خرجتم تمنعون أموالكم وقد نجت)( ).
فاستمعوا لقوله ، ولما أنهزمت قريش زاد إكرام بني زهرة للأخنس وأقروا بحكمته .
(عن الكلبي قال : كنت جالساً بمكة فسألوني عن هذه الآية [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ…]( )الآية . قلت : هو الأخنس بن شريق ومعنا فتى من ولده ، فلما قمت اتبعني فقال : إن القرآن إنما أنزل في أهل مكة ، فإن رأيت أن لا تسمي أحداً حتى تخرج منها فافعل)( ).
لبيان أن سبب النزول أعم من أن ينحصر بفرد واحد .
الواحد والثلاثون : لحوق الخزي لقريش عند عودتها من معركة بدر لسقوط سبعين قتيلاً منهم ، ووقوع مثلهم في الأسر عند المسلمين ، حتى أنهم حرّموا البكاء على قتلى بدر.
وعن ابن إسحاق في إسناده المنقطع إلى التابعي عباد بن عبد الله بن الزبير (قَالَ نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ ، ثُمّ قَالُوا : لَا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ حَتّى تَسْتَأْنُوا بِهِمْ لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ.
قَالَ وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ زَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعَقِيلُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ زَمَعَةَ وَكَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللّيْلِ فَقَالَ لِغُلَامِ لَهُ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ اُنْظُرْ هَلْ أُحِلّ النّحْبُ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ يَعْنِي زَمَعَةَ فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ.
قَالَ فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ إنّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ . قَالَ فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ :
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ … وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
وَبَكّي إنْ بَكّيْتِ عَلَى عَقِيلٍ … وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا … وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ … وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا)( ).
الثاني والثلاثون : في معركة بدر تقدم ثلاثة من المشركين وطلبوا المبارزة ، وخرج لهم ثلاثة شبان من الأنصار الذين لم يعرّفوا أنفسهم بأنهم من الأوس أو الخزرج إنما قالوا نحن (رهط من الأنصار) ( )، فأبوا مبارزتهم ونادوا (يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يسأل المهاجرين وكان عددهم في الميدان أكثر من سبعين ، إنما توجه النبي محمد إلى أهل البيت ، وأقرب الناس إليه ، وشاء الله أن يقتل عبيدة في معركة بدر ، والحمزة في معركة أحد ويبقى الإمام علي عليه السلام إلى حين خلافته ونقل الخلافة إلى الكوفة دفاعاً وضرورة إلى أن استشهد في شهر رمضان في الحادي والعشرين من شهر رمضان من السنة الأربعين للهجرة ، والموافق 27 كانون الثاني سنة 661م.
أما في معركة أحد فلم يبرز جماعة من المشركين دفعة واحدة والظاهر أنهم اتعظوا من معركة بدر وقتل الثلاثة الذين برزوا منهم ، إنما برز حامل اللواء .
قال ابن إسحاق (ولما اشتد القتال يومئذ جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت راية الانصار، وأرسل إلى علي بن أبي طالب أن قدم الراية، فتقدم علي وقال: أنا أبو القصم، وصاح طلحة بن أبي طلحة صاحب اللواء: من يبارز ، فلم يبرز إليه أحد .
فقال : يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم في الجنة، وقتلانا في النار، كذبتم، واللات لو تعلمون إن ذلك حق لخرج إلي بعضكم، فبرز إليه علي بن أبي طالب فالتقيا بين الصفين فبدره علي فصرعه ، ولم يجهز عليه .
فقال له بعض أصحابه : أفلا أجهزت عليه .
فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم ، وعرفت أن الله تعالى قد قتله ، وكان قتل صاحب لواء المشركين تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كأني مردف كبشا ، فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأظهر التكبير وكبر المسلمون، وشدوا على المشركين يضربونهم حتى اختلت صفوفهم)( ).
لبيان أن قتل الإمام علي لحامل لواء المشركين زاد من حماس المسلمين وخذل المشركين وقال الحجاج بن علاط السلمي وهو صحابي شهد خيبر يمدح الإمام علي عليه السلام (ويذكر قتله طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار صاحب لواء المشركين يوم أحد: من الكامل:
لله أَيُّ مذَنب عَنْ حُرْمَةٍ … أَعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الْمُعِم الْمُخْوِلاَ
سَبَقَت يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ … تَرَكتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدَّلاَ
وَشَدَدْتَ شَدَةَ بَاسِلٍ فَهَزَمْتَهُمْ … بِالْجَر إِذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلاَ)( ).
الثالث والثلاثون : في معركة بدر طارد الصحابة المشركين وأسروا عدداً منهم ، أما في معركة أحد فقد انسحب المشركون إنسحاباً منظماً ، ولكن النبي محمداً بعث خلفهم الإمام علي عليه السلام إذ قال له (اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ)( ).
الرابع والثلاثون : لم يخش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عودة سريعة للمشركين بعد معركة بدر لأنهم ولوا فراراً ، أما في خصوص معركة أحد فقد بلغ النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني لها أن المشركين يرومون العودة لغزو المدينة وليس التجعفل عند جبل أحد .
الخامس والثلاثون : زاد انتصار المسلمين في معركة بدر من قوتهم ، وصار باباً لدخول رهط من الناس الإسلام ، أما في معركة أحد فقد تظاهر وأدعى المشركون أن الغلبة لهم ، وحاولوا إرهاب القبائل .
السادس والثلاثون : نزول المطر في معركة بدر ليطهر الذين لم يكونوا على طهارة من المسلمين ، وينفع المسلمين في القتال ، وهذا المطر معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع والثلاثون : وقعت معركة بدر إبتداء وسخطاً من قبل قريش وإرادة استئصال المسلمين ، أما معركة أحد فقد وقعت ثأراً لما أصاب المشركين يوم بدر بكل من :
الأول : سقوط سبعين قتيلاً من قريش .
الثاني : أسر المسلمين لسبعين من المشركين يوم بدر .
الثالث : حسن معاملة المسلمين لأسرى المشركين ، وفيه حجة عليهم ، ومنها أنهم كانوا طلقاء في المدينة .
وفي الثناء على أهل البيت قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( )، وفيه دعوة للمسلمين للعناية والرأفة بالأسير في كل زمان.
الثامن والثلاثون : وقوع مغانم كثيرة في أيدي المسلمين يوم بدر ، منها سبعون بعيراً ، وعدم حصول هذا الأمر في معركة أحد .
التاسع والثلاثون : قبض المسلمين العوض عن أكثر أسرى بدر ، ومقداره أربعة آلاف درهم عن كل منهم ، وبه قال قتادة .
إذ جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على كل اسير مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً ، وهو ذات المبلغ الذي دفعه أبو لهب إلى العاصي بن هشام بن المغيرة كان له عليه ، مقابل خروجه إلى بدر بديلاً عنه ، وهو أخو أبي جهل وقتل معه يوم بدر .
و(عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وهذا كان أقل ما فودي به أحد منهم من المال، وأكثر ما فودى به الرجل منهم أربعة آلاف درهم .
وقد وعد الله من آمن منهم بالخلف عما أخذ منه في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ]( ).
وقال الوالبي عن ابن عباس : نزلت في العباس ففادى نفسه بالاربعين أوقية من ذهب.
قال العباس : فأتاني الله أربعين عبداً ، يعنى كلهم يتجر له.
قال : وأنا أرجو المغفرة التى وعدنا الله جل ثناؤه)( ).
و(قال ابن اسحق وحدثني نبيه بن وهب اخو بني عبد الدار ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اقبل بالاسارى فرقهم بين اصحابه وقال استوصوا بهم خيرا قال فكان ابو عزيز بن عمير بن هاشم خو مصعب لابيه وامه في الاسارى فقال مر بى اخى مصعب ورجل من الانصار يأسرنى فقال له شد يديك به فان امه ذات متاع لعلها تفديه منك فكنت في رهط من الانصار حين اقبلوا بى من بدر فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز واكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اياهم بنا ثم فدى بأربعة آلاف درهم وهى اعلى الفداء)( ).
الأربعون : لم يتم الفداء عن كل أسير في بدر ، وكان الأمر في الغالب إلى الذين قاموا بالأسر ، وصار الأسرى على أقسام :
الأول : من أطلق بلا بدل .
الثاني : من وعدهم بالبدل إذا رجع إلى مكة فاطلقوه ولم يف.
الثالث : منهم من أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم عشرة من صبيان الأنصار القراءة والكتابة .
لبيان أن الإسلام دين العلم وهناك سورة في القرآن تسمى سورة القلم وتبدأ بقوله تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]( )وورد لفظ القلم مرتين في القرآن ، والثانية جاءت في أول سورة أنزلت من القرآن والتي تبدأ بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ]( لبيان قانون الإسلام دين العلم ، وقانون انتشار الإسلام بالعلم وإعجاز القرآن ، ولزوم الإنفاق على التحصيل والدرس ، ويتجلى قانون صدق نزول القرآن مع العلم وطلبه ، وأول آية نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
الواحد والأربعون : حمى الوطيس في معركة بدر بالمبارزة الثلاثية بتقدم عتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة ، وابنه الوليد بن ربيعة ، وطلبهم المبارزة والإصرار عليها ، وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث ، لمبارزتهم ، فقُتل المشركون الثلاثة ورجع أهل البيت الثلاثة مع قطع رجل عبيدة .
ليكون رجوعهم هذا معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهداً على صدق رسالته وهو سبب لإقدام المهاجرين والأنصار على القتال ، وبعث الخوف والرعب في قلوب المشركين ، قال تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ]( ).
الثاني والأربعون : في معركة بدر خرج كفار قريش سراعاً إلى القتال بنفير في ثلاث ليال أما في معركة أحد فقد طافوا على القبائل وألقوا الشعر في مدحهم وقدموا لهم العون والمال لنصرتهم للخروج معهم إلى أحد .
الثالث والأربعون : في معركة أحد نزل قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ]( )، إذ (مَرّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ أَشَعَرْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ إنْ كَانَ مُحَمّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلّغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَوَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ( ).
الرابع والأربعون : في معركة أحد كان هناك جبل الرماة ، إذ إختار النبي خمسين من الصحابة برئاسة عبد الله بن جبير أغلبهم من الأنصار وحذرهم من ترك موضعهم إذ ورد عن (البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة)( ).
الخامس والأربعون : بعد إنقضاء معركة بدر اختلف الصحابة بخصوص توزيع الغنائم فحينما أمر رسول الله بجمعها وجمعت صار الصحابة على ثلاث فرق :
الأولى : قال الذين جمعوها هي لنا .
الثانية : قال الذين هزموا المشركين لولانا لما اصبتموها .
الثالثة : قال الذين يحرسون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما انتم باحق بها منا .
و(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ – وَاسْمُهُ صُدَيّ بْنُ عَجْلَانَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ – قَالَ سَأَلْت عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ عَنْ الْأَنْفَالِ فَقَالَ فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا ، فَنَزَعَهُ اللّهُ مِنْ أَيْدِينَا ، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ يَقُولُ عَلَى السّوَاءِ)( ).
وليس من غنائم في معركة أحد ، بل إنها كانت السبب بخسارة المسلمين لترك أغلب الرماة موضعهم ، وبقي عبد الله بن جبير وثمانية معه ، فاغارت عليهم خيل المشركين من الخلف برئاسة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ، فلا زال عبد الله بن جبير وأصحابه يرمونهم بالسهام وقتلوا عدداً منهم وصلوا إليهم وقتلوهم شهداء .
ثم توجهت هذه الخيل نحو المسلمين من الخلف لتنشر القتل والإرباك والإضطراب بينهم .
السادس والأربعون : كانت مع المشركين يوم بدر مائة فرس (وغنم المسلمون منها ثلاثين فرساً) ( )، وقيل غنم المسلمون يوم بدر مائة وخمسين من الإبل وعشرة أفراس وسلاحاً ومتاعاً وأنطاعاً( )، وثياباً وأدماً كثيراً حمله المشركون معهم للتجارة .
السابع والأربعون : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت يوم بدر آية الأنفال [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، والأنفال هي الغنائم.
انقطع الخلاف بين المسلمين بنزول هذه الآية ، ليس في معركة بدر وحدها بل في كل معارك الإسلام ، سواء في مقدماتها أو وقائعها ، أو ما يترشح عنها ، وأن المدار على التقوى والصلاح ونبذ الفرقة لقوله تعالى [وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( ).
وهل المراد من قوله تعالى [قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ]( )، أي أن الحكم فيها لله والرسول يقسمانها كيف شاءا ، أم المراد ملكيتها.
المختار هو الثاني ، ويدل عليه ما ورد (عن سعد قال : قلت : يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهل لي هذا السيف؟ قال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه . فوضعته ثم رجعت قلت : عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي ، إذا رجل يدعوني من ورائي قلت : قد أنزل الله في شيء؟ قال : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك ، وأنزل الله هذه الآية يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ( ).
فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول (قد وهب لي).
واختلف هل هذه الآية منسوخة بآية الخمس لقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ]( )، وقيل أنها غير منسوخة.
والمختار أنها منسوخة بآية الخمس أعلاه ولا يضر بالمعنى التباين اللفظي بين (الأنفال) و(الغنائم) وأن قيل بأن المراد من الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على سهمه.
الثامن والأربعون : في معركة أحد كان الصحابة يتوقعون جلب الغنائم ولكن حصلت الخسارة الكبيرة بين صفوفهم .
التاسع والأربعون : سبب نفير قريش إلى معركة بدر مجئ رسول من أبي سفيان إلى أهل مكة وهو (ضمضم بن عمرو) وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره قد جدعه وحوّل رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض له محمد وأصحابه، لا أدري إن تدركوها، الغوث الغوث)( )، فتجهز الناس سراعاً .
أما معركة أحد فقد استعد لها المشركون مدة سنة كاملة ، ويطوفون على القبائل لحشدهم معهم ، وفعلاً خرج معهم ألفان من المستأجرين المرتزقة أي ثلثا مجموع الجيش ، وهو من أسباب خذلانهم .
الخمسون : في معركة بدر تصور إبليس بهيئة أحد الذوات ، وصاحب جيش المشركين (وروى الواقدي بإسناده عن ابن عباس قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله ساعة ثم كشف عنه.
فبشر المؤمنين بجبرئيل في جند من الملائكة في ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر في ميسرة الناس.
وإسرافيل في جند آخر خلف الناس، وكان إبليس قد تصور للمشركين في صورة سراقة بن جعشم، يذمر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لكم من الناس، فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه.
وقال: إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه، فضرب صدر الحارث ، فسقط الحارث وانطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر، ورفع يديه قائلا: يا رب موعدك الذي وعدتني وأقبل أبو جهل على أصحابه يحضهم على القتال .
وقال: لا يغرنكم خذلان سراقة إياكم، فإنما كان على ميعاد من محمد وأصحابه، سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه)( ).
وكانت قريش بعد ذلك تعير سراقة لفراره يوم بدر ، مع أنه لم يحضرها .
وعن الصحابي رفاعة بن رافع (إن كنا لنسمع لابليس يومئذ خوارا ودعاء بالثبور والتصور في صورة سراقة بن جعشم حتى هرب فاقتحم البحر، ورفع يديه مادا لهما يقول: يا رب ما وعدتني، ولقد كانت قريش بعد ذلك تعير سراقة بما صنع يومئذ، فيقول: والله ما صنعت شيئاً)( ).
ورفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري الزرقي شهد بدراً هو وأخواه خلاد ومالك ، واختلف في شهود أبيهم لبدر وهو من أهل بيعة العقبة ، وشهد رفاعة مع الإمام علي عليه السلام معركة الجمل وصفين .
و(عن الشعبي قال: لما خرج طلحة والزبير كتبت أم الفضل بنت الحارث إلى علي بخروجهم .
فقال علي (عليه السلام) : العجب لطلحة والزبير؛ إن الله عز وجل لما قبض رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: نحن أهله وأولياؤه لا ينازعنا سلطانه أحد، فأبى علينا قومنا فولوا غيرنا. وأيم الله لولا مخافة الفرقة وأن يعود الكفر ويبوء الدين لغيرنا.
فصبرنا على بعض الألم ثم لم نر بحمد الله إلا خيراً ثم وثب الناس على عثمان فقتلوه، ثم بايعوني ولم أستكره أحداً، وبايعني طلحة والزبير ولم يصبرا شهراً كاملاً حتى خرجا إلى العراق ناكثين. اللهم فخذهما بفتنتهما للمسلمين.
فقال رفاعة بن رافع الزرقي: إن الله لما قبض رسوله صلى الله عليه وسلم ظننا أنا أحق الناس بهذا الأمر لنصرتنا الرسول ومكاننا من الدين، فقلتم: نحن المهاجرون الأولون وأولياء رسول الله الأقربون وإنا نذكركم الله أن تنازعونا مقامه في الناس، فخليناكم والأمر فأنتم أعلم وما كان بينكم غير أنا لما رأينا الحق معمولاً به، والكتاب متبعاً والسنة قائمة رضينا ولم يكن لنا إلا ذلك فلما رأينا الأثرة أنكرنا لرضا الله عز وجل ثم بايعناك ولم نأل وقد خالفك من أنت في أنفسنا خير منه وأرضى فمرنا بأمرك)( )
وتوفى رفاعة سنة (41) للهجرة .
الواحد والخمسون : كان عدد الذين استشهدوا من المسلمين في معركة بدر أربعة عشر ستة من المهاجرين وستة من الخزرج واثنان من الأوس .
الثاني والخمسون : في معركة أحد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدفن الشهداء بملابسهم من غير تغسيل ، وصلى عليهم ، ودفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد .
فدفن عمه حمزة والذي هو أخوه من الرضاعة مع ابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد ، ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام مع عمرو بن الجموح في قبر واحد لأنهما متحابان .
الثالث والخمسون : لقد خسر المشركون في معركة بدر أبرز قادتهم وهم:
الأول : أبو جهل عمرو بن هشام .
الثاني : أمّية بن خلف .
الثالث : عبيدة بن سعيد بن العاص .
الرابع : عتبة بن ربيعة .
الخامس : شيبة بن ربيعة .
السادس : نبيه بن الحجاج .
السابع : منبه بن الحجاج وغيرهم .
ونزل فيهم قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
وقال ابن عباس ([يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( )يوم فرق فيه بين الحق والباطل ببدر [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) جمع المسلمين وجمع المشركين وهو يوم بدر وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة وكان يوم الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان)( ).
وكذا (عن عروة بن الزبير قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقتل في آي من القرآن ، فكان أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً ، وكان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس)( ).
حيث أخذ عبد مناف بن قصي جد النبي محمد الإيلاف والرخصة من الدول بالتجارة معها ومناف اسم صنم وقيل هو (مناة) لأن أمه أخدمته لهذا الصنم.
كان سبب خروج جيش المشركين إلى معركة بدر استغاثة اطلقها أبو سفيان رئيس قافلة قريش بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قد تعرضوا للقافلة .
أما في معركة أحد فلم يأت خبر بخصوص قافلة لقريش إنما سخروا إبل التجارة لركوبها والتوجه بها نحو المدينة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليجحدوا بالنعمة التي خصهم الله عز وجل بها إذ قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الرابع والخمسون : لقد كان المشركون على عجل من أمرهم في معركة بدر فلم يأتوا بالأزواج معهم ، أما في معركة أحد فقد وقع الخلاف بينهم بمصاحبة الظعن.
الخامس والخمسون : اختلاف رؤساء المشركين في أخذ الظعن( ).
و(عن نسطاس قال : قال صفوان بن أمية : اخرجوا بالظعن ، فأنا أول من فعل ، فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث ونحن قوم مستميتون لا نريد أن نرجع إلى دارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه.
فقال عكرمة بن أبي جهل: أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه.
وقال عمرو بن العاص مثل ذلك، فمشى في ذلك نوفل بن معاوية الديلي.
فقال : يا معشر قريش هذا ليس برأي، أن تعرضوا حرمكم عدوكم، ولا آمن أن تكون الدائرة لهم، فتفتضحوا في نسائكم .
فقال صفوان بن أمية: لا كان غير هذا أبداً .
فجاء نوفل إلى أبي سفيان فقال له تلك المقالة، فصاحت هند بنت عتبة: إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك، نعم، نخرج فنشهد القتال، فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر فقتلت الأحبة يومئذٍ.
قال أبو سفيان : لست أخالف قريشاً، أنا رجلٌ منها، ما فعلت فعلت، فخرجوا بالظعن)( ).
(قالوا: فخرج أبو سفيان بن حرب بامرأتين هند بنت عتبة، وأميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة.
وخرج صفوان بن أمية بامرأتين، برزة بنت مسعود الثقفي ، وهي أم عبد الله الأكبر، وبامرأته البغوم بنت المعذل بن كنانة، وهي أم عبد الله بن صفوان الأصغر.
وخرج طلحة بن أبي طلحة بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد، وهي من الأوس، وهي أم بني طلحة، أم مسافع، والحارث، وكلاب، وجلاس، بني طلحة. وخرج عكرمة بن أبي جهل بامرأته أم جهيم بنت الحارث بن هشام.
وخرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة.
وخرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص .
وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب مع ابنها أبي عزيز بن عمير العبدري.
وخرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت طارق بن علقمة.
وخرج كنانة بن علي بن ربيعة ابن عبد العزي بامرأته أم حكيم بنت طارق.
وخرج سفيان بن عويف بامرأته قتيلة بنت عمرو بن هلال.
وخرج النعمان وجابر ابنا مسك الذئب بأمهما الدغنية.
وخرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة ، وهي التي رفعت لواء قريش حين سقط حتى تراجعت قريش إلى لوائها.
قالوا : وخرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده، وحشدت بنو كنانة ، وكانت الألوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة ألوية عقدوها في دار الندوة لواء يحمله سفيان بن عويف، ولواء في الأحابيش يحمله رجل منهم، ولواء يحمله طلحة بن أبي طلحة.
ويقال : خرجت قريش ولفها على لواءٍ واحدٍ يحمله طلحة بن أبي طلحة)( ).
السادس والخمسون : جاء المشركون في معركة بدر بمائة فرس وسبعمائة بعير ، أما في معركة أحد فقد (قادوا مائتي فرس، وكان فيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير)( ).
أي أنهم اصطحبوا الخيل من غير أن يركبونها لدخل إلى المعركة في الحال.
السابع والخمسون : في معركة أحد إنسحب المشركون بانتظام ، وكأنهم اتعظوا من هزيمتهم فلولاً يوم بدر .
وقال يومئذ عدد من المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انهم عائدون إلى المدينة (فبعث علي بن أبي طالب فقال : اخرج على آثار القوم فانظر ما يصنعون وما يريدون ، فإن كانوا قد أجبنوا الخيل وركبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأُناجزنهم
قال علي (عليه السلام) : فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون ، فإذا هم قد أجبنوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني ، فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم لما بي من الفرح وانصرفوا إلى مكة وانصرفنا إلى المدينة ، فأنزل الله تعالى في ذلك [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ]( )، يعني أن انصرفوا إليكم ودخلوا المدينة ، وفي قراءة أُبي (ألا يكفيكم أن يمدكم ربكم)، أي يعطيكم ويعينكم)( ).

الحرة الشرقية (واقم) والحرة الغربية
عندما علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم الأحزاب استشار أصحابه وطاف ومعه عدد منهم للأماكن والجهات التي يحفر فيها الخندق إذ كان لشرق وغرب المدينة حماية بمرتفعات الحرة الشرقية والغربية.
كما أن جنوب المدينة محمي بواقية من غابات طبيعية وأحراش ، وفي الجنوب الشرقي دور بني قريظة وهم على عهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ويلزم حفر الخندق في شمال المدينة لأنها منطقة مفتوحة كي يربط الخندق بين الحرة الشرقية والحرة الغربية ، وهما حرة واقم وحرة الوبرة .
وحرة واقم (الشرقية) مجموعة تلال سميت الحرة لارتفاعها ولأن اكثر سطحها مغطى بصخور وحجارة بركانية ، وسميت حرة واقم لأن شخصاً من العماليق بذات الاسم نزل بها أو لإفادة معنى حاجز لأنها حاجز طبيعي كالسور للمدينة من جهة الشرق ، نعم فيها بعض الممرات لابد من حراستها.
ويرد ذكر هذه الحرة في واقعة الحرة سنة (63) للهجرة عندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية وتجمعوا في الحرة ، فارسل يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة ، وقام مروان بن الحكم بنصرته إذ تسلل من أحد الممرات واتخذها وأصحابه كثغرة .
فوقعت مجزرة وإبادة جماعية قُتل فيها أكثر من أربعة آلاف من أهل المدينة .
ليقضي عقبة هذا حتفه ويهلك بعده بقليل يزيد بن معاوية ، وفي هذه الواقعة المتأخرة زماناً عن خلافة الإمام علي عليه السلام شاهد على حكمته بالإنتقال إلى الكوفة واتخاذ أهل العراق أنصاراً للقضاء على الفتن ، وعدم بقائه في المدينة .
ويسمى مسلم بن عقبة في التأريخ مسرف بن عقبة لإسرافه في دماء المسلمين .
وفي وقعة الحرة (فجاء مسلم بن عقبة فأوقع بالمدينة و قتل أربع آلاف رجل من أفناء الناس و سبعين رجلاً من الأنصار و بقر عن بطون النساء و أباح الحرم و أنهب المدينة ثلاثة أيام و بايعهم على أنه فيء ليزيد و جعل يفعل فيهم ما شاء و كانت الوقعة بالحرة و هي ضاحي المدينة و بتلك سميت الحرة و سموا مسلم بن عقبة مسرف بن عقبة و كان يُسمي ابن الزبير الملحد.
و قد قال محمد بن أسلم الساعدي :
فإن يقتلونا يوم حرة واقمٍ … فنحن على الإسلام أول من قتل
ثم سار مسلم نحو مكة يريد ابن الزبير فطعن بقديد لدعوة أهل المدينة واستخلف على الجيش الحصين بن نمير اليشكري أوصاه يزيد بذلك وقال له يا برذعة الحمار لولا أن أمير المؤمنين أمرني باستخلافك ما استخلفتك فإذا أنا مت فامض بالجيش عني حتى توافي الملحد ولا تجعل أذنك قمعاً لقريش فأنهم سحرة بالكلام ولكن عليك إذا وافيت بالوقاف ثم النقاف ثم الانصراف.
ومات مسرف فسار الحصين حتى أتى مكة وحاصر ابن الزبير أياماً ورمى بالمنجنيق و النفاطات الركن فأحرق الأستار فبعث الله على أصحاب المنجنيق صاعقة فأحرقت منهم بضعة عشر رجلاً.
وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي بايع ابن الزبير على أن لا ينفرد برأي ولا يقضي أمراً دونه فوجه المختار إلى الحصين وقاتله فردهم عن مكة فبينا هم كذلك إذ أتاهم نعي يزيد فانصرفوا إلى الشام)( ).
أما الحرة الغربية فهي أقل وعورة من حرة واقم ، وتمتد من مسجد القبلتين شمالاً إلى محاذاة قباء جنوباً ، وتحمي المدينة من جهتها الغربية وجزء من جهتها الجنوبية التي فيها نخيل كثيف أيضاً .
لذا تم حفر الخندق ليربط بين الحرتين ، ويمنع من دخول جيش المشركين من الجهة الشمالية المنبسطة ، وفي هذا الزمان سكن الناس في الحرتين ، فصار حي الحرة الشرقية ، وحي الحرة الغربية .
يوم الفرقان
معركة بدر هي الأولى في تأريخ الإسلام ويتضمن تسميتها في القرآن [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، الإنذار إلى المشركين بقانون عجزهم عن استئصال الإسلام ، وتبكيتهم وتخويفهم وقانون دعوتهم للإيمان .
ومن معانيه :
الأول : التفرقة والفصل بين الحق والباطل .
الثاني : قانون ظهور الحق جلياً للناس بالمعجزات العقلية والحسية يوم بدر .
الثالث : حال العز والأمن للمؤمنين بعد معركة بدر .
وفي مرسلة الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : قال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة)( ).
و(عن ابن مسعود قال : التمسوا ليلة القدر لسبع عشرة خلت من رمضان ، فإنها صبيحة يوم بدر التي قال الله [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) وفي إحدى وعشرين وفي ثلاث وعشرين فإنها لا تكون إلا في وتر .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين ثم سكت)( ).
وقانون التفريق بين الحق والباطل من الإرادة التكوينية وقائم من حين هبوط آدم وحواء إلى الأرض ، ولكن جاء هنا لبيان أن معركة بدر يوم مشهود لهذا التفريق ، وموضوعيته وحاجته في الجزيرة وفي زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن قانون التفريق وبيانه وتجليه للناس سيبقى إلى يوم القيامة .
فمع أن المشركين هم الذين اختاروا زمان ومكان واقعة بدر ، وأصروا فيها على القتال فانها صارت حداً فاصلاً بين الحق والباطل ، وبداية لقطع الشرك وإزاحة مفاهيم الضلالة عن الناس إلى يوم القيامة.
وليكون من معاني [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ) أن معركة بدر مقدمة لفتح مكة وإزاحة الأصنام عن البيت الحرام وعندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وبلغ الجحفة في طريقه إلى المدينة نزل عليه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( )، وهي بشارة عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فاتحاً من غير قتال .
وهذه الآية استثناء من تقسيم القرآن إلى مكي وهي السور التي نزلت قبل الهجرة وإلى مدني وهي السور التي نزلت بعد الهجرة ، لأنها نزلت في الطريق بينهما .
و[فَرَضَ عَلَيْكَ] أي أنزله عليك وألزمك بالعمل بأحكامه ويختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن عليه ، وتلحق به الأمة في قانون تعاهد القرآن وقانون العمل بأحكامه .
وهل اختصت معركة بدر باسم (يوم الفرقان) وأنه القدر المتيقن أم أنه ورد من باب المثال الجلي والمقصود كل معركة من معارك الإسلام ، بدر ، وأحد ، والخندق ، وفتح مكة ، وحنين ، بدليل قوله تعالى في ذات الآية [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
المختار هو الثاني مع خصوصية لمعركة بدر في المقام ، لبيان قانون ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية .
النسبة بين معركة بدر ومعركة الخندق
النسبة المنطقية بين المعركتين عموم وخصوص من وجه :
مادة الإلتقاء بين معركة بدر والخندق من وجوه :
الأول : وقوع المعركة بين المسلمين والمشركين .
الثاني : حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وقائداً للمسلمين في كل من المعركتين .
الثالث : كل من المعركتين بغزو وهجوم من المشركين ، وقد صدر لنا والحمد لله ستة وعشرون جزءً من هذا السِفر بعنوان (لم يغز النبي (ص) أحدا) ، وهذا الجزء هو السابع والعشرون بذات الموضوع .
الرابع : إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الخامس : عدد جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المهاجرين والأنصار في الميدان .
السادس : عدة وقوة وخيل المشركين أضعاف ما عند المسلمين .
السابع : نزول آيات قرآنية في كل من معركة بدر ومعركة الخندق.
الثامن : قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة بدر والخندق.
التاسع : اشتراك المهاجرين والأنصار في كل من المعركتين .
العاشر : تجلي شجاعة الإمام علي عليه السلام وموضوعية سيفه في تحقيق النصر للمسلمين بفضل ومدد من الله .
الحادي عشر : حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ، وبشارته لهم بالظفر والنصر عند التقيد بسنن التقوى .
الثاني عشر : رجالات قريش هم قادة جيوش الشرك في معركة بدر وأحد والخندق .
الثالث عشر : عدم مغادرة الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل من الواقعتين .
الرابع عشر : دخول طائفة من الناس بعد كل من المعركتين .
الخامس عشر : لابد من إحصاء وذكر عدد وأسماء الصحابة الذين حضروا المشاهد كلها إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدر الإمكان ، وهي :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد .
الثالثة : كتيبة حمراء الأسد .
الرابعة : معركة الخندق .
الخامسة : خيبر .
السادسة : صلح الحديبية .
السابعة : فتح مكة .
الثامنة : معركة حنين .
السادس عشر : تهديد المشركين بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبادة جماعية لأصحابه .
السابع عشر : إرادة المشركين ايقاف نزول القرآن لعلمهم أن آياته تنزل تباعاً على رسول الله ، وأنها تتضمن ذمهم وآباءهم لعبادتهم الأوثان .
الثامن عشر : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدم وقوع قتال في كل من المعركتين .
التاسع عشر : اجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء في المعركتين ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
العشرون : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الميدان.
الواحد والعشرون : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل من المعركتين .
الثاني والعشرون : طاعة الصحابة لله والرسول في المعركتين .
الثالث والعشرون : كفاية الله عز وجل للمسلمين في كل من المعركتين .
الرابع والعشرون : كل من المعركتين تمحيص وابتلاء واختبار لصبر وتقوى المسلمين .
الخامس والعشرون : إتفاق المشركين على كل من المعركتين في مكة ، وإنطلاق الجيوش منها ، نعم في معركة الخندق التحقت كثير من القبائل بالمشركين وسط الطريق .
السادس والعشرون : قانون نقل العيون أخبار المشركين وجيشهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع والعشرون : حمل الإمام علي عليه السلام للواء.
و(عن ابن عباس قال: لعلي أربع خصال ليست لأحدٍ غيره: هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره، وهو الذي غسله وأدخله قبره)( ).
الثامن والعشرون : قلة زاد ومتاع وأسلحة وخيل المسلمين .
مادة الإفتراق بين معركة بدر والأحزاب وفيها وجوه :
الأول : وقعت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ووقعت معركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة على الأرجح ، والموافق شهر آذار سنة (627)م.
الثاني : يبعد موضع معركة بدر عن المدينة (150)كم وعن مكة (300)كم أما معركة الخندق فقد أحاط جيش المشركين بالمدينة .
الثالث : عدد جيش المسلمين في معركة بدر (313) وعدد المشركين (950) أما في معركة الخندق فعدد المسلمين نحو (3000) وعدد المشركين عشرة آلاف جاءوا ركباناً ورجالة .
الرابع : ما عند المشركين من المؤون والخيل والأسلحة أضعاف ما عند الصحابة .
الخامس : لم يكن أبو سفيان حاضراً في معركة بدر لأنه كان على رأس القافلة القادمة من الشام بينما كان حاضراً مع جيش المشركين في معركة الخندق وقيل هو قائد الجيش آنذاك .
السادس : استعداد المسلمين لمعركة بدر ، بينما استعدوا لمعركة الخندق ومنه حفرهم الخندق حول المدينة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم عسكرته للمدينة حتى عند وصول الأخبار ومجئ العيون بأن المشركين يحشدون للخروج لغزو المدينة ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
السابع : بدأ المشركون رمي السهام وطلب المبارزة في معركة بدر ، أما في معركة الخندق فان المشركين حاصروا المدينة وبدأوا برمي السهام.
الثامن : التقى الجيشان في معركة بدر في أرض منبسطة ، وبخصوص معركة بدر قال تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، أما في معركة الخندق فليس من التقاء للجيشين إنما هو الحصار على المسلمين في المدينة المنورة.
التاسع : كثرة المبارزة في معركة بدر ، أما في معركة الخندق فلم تحصل إلا مبارزة واحدة بين الإمام علي عليه السلام وعمرو بن عبد ود العامري ، وكان عبدالله بن مسعود (قرأ هذا الحرف [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) بعلي بن أبي طالب)( ).
العاشر : لم تستغرق معركة بدر إلا ساعات من نهار السابع عشر من شهر رمضان ، أما معركة الخندق فقد حاصر المشركون المدينة أكثر من عشرين ليلة .
الحادي عشر : تسمى معركة بدر في القرآن على جهات :
الأولى : معركة بدر ، وهو المشهور لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثانية : يوم الفرقان لقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالثة : بدر القتال ، لأن بدر الآخرة لم يقع فيها قتال .
الرابعة : بدر الكبرى ، في مقابل بدر الصغرى التي كانت في شهر شعبان من السنة الرابعة للهجرة ، والتي تسمى أيضاً بدر الثانية ، وبدر الآخرة ، وبدر الموعد ، والتي لم يقع فيها قتال لتخاذل ورجوع جيش المشركين برئاسة أبي سفيان إلى مكة مع أنه هو الذي عّين موعدها يوم إنسحابه من معركة أحد.
قال ابن إسحاق (وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ)( ).
الخامسة : بدر المعظمة .
السادسة : بدر البطشة .
الثاني عشر : نزول سورة باسم سورة الأحزاب ، ولم يرد اسم سورة باسم معركة بدر ، نعم ورد في الخبر أن سورة الأنفال هي سورة بدر.
الثالث عشر : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والصلاة في كل من المعركتين ، وقد بني له عريش في معركة بدر .
الرابع عشر : لم يتأخر المسلمون عن أوقات الصلاة في معركة بدر ، بخلاف معركة الأحزاب لشدة الحصار .
ورد عن الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في معركة الأحزاب (الآن نغزوهم ولا يغزونا)( ).
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلوم الغيب.
الخامس عشر : من الإعجاز في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، سرعة انتصار المسلمين في ذات يوم المعركة مع قلة عددهم والنقص في أسلحتهم ومؤنهم وخيلهم ، ليحوزوا الغنائم ويأسروا المشركين ، وبينما قتل من المشركين في معركة بدر سبعون وأُسر منهم سبعون وفي معركة الخندق لم يقتل منهم سوى ثلاثة هم :
الأول : عمرو بن عبد ود العامري .
الثاني : نوفل بن عبد الله ، من بني مخزوم ، اقتحم الخندق فقتل فيه برميه بالحجارة .
الثالث : منبَّه بن عثمان ، من بني عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة( ).
السادس عشر : لم يطلب المشركون في معركة بدر جثة أحد القتلى مع أن في قتلاهم عدداً من سادات قريش ، ومنهم أبو جهل رئيس الجيش ، لأن فلول جيشهم أنهزمت.
أما في معركة الخندق فقد عرضت قريش فداء ودية مقابل جثة عمرو بن عبد ود العامري لأن جيوشهم محيطة بالمدينة فجاء جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له إذ قال (عن ابن عباس قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا بجسده، ونعطيكم اثني عشر ألفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا خير في جيفته ولا في ثمنه، ادفعوه إليهم فإنه خبيث الجيفة ، خبيث الدية)( ).
وعن ابن إسحاق أن الإمام علي عليه السلام طعن عمرو بن عبد ود العامري (في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى)( ).
فمع حاجة المسلمين إلى المال وشدة عوزهم وآثار الحصار عليهم ، أبى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخذ المال منهم ، ولم يقل أنه مال مشركين حربيين لبيان درس نبوي في أخلاق القتال ، ولأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.
ترى لماذا أراد المشركون شراء جثة عمرو بن عبد ود العامري ، المختار لمقامه عندهم ، وتأريخ بطولاته وشجاعته ، ولمنع المسلمين من التفاخر بقتله ، وتعيير المشركين به ، وبث الخوف في قلوبهم ، ولم يعلموا أن الله يبعث الخوف والرعب في قلوبهم على نحو الحتم بسبب اختيارهم الشرك والتعدي وظلم الذات والغير ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبِيعَهُمْ جَسَدَهُ وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ ، فَتَوَرّطَ فِيهِ فَقُتِلَ فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَسَدِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِي جَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ ، فَخَلّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَعْطَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِجَسَدِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ)( ).
ولا تعارض بين الخبرين وأن المشركين عرضوا الدية والفداء عنه وعن عمرو بن عبد ورد العامري فامتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قبولها تنزهاً ، ولم يعترض أحد من الصحابة ، ولم يشر أحد منهم بقبولها ، مما يدل على مرتبة الفقاهة التي بلغوها ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابع عشر : لقد انهزمت فلول المشركين من ميدان المعركة في ذات يوم المعركة ، وطاردهم الصحابة ، واقتادوا بعضهم أسرى ، أما في معركة الخندق فقد أحاط المشركون بالمدينة وسعوا في اقتحامها ، ومن اقتحمها قتل في الميدان كما في عمرو بن عبد ود العامري ، أو قتل وهو في الخندق كما في نوفل بن عبد الله .
الثامن عشر : تبارز الرجال من الفريقين بالسيوف في معركة بدر ، أما في معركة الخندق فكان الرمي بالسهام والحجارة ولم يكن قتال إلا النزال بين الإمام علي عليه السلام وعمرو بن عبد ود العامري ، وقد أصاب المشركين الخوف والفزع من قتل عمرو هذا .
إذ فر الذين عبروا معه الخندق ، وامتنعوا عن فكرة اقتحام الخندق أو نصب جسور عليه ، وأمره سهل بالنسبة لعشرة آلاف رجل منهم ، ولكن امتناعهم هذا معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن أسرار قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
إذ أصبحوا في اليوم الذي قتل فيه عمرو بن عبد ود العامري (يطوفون بالخندق يطلبون مضيقا، يريدون أن يقحموا خيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتيمموا مكانا من الخندق ضيقا قد أغفله المسلمون، فجعلوا يكرهون خيلهم ويضربونها حتى اقتحمت ، فعبر كل من :
الأول : عكرمة بن أبي جهل .
الثاني : نوفل بن عبد الله .
الثالث : ضرار بن الخطاب .
الرابع : هبيرة بن أبي وهب .
الخامس : عمرو بن عبد ود .
وأقام سائر المشركين من وراء الخندق، ولم يعبروا، فقيل لابي سفيان: ألا تعبر قال: قد عبرتم، فإن احتجتم لنا عبرنا .
فجالت بالذين دخلوا خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم)( ).
ليجمع أبو سفيان بين الجُبن والخوف والمكر حتى مع أصحابه ، ولبيان تعدد مصاديق مكر المشركين بقوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
فمكر المشركين ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ومكرهم فيما بينهم سبب للخلاف والشقاق بينهم وبث الرعب في نفوسهم ، ومن مصاديق مكر المشركين مكرهم في حال السلم والحرب .
التاسع عشر : في معركة بدر أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام للخروج للمبارزة هو ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث ، ثم استمر الإمام علي عليه السلام وطائفة من الصحابة بالقتال .
أما في معركة الخندق فان الإمام علي هو الذي استأذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمبارزة عمرو بن عبد ود العامري ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتريث في الإستجابة لطلبه ، لعله رجاء سؤال بعض المهاجرين والأنصار المبارزة ، أو لإقامة الحجة ، ولأنه مناسبة لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له كما سيأتي أدناه .
العشرون : تأخر أوان معركة الأحزاب بثلاث سنوات عن معركة بدر ولم يتعظ المشركون من خسارتهم في معركة بدر وأحد ، قال تعالى [مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ]( ).
الواحد والعشرون : مدة حصار قريش على المدينة أكثر من عشرين يوماً ، أما معركة بدر فقد انتهت بيوم واحد .
الثاني والعشرون : حدث نوع تنافر بين الصحابة في معركة بدر بخصوص الغنائم ، فنزل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، فرضي المسلمون واصلح الله ذات بينهم ، وقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم بينهم.
و(عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان يسمى المزربان ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به ، فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمنع شيئاً يسأله ، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه إياه)( ).
ولم يقع مثل هذا التنافر في معركة أحد أو الخندق لبيان قانون تأسيس الآية القرآنية لحكم أو أحكام باقية إلى يوم القيامة .
الثالث والعشرون : لقد وقعت معركة بدر في أرض منبسطة ساهمت الأمطار في جعلها ندية ، إذ أنزل الله عز وجل من السماء ماء بقدر الحاجة والنفع ، قال تعالى [وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ]( ).
وورد عن حارثة عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (أصابنا من الليل طَشّ( ) من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ربه : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فلما أن طلع الفجر ، نادى : الصلاة عبادَ الله ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف( ))( ).
أما في معركة الخندق فقد اشتغل المسلمون بحفر الخندق في أيام شتاء باردة حتى هبت ريح عاتية على جيش المشركين فولوا مدبرين.
وكان عدد القتلى من المشركين ثلاثة وهو عدد قليل بالقياس مع قتلاهم في معركة بدر وهو سبعون قتيلاً ، واثنان وعشرون في معركة أحد ، فهل يصدق قطع الطرف من المشركين على معركة الأحزاب ، أم أن قلة عدد القتلى يمنع منه .
الجواب هو الأول : فصحيح أن قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، يخص معركة أحد إلا أنه شامل لمعارك الإسلام كلها ، لبيان قانون قطع طرف من الكفار في كل معركة من معارك الإسلام ، ومن قطع طرف المشركين حبسهم في الحصار من دون تحقيق غاياتهم.
ولا يختص قطع الطرف بعدد القتلى إنما يشمل الفرقة والإختلاف بين المشركين ، ودخول طائفة منهم الإسلام ، وهلاك بعضهم كمداً ، وخسارة الأموال ، وعجزهم عن مزاولة التجارة .
والآية أعلاه معجزة وبشارة قانون تخلف المشركين عن مواصلة القتال ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
نهي النبي (ص) عن البدء بالقتال
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : قانون إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البدء بالقتال ، وهل هذا الإمتناع من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء.
الجواب لا ، إنما هو سجية وصفة عامة عند الأنبياء لبيان أنهم كانوا في حال دفاع في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) .
الثاني : نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الرمي وطلب المبارزة ، ففي معركة بدر جمعهم وصلى بهم صلاة الصبح عند طلوع الفجر من يوم معركة بدر ، وهو ينادي الصلاة عباد الله لبيان قانون الصلاة وسيلة للنصر.
وليكون من وجوه تقدير آية (ببدر) ولقد نصركم الله ببدر بتعاهدكم الصلاة جماعة حتى في يوم الفرقان ولمعان السيوف ، ولبيان منافع صلاة الخوف وتشريعها في الميدان ، قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
الثالثة : متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخبار المشركين وتحشيدهم الجيوش ، وبثه العيون للإخبار عن سيرهم نحو المدينة لغزوها.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية تسخير الله الناس لرسالته واستدامة التنزيل ومنهم مشركون لنقل أخبار وزحف المشركين نحو المدينة.
وقيامهم بتخويف رؤساء قريش من غزو المدينة ومن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وبعد نحو ثلاثة أيام من معركة أحد مرّ معبد الخزاعي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في حمراء الأسد بقصد مطاردة جيش المشركين بعد يوم واحد من معركة أحد ، ومنعهم من إعادة الكرة لغزو المدينة ، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتهامة ، لا يخفون عنه شيئاً.
وكان معبد يومئذ مشركاً ، إلا أنه أحزنه ما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وما بهم من الجراحات ومعرفته بالخسارة التي لحقت بهم في معركة أحد لبيان سرعة انتشار أخبار المعركة ونتائجها .
قال معبد (يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء، قد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقالوا : قد أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرّن على بقيتهم فلنفرغن منهم،)( ).
وبينما هم يتناجون بالعودة للإغارة على المدينة وتدارك خطأهم بتعجيل الإنسحاب (رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد.
قال : محمد قد خرج في أصحابه بطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أرَ مثله قط)( ).
أي أنه لم يكتف بخروج الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل وأخبر عن إجتماعهم على الخروج ، وعدم تخلف أحد منهم ، كما بيّن معبد الخزاعي تشوق المسلمين للبطش بالمشركين ، ولم يشك أبو سفيان بقول معبد لأنه مشرك مثلهم .
وكشف أبو سفيان لمعبد عزمهم على العودة بقصد غزو المدينة ، فحذره وأنذره معبد ، بمرأى ومسمع من رؤساء جيش المشركين ، فصرفوا النية للقتال ، وواصلوا السير نحو مكة ، واكتفى أبو سفيان بالتخويف والوعيد ، إذ مر به ركب من عبد قيس.
فسألهم أين تريدون ، قالوا نريد المدينة وأتموا كلامهم لبيان الغاية من سفرهم بقولهم (نريد المدينة نريد الميرة) ( ) خشية من جيش المشركين ، وكيلا يظنوا أنهم يريدون المدينة لإعلان إسلامهم خشية انقضاض الجيش عليهم .
فسألهم أبو سفيان إيصال رسالة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووعدهم بجعل إذ قال لهم (فهل أنتم مبلّغون محمداً عني برسالة أرسلكم بها وأُحمّل لكم إبلكم هذه زبيباً بسوق عكاظ إذا وافيتمونا .
قالوا : نعم) ( ).
ترى لماذا جعل لهم هذا الجعل الكثير ، الجواب لما في نقل هذه الرسالة من الخشية عليهم ، خاصة وأنهم على الكفر ولم يعلم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يتعرض لمن لا يعتدي على المسلمين.
ثم ذكر لهم أبو سفيان مضمون الرسالة بأن المشركين أجمعوا على قتل النبي واستئصال بقيتهم ، ومرّ الركب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حمراء الأسد وأخبروه بما قال أبو سفيان .
فقال هو وأصحابه [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ونزل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
هذا مع الوعد الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر عند وقوع القتال .
ونزل في سورة الحج وهي مكية أي قبل هجرة النبي قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( )، وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : قانون كره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال وسفك الدماء مطلقاً .
الثانية : قانون علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكفاية آيات القرآن لجلب الناس إلى منازل الإيمان .
الثالثة : قانون حضور الوحي مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : قانون فتح باب التوبة للناس ، فمن تطول أيام حياته فتدركه التوبة خير له من القتل كافراً.
موضوعية الدعاء في الميدان
لقد جعل الله عز وجل الإنسان من عالم الإمكان ليكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتجية : الإنسان محتاج .
ومن خصائص نصب الله الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، قضاء حوائجه وهذا القضاء يأتي ابتداء من عند الله تارة وأخرى بالسعي والأسباب ، وحينما تنقطع الأسباب تأتي منافع الدعاء وهو سلاح الأنبياء ، لذا قال الله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، في لطف وعهد.
ولبيان قانون الدعاء عبادة ، ويدل الوعد الإلهي بالإستجابة على قدرة الله المطلقة على كل شئ ، وعلى كرمه وإحسانه ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ونزل القرآن بشواهد عديدة على استجابة الله عز وجل للدعاء منها :
الأول : دعاء نوح عليه السلام ، قال تعالى [وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ]( ).
الثاني : دعاء أيوب عليه السلام [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ]( ).
الثالث والرابع : في يونس وزكريا عليهما السلام في آيتين متعاقبتين ، قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
لقد اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء سلاحاً في المعركة بمرأى ومسمع من أصحابه ، لبيان قانون قيادة الجيش لم تمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإجتهاد في الدعاء .
و(عن سعيد بن المسيب قال : لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب ، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم أنك إن تشأ لا تعبد)( ).
ووجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ بعض الشعراء من أصحابه لشد عزائم الصحابة ، وفضح المشركين ، ولحوق الخزي بهم .
و(عن جابر قال : لما كان يوم الأحزاب ردهم الله [بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا]( )، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من يحمي أعراض المسلمين .
قال كعب : أنا يا رسول الله .
قال عبد الله بن رواحة : أنا يا رسول الله .
فقال : إنك تحسن الشعر .
فقال حسان : أنا يا رسول الله
فقال : نعم . اهجهم أنت ، فإنه سيعينك عليهم روح القدس)( ).
ويلاحظ في الخبرين أعلاه تسمية يوم الأحزاب وليس غزوة ، ومن معاني يوم الأحزاب المحنة والشدة التي كان عليها المسلمون يومئذ ، ولكن كانت الملائكة معهم مدداً وعوناً .
و(عن قتادة في قوله [وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]( )، قال : هم بنو قريظة ظاهروا أبا سفيان ، وراسلوه ، ونكثوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه وقد غسلت شقه.
إذ أتاه جبريل عليه السلام ، فقال : عفا الله عنك . ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها منذ أربعين ليلة ، فانهض إلى بني قريظة فإني قد قطعت أوتادهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال وبلبال)( ).
تقدير [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )
ليس من حصر لأفراد الإستجابة ، ليكون من وجوه تقدير الآية:
الأول : أستجب لكم في ذات موضوع السؤال .
الثاني : أستجب لكم في غير موضوع السؤال .
الثالث : أستجب لكم ولا يقدر على هذه الإستجابة إلى الله عز وجل.
الرابع : أستجب لكم وأرد دعوة المشركين ، وفي التنزيل [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ]( ).
ومن الإعجاز مجئ ذات اللفظ أعلاه ، ولكن بخصوص عالم الآخرة ، وخطاب الملائكة لأهل النار، لبيان السالبة الكلية ورد دعاء الكافرين في الدنيا والآخرة .
وهل يدل في مفهومه على استجابة دعاء أهل الجنة ، الجواب
وهل هذه الإستجابة مطلقة غير مقيدة بذات موضوع الدعاء كما في الحياة الدنيا ، أم أنها تتعلق بذات الدعاء ، المختار هو الأول.
الخامس : أستجب لكم في أمور الدنيا والآخرة ، ليكون من مصاديق الدعاء الإستعداد لعالم الآخرة .
السادس : أستجب لكم في أنفسكم وقضاء حاجاتكم ، وفي عدوكم ببعث الخوف والفزع في نفوسهم .
وعن الإمام الحسن عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم)( ).
السابع : أستجب لكم فاجتهدوا بالدعاء ولا تبخلوا على أنفسكم.
الثامن : أستجب لكم ولكم الأجر والثواب على الدعاء لما فيه من التسليم بقدرة الله عز وجل على كل شئ .
التاسع : أستجب لكم لما في الدعاء من الإقرار بالوحدانية ، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله .
العاشر : أستجب لكم بقانون العلة والمعلول والسبب والمسبب ، أو من دونهما لأن ذات الإستجابة من الله عز وجل علة تامة .
الحادي عشر : ادعوني باخلاص أستجب لكم ، وفي التنزيل [فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
الثاني عشر : ادعوني أستجب لكم ، ليكون كل من الدعاء والإستجابة مجتمعين ومتفرقين دعوة للناس للإيمان والرجوع إلى الله.
الثالث عشر : من فيوضات القرآن الوعد من عند الله باستجابة الدعاء.
الرابع عشر : ادعوني في أمور الدين والمعاملات أستجب لكم .
الخامس عشر : ادعوني أستجب لكم فأني قريب منكم ومن أجيالكم المتعاقبة ، قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ]( ).
(وقيل ادعوني هنا بمعنى اعبدوني بدليل قوله بعده إن الذين يستكبرون عن عبادتي)( ).
ولكن النسبة بين موضوع أول الآية وآخرها عموم وخصوص مطلق ، فالعبادة أعم من الدعاء .
ومن معاني الآية مجئ الدعاء إلى جانب أداء الفرائض العبادية من الصلاة والصوم والزكاة والحج .
السادس عشر : أستجب لكم باكثر من موضوع الدعاء .
السابع عشر : أستجب لكم مع الأجر والثواب إذ أن ذات الدعاء حسنة وعبادة ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
الثامن عشر : ادعوني في الليل والنهار أستجب لكم.
التاسع عشر : ادعوني مجتمعين ومتفرقين أستجب لكم.
العشرون : ادعوني أستجب لكم في الصلاة وخارجها .
الواحد والعشرون : ادعوني لحوائجكم ولغيركم .
الثاني والعشرون : ادعوني فان الدعاء ذكر ، قال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]( ).
الثالث والعشرون : ادعوني أستجب لكم فاشكروا الله ، وفي التنزيل [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الرابع والعشرون : ادعوني أستجب لكم لهدايتكم للإيمان .
الخامس والعشرون : ادعوني أستجب لكم فقد صرفت عنكم موانع الدعاء .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : لما كان أوّل ليلة من رمضان قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأثنى على الله وقال : أيها الناس قد كفاكم الله عدوكم من الجنة ووعدكم الاجابة.
وقال [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) ألا وقد وكل الله بكل شيطان مريد سبعة من الملائكة ، فليس بمحلول حتى ينقضي شهر رمضان ، أَلا وأبواب السماء مفتحة من أول ليلة منه إلى آخر ليلة منه ، أَلا والدعاء فيه مقبول حتى إذا كان أول ليلة من العشر شمر وشد المئزر ، وخرج من بيته واعتكفهن وأحيا الليل .
قيل : وما شد المئزر ، قال : كان يعتزل النساء فيهن)( ).
السادس والعشرون : ادعوني أستجب لكم كما استجبت للأنبياء والصديقين من قبل .
السابع والعشرون : ادعوني أستجب لكم ، أمر عام ووعد مطلق ، وعن الإمام علي عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تعجزوا عن الدعاء فإن الله أنزل عليَّ [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، فقال رجل : يا رسول الله ربنا يسمع الدعاء أم كيف ذلك ، فأنزل الله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ( ).
الثامن والعشرون : ادعوني في الليل والنهار أستجب لكم .
وفي المرسل (عن عطاء بن أبي رباح . أنه بلغه لما أنزلت [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، قالوا : لو نعلم أي ساعة ندعو ، فنزلت [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ]( ) إلى قوله [يَرْشُدُونَ])( ).
التاسع والعشرون : ادعوني وعهد علي استجابة دعائكم .
في حديث مرسل ضعيف عن (عطارد بن مصعب ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أعطي أحد أربعة فمنع أربعة ، ما أعطي أحد الشكر فمنع الزيادة ، لأن الله تعالى يقول [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( )، وما أعطي أحد الدعاء فمنع الإِجابة ، لأن الله يقول [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) وما أعطي أحد الاستغفار فمنع المغفرة لأن الله يقول [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا]( ) وما أعطي أحد التوبة فمنع التقبل؛ لأن الله يقول وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ( ).
الثلاثون : يا أيها الذين آمنوا ادعوني أستجب لكم .
الواحد والثلاثون : (وروى الكلبي عن أبي صالح عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:كيف يسمع ربّنا دعاؤنا وأنت تزعم إنّ بيننا وبين السّماء مسيرة خمسمائة عام وان غلظ كل سماء مثل ذلك)( ).
فنزل قوله تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ).
الثاني والثلاثون : ادعوني أستجب لكم بما فيه نفعكم سواء في ذات مسألة الدعاء أو في غيرها .
الثالث والثلاثون : ادعوني في أيام حياتكم أنفعكم في الدنيا والآخرة .
الرابع والثلاثون : الدنيا دار عمل ومن أبهى العمل الدعاء فادعوني أستجب لكم .
الخامس والثلاثون : ادعوني فان الدعاء شعبة من الإيمان .
السادس والثلاثون : ادعوني لطلب الجنة والنجاة من النار أستجب لكم.
السابع والثلاثون : ادعوني أستجب لكم بكشف الضر .
الثامن والثلاثون : ادعوني أستجب لكم بتقريب البعيد .
التاسع والثلاثون : ادعوني أستجب لكم في الرغائب والأماني.
الأربعون : ادعوني فاني احب الذين يدعون .
الواحد والأربعون : ادعوني بالعفو والمغفرة أستجب لكم.
الثاني والأربعون : ادعوني في حال السلم والحرب .
الثالث والأربعون : ادعوني في ميدان الدفاع ، وفي معركة بدر قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الرابع والأربعون : ادعوني بهداية الناس إلى الإيمان ، ووقف الحروب أستجب لكم.
الخامس والأربعون : ادعوني للتوفيق لأداء العبادات أستجب لكم ، وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ]( ).
السادس والأربعون : ادعوني لقبول دعائكم أستجب لكم ، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم عليه السلام [رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ]( ).
السابع والأربعون : ادعوني للتفقه في علوم القرآن المتشعبة أستجب لكم.
الثامن والأربعون : ادعوني للتوفيق بالعمل بأحكام القرآن ، واثبات أوامره ، وإجتناب نواهيه أستجب لكم .
التاسع والأربعون : ادعوني للثبات على الإيمان والهدى أستجب لكم ، وفي التنزيل [رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ]( ).
الخمسون : ادعوني للتنزه عن النفاق والرياء أستجب لكم.
الواحد والخمسون : ادعوني في حوائجكم ما قل منها وما كثر أستجب لكم ، وفي الحديث القدسي (يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، و ملح عجينك)( ).
الثاني والخمسون : ادعوني وحدي دون غيري أستجب لكم.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الدعاء مخ العبادة)( ).
الثالث والخمسون : ادعوني كدعاء رسول الله أستجب لكم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
الرابع والخمسون : ادعوني لطلب العافية والسلامة والصحة أستجب لكم .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئاً أحب إليه من أن يسأل العافية وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
وعن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يرد القضاء إلاّ الدعاء ولا يزيد في العمر إلاّ البر)( ).
الخامس والخمسون : ادعوني بخشوع وتوسل أستجب لكم ، وفي التنزيل [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السادس والخمسون : ادعوني جهراً وخفية ، وفي التنزيل [وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
السابع والخمسون : ادعوني لكشف الضر أستجب لكم .
الثامن والخمسون : ادعوني لزوال الشرك من الأرض أستجب لكم ، وهذه الإستجابة من مصاديق قوله تعالى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
التاسع والخمسون : ادعوني لمحو الذنوب والسيئات أستجب لكم .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :لا يقل أحدكم اغفر لي إن شئت ، وليعزم في المسألة فإنه لا مكره له)( ).
الستون : ادعوني أستجب لكم كما استجبت للذين من قبلكم .
الواحد والستون : ادعوني أستجب لكم فان الدعاء حاجة للفرد والجماعة.

إنذار النبي (ص) لأمية بن خلف
تتجلى مقدمات معركة بدر بمجئ رسول أبي سفيان إلى مكة يخبر قريشاً بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تعرضوا لقافلتهم ، فهّب رجال وشبان قريش في مكة مع توبيخ وتهديد شديد لمن يتخلف عنهم.
فمثلاً أراد أمية بن خلف التخلف عن الخروج إلى معركة بدر لأن زوجته ذكرّته بوعيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد شدة إيذائه للرسول.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ : أَنّ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ أَجْمَعَ الْقُعُودَ وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا ثَقِيلًا ، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ بِمَجْمَرَةٍ يَحْمِلُهَا ، فِيهَا نَارٌ وَمَجْمَرٌ حَتّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا أَبَا عَلِيّ اسْتَجْمِرْ فَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ النّسَاءِ قَالَ قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ مَا جِئْتَ بِهِ قَالَ ثُمّ تَجَهّزَ فَخَرَجَ مَعَ النّاسِ)( ).
وقد نقل وعيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له سعد بن معاذ رئيس الأوس بعد إسلام سعد الذي قدم مكة معتمراً وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة ، وكان سعد صديقاً لأمية بن خلف ينزل عنده إذا قدم مكة ، وكذا فان أمية إذ جاء المدينة أو مرّ بها نزل على سعد .
فقال سعد (لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من نصف النهار فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك ، فقال: هذا سعد .
فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا، وقد او يتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما)( ).
والمشهور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توعد أخاه أبي بن خلف بمكة قبل الهجرة وهو الذي قتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بحربته عندما أصر أبي على الهجوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا مانع من تعدد هذا الوعيد للأخوين وغيرهما ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) لما فيه من عموم الهداية والزجر عن محاربة النبوة والتنزيل.
ويدل الحديث على الإزدحام في البيت الحرام دائماً ، وهو من مصاديق تسمية بكة بقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، أي يتباك ويتدافع الناس في مكة بمعجزة حسية من عند الله ، ولبيان أن المعجزات لا تختص بالأنبياء ، وفيه رحمة للناس ، وتمهيد لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن البديع في الحديث أعلاه أن أمية لم يقل لأبي جهل أن الذي معي سعد بن معاذ إنما ذكره بالاسم فقط مما يدل على أنه علم عند العرب ، لذا حينما أسلم سعد على يد مُصعب بن عمير أسلم معه بنوِ الأشهل كلهم في نفس اليوم .
ولما سمع سعد قول أبي جهل رفع صوته على أبي جهل قائلاً (أما والله لئن منعتني هذا لامنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك إلى المدينة) ( ).
عندئذ تدّخل أمية قائلاً (لا ترفع صوتك على أبي الحكم سيد أهل الوادي .
فقال سعد : دعنا عنك يا أمية : فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه ( )وسلم يقول : إنه قاتلك ، وفي لفظ : إنهم قاتلوك.
قال : إياي ، قال : نعم.
قال : بمكة ، قال : لا أدري .
ففزع لذلك أمية فزعا شديدا وقال: والله ما يكذب محمد إذا حدّث.
فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم ترى ما قال لي سعد.
قالت : وما قال لك ؟ قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي.
فقلت له : بمكة ، قال: لا أدري .
فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج ، فأتاه أبو جهل .
فقال : يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت ، وأنت سيد أهل الوادي)( ).

دلالات الإنذار النبوي
كان أبو جهل يسمى عند أهل مكة أبا حكم ، وكان يؤذن له بدخول دار الندوة وعمره أقل من أربعين سنة التي لا يدخلها من كان عمره أقل من أربعين سنة ، ولكنه افتتن وجحد عند إظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالته .
واسم أبي جهل هو عمرو بن هشام ، ومن الآيات أن الذي يسمع اسمه سرعان ما ينساه لغلبة كنية أبي جهل عليه .
وفي إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمية نب خلف وجوه:
الأول : إنه من مصاديق الرحمة الخاصة والعامة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : فيه زجر لأمية بن خلف من الخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أمية رئيس قومه بني جمح .
(وكان أمية بن خلف الجمحي ممن يعذب بلالاً ويوالي عليه العذاب والمكروه)( ).
و(عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما : يا عبد الإله، من الرجل منكم الْمعلم بريشة نعامة في صدره .
قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فوالله، إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره .
ثم يقول : لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد. فلما رآه بلال .
قال : رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوتُ إن نجا.
قال : فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أَذُب عنه.
قال : فأخلف رجل السيف فضرب رِجْل ابنِهِ فوقع .
قال : وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط .
فقلت له : انج بنفسك ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئاً.
قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.
قال : فكان عبد الرحمن بن عوف يقول : يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري)( ).
منافع معركة بدر
معركة بدر أول معركة وقعت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين مشركي قريش ، وأول معركة يدخلها النبي والمسلمون .
وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، أي بعد خمس عشرة سنة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مع شدة الأذى الذي لاقاه من قريش طيلة هذه المدة ولكنه كان يقابل أذاهم بالصبر والصفح ، قال تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
وقد اثبتت السنة النبوية القولية والفعلية والوقائع التأريخية أن النبي محمداً لم يكن يرغب في القتال ، وهو في غنى عنه ، ولا تصل النوبة في التبليغ إليه .
فمن إعجاز القرآن أن كل آية منه سيف مسلول على الشرك ومفاهيم الجحود والضلالة .
وفي صبيحة يوم بدر منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه من رمي السهام أو طلب المبارزة وبقي ينظر إلى معسكر المشركين رجاء إنسحابهم وتركهم القتال .
المبارزة التأريخية
حينما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروج الأحزاب من مكة وأن الخيل قد فصلت جمع أصحابه للتشاور قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ]( )، وأخبرهم عن زحف عشرة آلاف من المشركين ، بما لا طاقة للمسلمين بتحمله إلا بالتوكل على الله ، وتفويض الأمور إليه .
وأكثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مشاورتهم مع التأكيد على لزوم الصبر وبذل الوسع في الدفاع والتقيد بسنن التقوى ولزوم الطاعة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وكان أثناء المشاورة يطرح عليهم الكيفية المتعددة للقاء (فَقَالَ : أَنَبْرُزُ لَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، أَمْ نَكُونُ فِيهَا وَنُخَنْدِقُهَا عَلَيْنَا، أَمْ نَكُونُ قَرِيبًا وَنَجْعَلُ ظُهُورَنَا إلَى هَذَا الْجَبَلِ)( ).
فاختلفت أراء الصحابة ومنهم من قال ندع المدينة خلفنا ، ومنهم من قال نكون مما يلي جبل بُعاث.
واستحضر المسلمون ما أصابهم من الخسارة في معركة أحد حينما لم يأخذوا برأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في المدينة ، مع أن رأيه شعبة من الوحي ، وكذا خروجه إلى أحد ، وإمضاءه لحفر الخندق بقبول اقتراح سلمان الفارسي.
وقسّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم طول الخندق على مجموعات من أصحابه للحفر بهمة عالية ومسابقة مع الزمن ، وحدثت معجزة الصخرة التي عاقت الحفر فقطعها مع بشارة الفتح.
وتم حفر الخندق قبل قدوم جيش المشركين بستة أيام وركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرساً ومعه عدد من المهاجرين والأنصار ليختار المكان المناسب له والذي يقع على بعد (500)م غربي المسجد النبوي .
و(روي عن أبي بكر بن عياش أنه قال :
ضَرَبَ عليُ ضربةً ما كان في الإسلام أعز منها يعني ضربة عمرو بن عبد ود .
وضُرِبَ عليُ ضربة ما كان في الإسلام ضَربة أشأم منها يعني ضربة ابن ملجم عليه لعائن الله)( ).
تسمية معركة الخندق
تقدم في الجزء الثامن والثلاثين بعد المائتين عنوان (تسمية غزوة الخندق) و(لماذا تسمية غزوة الخندق) .
وتطلق صفة غزوة على هذه المعركة باسمين :
الأول : غزوة الأحزاب ، لأن جيوش قريش وحلفائها من القبائل المتعددة هجموا على المدينة وحاصروها .
الثاني : غزوة الخندق ، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حفروا خندقاً حول المدينة عند قدوم جيوش المشركين .
والمراد من كلمة غزوة في الوجهين أعلاه في كتب التأريخ أنها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه هو الغازي ، ولكن القرآن والسنة والتأريخ بخلافه ، إنما كان المشركون هم الغزاة.
وقد ذكر لفظ الأحزاب اثنتي عشرة مرة في القرآن ، منها ثلاثة بخصوص معركة الأحزاب في آيتين من سورة الأحزاب وهما :
الأولى : قوله تعالى [يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا]( )، وتتضمن ذم المنافقين .
الثانية : قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
لماذا حفر الخندق
لقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة الأحزاب بحفر خندق حول من جهة شمال المدينة عندما سمعوا بزحف وقدوم جيش المشركين وكثرته وخبث نواياه في استئصال الإسلام وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسبي النساء ، ونهب الأموال وتخريب المدينة.
ومن معاني ودلائل حفر الخندق وجوه :
الأول : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إجتناب القتال ولمعان السيوف وسفك الدماء ، ولقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) كما ورد في التنزيل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وقد اجتمع الفساد وسفك الدماء في مشركي قريش بارتكابهم المعاصي ، وقيامهم بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المدينة وسقوط القتلى من الفريقين.
وهل عبادتهم الأوثان من الفساد الذي ذكرته الملائكة ، الجواب نعم ، فهو اشد ضروب الفساد والإضرار بالذات والغير ، وهو من اسباب الإبتلاء وقلة الرزق ، وإنحباس المطر وجدب الأرض ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ]).( ).
لذا شرعت صلاة الإستسقاء والخروج إلى المصلى لما فيها من التحلي بالخشوع والخضوع لله عز وجل ، والإقرار بأن مقاليد الأمور بيد الله سبحانه ، واظهار المسكنة والفقر والحاجة إلى الله ، ونية التوبة النصوح .
الثاني : تحقيق مصاديق الشورى بين المسلمين في اشد الأحوال فمع أن الوحي مصاحب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ الأحزاب محنة وابتلاء فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتجه إلى الشورى لقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ) وهل هذا التوجه من الوحي ، الجواب نعم ، ليتجلى اجتماع القرآن والوحي في الواقعة الواحدة من السنة النبوية والنسبة بين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فكل آية قرآنية وحي وليس العكس .
وجاء لفظ الأمر في الآية أعلاه مطلقاً ليشمل جهات:
الأولى : الأمر المنفرد .
الثانية : الأمر المتعدد لصدق كلمة الأمر على اسم الجنس أيضاً لصيغة التنكير ، وهو لا يتعارض مع جمعه على أمور.
الثالثة : الأمر الخاص والعام .
الرابعة : أمور السلم والحرب ، ومنها استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في معركة بدر ، واستشارته لهم يوم الخندق ، ومن منافعها ترجيح سلمان لحفر خندق على المدينة ، وقبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، وهذا القبول بالوحي والإذن من عند الله عز وجل .
الثالث : استنزاف قوة المشركين ، إذ بقوا اكثر من عشرين ليلة حول المدينة من الجهة الشمالية .
الرابع : تجلي معجزات حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : نزول آيات قرآنية بخصوص الصبر داخل الخندق .
السادس : حكم ضرورة ، ولجوء إلى حفر الخندق للسلامة ، وتقليل الخسائر ، ومنع المواجهة واللقاء مع جيش كبير مؤلف من عشرة آلاف مقاتل .
السابع : الخندق وتأخر وقوع القتال مناسبة ليتدبر المشركون بالإسلام والتنزيل ، وتنفر نفوسهم من حال الكفر والتعدي التي هم عليها ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
الثامن : بعث الفرقة والشقاق بين المشركين .
التاسع : إجتهادالمسلمين بالدعاء داخل الخندق لصرف شرور المشركين.
العاشر : منع المنافقين من تثبيط العزائم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ) ولا تدل الآية على قيام المسلمين بالغزو ، إنما تخاطب المسلمين بالإبتعاد عما يتصف به الكفار من السجايا ، فلم تقل الآية (وقالوا لإخوانكم) أو (قلتم لإخوانكم).
وكأن الآية من باب الخبر والقصص والإخبار عن الآخرين والموعظة.
الحادي عشر : طول مدة الحصار دعوة للمشركين للتوبة والإنابة .
الثاني عشر : ترغيب اهل المدينة بالصبر والدفاع .
الثالث عشر : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة خلف الخندق نوع مرابطة ، وفيه الأجر والثواب ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابع عشر : أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي باقتراح ورأي الصحابة ليكون من الإعجاز الثبوت التأريخي لصحة الاقتراح والرأي .
الخامس عشر :قانون إنتفاع المسلمين من تجارب الأمم الأخرى ، وفيه شواهد من القرآن والسنة ، ومن مشاورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصحابه عرضه الوجوه والكيفيات المناسبة إذ قال (أَنَبْرُزُ لَهُمْ مِنْ الْمَدِينَةِ، أَمْ نَكُونُ فِيهَا وَنُخَنْدِقُهَا عَلَيْنَا، أَمْ نَكُونُ قَرِيبًا وَنَجْعَلُ ظُهُورَنَا إلَى هَذَا الْجَبَلِ.
فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نَكُونُ مِمّا يَلِي بُعَاثَ إلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ إلَى الْجُرْفِ.
فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْعُ الْمَدِينَةَ خُلُوفًا فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا إذْ كُنّا بِأَرْضِ فَارِسَ وَتَخَوّفْنَا الْخَيْلَ خَنْدَقْنَا عَلَيْنَا، فَهَلْ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ نُخَنْدِقَ .
فَأَعْجَبَ رَأْيُ سَلْمَانَ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرُوا حِينَ دَعَاهُمْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُقِيمُوا وَلَا يَخْرُجُوا، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْخُرُوجَ وَأَحَبّوا الثّبَاتَ فِي الْمَدِينَةِ.)( ).
وظاهر هذا الخبر أن النبي محمداَ عرض على أصحابه حفر الخندق ، وأن سلمان رجحه وذكر أنهم كانوا يلجأون إليه في بلاد فارس إذ داهمتهم خيل كثيرة .
السادس عشر : عجز المشركين عن توفير الطعام لجيوشهم ، والعلف لخيلهم وإبلهم خلف الخندق ، فقد قدمت قريش على عجل في شوال لإجتناب القتال في الشهر الذي يليه وهو ذو القعدة ، وهو من الأشهر الحرم ، فطول الحصار يجعلهم يقتربون من الشهر الحرام ، وهل هو من أسباب إنسحابهم ، الجواب نعم ، ولكن الأهم في الإنسحاب قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن عبد ود العامري ، وتفضل الله عز وجل بارسال ريح عاتية عليهم .
السابع عشر : لما فصلت جيوش المشركين من مكة خرج ركب من خزاعة وهم حلفاء بني هاشم وتوحهوا إلى المدينة فصاروا يطون الأرض طيا (فَسَارُوا مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ أَرْبَعًا)( ).
وحينما دخلوا المدينة توجهوا من ساعتهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروه بزحف الجيوش وأعدادها التقريبية ، وهذا الإخبار من مصاديق قوله تعالى [َومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )ومنها في المقام علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بالوحي ، لبيان قانون تعدد فضل الله في المسألة الواحدة ، فمنها ما يكون سماوياً أو أرضياً أو ذاتياً أو غيرياَ .
الثامن عشر : الخندق على وزن جعفر حفير حول سور المدينة قال (ابن دريد الخندق – فارسي معرب قد تكلم به ديماً وأنشد:
فليأت مأسدةً تسن سيوفها … بين المذاد وبين جزع الخندق)( ).
ولم يكتم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خبر قدوم الأحزاب عن أصحابه ، إنما ندبهم واستدعاهم وكأنهم في صلاة خوف جامعة لجهات :
الأولى : إخبار الصحابة بزحف جيوش المشركين .
الثانية : مشاورة المهاجرين والأنصار فيما يجب فعله .
الثالث : البشارة بالنصر إن هم صبروا واتقوا الله ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِن ْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الرابعة : الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) ( ).
حفر الخندق راية سلام
حفر الخندق شاهد تأريخي متجدد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين في هذه الواقعة ، وإن سمّاها أكثر المؤرخين من غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن حزم (غزا صلوات الله وسلامه عليه خمساً وعشرين غزوة، وهي على ترتيبها: أولها غزوة ودان وهي الأبواء، ثم غزوة بواطٍ وهي من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر .
ثم بدر الثانية، وهي البطشة التي أعز الله تعالى فيها الإسلام، وأهلك رؤوس الكفرة .
ثم غزوة بني سليم حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب .
ثم غزوة غطفان وهي غزوة ذي أمر .
ثم غزوة نحران( )، ثم غزوة أحد .
ثم غزوة حمراء الأسد .
ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم بدر الآخرة، ثم دومة الجندل.
ثم غزوة الخندق ، وهي آخرة غزوة غزاها أهل الكفر إليه، ثم غزوة بني قريظة .
ثم غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة .
ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح فتح مكة ثم غزوة حنين إلى هوزان، ثم الطائف، ثم تبوك.
قاتل منها في تسعٍ: وهي بدر المعظمة، وهي بدر القتال، وهي بدر البطشة، وقاتل صلى الله عليه وآله وسلم في أحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف)( ).
وابن حزم الأندلسي من أئمة الظاهرية كمنهج فكري وفقهي بدأ في بغداد ، وكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المغزي ، وأن المشركين هم الغزاة في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ظاهر وجلي .
آيات الأحكام
عدد آيات القرآن هو (6236) ومنها آيات التوحيد , والأحكام ، والقصص ، والأمثال ، والحكمة المتعالية ، والوعد والوعيد ، والبشارة والإنذار , والتذكير , والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والآيات الكونية .
وأيهما أكثر عدد آيات القرآن أعلاه أم عدد الأحكام المستقرأة منها منطوقاً ومفهوماً ودلالة
المختار هو الثاني.
نعم المشهور أن عدد آيات الأحكام هو (500) آية ، وهذه الشهرة لا تتعارض مع تعدد الأحكام في الآية الواحدة منها ، ومن غيرها.
وقد أحصيتُ في الجزء (49) من معالم الإيمان (35) حكماً في آية التداين وحدها( )، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ].
وآية التداين هي أطول آية في القرآن ، وتسمى آية بالدَين ولكن لإجتمال تسمية الناس لها بآية الدِين اخترت اسم التداين للإيضاح وهي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )،
ولا تنحصر أحكام الآية بالمنطوق بل تشمل دلالة المفهوم على فرض ثبوته كما تستدل في علم الأصول بقبول خبر الواحد الثقة لمفهوم قوله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن إحاطة كلماته المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث .
النسبة بين معركة بدر والأحزاب
مادة الإلتقاء بين المعركتين من وجوه :
الأول : في كل من معركة بدر والأحزاب جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
الثاني : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في الميدان حتى انتهاء المعركة .
الثالث : وجود عدد من الصحابة حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : لم يقع أسرى من المسلمين بيد المشركين ، في كل من معركة بدر والأحزاب ، وهو من فضل الله ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل فيه عبرة وموعظة وزجر للمشركين عن مواصلة الغزو والقتال والظلم ، وهل فيه بشارة للفتح ، الجواب نعم .
الخامس : في كل من بدر والأحزاب المشركون هم الغزاة ، ومع هذا تسمى كل واحدة منهما غزوة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : كل من معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، شواهد على قانون لم يغز النبي (ص) أحداً ، وقد صدرت بخصوصه ستة وعشرون جزءً من هذا السِفر .
السابع : أكثر الصحابة الذين حضروا معركة بدر حضروا معركة الأحزاب .
الثامن : عدد من المشركين حضروا معركة بدر ومعركة الأحزاب منهم عمرو بن عبد ود العامري ، الذي جرح في معركة بدر فاضطر للتخلف عن معركة أحد ، وفيه إنذار وزجر له ، ولكنه خرج في معركة الأحزاب وكان فارسهم فأرداه الإمام علي عليه السلام صريعاً ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وهل من الناس من خرج مع المشركين في معركة بدر وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الأحزاب ، الجواب نعم ، دون العكس وكل منهما معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس من مسلم قاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وحضر مع المشركين في الأحزاب لقانون انتفاء الإرتداد .
مادة الإفتراق من وجوه :
الأول : لقد التقى النبي وأصحابه مع مشركي قريش عند ماء بدر التي هي محطة للقوافل لوجود بئر فيها اسمه (بدر) وقال تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ]( )، والعدوة الدنيا طرف الوادي الأقرب إلى المدينة ، والعدوة القصوى : طرف الوادي الأبعد .
أما في معركة الأحزاب فقد أخبر الله عز وجل عن زحف جيوش المشركين على المدينة بما يبعث الخوف من كثرة عددهم وأسلحتهم وقصدهم الإبادة الجماعية وتعطيل التنزيل ، إذ قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في حديث قال : حدثني (أبي عن جده –أي الإمام الحسين- عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال: لما كان يوم الاحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين، كانوا كما قال الله عزوجل [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]( ).
هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا الدعاء وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يدعو به إذا حزبه أمر.
اللهم احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني بركنك الذي لا يضام واغفر لي بقدرتك علي، رب لا أهلك وأنت الرجاء.
اللهم أنت أعز وأكبر، مما أخاف وأحذر، بالله أستفتح، وبالله أستنجح، وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله أتوجه يا كافي إبراهيم نمرود، وموسى فرعون ، اكفني مما أنا فيه الله ربي لا أشرك به شيئا حسبي الرب من المربوبين ، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي المانع من الممنوعين حسبي من لم يزل حسبي مذ قط حسبي، الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)( ).
الثاني : بعد نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر عزم المشركون على الثأر فجاءت معركة أحد بهجوم وغزو من المشركين.
أما في معركة الخندق فقد وقعت بتمادي مشركي قريش بالغي والجحود فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إنصرافهم خائبين (الآن نغزوهم ولا يغزونا)( ).
الثالث : لقد غنم المسلمون غنائم كثيرة مع أسر سبعين من المشركين في معركة بدر ، وهي معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أما في معركة الخندق فليس من غنائم وأسرى ، إنما كانت المعجزة في معركة الأحزاب من وجوه :
الأول : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثاني : منعة المدينة من الإختراق .
الثالث : إنسحاب جيوش المشركين من دون أن ينالوا شيئاً من غاياتهم الخبيثة.
الرابع : خسارة رجالات قريش الأموال الطائلة ، وتعطيل تجاراتهم .
الخامس : الفرقة والخلاف بين المشركين ، قال تعالى [بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
السادس : شماتة العرب بقريش ، وضعف وتناقص شأنها في الجزيرة وخارجها .
السابع : تجلي معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبة قريش وحلفائها مع كثرة قواتهم وأسلحتهم .
الثامن : دخول طائفة من الناس الإسلام .
الرابع : مع أن عدد جيش المشركين في معركة بدر (950) فقد وصف الله عز وجل المسلمين يومئذ بالذل والضعف والإستضعاف بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
أما في معركة الأحزاب فقد زحف أكثر من عشرة أضعاف عدد المشركين أعلاه ، ومع هذا فان الله عز وجل لم يصف المسلمين بالذل في سورة الأحزاب أو الآيات التي نزلت بخصوصها مما يدل على حال العز والمنعة التي صار عليها المسلمون مع قلة عددهم .
الخامس : لقد انتهت معركة بدر باليوم الذي به ابتدأت وبهزيمة وفرار جيش المشركين بعد كثرة قتلاهم في الميدان ، أما معركة الأحزاب فقد استمر المشركون بحصار المدينة لأكثر من عشرين ليلة ، فبعث الله عز وجل عليهم ريحاً شديدة كالصواعق ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
السادس : إنتفاء النفاق أوان معركة بدر ، ولكن بعد نصر المسلمين بها بمدد وعون من عند الله ، وصيرورتهم بمنعة وحال قوة ، أظهر بعض الناس الإسلام وأخفى الكفر ، ليتبين نفاقهم عند محاصرة الأحزاب المدينة ، فقام المنافقون ببث الإشاعات الباطلة والإرجاف في المدينة التماساً للفتنة ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا]( ).
آيات الدفاع
من الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجلي معجزات متعددة في كل معركة له مع المشركين ، وفيه شاهد بأنه لم يقم بالغزو إنما المشركون هم الذين قاموا بغزوه على نحو متعدد ، والهجوم على المدينة المنورة.
والمعجزات في كل معركة على قسمين :
الأول : الآيات القرآنية التي نزلت بخصوص المعركة كما في قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( )، قال ابن مسعود (لقد قللوا في أعيينا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ، قال : لا ، بل مائة ، حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه ، قال : كنا ألفاً)( ).
وكما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وتثبيت نصر المسلمين كتاباً وسنة وتأريخياً مع نسبته إلى الله عز وجل .
الثاني : المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الدفاع وهي متعددة في كل معركة ، فمثلاً في معركة أحد ورد (عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشَدِّ القتالِ ما رأيتهما قبل ولا بعد)( ).
وذكرهما هنا لا يقيد الحصر لبقاء الإمام علي عليه السلام وعدد من الصحابة من المهاجرين والأنصار حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي رواية أخرى إنهما جبرائيل وميكائيل .
و(قال عمير بن إسحاق( ) : لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فني النبل أتاه به فنثره وقال ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف)( ).
ولقد جاءت آيات قرآنية عن كل من :
الأول : الدفاع والحرب .
الثاني : السلم واتخاذه منهاجاً .
ومع التضاد بين الحرب والسلم ، فان آيات القرآن الجامعة لهما خالية من هذا التضاد ، وهو من أسرار علم أسباب النزول والوقائع والحوادث التي نزلت آيات القرآن بخصوصها ، وقانون انتفاء التزاحم أو التعارض بين آيات القرآن .
وتشمل آيات الدفاع كل من :
الأولى : آيات القتال : بلحاظ قانون قتال المسلمين دفاع ، قال تعالى [أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ]( ).
والآية أعلاه بخصوص كفار قريش الذين نقضوا عهودهم وأيمانهم ، وأرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة كما تشاوروا على إخراجه منها إلى جهة مجهولة كي يقتل في الطريق [وَهُمْ بَدَءُوكُمْ] بالقتال [أَوَّلَ مَرَّةٍ] أي في معركة بدر .
لبيان شاهد قرآني على أن معركة بدر بدأت باصرار المشركين على القتال .
وتقدير قول (آيات القتال) أي آيات القتال دفاعاً .
الثانية : آيات الحيطة والحذر من جيوش المشركين مثل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا]( )، مع ورود الإستثناء من النفير بقوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
وقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
وقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
وقوله تعالى [وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا]( ).
فهذه الآيات لا تتضمن الأمر بالقتال إنما التهيئ والإستعداد لبعث الخشية والخوف في قلوب المشركين فيصرفوا النظر عن الهجوم على المدينة.
الثالثة : آيات الجهاد في سبيل الله : والنسبة بين الجهاد والدفاع عموم وخصوص مطلق ، فالجهاد أعم ولا يختص بسوح القتال ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وليس من قتال مع المنافقين الذين نطقوا بالشهادتين ، ويطلق الجهاد أيضاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والعمل الصالح ، والكسب للعيال والصبر ، ومجاهدة النفس والهوى ، والشيطان .
و(عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)( ).
وفي الجزء قبل السابق وهو (الرابع والخمسون بعد المائتين) ويختص (بتفسير النبي محمد (ص) للقرآن) وفي الثناء من الله على الصحابة الذين خرجوا إلى حمراء الأسد في قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، ذكرت (أن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية تفسير لآيات الدفاع ، وبيان لصدق نزولها من عند الله لتجلي منافعها العامة والخاصة ، وصرف كيد المشركين من غير وقوع قتال في حمراء الأسد)( ).
مسائل في غزوة الأحزاب
الأولى : وقعت غزوة الأحزاب في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة الموافق آذار 627م .
الثانية : تسمى غزوة الأحزاب غزوة الخندق .
الثالثة : دأب أكثر المفسرين وكتاب السيرة على نسبة غزوة الخندق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويذكرونها في سردهم وتعدادهم لغزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الإجماع ودلائل التأريخ والوقائع على أن المشركين هم الذين قاموا بغزو المدينة إذ زحفوا بجنود لا قبل لمدينة رسول الله بها وهو من أسباب ذعر وخوف المنافقين والأعراب .
الرابعة : اشتركت في غزو المدينة قريش والقبائل المتحالفة معها كما تقدم ذكره( )، من غطفان وأسد وأشجع وفزارة وبني مرة .
الخامسة : يستقرأ من كثرة عدد جيوش المشركين ، ومناجاتهم ورسائل الإنذار الشفوية والتحريرية التي كانت قريش تبعثها للمهاجرين والأنصار وأهل المدينة عامة لبعث الخوف والشك في نفوسهم ، وبغية الخلاف بين الصحابة ليكون من الإعجاز في مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار صيرورتها واقية من تخويف قريش ، وجعجعة السلاح .
السادسة : لقد زحف عشرة آلاف في جيش المشركين من بين راكب وراجل ومعهم 300 فرس على المدينة عدا الإبل والأسلحة الكثيرة ، وقابلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه نحو ثلاثة آلاف رجل ، وأحياناً كان عدد الذين خلف الخندق مع النبي محمد ثلاثمائة من الصحابة .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يعطي الإذن لمن يستأذن للإنصراف .
السابعة : ذهب بعض رجالات بني النضير الى مكة لتحريض قريش على النبي ، بعد أن طردهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مسكنهم بسبب نقضهم العهد .
الثامنة : ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج للدفاع يوم الخميس العاشر من شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وانقضت المعركة ، ورفع الحصار يوم السبت الأول من شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم.
التاسعة : لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث العيون ويتلقى الأخبار عن حركات قريش ، وعندما علم بزحفهم نحو المدينة بجيوش كبيرة استشار أصحابه ، وبدأوا بحفر الخندق .
لبيان قانون السكينة في الحياة الإجتماعية اليومية في المدينة ، وعدم نشر الخوف والرعب بين الناس بسبب غزو المشركين ، فمثلاً عندما علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدوم المشركين في معركة أحد وصيرورتهم على بعد (5) كم من المسجد النبوي خرج وأصحابه للقائهم بعد أن صلى الجمعة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وفي معركة الأحزاب قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر الخندق قبل ستة أيام من قدوم جيوش المشركين .
قانون حفر الخندق من مصاديق [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرصد حركة قريش ، وسعيهم في التعدي إذ كان يبث العيون ، ويتابع الأخبار .
فان قلت انه لا يحتاج إلى هذا البث والمتابعة لأنه يعلم بحركات المشركين بالوحي.
الجواب هذا البث والمتابعة من الوحي ، ويرشد النبي محمد المسلمين إلى كيفية الإحتراز ، ومقدمات الدفاع ، ولما علم بتوجه جيوش المشركين نحو المدينة ، وكثرتها مع استحضار التهديد والوعيد بقتله وأصحابه جمعهم للتشاور لعمومات قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ]( )، وقوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
خاصة مع طلب الصحابة من قبل كفار قريش لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقاتلوا معه في معركة بدر التي خسر فيها المشركون سبعين قتيلاً ، ومعركة أحد التي سقط فيها اثنان وعشرون رجلاً منهم ، وبينهم حملة لواء قريش الذين قتلوا على التعاقب ، كلما رفعه واحد منهم قتل ، وهم من بني عبد الدار ، واكثرهم قتل بسيف الإمام علي عليه السلام .
وقبل معركة الخندق بسنتين وقعت معركة أحد إذ أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البقاء في المدينة وقتال المشركين في أزقتها ، ورمي النساء والصبيان المشركين بالحجارة ، ولكن إلحاح رهط من شباب الأنصار بالخروج للدفاع خصوصاً أولئك الذين فاتتهم المشاركة في معركة بدر وتحسروا على فوات الفضل والأجر والثواب بعدم المشاركة فيها.
وحصل عدم المشاركة هذا بسبب أن أهل المدينة عامة لم يتوقعوا حدوث معركة بدر ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه لم يخرجوا من المدينة لقتال إنما كانت هي كتيبة استطلاع ونشر لمعالم الإيمان ، وإقامة الصلاة في أفواه القرى ، ورؤية الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاتفق أن التقى الجيشان في بدر فاصر المشركون على القتال فكانت هزيمتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
لقد صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجمعة يوم الرابع عشر من شهر شوال من السنة الثالثة في المدينة إذ وعظ الناس وحضهم على التحلي بالتقوى ، وأمرهم بالصبر والجد والدفاع.
ثم دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيته ودعا بلامته فلبسها (ثم أذن في الناس بالخروج ، فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأى قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نمكث بالمدينة وهو أعلم بالله وما يريد ويأتيه الوحى من السماء.
فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا.
فقال : ما ينبغى لنبى إذا أخذ لامة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا)( ).
لبيان إنتفاء التردد في تأهب النبي للقتال ، فصحيح أن لبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمة الحرب بسبب الحاح رهط من الأنصار إلا أنه لم يتم إلا بالوحي وعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وهل في هذا الخروج إلى معركة أحد مقدمة للبقاء في المدينة في معركة الخندق ، الجواب نعم .
تقدير [لَهُ لَحَافِظُونَ]
الأول : حافظون في اللوح المحفوظ .
الثاني : حفظ المسلمين للقرآن في صدورهم ، إذ يحفظونه عن ظهر قلب ، وفي حديث موسى عليه السلام (قال : رب أجد في الألواح أمة أناجيلهم في قلوبهم فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة محمد)( ).
الثالث : لحافظون للقرآن عند نزول جبرئيل بآياته .
الرابع : لحافظون للقرآن لحين تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآياته المنزلة وكتابتها من قبل كتاب الوحي
الخامس : لحافظون بتلاوة المسلمين والمسلمات له في الصلاة على نحو الوجوب العيني خمس مرات في اليوم والليلة .
السادس : له لحافظون من مردة الشياطين .
السابع : له لحافظون من التحريف والتبديل والتغيير ، إذ تدل هذه الآية على عصمة القرآن من الزيادة والنقيصة .
الثامن : له لحافظون في حال السلم والحرب ، والرخاء والشدة .
التاسع : له لحافظون في أحكامه وسننه .
العاشر : له لحافظون في الدنيا والآخرة ، إذ يأتي القرآن في الآخرة شاهداً وشفيعاً وناصراً .
الحادي عشر : له لحافظون في نزوله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجوماً ليكون من إعجاز القرآن تثبيته للوقائع والأحداث .
الثاني عشر : له لحافظون بعمل المسلمين بمضامينه وأحكامه وسننه.
الثالث عشر : له لحافظون كل يوم إلى يوم القيامة .
الرابع عشر : له لحافظون في الليل والنهار وفي مشارق ومغارب الأرض.
الخامس عشر : لحافظون لتلاوته وسلامته بين دفتي المصحف ونفعه العام.
السادس عشر : وإنا له لحافظون ، ولا يقدر على حفظ كلمات وآيات القرآن إلا الله عز وجل ، وهذا الحفظ من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
السابع عشر : وإنا له لحافظون من مردة الجن .
الثامن عشر : وإنا له لحافظون من الطواغيت وأتباعهم وعموم الكفار.
التاسع عشر : وإنا له لحافظون في اللوح المحفوظ وفي السماء والأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
العشرون : وإنا له لحافظون ليكتنز المسلمون والمسلمات الحسنات بقراءته والعمل بأحكامه .
الواحد والعشرون : وإنا له لحافظون كل ساعة من ساعات الزمان ، بتلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في مشارق ومغارب الأرض خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
الثاني والعشرون : له لحافظون رحمة بالناس جميعاً .
الثالث والعشرون : له لحافظون ليبقى كلام الله في الأرض إلى يوم القيامة.
الرابع والعشرون : له لحافظون بذخائره وكنوزه وخزائنه .
الخامس والعشرون : له لحافظون في العلوم المترشحة منه ، لبيان مسألة وهي أن حفظ الله عز وجل للقرآن أعم من أن يختص بذات الآيات.
فيشمل ما يتولد ويتفرع عنها من المعجزات الحسية ، منها :
الأولى : هداية الناس للإيمان بآيات القرآن.
الثانية : التوبة والإنابة ، قال تعالى [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
الثالثة : اللجوء والإستجارة بالقرآن.
الرابعة : تحصيل البركة بآيات القرآن.
الخامسة : حب المسلمين والمسلمات والناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته .
وهل هذا الحب من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، الجواب نعم.
لبيان قانون ترشح بركات ومنافع آية التطهير على المؤمنين في الدنيا ونيل الثواب على محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته للمؤمن ، وعلى حب المسلم والمسلمة لهم .
وهو وسيلة مباركة للإذن لهم بالشفاعة يوم القيامة ، قال تعالى [يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا]( ).
نشوء النفاق
لم يكن في معركة بدر نفاق ، إنما ظهر بعدها وتجلى في معركة الخندق بصيغ متعددة منها :
الأولى : التشكيك بوعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر.
الثانية : استئذان المنافقين من البقاء خلف الخندق بذريعة أن بيوتهم عورة مكشوفة الحيطان للسراق والعدو ، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف الخندق أحياناً إلا نحو ثلاثمائة من أهل البيت والصحابة في مقابل عشرة آلاف رجل من المشركين .
الثالثة : فرار المنافقين بالذرائع من المعركة والثبات في الميدان .
والمختار ان قولهم [بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ] من باب المثال وليس الحصر إذ تتعدد أعذار المنافقين والذين في قلوبهم مرض خاصة مع عدم امتناعهم عن الكذب ، كما يدل عليه نعت الله عز وجل لهم بأنهم كاذبون ، قال تعالى [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
وورد ذات النعت لهم في ذمهم بمراسلتهم لبني النضير ، ووعدهم لهم بالنصر بقوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]( ).
و(عن ابن عباس أن رهطاً من بني عوف بن الحارث منهم عبدالله بن أبيّ بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لا نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله الرعب في قلوبهم ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإِبل من أموالهم إلا الحلقة ، ففعل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام)( ).
السابع : ليس بين وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى ميدان معركة بدر إلا يوم وليلة ، بعد أن قطعوا مسافة (150)كم قادمين من المدينة ، أما في معركة الأحزاب فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوا في المدينة .
الثامن : حدثت في معركة بدر مبارزة جماعية إذ برز عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة وطلبوا المبارزة ، وفيه حجة وشاهد تأريخي على المشركين بأنهم الذين أصروا على القتال وبدأوا به ولاقوا حتفهم بأن قُتل الثلاثة في تلك المبارزة ، وكانت أسباب هزيمة كفار قريش .
التاسع : لقد أخبر الله عز وجل عن النصر الجلي للمسلمين في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وأخبر القرآن برد كيد الأحزاب المشركين في معركة الخندق لم يحققوا غاياتهم الخبيثة ، قال تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
العاشر : لقد كان يهود المدينة عند وقوع معركة بدر في عقد عهد ووئام مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسب وثيقة المدينة التي تقدم ذكرها، أما في معركة الخندق فقد أغرى بعضهم كفار قريش على الهجوم ، قال تعالى [وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا]( ).
الحادي عشر : لم تتكون طائفة المنافقين أيام معركة بدر ، ولكنها نشأت بعدها عندما ظهرت قوة الإسلام ، وصار المنافق يظهر إسلامه ، ويخفي كفره وجحوده ، أما في معركة الأحزاب فقد ظهر لسان النفاق بالتحريض على القعود والتخلف عن حفر الخندق بذريعة الضعف ، وإعلان الخوف من المشركين ، قال تعالى [يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا]( )، ومن أسماء سورة الأحزاب (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين ، وبينت خبثهم .
الثاني عشر : لقد سمّى الله عز وجل الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بالذين كفروا ، كما في قوله تعالى [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( )، أما في معركة الخندق فسمّاهم الله عز وجل الأحزاب لأنهم تحزبوا من قبائل شتى وأعراب ، وتقديره : أحزاب الذين كفروا .
فجاء عشرة آلاف رجل من :
أولاً : مشركو مكة .
ثانياً : قبيلة كنانة .
ثالثاً : أهل تهامة .
رابعاً : بنو سليم .
خامساً : بنو أسد .
سادساً : قبائل غطفان .
سابعاً : بنو مرة .
ثامناً : بنو أشجع .
تاسعاً : نفر من يهود المدينة وبني وائل.
قال ابن هشام (إنّهُ كَانَ مِنْ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ أَنّ نَفَرًا مِنْ الْيَهُودِ ، مِنْهُمْ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ ، وَحُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ النّضْرِيّ ، وَكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحَقِيقِ النّضْرِيّ ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ الْوَائِلِيّ ، وَأَبُو عَمّارٍ الْوَائِلِيّ ، فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي النّضِيرِ وَنَفَرٍ مِنْ بَنِي وَائِلٍ وَهُمْ الّذِينَ حَزّبُوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ خَرَجُوا حَتّى قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ مَكّةَ ، فَدَعَوْهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَقَالُوا : إنّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ حَتّى نَسْتَأْصِلَهُ)( ).
الثالث عشر : في معركة بدر دخل الأسارى إلى المدينة ، وعمت الغبطة والفرحة أهلها للنصر المؤزر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، أما في معركة الخندق فقد بقي أهل المدينة في حيطة وخوف مدة الحصار إلى أن غادر الأحزاب .
لتتجلى بهذه المغادرة والخيبة معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : تكرار خيبة المشركين ، فقد نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، في معركة أحد ، وتجلت ذات الخيبة وعلى نحو أظهر وأوضح في معركة الأحزاب .
الثانية : دلالة صيغة المضارع في الآية أعلاه على استدامة وتجدد موضوعها وكبت وخيبة المشركين في كل معركة بين الكفار والمسلمين ، وهي زاجر للمشركين عن حشد الأحزاب في معركة الخندق ولكنهم لم يتعظوا.
الثالثة : فضح المنافقين كأفراد ، وبيان قبح قولهم ، وتحريضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوتهم للتوبة والإنابة وصلاح السريرة.
الرابعة : تجلي قانون تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلمين في كل معركة من معارك الإسلام.
حديث حذيفة يوم الأحزاب
و(عن حذيفة قال : لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحاً منها ، أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون [إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ]( ).
فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً حتى مرّ علي ، وما علي جنة من العدو ، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي ، فأتاني وأنا جاث على ركبتي.
فقال : من هذا؟ قلت : حذيفة فتقاصرت إلى الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم.
فقال : قم . فقمت فقال : إنه كان في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد الناس فزعاً ، وأشدهم قراً ، فخرجت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته ، قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي ، فما أجد منه شيئاً ، فلما وليت.
قال : يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني ، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم ، نظرت في ضوء نار لهم توقد ، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل.
ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون : الرحيل الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم ، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، ومن بينهم الريح يضربهم بها.
ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين.
فقالوا : اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون ، فأنزل الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ( ).
وهذا الحديث وثيقة تدل على عظيم فضل الله عز وجل بحمل المشركين على المناجاة بالرحيل ليكون المسلمون في حيطة وحذر عند إنسحابهم وللتوجه بالشكر لله تعالى على نعمة إنسحاب الأحزاب وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
النسبة بين معركة أحد ومعركة الأحزاب
بينهما عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بينهما :
الأولى : مادة الإلتقاء ، وفيها وجوه :
الأول : المشركون هم الغزاة في كل من المعركتين .
الثاني : المشركون هم الذين بدأوا القتال في كل من المعركتين .
الثالث : حشد قريش القبائل الحليفة لها لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : قتال وصبر المسلمين في سبيل الله ، وتعظيم شعائره.
الخامس : قتال المشركين لبقاء عبادة الأوثان في الأرض قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
وهل يختص موضوع الآية أعلاه بقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمشركي قريش ، الجواب لا ، فهي قانون في الأرض ، ويدل عليه قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
السادس : أمضى كفار قريش الإستعداد لكل من معركة أحد والخندق نحو سنة كاملة ، يجهزون المؤن ، ويشترون الأسلحة ، والخيل ، ويطوفون على القبائل ، ويزاولون التمرين .
بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منقطعون إلى الصلاة والذكر وتأسيس أنظمة الشريعة السمحاء.
السابع : إنفاق كفار قريش الأموال الطائلة على كل من المعركتين ، فمن الإستعداد المالي لمعركة أحد قيام أبي سفيان وعدد من رؤساء قريش بالطواف على أصحاب أموال قافلته وسألوهم أن يجعلوها في قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل جعل أرباحها وحدها فوافقوا عليه وهو المختار.
الثامن : عزم المشركين على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : إرادة المشركين وقف نزول آيات القرآن ، خاصة وأن بعضها يتضمن ذمهم ، ولكن ليس للذات والاسم إنما لخصوص أفعالهم عن عبادة الأوثان والظلم والتعدي .
العاشر : إتخاذ المشركين مكة للتخطيط والإجتماع والنفير لغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، مع أن الله عز وجل جعلها دار سلام ، وفي التنزيل [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( )، لبيان قانون حرمة مكة ، ولزوم تعاهدها.
الحادي عشر : كل من معركة أحد ، والخندق ، من مكر قريش وعدائهم لأحكام التوحيد ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
الثاني عشر : إنطلاق رؤساء من مكة إلى القبائل التي حولها لحشدهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث عشر : قيام مشركي قريش ببعث رسائل التهديد الوعيد للمهاجرين والأنصار قبل المعركة تدعو المهاجرين إلى العودة إلى مكة وتهددهم بالقتل والأسر ، وتدعو الأنصار للتخلي عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتتوعدهم بالقتل والأسر وسبي النساء ، وخراب البيوت .
الرابع عشر : بعد أن تعذر اشتراك أبي سفيان في معركة بدر لأنه كان في القافلة التي جاءت من الشام محملة بالبضائع إلى مكة ، فانه شارك في كل من معركتي أحد ، والخندق ، وذكر أنه كان رئيس الجيش فيهما .
الخامس عشر : اعتناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمات اللائي كن معهم إذ أمر أن يجلعن في أطم ، ومكان عال كحرز .
السادس عشر : قيام النساء المسلمات بجهد في كل من المعركتين ، فقد خرجن في معركة أحد لسقي العطش ، ومداواة الجرحى ، ومنهن من شاركت في القتال مثل الصحابية أم عمارة ، وصفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت في حصار الخندق .
وروي عنها أنها قالت (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج إلى الخندق جعل نساء في أطم يقال له فارع وجعل معهن حسان بن ثابت قال: فجاء إنسان من اليهود فرقى في الحصن حتى أطل علينا فقلت لحسان: قم فاقتله.
فقال : لو كان ذلك فيّ كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قالت صفية : فقمت إليه فضربته حتى قطعت رأسه وقلت: لحسان قم فاطرح رأسه على اليهود وهم أسفل الحصن.
فقال : والله ما ذاك.
قالت :أخذت رأسه فرميت به عليهم .
فقالوا : قد علمنا أن هذا لم يكن ليترك أهله خلوفاً ليس معهم أحد فتفرقوا)( ).
وقيل هي أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين .
وهناك شواهد عديدة لإشتراك النسوة في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد .
السابع عشر : وقوع كل من معركتي أحد والخندق على مشارف المدينة بزحف كبير من قريش .
الثامن عشر : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل من معركتي أحد والإحزاب وإمامته للمسلمين .
التاسع عشر : عدم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضعه في الميدان مع تفرق أكثر أصحابه في معركة أحد ، وفي الأحزاب يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعتذار المنافقين للإنسحاب بذريعة [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا]( )، وإذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم ولغيرهم بالإنصراف يدل على حسن توكله على الله عز وجل وعدم خوفه من عشرة آلاف مشرك يحيطون بالمدينة ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
العشرون : صد المنافقين الناس عن الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقتال معه ، ففي معركة أحد إنسحب عبد الله بن أبي بن أبي سلول بثلاثمائة من المسلمين من وسط الطريق إلى أحد ، وهم نحو ثلث جيش المسلمين ، وفي معركة الأحزاب أظهر المنافقون الخوف والذعر وصاروا يحرضون على الإمتناع عن التخندق والدفاع ، وقال الله تعالى في ذمهم في سورة الأحزاب [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا]( ).
الواحد والعشرون : قلة مؤن المسلمين ، وكثرتها عند المشركين .
الثاني والعشرون : جيش المشركين في كل من المعركتين أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
الثالث والعشرون : إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في ميدان المعركة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت في معركة أحد ، ولكنها تشمل معركة الأحزاب لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ولأن موضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف الخندق أقرب إلى المسجد النبوي وبيته من موقع معركة أحد.
وهناك مسألة هل عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلى أزواجه برهة من الزمان ، وساعة من الوقت مدة الحصار ، المختار نعم ، بقرينة ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أيام الحصار إلى بيت جابر بن عبد الله جماعة جماعة لتناول الغذاء.
وعن جابر بن عبد الله قال (إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق .
فقال: أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم .
فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت.
فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شئ.
قالت: عندي شعير وعناق ، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ، ثم جئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الاثافي قد كادت أن تنضج.
فقلت : طعيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
قال : كم هو ، فذكرت له .
فقال : كثير طيب ، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتى.
فقال: قوموا.
فقام المهاجرون والانصار.
فلما دخل على امرأته قال : ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم.
قالت : هل سألك قلت: نعم.
فقال : ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقى بقية.
قال: كلى هذا وأهدى، فإن الناس أصابتهم مجاعة)( ).
الرابع والعشرون : حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه على الصبر والدفاع والثبات في الميدان .
الخامس والعشرون : وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالنصر إن اتقوا الله عز وجل .
السادس والعشرون : تسخير قريش لإبل التجارة في غزوهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمدينة وهو جحود بالنعمة وبداية لنفورها ، قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
السابع والعشرون : جرت كل من المعركتين على مشارف المدينة المنورة.
الثامن والعشرون : رئاسة أبي سفيان لجيش المشركين كما قيل .
التاسع والعشرون : مشاركة حلفاء قريش من القبائل معهم في غزو المدينة ، وإغراؤهم بالمال والسلاح .
الثلاثون : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى من معركة أحد والخندق للقتال والدفاع كضرورة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
لأنهم حاربوا الله ورسوله بينما تأمرهم ذات سورة الإيلاف بعبادة الله وحده ونبذ الأصنام كوسيلة لإستدامة النعم عليهم ، قال تعالى [* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
الواحد والثلاثون : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة أحد والأحزاب .
الثاني والثلاثون : كانت معركة أحد ثأراً من قريش لخسارتهم في معركة بدر ، أما بالنسبة لمعركة الخندق فانها بقصد الإبادة الجماعية وتخريب المدينة ، وايقاف التنزيل السماوي ، وفي التنزيل [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
الثانية : مادة الإفتراق ، فهي على وجوه :
الأول : تقدم أوان معركة أحد على معركة الأحزاب بنحو سنتين .
الثاني : عدد جيش المشركين في معركة أحد ثلاثة آلاف ، وعددهم في معركة الأحزاب عشرة آلاف .
الثالث : عدد جيش المسلمين في معركة أحد سبعمائة ، وقيل أن عددهم في معركة الأحزاب ثلاثة آلاف ، والمختار أنهم أقل .
الرابع : تسمية سورة في القرآن باسم سورة الأحزاب ، والمقصود من الأحزاب أحزاب قريش وحلفائها في هجومهم على المدينة وإن كان موضوع آيات هذه السورة أعم من أن ينحصر بذات المعركة ، وليس من اسم لسورة تختص بسورة أحد وإن نزلت آيات عديدة بخصوصها.
الخامس : ذكرت معركة الأحزاب في القرآن بالاسم ، بينما لم تسم معركة أحد بالاسم في القرآن ، إنما وردت آيات عديدة بخصوصها منها [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
السادس : تسمية معركة الأحزاب باسمين :
أولاً : معركة الأحزاب .
ثانياً : معركة الخندق ، بينما لم يرد في التأريخ إلا اسم واحد لمعركة أحد.
السابع : كثرة قتلى المسلمين في معركة أحد ، إذ سقط سبعون قتيلاً مع كثرة الجراحات في النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، أما في معركة الأحزاب إذ استشهد من المسلمين ستة وهم :
أولاً : سعد بن معاذ بعد إصابته بجروح خطيرة ، ونقله إلى المدينة .
ثانياً : أنس بن أوس .
ثالثاً : عبد الله بن سهل ، وكلهم من الأوس .
رابعاً : الطفيل بن النعمان .
خامساً : ثعلبة بن غنمة .
سادساً : كعب بن زيد ، وكلهم من الخزرج .
بينما قتل من المشركين ثلاثة هم :
أولاً : عمرو بن عبد ود العامري .
ثانياً : حسل بن عمرُو بن عبد ود العامري قال (ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ قَتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ وَابْنَهُ حِسْلَ بْنَ عَمْرٍو)( ).
ثالثاً : نوفل بن عبد الله بن المغيرة ، من بني مخزوم .
وقلة قتلى الطرفين في معركة الأحزاب بالنسبة لمعركة بدر وأحد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ليتجلى قانون قلة القتلى في المعركة اللاحقة عن السابقة أيام النبوة رحمة عامة.
الثامن : إشاعة نبأ قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، والتأثير المتباين لهذه الإشاعة على المسلمين ، ولم تحصل هذه الإشاعة في معركة الخندق لافتضاح أمرها ، وعدم ترتب الضرر عليها .
التاسع : القبائل التي شاركت قريش في غزوها المدينة في معركة الأحزاب أكثر منها في معركة أحد ، مما يدل على شدة خنق وغيظ رؤساء قريش وكثرة إنفاقهم على رؤساء وأفراد القبائل في شراء الأسلحة والمؤن والقروض وتخفيف القيود والربوية عنهم ، وفي التنزيل [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
العاشر : معركة الأحزاب أقرب إلى المدينة ، إذ أحاطة جيوش المشركين بها .
الحادي عشر : سبق معركة أحد لمعركة الخندق زماناً .
الثاني عشر : كثرة النساء والأزواج التي جلبتها قريش معهم في معركة أحد .
الثالث عشر : انفراد معركة الأحزاب بانشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الدفاع خلق الخندق عن صلاة الظهر والعصر.
و(عن أبي سعيد الخدري قال : حبسنا يوم الخندق عن الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، حتى كان بعد العشاء بهك كفينا ذلك . فأنزل الله [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً فأقام ، ثم صلى الظهر كما كان يصليها قبل ذلك.
ثم أقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك ، ثم أقام المغرب فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك ، ثم أقام العشاء فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك ، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا( ).
الرابع عشر : تجلت معجزة حسية قولية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة الخندق بالإخبار عن قانون عجز المشركين مستقبلاً عن الغزو والهجوم .
إذ ورد (عن سليمان بن صرد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا)( ).
الخامس عشر : إختصاص معركة الخندق بمحاصرة المشركين للمدينة واستمرار هذا الحصار أكثر من عشرين ليلة .
السادس عشر : ابتدأ حفر الخندق بجد واجتهاد قبل ستة أيام من قدوم الأحزاب بينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد قبل وقوعها بيوم.
السابع عشر : بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وأثناء حفر الخندق بفتح فارس والشام ، ومجئ الغنائم الكثيرة .
الثامن عشر : في معركة أحد نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لقد كتبتُ والحمد لله (74) صفحة خاصة بحرف (الفاء) وحده من قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ومنها:
الأول : بحث عرفاني.
الثاني : بحث بلاغي.
الثالث : بحث منطقي.
الرابع : بحث أصولي.
الخامس : بحث فلسفي.
السادس : قانون فينقلبوا.
السابع : علم المناسبة .
وكلها في الفاء ، وتجدها في الجزء (81) من تفسيري هذا معالم الإيمان المعروض على موقعنا (www.marjaiaa.com) لبيان قانون علوم القرآن غير متناهية و[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ].
وقد أجريتُ سنة 2012 اختباراً للفضلاء بهذه الصفحات ، وكانت الجائزة الأولى ثلاجة ، والثانية براد ماء ، وغيره
لبيان حضور المشركين معركة الخندق بعد أن هلكت طائفة منهم ودبّ الخوف في قلوبهم .

أيهما أكثر ضررَ المنافقين يوم أحد أم في الأحزاب
أيهما أشد ضرراً في سلوك المنافقين ، في يوم أحد أم يوم الخندق ، الجواب كل منهما ضرر محض ، أما في معركة أحد فقد انسحب ثلاثمائة رجل منهم من وسط الطريق إلى معركة أحد ، ولم ينفع معهم توسل عبد الله بن حرام الأنصاري بالرجوع ، ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ تبعهم وهو (يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر عدوهم، يا قوم تعالوا فقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، فقالوا: لم نعلم قتالا ما أسلمناكم، لا نرى أن يكون قتال، ولئن أطعتنا لترجعن معنا.
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله تعالى نبيه عنكم)( ).
وقد استشهد عبد الله هذا في معركة أحد ليخرج ابنه جابر بن عبد الله في اليوم التالي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد باذن خاص من النبي .
والمختار أن أذى المنافقين في معركة الخندق أكثر منه في معركة أحد .
وفي يوم الأحزاب عظم البلاء على المسلمين (وَاشْتَدّ الْخَوْفُ وَأَتَاهُمْ عَدُوّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ حَتّى ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ كُلّ ظَنّ وَنَجَمَ النّفَاقُ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ حَتّى قَالَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ : كَانَ مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ)( ).
ونزل فيه قوله تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا]( ).
و(قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ مُعَتّبَ بْنَ قُشَيْرٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاحْتَجّ بِأَنّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ)( ).
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَتّى قَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنْ الْعَدُوّ وَذَلِكَ عَنْ مَلَأٍ مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنَرْجِعَ إلَى دَارِنَا ، فَإِنّهَا خَارِجٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الرّمّيا بِالنّبْلِ وَالْحِصَارُ)( ).
قانون امتناع النبي (ص) عن قتل المنافقين
لم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين بالاسم والصفة في كل من معركتي أحد والأحزاب مع صدودهم وتخاذلهم ، وهو من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم فمثلاً عند العودة إلى المدينة من كتيبة تبوك وحينما تآمر جماعة من المنافقين للفتك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أمر الناس بالسير في الوادي ، ومعه في العقبة عمار بن ياسر آخذا بزمام ناقته ، وحذيفة يسوقها من الخلف.
فصعد المنافقون ملثمين معه العقبة وهم ينوون طرحه من رأس العقبة في الطريق ، ويدعون أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هوت وسقطت فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكرهم وأظهر غضبه.
فأبصره حذيفة فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجن( ) معه وأدركوا أن أمرهم افتضح ، فأسرعوا حتى خالطوا الناس .
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة : هل عرفت هؤلاء القوم.
قال : ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.
ثم قال : علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب.
قالا: لا ، فأخبرهما بما كانوا تمالاوا عليه وسماهم لهما واستكتمهما ذلك.
فقالا : يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم .
فقال : أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده)( ).
ولو دار الأمر بين علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقصد ونوايا هؤلاء المنافقين بالوحي أم بالحس ، فالصحيح هو الأول ، وأن الله قد أخبره بالوحي بأسمائهم .
وقانون امتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين سبق وأن وقع في كتيبة بني المصطلق أيضاً ، بعد خصام على الماء بين أجير لعمر بن الخطاب محسوب على المهاجرين هو جهجاه بن مسعود.
وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف من الخزرج ، الذي ندب الأنصار حين اقتتلا فصرخ (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَصَرَخَ جَهْجَاهٌ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ أَوَقَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا.
وَاَللّهِ مَا أَعُدّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ]( ).
ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ .
فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ لَا وَلَكِنْ أَذّنْ بِالرّحِيلِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ)( ).
قانون إنتفاء الكراهة في الخروج إلى أُحد
وفي معركة أحد لم يكره المؤمنون اللقاء بل كانوا متحمسين للدفاع ، وهناك مسألتان :
الأولى : انسحاب نحو ثلث جيش المسلمين عند الشوط في الطريق إلى أحد برئاسة عبد الله بن أبي بن أبي سلول الذي كان يقول لهم (أطاعهم وعصاني والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ، فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب.
واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة( ) يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم.
قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال)( ).
ويقصد بقوله (أطاعهم وعصاني) بأن عبد الله بن أبي طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبقى في المدينة ويقاتل المشركين فيها ، ولكنه استجاب لإلحاح رهط من شباب الأنصار للخروج إلى أحد ولقاء المشركين عنده.
وهذا الأمر ليس علة تامة للإنسحاب ، ولكن ضروب وأعذار النفاق متعددة ، منها في معركة الخندق [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا]( ).
الثانية : لقد همّت طائفتان من المؤمنين بالإنسحاب اثناء المعركة فعصمهم الله عز وجل ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( )، أي أنهم لم ينسحبوا بل صبروا وجالدوا في مواضعهم بمدد وفضل من الله عز وجل .
لبيان قانون صرف الله عز وجل الهم بالفشل والجبن عن المؤمنين بدليل إخبار ذات الآية الكريمة عن ولاية الله عز وجل لهم.
ومع كون هذا الهم كيفية نفسانية ، فقد صرفه الله عز وجل عن نفوسهم ، وكذا إذا كان هذا الهم قد ترجل على الألسنة أو عالم الفعل ، وهذا الصرف ودفع الله الهمّ بالفشل عن الصحابة من مصاديق عبادنا المخلصين في قوله تعالى في يوسف عليه السلام [لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ) أي الذين أخلصهم الله لطاعته ، وأخلصوا دينهم لله .
وليس من كراهة عند المسلمين في الخروج إلى معركة أحد إنما كانوا يتشوقون للقاء المشركين لتعديهم وتجرئهم بالزحف والغزو ، وإصرارهم على البقاء على الشرك وعبادة الأوثان وإيذائهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ، وعزمهم على قتله وإيقاف نزول آيات القرآن.
نساء قريش في معركة أحد
لقد أحضر عدد من رؤساء المشركين معهم نساءهم إلى المعركة ، إذ كانوا يظنون أنهم لن ينهزموا لكثرة عددهم ومعرفتهم بقلة عدد المسلمين ، واحتمال خذلان المنافقين له للإتصالات بين بعضهم وبين رجالات قريش.
وبقصد الدفاع عنهن ، وهذه النسوة أبرزهن :
الأولى : هند بنت عتبة بن أبي ربيعة ، أخرجها معه زوجها أبو سفيان( ).
(كَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَة كُلّمَا مَرّتْ بِوَحْشِيّ أَوْ مَرّ بِهَا ، قَالَتْ وَيْهَا أَبَا دَسْمَةَ اشْفِ وَاسْتَشْفِ وَكَانَ وَحْشِيّ يُكَنّى بِأَبِي دَسْمَةَ فَأَقْبَلُوا حَتّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السّبْخَةِ مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي ، مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ)( ).
الثانية : أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، خرج بها زوجها عِكرمة بن أبي جهل .
الثالثة : فاطمة بنت الوليد بن المغيرة (أخت خالد بن الوليد) خرج بها زوجها وابن عمها الحارث بن هشام (أخو أبي جهل).
الرابعة : برزة بنت مسعود بن عمرو الثقفية خرج بها زوجها صفوان بن أمية بن خلف ، الذي قتل أبوه في معركة بدر .
الخامسة : ريطة بنت منبه بن الحجاج ، خرج بها زوجها عمرو بن العاص ، وهي أم عبد الله بن عمرو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روايات كثيرة .
السادسة : سلافة بنت سعد بن شهيد ، خرج بها زوجها طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي من بني عبد الدار ، وكان معها أبناؤها:
الأول : طلحة .
الثاني : مسافع .
الثالث : جلاس .
الرابع : كلاب .
وهم حملة لواء المشركين ، وقتلوا يومئذ جميعاً هم وأبوهم ، فلم تر امرأة من قريش في معارك الإسلام فاجعة مثل الذي أصاب سلافة من قتلهم على الشرك .
وفي يوم فتح مكة بعد معركة أحد بخمس سنوات جاءها ابنها عثمان بن طلحة وطلب منها مفتاح الكعبة لإعطائه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنازعته ، وامتنعت في بداية الأمر ثم أعطته له .
(فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت سلافة بعد)( ).
السابعة : خناس بنت مالك ، إحدى نساء بني مالك خرجت مع ابنها أبي عزيز بن عمير وهي أم مصعب بن عمير حامل لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والذي أستشهد يوم أحد ، وكانت تحبه حباً جماً.
الثامنة : عمرة بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وهي التي رفعت لواء قريش من الأرض بعد قتل حملته وكان آخرهم صؤاب غلام بني طلحة حبشي إذ أخذه بعد أن قتل سبعة من بني طلحة بالتعاقب (فقاتل حتى قطعت يداه ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول اللهم هل أعذرت)( ).
وكان الإمام علي عليه السلام قتل أغلب حملة اللواء هؤلاء .
وقال الطبري باسناده عن الصحابي أبي رافع (لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الالوية أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش.
فقال لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي.
قال ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلى احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك أحد بنى عامر بن لؤى فقال جبريل يا رسول الله إن هذه للمواساة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه مني وأنا منه فقال جبريل وأنا منكما فسمعوا صوتا لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي)( ).
لتكون شجاعة وسلامة الإمام علي عليه السلام يومئذ من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية فهو لم يندب غيره من الصحابه أو الأنصار ليستريح بعد قتله حملة اللواء إنما وجهه لرصد رجالات قريش وصرف أذاهم ، ودفع كيدهم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وقال حسان بن ثابت في ذم قريش إذ إلتجأوا لحمل عبدهم اللواء (
فَخَرْتُمْ بِاللّوَاءِ وَشَرّ فَخْرٍ … لِوَاءٌ حِينَ رُدّ إلَى صُؤَابِ
جَعَلْتُمْ فَخَرَكُمْ فِيهِ بِعَبْدٍ … وَأَلْأَمُ مَنْ يَطَا عَفَرَ التّرَابِ
ظَنَنْتُمْ وَالسّفِيهُ لَهُ ظُنُونُ … وَمَا إنْ ذَاكَ مِنْ أَمْرِ الصّوَابِ
بِأَنّ جِلَادَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا … بِمَكّةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ الْعِيَابِ
أَقَرّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهُ … وَمَا إنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : آخِرُهَا بَيْتًا يُرْوَى لِأَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ وَأَنْشَدَنِيهِ لَهُ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ :
أَقَرّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهَا … وَمَا إنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَاب)( ).
وفي قصيدة لحسان بن ثابت يبين أن عدد حملة اللواء تسعة ويذكر في البيت الأخير حمل المرأة له ، إذ قال في قصيدة طويلة منها:
(تسْعَةٌ تَحْمِلُ اللّوَاءَ وَطَارَتْ … فِي رَعَاعٍ مِنْ الْقَنَا مَخْزُومُ
وَأَقَامُوا حَتّى أُبِيحُوا جَمِيعًا … فِي مَقَامٍ وَكُلّهُمْ مَذْمُومُ
بِدَمِ عَانِكٍ وَكَانَ حِفَاظًا … أَنْ يُقِيمُوا إنّ الْكَرِيمَ كَرِيمُ
وَأَقَامُوا حَتّى أُزِيرُوا شُعُوبًا … وَالْقَنَا فِي نُحُورِهِمْ مَخْطُومُ
وَقُرَيْشٌ تَفِرّ مِنّا لِوَاذًا … أَنْ يُقِيمُوا وَخَفّ مِنْهَا الْحُلُومُ
لَمْ تَطُقْ حَمْلَهُ الْعَوَاتِقُ مِنْهُمْ … إنّمَا يَحْمِل اللّوَاءَ النّجُومُ)( ).
أما في جبهة المسلمين فقد خرجت معهم نسوة للسقاية ومعالجة المرضى ، ومنهن من خرجت لتتبع أخبار المعركة ومعرفة سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحوال أزواجهن وأبناءهن .
نعم قاتلت إحداهن دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما رأت المشركين يقتربون منه ومن قتله وهي أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية إذ قالت (خَرَجْتُ أَوّلَ النّهَارِ وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَانْتَهَيْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ وَالدّوْلَةُ وَالرّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ .
فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقُمْت أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبّ عَنْهُ بِالسّيْفِ وَأَرْمِي عَنْ الْقَوْسِ حَتّى خَلَصَتْ الْجِرَاحُ إلَيّ)( ).
فقالت أم سعد بنت سعد بن الربيع (فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ ، فَقُلْت : مَنْ أَصَابَك بِهَذَا ؟ قَالَتْ ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللّهُ لَمّا وَلّى النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَلَ يَقُولُ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ ، فَلَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا ، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُنَاسٌ مِمّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ وَلَكِنْ فَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَاتٍ وَلَكِنّ عَدُوّ اللّهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ)( ).
لبيان ظلم وعتو كفار قريش بأن جعلوا النساء تضطر للقتال .
نكث أبي عزة الجمحي العهد
بينما وقع سبعون من المشركين أسرى بيد المسلمين يوم بدر ، فلم يقع أسير بأيديهم يوم أحد إلا أبا عزة الجمحي ، وهو من أسرى بدر ولكنه شكى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كثرة بناته ، وشدة فقره ، ومع أنه كان شديد الأذى للنبي محمد إلا أنه أطلق سراحه من غير بدل أو فداء من بين عدد منّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عليهم بغير فداء منهم :
الأول : أبو العاص بن الربيع : وهو ختن رسول الله وشرط عليه أن يخلي زينب لتهاجر إلى المدينة .
الثاني : المطلب بن حنطب المخزومي .
الثالث : وصيفي بن أبي رفاعة المخزومي ( ).
الرابع : أبو عزة الجمحي ، واشترط عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يظاهر عليه أحداً ، ولكنه لم يتقيد بهذا الشرط.
فبعد أن جمعت قريش أرباح قافلة أبي سفيان لتسخيرها لمعركة أحد ، وهو من الشواهد على كونهم الغزاة المعتدون ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
وكان أبو عزة الجمحي ممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعره في مكة قبل الهجرة ، فنزل قوله تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ]( )، وهؤلاء الشعراء الكفار هم :
الأول : عبد الله بن الزبعرى المخزومي .
الثاني : هبيرة بن أبي وهب .
الثالث : مسافع بن عبد مناف .
الرابع : عمرو بن عبد الله وهو اسم أبي عزّة الجمحي ( ).
الخامس : أُميّة بن أبي الصلت.
كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيتّبعهم الناس)( ).
ووقع أبو عزة الجمحي في الأسر عند المسلمين يوم بدر فتوسل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه فقير وعنده بنات فاطلقه النبي من غير بدل أو فداء ، وفيه بعث رسالة رأفة ورحمة لقريش ، وترغيب لهم بالإسلام ، وبشارة العفو عنهم ، وهو الذي حصل يوم فتح مكة .
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم فقره فلم يلتفت إلى إيذائه له في مكة قبل الهجرة.
تردد أبي عزة الجمحي في الخروج إلى أحد
لما أجمعت قريش على المسير وغزو المدينة في معركة أحد اختاروا وفداً للطواف على القبائل يدعونهم إلى الخروج معهم ونصرهم وأعضاء الوفد هم :
الأول : عمرو بن العاص .
الثاني : هبيرة بن أبي وهب .
الثالث : عبد الله بن الزبعري .
الرابع : أبو عزة الجمحي.
فاستجاب الثلاثة الأوائل أعلاه ، ولكن أبا عزة الجمحي امتنع عن السير في العرب لحضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(وقال : منّ علي محمدٌ يوم بدر ولم يمن على غيري، وحلفت لا أظاهر عليه عدواً أبداً)( ).
فمشى إليه صفوان بن أمية وهو رئيس قبيلته ، فقال له ، اخرج معنا أي لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فان تسلم أعطك من المال ما شئت ، وإن قتلت كان عيالك مع عيالي ، فابى أبو عزة ، لعلمه بأن النبي محمداً لا يقول إلا الحق ، وقد صدق وعيده لأمية بن خلف أبي صفوان نفسه فقتل كافراً في معركة بدر .
فعاد عليه صفوان في اليوم التالي ، ومعه جبير بن مطعم الذي كانت لأبيه يد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أجاره عندما عاد من الطائف بعد إيذاء ثقيف له.
وكان مطعم بن عدي أحد الذين نقضوا الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم ، وعناه أبو طالب (بقوله الطويل :
أمطعم إن القوم ساموك خطة … وإني متى أوكل فلست بوائل
وكانت وفاة المطعم قبل بدر بنحو سبعة أشهر)( ).
وعندما خرجت قريش إلى معركة أحد ، دعا جبير بن مطعم وحشياً وهو غلام له يقذف بالحربة ، قذف الحبشة قلما يخطئ بها .
(وكان وحشى كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول: ويهأ أبا دسمة اشف واشتف ، يعنى تحرضه على قتل حمزة بن عبدالمطلب)( ).
واسلم جبير بن مطعم يوم فتح مكة (وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ليلة قربه من مكة في غزوة الفتح : إن بمكة أربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك، وأرغب لهم في الإسلام: عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو)( ).
وقد روى جبير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كان نسابة.
لقد صحب جبير بن مطعم صفوان إلى أبي عزة الجمحي فاعاد صفوان عليه كلامه ودعوته فأبى مرة أخرى ، فتدخل جبير بمكر ودهاء قائلاً (ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو وهب في أمرٍ تأبى عليه! فأحفظه ، فقال: فأنا أخرج.
قال: فخرج في العرب يجمعها، وهو يقول:
يا بني عبد مناة الرزام … أنتم حماةٌ وأبوكم حام
لا تسلموني لا يحل إسلام … لا تعدوني نصركم بعد العام)( ).
فخرج الأربعة أعلاه يؤلبون قبائل العرب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويرسمون الخطط وكيفية المسير وأوانه ، ويعدوا العدة ، ويوفرون للعرب حاجاتهم للقتال ومؤنهم.

أسر أبي عزة
لقد خرج أبو عزة مع المشركين إلى معركة أحد وهو يلقي الشعر ، وبعد المعركة انسحبت جيوش المشركين إنسحاباً نظامياً ، ثم جاء الخبر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ينوون العودة لغزو المدينة ، وقتل النبي وأصحابه.
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في اليوم التالي إلى حمراء الأسد التي تبعد عن المدينة نحو عشرين كيلو متر ، وأقام فيها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر ، من شهر شوال من السنة الثالثة ، وفيهم نزل قوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وقوله تعالى فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
وفي طريق العودة إلى المدينة من حمراء الأسد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا عزة الجمحي ، فقد ثبت نكثه للعهد وغدره وتحريضه القبائل على النبي ، ومشاركته في القتال يوم أحد.
ولم يؤسر في معركة أحد إلا هو ، وأحضره الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : الم تعاهدني .
(قال: إنهم غلبوني على رأيي فامنن على بناتي.
قال : لا، تمشي بمكة وتحرك كتفيك وتقول : سخرت من محمد مرتين .
فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله : المؤمن لا يلسع من جحر مرتين ، يا علي اضرب عنقه)( ).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت ، فضرب عنقه)( ).
نتائج معركة الأحزاب
ليس من كلمة في القرآن إلا ولها معنى ودلالة متعددة ، ومنها تسمية غزوة الأحزاب ومجئ سورة كاملة باسمها لبيان عظيم شأنها وأثرها ، والمسائل والقوانين المستنبطة منها .
وتبعث هذه التسمية ومصداقها الواقعي الفزع والخوف لولا فضل الله بانزال السكينة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]( ).
ومن إعجاز القرآن تقدم ذكر نعمة الله عز وجل بانصراف شرور المشركين بمعجزة من جهات :
الأولى : معجزة شخصية بقتل الإمام علي عليه السلام لفارس مضر عمرو بن عبد ود العامري .
الثانية : آية كونية بهبوب ريح عاتية تبعث في نفوس المشركين الجزع والرغبة بالرحيل .
الثالثة : هبوب الريح العاتية على معسكر المشركين بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن ابن عباس قال : لما كانت ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب قالت : انطلقي فانصري الله ورسوله ، فقالت الجنوب : إن الحرة لا تسري بالليل ، فغضب الله عليها وجعلها عقيماً ، فأرسل الله عليهم الصبا ، فأطفأت نيرانهم ، وقطعت أطنابهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ، فذلك قوله فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا( ).
الرابعة : بعث الله الملائكة لصرف الكفار عن المدينة وهو المقصود من قوله تعالى [وَجُنُودًا].
الخامسة : إبتلاء المشركين بالبرد القارص ، إذ كانت واقعة الخندق في الشتاء البارد لقول حذيفة (والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخندق في ليلة باردة ، لم أجد قبلها ولا بعدها برداً أشدّ منه ، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه هوناً من الليل ثمّ التفتَ إلينا فقال : مَنْ يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنّة)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنعه حصار المشركين ولا البرد القارص عن قيام الليل ، ولم يتطوع أحد الصحابة للذهاب إلى معسكر المشركين فعاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة هوناً من الليل ، ثم التفت إلى أصحابه وإعاد قوله فلم يستجب له أحد للخشية والخوف من إنكشاف أمره بين جيوش المشركين فيكون فيه هلاكه .
ويعلل حذيفة تخلفهم عن القيام بقوله (فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد)( ).
وبعد امتناع الصحابة عن الذهاب إلى جيش المشركين والمجئ بخبرهم وحالهم توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدلاً من التخيير والتطوع إلى التعيين واختيار أحد الصحابة للذهاب فدعى حذيفة بقوله : يا حذيفة ، فقال : لبيك يا رسول الله .
ولما قام حذيفة وهو في حال اضطراب من البرد والخوف ، مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسه ووجهه وقال له (ائت هؤلاء القوم حتّى تأتيني بخبرهم ، ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع إليّ .
ثمّ قال : اللّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته)( ).
وكأن هذا الدعاء النبوي وعد كريم بسلامة ونجاة حذيفة ليدخل حذيفة بين خيم وخيول المشركين خلف الخندق .
قال حذيفة (فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل الله عليهم ريحاً فقطّعت أطنابهم وقلعت أبنيتهم وذهبت بخيولهم ، ولم تدع شيئاً إلاّ أهلكته ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذتُ سهمي فوضعته في كبد قوسي ، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه : لا تحدثنّ حدثاً حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي)( ).
ثم أمر أبو سفيان بتعداد عام بالطريقة الفردية بأن يعرف كل جليس صاحبه الذي بجانبه خشية وجود عين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم فبادر حذيفة إلى سؤال الذي في جواره وهو رجل من هوازن.
لبيان قانون تعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الواقعة الواحدة.
أضرار معركة الأحزاب على المشركين
نتائج معركة الأحزاب على أقسام منها :
الأول : نتائج الغزوة وضررها على المشركين ، وعجز رؤساء قريش عن تجهيز الأحزاب والقبائل ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولغزو المدينة مرة أخرى .
الثاني : لحوق الخسائر المالية والديون رجالات قريش بسبب كل من :
أولاً : تعطيل التجارة إلى الشام واليمن .
ثانياً : من معاني قوله تعالى [لإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، قانون الإنذار والوعيد من تسخير نعمة إبل وأموال التجارة في محاربة النبوة والتنزيل.
وسورة قريش أعلاه مكية أي أنها نزلت قبل هجرة النبي إلى المدينة ، ولم يبدأ تجهيز قريش الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا بعد الهجرة.
فمن إعجاز القرآن قانون الوعد والوعيد في الجملة الخبرية.
ثالثاً : إنفاق رجالات قريش أموالهم في محاربة النبوة والتنزيل .
الثالث : ركوب الديون الدولية والعامة لرجالات قريش لتخلفهم عن سداد أموال تجار الشام واليمن واضطرارهم للإقتراض بالربا والفائدة السنوية المتكررة في مضاعفة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا]( ).
وكان القرض لا يحمل مالاً ربوياً إلا بعد انقضاء سنة فان تخلف المدين عن الأداء ، فرض الدائن فائدة بمقدار المبلغ أو نصفه ونحوه ، وهكذا تتكرر الزيادة الربوية ، ولكن هذا لا يمنع من فرض الزيادة الربوية من رأس خاصة مع حاجة المدين إلى القرض والإستدانة .
الرابع : تعطل قوافل التجارة التي كانت تجوب الصحراء بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن وغيرها من الأمصار ، ولحوق الضرر برؤساء القبائل التي تمر عليها طرق القوافل إذ كانت تمد لهم قريش يد المساعدة لكسب ودهم ولسلامة القوافل من السلب والنهب .
الخامس : حدوث مصداق مستحدث لقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السادس : عجز مشركي قريش عن تجدد غزوهم للمدينة مرة أخرى .
السابع : شماتة العرب بقريش ، وتطاولهم عليها .
الثامن : ترغيب الناس بالإسلام ، لتجلي معجزات عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقهر المشركين مع كثرتهم وأسلحتهم وخيلهم.
مواعظ من معركة الأحزاب
في معركة الأحزاب مواعظ وعبر ودروس ومسائل منها :
الأولى : إجتماع قوى الكفر على محاربة الإسلام ، وهو من أسرار تسمية الغزوة بالأحزاب ، أي أن الكفار إجتمعوا من مشارب وقبائل شتى مع الإختلاف وأسباب الخصومة والتباين بينهم ، ولكنهم اجتمعوا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف التنزيل ، مع أنه لم يؤذهم ، ولم يتعد عليهم ، ولم يهدد مشيختهم ومصالحهم وكانت مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] ( )، وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) تتجلى في كل يوم من أيام نبوته وفيه حجة عليهم.
الثانية : مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى استشارة أصحابه حالما سمع بزحف جيوش المشركين ويبين لهم وجوهاً متعددة من الدفاع ، ليقترح سلمان الفارسي حفر الخندق ، ويأخذ النبي محمد باقتراحه ، فيباشر الصحابة بحفر الخندق.
الثالثة : نتيجة معركة الخندق بانسحاب الأحزاب وجيوشهم خائبين رسالة سلام نبوية للعرب وغيرهم .
الرابعة : من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( )، فضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الشريعة للقضاء على الغزو وكثرة القتال والسلب والنهب.
قانون حفر الخندق سلام دائم
لقد إختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مواجهة جيوش المشركين بلواء سلام أرضي لم يطرأ على أوهامهم ، إذ قام وأصحابه بحفر الخندق في الجهة الشمالية من المدينة بما يمنع المشركين من إختراقه.
وليكون من الإعجاز في المقام أن حفر الخندق مقدمة لصلح الحديبية ، وهذا الصلح مقدمة لفتح مكة .
وهل يدل هذا الحفر على الفزع والخوف من المشركين ، الجواب لا ، وفيه وجوه :
الأول : الخندق شاهد على سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدفع القتال ، وسفك الدماء ، وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وبيانهم لعلة هذا الإحتجاج بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( )، لتتحقق المصاديق الثلاثة أعلاه في معركة الأحزاب :
أولاً : الخليفة هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : سعي مشركي قريش وحلفائهم لسفك الدماء ، وتدخل الإبادة الجماعية التي يقصدون بسفك الدماء هذا .
ثالثاً : علم الله عز وجل بصرف سفك الدماء والإبادة الجماعية.
الثاني : تم حفر الخندق بالوحي إذ أن قبول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإقتراح واختيار سلمان تم بالوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : حال السكينة التي كان عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار عند حفر الخندق .
الرابع : بيان القرآن لصبر المسلمين .
الخامس : من مصاديق الإيمان قانون الخوف والخشية من الله ، قال تعالى [فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
السادس : لجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الدعاء ، وما فيه من السكينة والمدد للصبر الجميل .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول : فقد بلغت القلوب الحناجر .
قال : نعم . قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله بالريح)( ).
فان قلت قد ورد قوله تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا]( )، وهذه الآية شاهد على شدة الخوف.
الجواب نعم ، فانه خوف على النبوة والتنزيل ولشدة الأذى والجوع والحصار الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة.
[وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا] ظن المنافقون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيقتلون وأن الأحزاب لن يرجعوا إلا باستئصال الإسلام ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
بشارة فتح كنوز كسرى وقيصر
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار البشارة والإنذار ومصاحبة كل منهما الإنسان من حين عمارة آدم وحواء الأرض ، ومن أبهى وأعظم البشارات بشارة بعثة الأنبياء وتطلع الناس إلى زمان الرسول وما يأتي به من عند الله عز وجل .
ومن الإعجاز سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين حمل أمه آمنه بنت وهب به حيث غزا أبرهة مكة لهدم البيت ، وإبادة أهلها وهي حامل به إذ ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد هلاك أبرهة بشهرين ليكون من بركات الحمل الطاهر نجاة البيت الحرام وأهل مكة من شرور جيش أبرهة القادم من اليمن ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ]( ).
لبيان قرب واقعة الفيل وأنها حقيقة تأريخية متسالم عليها لقرب حدوثها من أيام التنزيل.
وهل الخطاب في الآية أعلاه من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا .
إذ تلحق به الأمة والناس جميعاً ، وفيه البشارة والإنذار .
ومن الإعجاز القرآني قانون تقريب الوقائع التأريخية إلى أهل زمان تلاوة القرآن .
وتقدير الخطاب في الآية لأهل كل زمان : يا أيها الناس ألم تروا كيف فعل ربكم باصحاب الفيل ، ليكون بشارة للمؤمنين ، وانذاراً للكافرين .
ومن معجزات النبي مجئ البشارات به على ألسنة الأنبياء السابقين وفي الكتب السماوية السابقة ومنه ما ورد على لسان عيسى عليه السلام في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
ومنها ما كان يتم تناقله في مكة بعد ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلاماته الدالة على أنه آخر الزمان ، ومنها إعلان النبي محمد من أول أيام البعثة النبوية بفتح بلاد الشام وفارس له بلواء الإيمان والصلاح .
وكان المشركون يتخذون هذه البشارات للسخرية والإستهزاء ولكنها باعث للناس للهداية والإيمان ، وسكينة في نفوس المؤمنين ، ودعوة للإجتهاد بالدعاء لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقريب البشارات .
وقد شاهد عفيف الكندي الذي كان تاجراً يقدم مكة أيام الحج وينزل على العباس بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان العباس اذا سافر إلى اليمن لشراء القطن في الموسم نزل عليه .
وفي موسم الحج خرج عفيف مع العباس إلى منى فرآى عفيف أمراً غير معهود في مكة .
قال عفيف (فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها ، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم)( ).
فأيد العباس قوله نعم إنه أمر عظيم ، إذ أنه نقيض عبادة الأوثان وفعل عبادي يدل على إرادة الإنقضاض على الأصنام وعبادتها ، وملاقاة الرؤساء لزجرهم عن ميراث آبائهم بعبادة الأوثان .
وفي غمرة إندهاش عفيف ، قال : ويحك ما هذا .
إذ أراد تفسيراً لما يرى من قيام وركوع وسجود جماعي بانتظام دقيق ، ولم يعلم أن هذا الفعل العبادي سيؤديه الملايين خمس مرات كل يوم في بقاع الأرض ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
ومنه زحف الملايين كل سنة إلى البيت الحرام وجبل عرفة ومنى ليؤدوا صلاة الجماعة والإنفراد لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
فاجابه العباس (هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب ، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه ، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء)( ).
لبيان حقيقة وهي إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس من حوله بسيادة الإسلام وبلوغه كحكم ونظام تشريعي عبادي إلى بلاد فارس والشام .
وقال العباس (يزعم) لبيان أنه لم يتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الإسلام ، لذا وقع العباس أسيراً بيد المسلمين يوم معركة بدر ، ولم ينتفع من إنذار النبي محمد المتكرر له لقوله تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( ).
و(عن ابن عباس، قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر والاسارى محبوسون بالوثاق ، بات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه : ما لك لا تنام يا رسول الله .
فقال : سمعت أنين عمى العباس في وثاقه فأطلقوه ، فسكت ، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
ولكن عندما جاء فكاك الأسرى لم يعفه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البدل مع أنه لم يأخذ منه شيئاً ، إذ كان هذا البدل يدفع للذي يؤسر المشرك فزعم العباس يومئذ أنه كان مسلماً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك وسيجزيك)( ).
ثم أمره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفادي نفسه وكلاً من :
الأول : ابن أخيه عقيل بن أبي طالب .
الثاني : ابن أخيه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
الثالث : حليفه عتبة بن عمرو أحد بني الحارث بن فهر .
ففزع العباس وادعى أنه لا مال عنده .
فلجأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى علم الغيب الذي هو شعبة من الوحي حيث يريد الله عز وجل إخبار النبي محمد به ، أو إخباره وإعلانه على نحو الكناية أو على نحو التصريح كما في المقام إذ قال (فأين المال الذى دفنته أنت وأم الفضل وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم .
فقال: والله إنى لاعلم أنك رسول الله، إن هذا شئ ما علمه إلا أنا وأم الفضل)( ).
قال ابن إسحاق : وكان العباس رجلاً موسراً ففادى نفسه بمائة أوقية من الذهب ، والأوقية الواحدة نحو (30) غرام فيكون المجموع ثلاثة كيلوات من الذهب .
بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وتجدد غزو المشركين لها وعقد صلح الحديبية مع مشركي قريش ودخول الناس أفواجاً في الإسلام ، جاء عفيف الكندي مسلماً .
وكان يقول (ليتني كنت رابعاً) ( ).
إذ أظهر ندمه بأنه لم يبادر إلى دخول الإسلام عندما رأى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي وخديجة يصلون جماعة في منى .
وفي هذا الخبر دليل على أن النبي محمداً لم يشهر السيف في دعوته إلى الله ، إنما كان يقوم بتبليغ آيات القرآن ، والصبر ، والجهاد بنفسه ، وأهل بيته لقانون الصلاة بين ظهراني المشركين جهاد .
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بياناً وتفسيراً للقرآن ، وفيها تأديب لأصحابه وأجيال المسلمين المتعاقبة ، وهو من لوازم ضبط وتوثيق وتعاهد وتدارس السنة النبوية .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحض على الدعاء ويبغض القتال ، وسفك الدماء .
و(عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي)( ).
والنسبة المنطقية بين العافية والعفو عموم وخصوص مطلق ، فمعنى العافية السلامة في الدين من الإفتتان ، وفي البدن من الإسقام ، وفي الرزق والكسب ، وفي الأهل والمال من الإبتلاء ، خاصة وأن أبواب الإبتلاء الشخصي والنوعي لا يعلم بها إلا الله ، ولا يردها ويصرفها عن العبد والجماعة إلا الله عز وجل ، ويتجلى مثلاً في قصة النبي يوسف عليه السلام وقوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
أما العفو فهو التجاوز عن الذنوب ، وأصله من عفت الريح الأثر أي طمسته ومحته.
ومن صرف الإبتلاء قوله تعالى في أهل البيت [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، لبيان أن ما عند الأنبياء من الآيات هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته لقوانين من الإرادة التكوينية منها :
الأول : قانون إذا أنزل الله عز وجل نعمة لأهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها .
الثاني : قانون مضاعفة النعمة لسيد المرسلين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها عصمته وأهل بيته .
الثالث : قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في ميدان القتال وخطط المشركين لإغتياله .
لقد حاولت قريش ثني النبي عن دعوته إلى الإسلام بالترهيب ، والحصار لبني هاشم ، والتعذيب لأصحابه ، مع الترغيب أحياناً .
ولما شاع الإسلام في مكة ، وتناهت إلى أسماع قريش بيعة العقبة وأن إشعاع الإسلام وضياء آيات القرآن انتشر خارج مكة ، وهذا الخروج مقرون بالتصديق بها .
وأنه في إتساع وإزدياد خاصة مع وفود العرب كل عام لمكة لأداء مناسك الحج ، وإتصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أصحابه بهم ، وتلاوته القرآن عليه.
تناجى رؤساء قريش لعقد اجتماع عام في دار الندوة لإتخاذ قرار بهذا الخصوص ، وبعد التشاور والبيان اتخذوا قراراً بقتله في فراشه بخطة وتدبير خبيث ، بأن تشترك بيوتات قريش كلها في قتله حتى يعجز بنو هاشم عن الأخذ بثأره ويرضون حينئذ بالدية.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الله العافية ، ومنه نجاته من القتل ليلتئذ إذ أحاط عشرة من شباب قريش الأقوياء بيته وسيوفهم في أيديهم ينتظرون وقت السحر وهدأة الأصوات للهجوم عليه من فراشه .
ومن مصاديق سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العافية نزول جبرئيل عليه في تلك الليلة ، وأمره بالهجرة إلى المدينة ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ومع خطورة الأمر ولزوم استعجال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من مكة فان السكينة كانت مصاحبة له ، فأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ينام في فراشه ، وأن يؤدي عنه ديونه ويرد ودائع الناس التي كانت عنده.
وهذه الودائع مصداق لتسمية قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (الصادق الأمين) وكيف أن أذى رؤساء قريش لم يمنع عامة الناس من الميل إليه وإظهار الوثاقة به .
(وقال الثعلبي : ورأيت في الكتب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة خَلف علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمكة لقضاء ديونه ورد الودايع التي كانت عنده فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه صلى الله عليه وسلم.
وقال له : إتشح ببردي الحضرمي الأخضر ، ونم على فراشي ، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إنشاء الله ، ففعل ذلك عليٌ .
فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الأخر فأيكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة .
فإختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) آخيت بينه وبين محمّد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه نفسه ويؤثره بالحياة ، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب ، فنادى الله عزّ وجلّ الملائكة وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ( ).
حديث (سلمان منا أهل البيت)
أبو عبد الله سلمان الفارسي ، ويعرف بسلمان الخير أصله من بلاد فارس ، وأصله من اصبهان ، وقيل من رام هرمز (عاصمة بلدية رامز) ومعنى رام بالفارسية أي المراد والمقصود ، وهمّ أحد الأكاسرة الساسانيين والمعنى مقصود هرمز ، وقيل هو الذي استحدثها ، وهي قريبة من مدينة الأهواز.
وقال سلمان الفارسي : كنت من أبناء أساورة فارس .
وكان المجتمع الساساني على طبقات :
الأولى : الملوك .
الثانية : الأشراف : وتنتهي ألقابهم بالحرف (آن).
الثالثة : رجال الدين المجوس الزرادشتية : وكانت بلخ مركز المجوسية ، وكان عددهم كبيراً جداً .
الرابعة : رجال الجيش ويتقدمهم الفرسان ثم الرَجالة والمشاة ، ويسمى ضباط الجيش الأساورة ، أي أن سلمان من أبناء ضباط الجيش .
الخامسة : كتاب الدواوين : وهم على أقسام يتقدمهم كتَاب الرسائل لما تستلزم من الإنشاء ، وكتاب الحسابات ، وكتاب الأقضية.
السادسة : الدهاقين : وهم رؤساء القرى وملاك الأراضي والقرى ، وكانوا يتوارثون الإدارة المحلية .
السابعة : عامة الشعب من الفلاحين والصنّاع والتجار والعمال وأهل الحرف .
فكون سلمان ابن أحد الضباط في بلاد فارس فانه يعيش عيشة رغيدة ، ولكنه أبى إلا أن يطلب الحقيقة ودين الله ، وسبل الهدى والرشاد ، كما في حديث طويل عنه.
أما إذا قيل له : ابن من أنت : فيقول أنا سلمان ، ابن الإسلام من بني آدم ، لبيان تقواه .
و(عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أنه تداوله في ذلك بضعة عشر رباً من رب إلى رب حتى أفضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن الله عليه بالإسلام)( ).
إذ اشتراه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعض اليهود على العتق بعد أن سُبي ظلماً وكان سلمان في طريقه إلى المدينة لما عنده من الخبر عن بعثة نبي آخر الزمان .
وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءه سلمان وهو يعلم بأن من صفات نبي آخر الزمان في ظهره خاتم النبوة ، وأنه لا يأكل الصدقة .
و(عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن سلمان الفارسي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة فقال: هذه صدقة عليك وعلى أصحابك. فقال : يا سلمان إنا أهل البيت لا تحل لنا الصدقة.
فرفعها ثم جاء من الغد بمثلها فقال: هذه هدية. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كلوا .
فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوم من اليهود بكذا وكذا درهماً وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النخل كله إلا نخلة واحدة غرسها عمر فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من غرسها فقالوا : عمر فقلعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغرسها فأطعمت من عامها)( ).
وكان سلمان يتصف بالزهد والورع والعلم وكان عطاؤه خمسة آلاف ، فاذا استلمه تصدق به وكان له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها .
ودخل عليه قوم (وهو أمير على المدائن وهو يعمل هذا الخوص فقيل له: لم تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي.
وذكر أنه تعلم عمل الخوص بالمدينة من الأنصار عند بعض مواليه)( ).
وروى سلمان عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث عديدة.
و(عن سلمان الفارسي أنه قال: أول هذه الأمة وروداً على نبيها عليه الصلاة والسلام الحوض أولها إسلاماً : علي بن أبي طالب)( ).
ولم يحضر سلمان معركة بدر وأحد على الأرجح إلا أنه حضر معركة الإحزاب وهو الذي أشار بحفر الخندق .
ولما رآى أبو سفيان وأصحابه الخندق ، قالوا ( هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها).
وعن عمرو بن عوف المزني (قال خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق عام الاحزاب من أجم الشيخين طرف بنى حارثة حتى بلغ المذاد ثم قطعه أربعين ذراعا بين كل عشرة فاحتق المهاجرون والانصار في سلمان الفارسى وكان رجلا قويا.
فقالت الانصار : سلمان منا ، وقالت المهاجرون سلمان منا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلمان منا أهل البيت .
صخرة في حفر الخندق
قال عمرو بن عوف كنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن المزني وستة من الانصار في أربعين ذراعا فحفرنا تحت ذوباب حتى بلغنا الندى فاخرج الله عز وجل من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا .
فقلنا يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه فرقى سلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية .
فقال يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما نحيك فيها قليلا ولا كثيرا فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك .
فهبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع سلمان في الخندق ورقينا نحن التسعة على شقة الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها وبرقت منها برقة أضاء ما بين لابتيها يعنى لابتى المدينة حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم.
فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فصدعها وبرق منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم.
فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون.
ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثالثة فكسرها وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم.
فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم أخذ بيده سلمان فرقى.
فقال سلمان بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط.
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى القوم فقال هل رأيتم ما يقول سلمان.
قالوا نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر فنكبر ولا نرى شيئا غير ذلك.
قال صدقتم ضربت ضربتي الاولى فبرق الذى رأيتم أضاءت لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها.
ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذى رأيتم أضاءت لى منها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها.
ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق منها الذى رأيتم أضاءت لى منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب.
فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها فأبشروا يبلغهم النصر وأبشروا يبلغهم النصر وابشروا يبلغهم النصر.
فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعد صادق بار وعدنا النصر بعد الحصر)( ).
بعدها طلعت الأحزاب ، وأحاطت بالمدينة ، والنبي محمد وأصحابه خلف الخندق ، قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
وأظهر المنافقون الريب والشك ، وقالوا (ألا تعجبون يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا وأنزل القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا( ).
لتمر السنون ويتحقق مصداق الفتح المتعدد نحو اليمن وبلاد فارس والشام ، وينتشر الإسلام في أصقاع الأرض من دون إكراه ، قال تعالى [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
قانون دفع النبي (ص)
يتجلى بحفر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خندقاً حول المدينة لمنع الإشتباك والمبارزة والرمي بالسهام بين الطرفين ، وهل هذا الحفر من مصاديق قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( )، المختار نعم .
فمضامين الآية أعلاه أعم من أن تكون على نحو القضية الشخصية ، ومن معانيها تكاسل جيوش الأحزاب عن إيجاد الخطط العامة لعبور الخندق.
وشاء الله أن يكون عبور عمرو بن عبد ود العامري وأصحابه موعظة وزاجراً لهم ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
الثالث : إقامة الحجة على المشركين .
الرابع : قانون بعث اليأس والقنوط في نفوس المشركين .
الخامس : إثارة أسباب الخلاف والفرقة بين الأحزاب الغازية .
السادس : دعوة الأحزاب ومن خلفهم للإسلام .
السابع : بيان قانون صرف القتال أولى من وقوعه .
الثامن : قانون حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سلامة نساء المسلمين واليهود في المدينة ، ومنع المشركين من استباحتها ، ومن نهب الأموال .
التاسع : الدعوة القولية والفعلية للمشركين للتدبر في قبح عبادتهم الأوثان ، وزحفهم بالجيوش العظيمة لمحاربة النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
العاشر : صرف المشركين عن اقتحام المدينة ،وقد ثبت عسكرياً أن القتال في المناطق السكنية والأزقة من أشد أنواع القتال على الجيوش النظامية الغازية وهو مقبرة لها .
الحادي عشر : هل اعتصام ومرابطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف الخندق من مصاديق رحمة الله ، الجواب نعم .
و(عن سلمان قال: إنّ الله تعالى ذكره لما خلق السماء والأرض، خلق مئة رحمةٍ، كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض. فعنده تسع وتسعون رحمةً، وقسم رحمة بين الخلائق. فبها يتعاطفون، وبها تشرب الوَحْش والطير الماءَ. فإذا كان يوم ذلك ، قصرها الله على المتقين، وزادهم تسعًا وتسعين)( ).

من معجزات النبي (ص) في الأخلاق
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً بالثناء عليه في القرآن ، وهذا الثناء فضل من الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي هداه إلى محاسن الأخلاق ، وجعل الوحي مصاحباً له فلا يفارقه ليكون أسوة وإماماً للمسلمين ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ليكون حسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس للإسلام ، ومصداقاً لآيات القرآن ، ولواء سلام في حال السلم والحرب ، وحجة على الذين كفروا.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم عسكرة المدينة وعدم تحريض أهلها على المرابطة والغزو والتخويف من المشركين ، إنما إذا سمع بقدوم جيوش المشركين استعد وأصحابه للدفاع ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ومع أن هذه الآية بخصوص معركة أحد فان موضوعها أعم ، إذ تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتهيأ للقتال الا بعد أن صار المشركون على بعد خمسة كيلو متر عن المسجد النبوي ، ولم ينقطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن صلاة الجمعة ، إنما صلى الله عليه وآله وسلم بهم وثلاثة آلاف من المشركين يشرفون بخيلهم وخيلائهم.
لبيان قانون عصمة المؤمنين من الخوف من غزو المشركين لهم ، وعندما انقضت صلاة الجمعة دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته ولبس لأمة الحرب ، وودع أزواجه بذات السكينة التي تتغشاه في حال السلم ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الجواب نعم ، ولبيان قانون السكينة مدد في حسن الخلق ، قال تعالى [فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
لقد أكرم الله عز وجل الصحابة إذ سماهم في الآية أعلاه من سورة آل عمران بالمؤمنين ، وفيه مسائل :
الأولى : بشارة دفاع الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : قانون صرف الهزيمة والخسارة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثالثة : قانون ترغيب الناس بالإسلام لنعت المسلمين بالمؤمنين .
الرابعة : بيان خصلة من خصال الإيمان وهي الدفاع عن النبوة والتنزيل ، قال تعالى [قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامسة : حض المسلمين الذين خرجوا إلى معركة أحد على عدم الإنسحاب من وسط الطريق ، كما فعل عبد الله بن أبي بن أبي سلول إذ إنسحب بثلاثمائة ، وهم نحو ثلث الجيش بذريعة عدم وقوع قتال ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطعه في البقاء في المدينة لقتال المشركين إنما استجاب لإلحاح بعض شباب الأنصار بالخروج لقتال المشركين ، ولم يعلم عبد الله بن أبي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج إلى جبل أحد إلا بالوحي .
وجاء توكيد صحة الخروج إلى أحد بعد ست سنوات من معركة أحد عندما عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك إذ قال (إن أحداً جبل يحبنا ونحبه ، وإنه يقوم يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحتبس عليه أقوام يعرفون كلاً بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة ، وذكر حديثاً آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أحداً على ركن من أركان الجنة)( ).
السادسة : بعث المسلمين على الثبات في الميدان ، والتحذير من الفرار ، وبيان فضل الله في تثبيتهم في الميدان ومنه قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( )، إذ أن ولاية الله عز وجل للمسلمين في الميدان سبب لمنع ترجل الهم إلى عالم الفعل ، بلحاظ أن الهم كيفية نفسانية ، وأقرب إلى حديث النفس.
السابعة : دلالة الآية في مفهومها على ذم المنافقين الذين إنسحبوا من وسط الطريق ، ومن معجزات النبي محمد عدم لحوق الهزيمة بالمسلمين بسبب هذا الإنسحاب.

ملكة حُلُم الرسالة
الحُلُمُ لغة : الأناة واختيار الحكمة والتحلي بالصبر والحلم خلاف الطبش .
ومن معاني الحلم ضبط النفس والتحكم بالطبع ومنع غلبة النفس الغضبية .
ومن الحلم التريث بعقاب المستحق مع القدرة عليه واختيار العفو ، ومن الحلم عدم التعجل بالحكم على الشئ ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )، التأني والتريث في قبول قول الفاسق ، وعدم ترتب الحكم عليه بالحال .
وقد وردت آيات عديدة تبعث على الحُلُم ، وتبين منافعه منها قوله تعالى [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( )، ومنها نعت الحُلُم والعفو بأنه إحسان محض، قال تعالى وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وورد ذكر المحسنين في الآية أعلاه على نحو الإطلاق لبيان إحسانهم لأنفسهم ولأهليهم ولغيرهم من الناس ، فليس من حصر للجهات التي يتوجه إليها الإحسان .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لاشبح عبد قيس (إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة)( ).
وأشبح عبد قيس هو المنذر بن عائذ العبدي الأشبح ، له صحبة وقيل هو أول من أسلم من ربيعة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أحلم الناس قيل له: ألا تدعو على المشركين؟
قال: إنما بعثت رحمة، ولم أبعث عذاباً.
(قالت عائشة : كان خلقه القرآن يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه) ( ).
وكان أشجع الناس، قال علي عليه السلام : كنا إذا حمي البأس، والتقى القوم – اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأعدل الناس، القريب والبعيد، والقوي والضعيف عنده سواء.
وأعف الناس، وأسخاهم، لا يسأل شيئاً إلا أعطاه، لا يبيت عنده دينار، ولا درهم، فإن فضل، ولم يجد من يعطيه، وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما أعطاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ثم يعود على قوت عامه، فيؤثر منه.
وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، لا يثبت نظره في وجه أحد، غاض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظ، وأكثر تواضعاً: يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويفليه – قلت: معنى يفليه ليس من القمل كما هو المتبادر؛ لأن القمل لا يلحق جسمه الشريف، وإنما المراد بالتفلية: التنقية من نحو قشة، أو غبار، وما أشبهها – ويخيطه، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم معهن، ويجيب دعوة الحر، والعبد، ويقبل الهدية وإن قلت، ويكافىء عليها، ويأكلها، ولا يأكل الصدقة.
تستتبعه الأمة والمسكين فيتبعهما حيث دعواه، ويجيب الفقراء، والمساكين، ويجالسهم، ويواكلهم، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، وأرحمهم، يصغي الإناء للهرة فما يرفعه حتى تروى؛ رحمة لها.
وأشدهم إكراماً لأصحابه، لا يمد رجله بينهم، ويوسع عليهم إذا ضاق المجلس، ويتفقدهم ويسأل عنهم: من مرض عاده، ومن غاب دعا له، ومن مات استرجع، وأتبع ذلك بالدعاء له، ومن تخوف أنه وجد في نفسه انطلق حتى يأتيه في منزله.
ويقبل معذرة المعتذر، ويخرج إلى بساتين أصحابه، ويأكل من ضيافتهم، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يدع أحداً يمشي خلفه، ويقول : خلوا ظهري للملائكة ، ولا يدع أحد يمشي معه، وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال : تقدمني، إلى المكان الذي تريد.
وأمر في سفره باصلاح شاة فقال رجل: علي ذبحها، وآخر عليَّ سلخها، وآخر عليَّ طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” وعليَّ جمع الحطب ” ، فقالوا: نحن نكفيك، قال: ” قد علمت، ولكن اكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبد أن يراه متميزاً بين أصحابه، وقام بجمع الحطب.
يخدم من خدمه، ما ضرب قط خادمه، ولا امرأة، ولا شيئاً إلا في جهاد، ولا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل، ولا ملبس. قال أنس: خدمته عشر سنين، فما قال لي قط أف، ولا لِمَ فعلت، ولا ألا فعلت.
أكثر الناس تبسماً، وأحسنهم بشراً، لا يهوله شيء من أمور الدنيا، لا يحقر فقيراً لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه، يلبس ما وجد من مباح، ويركب ما تيسر من فرس، أو بعير، أو بغلة، أو حمار .
ويردف خلفه عبده، أو غيره، وقد روى فيمن أردفه أكثر من ثلاثين، يمسح وجه فرسه بطرف كمه أو طرف ردائه، يحب الفأل، ويكره الطيرة.
إن جاء ما يحب قال [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، أو ما يكره قال: الحمد لله على كل حال .
يحب الطيب ، ويكره الرِيح الرديئة، يمزح، ولا يِقول إلا حقاً، يبدأ من لقيه بالسلام، لا يجلس، ولا يقوَم إلا على ذكر، يجلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ولا يقوم عمن يجالسه حتى يقوم إلا أن يتعجله، أو يستأذنه.
ولا يقابل أحداً بما يكره، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. لا يذم شيئاً قط، وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه.
يحفظ جاره، ويكرم ضيفه، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم؛ فيكون أبعد الناس منه( ).
أكثر جلوسه للقبلة، آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فاختار الآخرة طلباً لرضا الله ورحمة بأمته ، ومقدمة لباب الشفاعة يوم القيامة ، قال تعالى [لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا]( ).
زهد النبي محمد (ص)
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الزهد والتقشف والرضا بالقليل المقرون بكثرة العطاء والإنفاق والجمع بين المتضادين في المقام من معجزاته ومصاديق النبوة ، فينفق في الصباح مائتين وثلاثمائة الف ، ليبيت وأهله من غير نار توقد للعشاء مع تعدد أزواجه .
وكان (يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يبيت هو وأهله الليالي طاوين، ولم يشبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً، ولا من خبز الشعير حتى لقي الله عز وجل إيثاراً على نفسه لا فقراً، ولا بخلاً. يأتي على أهله الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، ولا يأكل متكئاً، ولا على خوان.
فراشه من أدم حشوه ليف. يلبس الصوف، وينتعل المخصوف. أحب اللباس إليه الحبرة من برود اليمن فيها حمرة وبياض، يلبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه بين كتفيه، ويلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتم .
وكان يلبس خاتماً فضة نقش فصه (محمد رسول الله) في خنصره الأيمن ، وربما لبسه في الأيسر، ويكثر دهن رأسه، ولحيته، ويتبخر بالعود، والكافور، ويكتحل بالإثمد، ويتطيب بالغالية، والمسك أو بالمسك وحده) ( ).

معجزات في الخلق الكريم
معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه كثيرة منها:
الأول : حسن الخلق في الميدان لعمومات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الثاني : قانون قهر النبي صلى الله عليه وآلله وسلم للنفس الغضبية .
الثالث : قانون مبادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العفو عن العدو وإن تمادى في الإجرام .
الرابع : قانون تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الثأر .
الخامس : قانون نشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحبة والمودة بين الناس .
السادس : قانون رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الناس ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
السابع : قانون صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأذى من القريب والبعيد .
الثامن : قانون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الرضا والثناء والشكر لله تعالى (عن أبي جحيفة قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم حتى تفطر قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً)( ).

تخاذل المنافقين يوم الأحزاب
فمن قلة وضعف إيمان المنافقين وشدة خوفهم يظنون أن جيوش المشركين برئاسة أبي سفيان لم ينسحبوا ويعودوا أدراجهم إلى مكة وينفك الحصار عن المدينة المنورة .
إذ كانوا يظنون أن كثرتهم وبلوغ عددهم عشرة آلاف مشرك لن يرجعوا إلا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن نزول عشر آيات من الآية (12 إلى الآية 21) من سورة الأحزاب كلها في ذم المنافقين في واقعة واحدة ، وأيام معدودة ، لبيان الضرر العام الذي يأتي من المنافقين لكل من :
الأول : القرآن .
الثاني : النبوة .
الثالث : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : الإسلام .
وقد نزلت سورة كاملة خاصة بالمنافقين وتسمى سورة المنافقون.
وأيهما أكثر الآيات التي تذم المنافقين في سورة المنافقين ، وعددها احدى عشرة آية ، أم الآيات التي تذم المنافقين في سور القرآن الأخرى ، الجواب هو الثاني ، إذ أنها أكثر من ضعف آيات سورة المنافقين في عددها وكلماتها .
فهناك آيات متعددة في سورة آل عمران نزلت في ذم المنافقين وأقوالهم وأفعالهم .
وذكرت ست آيات من سورة النساء المنافقين وسوء عاقبتهم كما في قوله تعالى [بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( )، وقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا]( ).
ووردت آيات في ذمهم في سورة الأنفال وسورة التوبة وعشر آيات في سورة الأحزاب من الآية (12-21).
لقد أصبح المنافقون أيام حصار الأحزاب يودون أن يكونوا خارج المدينة ، مقيمين في البوادي مع الأعراب مع شدة وطأة العيش في البادية وما لم يعتادوا عليه.
ولكنهم صاروا يرضون بهذه الشدة وشغف العيش في البادية .
هل المنافقون من الصحابة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون تناقص عدد المنافقين ، بلحاظ أن النفاق عرض طارئ أبى الله إلا إنحساره بالآيات والمعجزات العقلية والحسية .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعته المنافقين بأنهم من أصحابه وامتناعه عن قتل أي فرد منهم .
ليس من إحصاء دقيق للمنافقين والمنافقات ولكن عددهم في تناقص سريع ، مع نشوء ابنائهم على الإيمان والتقوى ومنهم حنظلة ابن أبي عامر الفاسق ، إذ استشهد حنظلة في معركة بدر وسمي غسيل الملائكة لإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه بأنه استشهد جنباً فغسلته الملائكة وأكدت الأمر فيما بعد زوجته .
وحينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر الموعد في شهر شعبان من السنة الرابعة بناء على موعد وتحد ووعيد من أبي سفيان .
(اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ الْأَنْصَارِيّ)( ).
مع أن أباه رأس النفاق ، ووردت أخبار أخرى بخصوص حسن صحبته .
إن نعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين بأنهم من الصحابة لأصالة الظاهر ، كما أنه باب مفتوح لتوبتهم الذي تدعو إليه كل آية وردت في مدح المؤمنين أو في ذم المنافقين .
لقد نزلت سورة كاملة في ذم المنافقين وقبيح أفعالهم وهي سورة المنافقون ،وأول آية منها هي [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
ومع أن لفظ التذكير شامل للنساء في الجملة كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، إنما ورد التذكير للغالب ، فان القرآن ذكر المنافقات على نحو الخصوص بالذم ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
وذكرت المنافقات في خمس آيات من القرآن أكثرها في الوعيد بالعذاب الأليم الذي ينتظرهن ، وفيه بيان لأثر النساء في المجتمع ، ودعوة لهن للتوبة من النفاق .

معجزة تناقص عدد القتلى في معارك النبوة
لقد نزلت آيات قرآنية متعددة بخصوص كل من معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة الأحزاب ، وسميت معركة بدر في القرآن بالاسم بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وهل المراد من (بدر) في الآية الموضع الذي جرت فيه المعركة أم ذات المعركة ، المختار هو الأول .
واختصت معركة الأحزاب بسورة من القرآن باسم سورة الأحزاب وهي مدنية نزلت بعد الواقعة ، ترى لماذا هذه الخصوصية إذ لم تسم سورة باسم معركة بدر ، أو معركة أحد ، أو معركة الخندق .
الجواب من وجوه :
الأول : تمادي المشركين بالغي والظلم والتعدي وعدم إتعاظهم من المعارك السابقة وخسارتهم ولحوق الخزي بهم فيها .
الثاني : توالي المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأصل العقلائي هو إتعاظ الناس منها ، وإختيارهم الإيمان ونبذ عبادة الأصنام .
الثالث : كثرة جيش المشركين إذ زحف عشرة آلاف رجل لقتال وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابع : تسمية المفسرين كل من معركة أحد والأحزاب بأنهما غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيذكر في كتب السيرة والتأريخ : غزوة أحد ، غزوة الخندق ، من بين غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الستة والعشرين أو أكثر.
بينما كل من المعركتين غزوة من قبل المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا بالنسبة لمعركة حنين إذ باغتت جيوش ثقيف وهوازن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في الطريق بعد فتح مكة ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
وكان عدد القتلى في المعارك كالآتي :
ت اسم المعركة تأريخها عدد المسلمين عدد شهداء الإسلام عدد المشركين عدد قتلى المشركين
1 معركة بدر 17 رمضان الثانية للهجرة 313 14 950 70
2 معركة أحد 15 شوال الثالثة للهجرة 700 70 3000 22
3 معركة الأحزاب شوال الخامسة للهجرة 3000 10000
4 معركة حنين 12000 4 30000 10
استشهد في معركة حنين أربعة من المسلمين
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ : أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : يَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، جَمَحَ بِهِ فَرَسٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجَنَاحُ فَقُتِلَ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ : سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ . وَمِنْ الْأَشْعَرِيّينَ أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ)( ).
ومن الإعجاز إزدياد عدد وعدة وخيل وإبل الجيوش زيادة طردية وتناقص عدد القتلى .
في المعركة اللاحقة عن المعركة السابقة في كل مرة كما في الجدول أعلاه ، والأصل هو مع إزدياد الجيوش تشتد المعارك وتزداد الخسائر ، ولكن المعجزة حاضرة في المقام ، ومنه قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
و(قال عبد الله بن مسعود : لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتّى قلت لرجل إلى جنبي : (نراهم سبعين) قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم .
قال : ألفاً. ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم.
قال السدي : قال أُناس من المشركين : إن العير قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل : الآن إذا (ينحدر لكم) محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ولا تقتلوهم بالسلاح خذوهم أخذاً كي لا يعبد الله بعد اليوم ، إنّما محمد وأصحابه أَكَلَةَ جُزور فاربطوهم بالحبال)( ).

معجزة هزيمة الذين يحاربون النبوة والتنزيل
حينما أخبر الله عز وجل الملائكة عن عصر جديد مستديم في الكون بخلق الإنسان وجعله [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ولا يقدر على هذا الخلق والخلافة واستدامتها إلا الله عز وجل فاحتج الملائكة و[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ومن أشد ضروب الفساد محاربة الأنبياء ، ومن إكرام الله عز وجل للملائكة وبيان موضوعية لغة الإحتجاج إجابته لهم ، وعدم ترك تساؤلهم ورجائهم يذهب سدى ، إذ قال تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل نصر الأنبياء بمدد منه تعالى ، وهذا النصر مقدمة لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض وجزء منها ، لعدم التعارض في المقام بين المقدمة والجزئية ، وللتباين في ماهية وكيفية الموضوع ، وأهمية الجزء كما في تسمية مكة أم القرى ، قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ولم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده الذي قاتل المشركين إنما دلّ التنزيل والسنة والسيرة والتأريخ على وجوه :
الأول : قانون صبغة السلم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة من الوحي والتنزيل في مكة ولم يحمل سيفاً .
الثالث : قانون نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في مكة قبل وبعد الهجرة عن القتال .
الرابع : قانون كفاية القرآن للتبليغ والدعوة إلى الله ، وإقامة الحجة على الكفار .
ومن خصائص القرآن مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وحضهم على تعاهد الصبر ، والإستعداد للمرابطة والدفاع بلغة الأمثال ، وفي هذه المواساة زجر عن النفاق وتوبيخ للمنافقين ، ودعوة لهم للتنزه عن النفاق ، ومفاهيم الرياء والشرك .
ومن المواساة في القرآن قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
وقد قاتل عدد من الأنبياء منهم موسى ، وداود ، وسليمان ، وإيليا .
وقتال الأنبياء لنشر كلمة التوحيد ، وغاية الصلاح العام ، وتعاهد الإيمان ، ومنع قوى الكفر من الإستحواذ على الحكم في الأرض لما فيه من نشر الفساد وإشاعة الظلم ، وإكراه الناس على عبادة الطاغوت وترك سنن الإيمان .
وتولى عدد من الأنبياء الحكم بين الناس ، ودفع الذين كفروا عن مملكتهم لتكون نبراساً ، ومقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم النبي داود ، ووراثة سليمان له ، قال تعالى [وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ]( ).

عدد الأنبياء
من علوم السنة النبوية بيان عدد الأنبياء من أيام آدم عليه السلام ، بالإخبار عن قانون وأنهم أضعاف مضاعفة للخمسة وعشرين نبياً الذين ذكروا في القرآن ، ولبيان أن ذكرهم من باب المثال وليس الحصر والتعيين ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ]( ).
ومن الأنبياء من ذكر في القرآن بصفته دون اسمه كما في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا]( ).
وورد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال (يا نبي الله أي الأنبياء كان أوّل؟ قال : آدم . قال : أو نبي كان آدم؟ قال : نعم . نبي مكلم ، خلقه الله بيده ، ثم نفخ فيه من روحه ، ثم قال له يا آدم قبلاً . قلت : يا رسول الله كم وفى عدة الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر . جماً غفيراً)( )، ومثله في الخصال .
من علوم السنة النبوية إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن مجموع عدد الأنبياء وهو (124) ألف نبي برواية أبي ذر يرفعها ، وفيه وجوه :
الأول : عدد الأنبياء أضعافٌ مضاعفة لعدد الذين ذكروا منهم في القرآن .
الثاني : الأنبياء الذين ذُكروا في القرآن من باب المثال وليس الحصر لقوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ]( ).
الثالث : الأنبياء الذي ذُكروا في القرآن هم :
أولاً : آدم.
ثانياً : إدريس.
ثالثاً : نوح.
رابعاً : هود.
خامساً : صالح.
سادساً : إبراهيم.
سابعاً : لوط.
ثامناً : إسماعيل.
تاسعاً : اليسع.
عاشراً : ذو الكفل.
الحادي عشر : إلياس.
الثاني عشر : يونس.
الثالث عشر : إسحاق.
الرابع عشر : يعقوب.
الخامس عشر : يوسف.
السادس عشر : شعيب.
السابع عشر : موسى.
الثامن عشر : هارون.
التاسع عشر : داود .
العشرون : سليمان.
الواحد والعشرون : أيوب.
الثاني والعشرون : زكريا.
الثالث والعشرون : يحيى.
الرابع والعشرون : عيسى عليهم السلام .
الخامس والعشرون : محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : أختلف في نبوة ذي الكفل ، ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر والخلاف في العبد الصالح الذي ذكر اسمه في القرآن هل هو نبي أو لا ، وليس من نص بخصوصه فالأصل هو الأول لموضوعية ذكره في القرآن في الفوز بشرف الوساطة بين الله عز وجل والعباد.
مسائل في النبوة
لقد كان عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألف نبياً ، وهناك مسائل :
الأولى : أيهما أكثر الأنبياء الذين قاتلوا أم الأنبياء الذين لم يقاتلوا .
الثانية : الأنبياء الذين قُتلوا أم الأنبياء الذين لم يقتلوا .
الثالثة : الأنبياء الذين تعرضوا للأذى أم الأنبياء الذين لم يتعرضوا للأذى.
أما الأولى فان الأنبياء الذين لم يقاتلوا أكثر من الذين قاتلوا ، فآدم معه أبناؤه وأحفاده ، وكذا فان نوحاً وعيسى عليه السلام من أولي العزم لم يقاتلا .
ومن الأنبياء من كان يبعث لقريته أو عشيرته الأقربيين أو عائلته، ليكونوا دعاة إلى الله .
ويدل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( )، في ظاهره على أن قتال الأنبياء هو الأقل .
وحتى هذا القتال من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة ، وقوة وضعفاً .
أما المسألة الثانية فالمختار أن الأنبياء الذين ماتوا موتاً أكثر من الذين قتلوا من قبل أعدائهم سواء في الميدان أو بالإغتيال .
وهو من اللطف الإلهي والتخفيف عن الأنبياء وأنصارهم واتباعهم ، ومنع دبيب اليأس والقنوط إلى نفوسهم .
أما الثالثة فان الأنبياء الذين تعرضوا للأذى هم الأكثر والغالب ، وفي التنزيل حكاية عن الأنبياء ومخاطبتهم لأعدائهم [وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ]( ).
وهل في خاتمة الآية أعلاه إنذار ووعيد لمشركي قريش وحلفائهم الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، والذين جهزوا الجيوش لمحاربته وقتاله في المدينة ، الجواب نعم .
ومن معاني الآية الوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالظفر والنصر .
والصلة بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، عموم وخصوص مطلق ، لأن هذه الآية خاصة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا وردت بصيغة المضارع ، وما يتضمنه من مصاديق تجدد الأمر الإلهي في كل معركة من معارك النبوة والرسالة باصابة المشركين بالنقص والخيبة .
وهل المراد من الطرف في الآية والطائفة من جيش المشركين ، أم من عموم الكفر حتى الذين لم يشتركوا في تجهيز جيوشهم في القتال.
الجواب لا تعارض بين الأمرين خاصة وأن [الَّذِينَ كَفَرُوا] عام و[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] خاص.
تعدد جراحات النبي (ص) في أحد
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامته من القتل مع كثرة المعارك التي دخلها وكون المشركين في كل واحدة منها أضعاف عدد المسلمين في الميدان ، وصيرورة حجارة المشركين تصل إليه واصابته بالجراحات كما في معركة أحد منها.
الأولى : رمى عتبة بن أبي وقاص رسول الله فكسر رباعيته ، والرباعية هي الأسنان بين الثنية والناب ، سميت رباعية لأنها اثنتان في الفك الأعلى ، واثنتان في الفك الأسفل والتي كسرت واحدة من هذه الأربعة وهي اليمنى السفلى .
الثانية : جرح شفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفلى ، رماه عتبة بن أبي وقاص ، كما عن أبي سعيد الخدري( ).
الثالثة : رمى عبد الله بن شهاب الزهري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة فشّج جبهته .
الرابعة : جرح ابن قِمئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجنته (فَدَخَلَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ وَجْنَتَهُ)( ).
الخامسة : وقوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق خديعة وحيلة ليقع فيها المسلمون أثناء القتال وهم لا يعلمون فاخذ الإمام علي عليه السلام بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورفعه( )، وكأنها أشبه بأرض الألغام في هذا الزمان وإن كان قياساً مع الفارق .
إشاعة قتل النبي (ص)
لقد حضر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان في معارك عديدة مع المشركين ، وقاتل في كل من :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد ، قال تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الثالثة : الأحزاب .
الرابعة : المريسيع .
الخامسة : قديد .
السادسة : خيبر .
السابعة : حنين .
وفي رواية عن الصحابي بريدة بن الحصيب أنها ثمانية باضافة فتح مكة( )، ولم يشاع في أي منها بأنه قتل في المعركة إلا في معركة أحد .
فقد أشيع في ميدان المعركة بأن النبي محمداً قد قتل ، ووصلت هذه الإشاعة إلى المدينة .
قال ابن إسحاق باسناده (انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النّضْرِ ، عَمّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ مَا يُجْلِسُكُمْ.
قَالُوا : قُتِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ.
ثُمّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ وَبَهْ سُمّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حُمَيْد الطّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ النّضْرِ يَوْمئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً فَمَا عَرَفَهُ إلّا أُخْتُهُ عَرَفَتْهُ البَِنَانِهِ( ))( ).
لقد رمى ابن قمئة الليثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : خذها وأنا ابن قمئة فجرحه في وجهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أقماك الله أي قطعك الله).
فأشاع أنه قتل النبي محمداً قيل إنما قالها عندما قتل الصحابي مصعب بن عمير وظنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كانت الإشاعة عن :
الأول : ظن راجح .
الثاني : إنها خدعة والحرب خديعة .
الثالث : أن الشيطان هو الذي نادى قُتل محمد .
والجواب لا تعارض بين هذه الوجوه لتداخلها ، ولما سئلت الصحابية أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية الأنصارية عن جرح على عاتقها أجوف له غور (قَالَتْ ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللّهُ لَمّا وَلّى النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَلَ يَقُولُ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ ، فَلَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا.
فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُنَاسٌ مِمّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ.
فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ وَلَكِنْ فَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَاتٍ وَلَكِنّ عَدُوّ اللّهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ)( ).
ولما انصرف ابن قمئة من معركة أحد (إلى أهله فخرج إلى غنمه فوافاها على ذروة جبل فأخذ فيها يعترض عليها ويشد عليه تيسها فنطحه نطحة ارداه من شاهقة الجبل فتقطع)( ).
النفاق في واقعة بني المصطلق
عندما قال عبد الله بن أبي بن أبي سلول بخصوص المهاجرين (قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أَعُدّنا وجلابيب( ) قريش هذه إلا كما قال الاول : سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس)( ).
وفي زاد المعاد (وَقَدْ وَاجَهَهُ بَعْضُ الْخَوَارِجِ فِي وَجْهِهِ بِقَوْلِهِ إنّك لَمْ تَعْدِلْ . وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَمّا قِيلَ لَهُ أَلَا تَقْتُلَهُمْ ؟ لَمْ يَقُلْ مَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بَيّنَةٌ بَلْ قَالَ لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)( ).
وفي العودة من تبوك وإرادة عدد من المنافقين الفتك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وطرحه من رأس عقبة في الطريق ، قال عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان (يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم ، فقال : أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)( ).
لاعتبار الناس لأصالة الظاهر ، نعم يرون هؤلاء المنافقين يؤدون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخرج عدد منهم في الكتائب والسرايا ، فيظنون أنهم أصحابه ولم يعلموا أنهم يبطنون الكفر ، ويحرضون المسلمين على القعود عن الدفاع ، ولرجاء توبتهم وصلاحهم وهذا الرجاء لعمومات قوله تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، والنفاق من المنكر والقبيح .
وفي ذم المنافقين قال تعالى الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
وورد التحذير والإنذار من النفاق وسوء السريرة بالخطاب الإلهي العام للمسلمين يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
وفي الآية برزخ دون النفاق وحرب عليه ، وإخبار بوجوه لقاء بينه وبين الكفر ، ليكون من معاني هذه الآيات تأديب المسلمين للتنزه عن النفاق ، وفتح باب التوبة للمنافقين .
معجزة تعيين إحدى الطائفتين
عندما ظن أبو سفيان أن النبي محمداً يريد الإستيلاء على قافلته القادمة من الشام استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري (الذي لم يعرف له إسلام فيما بعد) بعشرين مثقالاً ، وأوصاه أن يجدع بعيره ، وأن يحول رحله ، ويشق قميصه من قبله ومن دبره.
عندما جاء رسول أبي سفيان إلى مكة ضمضم بن عمرو الغفاري يخبرهم عن استيلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تعرضوا للقافلة وأن قريشاً قد لا تستطيع إدراكها وإنقاذها إذ دخل ضمضم بن عمرو الغفاري مكة (وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ جَدّعَ بَعِيرَهُ وَحَوّلَ رَحْلَهُ وَشَقّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللّطِيمَةَ اللّطِيمَةَ أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا ، الْغَوْثَ الْغَوْثَ)( ).
لبيان ايقاع أفعال حال المصيبة ، وإختيار الكلمات بدقة بما يثير الحمية والرغبة في النفير ، ويمنع من السؤال والتشكيك بالأمر والإمتناع عن الخروج .
لقد اثبت القرآن حقيقة تأريخية وهي أن بعض الصحابة كانوا يرغبون بالإستيلاء على قافلة أبي سفيان وإجتناب القتال ، كما لو استحوذوا عليها وانسحبوا مع الغنائم إلى المدينة خاصة أنه لم يكن معها إلا أربعون رجلاً من قريش قصاصاً لما استولى عليه رجالات قريش من أموال وأملاك المهاجرين ، إذ قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
لبيان قانون إذا تعارض الود الشخصي مع المصلحة العامة فيطرح الود ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
والطائفتان هما :
الأولى : قافلة أبي سفيان والتي تتكون من ألف بعير محملة بالبضائع .
الثانية : جيش قريش برئاسة أبي جهل الذين بلغ المسلمين خروجهم من مكة سراعاً ، وهي المقصودة بذات الشوكة ، أي العدة والسلاح .
والود الذي تذكره الآية كيفية نفسانية ، لم تترجل إلى الخارج ، إلا مع الدليل كالمناجاة ، وهل الطائفة التي كانت تتمنى الإستيلاء على القافلة دون القتال لم تخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الرغبة.
الظاهر أنهم أظهروا هذه الرغبة ضمناً لقوله تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ]( )، حتى على فرض أن هذا الجدال في أصل الخروج وليس في الخيار بين الأمرين.
لقد ورد الوعد من عند الله عز وجل بصيغة الماضي لبيان بلوغ الوعد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي الذي أكده القرآن.
لان (إذ) اسم ظرف زمان في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكروا ونحوه ، ولابد من حذف في إحدى الطائفتين وتقديره : اللقاء أو الظفر باحدى الطائفتين .
دعوة أهل مكة للنفير
عندما جاء ضمضم بن عمرو إلى مكة مستغيثاً (خرج الشيطان معه في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فأتى مكّة فقال : إنّ محمداً وأصحابه قد عرضوا لعيركم [لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( )، فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلاّ هدمنا داره واستبحناه)( ).
لقد كذب رسول أبي سفيان بادعاء تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقافلة وحدوث هذا التعرض واقعاً ، ومما تِتصف به قريش الأناة والتساؤل والإستفهام قبل اتخاذ مقدمات القتال وهو أمر منتف في المقام إذ تناجوا بالنفير العام من وجوه :
الأول : خطط سابقة بالنفير .
الثاني : المكر الحال .
الثالث : حمية الجاهلية .
الرابع : الدفاع عن الأموال الخاصة والعامة .
الخامس : إرادة المشركين فرصة للإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
السادس : تحريض الشيطان لقريش ، فعندما أجمعت على السير استحضروا العداوة التي بينهم وبين بني بكر من كنانة ، وخشوا من هجومهم على مكة مدة غيابهم فترددوا بالخروج .
فجاءهم الشيطان بهيئة سراقة بن مالك الكناني وطمأنهم وقال لهم (أَنَا لَكُمْ جَارٌ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَخَرَجُوا سِرَاعًا)( ).
ومن معاني الرحمة العامة للناس في الحياة الدنيا فضح مكر الشيطان وخبث المشركين ، إذ أن سراقة بن مالك لا يجرأ على المجئ إلى قريش وطمأنتها والخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان قد لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة طمعاً بالجائزة من قريش (فساخت قدما فرسه في الأرض، ثم أخرجها وأتبعه دخان ، حتى استغاثه سراقة، فدعا له، فانطلقت الفرس)( ).
وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب له كتاب أمان وموادعة فكتب له في رقعة من أديم ، وعرض على النبي الزاد والمتاع ، فأبى أن يأخذ منه.
ولكن سأله أن يخفي خبرهم ففعل ورد بعض الذين خرجوا في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه .
وكان سراقة بن مالك يذكر هذه المعجزة ، ويوبخ أبا جهل على جحوده ، وكان سراقة شاعراً مجوداً فقال :
أبا حكم والله لو كنت شاهداً … لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً … رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني … أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم … بأن جميع الناس طراً يسالمه)( ).
ليكون من أسباب إنذار قريش من إغواء الشيطان ، وبعد أن أسلم سراقة عام الفتح بشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بأن ستوضع في ذراعيه سوار كسرى، فكان كذلك)( ) .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث كتاباً إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام من ضمن عدة كتب إلى أمراء وملوك زمانه ، وبعثه بيد الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي بعد صلح الحديبية.
وفيه (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام [عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى]( ) وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بداعية الله فاني أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فان أبيت فعليك إثم المجوس)( ).
واسم كسرى (ابرويز بن هرمز أنو شروان) ومعنى أبرويز : المظفر (وهو الذي كان غلب الروم فأنزل الله في قصتهم [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ]( )، الروم وأدنى الأرض فيما ذكر الطبري هي بصرى وفلسطين وأذرعات من أرض الشام)( ).
ولما سلّمه عبد الله بن حذافة الكتاب دفعه إلى من يقرأه ويترجمه له ، فمزق الكتاب ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمزيقه لكتابه توجه إلى الله بالدعاء ، وقال (اللهم مزّق ملكه) فكان هلاك كسرى وزوال ملك الأكاسرة واستبداله بشريعة الإسلام بفضل الله معجزة ذاتية وغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذاته وفي قبول دعائه .

تقدير آية [وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ]
من وجوه تقدير [وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( )، وجوه :
الأولى : الوعد من الله بالفوز بإحدى الطائفتين إما القافلة أو النصر في المعركة ، وإرادة خصوص النصر لقانون لو دار الأمر بين الرغائب والنفع العام فالأصل هو الثاني.
الثانية : قانون بعث السكينة في نفوس المسلمين إن دخلوا الحرب ، لأن القافلة قد ابتعدت عنهم وصارت على مشارف مكة ، والجيش يقابلهم في بدر ، فلابد من النصر عليهم .
الثالثة : إرادة الحصر بتحقق إحدى الحسنيين ، وهو لقاء المشركين ، والفوز بالغنائم وكثرة الأسرى وحسن معاملة المسلمين لهم .
الرابعة : أدت سلامة القافلة الى الفرقة والخلاف بين أفراد جيش قريش ، وانسحبت بنو زهرة وعدد من بني هاشم في الطريق إلى بدر وحتى الذين دخلوا المعركة لم يتحمسوا للقتال لانتفاء سببه ، ولحضور معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التصور الذهني لهم .
لبيان قانون في قيادة الجيش ، وهو معرفة القائد للكيفية النفسانية لأفراد الجيش في الإندفاع للقتال أو عدمه وجعل موضوعية لعدم حماسهم للقتال وأسبابه باللجوء إلى إجتناب القتال ، أو التدارك بالصلح قبل وقوعه .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقاؤه ثلاث عشرة سنة بعد البعثة في مكة من دون أن يحمل سيفاً.
تكرار غزو المشركين للنبي محمد (ص) والمدينة
لقد غزا المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عدة مرات منها :
الأولى : معركة بدر : وصحيح أنها لم تكن في أطراف المدينة وتبعد عنها (150) كم إلا أنها وقعت بقصد من قريش وعزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين قتيل وأسير يطوفون بهم أزقة مكة ، ليكون من معجزات النبي محمد عجز المشركين عن أسر أي فرد من أصحابه سواء في معركة بدر ، أو أحد ، أو الخندق ، أو حنين ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثانية : معركة أحد : لقد قامت قريش بتحشيد رجال القبائل ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجمع الجيوش وزحفها نحو المدينة المنورة لقتله وأصحابه ، وجاءوا هذه المرة وقلوبهم أشد قسوة يطلبون الثأر مما أصابهم من الخزي والخسارة والهزيمة في معركة بدر.
لقد أرادوا الثأر فجاءوا بثلاثة أضعاف جيشهم في معركة بدر الذي كان قريباً من الألف وبينهما سنة واحدة ، وحسبوا بأن جيش المسلمين لن يزيد كثيراً على عددهم في معركة بدر ، إذ كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر .
فخرج لهم ألف من المسلمين ، ثم إنخزل ثلث الجيش من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يعبأ بهذا الإنقلاب ولم يتوسل بهم للبقاء ، لعمومات قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )،.
وأظهرت وقائع الميدان مصداقاً لهذه الآية الكريمة فما أن اشتد القتال حتى همّ المشركون بالفرار وركبت نساؤهم الإبل للفرار لولا ترك الرماة المسلمون مواضعهم طمعاً بالغنائم .
الثالثة :معركة الأحزاب : والتي يدل اسمها على المسمى بأن أحزاباً وقبائل المشركين قاموا بتجهيز الجيوش والزحف نحو المدينة وللدلالة بأن ذات الاسم ورؤية أو سماع ذات الجيوش الجرارة يبعث على الخوف والفزع ، لذا ظن المنافقون وشبههم أن المشركين سيقتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستأصلون الإسلام ، قال تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا]( ).
لبيان تعدد الذين سعوا في صدّ المسلمين عن الدفاع ومنهم معتب بن قشير وأصحابه وأوس بن قيظي ومن كان معه على رأيه ، وضعيفوا الإيمان وصاروا يتخذون الأعذار للإنسحاب من خلف الخندق .
وهل شارك بعضهم في حفر الخندق ، الجواب نعم ، إذ ابتدأ هذا الحفر قبل ستة أيام من قدوم جيوش المشركين مما يدل على علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببدايات خروجهم من مكة ، ولهذه المعركة اسمان :
الأول : غزوة الأحزاب .
الثاني : غزوة الخندق .
وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الغازي إنما تدل آيات القرآن ، والسنة النبوية والوقائع التأريخية بأن المشركين هم الغزاة ، لبيان قانون أن النبي محمداً في حال دفاع في كل معارك الإسلام ، وقانون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد الغزو ، ولا يحتاج إليه.
وقانون كلمات القرآن تغزو القلوب ، والله عز وجل [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
وفي كل معركة من هذه المعارك هناك طائفة وأمة تهتدي إلى الإيمان ، وتنبذ عبادة الأصنام .
ومن إعجاز القرآن حضوره في ميدان المعركة يشد عضد المؤمنين ، وتحضهم آياته على الصبر ، ويبعث الخوف في قلوب المشركين ، وتجعلهم آياته يدركون أنهم على ضلال ، وأن رؤساءهم يقودونهم إلى الهلكة.
وأيهما أولى بتسميتها :
الأولى : غزوة الأحزاب .
الثانية : معركة الأحزاب .
الثالثة : غزوة الخندق .
الرابعة : معركة الخندق .
الجواب كل هذه الأسماء صحيحة ، وأوضحها غزوة الأحزاب للمدينة من جهات :
الأولى : وردت تسميتها في القرآن بالأحزاب .
الثانية : حفر الخندق فرع الأحزاب .
الثالثة : بيان قانون المشركين هم الغزاة المعتدون ، خلافاً للمتعارف والموروث تأريخياً أن غزوة الخندق إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ]( ).
لبيان تعدد الجهات والقبائل التي جاءت منها الأحزاب وحاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للمعجزة وفضل الله في حضور المتعدد منها.
الرابعة : صلح الحديبية : وهي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ خرج للعمرة ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه مع شدة غيظ كفار مكة عليه ، وسعيهم لقتله في ميدان المعركة أو تعدد محاولات إغتياله في المدينة ، وتعني العمرة ذهابه إلى عقر دارهم في مكة ، والمتبادر استعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأخذ السيوف والدروع والخيل ومستلزمات الدفاع معهم.
ولكنهم خرجوا عزلاً ليس معهم إلا سلاح الراكب وهو معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلولا الوحي لما عرض نفسه وأصحابه بهذه الكيفية إلى القتل .
وقد استقبلتهم خيل المشركين بقيادة خالد بن الوليد ، فاتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقاً جانبياً لإجتناب الصدام حتى وصل إلى الحديبية التي تبعد عن البيت الحرام (20) كم ليتم التفاوض ثم يعقد الصلح بينه وبين المشركين وينزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وفيه وجوه :
الأول : بيان درس وموعظة للناس.
الثاني : تجلي قانون الصلح لأهل الحق فتح وحقن للدماء.
الثالث : قانون الصلح النبوي رحمة عامة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابع : الصلح مناسبة لكشف الحقائق وهداية القلوب.
واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فهل هذا الصلح فتح للمشركين ، الجواب لا ، إنما هو خزي لهم.
الخامس : صلح الحديبية هو فتح ومناسبة لدخول الكفار وعامة الناس الإسلام.
السادس : صلح الحديبية مقدمة لفتح مكة والذي تم بعد الصلح بسنتين ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
ويمكن القول أنه فتح للناس جميعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، ولو دار الأمر هل يختص هذا الفتح بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب لا ، فقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، ليس من مختصاته فهو فتح للمسلمين ، وأمن للناس وحفظ للنفوس ، وإزدهار للتجارات.
وقد ذكر ابن كثير أن الإمام علي عليه السلام (كتب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش يوم الحديبية أن يأمن الناس، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وعلى وضع الحرب عشر سنين)( ).
عدد كتائب النبي (ص)
الكتيبة الفرقة المنظمة من الجيش ، ويقال كتيبة فرسان أي ليس لها أصوات وجلبة ، وكتيبة شهباء ، أي كثيرة السلاح .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بأصحابه حول المدينة بغرض نشر الإسلام ، ورؤية الناس لصلاة الجماعة ، وإطلاعهم على أحكامه.
وهل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بالوحي في كل مرة أم شطر منها بالوحي ، الجواب هو الأول ، ليكون من فضل الله رؤية أهل القرى والركبان النبي محمداً وتوجيه الأسئلة إليه والإستماع منه ، وكيف أن المسلمين في حال من الإنتظام العقائدي .
وذكرت كتب السيرة والتأريخ أغلب المرات التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة بأنها غزوات ، ولم يثبت هذا الغزو موضوعاً وحكماً.
(وقال محمد بن إسحاق : وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الكريمة سبعاً وعشرين غزوة :
أولاً : غزوة ودان وهى غزوة الابواء .
ثانياً : ثم غزوة بواط من ناحية رضوى .
ثالثاً : ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع .
رابعاً : ثم غزوة بدر الاولى يطلب كرز بن جابر .
خامساً : ثم غزوة بدر العظمى التى قتل الله فيها صناديد قريش.
سادساً : ثم غزوة بنى سليم حتى بلغ الكدر .
سابعاً : ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب .
ثامناً : ثم غزوة غطفان وهى غزوة ذي أمر ثم غزوة بحران معدن بالحجاز .
تاسعاً : ثم غزوة أحد .
عاشراً : ثم حمراء الأسد .
الحادي عشر : ثم غزوة بنى النضير .
الثاني عشر : ثم غزوة ذات الرقاع من نخل .
الثالث عشر : ثم غزوة بدر الآخرة .
الرابع عشر : ثم غزوة دومة الجندل .
الخامس عشر : ثم غزوة الخندق .
السادس عشر : ثم غزوة بنى قريظة .
السابع عشر : ثم غزوة بنى لحيان من هذيل .
الثامن عشر : ثم غزوة ذي قرد .
التاسع عشر : ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة .
العشرون : ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون .
الواحدة والعشرون : ثم غزوة خيبر .
الثانية والعشرون : ثم عمرة القضاء .
الثالثة والعشرون : ثم غزوة الفتح .
الرابعة والعشرون : ثم غزوة حنين .
الخامسة والعشرون : ثم غزوة الطائف .
السادسة والعشرون : ثم غزوة تبوك)( ).
من أسباب معركة الخندق
تبين معركة الخندق الأذى الشديد الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المشركين وقيل أن سبب معركة الأحزاب تحريض جماعة من يهود المدينة وحلفائهم وعدد من المنافقين.
فعندما أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير من المدينة وساروا إلى خيبر (فخرج حيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة – بفتح الهاء وبالذال المعجمة – ابن قيس الوائلي، وأبو عامر الفاسق، في جماعة سواهم، إلى مكة فدعوا قريشا وأتباعها إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم الذين حزبوا الاحزاب .
فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمدا، جئنا لنحالفكم على عداوته وقتاله، ونشطت قريش لذلك، وتذكروا أحقادهم ببدر، فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.
وأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها، وتحالفوا وتعاقدوا وألصقوا أكبادهم بالكعبة، وهم بينها وبين أستارها، لا يخذل بعضهم بعضا، ولتكونن كلمتهم واحدة على محمد، ما بقي منهم رجل)( ).
والمختار أن هذه الواقعة وتحريض هذا الوفد ليس العلة التامة لهجوم كفار قريش ، من وجوه :
الأول : سبق تكرار غزو المشركين للمدينة كما في معركة بدر ، ومعركة أحد ، فيتجلى أصل الإستصحاب في تكرار قريش الغزو ، لأن هذا الأصل عقلائي قبل أن يكون من مبادئ علم الأصول .
الثاني : توعد أبي سفيان يوم أحد بتكرار اللقاء في قابل عند آبار بدر .
فلما عزم المشركون يوم معركة أحد على العودة إلى مكة (أَشْرَفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَبُو سُفْيَانَ ثُمّ نَادَاهُمْ مَوْعِدُكُمْ الْمَوْسِمُ بِبَدْرٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قُولُوا : نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : فَذَلِكُمْ الْمَوْعِدُ)( ).
الثالث : وقوع التلاوم بين رؤساء جيش المشركين في الطريق إلى مكة من معركة أحد لأنهم عادوا بخفي حنين ، فلم يقتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجهزوا على الصحابة ويجعلوهم بين قتيل وأسير ، ويسبوا نساء المدينة ، وينهبوا الأموال ، ومنها أموال التجارة لليهود إذ كانت لهم أسواق خاصة ، والغازي لا يفرق في طمعه وفسوقه بين أهل المدينة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
فيقيد اسم الإشارة في الآية أعلاه (كذلك) تكرار ذات الفعل ، وفيه تحذير وإنذار من غزو الآخرين للمدينة والوطن ، ولزوم الإستعداد وأخذ الحيطة ، ومنه قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
فليس في هذه الآية بعث على الغزو والهجوم إنما هي لمنع الغزو والهجوم ، وهو الظاهر في سياسة عدد من الدول في هذا الزمان بالتسابق في صناعة الأسلحة احترازاً ووقاية من هجوم العدو ، كما تدل هذه الآية في مفهومها على أن الإستعداد والحيطة من المشركين ، وليس من أهل الكتاب .
الرابع : حرص رجالات قريش على الإجتماع المستمر في دار الندوة لدراسة أحوالهم وأخبار الأمم ، واستحضار التجارب السابقة ، ومناقشة إقتراحات منهاج العمل في الأيام اللاحقة ، مع الحنق والغيظ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الإسلام وحربه على مفاهيم الشرك وعبادة الأصنام ولا يتخذون أمراً حتى يحصل عليه شبه إجماع.
وما معركة بدر وأحد والخندق إلا أصل تخطيط المشركين لها في دار الندوة لتأكيد قانون المشركين هم الغزاة وقانون لم يغز النبي (ص) أحد.

من محاولات اغتيال النبي (ص)
لقد كان المشركون يوم أحد يسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنهم ظنوا قتله ، ونادى مناد بينهم (قُتل محمد) وصارت ضجة في جيش المشركين (قَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا نَرَى مَصْرَعَ مُحَمّدٍ وَلَوْ كَانَ قَتَلَهُ لَرَأَيْنَاهُ كَذَبَ ابْنُ قَمِيئَةَ وَلَقِيَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَالَ هَلْ تَبَيّنَ عِنْدَك قَتْلُ مُحَمّدٍ ؟ قَالَ خَالِدٌ رَأَيْته أَقْبَلَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مُصْعِدِينَ فِي الْجَبَلِ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا حَقّ كَذَبَ ابْنُ قَمِيئَةَ زَعَمَ أَنّهُ قَتَلَهُ)( ).
وإنكشاف كذبهم بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، إذ نكصوا على أعقابهم ، وخابت مساعيهم في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلجأوا بعدها إلى محاولات اغتياله على نحو القضية الشخصية بارسال بعض الأشخاص إلى المدينة ، ولم يعلموا أن الوحي حاضر ومصاحب وعضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث يكتشف نوايا هؤلاء .
وبينها لهم من غير أن ينزع عنهم سلاحهم ، فتكون النتيجة دخولهم الإسلام ، كما في تحريض صفوان بن أمية لعمير بن وهب الجمحي وهو شيطان من شياطين قريش وهو الذي حزر عدد المسلمين يوم بدر.
وما أن دخل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبوي أراد بعض الصحابة نزع سلاحه وأخذ سيفه منه ، ولكن النبي محمداً أمر بتركه ، ثم أخبره عن المكر والإتفاق بينه وبين صفوان بن أمية لإغتيال النبي محمد في مكة والذي لا يعلم به غيرهما ، مما جعله يعجل باعلان إسلامه وهو من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
تحريض رؤساء قريش على قتل النبي (ص)
عندما عجزت قريش عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، لجأ أبو سفيان بعدها إلى محاولات قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غيلة ، بدس رجل لقتله بين أصحابه (قالوا كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة ما أحد يغتال محمدا فانه يمشي في الاسواق فندرك ثارنا)( ).
وهذا تصريح بالإغتيال وإعلان للترغيب به ، والإنصات للشروط التي يمليها الذي ينوي اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كانت الدعوة لاغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصدر من رؤساء قريش ، وعلى نحو شبه علني في مكة لتأليب الناس عليه ، ولمنع دخولهم الإسلام ، والإشعار بأنه عرضة للقتل ، وأن رسالته لن تكتمل ، وأصحابه يتفرقون بعد مقتله ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
وتسربت هذه الدعوة الخبيثة بين بعض القبائل خارج مكة (فأتاه رجل من العرب فدخل على أبي سفيان منزله وقال له إن أنت وفيتني وخرجت اليه حتى أغتاله فإني هاد بالطريق خريت معي خنجر مثل خافية النسر.
قال أنت صاحبنا وأعطاه بعيرا ونمقه( ) وقال إطو أمرك فاني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه الى محمد)( ).
لقد أمره أبو سفيان بكتم أمره عن أقرب الناس إليه خشية أن يتسرب نبأ الاغتيال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان أبو سفيان يقصد معنى أعم ، وهو الخشية من منع الناس لهذا الرجل من عزمه على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعلم أبي سفيان بالميل العام إلى الإسلام بإنذار السامع للنبأ لهذا الرجل بأنه مقتول سواء قبل الوصول إلى النبي محمد أو بعده ، والزجر عن الإقدام على هذا الفعل الخبيث .
فمقاصد أبي سفيان أكثر من قوله (فينميه إلى محمد) وهكذا يستدرج بعض الفتية للقيام بمحاولات قتل أو تنفيذ عمليات انتحارية تحت تخدير الوهم واللبس والتدليس .
وقوله (رجل من العرب) أي أنه أعرابي ليس قرشياً لم يسمع عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومفاهيم التوحيد وأسرار بعثة الأنبياء ، إنما سمع سالبة كلية من طرف واحد وهم المشركون.
وبعد أن جهزه أبو سفيان خرج من مكة يطوي الأرض على بعيره فقطع مسافة (450) كم بين مكة والمدينة في خمسة أيام أي أنه كان يقطع نحو (90) كم يومياً ، ليصل ظهر اليوم السادس إلى المدينة فصار يسأل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستغرب أهل المدينة هذا السؤال لأن الناس يأتون ليروا معجزات النبي محمد ويسمعوا منه ، ويدخلوا الإسلام فيشير أهل المدينة إلى مسجد رسول الله حتى إذا دخله (قال له قائل قد توجه الى بني عبد الاشهل)( ).
وفي الحديث دلالة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى دور ومنازل الأنصار والتي تبعد عن المسجد النبوي ولا يقتصر جلوسه على المسجد النبوي ، وفيه آية في سلامته في ذهابه وإيابه .
ومما يتصف به بنو الأشهل من الأوس انتفاء النفاق بينهم (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ يَعْلَمُ إلّا أَنّ الضّحّاكَ بْنَ ثَابِتٍ ، أَحَدِ بَنِي كَعْبٍ ، رَهْطِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ ، قَدْ كَانَ يُتّهَمُ بِالنّفَاقِ وَحُبّ يَهُودَ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
مَنْ مُبْلِغُ الضّحّاكَ أَنّ عُرُوقَهُ … أَعْيَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تَتَمَجّدَا
أَتُحِبّ يُهْدَانَ الْحِجَازِ وَدِينَهُمْ … كِبْدَ الْحِمَارِ وَلَا تُحِبّ مُحَمّدًا
دِينًا لَعَمْرِي لَا يُوَافِقُ دِينَنَا … مَا اسْتَنّ آلٌ فِي الْفَضَاءِ وَخَوّدَا)( ).
ولم ينتظر الأعرابي رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني الأشهل إنما قاد راحلته نحوهم ، وعندما وصل إليهم عقل راحلته ثم أقبل يسأل عن رسول الله فوجده بين أصحابه في مسجد بني الأشهل والذي يسمى مسجد واقم.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فيه كثيراً ، وربما صلى الظهر في مسجده ، وصلى المغرب والعشاء في مسجد بني الأشهل .
وتهدم هذا المسجد أواخر القرن التاسع الهجري ، ثم أعيد بناؤه في ذات المحلة ، وقد وردت نصوص ثناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على بني الأشهل .
و(عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أخبركم بخير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني الأشهل ثم دار بني الحارث ثم الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير)( ).
وحالما دخل الأعرابي المسجد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لاصحابه ان هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده)( ).
فوقف الأعرابي في باب المسجد وقال : أيكم ابن عبد المطلب ، فلم يسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إجتناباً لشره ، ومن أجل كشف نواياه وغاياته بل قال له : أنا ابن عبد المطلب ، وفيه مسائل :
الأولى : قانون حسن توكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الله ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا]( ).
الثانية : إنه شاهد على شجاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الواقعة من مصاديق عصمة وكفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الرابعة : تطلع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتجلي آية ومعجزة له ، وزيادة إيمان أصحابه .
الخامسة : قانون ملكة الصبر الثابتة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( )، والنسبة بينها وبين السكينة عموم وخصوص من وجه.
السادسة : رجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إدراك الأعرابي المعجزة ودخوله الإسلام .
السابعة : لزوم أخذ الصحابة الحذر والحيطة من هذا الأعرابي .
الثامنة : إقامة الحجة على رؤساء المشركين ، وبعث اليأس والغنوط في نفوسهم ، قال تعالى [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ]( ).
ولما سمع الأعرابي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعرف نفسه ذهب لينحني عليه كأنه يساره بحديث خاص ، ولإنتباه ويقظة الصحابة بعد إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه جبذه( ) وشده اليه أحدهم بقوة بما يحوله من مكانه ليحول دون وصوله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال له : تنح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا تحت أزاره خنجرٌ ، فقال أسيد : يا رسول الله هذا غادر ، وأُبعد عن رسول الله فاسقط في يد الأعرابي وأصابه الفزع والخوف .
وهل يشمله قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، أم أن الآية خاصة بميدان القتال ، الجواب هو الأول ، وفيه وجوه :
الأول : قانون الحضور المطلق للآية القرآنية .
الثاني : قانون تكرار تحقق مصداق الوعيد الإلهي في الحوادث والوقائع.
الثالث : قانون تذكير ذات الوقائع بكنوز وآيات القرآن وهو من البرهان الإني .
الرابع : قانون الترغيب باللجوء إلى القرآن لفهم الوقائع والتدبر في معانيها .
الخامس : قانون الجمع بين الآية القرآنية ومصداقها الواقعي زيادة في الإيمان .
السادس : قانون نصرة الآية القرآنية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : قانون تجدد الشواهد على عصمة النبي محمد من القتل أو الموت لحين تمام نزول القرآن ، لذا نزل في حجة الوداع ، قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي : أصدقني ما أنت وما أقدمك ، فان الصدق ينفعك (وان كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به)( ).
لبيان حضور الوحي في المقام وأنه لا يختص بالتنزيل وأحكام الشريعة بل يشمل السلامة الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيرها من جلب المنافع ودفع المضار .
وهل كان الأعرابي قد سمع عن نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كي يستحضر معجزاته في المقام فيكشف حقيقته ، المختار نعم ، إذ قال : فانا آمن ؟
أي أنه سأل الأمان إن أخبر عن الحقيقة وكشف خطة الأغتيال ، ومن يقف خلفها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت آمن ، لبيان قانون الإقرار قبل الجناية يرفع العقوبة.
وجاءت الواو هنا لإضافة الأمان إلى كشف وبيان الحقيقة ، فقام الأعرابي باخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتآمر أبي سفيان ، وما جعل له إذا قام باغتيال النبي .
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحجز الأعرابي عند أُسَيد بن حُضَيْر ليلة واحدة ، ثم استدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصباح وأكد أمانه له ، وخيره بين أمرين :
الأول : الذهاب حيث يشاء ، سواء يرجع إلى مكة أو يذهب إلى غيرها من القرى والبلدان .
الثاني : ما هو خير له ، فقال الأعرابي وما هو ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فنطق الأعرابي بالشهادتين في الحال .
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخول الذي يريد اغتياله الإسلام في ذات الواقعة .
وقال الأعرابي (والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع ، وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يتبسم وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه و سلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر)( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لعمرو بن أمية الضمري ولسلمة ابن أسلم بن حريش أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه قال عمرو فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن يأجج فقيدنا بعيرنا)( ).
ولم يتم اغتيال أبي سفيان إنما كان بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهما على وجوه :
الأول : بيان كشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحاولات اغتياله المتكررة قبل وقوعها .
الثاني : معجزة حضور الوحي عند النبي محمد للدلالة على كشف ما يأتي من محاولات الإغتيال ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، الجواب نعم .
الثالث : إنذار رجالات قريش من خطط الإغتيال ، ومن الهجوم على المدينة .
الرابع : دعوة الناس لدخول الإسلام بلحاظ معجزة كشف خطط إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى أصالة الظاهر بتكرار هذه الخطط مع فشلها ساعة التنفيذ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
عزم المشركين على استئصال المسلمين
قد تقدم في الجزء التاسع والثلاثين بعد المائتين عنوان (سعي المشركين للإبادة الجماعية والثقافية) و(معركة الأحزاب.. إبادة جماعية للمسلمين) لبيان تعدد قصد وعزم المشركين على استئصال الإسلام [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
لقد أدرك رؤساء جيش المشركين خطأهم في الإنسحاب من ميدان معركة أحد في ذات اليوم وعدم إجهازهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة مع الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين.
وفي الطريق إلى مكة وفي موضع الروحاء الذي يبعد عن المدينة نحو (80) كم تناجوا فيما بينهم نادمين ، فقال عكرمة بن أبي جهل (لا محمداً أصبتم ، ولا الكواعب أردفتم ، فبئس ما صنعتم فهم مجمعون على الرجوع ، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ)( ).
قانون ندم جيش المشركين
لقد أخبر الله عز وجل عن رجوع المشركين بالخيبة والخسران بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) وبين الخيبة والندم في المقام عموم وخصوص مطلق ، فالخيبة أعم وكذا ذات النسبة بين الكبت والندم .
فمنهم من يظهر الندم والحسرة ومنهم من يكتمها ، وحتى الذي يظهرها فان الغيظ والكبت يبقى يملأ صدره .
وفيه مسائل :
الأولى : تقديمهم الندم على عدم قتل النبي محمد يوم أحد مما يدل على أنه الغاية الأساسية من خروجهم من مكة للقتال ، ويدل قوله (قبل أن يكون لهم وفرٌ) على أمرين :
الأول : خروج أهل المدينة جميعاً للقتال والدفاع .
الثاني : دخول جماعات من الناس الإسلام .
الثانية : كان المشركون يتعجلون القتال والإجهاز على المسلمين لمنع دخول أفواج من الناس الإسلام ، وأبى الله عز وجل إلا إبطال أمانيهم حتى نزل في السنة الأخيرة من حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الثالثة : عزم المشركين على الإبادة الجماعية للمسلمين والتدمير الكلي لهم لإتخاذهم التوحيد منهاجاً .
الرابعة : لقد أراد مشركو قريش بهجومهم وغزوهم المدينة القيام باكبر جريمة ضد الإنسانية وبقاء الناس في ضلالة ويأبى الله عز وجل حجب الناس عن سبل الإيمان في كل زمان لفضله على الفرد والمتعدد ولانه خلق الناس لعبادته ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامسة : سعي قريش لوقف نزول آيات وسور القرآن وما فيه من تثبيت أحكام الشريعة الإسلامية ، وسخطهم من قانون جذب إعجاز التنزيل الناس لدخول الإسلام ، ولإرادتهم الإنتقام والثأر لنزول السور المكية في ذم الكفر والشرك وعبادة الأوثان ، والوعيد لهم بالنار في الآخرة ، وخشيتهم من نزول سور وآيات أخرى في ذمهم للإستصحاب الذي هو أصل عقلائي قبل أن يكون مادة من أصول الفقه.
السادسة : بيان قبح نوايا قريش بايقاع نساء المدينة سبايا خاصة الفتيات الصغار ، والكواعب جمع كاعب وهي البنت في ريعان الشباب وبدايات البلوغ ، ناهدة الثدي ، وقد نمى نهداها ، باستدارة وإرتفاع.
وقد ورد في القرآن قوله تعالى [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا]( )، وورد (عن الباقر عليه السلام [وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا] ( ) أي الفتيات الناهدات [وَكَأْسًا دِهَاقًا]( ) أي ممتلية)( ).
السابعة : قول عكرمة (أصبنا أشرافهم) إشارة وإقرار بأنهم قتلوا المسلمين ذوو شأن ، ومنهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولبيان أن الأصل هو مواصلة القتال وعدم الإنسحاب ، ولكن الله خذل المشركين في ميدان المعركة ، وفي طريق العودة .
قانون إنسحاب المشركين في أول يوم للمعركة رحمة عامة
لم يعلم المشركون أن إنسحابهم بفضل ولطف من الله بالمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وهذه الآية نزلت بخصوص معركة أحد.
ولقانون المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول وحده خاصة وأن الآية أعلاه تبين استدامة الرعب في قلوب المشركين في حال السلم والحرب ، وفي حال إقامتهم في الروحاء وتبدد عزمهم على الرجوع إلى المدينة للقتال .
ومن فضل الله في المقام أن معبد بن أبي معبد الخزاعي مرّ على جيش المشركين في الروحاء ، وهو يومئذ مشرك ، ولكن قبيلة خزاعة سلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما رآه أبو سفيان قادماً من المدينة (قَالَ مَا وَرَاءَك يَا مَعْبَدُ ، قَالَ مُحَمّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطّ ، يَتَحَرّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرّقًا ، قَدْ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا ، فِيهِمْ مِنْ الْحَنَقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطّ)( ).
لقد فزع أبو سفيان وأصحابه من خبر معبد واستحضروا بالتصور الذهني ما لاقوه من المسلمين من الشجاعة والفزع والصبر وطلب الشهادة في معركة بدر ثم معركة أحد .
فقال أبو سفيان (ويحك ما تقول)( ).
أراد تأكيد الخبر ، وطلب المزيد والتفصيل بمحضر من رؤساء قريش عندئذ اقترح عليه معبد أن يرتحل الجيش ويعود إلى مكة قبل أن تصل خيول المسلمين ، ولم يشك أبو سفيان بما يقول معبد بن أبي معبد الخزاعي لأنه مشرك مثلهم وعابر سبيل .
فقال أبو سفيان : لقد أجمعنا الكرة على محمد وأصحابه (لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهُمْ)( ).
فنهاه معبد عن العودة إلى القتال وقال أبياتً من الشعر تتضمن زجر جيش المشركين عن العودة للقتال ، والذي كان يتألف من قريش وقبائل متحالفة معه تم استئجار أكثر رجالهم ، إذ أن عدد الجيش ثلاثة آلاف ، والمستأجرون منهم ألفان ، ولا تكون رغبة عند هؤلاء بالعودة للقتال خاصة مع إنعدام موضوعه وأسبابه إلا عناداً واستكباراً من رجالات قريش.
ويبين القرآن اللوم الشديد والإحتجاج والجدال بين الرؤساء والأتباع من المشركين يوم القيامة وهم في النار [وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ]( ).
قال تعالى [وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]
هذا شطر آية من سورة الأحزاب ، وتمامها هو [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
وإعراب الآية هو :
إنما : كافة ومكفوفة فهي مركبة من (إنَ) وهو حرف مشبه بالفعل.
و(ما الزائدة) هي الكافة التي كفت الحرف (إن) عن عملها في نصب اسمها ورفع خبرها ، لذا تكون حرفاً مكفوفاً عن العمل ، وتصبح الجملة التي بعدها لا محل لها من الإعراب .
والأصل وفق الترتيب اللفظي أن يقال مكفوفة وكافة لأن (إنما) تبدأ بالحرف إن وهو المكفوف ، ولكن الترتيب فيها بلاغي ، ومن عمومات قاعدة اللف والنشر ، وإفادتها الحصر في الغالب .
يريد : فعل مضارع مرفوع بالضمة .
اسم الجلالة : فاعل .
ليذهب : اللام زائدة ، وتفيد التوكيد .
يُذهب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام .
عنكم : جار ومجرور متعلق بـ(يذهب).
أهل : منادى مضاف منصوب .
البيت : مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة تحت آخره .
ويطهركم : الواو حرف عطف ، يطهر ، فعل مضارع منصوب ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى الله عز وجل .
ولا يقدر على هذا التطهير إلا الله وحده سبحانه ، وفي التنزيل [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
تعيين النبي (ص) لمصداق آية التطهير
لقد جاءت السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن الكريم ومنها ما ورد بخصوص هذه الآية إذ ورد عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ادعي زوجك ، وابنيك ، حسناً ، وحسيناً ، فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفضلة ازاره ، فغشاهم إياها ، ثم أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء ، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ، فاذهب عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيراً ، قالها ثلاث مرات .
قالت أم سلمة : فادخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله وأنا معكم فقال : إنك إلى خير مرتين)( ).
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي علي ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين ، فأدخلهما معه ، ثم جاء علي فادخله معه ، ثم قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( ).
و(عن واثلة بن الأسقع قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة ، ومعه حسن ، وحسين ، وعلي ، حتى دخل ، فأدنى علياً ، وفاطمة . فاجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً ، وحسيناً . كل واحد منهما على فخذه ، ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثم تلا هذه الآية إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( ).
والمختار تكرار جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته تحت كساء لما فيه من تعظيم لشعائر الله ، وبيان فضل الله على أهل البيت ، ولزوم ودهم من قبل المسلمين ، ولبيان من أسباب هذا الود نزول آيات قرآنية بخصوصهم ، قال تعالى [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام (قال: ليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إن الآية تنزل أولها في شئ، وأوسطها في شئ، وآخرها في شئ، ثم قال [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، من ميلاد الجاهلية)( ).
و(عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بباب فاطمة (عليها السلام) إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول : الصلاة يا أهل البيت الصلاة [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أذكركم الله في أهل بيتي ، فقيل : لزيد : ومن أهل بيته ، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس)( ).
لبيان أن قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، أخص من قول زيد أعلاه ، وأنه يفيد العصمة والإمامة بفضل ولطف من الله عز وجل.
وهل في أحاديث التطهير هذه الزجر عن التعدي على أهل البيت وعن قتل الحسين في كربلاء ، الجواب نعم ، لما تدل عليه بأنه على حق في سجاياه ونهجه.
و(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : كَانَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَبْوَابٌ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ فَقَالَ يَوْمًا سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ قَالَ فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ النَّاسُ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَمَرْتُ بِسَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ وَقَالَ فِيهِ قَائِلُكُمْ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا سَدَدْتُ شَيْئًا وَلَا فَتَحْتُهُ وَلَكِنِّي أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُ)( ).
لقد أخبرت الآية الكريمة عن كون الرجس أمراً وجودياً له قابلية تلقي الأوامر من عند الله ، وليس له إلا الإستجابة ، وفيه درس للناس للإستجابة من باب الأولوية القطعية .
تقدير [وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]
من وجوه تقدير [وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] :
الأول : ويطهركم تطهيراً من الذنوب والمعاصي .
الثاني : ويطهركم تطهيراً لتكونوا أئمة للمسلمين والمسلمات .
الثالث : ويطهركم تطهيراً لصدق إيمانكم وصبركم .
وفي يوسف عليه السلام قال تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
وتدل خاتمة الآية أعلاه على عدم حصر صرف السوء عن يوسف وحده لأن ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، إذ ذكرت خاتمة الآية أنه من عباد الله المخلصين .
ترى ما هي النسبة بين السوء والفحشاء اللذين تبين الآية أعلاه إبعاد الله عز وجل لهما عن يوسف وبين الرجس الذي تذكره آية التطهير طرده.
المختار هو العموم والخصوص المطلق فالسوء والفحشاء أعم.
لبيان فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بالجمع بين صرف الرجس ، وبين تثبيت التطهير والعصمة لهم ، وتسمى هذه الآية آية ذهاب الرجس .
الرابع : (ويطهركم تطهيراً) ترغيب للناس بالإيمان والتقوى .
الخامس : ويطهركم تطهيراً لتكونوا أئمة هدى ، قال تعالى [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس : ويطهركم تطهيراً من المعاصي والسيئات .
السابع : ويطهركم تطهيراً لحاجة الناس للإقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
الثامن : ويطهركم تطهيراً بفضل ولطف منه تعالى .
التاسع : ويطهركم تطهيراً فان نسبة تطهير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت إلى الله عز وجل سبب لمنع الغلو في أشخاصهم ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
العاشر : ويطهركم تطهيراً ليتلقى المسلمون منكم أحكام الشريعة العبادية ويأخذوها من عين صافية ، ويحاكوكم في أداء الفرائض العبادية.
الحادي عشر : ويطهركم تطهيراً لبيان استدامة فضل الله على أهل البيت حتى بعد مغادرة الرسول الأكرم الحياة الدنيا.
وبعد انتهاء معركة الجمل كتب الإمام علي عليه السلام إلى أهل الكوفة (فلما هزمهم الله أمرت أن لا يتبع مدبر ولا يجاز ولا يجهز على جريح ولا يكشف عورة ولا يهتك ستر ولا يدخل دار إلا باذن وآمنت الناس.
وقد استشهد منا رجال صالحون ضاعف الله حسناتهم ورفع درجاتهم وأثابهم ثواب الصادقين الصابرين.
وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن جزاء العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته فقد سمعتم وأطعتم وأجبتم إذا دعيتم فنعم الاخوان والاعوان على الحق أنتم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب عبيدالله بن أبي رافع في رجب سنة ست وثلاثين)( ).
الثاني عشر : ويطهركم تطهيراً رفعاً لقدركم بين الناس .
الثالث عشر : ويطهركم تطهيراً بيان الحسن الذاتي لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت.
الرابع عشر : ويطهركم تطهيراً أحياءً وأمواتاً للتنزه عن المعاصي والأدناس.
[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ]( )، (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)( )، وتستعمل (إنما) في القصد الحقيقي كما في قوله تعالى [إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( )، فليس من إله إلا الله عز وجل.
والقصد الإضافي وهو بيان صفة خاصة ينفرد بها المقصود من الناس بالنسبة لأقرانه والأفراد التي من جنسه ومنه إذهاب الرجس عن أهل البيت من الإرادة التكوينية ، وهو ولا يمنع من فوز غيرهم بذات الإرادة أو الإرادة التشريعية خاصة وأن عالم الدعاء رحب واسع ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
ولو ألح العبد المؤمن على الله إذهب الرجس عني وطهرني تطهيراً، فيحتمل جهات :
الأولى : استجابة الله عز وجل للدعاء بذات مسألة إذهاب الرجس ، وتحصيل التطهير على نحو الموجبة الكلية .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن موسى لما امر أن يقطع البحر فانتهى إليه ضربت وجوه الدواب ورجعت، فقال موسى: يا رب مالي.
قال: يا موسى إنك عند قبر يوسف فاحمل عظامه، وقد استوى القبر بالارض فسأل موسى قومه: هل يدري أحد منكم أين هو ؟ قالوا: عجوز لعلها تعلم، فقال لها: هل تعلمين.
قالت: نعم، قال: فدلينا عليه، قالت: لا والله حتى تعطيني ما أسألك، قال: ذلك لك، قالت: فإني أسألك أن أكون معك في الدرجة التي تكون في الجنة.
قال: سلي الجنة، قالت: لا والله إلا أن أكون معك، فجعل موسى يراد فأوحى الله أن أعطها ذلك فإنها لا تنقصك، فأعطاها ودلته على القبر)( ).
الثانية : استجابة الله عز وجل للدعاء بذات المسألة على نحو الموجبة الجزئية .
الثالثة : استجابة الدعاء في مسألة أخرى بكم وكيف لا يقدر على تعيينه ومناسبته للحال إلا الله عز وجل .
الرابعة : استجابة الدعاء بالجزء من آية التطهير ومسائل أخرى .
الخامسة : عدم استجابة الدعاء لأن آية التطهير خاصة بالخمسة أهل الكساء .
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه فان كل الوجوه الأخرى محتملة وهي من بركات الدعاء والوعد من عند الله عز وجل باستجابته.
ولم تدعِ زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضهن اختصاصهن بآية التطهير ، بل أخبرت أم سلمة وعائشة عن كون سبب وموضوع نزول الآية هم الخمسة أهل الكساء .
وذكرت أعلاه موضوع الآية إلى جانب سبب نزولها لأن المدار على عموم المعنى وليس على سبب النزول أما موضوع الآية فهو غير سبب الآية وبما يفيد الحصر إلا مع القرينة على إرادة معنى أعم.
الخامس عشر : ويطهركم تطهيراً من الشيطان ووسوسته .
أقسام المعجزة الغيرية
يمكن تقسيم المعجزات إلى قسمين :
الأول : المعجزات الذاتية.
الثاني : المعجزات الغيرية التي يمكن أن تقسم إلى أقسام منها :
الأول : المعجزات الغيرية التي تقع عند أهل البيت ، ومنها مصاديق آية التطهير ، قال تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
وهل منها قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود العامري ، وقلع باب خيبر ، الجواب نعم .
الثاني : المعجزات الغيرية التي تقع للصحابة .
الثالث : المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي أصابت المشركين وأدت إلى فضحهم وخزيهم وتناقص عددهم ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، ومنه قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
لبيان دلالة هذه الآية على كل من :
الأول : المعجزة العقلية بنزول ذات الآية .
الثاني : المعجزة الحسية الذاتية بقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برمي حفنة من تراب في وجوه المشركين .
الثالث : دخول ذرات التراب إلى أفواه ومناخر جيش المشركين جميعاً وعددهم تسعمائة وخمسون ، وفرارهم من الميدان .
الرابعة : المعجزة الغيرية للنبي محمد وأفرادها المتجددة في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة .
وهل تختص المعجزة الغيرية بالمعجزة الحسية ، الجواب لا ، فهي تشمل فيوضات المعجزة العقلية وهي الآية القرآنية .
لا أصل لخبر الغرانيق
هل تدل آية التطهير [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، على نفي خبر الغرانيق .
وليس فيه حديث صحيح في المقام إنما هي أخبار مرسلة موقوفة.
ولم يرفع منها حديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى وإن كان مرسلاً ، إنما هي روايات عن ابن عباس وبعض التابعين ، ولم يولد عبد الله ابن عباس إلا بعد أوان نزول هذه الآيات وحدوث الواقعة ، ولم يرفع الحديث وهو ما يسمى في إصطلاح علم الرجال التدليس .
وقيل المراد بالغرانيق العلى الملائكة .
والغرانيق : جمع غرنوق وهو الحسن الجميل يقال شاب غرنوق إذا كان ممتلئً .
ومن طرق الحديث :
الأول : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قرأ [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( )، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بذلك .
وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال : اقرأ عليَّ ما جئتك به ، فقرأ [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى .
فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا من الشيطان . فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى]( ) إلى آخر الآية)( ).
الثاني : عن سعيد بن جبير وهو تابعي (قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة (النجم) فلما بلغ هذا الموضع [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( )، قال : فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغَرَانيق العلى ، وإن شفاعتهن ترتجى.
قالوا : ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ).
وقال ابن كثير في تفسيره (قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم)( ).
وقد يتبادر إلى الذهن أن قوله أعلاه مرسلة أي أنها مرسلة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إنقطاع في سلسلة الرواة ، ولكن لم ترد رواية صحيحة أو مرسلة أو ضعيفة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت بهذا الخصوص ، إنما تكون رواية الغرانيق العلى من الموقوف .
الثالث : (وقال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عند المقام إذ نَعَس، فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى. وإنها لمع الغرانيق العلى ، فحفظها المشركون ، وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها، فزَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى]( )الآية ، فدَحَرَ الله الشيطان)( )، وقتادة تابعي ، ولم يرفع الحديث .
الرابع : و(عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة قرأ سورة النجم ، فلما بلغ [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( )، قال : إن شفاعتهن ترتجى ، وسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرح المشركون بذلك.
فقال : إلا إنما كان ذلك من الشيطان ، فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( ) حتى بلغ [عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ]( ) مرسل صحيح الإسناد)( ).
دلائل بطلان رواية الغرانيق
لا أصل لرواية الغرانيق العلا هذه من وجوه :
الأول : القرآن : لقد نزل القرآن بما يؤكد سلامة القرآن من التحريف في الطريق بين السماء والأرض بأمانة جبرئيل ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ]( ).
الثاني : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن والقائها على أصحابه في الحال وبحضور جبرئيل عليه السلام.
الثالث : الوعيد الممتنع بقوله تعالى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ]( )، ومنه قوله تعالى [قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ]( )، وقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
لإفادة حفظ القرآن من التحريف والزيادة والنقصان بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له.
الرابع : حفظ الله لما بين الدفتين معصوماً من تطاله يد التحريف إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا]( )، ولولا كلمة امتناع لإمتناع وقوله تعالى [كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا]( )، وقوله تعالى [سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى]( ).
الخامس : السنة النبوية : فتبين النهج القويم وعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وسئل محمد بن إسحاق بن خزيمة (عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف فيه كتابا. وقال الامام أبو بكر البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون)( ).
ومحمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري (223-311) هجرية له صحيح يسمى صحيح ابن خزيمة ومختصر المختصر ، فقيه اعتنى بالحديث وضبطه رحل إلى الشام والعراق ومصر والجزيرة ، له نحو (140) مصنف .
السادس : لم يرد عن الصحابة الأوائل خبر الغرانيق العلى خصوصاً وأن بعضهم أكثر من الرواية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من كان ملازماً له كالإمام علي عليه السلام.
السابع : لقد ورد في حديث قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسورة النجم في رواية عبد الله بن مسعود قال (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا ، فَمَا بَقِىَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلاَّ سَجَدَ ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ ، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ يَكْفِينِى هَذَا ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا)( ).
إذ يدل لفظ (القوم) على كثرة الناس الحاضرين لقراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم المسلمون ومنهم غير المسلمين سواء في هذه الواقعة أو في غيرها من قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسورة النجم ، ولو كان لبان فلتحدث به المشركون واتخذوه ذريعة ، ولذكره بعضهم ممن دخل الإسلام فيما بعد .
إذ أخبرت رواية الغرانيق عن وجود جماعة كثيرة عند قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
نفي رواية الغرانيق عقلاً
قال الرازي (ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة [وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى]( ).
فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ قوله [أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى .
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين.
فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود.
وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت ما لم أقل لك.
فحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ] ( )الآية .
هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين ، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول)( ).
ومع عدم صحة رواية الغرانيق فانها تدل على منهاج الصبر والسلم الذي اتبعه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان المشركون يكثرون من جدال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام (عن المجوس أكان لهم نبي.
فقال : نعم، أما بلغك كتاب رسول الله إلى أهل مكة: أن أسلموا وإلا نابذتكم بحرب .
فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله أن خذ منا الجزية ودعنا على عبادة الاوثان، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب .
فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه :زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، ثم أخذت الجزية من مجوس هجر ، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله: إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب أحرقوه ، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور)( ).
فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سجد لآلهتهم لأعلنوه وتجاهروا به ، وذكروه في حال السلم والحرب ، وفي موسم الحج حيث يحضر العرب من القرى والمدن المختلفة ، فمن مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ) تكذيب خبر الغرانيق .
وأبو احيحة سعيد بن العاص من بني أمية يسمى (ذو العصابة) و(ذو العمامة) وهو والد عمرو بن سعيد ، وجد سعيد بن العاص .
ذهب إلى الشام في تجارة ، فحبسه عمرو بن جفنة ، فقال شعراً وبعثه إلى بني عبد شمس ، فجمعوا له مالاً وافتدوه .
مات على الكفر والشرك في السنة الثالثة للهجرة أو نحوها فلم يذكر خبر الغرانيق ولم يخبر به إخوته وأبناءه وذويه ، ولم يحتج المشركون بهذه المسألة مما يدل على عدم وجود أصل لها والعقل يمنع منها وكذا الإجماع .
فمع اختلاف المسلمين في سعة عصمة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل تشمل كل أقواله وأفعاله ، أم أنها خاصة بالوحي والتبليغ ففي كلا الأمرين دلالة من الإجماع على عدم صحة حديث الغرانيق.
لقد ابتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته بمحاربة مفاهيم الكفر ، وذم الرؤساء وغيرهم ممن يعبد الأصنام ، وامتلأت قلوبهم بالغيظ من دعوته ، قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وجود وجه أو مادة للتلاقي بين دعوته وبين الكفار ، لذا نزل قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
من إعجاز القرآن قانون مجئ الوعد والوعيد , والبشارة والإنذار , منطوقاً ومفهوماً في جملة خبرية أو إنشائية واحدة منه ، كما في قوله تعالى [لإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
إذ نزلت سورة قريش في مكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكون بياناً لنعمة الله وبشارة إزاحة موانع هبة الله ، وعبادته في (أم القرى)، وبشارة للمؤمنين , وإنذاراً ، وزاجراً ووعيداً للمشركين من غزو المدينة وتسخير نعمة إبل التجارة لمحاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يجهزوا الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد هجرته بنحو سنتين , فابتِليوا في معارك بدر ، وأحد ، والخندق ، بالخسارة الفادحة في الأرواح ، والأموال ، وتعطيل التجارات.
ونزل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
إذ سخرت قريش إبل وأموال التجارة لهذا الغرض الخبيث ، وفيه دعوة للإجيال للتفكر وقانون التدبر في معاني ودلالات الجملة الخبرية والإنشائية في القرآن على نحو الإجتماع والإفتراق ، وقانون استقراء المواعظ منها.
ومصداق الوعيد في الآية أعلاه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
وعن سعيد بن جبير في الآية أعلاه (قال : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب ، فأنزل الله هذه الآية ، وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك:
وجئنا إلى موج من البحر وسطه … أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية … ثلاث مئين إن كثرن فأربع)( ).
ولو لم تحارب قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف فهل يبتلون بنقص الأموال والأنفس ، الجواب نعم ، لتقييد سورة الإيلاف استدامة نعمة التجارة عليهم بقوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، ومن مفاهيمه نبذ عبادة الأصنام .
وبيان السورة بأن ما عندهم من النعم والشأن والجاه والأموال هو من فضل الله ، ولبيان مصداق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة عامة لأجيال الناس ، ورحمة لكل أمة على نحو الخصوص ، إذ يترتب عليها الصلاح في مسالك الأفهام وجنس الأعمال بما يبعدها عن الظلم والتعدي والشح ومفاهيم الكفر والجحود .
السعة في أطراف (أم القرى)
من مصاديق الرحمة في سورة قريش جذب قريش وأهل مكة ومن حولها إلى الإسلام طوعاً وقهراً ، وهجران عبادة الأوثان ، ليكون فتح مكة بداية لسطوع شمس الإيمان على الأرض ، سطوعاً وإشراقة ليس لها مغيب أو خفوت .
وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، وهل المقصود بمن حولها القرى والمدن القريبة من مكة أم المعنى الأعم ، المختار هو الثاني ، من جهات :
الأولى : قوله تعالى في خطاب إلى إبراهيم عليه السلام [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
والضامر : البعير المهزول من طول السفر والحمل ، وينطبق على وسائط النقل السريعة في هذا الزمان التي تقطع المسافات الطويلة.
الثانية : الفج العميق : كل طريق بعيد ، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قرباً وبعداً ليتسع معناه في هذا الزمان بشواهد كثيرة إذ يقدم المسلمون من كل الأمصار لحج البيت الحرام ، وإن كان إبراهيم عليه السلام أذن فيمن حوله من الناس في الأمصار المتعددة فان القرآن يدعو الأجيال لحج البيت بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
الثالثة : بيان الإطلاق والعموم في النص القرآني ، وتمدد ومندوحة معنى اللفظ فيه ، فيشمل لفظ القرى المدن الكبيرة ، والصغيرة ، والأرياف ، والبدو .
الرابعة : تجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوصول دعوة القرآن لحج البيت الحرام لأهل المشرق والمغرب .
الخامسة : مع أن هذه الآية جملة خبرية فانها تتضمن الأمر ووجوب الحج ، وجوباً مقيداً بالإستطاعة من الزاد وواسطة النقل ، وسلامة السرب ، والجواز ، والقرعة ونحوها في هذا الزمان .
وفي الآية وعيد لمن تخلف عن الحج مع تحصيل الإستطاعة وفيه نصوص عديدة .
وعن الإمام علي عليه السلام (قال : لما نزلت [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ]( ) قالوا : يا رسول الله في كل عام ، فسكت ، قالوا : يا رسول الله في كل عام .
قال : لا . ولو قلت نعم لوجبت . فأنزل الله [لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] ( ).
وأخرج عبد حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال : لما نزلت [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ]( ) قال : يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال : حج حجة الإسلام التي عليك . ولو قلت نعم وجبت عليكم)( ).
وهو لا يتعارض مع استحباب إعادة وتكرار الحج ، إذ ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (أنه قال وهو بعرفات : لا أدع هذا الموقف ما وجدت إليه سبيلاً ، لأنه ليس في الأرض يوم أكثر عتقاً للرقاب فيه من يوم عرفة.
فأكثروا في ذلك اليوم من قول : اللهم اعتق رقبتي من النار ، وأوسع لي في الرزق ، واصرف عني فسقة الجن والإِنس ، فإنه عامة ما أدعوك به)( ).
الإعتفاد
ذكرت بعض الكتب مسألة الإعتفاد وموضوعه أنه سبب رحلتي قريش للتجارة في الشتاء والصيف وهو إذا كان أهل بيت من قريش أصابتهم الفاقة ، وانقطع عنهم الرزق والطعام لقوتهم اليومي ، يقوم رب البيت بحمل عياله إلى موضع معروف خصص للإعتفاد بأن يضرب عليهم خباء ويبقون فيه حتى يموتوا جوعاً .
وهو المسمى بالإعتفاد ، أو أن الرجل يغلق باب داره على نفسه فلا يسأل أحداً حتى يموت جوعاً .
(والاعْتفادُ أن يُغْلِقَ بابَهُ على نفسِهِ فلا يَسْألَ أحداً حتى يَمُوتَ جُوعاً، وكانوا يَفْعَلونَ ذلك في الجَدْبِ، ولَقِيَ رجلٌ جارَيَةً تَبْكي، فقالَ ما لَكِ ، فقالتْ نُريدُ أن نَعْتَفِدَ. واعْتَفَدَ كذا اعْتَقَدَه)( ).
ولم يثبت هذا الخبر والموضوع ، وهو مناف لغريزة البقاء عند الإنسان لذاته ولغيره وللفطرة في التعاون بين الناس لدرء الموت جوعاً ، ولفيوضات البيت الحرام وما يجلب إليه ، ولقانون من الإرادة التكوينية هو تفضل الله عز وجل بالرزق الكريم لمجاوري البيت الحرام بل الناس جميعاً ، قال تعالى [وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وحدوث حالة أو حالات نادرة لا يعني أنها ظاهرة وسجية.
ولم يرد موضوع الإعتفاد في حديث أو نص أو كتاب معتبر ، والمختار أنها حادثة فردية ونفس غضبية في زمان جدب وفقر سرعان ما زالت أسباباً لقوله تعالى [الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ]( ) .
وذكرت حادثة تأريخية في المقام وهو أن أهل بيت من بني مخزوم عجزوا عن توفير الطعام لأنفسهم لفاقة شديدة حلّت بهم في أيام جدب فهمّوا بالإعتفاد .
وكان أحد أبنائهم صديقاً وترباً لأسد بن هاشم بن عبد مناف الجد الثاني للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فذهب أسد إلى أمه وأخبرها بحزن وحرقة إلى ما سيقدم عليه صديقه وأهل بيته فبادرت بارسال طعام وشحم لهم ليقتاتوا بها لأيام ، وعاد بعدها الصبي من بني مخزوم ليخبر أسد بنيتهم الخروج للإعتفاد والموت جوعاً واحداً بعد الآخر فذهب أسد إلى أبيه هاشم باكياٌ حزيناً عندئذ قام هاشم خطيباً في قريش إنكم أحدثتم حدثاً تقِلون فيه وتكثر العرب ، وتذلون وتعزّ العرب ، وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تُبّع ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم.
ليبين أن الإعتفاد باب لضعف ووهن قريش وانقراض مجدها ، وهو سبب لإجهاز الناس عليهم .
وكان هاشم مطاعاً في قريش فقالوا له : نحن لك تبع ، أي ماذا تأمرنا نفعله ، فقال : ابتدئوا بهذا الرجل ، أي والد صديق ابنه اسد ، فأغنوه عن الإعتفاد ففعلوا.
ومما يدل على أن الإعتفاد فرد نادر ليس عاماً هو أن هاشم جمع ماعنده من المال وذهب إلى فلسطين فاشترى الدقيق والكعك وقدم إلى مكة في موسم الحج ، فهشم الكعك ونحر الجزور وطبخه وجعله ثريداً.
وقام بحفر حفرة يضع فيها اللحم وما يهشمه من الثريد لوفد الحاج وعامة الناس ، فسمي هاشماً ، واسمه عمرو .
(فقال ابن الزًبَعْرى فيه:
عمرُو العُلا هَشَمَ الثّرِيدَ لِقَوْمهِ … ورِجالُ مَكةَ مُسْنتَموُنَ عِجَافُ)( ).
(فلم يزل هاشم على ذلك حتى توفي ، وكان عبد المطلب يفعل ذلك ، فلما توفي عبد المطلب قام بذلك أبو طالب في كل موسم)( ).
فالاعتفاد انتحار الفرد أو الأسرة نتيجة المخمحصة والجدب ، وترفعاً عن سؤال الناس الحاجة والعون ، وتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : المعجزة العقلية بنزول قوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( )، لمنع الوأد وقتل الإنسان نفسه وما يسمى بالإنتحار ، قال تعالى [وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ).
وتدل خاتمة الآية على نزول الرحمة وانصراف المحنة ورفع الغمة لمن يصرف نيته عن الإنتحار وعن قتل الغير ، قال تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنًا فلعله أن يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب)( ).
الثانية : شيوع معالم الإيمان في أرجاء الجزيرة وحرمة سفك الدماء.
الثالثة : انتفاء الحاجة للإعتفاد لمصاحبة الرسالة المحمدية لسعة في الرزق ، والأخلاق الحسنة والتكافل الإجتماعي .
الرابعة : وجوب الزكاة ، والندب إلى الصدقة المستحبة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الخامسة : انقطاع الغزو والحروب في الجزيرة والتي كانت تستنزف الأموال ، وتعطل الأعمال ، وتمنع من إزدهار التجارة والزراعة .
السادسة : تنمية القرآن لملكة احترام الذات .
السابعة : إدراك المسلمين وغيرهم لموضوعية الدعاء في جلب الخير ، ودفع الجدب والفقر والعوز .
لذا شرعت صلاة الإستسقاء المستحبة عند غور الأنهار ، وشحة الأمطار ، والجفاف ، وهي مثل صلاة العيد .
ومن أسباب حجب السماء قطرها شيوع مفاهيم الإلحاد ، وكثرة المعاصي ، والجحود بالنعم ، ومنع الحقوق الخاصة والعامة ، ونقص الميزان وإشاعة الغش والتدليس في المعاملات التجارية فيكثر في صلاة الإستسقاء من التكبير والقنوت والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل وسؤال الغيث والسقي .
إن قوله تعالى [أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ]( )، ينفي شيوع مسألة الإعتفاد في قريش وكأنها حالة فردية سرعان ما تم تداركها للوعد أعلاه ، ولبيان قانون اقتران الوعد الإلهي بمصاديقه الواقعية وعدم تخلفها عنه ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
لقد انقطع أثر الجدب على قريش بما رزقهم الله من التجارة الواسعة بين الأمصار وبركة البيت الحرام .
واتفق أن نشبت الحرب بين دولتي فارس والروم فانقطعت الطرق عبر العراق والشام فصار الإعتماد التجاري على قوافل قريش لنقل البضائع من أوربا والشام إلى فارس والهند والصين وبالعكس عبر موانئ اليمن والحجاز.
وهو من الإعجاز في قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، وليكون من معاني إيلاف التآلف والإنسجام والتكافل في قريش والأمن لهم في بلدهم وفي تنقلاتهم وقوافلهم ومنه [َالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( )، كمقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إجتماعهم على التصديق برسالته .
(وقال ابن الأعرابي : كان هاشم يؤلف إلى الشام؛ وعبد شمس إلى الحبشة؛ والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس، وكان هؤلاء الأخوة يسمون المجيزين، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه المصار بحبال هؤلاء الأخوة فلا يتعرض لهم، فأما هاشم فانه أخذ حبلاً من ملك الروم، وإما عبد شمس فإنه أخذ حبلاً من النجاشي، وأما المطلب فانه أخذ حبلاً من أقبال حمير، وأما نوفل فأنه أخذ حبلاً من كسرى)( ).

صلح الحديبية ليس غزوة للنبي (ص)
هل يصح تسمية صلح الحديبية غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يذكره عدد من المؤرخين ، الجواب لا.
فلم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتال قرية أو بلدة إنما خرج وأصحابه لأداء مناسك العمرة ولكن المشركين انتهجوا سبيل الاشتباك ومقدماته فلجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإعراض عنهم وتحمل المشاق بطريق آخر طويل ووعر لإجتناب القتال.
فحصل الصلح بين الطرفين والذي كان الناس بحاجة إليه وقد أراده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدايات البعثة النبوية ومن مواضيع الهجرة من مكة إلى المدينة التصالح والوئام.
واجتنب الوحي والتنزيل سفك الدماء ولكن المشركين أصروا على القتال في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ليخزهم الله عز وجل بإخباره عن نصره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فلم يتعظوا وأرادوا الثأر في معركة أحد وأنفقوا عليها الأموال الطائلة فقال تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لتدل هذه الآية على أن المشركين لم ينتصروا في معركة أحد خلافاً لما أشاعوا أو ما يظنه بعض المؤرخين بسبب كثرة قتلى المسلمين ، ودوران الغلبة للمشركين بعد عزمهم على الفرار.
فمن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قانون ثباته في الميدان ، ليكون من أسباب منع هزيمة المسلمين في أي معركة من معارك الاسلام .

موضوعية هزائم المشركين في صلح الحديبية
هل لهزائم وخيبة المشركين في معركة بدر ، وأحد ، والخندق موضوعية في رضاهم بصلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، الجواب نعم.
ومع هذا فأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفرض عليهم شروطاً في هذا الصلح بسبب حاجتهم إليه بل قام بالموافقة على شروطهم .
ويتصف صلح الحديبية بعدم وقوع قتال فيه ، فلم يأت الصلح بعد قتال يومئذ ، وهو من فضل الله عز وجل في إنهاك الذين كفروا وحملهم على الرضا على مضض بالصلح ووقف القتال.
فمن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم طلبوا في صلح الحديبية وقف القتال عشر سنين ، في وقت كانوا هم الذين يقومون بالغزو ويبدأون القتال ، كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، مما يدل على أنهم أدركوا تبدل الحال بكثرة عدد المسلمين وانتشار الإسلام وشيوعه بين أهل مكة مع ضعف ووهن أصحاب المشركين.
ولقانون كلما دخل فرد أو جماعة الإسلام نقصت جماعة من المشركين وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) .
ليكون رجحان كفة المسلمين بالإيمان وحسن التوكل على الله ، ورجاء فضله وإحسانه .
ومن تجليات احتجاج المؤمنين على الذين كفروا قوله تعالى [وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ]( ).
ولم يرد لفظ [يَأْلَمُونَ] في القرآن إلا مرة واحدة وفي الآية أعلاه ، وكذا فإن قوله تعالى [تَأْلَمُونَ] ورد مرتين في القرآن وكلاهما في الآية أعلاه.
ومن معاني قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] نفاذ الألم والحسرة إلى قلوب المشركين في كل مرة يرجعون فيها من القتال أو مطلقاً فإذا رجعوا من القتال إلتفتوا إلى انهم لم يحققوا غاياتهم الخبيثة في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع كثرة قتلاهم .
وإذا رجعوا من غير قتال فإنهم يصابون بالخيبة ويحصون خسائرهم بالأموال ، وتعطيل التجارات ، فمن مصاديق قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، عناية رجالات قريش بالأموال ونمائها واكتنازها كسجية ظاهرة عند الذين يزاولون ويتوارثون التجارة في كل زمان.
فاذا خاضوا حرباً أصابتهم الحسرة على الإنشغال عن التجارة على الإنفاق في الحرب لذا فانهم يسارعون إلى الصلح وإيقاف القتال ، ولكن قريشاً تمادوا في القتال والظلم والغزو.

قانون سلامة النبي (ص) استدامة للتنزيل
لقد كان المشركون في كل معركة يرجون استئصال الإسلام والذي كان يرتكز على سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوجوه :
الأول : نزول آيات وسور القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين فلم ينزل القرآن على غيره من قبل أو في أيام حياته أو بعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
الثاني : نزول آيات القرآن نجوماً وعلى نحو التدريج والتعاقب ويأبى الله عز وجل إلا أن يتم نزول القرآن كله ، مما يدل على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، ومن حلول الأجل إلا بعد أن يتم نزول آيات وسور القرآن ، ولم تكن قريش تعلم هذه المعجزة فضلوا وتعدوا وظلموا أنفسهم وغيرهم .
الثالث : تجلي أمارة على أوان إنقطاع التنزيل بمعارضة وتدارس جبرئيل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن مرتين في السنة التي غادر فيها الدنيا ، بينما كان يعارضه بالقرآن مرة في كل سنة.
وعن عائشة عن فاطمة عليها السلام (أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي)( ).
الرابع : حراسة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعني نزول جبرئيل بالوحي الحصر بالتنزيل إنما يشمل مقدماته والحصانة والعصمة والأمان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي الوحي.
الخامس : سلاح الوحي في معرفة وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن مواطن الخطر والتهديد ، ومنها معرفة النبي بمحاولات الإغتيال قبل وقوعها .
السادس : إحاطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصحاب من المهاجرين والأنصار ، وحتى قبل هذه الإحاطة فانه محفوظ بواقية من عند الله عز وجل ، ومن الشواهد هجرته من مكة وليس معه من أصحابه إلا واحد فقط.
وكان المشركون يلاحقونه ، وجعلوا جعلاً بمقدار ديته مائة بعير لمن يأتي به ، قال تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
لبيان قانون عدم مغادرة النبي أو الرسول الحياة الدنيا إلا بعد أن يتم رسالته في التبليغ ، قال تعالى [لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ]( ).
قانون صلح الحديبية عيد
ومن حق المسلمين الإحتفال بصلح الحديبية من جهات :
الأولى : الصلح عيد : قال تعالى [َالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
الثانية : صلح الحديبية فتح ، فبعد تمام الصلح وقبل أن يصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة راجعاً من الحديبية نزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الثالثة : صلح الحديبية حقن للدماء فهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة : الصلح مناسبة لإطلاع عامة الناس على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : إزاحة حاجز الخوف عن الناس في دخول الإسلام.
فبادرت قبيلة خزاعة لدخول الإسلام ، وقدمت الوفود على المدينة لإعلان الإسلام ، أو للتدبر في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنظمة السماوية في حياة أهل المدينة في العبادات والمعاملات والأحكام .
السادسة : نشاط التجارة والزراعات لعامة العرب .
تجدد قيام المشركين بالتهديد بالغزو
من مصاديق غزو المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية تهديدهم بالهجوم عليه وعلى أصحابه ، وعزمهم المتكرر على الإجهاز عليه.
منه ماورد (عن خالد بن الوليد في قصة إسلامه قال فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فتلقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه بعسفان فقمت بإزائه وتعرضت له.
فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا فأطلع على ما في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف)( ).
لقد قطعت خيل المشركين طريق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة إذ أرادوا القتال خارج الحرم قبل أن يدخله المسلمون كيلا تؤاخذ قريش بالقتال داخل الحرم ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ]( ).
لقد أرادت قريش القتال ، وطمعت في المسلمين بعدم حملهم أسلحة ولإمكان إمداد خيل المشركين برجال وخيل من مكة إذ تبعد عنهم نحو (20)كم تستطيع الخيل قطعها بساعة واحدة .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتنب ملاقاة خيل المشركين إذ مال بأصحابه إلى طريق وعر وشاق غير الجادة العامة وبما لا يمر على خيل المشركين .
وهو من الشواهد على أن النبي محمداً رسول السلام الذي يحرص على دفع اللقاء مع المشركين ، ويتجنب سفك الدماء ، ويؤكد للناس جميعاً كراهية الحرب .
و(عن ناجية بن جندب قال: كنا بالغميم فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر قريش أنها بعثت خالد بن الوليد جريدة خيل بتلقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فكره رسول الله أن يلقاه وكان بهم رحيماً فقال: من برجل يعدلنا عن الطريق؟ فقلت: أنا بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: فأخذت بهم في طريق قد كان بها فدافد( ) وعقاب.
فاستوت لي الأرض حتى أنزلته على الحديبية وهي تنزح قال: فألقى فيها سهماً أو سهمين من كنانته ثم بصق فيها ثم دعا بها فعادت عيونها حتى أني أقول: لو شئنا لاغترفنا قداحنا)( ).
قانون عدم تمني لقاء العدو
ستبقى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية ضياء ينير سبل الهدى والرشاد للمسلمين ، ولينتفع منها الناس جميعاً ، وهي مادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وفي اتخاذها منهاجاً فوز بحب الله عز وجل للفرد والجماعة لما فيها من السلام في الدنيا والآخرة .
ولو أراد الله عز وجل أن تكون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خالية من القتال والحروب لفعل من غير أن ينتقص عدد الذين يدخلون الإسلام وأوان دخولهم قبل صلح الحديبية أو بعده أو فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة في العام التاسع للهجرة والذي سمي عام الوفود.
ومن شأن بعض الأفراد والجماعات في كل زمان تمني لقاء العدو لأسباب متعددة منها :
الأول : الثأر .
الثاني : الطمع والغنائم .
الثالث : حب البطش والإنتقام .
الرابع : توسعة الملك .
الخامس : الجاه والمال .
السادس : الصراع المذهبي والعقائدي .
السابع : حب الرياسة .
الثامن : النفس الأمارة بالسوء .
التاسع : الطلب بالحق .
العاشر : المغصوب .
الحادي عشر : الدعوة إلى الله عز وجل .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً بألوية السلام والتآلف الإنساني، والأخوة الإيمانية ، والجامع المشترك بين الناس وهو التوحيد وقول لا إله إلا الله .
وهل يكفي هذا القول في تحقيق مصداق العبادة كعلة لخلق اليأس كما في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، الجواب لا ، إنما فرض الله عز وجل على الناس الصلاة التي هي عمود الدين ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
والفرائض العبادية الأخرى كالصوم ، والزكاة ، والحج ، والخمس ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتضمن شريعته السماوية تمام الفرائض عدداً وكماً ، وكيفيته.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن تمني القتال مطلقاً سواء كان مطلوباً لجذب الناس للإسلام أو طمعاً في الغنائم أو الفتح .
وعن يحيى بن أبي كثير (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم ستبلون بهم وسلوا الله العافية ، فإذا جاءوكم يبرقون ويرجفون ويصيحون بالأرض ، فالأرض( ) الأرض جلوساً ثم قولوا : اللهم ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تقتلهم أنت ، فإذا دنوا منكم فثوروا إليهم واعلموا أن الجنة تحت البارقة)( ).
لبيان قانون مطابقة السنة الفعلية للسنة القولية ، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن القتال إلى أن يزحف ويأتي المشركون للقتال ، وهو الذي تحقق في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين، وغيرهما مع توكيده على ذكر الله والدعاء عند اللقاء .
لبيان قانون ترشح السنة النبوية عن القرآن لان هذا التوكيد مصداق لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
قانون سؤال العافية
لقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بسؤال الله العافية أي بقاؤهم بأمن وسلام وصرف القتال عنهم ، ولا يختص هذا الصرف ومنافعه بهم بل يشمل الذين كفروا بلحاظ أن القتال نوع مفاعلة بين طرفين.
لبيان قانون هداية الناس من غير قتال وسفك دماء لأن القرآن دعوة سماوية للإيمان تنفذ إلى شغاف القلوب بالإضافة إلى المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء قبل الهجرة أو بعدها .
وتبين خاتمة الحديث (الجنة تحت البارقة) قانون الترغيب بالدفاع مع الحاجة إليه ، فلم يأت هذا القول في بداية الحديث أو على نحو مستقل ، إنما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أمور :
الأول : الإمتناع عن تمني لقاء المشركين ، وهذا التمني كيفية نفسانية قد تبرز إلى الواقع الفعلي ، فجاء الأمر النبوي لإستئصالها من الأصل .
الثاني : ذكر الحديث (العدو) والنسبة بينه وبين مشركي قريش عموم وخصوص مطلق.
الثالث : بيان قانون لا يعلم وقائع ونتائج المعركة إلا الله ، وهذا القانون مسألة سيالة في كل زمان ، فحساب البيدر غير حساب الحقل الأولي .
الرابع : بيان قانون الدعاء والصبر واقية من الإبتلاء بالعدو وسقوط الشهداء والخسائر في المعركة .
الخامس : الدعاء والتوسل إلى الله للسلامة واستدامة حال السلم ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
السادس : قانون وجوب عدم الخشية والخوف من جحافل المشركين ، وصرير السلاح ، وصهيل خيلهم ، إنما هو الصبر والثبات ومسك الأرض ، وقانون الدعاء المقرون بمطلق الذكر ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ]( ).
السابع : اتخاذ الدعاء وتفويض الأمور إلى الله مقدمة للقتال ، وقد ينصرف العدو أو يبتلى بما يمنعه من التقدم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وفي هذا الحديث شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين وأنهم هم الذين يحشدون الجيوش ويشترون الأسلحة ، ويسخرون إبل تجارة [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، للهجوم على المدينة والسعي المسلح لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان معجزة نجاته من القتل مع إحكام المشركين ومن والاهم لخطط قتله وتعدد محاولات اغتياله.
من منافع كمال الدين
قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( )
لتكون منافع كما الدين على وجوه :
الأول : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] رحمة بكم .
الثاني : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] لأن شريعتكم الخاتمة للشرائع .
الثالث : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فلا تحتاجون إلى عقائد غيركم.
الرابع : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ببيعة الغدير .
الخامس : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] كرامة وتشريفاً لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
السادس : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] من غير غزو وقتال.
السابع : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فلا تتمنوا لقاء العدو .
الثامن : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فلا ترتدوا ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( )، ليكون من معاني هذه الآية الإنذار والوعيد من الإرتداد أيام النبوة وبعدها ، ولحوق الخزي والهزيمة بالذين يرتدون بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ على أكمل وجه ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
العاشر : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] بالقرآن والسنة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الحادي عشر : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] بنزول الوحي والقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني عشر : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فضل من عندي .
الثالث عشر : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فاشكروا لي ، قال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ]( ).
الرابع عشر : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فاقيموا الصلاة وأتوا الزكاة والفرائض العبادية الأخرى .
الخامس عشر : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فجعلت القرآن جامعاً لأصول الأحكام .
السادس عشر : يا أيها الذين آمنوا [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] .
السابع عشر : يا أجيال المسلمين المتعاقبة [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ].
الثامن عشر : لقد أكرمتكم وفضلتكم بأن [أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] .
التاسع عشر : تمام الآية هو [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
العشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] بالنصر على المشركين .
الواحد والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ببيان الأحكام الشرعية ، وما يحتاج اليه المسلمون إلى يوم القيامة .
الثاني والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ويئس الشيطان منكم.
و(عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم .
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه راض منكم بما تحقرون)( ).
الرابع والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فلا ينقص منه شئ إلى يوم القيامة فلله ملك السموات والأرض.
الخامس والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] وسلامة القرآن من التحريف.
السادس والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] وبيان أحكام الفرائض على نحو التدريج .
و(عن ابن عباس في قوله [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ]( ) قال : السكينة هي الرحمة في قوله [لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ]( ) قال : إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله فما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة ، فلما صدقوا بها ، زادهم الصيام ، فلما صدقوا به زادهم الحج ، فلما صدقوا به زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم فقال [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا]( ).
قال ابن عباس : فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله)( ).
السابع والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] بالقرآن والسنة ، فاصدروا عن القرآن وأحكامه .
الثامن والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فاتقوا الله .
(قال المفسّرون : لمّا نزلت هذه الآية [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليتني أعلم متّى يكون ذلك ، فأنزل الله تعالى سورة النصر.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه السورة يسكت من التكبير والقراءة فيقول فيها : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه.
فقيل : إنّك لم تكن تقوله يا رسول الله قبل هذا.
قال : إنّها نفسي نعيت إلي ثمّ بكى بكاء شديداً فقيل : يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد عفا الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر،
قال : فأين هول المطلع فأين ضيق القبر وظلمة اللحد فأين القيامة والأهوال.
فعاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة أشهر ، ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق [يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ]( ) إلى آخرها فسمّى آية الصيف)( ).
التاسع والعشرون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فتقربوا الى الله بأداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فاجتهدوا بالدعاء وسؤال السلامة والفلاح في الدنيا والآخرة .
الواحد والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] وما أكمله الله لن يطرأ عليه النقصان أبداً .
الثاني والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] في العبادات والمعاملات والأحكام .
الثالث والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] وفيه وقاية من غزو المشركين لكم .
الرابع والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] لإقامة الحجة على المشركين .
الخامس والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فابشروا بالجنة .
السادس والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فاصبروا يفتح الله لكم .
و(عن خباب بن الأرت قال : قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا .
فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه .
ثم قال : والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)( ).
و(عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول : ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز و جل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها)( ).
السابع والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فاكثروا من الدعاء في حال الرخاء والشدة .
الثامن والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] لترغيب الناس بالإسلام .
التاسع والثلاثون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] لبيان قانون إتقان الله عز وجل للشرائع وكل شئ ، وفي التنزيل [وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ]( ).
الأربعون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] [لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الواحد والأربعون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] لمنع الفرقة والخلاف بينكم .
الثاني والأربعون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثالث والأربعون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] لأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، وليس من شريعة بعد شريعته .
الرابع والأربعون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ومن هذا الكمال سلامة القرآن وأحكام الشريعة من التحريف .
الخامس والأربعون : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فاجتهدوا في طاعة الله.

أعداد في القرآن
قال تعالى [لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
الأول : عدد سور القرآن هو مائة وأربع عشرة سورة (114) أولها سورة الفاتحة وآخرها سورة الناس.
الثاني : عدد آيات القرآن هو 6236 , أما مع إحتساب البسملة في أول السور فيكون المجموع (6236+112=6348) .
الثالث : عدد كلمات القرآن سبعة وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة 77439 باحتساب الحروف المقطعة مثل (الم ، حم).
الرابع : عدد حروف القرآن هو ثلاثمائة وثلاثة وعشرون ألفاً وخمسة عشر حرفا (323671) حرفاً.
المراد من (غزى) هم الكفار
تفسير مغاير لأقوال المفسرين في قوله تعالى [أَوْ كَانُوا غُزًّى] وتمام الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
غزى : جمع غازِ مثل صائم وصُوّم ، ولم ترد كلمة غزا ومشتقاتها في القرآن إلا بهذه الكلمة.
ومشهور علماء التفسير أن المراد هم المنافقون ويقولون لإخوانهم في النسب أو النفاق ، والمختار ان المراد بيان التضاد بين المسلمين والكفار ، والآية من باب الموعظة والإخبار عن قوم كافرين .
إذا مات بعضهم في سفر تجارة أو غزو قالوا [لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( )، ليكون من معاني اسم الإشارة [ذَلِكَ حَسْرَةً] الموت على الكفر والغزو بالباطل وذم الأحياء من الكفار لأمواتهم , وتبكيت وزجر كفار قريش في غزوهم النبوة والتنزيل في المدينة في معركة بدر، أُحد ، الخندق .
فلم تقل الآية (وقالوا لإخوانكم) أو (قالوا لكم).
ثم أن المنافقين يدخلون في نداء (يا أيها الذين آمنوا) في أول هذه الآية
إذ ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] قال ( يدخل في هذه المنافقون والضُلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة)( ).
قطع القطاع : ترى ما هو
من معاني قطع القطاع الذي يحصل عنده القطع بكثرة وبأسباب لا يحصل معها القطع لغالب الناس.
فلا يعتنى بكثرة شك الشكاك من باب الأولوية فلو شك في ثلاث صلوات متواليات في كل منها مرة ، أو شك في صلاة واحدة ثلاث مرات فهو كثير الشك ، فلا عبرة بشكه ويبني على الصحة ، فهو أما وسواسي وأما كثير النسيان .
والنسبة بين قطع القطاع وبين كثير الشك والوسواسي عموم وخصوص من وجه .
وفي موثقة عمار الساباطي عن الأمام الصادق عليه السلام في الرجل يكثر عليه الوهم في الصلاة فيشك في الركوع فلا يدري اركع أم لا ، ويشك في السجود فلا يدري أسجد أم لا ، فقال عليه السلام : لا يسجد ولا يركع يمضي في صلاته حتى يستيقن يقيناً.
جواب استفتاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى [وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا]( ).
وقوله تعالى [إِلَّا بِالْحَقِّ] قيد وبيان أي القصاص لمن قتل غيره عمداً ، ولا يتعدى إلى غيره [النَّفْسَ بِالنَّفْسِ].
وعن الإمام زين العابدين : أن في حكم القصاص نجاة للقاتل والمقتول .
فحينما يعلم الإنسان أنه سيقاد ويُقتل قصاصاً يتجنب القتل .
ومن معاني [فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ] النهي عن تعدي الثأر إلى إخوة وعمومة القتيل للإنتقام من القاتل أو ذويه لأنه يؤدي إلى الفتنة وتعطيل الأعمال ، إنما يكون الحكم للقضاء والحاكم الشرعي.
والقصاص على القتل في حال العمد إلا مع عفو أولياء المجني عليه أو قبولهم الدية ، والدية مع الخطأ ، وهي على ستة أصناف أقلها في هذا الزمان عشرة آلاف درهم أي نحو ثلاثين مليون دينار عراقي والذي يختار صنف الدية الجاني سواء القاتل أو الجارح والمعتدى ، لبيان أن الدم لا يذهب سدى .
وقوله تعالى [فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ] أي لا يقتل غير القاتل ولا يمثل به ، ولا يصح قتل اثنين عن قتيل واحد .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على حرمة الدكة العشائرية وإرهاب وإخافة غير الجاني ، والعلم عند الله .
وعن الإمام الصادق عليه السلام (قال : وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وآله صحيفة : إن أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله ، والضارب غير ضاربه ، ومن ادعى لغير أبيه ، فهو كافر بما انزل على محمد صلى الله عليه وآله).
وعن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام : أن الآية نزلت في الحسين عليه السلام فهو الذي قتل مظلوماً .
من أخبار الغيب
(عن سلمة بن نفيل قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله : إن الخيل قد سُيبت وَوُضِعَ السلاحُ وزعم أقوام أن لا قتال وأنْ قد وضعت الحرب أوزارها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبوا فالآن جاء القتال ، ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله قلوب قوم ليرزقهم منهم ويقاتلون حتى تقوم الساعة ، ولا تزال الخيل معقوداً في نواصيها الخير ، حتى تقوم الساعة ، ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج.
وأخرج ابن أبي حاتم : عن حذيفة بن اليمان قال : فتح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح فقلت يا رسول الله اليوم ألقى الإِسلام بجرانه ، ووضعت الحرب أوزارها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن دون أن تضع الحرب أوزارها خلالاً ستاً.
أولهن موتي ثم فتح بيت المقدس ثم فئتان من أمتي دعواهم واحدة يقتل بعضهم بعضاً.
ويفيض المال حتى يعطي الرجل المائة دينار فيتسخط.
وموت يكون كقعاص الغنم .
وغلام من بني الأصفر ينبت في اليوم كنبات الشهر وفي الشهر كنبات السنة ، فيرغب فيه قومه فيملكونه يقولون نرجو أن يربك علينا ملكنا فيجمع جمعاً عظيماً ثم يسير حتى يكون فيما بين العريش وأنطاكية ، وأميركم يومئذ نعم الأمير فيقول لأصحابه : ما ترون فيقولون نقاتلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فيقول لا أرى ذلك نحرز ذرارينا وعيالنا ونخلي بينهم وبين الأرض ثم نغزوهم وقد أحرزنا ذرارينا فيسيرون فيخلون بينهم وبين أرضهم حتى يأتوا مدينتي هذه فيستهدون أهل الإِسلام فيهدونهم ثم يقول لا ينتدبن معي إلا من يهب نفسه لله حتى نلقاهم فنقاتل حتى يحكم الله بيني وبينهم.
فينتدب معه سبعون ألفاً ويزيدون على ذلك فيقول حسبي سبعون ألفاً لا تحملهم الأرض وفيهم عين لعدوّهم فيأتيهم فيخبرهم بالذي كان.
فيسيرون إليهم حتى إذا التقوا سألوا أن يخلي بينهم وبين من كان بينهم وبينه نسب فيدعونهم فيقولون ما ترون فيما يقولون فيقول : ما أنتم بأحق بقتالهم ولا أبعد منهم.
فيقول : فعندكم فأكسروا أغمادكم فيسل الله سيفه عليهم فيقتل منهم الثلثان ، ويقر في السفن الثلث ، وصاحبهم فيهم ، حتى إذا تراءت لهم جبالهم بعث الله عليهم ريحاً فردتهم إلى مراسيهم من الشام فأخِذوا فَذُبِحوا عند أرجل سفنهم عند الساحل ، فيومئذ تضع الحرب أوزارها)( ).
قانون طرح الخبر التأريخي الذي يتعارض مع القرآن
الحمد لله الذي جعل القرآن بياناً وموعظة [وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
ومن وجوه البيان والهدى عرض الأخبار التأريخية على القرآن، فليس من حصر لكثرتها في تراث الأمم الخاص والعام ، أي الأخبار الخاصة بالأمم والشعوب ومنها معارك العرب قبل الإسلام أو الوقائع التي أخذت صفة العالمية بالترجمة ، ونقل المؤرخين والقصاصين وعامة الناس لها ، ومنها الممالك البائدة وتوارثها والمكائد فيها ، والعلماء والمصلحين في الأمم ، والتجارة والإقتصاد.
لذا ورد النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن ، ويتداول المسلمون شأنهم شأن الأمم وأهل الملل الأخرى قصصاً وأخباراً عن الممالك البائدة والأمم السابقة ، والحضارات القديمة وما فيها من النظم البدائية أو القوانين العامة .
وأحوال العرب قبل الإسلام من غير سند موثوق وسلسلة رجال تصل إلى تأريخ وزمان تلك الأمم وفيها ما سبق الإسلام بمئات السنين .
ولا مانع من نقل هذه الأخبار فهي من الثروات والتراث العام للإنسانية ، إلا أنها تعرض على القرآن .
وما خالف وعارض القرآن منها لا يؤخذ بها .
وقد ترد بعض أخبار القتلى في المعارك بأعداد مبالغ فيها ، وأن احتمل وقوعها لإتباع بعض الطواغيت الإبادة الجماعية للجيش الخاسر أو استباحة المدن وقتل أهلها .
ومنها مثلاً الإعتفاد في مكة بأن تلجأ أسرة إلى غلق بابها عليهم للجدب وشدة الجوع حتى يموتوا جميعاً وهو بعيد ، لأنه مخالف لقوله تعالى [أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ]( )، نعم لا يبعد حدوث هذا الحال على نحو نادر وقليل كما في حال اسرة صديق أسد بن هاشم بن عبد مناف ، وصيرورة هذه القضايا الشخصية سبباً للنشاط والتجاري لرجالات قريش ، وللتكافل الإجتماعي الذي هو من مصاديق قوله [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]( ).
فهذه الآية هي الأخرى تدل على سعي قريش لمنع إشاعة الإعتفاد ، والسعي العام لزيادة وفد الحاج ، وقيام قريش بالوساطة وحل الخصومات بين أفراد القبائل .
قانون إجتماع القرآن والوحي في الواقعة الواحدة
من إعجاز القرآن نزوله نجوماً على التدريج والتوالي ، ومنه حسب الوقائع والأحداث للتوثيق السماوي للوقائع ، وبيان فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً ، مع التسليم التلقائي والفطري بأن المدار على عموم معنى الآية ، وليس سبب النزول وحده ، وقد نزل قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
وقد ورد في الآية أعلاه أربعة أوامر هي :
الأول : قوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ].
الثاني : قوله تعالى [اسْتَغْفِرْ لَهُمْ].
الثالث : قوله تعالى [شَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ].
الرابع : قوله تعالى [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ].
وقد تقدم في الجزء الواحد والخمسون بعد المائة من هذا السِفر بحث أصولي ومنه ، تحتمل هذه الأوامر وجوهاً :
أولاً : كفاية المرة الواحدة في كل فرد منها .
ثانياً : وجوب التكرار والتعدد في كل أمر منها .
ثالثاً : إفادة بعضها الإتيان به مرة واحدة ، وبعضها التكرار والتعدد ، وقد يكون من الأوامر ما لا يقبل بذاته وسنخيته التكرار.
والمختار هو ثانياً أعلاه ، وهو من الإعجاز في إبتداء الآية بذكر رحمة الله( ) .
ويحتمل جمع (الأمر) في الآية على وجوه :
الأول : أمور .
الثاني : أوامر .
الثالث :الجامع المشترك بينهما .
والصحيح هو الأخير .
تقدير [شَاوِرْهُمْ]
في قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
الخطاب في الآية موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل وجوها :
الأول : إرادة النبي محمد على نحو الخصوص .
الثاني : شمول الرؤساء وأمراء المسلمين بموضوع الآية .
الثالث : المقصود إلحاق الأمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الأخير فمن معاني الآية الصبغة الأخلاقية ومصاديق الخبر الضعيف سنداً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي)( ).
ولم يرد لفظ [شَاوِرْهُمْ]( )، في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وتقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الرسول شاور المهاجرين والأنصار.
الثاني : يا أيها الرسول شاور أهل البيت .
وهل تدخل في الآية مشاورة النبي لأزواجه ، أم أن ضمير جمع المذكر في (شاورهم) يدل على إرادة خصوص الرجال .
الجواب هو الأول ، إذ أن موضوع الآية عام ولا يختص بالقتال.
قال المتنبي :
(ومَا التأنيثُ لاِسْمِ الشمسِ عَيْبٌ … ولا التذكيرُ فَخْرٌ للهلالِ)( ).
الثالث : وشاورهم في حال الحرب والسلم .
الرابع : وشاورهم في سبل هداية الناس .
الخامس : وشاورهم علانية وسراً .
السادس : وشاورهم في الكتائب والسرايا .
السابع : وشاورهم وفيه الأجر والثواب .
الثامن : قانون جعل المشورة مقدمة للسنة القولية والفعلية في الأمور العامة .
التاسع : قانون جعل المشورة توكلاً على الله ، ومقدمة للتوكل على الله ، لقوله تعالى في ذات الآية [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( ).
العاشر : وشاورهم في الإستعداد لمعركة بدر الدفاعية .
الحادي عشر : وشاورهم في الإستعداد لمعركة أحد الدفاعية.
الثاني عشر : وشاورهم في أمر معركة الخندق .
الثالث عشر : وشاورهم في صلح الحديبية .
الرابع عشر : وشاورهم في فتح مكة .
الخامس عشر : وشاورهم في الإستعداد لمعركة حنين .
السادس عشر : وشاورهم في الأسرى المشركين .
السابع عشر : وشاورهم بعد انتهاء المعركة .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn