المقدمـــة
الحمد لله الذي جعل مقاليد الأمور كلها بيده لتكون الحياة الدنيا دار سعادة وغبطة ، وسبباً للهداية والرشاد ، ومناسبة لأداء الفرائض العبادية.
الحمد لله الذي جعل الألفة بين الناس من الفطرة ، فلا يفصل الدين والمذهب والبلد والقوانين بينهم ، وهو من أسرار تسمية الإنسان واشتقاقها من (الإيناس) لأنس البشر بعضهم ببعض ، ولتمييز الإنس عن الجن مع إقرارهم بوجوب عبادة الله ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الحمد لله الذي أبى إلا أن تكون نعمه على العباد متصلة وغير متناهية ، ونسأله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
ولا يعلم هذه الزيادة وكيفيتها ومقدارها وأوانها إلا الله سبحانه ، وهل تلحق العبد الشاكر في قبره ، الجواب نعم ، وتلحق والديه ليكون القبر روضة من رياض الجنة .
الحمد لله على وفرة الرزق ، وقربه من العباد ، وتفضل الله عز وجل برزق خاص للمؤمنين في طول أعمارهم ، وسلامتهم من الأدران ، وتهيئة أسباب الرزق لبيان قانون ذكر الله تقريب للرزق ، وقانون أداء الفرائض العبادية محو للبلاء ، وهو من أسرار الجمع بين الآيتين أعلاه.
الحمد لله على توالي النعم ، ومصاحبة البركة لها ، وتفرعها عنها ، ومن فضل الله أن جعل القرآن مباركاً ، والمباركة الزيادة في الخير والنفع العظيم ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
وتحتمل البركة بالنسبة لعامة الكتب السماوية وجوهاً :
الأول : قانون كل كتاب سماوي مبارك .
الثاني : تساوي الكتب السماوية في البركة كماً وكيفاً .
الثالث : قانون تعدد وتباين البركة في الكتب السماوية .
المختار هو الأول والثالث ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ) وهو من مصاديق هذه البركة ، لينال القرآن أعلى مراتب البركة ، ومن مصاديقها سلامته من التحريف.
وهل سلامة القرآن من التحريف معجزة خاصة به ، أم هي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ، الجواب هو الثاني .
وتلاوة كل مسلم ومسلمة له سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني ، وترتب الأجر والثواب على تلاوة كل حرف من القرآن ، إذ ورد (عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة لا أقول {بسم الله} ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول {الم} ولكن الألف ، واللام ، والميم )( ).
الحمد لله على عطائه وما فيه من الفضل والفيض ، والحمد لله على توالي النعم ، وإتصافها ببركة جلية ظاهرة تذكر الإنسان بوجوب عبادة الله ، الحمد لله على هباته وخيراته المتتالية .
الحمد لله الذي هدى الناس للإسلام من غير إكراه أو تشديد أو حصار بل بالعكس فان المشركين هم الذين فرضوا الحصار على أهل البيت في مكة.
يا رب تفضل علينا برضاك في الدنيا والآخرة ، وجزيل إحسانك ، وسعة رزقك ، وفي التنزيل [وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ]( ).
سبحان من جعل رزقنا قريباً في السماء والأرض ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
وهل من موضوعية للدعاء في بسط وكثرة الرزق كماً وكيفاً ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وهل يختص الدعاء بكثرة الرزق بالداعي أم يشمل ذريته وأهله.
المختار هو الثاني .
سبحان رب البرايا وواهب العطايا الذي أعطى ويعطي من غير سؤال ، وغفر ابتداءَ منه من غير أسباب ، القوي العزيز المنان واللطيف المحسن الذي يحتاج إلى إحسانه كل إنسان.
الحمد لله الذي وعد الخلائق بالرزق الكريم ، وكل من الوعد والرزق فضل منه تعالى ولا يقدر عليه غيره سبحانه ، قال تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ]( ) .
ومن معاني الرزق في الآية أعلاه المطر ، وهل فيها دعوة للإنتفاع العلمي بتقنية لما في الهواء من الأبخرة ونحوها بلحاظ أن كل ما فوقنا سماء ، الجواب نعم .
وهذا الجزء هو السابع والخمسون بعد المائتين من كتابي الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ويختص بقانون آيات الدفاع سلام دائم ، ويتناول عدداً من آيات القرآن التي تخص معركة بدر .
الحمد لله الذي وفقني لكتابة وتصحيح ومراجعة أجزائه بمفردي بلطف وفيض منه تعالى ، وهو نعمة عظمى ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
اللهم رب السموات السبع ورب الأرضين السبع ورب الخلائق كلها فالق الحب والنوى نلجأ اليك ، ونستجير بك ، ونعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته .
اللهم أنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ ، يسر لي كتابة سطور هذا التفسير ، وطباعته وترجمته ، وكفاية الأجر والثواب لنا ، وأهد المسلمين والناس عامة إلى قراءته ، والتدبر بما فيه من القوانين والمسائل .
اللهم لك الحمد أنت خالق الأكوان والكائنات ولا يحصيها ويحيط بها غيرك سبحانك ، ولك وحدك الأسماء الحسنى ، تعاليت يا جبار ، وأنت القائل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( )، فنلوذ بك وبقوتك ، ونعلن حبنا لك وانقطاعنا إليك ونسألك أن تحبنا فاننا فقراء وغرباء من دون هذا الحب الذي تترشح عنه الغبطة والسعادة في النشأتين .
ومن مصاديق قوله تعالى [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( )، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان يقول : من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبّني أحبّه الله ، فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلاّ أن نتّخذه رباً)( ).
اللهم لك الحمد أن جعلت النباتات من أصلين :
الأول : الأشجار وأصلها نوى كالنخيل .
الثاني : الزروع وأصلها الحب كالحنطة والشعير .
فقلت سبحانك في الثناء على نفسك [إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
ليتوجه الناس كل يوم بالشكر لله عز وجل على نعمة الرزق الكريم وتجدده ، وليكون وسيلة ومقدمة للعبادة والذكر .
الحمد لله الذي أنزل التوراة والزبور والإنجيل والقرآن لهداية الناس ، وإقامة الحجة عليهم ، ومنع سيادة مفاهيم الضلالة والظلم.
قال تعالى [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
وتدل وقائع أيام النبوة على حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع عن النبوة والتنزيل وعن أنفسهم ، فلم يكن كفار قريش يرضون إلا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ووقف نزول القرآن ، وقد أدركوا أنه لا ينزل على غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ونزلت آيات القتال بشرط أنه في سبيل الله ، وفيه إشارة إلى إتصافه بصبغة الدفاع ، وتدل عليه الشواهد ومعارك الإسلام الأولى إذ كان مشركو قريش هم الغزاة ، وما أن عقد صلح الحديبية بعد نحو سنة من معركة الأحزاب حتى دخلت أفواج من الناس الإسلام ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( ).
حرر في السابع من رجب 1445هـ
19/2/2024
علم مقدمات النبوة
من الآيات ان الفعل (نُزل) جاء على البناء للمجهول في آيات منها [وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ) وفيه وجوه :
الأول : قانون نزول الملك بالوحي .
الثاني : قانون الملك واسطة تبليغ الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : قانون عدم نزول الملك بالوحي إلا بأمر من عند الله عز وجل ، وفي الثناء على الملائكة ورد قوله تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) .
الرابع : قانون الوحي من عند الله عز وجل وحده ، والقرآن هو كلامه ، وفي التنزيل [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وان الواسطة لم تغير من صدق التنزيل بأنه من عند الله تعالى، وجاء الفعل [آمَنَ]بصيغة الماضي والاطلاق أي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم آمن بجميع ما انزل عليه من عند الله تعالى، والمعروف ان التنزيل على نجوم ومراحل فتنزل الآية والآيات ثم تعقبها آيات اخرى.
وهل هذه المعرفة دفعية وتابعة للتنزيل من أوله، أم انها جاءت فيما بعد .
الجواب : انها دفعية ومباشرة ولم تتخلف عن أول التنزيل مثلما لم يتخلف المعلول عن علته، وحصلت المقدمات في غار حراء ولم يتم الاعتكاف في الغار الا بعد أسباب وأمارات للنبوة، واذا أراد الله عز وجل شيئاً اصلحه وهيئ أسبابه ومقدماته بالكاف والنون أو بالتدريج.
ولا بأس بتأسيس علم جديد اسمه (مقدمات النبوة)، يبحث في كيفية تهيئة النبي لتلقي الوحي ومراتب هذه التهيئة وأوانها والفوارق بين الانبياء في تلقيها، والمائز الذي يتصف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مناسبة هذه المقدمات.
أقسام مقدمات النبوة
يمكن تقسيم مقدمات ومؤهلات النبوة الى عدة تقسيمات منها:
المقدمات الذاتية، أي التي تتعلق بشخص النبي وهي تقسم إلى عدة فروع :
الأولى : المقدمات النفسية ومؤهلاته واستعداده لقبول الاقرار والإمتثال الأحسن ، وسلامته من الأخلاق الذميمة والعادات القبيحة، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الثانية : المقدمات البدنية والجسمية في الصحة والمرض، والقوة والضعف.
الثالثة : المقدمات القتالية والعسكرية.
الرابعة : الحالة الزوجــية كما اخــتار الله عز وجـل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أشــرف نســاء قريش وأكـثرهن مالاً وسعة وهي خديجة بنت خويلد لتوظف مالها في سبيل الله وتكون عضداً وعوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : الحالة الاجتماعية، فلقد اختير رسول الله من أسرة تتمتع بالمكانة الاجتماعية المرموقة عند العرب ، وتحظى باحترام الملوك من العرب والعجم، ولم يكن خاملاً او مغموراً، بالاضافة الى زعامتها في قريش ومنزلة قريش بين القبائل العربية، وهو من أهل مكة وهي أم القرى وبلدة البيت الحرام قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
و(عن العباس قال : قلت : يا رسول الله ، إن قريشا إذا التقوا ، لقي بعضهم بعضا بالبشاشة ، وإذا لقونا ، لقونا بوجوه لا نعرفها فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك غضباً شديداً.
ثم قال : والذي نفس محمد بيده ، لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله.
فقلت : يا رسول الله ، إن قريشا جلسوا تذاكروا أحسابهم ، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله عز وجل يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم ، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين.
ثم حين جعل القبائل جعلني في خير قبيلة.
ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نسبا ، وخيرهم بيتا)( ).
والمراد من (نخلة في كبوة) الإقرار بعظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إستصغار بني هاشم ، فرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا الإستصغار .
السادسة : النسب وطهارة المولد: فعندما نستعرض الحالة الشخصية بالانبياء تجد رفعة النسب وشرف الأصل، ومن الآيات أن أنساب الانبياء معروفة عند الناس في الجملة حتى في تلك الازمنة التي لم يكن فيها التدوين والتوثيق متعارفاً، وقد أكرم الله عز وجل عيسى وأمه مريم بنت عمران ، قال تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ]( ).
قانون التنزيل رحمة
الحمد لله العظيم الجواد ، واهب العطايا ، أكرم من أعطى ، وأعظم من وهب ، وليس من مخلوق إلا وتصله من الله المواهب الجزيلة ، وينتفع الإنسان من المواهب العامة للأمة والأسرة والناس جميعاً ، كما وينتفع من المواهب الخاصة به لبيان قانون الدنيا دار المواهب والعطايا ، وهذه العطايا مع كثرتها في كل يوم فانها بمجموعها كالجزء القليل من عطايا الآخرة .
وفي حديث للإمام علي عليه السلام (وأما قوله الرحيم معناه أنه رحيم بعباده، ومن رحمته أنه خلق مائة رحمة جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم فبها يتراحم الناس، وترحم الوالدة ولدها، وتحنن الامهات من الحيوانات على أولادها، فإذا كان يوم القيامة، أضاف هذه الرحمة إلى تسعة وتسعين رحمة، فيرحم بها امة محمد، ثم يشفعهم فيمن يحبون له الشفاعة من أهل الملة)( ).
والنسبة بين رحمة الله والنبوة عموم وخصوص مطلق ، فمن رحمة الله بالناس بعث مائة وأربعة وعشرين الف نبي ختمهم الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعله نبياً رسولاً بشريعة مبتدأة.
وأنزل عليه القرآن كتاباً جامعاً للسن الكونية ، وعلوم الدنيا والآخرة ، وأحكام الشريعة والتكاليف ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
وقال بعض النحويين أن الواو في المواضع الثلاثة أعلاه ، وهدى ، ورحمة ، وبشرى عاطفة كما هي معطوفة على [تِبْيَانًا]( ).
والمختار بخلافه أن إحدى الواوات أعلاه هي للإستئناف ، واو هدى للعطف لأن القرآن كتاب سماوي لهداية الناس جميعاً ، وكذا نزول القرآن والإطلاق في بيانه رحمة للناس جميعاً ، ولكن الواو في [وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] هي للإستئناف .
وقد يكون موضوع واحد مصداقاً لهذه الوجوه الأربعة في الآية أعلاه ، ومنها معجزات الأنبياء ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لمعجزات الأنبياء .
الثاني : ونزلنا عليك الكتاب وفيه معجزات الأنبياء هدى للناس.
الثالث : ونزلنا عليك الكتاب وفيه معجزات الأنبياء رحمة للناس .
الرابع : ونزلنا عليك الكتاب وفيه معجزات الأنبياء بشرى للمسلمين .
قانون النبوة رحمة عامة
من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا بعث الأنبياء والرسل ، ومصاحبة المعجزة لكل واحد منهم ، وفيه وجوه :
الأول : قانون التوثيق السماوي لبعثة كل نبي .
الثاني : قانون إبطال دعوة النبوة كذباً وزوراً .
الثالث : قانون المعجزة ترغيب للناس بالإيمان .
الرابع : المعجزة قانون سماوي في الأرض ، لأنها أمر خارق لقوانين العلة والمعلول ، والسبب والمُسبب في الأرض .
الخامس : من معاني معجزات الأنبياء أنها بيان للقرب واتحاد سنخية السماء والأرض في ملكيتها لله عز وجل ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتنقسم المعجزة إلى أقسام :
الأول : المعجزات الحسية مثل ناقة صالح وعصا موسى ، وإبراء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص ، وإنشقاق القمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحديث الإسراء [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
الثاني : المعجزة العقلية : وهو القرآن ، إذ أن كلماته المحدودة تحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث.
إنذارات مكة
من خصائص النبوة مصاحبة صدور البشارة والإنذار من النبي إلى الناس ، ويحتمل هذا الصدور وجهين :
الأول : إنه من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في ذاته وكيفية توجهه إلى الناس .
الثاني : إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
والمختار هو الثاني ، وأكثر الأنبياء بشارة وإنذاراً للناس هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، ومن معجزاته في هذا الباب وجوه منها :
الأول : البشارات والإنذارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وحسية .
الثاني : تجدد صدور البشارة والإنذار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس كل يوم .
الثالث : قانون كل آية من القرآن بشارة وإنذار ، بشارة للذين آمنوا وإنذار للذين كفروا.
الرابع : قانون كل تلاوة للمسلم لآيات القرآن بشارة وإنذار للناس ، وهو من الإعجاز في وجوب القراءة في الصلاة ، وصيرورة بعضها جهرية ، كما في صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
لتكون هذه التلاوة بشارة وإنذاراً للذات والسامع والناقل لها .
إنذارات السور المكية
تتصف الآيات والسور القرآنية التي نزلت في مكة قبل الهجرة بصيغة ذم الكفر والوعيد وسوء العاقبة لمن يقيم على عبادة الأصنام ، مع بيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل ، وحضور مشيئته ، منها قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ]( ).
واختلف في نزول هذه الآية إختلافاً كثيراً على وجوه :
أحدها : أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : في الوليد بن المغيرة ، قاله السدي .
الثالث : في أبي جهل .
الرابع : في عمرو بن عائذ ، قاله الضحاك .
الخامس : في أبي سفيان وقد نحر جزوراً ، فأتاه يتيم ، فسأله منها ، فقرعه بعصا)( ).
قال تعالى [فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ]( ) مع الإقرار بأن أبا سفيان كان من أشد المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية .
وسورة الهمزة التي تبدأ بقوله تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]( ) وكل آياتها الثمانية إنذار ووعيد .
وسورة الكوثر التي تذكر الناس بالموت وسوء عاقبة الذين انشغلوا بالدنيا ولم يلتفتوا إلى وجوب عبادة الله .
وسورة العصر التي تضمنت استثناء البشارة للمؤمنين من الوعيد العام للناس.
وغيرها من السور والآيات ، لتكون دعوة لقريش وعامة أهل مكة وأهل البلدان والقرى المحيطة بها لقوله تعالى [لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وهل يمكن تأويل الآية أعلاه بصيغة اللف والنشر ، وأن إنذار أم القرى إنذار لأهل مكة قبل الهجرة ، وأن ما حولها بعد الهجرة ، الجواب لا ، فمن المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعثه في مكة التي يأتيها الناس من كل القرى والمدن القريبة في كل من :
الأول : أداء مناسك الحج ، وفي خطاب لإبراهيم عليه السلام قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثاني : مناسك العمرة .
الثالث : دخول الناس مكة للتسوق ، ولخلافات قبلية وأمور تجارية ، فمثلاً كانت هناك معاملات ربوية بين قريش وأهل الطائف من ثقيف ، فكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي في المسجد الحرام بالوافدين إلى مكة ويتلو عليهم آيات القرآن ، ويعرض عليهم الإسلام ، ليكونوا رسلاً إلى قومهم ، ولزجر الناس عن نصرة قريش في محاربتهم لرسول الله قبل وبعد الهجرة ، ولا يحصي منافع إنذارات القرآن إلا الله عز وجل.
إنذار المشركين بالهزيمة
قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
جاءت الآيتان السابقتان لهذه الآية في ذم الذين كفروا بصيغة الجملة الخبرية ، وأن أموالهم وأولادهم لا يستطيعون بها درء العذاب عنهم ، وأن الله عز وجل يؤاخذهم بذنوبهم يوم القيامة.
وقد جاءت خاتمة كل آية من هذه الآيات بالوعيد ، فختمت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ] ( )والآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وأخبرت آية البحث عن حشر الذين كفروا [إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] وتتضمن الآية وجوهاً من الإنذار الصريح للذين كفروا بالأمر الإلهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويحتمل هذا الأمر في [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا] وجوهاً :
الأول : إنه من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تشمل الآية أهل البيت والصحابة .
الثالث : يدخل الأمراء والحكام والعلماء في هذا القول والتبليغ.
الرابع : شمول الأمة وأجيالها المتعاقبة بالقيام بإنذار الذين كفروا .
والمختار هو الأخير أعلاه لأصالة العموم ، وعدم وجود قيد وتخصيص في المقام ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا قولوا للذين كفروا ستغلَبون وتحشرون إلى جهنم ).
ومن الشواهد على هذا العموم أن تلاوة المسلم لذات الآية هو تبليغ للذين كفروا بأنهم سيغلبون ، ولم تذكر الآية أسماء الذين كفروا لأن موضوعها الصفة والتلبس بالكفر ، ولأنها من مصاديق الإنذار الذي يتضمن الدعوة إلى الإيمان.
وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة اليومية الواجبة ، بلحاظ قانون تلاوة القرآن بلاغ .
ونزلت هذه الآية بخصوص معركة بدر لبيان قانون تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذارات قبل المعركة ، واثناءها ، وبعدها .
فلم يفارق هذا التبليغ النبي محمداً مدة حياته ، وتتضمن الآية وجوهاً :
الأول : معجزة كثرة الأوامر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد لفظ (قل) في القرآن (332) مرة منها (328) مرة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل مرة منها هي ذكر للنبي ، وتقدير هذه الآيات (قل يا محمد) إلى جانب أوامر بصبغة أخرى مثل [أَقِمِ الصَّلَاةَ]( )، [قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا]( )، والنواهي المتعددة ، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه خمس مرات ، أربعة باسم محمد ، والخامسة باسم أحمد وذكر بصفة النبي ، والرسول ، والأمي .
وورد قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ] في القرآن ثلاث عشرة مرة منها الخطابات الخاصة مثل [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ]( )،
مما يدل على أنه أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن ، وفيه معجزة عقلية له.
ومن معاني الأمر الإلهي (قل) إتصاف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها رسالة سلام وأمن.
وأن القول الذي يتضمن البشارة والإنذار كان لهداية الناس ، ومن مصاديق (قل) للبشارة قوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( )وأيهما أكثر من آيات (قل) آيات البشارة أم آيات الإنذار والإحتجاج ، المختار هو الثاني .
كما تبين آيات (قل) أحكاماً شرعية ، وتذكر بعثة الأنبياء وعالم الآخرة ووجوب الإستعداد له .
وقد تكرر الأمر (قل) خمس مرات في آية [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ) .
الثاني : توجه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الذين كفروا بصيغة الإنذار والوعيد ، لتدل الآية في مفهومها على الأمن والسلامة للمؤمنين .
الثالث : إنذار الكفار من نشوب معركة بدر ، فانها تلحق بهم الضرر في النشأتين .
لبيان مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بتوجه الإنذار للذين كفروا من الهزيمة وقتل سبعين وأسر سبعين منهم يوم بدر.
الرابع : لقد كان الصحابة في ميدان معركة بدر أقل من ثلث مجموع جيش المشركين مع قلة أسلحة الصحابة ، وليس معهم إلا فرس واحدة ، أما المشركون فمعهم مائة فرس ، فجاءت آية البحث للبشارة بالنصر على الذين كفروا .
الخامس : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال.
السادس : تجلي قانون نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدر شاهد على صدق نبوته .
التخطيط لمعركة بدر وأحد والخندق
المعركة هي صراع بالسلاح بين طرفين أو أكثر وجمعها معارك ، والمتبادر من لفظ المعركة هو الصراع الحربي والإقتتال الذي ينتهي بخسارة وهزيمة أحد الطرفين أو الصلح (والمَعْرَكَة: موضع تعارُك القوم في الحرب)( ).
و(عَرَكْتُ القوم في الحرب عَرْكاً. والمُعارَكَةُ: القتالُ. والمُعْتَرَكُ: موضع الحرب، وكذلك المَعْرَكُ والمَعْرَكَةُ، والمَعْرَكَةُ أيضاً بضم الراء. واعْتَركوا، أي ازدحموا في المُعْتَرَكِ. ويقال: أورد إبلَه العِراك، إذا أوردها جميعاً الماء. قال لبيد يصف الحمار والآتن:
فأوردَها العِراكَ ولم يَذُدْها … ولم يُشْفِقْ على نَغَصِ الدِخالِ)( ).
ولم ترد مادة (عرك) ولفظ معركة في القرآن ، إنما ورد لفظ القتال والحرب ، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالقتال أخص .
ويحتمل التخطيط للمعركة وجوهاً:
الأول : تخطيط طرفي القتال ، كل طرف يخطط على نحو مستقل.
الثاني : تخطيط أحد طرفي المعركة دون الآخر .
الثالث : تخطيط جهة أخرى لا تدخل القتال كما في حال الدهاء والمكر .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه لم يخطط لدخول معركة سواء تلك التي دخلها مثل معركة بدر وأحد والخندق ، أو سرايا أصحابه التي يبعثها خارج مكة وفيه شاهد بأن آية السيف لم تنسخ آيات السلم والصلح والموادعة.
إذ ذكر في كتب التفسير أنها نسخت أكثر من مائة آية ، وآية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وكان التخطيط للمعارك في أيام النبوة والتنزيل يجري من طرف واحد وهم المشركون لأنهم الغزاة ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فلا يخططون لمعركة ، بل كانوا [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( )، وحريصين على تلاوة القرآن ، وأداء الفرائض العبادية .
نعم قد أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإستعداد للدفاع والحيطة والحذر من مداهمة العدو إذ قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وليس في هذه الآية أمر بالتخطيط لمعركة ، إنما هي برزخ دون المعارك ، وتجدد القتال بين المسلمين وبين كفار قريش وغيرهم ، لذا ذكرت الآية [وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ] ليشير هذا الشطر من الآية إلى أمور :
الأول : قانون التهيئ بالعدة والسلاح للدفاع .
الثاني : قانون بعث الخوف في قلوب المشركين .
الثالث : قانون زجر المشركين عن غزو المدينة .
الرابع : قانون تثبيت أقدام المسلمين في منازل الإيمان ، وعصمتهم من طاعة المشركين ، ومنعهم من الإنقياد لمفاهيم الكفر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
الخامسة : صيانة وحماية المسلمين كأفراد وجماعات ، فبإعداد وتهيئة المسلمين القوة والسلاح ورباط الخيل يخشى المشركون من التعدي على الأفراد من المسلمين وقراهم خشية إنتقام المسلمين .
ما نزل بخصوص معركة بدر
تبين آيات القرآن موضوع معركة بدر والتخطيط لها ، والتنبيه السماوي لمسائل يلزم المسلمين الإلتفات إليها وتداركها ، للإشارة إلى الحاجة للإستعداد للدفاع في الإستعداد معارك أخرى ، وفيها دلالة على قانون المشركين هم الغزاة في معركة بدر وما لحقها مثل معركة أحد ، ومعركة الخندق ، ولم يرد اسم بدر إلا في آية واحدة من سورة آل عمران بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وأكثر السور التي ذكرت فيها وقائع معركة بدر هي سورة الأنفال والتي تسمى أيضاً سورة بدر كما عن ابن عباس ، والنسبة بين معركة بدر والأنفال عموم وخصوص مطلق ، فموضوع الأنفال أعمّ.
ومن الآيات التي تخص معركة بدر
الأولى : قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
التاسعة : قوله تعالى [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً]( ).
العاشرة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) ولم ترد كلمة الأنفال في القرآن إلا مرتين ، وفي الآية أعلاه بالخصوص .
الحادي عشر : قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ]( ).
العشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ).
الواحد والعشرون : قوله تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثاني والعشرون : قوله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالث والعشرون : قوله تعالى [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع والعشرون : قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الخامس والعشرون : قوله تعالى [وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
السادس والعشرون : قوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
السابع والعشرون : قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثامن والعشرون : قوله تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
وعن الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى [فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] هو ما أصاب المشركين يوم بدر من القتل والسبي .
التاسع والعشرون : قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثلاثون : قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الواحد والثلاثون : قوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثاني والثلاثون : قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
الثالث والثلاثون : قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
الرابع والثلاثون : قوله تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الخامس والثلاثون : قوله تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
السادس والثلاثون : قوله تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
السابع والثلاثون : قوله تعالى [ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( ).
الثامن والثلاثون : قوله تعالى [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
التاسع والثلاثون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الأربعون : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]( ).
وروي ابن جرير بسنده أن الإمام علي عليه السلام في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] ( ) هم كفار قريش يوم بدر .
الواحد والأربعون : قوله تعالى [جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ]( ).
الثاني والأربعون : قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ]( ).
الثالث والأربعون : قوله تعالى [فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ]( ).
الرابع والأربعون : قوله تعالى [إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ]( ).
الخامس والأربعون : قوله تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ]( ).
لتتكرر هزيمة الذين كفروا و(عن سعيد بن المسيب قال : لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب.
وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم أنك إن تشأ لا تعبد ، فبينما هم على ذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي ، وكان يأمنه الفريقان جميعاً ، فخذل بين الناس ، فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال . فذلك قوله وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ( ).
السادس والأربعون : قوله تعالى [لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
قانون الخشية من الهجوم على المدينة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية خشية الكفار من تجديد غزوهم للمدينة المنورة ، ولتكون آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ] تعضيداً لقوله [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ) لقانون تعضيد الآية القرآنية للآية الأخرى.
وهل يكون هذا التعضيد متبادلاً بين الآيتين أم أن التعضيد من طرف واحد ، المختار هو الأول ، ومن معاني قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ] التخفيف عن المسلمين وعن الكفار في التخطيط للقتال ، لأن الكفار يخشون الهزيمة والخسارة الشديدة ، والعجز عن تحقيق أهدافهم الخبيثة ، فيكون المؤمنون في مأمن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، إلى جانب شواهد إشتراك الملائكة في القتال يوم بدر .
لقد كان تخطيط مشركي قريش لمعركة بدر وأحد والخندق من المكر الذي ذكره الله تعالى بقوله [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فكانوا يستعدون للمعركة بالدعاء وإخلاص النية ، والتوكل على الله ، وهذا التوكل مقدمة لمكر الله بالمشركين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (المكر والخديعة في النار)( ).
ولم يرد لفظ [سَتُغْلَبُونَ] إلا في الآية أعلاه من سورة آل عمران ، لذا ورد في تفسيرنا في الجزء الخامس والخمسين من هذا السِفر المبارك ، وفي باب إعجاز الآية الذاتي تسميتها بآية [سَتُغْلَبُونَ].
وورد اللفظ بصيغة الفعل المبني للمجهول من غير ذكر الغالب الذي يغلب المشركين ، وفيه وجوه :
الأول : قانون غلبة المؤمنين للمشركين ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
الثاني : قانون إنكسار وخسارة المشركين بمشيئة الله عز وجل .
الثالث : قانون غلبة الملائكة للمشركين .
وفي حديث طويل عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم بدر (اللهم ربنا أَنْزَلْتَ عليَّ الكتاب وأمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا تخلف الميعاد.
فأتاه جبريل عليه السلام ، فأنزل عليه [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( )، فأوحى الله إلى الملائكة [أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( )، فقتل أبو جهل في تسعة وستين رجلاً ، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً ، فوفى ذلك سبعين وأسر سبعون)( ).
الرابع : قانون هزيمة المشركين بامتلاء قلوبهم بالرعب .
الخامس : قانون خسارة المشركين المعركة لقانون الملازمة بين عبادة الأوثان والخسارة .
تقدير ستغلبون
من وجوه تقدير الآية وجوه :
الأول : قل للذين كفروا [سَتُغْلَبُونَ] فاهجروا الكفر .
الثاني : قل للذين كفروا بسوء عاقبة الكفر .
الثالث : قل للذين كفروا بمصاحبة الخسارة للكفر .
الرابع : قل للذين كفروا التابع والمتبوع ستغلبون وتحشرون إلى جهنم لبيان قانون إقامة الحجة على الذين كفروا في الآخرة بآية [سَتُغْلَبُونَ]حيث يظهر بعضهم البراءة من بعضهم الآخر ، قال تعالى [ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ]( ) ولم يرد رسم [الَّذِينَ اتُّبِعُوا] في القرآن إلا في هاتين الآيتين .
الخامس : قل لرؤساء قريش أن نتيجة معركة بدر خسارتكم ، ولحوق الخزي بكم .
السادس : قل لعامة الذين كفروا ابتعدوا عن رؤساء الكفر والشرك .
وتبين الآية قانون الكفار أشد الناس خسارة في النشأتين ، إذ يهزمون في الدنيا أما في الآخرة فمصيرهم إلى النار.
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا . ولكن جعل لهم الأبد)( ).
ويدل أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا] على لغة الحوار والإحتجاج مع الكفار ، وعدم الإبتعاد عنهم ، والإعراض عنهم ، وهو من مصاديق الرحمة العامة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولتكون منافع هذه اللغة على وجوه :
الأول : قانون اثبات صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحوار والإحتجاج .
الثاني : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إكراه الناس لدخول الإسلام مع إزدياد عدد المسلمين ، وفتح مكة ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالث : قانون آيات الإنذار تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وعن الذين كفروا .
الرابع : قانون تحقق مصداق الإنذار القرآني ، وفيه دعوة للناس للإسلام .
لماذا [سَتُغْلَبُونَ]( )
لقد جاء هذا الفعل في آية البحث بصيغة البناء للمجهول ، وهو من الإعجاز لأصالة الإطلاق في تحقق هزيمة المشركين في كل الأحوال وإن كانت لغة الكثرة في الرجال والعدة ، والسلاح لهم .
خاطبت الآية الكفار الجاحدين بالربوبية والنبوة وبصيغة الجمع بهزيمتهم ، وفيه من جهة أسباب وموضوع هذا الوعيد وجوه :
الأول : [سَتُغْلَبُونَ] لإختياركم الكفر .
الثاني : [سَتُغْلَبُونَ] لمحاربتكم النبوة والتنزيل .
إذ تدل هذه الكلمة القرآنية على أن الذين كفروا سيحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهل تحتمل الآية إرادة الحرب بين طائفتين من الكفار ، الجواب من أسباب هزيمة المشركين وقوع الشقاق والفتنة بينهم .
وهو من إعجاز آية البحث إذ يحتمل وهن وهزيمة طرفي القتال إذا كانا من الكفار ، لذا لم تقل الآية قل للمشركين لأن النسبة بين الكفر والشرك عموم وخصوص مطلق ، فالكفر أعم .
الثالث : [سَتُغْلَبُونَ] لظلمكم وإصراركم على القتال .
الرابع : [سَتُغْلَبُونَ] من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الخامس : [سَتُغْلَبُونَ] للقبح الذاتي والغيري للإرهاب .
السادس : [سَتُغْلَبُونَ] بأمر من عند الله ، وفي التنزيل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
السابع : [سَتُغْلَبُونَ] وعد وحتم من عند الله عز وجل .
الثامن : [سَتُغْلَبُونَ] فاهجروا الكفر ، قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ]( )، ومن خصائص الإنسان نفرته من الهزيمة وآثارها.
التاسع : [سَتُغْلَبُونَ] لطف من عند الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبالكفار.
أما النبي محمد فتبين الآية فضل الله عز وجل في نصره ، وأما المؤمنون فان الآية تثبت لأقدامهم في منازل الهدى والإيمان ، وأما الذين كفروا فالآية زجر لهم عن الكفر وعن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
العاشر : [سَتُغْلَبُونَ] يجب أن يمتنع المنافقون من بث الإشاعات المغرضة عن قوة المشركين ، وكثرة جنودهم ، وإثارة الخوف في جنبات المدينة المنورة بأنهم يريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ]( ).
الحادي عشر : [سَتُغْلَبُونَ] فلا تستطيعون النصر أبداً ، لبيان التضاد بين الكفار وأهل الكتاب من الروم الذين خسروا المعركة مع الفرس وأخبر الله عز وجل بأنهم سينتصرون ، قال تعالى [غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( ).
الثاني عشر : [سَتُغْلَبُونَ] كي تتوبوا إلى الله عز وجل ، لما في الهزيمة من إدراك بأن الكفر خسارة .
الثالث عشر : يا أيها الذين كفروا ستُغلبون مقدمة لدخولكم النار يوم القيامة .
الرابع عشر : [سَتُغْلَبُونَ] كما غُلب الذين كفروا من الأمم السابقة الذين حاربوا الأنبياء .
الخامس عشر : [سَتُغْلَبُونَ] فامتنعوا عن غزو المدينة والقتال لقانون الإنذار السماوي حتم .
السادس عشر : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للذين كفروا [سَتُغْلَبُونَ] من مصاديق التبليغ في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
السابع عشر : [سَتُغْلَبُونَ] لسخط الله عليكم ، وبيان أن الدنيا ليس دار عمل فقط من غير عقاب ، بل أن العقاب والخزي يلحق المشركين في الدنيا والآخرة ، قال تعالى في ذم الكافر [ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ]( )، و[ثَانِيَ عِطْفِهِ] أي لاوياً عنقه متكبراً معرضا عن معجزات النبوة والتنزيل.
الثامن عشر : [سَتُغْلَبُونَ] كما انهزمتم يوم بدر .
التاسع عشر : لما انهزم المشركون في معركة بدر أعلنوا النفير العام في مكة وتسخير أموال قافلة أبي سفيان لمعركة قادمة ، وطافوا في القبائل وازدهرت تجارة السيوف والدروع فيها ، وتم شراء الخيل والتخطيط للمعركة لمدة سنة كاملة فجاء تثبيط عزائمهم بكلمة قرآنية واحدة [سَتُغْلَبُونَ] وذات الكلمة مدد وواقية للمسلمين من تخويف وتهديد الذين كفروا لهم .
العشرون : [سَتُغْلَبُونَ] ليرصد الناس صدق هذه المعجزة وتكون نهاية معركة أحد ، والخندق ، وحنين ، بعجز الكفار عن تحقيق النصر شاهداً على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعد والوعيد الذي ورد في القرآن .
الواحد والعشرون : يا أيها الذين آمنوا سيُغلب وينهزم الذين كفروا [فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي]( ).
الثاني والعشرون : [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ] إنذار ليهود المدينة وغيرهم من نصرة مشركي قريش ودعوة لهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(وقال محمد بن إسحاق عن رجاله لمَّا أصاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر ، وقدِم الى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود إحذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم قد عرفتم إنَّي نبي مرسل تجدونَ ذلك في كتابكم وعهدَ اللّه إليكم.
فقالوا : يا محمَّد لا يغرنَّك أن لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة ، لك واللّه لو قاتلناك لعرف منا البأس ، فأنزل اللّه تعالى قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا( ).
الثالث والعشرون : [سَتُغْلَبُونَ] أمر من علم الغيب ، ومعجزة قاهرة بهزيمة الذين كفروا مع أنهم الأرجح في كثرة العدد والسلاح .
الرابع والعشرون : يا أيها الذين كفروا [سَتُغْلَبُونَ] بنزول الملائكة قبل المعركة للإنذار واثناء المعركة للمشاركة في محاربتكم وقتالكم .
(قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.
وبعث مالك بن عوف رجالاً من هوازن ينظرون إلى محمد وأصحابه – ثلاثة نفر – وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم.
فقال : ما شأنكم ويلكم .
قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيلً بلقٍ، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى .
وقالوا له : ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلا أهل السموات – وإن أفئدة عيونه تخفق – وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا.
قال: أف لكم بل أنتم قوم أجبن أهل العسكر. فحبسهم عنده فرقاً أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجلٍ شجاع. فأجمعوا له على رجلٍ، فخرج، ثم رجع إليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم، فقال: ما رأيت .
قال: رأيت رجالاً بيضاً على خيلٍ بلقٍ، ما يطاق النظر إليهم؛ فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى! فلم يثنه ذلك عن وجهه)( ).
الخامس والعشرون : تحقق مصداق [سَتُغْلَبُونَ] في معركة أحد والخندق وحنين ، دليل على صدق الوعيد في خاتمة الآية [وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
وجهنم من الجهنام وهي البئر بعيدة القعر( ).
إجتماع الهزيمة وسوء العاقبة للكافرين
[سَتُغْلَبُونَ] وبئس ما مهدتم لأنفسكم في الآخرة ولقوله تعالى [وَبِئْسَ الْمِهَادُ] معنيان :
الأول : بئس الفراش جهنم .
الثاني : بئس ما مهدتم لأنفسكم من العمل الذي يؤدي بكم إلى اللبث الدائم في النار .
والمختار أن المراد من قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ]( )، هم مشركو قريش ومن والاهم وتابعهم من أفراد القبائل ، وهل تلحق بهم هوازن وثقيف ، الجواب نعم.
وتقدير الآية في الخطاب لهم : ستغلبون في معركة حنين وتحشرون إلى بئس المهاد .
وبين القرآن قانون هزيمة الملائكة للمشركين ، ومنه في معركة حنين ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
وأيهما أكثر أثراً ونفعاً آية البحث ، والأوامر الإلهية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن (قل) أم السيف والغزو .
الجواب هو الأول ، ونزل القرآن لبيان الحاجة للدفاع وإن يدخلون الإسلام تباعاً ، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً وعلى التدريج وتعاقب الأيام مع إقترانه بالمعجزات الحسية.
وقد تقدم في الجزء الخامس والخمسين من هذا السِفر بأن هذه الآية من آيات السلم ضمن مبحث آيات السلم نصر( ).
الأزلام في طريق الهجرة
لا أصل للإستقسام والإهتداء للحاجات بالأزلام ، وقد حرم الله في القرآن اللجوء إليها ، قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وكان أحدهم في الجاهلية إذا أراد سفراً أو غزوة أو تجارة أو نكاحاً أو شراء ونحوه من الأمور ذات الأهمية في حياة الفرد أو الجماعة يذهب إلى الذي يضرب الأزلام وهي أشبه بالقرعة ، إذ تتألف من ثلاثة قداح متشابهة ، واحد منها (افعل) الثاني (لا تفعل) ، الثالث (غفل متروك ليس عليه كتابة).
فاذا خرج افعل مضى على نيته وسبيله ، وإذا خرج لا تفعل اجتنبه ، وإذا خرج متروك أعاد ضرب الأزلام.
وقد يتخذ أحدهم الأزلام الخاصة معه فيجعلها في وعاء جلدي صغير يصاحبه.
فاذا أراد فعل شئ أدخل يده في الوعاء.
وقد ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق هجرته إلى المدينة طمعاً بجائزة قريش مائة ناقة لمن يأتي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فعندما لبس سراقة لأمة القتال أخرج قداحه واستقسم بها ، فخرج السهم الذي ينهاه عن الخروج في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يلتفت إليه.
وفي الطريق وإذ كان فرسه يعدو بسرعة عثر به ، فسقط سراقة من ظهر جواده فأخرج الأزلام واستقسم بها ، أيمضي في أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج النهي والذي يكرهه سراقة.
فأبى إلا اتباع النبي وهو فرح بأنه الوحيد الذي رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى الهجرة ، ومطمئن للوصول إليه.
خاصة وأن النبي وصاحبيه يركبون الإبل ، قال تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، بينما هو يركب الجواد الذي تكون سرعته أكثر من أربعة أضعاف سرعة البعير الذي يسير (5) كم في الساعة من دون إجهاد ، ويمكن أن يقطع مسافة (50) كم في اليوم ، أما الحصان فانه يقطع في الساعة مسافة (27) كم في حال الجري السريع .
في طريق المشركين إلى بدر
من صفة الحياة جعل الله لها دار بشارة وإنذار للفرد والجماعة والجيش والأمة ، لتكون البشارة باعثاً على فعل الخير ، والإنذار زاجراً عن الباطل والمعصية ، وإذا ما أصر الإنسان على السير في طريق الباطل يصيبه الندم ، ويتذكر العلامات الزاجرة والشؤم الذي صاحبه في الطريق .
(روي عن حكيم بن حزام قال: ما توجهت وجها قط كان أكره إلي من مسيري إلى بدر، ولا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن أخرج، قال: قدم ضمضم فصاح بالنفير فاستقسمت بالازلام، كل ذلك يخرج الذي أكره)( ).
وفيه شاهد على التردد والريب والرغبة بعدم الخروج إلى بدر عند طائفة من وجهاء قريش .
ولكن إلحاح أبي جهل على الخروج وتعييره لمن يتخلف منهم عن التوجه إلى بدر ، ثم حدثت خلافات بينهم في الطريق ، ورجع بعضهم منهم طالب بن أبي طالب أخو الإمام علي عليه السلام .
ولما جاء رسول أبي سفيان يخبرهم وهم في الطريق بنجاة القافلة ، والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يقصدوا التعرض لها .
حدث خلاف شديد بين رؤساء جيش المشركين ، إذ رأى بعضهم العودة لانتفاء السبب وهو إنقاذ قافلة أبي سفيان ، ولكن أبا جهل أصر على الإستمرار في المسير ، وجعل وجهتهم آبار بدر لإقامة الولائم هناك وشرب الخمر ، وتعزف عليهم القيان.
وكانت بدر سوقاً موسمياً من أسواق العرب بقصد فرض هيبتهم بين العرب خاصة وأنهم ساروا بجيش عظيم نحو ألف.
فانبرى (الأخنس بن شُرَيْق: يا معشر بني زُهَرة، إن الله قد نَجَّى أموالكم، ونَجَّى صاحبكم، فارجعوا. فأطاعوه، فرجعت بنو زهرة، فلم يشهدوها)( ).
وكان بنو زهرة يقولون نحن أخوال رسول الله ، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمام وعمات إخوة لأبيه عبد الله بن عبد المطلب ، وذكر أن أمه أمنة بنت وهب ليس لها أخ أو أخت لأبيها أو أمها ، ويريد بنو زهرة بالخئولة عشيرة أمه ، لذا من معاني [وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ]( )، أي نساء بني زهرة .
ولبيان حكم عام للمسلمين في الجائز من النكاح ، وقد بيّن القرآن المحرمات في النكاح ، وبصيغة الجمع في الخطاب إلى المسلمين ، إذ قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
والأخنس بن شريق ليس من بني زهرة إنما هو حليف لهم ، وقد استمعوا لنصيحته ورجعوا من الطريق إلى بدر ، وحفظوها له ، لأن فيها نجاتهم يوم بدر .
و(عن السدي في قوله [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ]( ) الآية . قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة ، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال : جئت أريد الإِسلام ، ويعلم الله أني لصادق .
فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه فذلك قوله [وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ] ( )، ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فاحترق الزرع وعقر الحمر ، فأنزل الله وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ( ).
وأخرج عن محمد بن السائب الكلبي (55-146)هجرية ، قال (قال : كنت جالساً بمكة فسألوني عن هذه الآية [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ]( )الآية . قلت : هو الأخنس بن شريق ومعنا فتى من ولده ، فلما قمت اتبعني.
فقال : إن القرآن إنما أنزل في أهل مكة ، فإن رأيت أن لا تسمي أحداً حتى تخرج منها فافعل)( ).
دلالات بشارة الروم بالنصر
في ذات أوان معركة بدر وقعت معركة بين الروم والفرس خسرها الروم مع أنهم أهل كتاب ، قال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( )
لينقل الناس إلى هرقل وأهل الشام نزول القرآن بالبشارة لهم بالنصر ، وهو من أسباب مودتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ومصاديق قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ]( )، وهذا المعنى نذكره هنا لأول مرة وفيه مسائل:
الأولى : آيات سورة الروم شاهد على مجئ البشارة للنصارى من القرآن.
الثانية : هذه الآيات مواساة للنصارى .
الثالثة : قانون شد القرآن لعضد النصارى .
الرابعة : قانون منع دبيب اليأس لنفوس النصارى وجيشهم .
الخامسة : دعوة قيصر وجيشه إلى عدم تعضيد ونصرة أبي سفيان وعامة مشركي مكة في حربهم ضد النبوة والتنزيل .
السادسة : كأن الآية تقول للروم انتظروا شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنصركم وظفركم .
السابعة : دعوة كسرى إلى الصلح مع الروم ، وعدم الإغترار بنصره .
الثامنة : قانون الزجر عن الحروب ، وكثرة المعارك وسفك الدماء ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
الآيات الكونية
من مصاديق الرحمة الإلهية بالناس تقريبهم إلى سبل الهدى والرشاد والإيمان بالحجة والبرهان ، ومنها الآيات الكونية اليومية كالليل والنهار ، أو الطارئة ، ومنها العلامات والآيات التي تدل على قرب وحلول زمان ولادة خاتم النبيين ، وبعثته ، وكذا الآيات أيام بعثته ، ومنها إنشقاق القمر.
(عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة.
فقالوا : انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فجاء السفار فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه فأنزل الله اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ( ).
ومنه حديث (مخزوم بن هانئ المخزومى، عن أبيه وأتت عليه خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة.
ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره.
ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده.
قال: أتدرون فيم بعثت إليكم ؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك.
فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله.
فقال الموبذان: وأنا، أصلح الله الملك، قد رأيت في هذه الليلة رؤيا.
ثم قص عليه رؤياه في الابل.
فقال: أي شئ يكون هذا يا موبذان ؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب.
وكان أعلمهم من أنفسهم.
فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد فوجه إلى برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني)( ).
إذ توجه عبد المسيح إلى خال له كاهن يسكن مشارف الشام اسمه سطيح ، وقال ابن عساكر هو الربيع بن ربيعة من الأزد .
فقدم عليه وقد أشرف على الموت ، فسلم فلم يرد سطيح عليه فالقى عبد المسيح شعراً ، فرفع سطيح رأسه وهو على فراش الموت ، وقال (بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان و خمود النيران و رؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة و انتشرت في بلادها .
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة و ظهر الهرواة و فاض وادي السماوة و غاضت بحيرة ساوة و خمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك و ملكات على عدد الشرفات و كلما هو آت آت)( ).
ثم توفى سطيح مكانه ، فنهض عبد المسيح إلى راحلته حتى وصل إلى كسرى فأخبره ، فقال كسرى (إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور و أمور ، فملك منهم عشرة في أربع سنين وملك الباقون)( )، إلى أيام عثمان.
بحث كلامي
من وظائف الإنسان الايمان والتصديق بالملائكة قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ]( )،
وإيمان الناس بالملائكة على وجوه :
الأول : أنهم خلق لله مسكنهم السماء .
الثاني : خلق الله الملائكة من نور ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (خُلقت الملائكة من نور ، وخلق الجن من مارج من نار ، وخلق آدم كما وصف لكم)( ).
الثالث : الملائكة عباد مكرمون لله عز وجل ، فهم ليسوا أولاداً أو بناتاً لله ، أو شركاء له في السماء.
الرابع : الملائكة سفراء بين الله والأنبياء ، وهو من أسباب تسميتهم ملائكة والتصديق بهم من قانون اللازم والملزوم.
الخامس :الإيمان بالملائكة مقدمة للتصديق بالوحي ونزول الكتب ، وقد رزق الله عز وجل الإنسان الخلافة الأرض ، ولم يمنح هذه المرتبة إلى الملائكة.
وهل يدل هذا المائز على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ، الجواب لابد من الجمع بين أوجه التفضيل للطرفين كتاباً وسنة .
السادس : خلق الملائكة سابق لخلق الإنسان لقوله تعالى [إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ]( ).
السابع :من بديع صنع الله أن الملائكة يفعلون ما يأمرهم الله ، قال تعالى [لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، وهل فيه إقامة للحجة على الناس بأن بامكانهم التشبه بالملائكة في عمل الفرائض العبادية ومطلق الصالحات ، الجواب نعم.
الثامن : كثرة أعداد الملائكة ، ولا يحصي عددهم إلا الله عز وجل منتشرين في السموات ، وآفاق الكون ، ويمكن استقراء هذه الكثرة من نصوص عديدة بلحاظ الوقائع منها ما ورد (عن أبي قلابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من خرج من بيته يطلب علما شيعه سبعون ألف ملك يستغفرون له)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (إن سعداً( ) لما مات شيعه سبعون ألف ملك، فقام رسول الله صلى الله عليه واله على قبره فقال: ومثل سعد يضم.
فقالت أمه : هنيئا لك يا سعد وكرامة، فقال لها رسول الله: يا أم سعد لا تحتمي على الله، فقالت: يا رسول الله قد سمعناك وما تقول في سعد، فقال: إن سعدا كان في لسانه غلظ على أهله)( ).
كما تتجلى كثرة الملائكة يوم القيامة حينما يكشف عن الأبصار ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
التاسع : لا يفتر أو يتكاسل الملائكة عن التسبيح وعبادة الله .
قانون وظائف الملائكة
وقد تفضل الله عز وجل بوظائف مخصوصة لعدد من الملائكة منها :
الأول : قيام جبرئيل وهو من سادات الملائكة بالنزول بآيات القرآن ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ]( )، لبيان شمول حفظ الله للتنزيل كما في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، حفظ القرآن اثناء تنزيله على يد جبرئيل بنعته بالروح والأمين .
ليتجلى قانون ملك أمين ينزل بالقرآن على نبي أمين فتتعاهده وتحفظه من الزيادة والنقصان أمة أمينة .
الثاني : جعل الله ميكائيل موكلاً بالمطر وتصاريفه.
وفي حديث ضعيف سنداً ، ورد عن ابن عباس أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبرئيل (يا جبريل على أي شيء أنت؟ قال : على الرياح والجنود .
قلت : على أي شيء ميكائيل؟ قال : على النبات والقطر .
قلت : على أي شيء ملك الموت؟ قال : على قبض الأنفس ، وما ظننت أنه هبط إلا بقيام الساعة ، وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفاً من قيام الساعة)( ).
الثالث : إسرافيل هو الملك الذي يتولى النفخ في الصور ، قال تعالى [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ] والصور كهيئة البوق .
نعم البوق ، بترددات صوتية اهتزازية قوية ينفذ أثرها إلى الرئتين والقلب والدماغ لذا أخبر القرآن عن الرجفة.
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن ، وحنى جبهته ، وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر؟ قالوا : كيف نقول يا رسول الله؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا)( ).
الرابع : ملك الموت وهو الموكل بقبض الأرواح ، قال تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ]( ).
وهل يختص قبض ملك الموت للأرواح بالناس ، الجواب لا ، إذ أنه يقبض أرواح الملائكة ، ويبقى هو وجبرئيل آخر الأحياء من الملائكة والجن والإنس فيأمر الله كلاً منهما بالموت.
فقد ورد (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ]( ) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين استثنى الله.
قال : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، واسرافيل ، وحملة العرش، فإذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت : من بقي ، وهو أعلم فيقول : رب سبحانك ، رب تعاليت ذا الجلال والاكرام بقي جبريل ، وميكائيل ، واسرافيل ، وملك الموت( ).
فيقول : خذ نفس ميكائيل . فيقع كالطود العظيم .
فيقول : يا ملك الموت من بقي ، فيقول سبحانك رب ذا الجلال والاكرام بقي جبريل وملك الموت .
فيقول مت يا ملك الموت ، فيموت فيقول يا جبريل من بقي فيقول : سبحانك يا ذا الجلال والاكرام بقي جبريل وهو من الله بالمكان الذي هو به.
فيقول : يا جبريل ما بد من موتك . فيقع ساجداً يخفق بجناحيه يقول : سبحانك رب تباركت وتعاليت ذا الجلال والاكرام ، أنت الباقي وجبريل الميت الفاني ، ويأخذ روحه في الخفقة التي يخفق فيها ، فيقع على حيز من فضل خلقه على خلق ميكائيل كفضل الطود العظيم)( ).
إيمان الملائكة بخلافة الإنسان في الأرض
هل الملائكة مأمورون بالايمان بالانسان وكيف يكون هذا الايمان.
الجواب ان الملائكة مأمورون بالايمان بالانسان كعبد خلقه الله وخليفة في الأرض، ولعل ايمانهم بالانسان اكبر من ايمان الانسان بالملائكة، فايمان الانسان بالملائكة يأتي على نحو الإجمال .
أما الملائكة فان الأمر الالهي توجه اليهم بلحاظ قانون الانسان خليفة الله في الأرض، وليس من آية تبين ان الملائكة خلفاء الله في السماء، مع الاقرار بشرف وعظم منزلة الملائكة، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً]( ).
ولأن إيمان الملائكة قطعي ويشملهم جميعاً على نحو العموم الإستغراقي .
فمن إكرام الله للإنسان إنفراده من بين الخلائق بنيل مرتبة الخلافة وإخبار الملائكة بها من قبل أن يهبط آدم وحواء إلى الأرض ليكون من معاني هذا الإخبار وجوه :
الأول : يا أيها الملائكة استعدوا للنزول بالوحي إلى الملائكة .
الثاني : يا أيها الملائكة يجب أن تكتبوا حسنات وسيئات الخلفاء في الأرض ، قال تعالى [إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
الثالث : يا أيها الملائكة سوف تنزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : شهادة الملائكة على الناس .
ومن الآيات في الخلق والارادة التكوينية ان الملائكة امروا بالسجود لآدم بنص القرآن، قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى]( ).
وإجماع المسلمين على ان سجود الملائكة لم يكن سجود عبادة بل انه سجود محبة وتعظيم وإكرام واتخاذه قبلة( )، كما ان الملائكة سفراء السماء بالوحي والتنزيل، ومع التباين في منازل الملائكة ودرجات قربهم فان الايمان بهم جاء مطلقاً.
وهو تشريف للإنسان، ولولا هذه الآية ونحوها في القرآن وما يتفرع عنها من مسائل كلامية عديدة لم يقل أحد بارتقاء الانسان الى مراتب الخلافة والرفعة ، فذكر آية سجود الملائكة لآدم في القرآن هبة إلهية وشهادة قرآنية تدل على فضل الانسان.
وتتضمن دعوة له للصلاح والارتقاء بالقول والعمل، والايمان بالملائكة جزء من الشكر لله والشكر لهم، على نعمة سجودهم لآدم وشهادتهم على خلافة الانسان في الأرض التي تمنع من تعدي الجن وغيرهم على خلافة الانسان وشأنه في الأرض.
لقد آمن الملائكة بخلافة الانسان في الأرض وسجدوا لآدم، فايمان الانسان بهم له منافع متعددة للانسان، مثلما هو شهادة على عظيم خلق الله عز وجل.
وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية التي تعني الحدوث والوقوع وهي شهادة على ايمان المؤمنين بالملائكة وعدم تفريطهم بهذا الفرع من الايمان، وذكر الايمان بالملائكة بصيغة الجمع، أي ان الايمان على نحو العموم المجموعي والاستغراقي والإفرادي .
فنؤمن بالملائكة كجنس وأجسام نورانية لا عمل لهم إلا طاعة الله والتسبيح ، والايمان بهم ملكاً ملكاً من غير ترك لبعضهم، والايمان بكل ملك على حدة لا يستلزم منا معرفة عددهم خصوصاً مع كثرتهم في السماوات.
و(عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وهو جالس مع أصحابه إذ سمع هزة فقال : أطت السماء وحق لها أن تئط ، قالوا : وما الأطيط؟ قال : تناقضت السماء ويحقها أن تنقض ، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا فيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده)( ).
أقسام علم الحديث
هذا العلم من أشرف العلوم ، ويوثق أخبار السنة القولية والفعلية والتقريرية ، وفيه بيان وتفسير للقرآن ، وتشريع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمسائل مخصوصة لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وعلم الحديث على قسمين :
القسم الأول : علم الحديث دراية ، ويشمل أقساماً من العلوم منها :
الأول : علم الرجال وهو علم أحوال الرواة من جهة قبول أخبارهم أو عدمه .
الثاني : تواريخ الرواة ، ويختص بمعرفة مواليد الرواة ووفياتهم ، ومدة أعمارهم ليبين الإتصال أم الإرسال في الحديث .
الثالث : الجرح والتعديل ، ويعتني بالرجال الذين نقلوا حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم والآثار والأخبار وقبولهم أو ردهم وأسباب الرد والجرح.
القسم الثاني : علم الحديث رواية : ويعتني بألفاظ ونص الحديث ، ومن علم الرواية تقسيم الحديث إلى أقسام وهي :
الأول : الحديث الصحيح وهو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى أن يبلغ جهة الصدور ، كما في صدور الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تقدم البيان في (أقسام خبر الواحد).
الثاني : الحديث الحسن وهو الذي اتصل سنده بنقل عدل ولكنه قليل الضبط ، ولم يرتق إلى ضبط راوي الحديث الصحيح .
الثالث : الحديث الضعيف وهو الحديث الفاقد لشرط من شروط الحديث الصحيح أو الحسن .
ويمكن أن نؤسس قسيماً آخر للحديث دراية نسبة الحديث للقرآن وهي على أقسام :
الأول : موافقة الحديث للقرآن .
الثاني : عدم معارضة الحديث للقرآن .
الثالث : مخالفة الحديث للقرآن ، وهذا القسم يُطرح ولا يؤخذ به .
وعن زيد بن علي قال (أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال : إنَّكُمْ سَيَجِيئُكُمْ رُوَاةٌ، فَمَا وَافَقَ القُرآن فَخُذُوا بِهِ، ومَا كانَ غيرَ ذلكَ فَدَعُوهُ)( ).
و(عن جعفر عن أبيه عن علي صلوات الله عليهم قال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالف كتاب الله فدعوه)( ).
الخبر الموثوق وخبر الثقة
يدور الخلاف في خبر الواحد بخصوص عدالة ووثاقة الراوي ، ويستدل عليه بمفهوم قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
فاذا أحرزت عدالة ووثاقة الراوي أخذ بخبره عند المشهور وهو المختار.
ولا زال الإختلاف قائماً بين الأصوليين ، فمنهم من يرى عدم حجية خبر الواحد وإن كان عدلاً وانه لا يفيد إلا الظن ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ]( ).
ولكن موضوع خبر الواحد أجنبي عن هذه الآية إذ تتضمن ذم الذين كفروا باختيارهم طرق الضلالة والفساد ، وأن لهم آلهة ، وهي تشفع لهم في الآخرة .
مع انتفاء الحجة والبرهان على قولهم هذا ، قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
والظن مرتبة بين اليقين والشك ، والظن في اصطلاح علم المنطق هو أدنى قسمي التصديق ، وهو ترجيح مضمون الخبر على نحو لا يبلغ حد القطع والجزم ، وأعلى قسمي التصديق هو اليقين والقطع .
ولكن الظن في الآية الكريمة أعلاه غير المعنى الإصطلاحي أعلاه إنما الظن هنا اسميته (الوهم المتراكم) إذ يظن الكفار أن الأصنام تنفعهم في الدنيا والآخرة ، وأن عاداتهم صحيحة ، ومثل الآية أعلاه قوله تعالى [إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ] في قوله تعالى [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ]( ).
مع التباين بينهما كل بحسب المقام فمهما يشبه لتعريف المنطقي الظن الوارد في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
التضاد بين الظن القبيح وخبر الواحد
هناك التضاد بين هذا الظن القبيح عقلاً وشرعاً وبين مسألة خبر الواحد وقبولها .
وورد قوله تعالى [إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ] مرتين في القرآن ، إذ ورد في قوله تعالى [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ]( ).
وورد في ذم الذين كفروا [بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ]( )، مما يدل على ورود الظن المذموم بخصوص الكفار فلا يصح ما تعارف بين الأصوليين من الإستدلال به على عدم حجية خبر الواحد ، بالإضافة إلى عدم ثبوت الملازمة بين خبر الواحد والظن ، تلك الملازمة التي أطلقوها إطلاق المسلمات .
وقال السرخسي (وخبر الواحد إذا لم يكن معصوما عن الكذب (محتمل للكذب) والغلط فلا يكون حقا على الاطلاق ولا يجوز القول بإيجاب العمل به في الدين ، وقال تعالى [إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ) وقال تعالى [وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا]( ) ومعنى الصدق في خبر الواحد غير ثابت إلا بطريق الظن، ولان خبر الواحد محتمل للصدق والكذب والنص الذي هو محتمل لا يكون موجبا للعمل بنفسه مع أن كل واحد من المحتملين فيه يجوز أن يكون شرعا، فلان لا يجوز العمل بما هو محتمل للكذب والكذب باطل أصلا كان أولى)( ).
وقد دخل السرخسي السجن سنة 466 هجرية وقضى خمس عشرة سنة لفتوى ضد فعل الخاقان ، إذ أفتى بأن زواج الخاقان بعتيقته قبل أن تمضي عدتها حرام .
وكان يكتب عند إنجازه كل باب بما يفيد التوجع والأسى وما يلائم المقام فعندما فرغ من باب العبادات كتب : إملاء المحبوس عن الجمعة والجماعات.
وكتب في آخر كتاب الطلاق إملاه المحبوس عن الإنطلاق المبتلى بوحشة الفراق ، مصلياً على صاحب البراق صلى الله عليه وآله وسلم أهل الخير والساق .
وكتب في آخر كتاب الإقرار ، واملأ المحبوس في موضع الأشرار مصلياً على النبي المختار.
وخرج من السجن سنة 480 هجرية وانتقل إلى مرغينان في نواحي فرغانة ، ويتألف اسمها من كلمتين بالفارسية (مرغ) ويعني دجاج و(نان) ومعناه خبز ، وتسمى في هذا الزمان مرغلان وتقع في أوزبكستان ، وفي طريق الحرير.
وتوفى بعدها بثلاث سنوات ، وقيل عشرة ويمكن استقراء جواز زواج مالكها لها بعد العتق ، إذ ورد عن أبي موسى الأشعري قال (ثلاثة يُؤتَونَ أجْرهم مَرّتَين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورَجُل كانت له أمَة فأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوَّجها)( ).
لمجئ الفاء في فتزوجها والتي تفيد التعقيب والمباشرة ، إلا أن يرد دليل آخر مغاير له .
وبالإسناد عن ابن محبوب عن سعد بن أبي خلف قال (قلت لابي الحسن موسى عليه السلام : انّي كنت اشتريت أمة سرا من امرأتي ، وانه بلغها ذلك ، فخرجت من منزلي ، وأبت أن ترجع إلى منزلي ، فأتيتها في منزل أهلها .
فقلت لها : ان الذي بلغك باطل ، وان الذي أتاك بهذا عدوّ لك ، أراد أن يستفزك .
فقالت : لا والله لا يكون بيني وبينك خير أبدا ، حتى تحلف لي بعتق كل جارية لك ، وبصدقة مالك ان كنت اشتريت جارية ، وهي في ملكك اليوم ، فحلفت لها بذلك ، فأعادت اليمين .
وقالت لي : فقل كل جارية لي الساعة فهي حرة ، فقلت لها : كل جارية لي الساعة فهي حرة ، وقد اعتزلت جاريتي ، وهممت أن اعتقها ، وأتزوجها لهواي فيها ، فقال : ليس عليك فيما أحلفتك عليه شيء ، واعلم أنه لا يجوز عتق ، ولا صدقة ، الا ما اريد به وجه الله عزّ وجلّ ، وثوابه)( ).
قانون ظن الكفار وهم
وقال الآمدي (وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع، ولزوم العلم به، فلو لم يكن خبر الواحد مفيدا للعلم، لكان الاجماع منعقدا على مخالفة النص، وهو ممتنع.
وأيضا فإن الله تعالى قد ذم على اتباع الظن بقوله تعالى [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ]( )، وقوله تعالى [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا]( )، فلو لم يكن خبر الواحد مفيدا للعلم، بل للظن، لكنا مذمومين على اتباعه)( ).
ولكن الظن المذموم في الآية أعلاه هو ظن الذين كفروا واتباعهم الوهم والضلالة حتى صار عندهم كالظن.
وقال تعالى [إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]( )، ولو كان الظن مطلقاً أحد طرفي التصديق دائماً لما نعت الله عز وجل شطراً منه بانه إثم .
(وقال بعض الناس معنى [إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]( ) أي إذا تكلم الظان أثم . وما لم يتكلم فهو في فسحة . لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الحزم سوء الظن)( ).
وهو إستدلال لطيف ولكن مضمون الآية الكريمة أعم ، وتتعلق بمرتكز الظن ، والإجهار به ، ولا يختص النهي بالمتكلم بل يشمل السامع للظن ، ولزوم ترك الريبة .
وفي حديث عن الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إياكم والظن ، فان الظن أكذب الحديث) ( ).
والمراد هنا الظن في المعاملات والصلات مع الناس ، وترديد القول بعد سماعه من غير دليل ، وهو غير الظن في قوله تعالى [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
وقيل بعدم حجية خبر الواحد بالإستدلال بالنهي عن الظن بلحاظ أن خبر الواحد ظن ولم تثبت الملازمة بين خبر الواحد والظن ، كما أن الظن المذموم يتعلق بالذين كفروا .
وسيف الدين الآمدي وكتابه الإحكام في أصول الأحكام ، ولد في مدينة آمد في ديار بكر وإليها ينسب حفظ الهداية على مذهب أحمد بن حنبل ، ونزل بغداد ، ثم انحدر إلى القاهرة شافعياً .
وتعصب عليه بعض الفقهاء هناك ونعتوه بفساد العقيدة والتعطيل ومذهب الفلاسفة ، وكتبوا محضراً باباحة دمه .
فخرج مستخفياً ، ونزل حماة ، ثم تحول إلى دمشق ودرّس في العزيزية ست سنوات ثم عزل عنها لسبب أتهم به .
والعزيزية مدرسة في دمشق مجاورة للمسجد الأموي.
وأقام بطالاً في بيته وتوفى عن عمر ثمانين سنة .
وموضوع التهمة ما ورد عن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر قال : كنا نتردد إلى السيف الآمدي ، فشككنا هل يصلي.
فتركناه وقد نام ، فعلمناه على رجله بالحبر ، فبقيت العلامة نحو يومين مكانها ، فعرفنا أنه ما كان يتوضأ ، وذكر أنه كان لا يرى وجوب غسل الرجل في الوضوء ويرى الواجب فيه هو المسح فقط .
لظاهر العطف من التشريك بين الرؤوس والأرجل في المسح.
وقد يرد الظن في القرآن بمعنى حسن ، كما في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ*الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
وقيل المراد بالظن هنا اليقين لقوله تعالى [وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( )، والمختار أن الظن في الآية أعلاه من التصديق ولكنه أدنى مرتبة من اليقين ، أي أن التعريف في علم المنطق موافق له ، لبيان رضا الله عز وجل عن العباد الخاشعين له والذين يظنون أنهم راجعون إليه بعد الموت.
ويكون الذين يوقنون بهذا الرجوع أسمى وأعلى مرتبة ، ولبيان مسألة وهي أن النسبة بين الخاشعين والمؤمنين عموم وخصوص مطلق ، فالإيمان أخص وأعلى مرتبة من الخشوع لموضوعية التصديق بالجنان والإنقياد التام للأوامر الإلهية ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
لبيان أمرين :
الأول : قانون ظن الذين كفروا مذموم ، إذا تفرع عن الكفر .
الثاني : قانون ظن المؤمنين حسن إذا ترشح عن الإيمان .
آية النفر
أستدل على حجية خبر الواحد والأخذ والعمل به بقوله تعالى[وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
واستدل على أن لفظ الطائفة يطلق على الواحد فما فوق لغة , ولكن لا تصل النوبة إلى عموم المعنى في اللغة , إذ قيدت الآية المراد من الطائفة بالمتعدد بصيغة الجمع في قوله تعالى [وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ] وضمير الجمع في [قَوْمَهُمْ] إليهم في [إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ]مما يدل على إفادة الجمع من لفظ (طائفة).
والمختار اختصاص ورد صيغة الجمع للمنفرد بالله عز وجل ، كما في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
كما استدل بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( ) .
ولكن الآية خاصة بجهة الصدور وليس الخبر .
ولو جاء خبران أحدهما متواتر وآخر آحاد , يقدم المتواتر والمائز بين التواتر وخبر الآحاد بشرط موافقته للقرآن , لروايته عدد كثير للحديث المتواتر عن عدد كثير بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب .
ففي كل طبقة من الحديث هناك عدد كثير يروونه وأن يكون طريق الرواية الحس وليس الحدس .
ومن الحس قول حدثّنا , سمعنا , أخبرنا وإلا يكون الحديث آحاداَ .
وصحيح أن المسلمين تناقلوا القرآن بما هو أعلى من التواتر وفق الإصطلاح إلا أن آيات القرآن في المصحف في أول البعثة والتنزيل هل كان بما هو أعلى من التواتر ، الجواب نعم.
وكان يعتمد في تدوين الآيات في المصحف شاهدان على كل آية مع وجود شهود آخرين ، وعدم وجود معارض لهم إلا في آية واحدة قبلت فيها شهادة خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادته بشهادة رجلين ، والآية هي [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وينقسم خبر الواحد إلى قسمين :
الأول : الخبر المقرون ، وهو المحفوف بالقرائن التي تدل على صدقه .
الثاني : الخبر غير المقرون الذي ليس من قرائن تحف به تدل على صدقه.
قانون تقريب المدركات العقلية بأسباب النزول
من إعجاز القرآن أسباب نزول الآيات ، والموضوع الواقعي لهذا النزول ، ومن منافعه وجوه :
الأول : نزول الحكم الفوري من عند الله في الواقعة ، فمثلاً خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى البيت الحرام ، فأصابهم الضُباب فحضرت الصلاة فتحروا القبلة فتعذرت عليهم رؤية النجوم ومواقعها ، فصلى بعضهم إلى المشرق ، وبعضهم إلى المغرب ، وبعضهم ما بينهما ، فلما تبدد الضباب استبان لهم إنهم لم يصيبوا القبلة ، فلما قدموا المدينة سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
(وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً فجعل الرّجل يتّخذ أحجاراً فيعمل مسجداً يُصلّي فيه،
فلّما أصبحنا إذا نحن قد صلّينا إلى غير القبلة فقلنا يا رسول الله : لقد صليّنا ليلتنا هذه إلى غير القبلة فأنزل الله هذه الآية)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : فضل الله في قبول العمل العبادي .
الثانية : قانون نفي الحرج وطرد الشك في أداء العبادات .
الثالثة : قانون منع الخلاف بين المسلمين في العبادات .
الرابعة : قانون حضور الوحي في الوقائع .
الخامسة : قانون ليس ثمة مسافة بين السماء والأرض في الوحي والتنزيل ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، الجواب نعم .
السادسة : قاعدة اللطف الإلهي .
السابعة : بقاء حكم الآية القرآنية إلى يوم القيامة لأن المدار على مضامين الآية وليس سبب النزول .
الثامنة : قانون سبب النزول رحمة بالمسلمين .
التاسعة : قانون تفقه المسلمين في الدين لموضوع أسباب النزول .
العاشرة : قانون إدراك كل فرد لمعاني الآية مع إختلاف المدارك ، ومراتب الذكاء ، ومقدار الإلتفات والتدبر .
وفيه تقريب للمدركات العقلية والأحكام بوقائع حسية وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الحادية عشرة : قانون موضوعية القبلة في التنزيل .
حصار قريش لبني هاشم
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهاده بنفسه وأهل بيته واجتهاده في الدعوة إلى الله مع شدة محاربة قومه له.
والأصل أن هذه المحاربة تفتر وتنقص مع تواتر المعجزات ، ولكن المشركين إزدادوا إصراراً على عبادة الأوثان.
فظهرت المصاديق الغيرية للنبوة بازدياد عدد المسلمين على نحو اسبوعي ويومي بدخول أعداد من فتيان وفتيات قريش الإسلام ، فظهر سخط المشركين على الأبناء بالحبس والتعذيب أو الإكراه على الإفتتان والرجوع عن الإسلام باستعمال سلطة الأبوة التي كان لها أثر متوارث عند العرب وهذا التوارث من سنة إبراهيم عليه السلام.
وجاء الإسلام بتأكيدها وفق أحكام الشريعة مع التقييد بأن طاعة الوالدين في طول طاعة الله وفرع منها قال تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
والمراد من لفظ الإنسان في الآية أعلاه اسم جنس وأن هذه الوصية سابقة للبعثة النبوية ومستمرة إلى يوم القيامة .
وتشمل الناس جميعاً ، باستثناء آدم وحواء فليس لأي منهما أب أو أم أو أجداد .
والآية أعلاه من سورة العنكبوت ، وهي مكية وقيل ما عدا الآيات 1-11 فمدنية ولكن وردت تلاوتها في خبر مهاجري الحبشة حينما أدركهم عمرو بن العاص ، وعمارة بن أبي معيط واشتكوا أمرهم عند النجاشي الذي قام باستدعاء المهاجرين (فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانه وتراجمته ، ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من عنده جئتم ما يقول لكم ، وما يأمركم به ، وما ينهاكم عنه . هل له كتاب يقرأه.
قالوا : نعم . هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله عليه ، وما قد سمع منه ، وهو يأمر بالمعروف ، ويأمر بحسن المجاورة ، ويأمر باليتيم ، ويأمر بأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه إله أخر . فقرأ عليه سورة الروم ، وسورة العنكبوت ، وأصحاب الكهف ، ومريم .
فلما ان ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم فقال : والله إنهم ليشتمون عيسى ويسبونه.
قال النجاشي : ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال : يقول ان عيسى عبد الله ، ورسوله ، وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم .
فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين ، فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم ما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه ، فابشروا ولا تخافوا فلا دهونة يعني بلسان الحبشة اليوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص : ما حزب إبراهيم.
قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن اتبعهم . فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ( ).
فرجع وفد قريش إلى مكة خائبين ، وشاع في مجالسها وأروقتها رد النجاشي ، والأمان الذي فاز به المهاجرون لسلامة دينهم وكان عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً ، وتسع عشرة امرأة ، مما زاد عدد الداخلين في الإسلام.
ونشأ الإسلام في مكة ، وظهرت أمارات على انتشاره خارجها بنقل المعتمرين والحجاج أنباء رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وعجزت قريش عن إمالة أبي طالب إليهم الذي أظهر استعداده وبني هاشم للقتال دون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ومعجزة التنزيل .
ودخول الناس الإسلام موضوع حديث وحوار قريش في دار الندوة فتواطئوا على زيادة عذاب واضطهاد المسلمين ومن يعينهم .
وكان من المسلمين شباب ذوو بسالة وشدة وجرأة وعزم على المواجهة إذا أذن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فاجتنبت قريش الفتنة وسفك الدماء في الحرم ، فلجأوا إلى التشديد في إيلام المسلمين والتنكيل بهم ، ففرضوا الحصار الإقتصادي والإجتماعي على بني هاشم وبني المطلب وجعلهم بين أمور :
الأول : الموت جوعاً .
الثاني : التخلي عن تأييد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والإلحاح عليه بترك الدعوة إلى الله .
الثالث : إيذاء شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان الحصار بسبب دعوته .
المقاصد الخبيثة لصحيفة الحصار
الإبادة الجماعية هي تدمير جماعة على أساس القومية أو الدين أو العنصر ، وعلى نحو السالبة الكلية أو الجزئية ، ولم يقصد من صحيفة الحصار التي كتبها سادات قريش ضد بني هاشم القتل المتعمد لهم ، ولكنها قواعد للتضييق عليهم.
ومقدمة للإجهاز عليهم واستئصالهم ، ولكن الله عز وجل أنعم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وعامة بني هاشم بالصبر ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
لقد اتفقت قريش على كتابة صحيفة بخصوص الحصار والمقاطعة على أمور :
الأول : عدم النكاح من بني هاشم وبني المطلب .
الثاني : عدم تزويج قريش لرجال بني هاشم وبني المطلب ,
الثالث : عدم مبايعة بني هاشم والمسلمين الذين في شعب أبي طالب، وعدم الشراء منهم أو إقراضهم.
الرابع : التضييق عليهم في السوق والمجتمع .
الخامس : الإمتناع عن مجالسة ومخالطة بني هاشم وبني المطلب.
السادس : إيقاف التزاور معهم ، أو دخول بيوتهم .
وكتب الصحيفة هشام بن عمرو بن الحارث العامري وختم رؤساء قريش على الوثيقة ، وتم تعليقها في جوف الكعبة وهو المكان المقدس الذي يجب أن يكون محلاً لتعظيم شعائر الله ، ونصرة النبوة لقوله تعالى في سورة قريش [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، ليعجلوا بهلاكهم .
وابتدأ العمل بالحصار والعمل بالوثيقة في الحال ليلة الأول من محرم من السنة السابعة للهجرة أي أنها بدأت بشهر حرام .
وتعاهدوا على التقيد بها ، والوفاء بما فيها من البنود والشروط .
لقد كانت حرباً اقتصادية وإجتماعية ، ومقدمة للإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله ، لما في شدة الحصار هذا من إضعاف للمسلمين وبعث الضجر واليأس في نفوس بني هاشم .
ترشح المعجزة عن الحصار
ولكن المعجزة الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجلت في أمور :
الأول : تضامن بني هاشم وبني المطلب مع أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الذود عنه .
الثاني : إنتقال المسلمين وأنصارهم إلى شِعب أبي طالب وفيه إعلان عملي لجهات :
الأولى : قانون الثبات على الإيمان .
الثانية : قانون نصرة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قانون بعث اليأس في قلوب المشركين من ردة المسلمين.
الرابعة : قانون الملازمة بين الإيمان والصبر .
الخامسة : وجود أمة تذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم المؤمن والكافر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
السادسة : دخول طائفة من الناس الإسلام بسبب الظلم والجور بهذا الحصار .
السابعة : عدم استدامة الحصار لقوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
لقد لاقى المسلمون أشد الأذى في هذا الحصار ، وكان الصبيان من بني هاشم يقتسمان التمرة الواحدة ، ويكون محظوظاً الذي تكون النواة عنده .
ليدل على قلة الزاد وحرمان الكبار منه لإيثار الصغار بالتمرة والتمرتين ، فاضطر عدد منهم إلى أكل ورق الشجر والعشب لدفع الموت جوعاً من غير أن يجزعوا وهو من إعجاز النبوة والمدد والعون الإلهي للذين ينصرونها.
وقيل كان هشام بن عمرو بن الحارث كاتب الصحيفة يأتي بالبعير وقد حمّله طعاماً ، فيصل إلى أول الشعب فينزع خطامه ثم يضربه على مؤخرته ليتجه إلى داخل الشعب والذي يكون خلف جبل الصفا في بيوت بني هاشم ، وهذا أمر ممكن خاصة وأن في الشعب مسلمين من قبائل شتى ، ولكن حمل بعير فرد قليل لا يكفي مؤونة المحاصرين ، ليتكرر الحصار بعد ثمان سنوات ، والمعجزة النبوية في معركة الخندق ولكن بالسيوف وإرادة القتل والإبادة .
إرادة قريش قتل النبي محمد (ص) أيام الحصار
لقد اتصفت قريش بالدهاء والمكر ، والإحاطة باخبار الأمم السابقة ، والمختار أن قريشاً لم يطلبوا الحصار بذاته فقط ، وصدّ الناس عن الإسلام ، إنما كانوا يقصدون الإغراء بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأيدي غيرهم مدة الحصار.
وكانوا يبذلون الوسع في عدم وصول طعام إلى بني هاشم ، وإذا جاء أحدهم إلى السوق لشراء ميرة ، دخلوا في سوق وأعطوا مبلغاً ضعفاً للبائع فيمتنع عن بيع الهاشمي .
ثم يبحث عنهم البائع فلا يرجعون إليه وكانوا يتابعون أحوال بني هاشم وبني المطلب داخل الحصار ويظنون كلما إزدادت مدته زاد عناء وبؤس بني هاشم ودبّ الخلاف بينهم .
وتبرأ طائفة منهم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان يُخشى سطوهم في الليل إلى الشعب وقتل النبي محمد في فراشه واتهام بني هاشم والمطلب بقتله .
لذا (كان أبو طالب إذا نام النّاس أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاضطّجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد مكراً به واغتياله، فإذا نام النّاس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطّجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتي رسول الله فراش ذلك فينام عليه)( ).
فصار أبو طالب يتكلم بلسان المحاصَرين جميعاً مما يدل على أنهم متفقون على حياطة وحماية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخبر أبو طالب قريشاً بشعر عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسوء أثر وعاقبة صحيفة الحصار عليهم :
(أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا … لُؤَيّا وَخُصّا مِنْ لُؤَيّ بَنِي كَعْبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّا وَجَدْنَا مُحَمّدًا … نَبِيّا كَمُوسَى خُطّ فِي أَوّلِ الْكُتُبِ
وَأَنّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبّةً … وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللّهُ بِالْحُبّ
وَأَنّ الّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابكُمْ … لَكُمْ كَائِنٌ نَحْسًا كَرَاغِيَةِ السّقْبِ
أَفِيقُوا أَفِيقُوا قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثّرَى…وَيُصْبِحَ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذّنْبِ
وَلَا تَتْبَعُوا أَمْرَ الْوُشَاةِ وَتَقْطَعُوا … أَوَاصِرَنَا بَعْدَ الْمَوَدّةِ وَالْقُرْبِ
وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا وَرُبّمَا … أَمُرّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ جَلَبُ الْحَرْبِ
فَلَسْنَا وَرَبّ الْبَيْتِ نُسْلِمُ أَحْمَدًا … لِعَزّاءِ مَنْ عَضّ الزّمَانُ وَلَا كَرْبِ
وَلَمّا تَبِنْ مِنّا وَمِنْكُمْ سَوَالِفُ … وَأَيْدٍ أُتِرّتْ بِالْقَسَاسِيّةِ الشّهْبِ
بِمُعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كَسْرَ الْقَنَا … بِهِ وَالنّسُورَ الطّخْمَ يَعْكُفْنَ كَالشّرْبِ
كَأَنّ مُجَالَ الْخَيْلِ فِي حَجَرَاتِهِ … وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ
أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدّ أَزْرَهُ … وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطّعَانِ وَبِالضّرْبِ
وَلَسْنَا نَمَلّ الْحَرْبَ حَتّى تَمَلّنَا … وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنْ النّكْبِ
وَلَكِنّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنّهَى … إذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ مِنْ الرّعْبِ)( ).
فقوله (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّا وَجَدْنَا مُحَمّدًا
نَبِيّا كَمُوسَى خُطّ فِي أَوّلِ الْكُتُبِ)
شاهد على تصديقه وبني هاشم وبني المطلب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم ارتضوا الحصار ليس للنبي وحده إنما لنصرة النبوة ، لذا خرج عنهم أبو لهب ولم يدخل في الشعب لبقائه على الكفر والجحود فتخلد ذمه في التنزيل إلى يوم القيامة ، وليس من مسلم ومسلمة في الأجيال المتعاقبة إلا ويتلو قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
قانون يأس وخيبة قريش
لم يكتف رجال قريش بالعمل بما في بنود صحيفة الحصار ، بل قام أبو جهل وجماعة منهم برصد الطرق المؤدية إلى الشعب ، ومنع وصول شئ لبني هاشم ، والخصومة مع الذي يأتي لهم بطعام .
فرأى أبو جهل حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي هي معه تعاني من الحصار صابرة في شعب أبي طالب، ويعلم الجميع باسلامها وأنها أول من أسلم هي والإمام علي عليه السلام.
فتعلق أبو جهل بحكيم بن حزام (وَقَالَ أَتَذْهَبُ بِالطّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ ؟ وَاَللّهِ لَا تَبْرَحُ أَنْت وَطَعَامُك حَتّى أَفْضَحَك بِمَكّةَ . فَجَاءَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ ، فَقَالَ مَا لَك وَلَهُ ؟
فَقَالَ يَحْمِلُ الطّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيّ طَعَامٌ كَانَ لِعَمّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثَتْ إلَيْهِ فِيهِ أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا خَلّ سَبِيلَ الرّجُلِ فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ .
فَأَخَذَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيّ لَحْيَ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجّهُ وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم ينقطع عن التبليغ مدة الحصار ، ولم يمتنع يوماً عن الخروج إلى المسجد الحرام والصلاة فيه ، وتلاوة آيات القرآن ، ويدعو الناس إلى الإسلام سراً وعلانية ، ونهاراً وليلاً .
مما أصاب المشركين باليأس والقنوط والخزي ، قال تعالى [وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
لقد كان المشركون في بداية الحصار بحال غيظ وتحد ولكن وبعد ثلاث سنين من الحصار أصيبوا بالخيبة واليأس ودبّ الخلاف ، والشقاق بينهم ، وصارت طائفة منهم تجاهر بقبح هذا الحصار ، إذ أدركوا فشلهم في تحقيق الغايات الخبيثة منه ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
لقانون بث الفرقة والخلاف بين الظالمين ، وقانون إدراك الكافرين لقبح إيذائهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
أكل الأرضة للصحيفة
من منّ ولطف الله عز وجل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين تسليط الأرضة على صحيفة الحصار في البيت الحرام ، وأكلها لما فيها من عهد وميثاق .
وأوحى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر ، فذكره النبي محمد لعمه أبي طالب ، فقال له أبو طالب : الله أخبرك بهذا .
ليتبين هل هو من عند الله أم باجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاجابه : نعم ، ربي أخبرني بهذا .
فقال (لا والثواقب ما كذبتني)( ).
فانطلق أبو طالب ونفر من بني هاشم وبني المطلب إلى المسجد الحرام ، فاندهش رجال قريش من مجيئهم المفاجئ وظنوا أن اليأس دبّ إلى نفوسهم وأنهم مستعدون لتسليم النبي محمد إلى قريش ، أو التخلية بينهم وبينه.
فتكلم أبو طالب ، وتوجه بالعتاب واللوم لقريش ، ثم قال (فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح)( ).
ولم يكن أبو طالب شاكاً بما قاله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه كتم عنهم نبأ أكل الأرضة لها ليفاجئوا بها ، فجاءوا بالصحيفة وهم يطمعون بتسليم بني هاشم النبي لهم ، مع توجيههم العتاب لأبي طالب عما لاقاه وعشيرته من الأذى بسبب الحصار ، والمشاق لقريش .
فقال أبو طالب (إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم: إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة فأبقت اسم الله وأكلت غدركم وتظاهركم علينا بالظلم)( ).
فبادروا إلى فتح الصحيفة فوجدوها كما قال أبو طالب فاصيبوا بالذعر ولكنهم قالوا :
(هذا سحر ابن أخيك.
وزادهم ذلك بغيا وعدوانا.
فقال أولئك النفر من بني هاشم وبني المطلب: إن أولانا بالكذب والسحر غيرنا، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر.
وقال أبو طالب: يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة.
ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال: اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا.
ثم انصرفوا إلى الشعب.)( ).
فقال أبو طالب قصيدته المشهورة التي يثني فيها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعلن قراره بعدم تسليمه ، وهي قصيدة طويلة منها :
(وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ … ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلّافُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ … فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاصِلِ)( ).
فندمت قريش على ما فعلت ، وأدركوا فشل خططهم في قتل النبي أو تسليمه لهم ، وخشوا من سخط القبائل عليهم ، وتعرض تجارتهم بين مكة والشام ، ومكة واليمن إلى النهب والسلب ، وبدا التلاوم بينهم ، فقرروا نقض الصحيفة .
(فكان اول من مشى في نقض الصحيفة هشام بن عمرو بن الحارث العامري وهو كاتب الصحيفة وابو البخترى العاص بن هشام ابن الحارث بن اسد بن عبدالعزى والمطعم بن عدي)( ).
وقيل أن (الذي كتب الصحيفة بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى فشلت يده)( ).
ليخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبنو هاشم وبنو المطلب من الحصار في السنة العاشرة للهجرة أي بعد ثلاث سنوات من الحصار.
وفي فشل الحصار ، وخيبة قريش زجر لهم عن محاربة وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنذار بأن قتالهم له لا يجلب لهم إلا الخسارة والندامة ، لقانون محاربة الأنبياء خسارة وخزي .
نتائج إنتهاء حصار قريش
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون الأذى الذي يصيبه يكون نفعاً للرسالة والدعوة إلى الله ، ومنه يمكن استقراء المسائل من الآيات التي تأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر والتحمل ومنها قوله تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ).
لبيان أن النسبة بين الوحي وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو العموم والخصوص المطلق ، وما دام صبر النبي محمد شعبة من الوحي فانه خير محض ونفع لأجيال المسلمين.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما اوذي نبي مثل ما اوذيت)( ).
ليكون هذا الأذى سبباً لهداية الناس ، ومنهم ذات الذي آذوا النبي وأهل البيت والصحابة ، ومن هذا الأذى الحصار الظالم الذي فرضته عمومة وقبيلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه وعلى بني هاشم .
ومن نتائج حصار قريش وجوه :
الأول : تجلي قانون استمرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله بالحكمة والصبر والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثاني : توالي نزول آيات القرآن أيام الحصار ، وهو غذاء يومي بديل عن الزاد ، ومواساة لأهل البيت والصحابة فلا غرابة أن ينضم عدد من الصحابة إلى أهل البيت في الحصار.
الثالث : قانون نفرة الناس من حصار قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ، وهذه النفرة من مصاديق قوله تعالى في خلق آدم [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الرابع : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الحصار مقدمة للهجرة والإبتعاد عن الأهل والبيت الحرام.
فقد كانت الهجرة إلى المدينة مفتاح طمأنينة ، ومناسبة لأداء الفرائض العبادية من غير خشية أو خوف من الظالمين ، مع إيجاد وفرة في الرزق وقانون تكافل الأنصار مع المهاجرين ، وهذا التكافل من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يتم إلا بالتصديق برسالته ، ورجاء الأجر والثواب من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
الخامس : لحوق الخزي للذين فرضوا الحصار على بني هاشم .
السادس : حصار قريش سبب لقانون تدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسعي للقائه وجهاً لوجه ، فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قربه من الناس وعدم حجب الناس عن لقائه والحديث معه وجداله.
ومن الشواهد عليه صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام كل يوم مدة إقامته نبياً ثلاث عشرة سنة في مكة .
وعدد آيات [أَقِمِ الصَّلَاةَ] في القرآن خمسة أكثرها مكية وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً]( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي]( ).
الرابعة : قوله تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
ومن معاني الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقامة الصلاة في مكة ضمان سلامته من شرور قريش .
وهل خطاب [أَقِمِ الصَّلَاةَ] من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إنما هو عام وشامل ، إذ يلحق المسلمون والمسلمات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب الإنصياع والطاعة باقامة الصلاة اليومية ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وهل لأداء الصلاة موضوعية في إنتهاء حصار قريش من غير أن تحقق غاياتها الخبيثة ، الجواب نعم .
قيام قريش بالإبادة الجماعية
لا تنحصر مقاصد قريش بالإبادة الجماعية بخصوص هجومها على المدينة في معارك بدر وأحد والخندق ، ولا تدبيرها لخطط قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو في مكة وكذا وهو في المدينة .
إنما شملت هذه المقاصد الخبيثة ضربهم الحصار على بني هاشم وبني المطلب .
ووفق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ، والعقاب عليها الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1948 بقصد تدمير جماعة على نحو السالبة الكلية أو الجزئية ، ومنها :
الأول : قتل أعضاء من الجماعة .
الثاني : أذى بدني أو نفسي خطير باعضاء من الجماعة ، وكان الأذى الذي نزل بأهل البيت بسبب الحصار خطيراً وعاماً ليشمل المجاعة وهي من أشد ضروب الإبادة .
الثالث : فرض تدابير للحيلولة دون إنجاب أطفال داخل الجماعة ، ومنه منع قريش الزواج من بني هاشم ولا تزويجهم .
وقد جمعت قريش كل هذه الأفعال في محاربة النبوة والتنزيل ، ليكون صرف أذاهم ونقض إتفاق الحصار فضلاً من عند الله عز وجل.
لقد اضطرت قريش لنقض الحصار بعد ثبوت العجز عن تحقيق غاياتهم الخبيثة منه ، ولكنهم لم يكفوا عن المكر ، إذ لجأوا إلى الإفتراء على التنزيل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونعته بأنه كذاب وساحر ، وكاهن ومجنون ، وفي ذم قريش ورد قوله تعالى [وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ]( ) .
إن تطبيق القوانين الدولية على وجود وتعدي المشركين ضد النبوة ليس من الإستصحاب القهقري إنما هو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تدل الشواهد الدولية المعاصرة على صدق نبوته بسلامته وأهل بيته وأصحابه من الإبادة الجماعية ، وإرادة الكفار استئصالهم ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ]( ).
الإتفاق على قتل النبي (ص)
اتفق رؤساء قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه باشتراك قبائلهم واختيار عدد من شبابهم للقيام بالأمر بسيوف صارمة ليضربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضربة رجل واحد في فراشه بجوار البيت الحرام في العام الثالث عشر من البعثة النبوية .
وعن ابن إسحاق أن الذين اجتمعوا في دار الندوة من (أَشْرَافُ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ :
أولاً : عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ .
ثانياً : َشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ .
ثالثاً : َأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب ٍ.
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف :
أولاً : طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ .
ثانياً : َجُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ .
ثالثاً : الْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ .
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ .
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى :
أولاً : أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ.
ثانياً : َزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ.
ثالثاً : َحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ .
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَام .
وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ :نُبَيْهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ.
وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ : أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ .
وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَا يُعَدّ مِنْ قُرَيْشٍ)( ).
لقد أرادوا تفريق دم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القبائل وصيرورة بني هاشم عاجزين عن قتالهم جميعاً ، فيرضون بالدية .
وفي الليلة التي عينوها لتنفيذ خطة الاغتيال أحاطوا ببيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل جبرئيل وحذره من المبيت في فراشه ، وأمره بالرحيل والهجرة إلى المدينة في معجزة ذاتية وغيرية .
واجتمعوا على باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورأى مكانهم لأن جبرئيل عليه السلام حذره ، فقال للإمام علي عليه السلام (نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيّ الْأَخْضَرَ ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ)( ).
وفي رواية أن أبا جهل كان معهم على باب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحضهم على قتله.
و(عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ قَالَ لَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنّ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ثُمّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحَرّقُونَ فِيهَا)( ).
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو قوله تعالى [يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ]( ).
فمرّ بالقرب منهم وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يروه ، وتوجه الى غار جبل ثور .
وصاروا يترقبون الإمام علي عليه السلام وهو نائم في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فَيَقُولُونَ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَمُحَمّدٌ نَائِمًا ، عَلَيْهِ بُرْدُهُ)( ).
وأرادوا في منتصف الليل تسلق جدار الدار وكان قصيراً ، ولكن امرأة من الدار نادت عليهم بزجر (فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَاَللّهِ إنّهَا لَلسّبّةُ فِي الْعَرَبِ أَنْ يُتَحَدّثَ عَنّا أَنّا تَسَوّرْنَا الْحِيطَانَ عَلَى بَنَاتِ الْعَمّ وَهَتَكْنَا سِتْرَ حُرْمَتِنَا)( ).
لتكون سعة ومندوحة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يسري في الليل ويطوي الأرض قبل أن يكتشفوا مغادرته مكة .
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي الوعد من الله بآية قرآنية بسلامته وعودته إلى مكة محرراً لها وللناس من نير الأصنام.
أولاد عبد المطلب
أولاد عبد المطلب ثلاثة عشر هم :
الأول : عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : حمزة ولا عقب له .
الثالث : العباس وهو أكثر إخوته ذرية فله ثمانية من الولد .
(وروى عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام ونحوها، فجيء به حتى نظرت إليه، وجعل النساء يقلن لي: قبل أخاك، فقبلته)( ).
الرابع : أبو طالب الذي تزوج من فاطمة بنت أسد وله أربعة من الولد ، وهم : طالب ، وعقيل ، وجعفر ، والإمام علي عليه السلام .
ومن البنات : أم هانئ ، وجمانة ، وريطة ، وأسماء .
الخامس : أبو لهب ، وله ثلاثة من الولد.
السادس : الحارث وله أربعة من الولد ، وهو أول أولاده ، وبه كان يكنى.
السابع : المقوم .
الثامن : الزبير .
التاسع : عبد الكعبة .
العاشر : المغيرة ، واسمه حجل والغيداق .
الحادي عشر : قتم : مات صغيراً .
الثاني عشر : ضرار .
الثالث عشر : أبو لهب ، واسمه عبد العزى.
وقد أكرم الله عز وجل بني هاشم فلم يذكر أبا لهب في القرآن باسمه الوثني إنما قال تبت يدا أبي لهب ، ومنهم من ذكر بأن عدد أولاد عبد المطلب اثنا عشر باسقاط المقدم أو جعله لقباً لعبد الكعبة ، وقول (كانوا اثنى عشر فأسقط المقوم، وقيل: هو لقب عبد الكعبة. وقيل: كانوا أحد عشر فأسقط الغيداق وحجل، وقيل: عشرة، وقيل: تسعة، كلهم ماتوا قبل البعثة إلا أربعة: أبو طالب وأبو لهب والحمزة والعباس)( ).
ظلم وتعدي المشركين قبل الهجرة
ليس من حصر لظلم وجور الكافرين أيام النبوة منها :
الأول : الإستهزاء بالنبوة والتنزيل لصرف الناس عن التدبر بمعجزات النبوة ، وجاء المدد من عند الله سبحانه ، إذ قال [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ).
الثاني : السخرية من الذين آمنوا ، والتغامز وإطلاق نعوث الإستهزاء المضحكة عليهم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ]( ).
وكان (الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن زهرة، وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال البلاذري: كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر)( ).
استهزاء لما وعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فتح خزائن كسرى وقيصر ، كما كان يسخر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له مثلاً (أما كلمت اليوم من السماء يا محمد ، وما أشبه ذلك. فخرج من أهله فأصابه السموم فاسود وجهه، فلما عاد إليهم لم يعرفوه وأغلقوا الباب دونه، فرجع متحيراً حتى مات عطشاً)( ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يقابلون أذى واستهزاء قريش بهم بالصبر.
الثالث : إرادة رؤساء قريش عدم جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وبين ضعفاء المسلمين ، لبعث الإرباك عند المسلمين والإظهار العام لإستضعافهم ، ومحاولة إرتدادهم .
وفي (قوله تعالى [وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ]( ) قال المشركون ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء – يعنون سلمان وصهيبا وبلالا وخبابا – فأطردهم عنك وطلبوا أن يكتب لهم بذلك فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ودعا عليا ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية فأنزل الله الآية.
ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث : فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع وكان النبي صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعا في إسلامهم وإسلام قومهم ، ورأى أن ذلك لا يفوت أصحابه شيئا ولا ينقص لهم قدرا ، فمال إليه فانزل الله الآية فنهاه عما هم به من الطرد لا أنه أوقع الطرد)( ).
لقد أرادت قريش تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلساً خاصاً للأكابر لا طرد أصحابه مطلقاً ، فنزل القرآن بالنهي بلزوم إكرام المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الرابع : نشر قريش رجالاً في مداخل مكة لمنع الناس من الإتصال بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإفتراء عليه ، ورميه بالكذب .
و(عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش – وكان ذا سن فيهم – وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيُكَذِّب بعضكم بعضاً . فقالوا : أنت فقل ، وأتم لنا به رأياً نقول به .
قال : لا ، بل أنتم قولوا لأسمع .
قالوا : نقول كاهن . قال : ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم .
قالوا : فنقول مجنون . قال : ما هو بمجنون . . . لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا بحائحه ولا وسوسته .
قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ، رَجَزه وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده .
قالوا : فماذا نقول؟ قال : والله إن لقوله حلاوة؛ وإن عليه طلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناء ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل.
وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر ، يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته)( ).
الخامس : الإعتداء على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حال سجوده والقاء سلا جزور عليه .
السادس : الحصار الإقتصادي والإجتماعي على بني هاشم لثلاث سنوات.
قانون الآية القرآنية أعظم إنذار في التأريخ
إن قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
من الآيات التي يخص موضوعها معركة بدر كعبرة وموعظة وإنذار لمشركي مكة ومن حولها الذين يشملهم الخطاب في الآية بقوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ] وما فيه من صيغة العموم ، ولبيان مصداق لقوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، وأعظم إنذار في تأريخ عمارة الناس للأرض هو الإنذار القرآني من وجوه :
الأول : قانون الإنذار القرآني من مصاديق إعجاز القرآن وسلامته من التحريف والزيادة والنقصان .
الثاني : قانون نفاذ الإنذار القرآني إلى شغاف القلوب .
الثالث : قانون استدامة الإنذار القرآني ، وحضوره في كل زمان.
الرابع : قانون آيات الإنذار تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهي من مصاديق قوله تعالى [طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( )، وسورة طه مكية ، نزلت لمواساة وتعضيد النبي وابتدأ نزول آيات الإنذار في مكة أيضاً.
فمن خصائص السور المكية إتصافها بالإنذار والوعيد للذين كفروا .
الخامس : قانون حضور الإنذار القرآني في مقدمات كل واقعة .
السادس : قانون النفع العام من الإنذار القرآني.
فان قلت هل ينتفع الذين كفروا من الإنذار القرآني ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : الموعظة والإعتبار .
الثانية : بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين ، لبيان قانون الإنذار القرآني من مصاديق الرعب في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة : قانون إنذار الآية القرآنية الكافرين من الخسارة والهزيمة التي تنتظرهم في معركة بدر .
الرابعة : قانون الإنذار القرآني دعوة للتوبة والإنابة .
السابع : قانون الإنذار القرآني دعوة للتفقه في الدين والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، والرسالة ، وعالم البرزخ ، والحساب ، والجنة والنار.
الثامن : قانون الإنذار القرآني بشارة وسكينة للمؤمنين ودعوة لهم للشكر لله عز وجل على الهداية ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
التاسع : قانون صبغة عموم العبرة والتدبر في الإنذار القرآني وفي الحديث أن صحف إبراهيم أمثال كلها ، وصحف موسى كانت عبراً كلها .
إذ ورد (عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى ادريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان .
قلت يا رسول الله : فما كانت صحف إبراهيم .
قال : أمثال كلها أيها الملك المتسلط المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ويتفكر فيما صنع ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال ، فإن في هذه الساعة عوناً لتلك الساعات واستجماعاً للقلوب وتفريغاً لها.
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه ، فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه.
وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث مرمة لمعاش ، أو تزوّد لمعاد ، أو تلذذ في غير محرم .
قلت يا رسول الله : فما كانت صحف موسى .
قال : كانت عبراً كلها عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمن أيقن بالموت ثم يضحك ، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، ولمن أيقن بالقدر ثم ينصب ، ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل.
قلت يا رسول الله : هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى .
قال : يا أبا ذر نعم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى( ).
لماذا الإنذار القرآني أعظم إنذار
الإنذار القرآني أعظم إنذار لوجوه :
الأول : قانون إنذارات القرآن سماوية ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ]( ).
الثاني : قانون تعدد الإنذار القرآني وسعة موضوعه .
الثالث : قانون شمول الإنذار القرآني للدنيا والآخرة .
الرابع : سلامة الإنذار القرآني من التحريف .
الخامس : الأجر والثواب للمسلم في قراءة آية الإنذار .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه ، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
السادس : الإنذار القرآني اكثر إنذار يقرأ كل يوم في مشارق ومغارب الأرض ، وهو من الإعجاز في وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني سبع عشرة مرة بعدد ركعات الصلوات اليومية .
فان قلت إن شطراً من الصلوات إخفاتية وهي صلاة الظهر والعصر فهل يتعظ الكفار من القراءة فيها ، الجواب نعم ، لأداء المسلمين الصلاة بحال خشوع وخضوع .
السابع : قانون تعدد معاني الإنذار القرآني .
الثامن : قانون تدبر الإنسان بالإنذار القرآني طوعاً وقهراً وإنطباقاً .
التاسع : قانون إنجذاب النفوس للإنذار القرآني لأنه كلام الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( )، فمن منافع هذا النفخ تلقي الناس كلام الله بالتدبر .
العاشر : تذكير الإنذار القرآني بوقائع تأريخية ومصاديق تؤكد وجوب الإتعاظ منها ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الحادي عشر : قانون حاجة الناس للإنذار القرآني إذ بعث الله عز وجل النبي محمداً على فترة من الرسل ، وشيوع عبادة الأصنام في الجزيرة العربية ، قال تعالى [لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ]( ).
الثاني عشر : قانون دلالة بشارات القرآن للمؤمنين في مفهومها على الإنذار للذين كفروا .
الثالث عشر : جمع عدد من آيات القرآن بين البشارة والإنذار ومنه قوله تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا]( ).
الرابع عشر : قانون الخسارة والخيبة والقهر للذين كفروا في الدنيا ، فالإنذار القرآني فيصل ومائز لأهل الإيمان وسلامتهم دون الكفار الذين يأتيهم البلاء عاجلاً وآجلاً ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
جهة الخطاب [قَدْ كَانَ لَكُمْ]
وردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وإفادة الماضي القريب ، ويحتمل المخاطب وجوهاً :
الأول : مشركو مكة بلحاظ نظم الآيات ، فالآية السابقة هي [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( )، وتقدير آية البحث (قل يا محمد للذين كفروا قد كان لكم آية).
الثاني : إفادة عموم الذين كفروا في مكة وما حولها ، وفيه دعوة للناس بالإتعاظ من هزيمة قريش في معركة بدر ، وعدم الخروج معهم إلى معركة أحد ، ومع هذا فقد خرج ألفان من القبائل معهم إلى معركة أحد .
الثالث : إرادة المؤمنين في الخطاب ليشكروا الله على نعمة النصر في معركة بدر ، وتستقر السكينة في نفوسهم ، ويستعدوا للدفاع في معركة أحد.
الرابع : إرادة أهل الكتاب لمنع نصرتهم للذين كفروا.
وكان كعب بن الأشرف يتصل بقريش ويحرضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم ، قال : نعم .
(ولا أصل لهذا المدح ولكنهم أرادوا استمالته وانحيازه لهم)
قالوا : ألا ترى إلى هذا المنصبر المنبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية.
قال : أنتم خير منه . فانزلت [إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ]( )، وأنزلت [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ]( ) إلى قوله نَصِيرًا( ).
و(عن السدي عن أبي مالك قال : لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود من النضير ما كان ، حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين فهموا به وبأصحابه ، فاطلع الله رسوله على ما هموا به من ذلك.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، هرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة ، فعاهدهم على محمد.
فقال له أبو سفيان : يا أبا سعيد إنكم قوم تقرأون الكتاب وتعلمون ، ونحن قوم لا نعلم ، فاخبرنا ديننا خير أم دين محمد .
قال كعب : اعرضوا عليَّ دينكم فقال أبو سفيان : نحن قوم ننحر الكوماء ، ونسقي الحجيج الماء ، ونقري الضيف ، ونحمي بيت ربنا ، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا ، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه .
قال : دينكم خير من دين محمد فاثبتوا عليه ، ألا ترون أن محمداً يزعم أنه بعث بالتواضع وهو ينكح من النساء ما شاء ، وما نعلم ملكاً أعظم من ملك النساء . فذلك حين يقول أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا… الآية( ).
والسدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي الأعور توفى سنة 127 تابعي مولى زينب بنت قيس بن مخرمة من بني المطلب والتي صلت القبلتين مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد كاتبت أباه ، إذ يروي (إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن أبيه قال: كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة بعشرة آلاف فتركت لي ألفاً)( ).
وكان يجلس على سُدة باب المسجد بالكوفة فسمي السدي .
حكى أنه أدرك الإمام الحسين بن علي عليه السلام ، وأنس بن مالك ، وقال السيوطي في الإتقان (أمثل التفاسير تفسير السدي) ( ).
وثقه سفيان الثوري ، وشعبة ، ويحيى بن سعيد القطان ، وعن الشيخ الطوسي أنه من أصحاب السجاد والباقر عليهما السلام .
ويلقب بالكبير للتمييز بينه وبين حفيده محمد بن مروان الكوفي .
وأبو مالك هو أبو مالك الأشعري ، له صحبة ، قدم المدينة مع الأشعريين ، واختلف في اسمه والأرجح أنه كعب بن عاصم .
الخامس : توجه الخطاب الإلهي [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ] إلى الناس جميعاً أيام النبوة الخاتمة ، وما بعدها ( ).
والمختار هو الأخير ، لأصالة الإطلاق .
مسائل إعجازية في تكرار [لَكُمْ آيَةٌ]
ورد لفظ [لَكُمْ آيَةٌ] ثلاث مرات في القرآن :
الأولى : في آية البحث .
الثانية : في قوم صالح ونسبة الناقة إلى الله وإنذارهم بوجوب تعاهدها وعدم التعدي عليها ، إذ خاطبهم صالح عليه السلام [هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثالثة : في ناقة الله أيضاً تأكيد وتشديد الإنذار والوعيد الدنيوي القريب وجاء حكاية عن النبي صالح عليه السلام في التنزيل [وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ]( ).
ليكون تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام من جهات :
الأولى : إنذار النبي صالح لقومه ، بينما جاء الإنذار في القرآن من عند الله عز وجل كما في آية البحث وآيات أخرى .
الثانية : توثيق القرآن لمعجزة إنذار صالح عليه السلام ، ولا تعلم الأجيال اللاحقة بهذه الآية لولا ذكرها في القرآن .
الثالثة : قانون حاجة معجزات الأنبياء للتوثيق السماوي الباقي إلى يوم القيامة ، ولم ولن يتحقق هذا التوثيق إلا بالقرآن .
الرابعة : تجلي معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر الإلهي على المشركين في معركة بدر ، وإتخاذ آية البحث موعظة للناس جميعاً.
الخامسة : بيان القرآن لجهاد الأنبياء وصبرهم على الأذى الذي لاقوه من قومهم ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وفيه ترغيب لأجيال المؤمنين بالصبر.
السادسة : تجلي قانون تفضيل النبي محمد بالمعجزة العقلية وهو القرآن ، ولطف الله بالناس بقانون بيان آيات القرآن لإجتهاد الأنبياء في الدعوة إلى الله.
الإنذار في ناقة صالح
يتجلى قانون إنذارات القرآن باب للتوبة والإنابة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أما إنذار قوم صالح فتعقبه هلاكهم عند عقرهم الناقة.
و(عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كانت ثمود قوم صالح ، اعمرهم الله في الدنيا فأطال أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل منهم حي.
فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً فنحتوها وجابوها وخرقوها ، وكانوا في سعة من معايشهم فقالوا : يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله .
فدعا صالح ربه فأخرج لهم الناقة ، فكان شربها يوماً وشربهم يوماً معلوماً ، فإذا كان يوم شربها خلوا عنها ، وعن السماء وحلبوها لبناً ملأوا كل اناء ووعاء وسقاء ، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئاً فملأوا كلَّ اناء ووعاء وسقاء .
فأوحى الله إلى صالح : إن قومك سيعقرون ناقتك . فقال لهم : فقالوا : ما كنا لنفعل .
فقال لهم : أن لا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها .
قالوا : فما علامة ذلك المولود ، فوالله لا نجده إلا قتلناه؟ قال : فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر . وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لاحدهما ابن يرغب به عن المناكح ، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤا.
فجمع بينهما مجلس فقال أحدهما لصاحبه : ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال : لا أجد له كفؤا ، قال : فإن ابنتي كفء له فانا أزوجك . فزوجه ، فولد بينهما مولود .
وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فلما قال لهم صالح : إنما يعقرها مولود فيكم .
اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية ، وجعلوا معهن شرطاً كانوا يطوفون في القرية فإذا نظروا المرأة تمخض نظروا ما ولدها؟ إن كان غلاماً قلبنه فنظرن ما هو؟ وإن كانت جارية أعرضن عنها .
فلما وجدوا ذلك المولود صرخت النسوة : هذا الذي يريد صالح رسول الله ، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جداه بينهم وقالوا : لو أن صالحاً أراد هذا قتلناه.
فكان شر مولود وكان يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة ، ويشب في الجمعة شباب غيره في الشهر ، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة ، فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وفيهم الشيخان ، فقالوا : استعمل علينا هذا الغلام لمنزلته وشرف جديه فكانوا تسعة.
وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، كان يبيت في مسجده ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم ، وإذا أمسى إلى مسجده فبات فيه .
قال حجاج ، وقال ابن جريج : لما قال لهم صالح : إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه.
قالوا : فكيف تأمرنا؟ قال : آمركم بقتلهم : فقتلوهم إلا واحداً قال : فلما بلغ ذلك المولود قالوا : لو كنا لم نقتل أولادنا لكان لكل رجل منا مثل هذا ، هذا عمل صالح.
فأتمروا بينهم بقتله وقالوا : نخرج مسافرين والناس يروننا علانية ، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا فنرصده عند مصلاه فنقتله فلا يحسب الناس إلا أنا مسافرون كما نحن ، فاقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه.
فأرسل الله عليهم الصخرة فرضختهم فاصبحوا رضخاً ، فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ ، فرجعوا يصيحون في القرية : أي عباد الله أما رضي صالح إن أمرهم أن يقتلوا أولادهم حتى قتلهم.
فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعين ، وأحجموا عنها إلا ذلك ابن العاشر .
ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأرادوا أن يمكروا بصالح ، فمشوا حتى أتوا على شرب طريق صالح فاختبأ في ثمانية.
وقالوا : إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله فبيتناهم ، فأمر الله الأرض فاستوت عليهم ، فاجتمعوا ومشوا إلى الناقة وهي على حوضها قائمة ، فقال الشقي لأحدهم ، ائتها فاعقرها . فاتاها فتعاظمه ذلك فاضرب عن ذلك.
فبعث آخر فأعظمه ذلك ، فجعل لا يبعث رجلاً إلا تعاظمه أمرها حتى مشى إليها وتطاول فضرب عرقوبيها فوقعت تركض ، فرأى رجل منهم صالحاً فقال : ادرك الناقة فقد عقرت . فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان إنه لا ذنب لنا .
قال : فانظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب . فخرجوا يطلبونه ، فلما رأى الفصيل أمه تضطرب أتى جبلاً يقال له القارة قصير ، فصعد وذهبوا ليأخذوه.
فأوحى الله إلى الجبل ، فطال في السماء حتى ما تناله الطير ، ودخل صالح القرية فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ، ثم استقبل صالحاً فرغا رغوة ، ثم رغا أخرى ، ثم رغا أخرى.
فقال صالح لقومه : لكل رغوة أجل فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ، الا أن آية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني محمرة ، واليوم الثالث مسودة .
فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنها قد طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب .
فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنها خضبت بالدماء ، فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا أنه العذاب ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب.
فلما أصبحوا اليوم الثالث فإذا وجوههم مسودة كأنها طليت بالقار ، فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب فتكفنوا وتحنطوا .
وكان حنوطهم الصبر والمغر وكانت أكفانهم الانطاع ، ثم ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلبون أبصارهم فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة فلا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، من فوقهم من السماء أم من تحت أرجلهم من الأرض خسفاً أو قذفاً ، فلما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، فاصبحوا في ديارهم جاثمين)( ).
قانون وجوب استقراء المعجزات من [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ]
بيان القرآن لمعجزة متعددة حدثت في الأرض يوم معركة بدر إذ نعتها الله عز وجل بأنها آية وعلامة ودلالة على عظيم قدرة الله ، وسلطان ملكه للسموات والأرض .
ولا يختص التعدد في هذه الآية بما ورد فيها من المضامين القدسية بل يبعث قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ]( )، على لزوم التدبر في معركة بدر ، واستنباط المسائل والقوانين الإعجازية فيها .
وقد وردت في هذا السِفر ذكر عشرات المعجزات الخاصة بمعركة بدر.
وتبين آية البحث موضوعية الحالة النفسية في الدخول للحرب ورؤية المشركين لكثرة المسلمين من مصاديق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
فيكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب المشركين الرعب برؤيتهم المسلمين أضعاف عددهم الواقعي الذي هو ثلاثمائة وثلاثة عشر .
وحتى هذا العدد الواقعي من الكثرة إذ كان المشركون يظنون بأن عدد المسلمين قليل بقياس عدد المهاجرين من مكة ، ولم يعلموا أن عدد الأنصار أضعاف عدد المهاجرين ، وكلهم مستعدون للدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن التنزيل .
الثاني : سنلقي في قلوب المشركين الرعب بغشاوة على أبصارهم وفي ذم الذين كفروا وعقوبتهم العاجلة ، قال تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
والنسبة بين الذين كفروا في الآية أعلاه وبين الذين اشتركوا في معركة بدر منهم عموم وخصوص مطلق إذ يدخل تسعمائة وخمسون مشرك حضروا معركة بدر في مصاديق الآية أعلاه ، ونزل بهم الختم العام قبل المعركة ليصاحبهم اثناء المعركة ، وهو من أسباب سرعة هزيمتهم.
الثالث : سنلقي في قلوب الذين أشركوا الرعب في كل معركة من معارك الإسلام الأولى .
الرابع : سنلقي في قلوب المشركين الرعب لإصرارهم على الظلم وعبادة الأوثان لبيان قانون الملازمة بين عبادة الأوثان وبين امتلاء القلب بالرعب ، وفيه شاهد على النعمة العظمى برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( ).
فكشف هذه الملازمة وتجليها بوضوح من مصاديق نزول آيات القرآن ، وإخبارها عن القبح الذاتي والغيري لعبادة الأوثان ، وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فضح نهج الشرك ، وسوء عاقبة المشركين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : ترى لماذا لم تقل الآية (ألقينا في قلوب الذين كفروا) ، الجواب يبين ترتب الحكم على الوصف في الآية بأن الرعب ملازم للشرك في كل زمان .
قانون ترتب حكم الرعب على الوصف بالشرك
تبين الآية الملازمة بين اختيار الشرك وامتلاء القلب بالرعب ، لأن ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية لوجهين :
الأول : قانون دوران الحكم مع علته ومنه قانون لزوم وجود المعلول لوجود علته ، كما في قوله تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ]( )، ومنه قوله تعالى [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
ومع كثرة أسماء الإشارة في اللغة وفي القرآن فلم يرد لفظ (لذلك) في القرآن ، إنما ورد مرتين بلفظ [فَلِذَلِكَ] أحدهما في الآية أعلاه ، والآية الأخرى [إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ]( ).
وقد يأتي ذكر العلة على نحو الظاهر والأمارة والتعيين كما في قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ]( ).
الثاني : قانون انتفاء الحكم لانتفاء علته كما في عدم ثبوت حكم قطع يد السارق إذا كان مقدار السرقة أقل من ربع دينار ذهب عيار 18 حبة ، وكذا عند توبة المشرك يغادر الرعب قلبه في الحال.
لبيان قانون إزاحة الإيمان لوطأة وثقل الرعب عن القلوب ، لترتب حكم رعب القلوب على الشرك .
ترى لماذا لم ينتقم الله عز وجل من المشركين ، ويجعل الأرض خالية من مفاهيم الكفر والشرك.
الجواب لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وإختبار للناس ، وهو يمهل الإنسان إلى حين أجله ثم يقبض روحه.
لتكون الدار الآخرة دار حساب بلا عمل ، ومن لطف ورحمة الله عز وجل بالناس أنه لم يتركهم وعقولهم وحواسهم لإختيار الإيمان ونبذ الشرك ، بل ملأ اليوم والليلة بآيات كونية وبراهين حسية على وجوب التوحيد ، وتفضل وبعث الأنبياء والمرسلين وأنزل عليهم الكتب السماوية لقانون جذب الناس للإيمان بالبينة والبرهان .
وتفضل الله بالحجة الذاتية عند الإنسان بان جعل السكينة ملازمة للإيمان ، والرعب مصاحب للشرك ، وأوهام الضلالة .
طرق الرعب
يأتي الرعب للمشركين من وجوه :
الأول : ابتداء من عند الله عز وجل .
الثاني : الأسباب الذاتية مثل الوهن والضعف والجزع والقنوط الذي يصيب الذين كفروا .
الثالث : الأسباب الخارجية ، ومنها تزايد عدد وعدة المسلمين ، وصبرهم.
الرابع : إقتران إختيار الشرك بالرعب الخاص والعام ، الشامل للمشركين في قرارتهم وإتصافهم بالعجز واليأس والكآبة ، لبيان أن رسالة كل نبي رحمة بأهل الأرض جميعاً ، وإنقاذ لهم من آفة الخوف والرعب التي تترشح عن الشرك ، مع إتصاف القرآن بخصوصية وهي الإحتجاج بالبينة على الذين كفروا إذ تخبر آية البحث عن إنعدام الحجة والدليل على الشرك عقلاً وواقعاً بقوله تعالى [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
الخامس : صبر ودفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ورجاؤهم الأجر والثواب ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
السادس : مشاركة الملائكة في إخافة ورعب المشركين .
كما أخبرت عن الوعيد من عند الله بأن عاقبة المشركين هي النار وأختتمت بقانون النار مأوى للظالمين الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم ، والنسبة بين الظالمين والمشركين عموم وخصوص مطلق ، فالظالمون أعم وأكثر وأشد الظلم هو الكفر بالله ورسله ، قال تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ).
وتدل آيات أخرى على عدم حصر الظلم بالكفر ومنها قوله تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( )، والظلم لغة وضع الشئ في غير موضعه.
وفي الإصطلاح هو التعدي والجور وتجاوز الحدود ، والظلم خلاف العدل ، وخلاف الواجب .
قانون الإنفاق في محاربة الرسول ظلم
الظلم على مراتب وأشدها الشرك ، ومنه إنفاق الأموال في محاربة الرسول ، فقد أخبر القرآن عن تفضل الله عز وجل على قريش بالنعمة والثروة ، وفتح لهم باباً للتجارة لم ينله غيرهم من الناس وهو التجارة بالقوافل الكثيرة بين مكة والشام في الصيف ، ومكة واليمن في الشتاء .
وأهلك عدوهم أبرهة لمنع الموانع التي تحول دون عبادتهم لله ، وتصديقهم بالرسالة واستمرار تجارتهم لذا جاء التداخل وإتصال الموضوع بين سورة الفيل وسورة قريش بقوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
ولتكون هذه التجارة مناسبة لمعرفة قريش بسنن أهل الكتاب من النصارى في الشام ، والمجوس في بلاد فارس والإنصات للبشارات الواردة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون وسيلة لنبذهم عبادة الشرك ، ومقدمة لتصديقهم بالنبي محمد ولبيان أمور :
الأول : قانون تجارة الشتاء والصيف مقدمة للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قانون رحلة الشتاء والصيف نعمة عظمى على قريش .
الثالث : قانون رحلة الشتاء والصيف من بركات البيت الحرام ، وكثرة وإزدهار أسواق مكة في موسم الحج.
الرابع : قانون حق المسلمين في تولي تجارة الشتاء والصيف والأسواق في مكة إلى يوم القيامة .
الخامس : قانون إزاحة المشركين عن سلطان التجارة في مكة وما حولها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : قانون التعارض بين الشرك واستمرار النعم .
السابع : من شكر قريش لله على هلاك أبرهة وجنوده التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : قانون الملازمة بين الظلم والبلاء وسوء العاقبة .
قانون حسن مجاورة النعم
لقد رزق الله الإنسان العقل ، وقرنه بادراك الحاجة لأنه من عالم الإمكان ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : إدراك الإنسان كل ممكن محتاج .
الصغرى : ذات الإنسان ممكن .
النتيجة : إدراك الإنسان لحاجته المستمرة .
ومن فضل الله جعله الإنسان يتطلع إلى الرحمة والنعمة من عند الله عز وجل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أحسنوا مجاورة النعم لا تملوها ولا تنفروها فانها قل ما نفرت من قوم فعادت إليهم)( ).
ومن حسن مجاورة النعم الرضا بها والشكر لله عليها ، وعدم القفز لطلب أعلى منها من غير استحقاق وأهلية إلا بفضل وفيض ولطف من الله سبحانه.
لقد كانت نعم الله عز وجل على قريش متعددة ، وأثرها ظاهر بالمنزلة الرفيعة لهم بين العرب ، ودول زمانهم ، ولكنهم جحدوا بهذه النعم بعبادة الأصنام.
فتفضل الله عز وجل عليهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان ودوام النعم ، ولكنهم أصروا على الإقامة على الشرك فقذف الله عز وجل الرعب في قلوبهم لمنع غزوهم للمدينة ، فأبوا إلا غزوها مع حال الخوف والرعب التي هم عليها ، فكانت عاقبتهم في بدر ، وأحد ، والخندق الخسارة والهزيمة والندامة .
ليكون من معاني السين وصيغة المستقبل في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، إنذار كفار قريش وعامة الكفار من ذات الشرك ومن الجحود بالنعم ، وعدم مجاورتها بالصلاح ، ومن التعدي على المؤمنين في بلدانهم ، والوعيد بالنار على هذا الظلم والتعدي .
معجزة [رَأْيَ الْعَيْنِ]( )
تبين الآية أن موضوعها هو اللقاء في ميدان القتال يوم بدر إذ كان عدد المسلمين أقل من ثلث عدد المشركين ، ويصيب أفراد الجيش القليل الخوف والفزع من كثرة جيوش وعدة وأسلحة وخيل العدو ، قبل وأثناء المعركة ، فتفضل الله بمعجزة حسية غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فيرى المشركون المسلمين مثل كثرتهم ليكون من مصاديق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، بجعلهم يرون المسلمين مثلهم في الكثرة والعدة والسلاح .
وقد كان عند المشركين مائة فرس بينما عند المسلمين فرس واحد.
فهل تشمل المثلية البصرية أن المسلمين يرون المشركين وكأن عندهم فرساً واحداً ، ويرى المشركون المسلمين وكأن عندهم مائة فرس ، المختار نعم ، إذ أنهم يعلمون يقيناً بأن عندهم مائة فرس ، وعندما يعلمون بامتلاك المسلمين فرساً واحداً يتناجون بالقتال والنصر ، فتفضل الله عز وجل ورماهم في أبصارهم لبيان معجزة حسية غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن أموراً تحدث باليقظة بالإعجاز لا تحدث إلا في الأحلام .
ولبيان التمايز والفصل بين هذه الرؤيا ، وبين النعاس يومئذ ، وعن الإمام علي عليه السلام (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت الشجرة حتى أصبح)( ).
ومن معاني [رَأْيَ الْعَيْنِ]( ) التخفيف عن المسلمين ، وبعث الرعب في قلوب المشركين ، ومنع وقوع القتال .
معاني (ذلك) في [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً]
من معاني اسم الإشارة (ذلك) في قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( )، وجوه :
الأول : قانون تجلي الآيات والبراهين الباهرة في لقاء المسلمين والمشركين في ميدان القتال .
الثاني : قانون نزول الآية القرآنية بخصوص المعركة بين النبي والمشركين معجزة وآية عظمى لذا قال تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ]( ).
الثالث : بيان قانون حصر قتال المسلمين بأنه في سبيل الله .
الرابع : قانون تعدد مصاديق (في سبيل الله) منها ما هي حاضرة ومنها آجلة وهو سور جامع لقتال ودفاع الأنبياء ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الخامس : قانون التوثيق السماوي لوقوع القتال بين النبي ومشركي قريش مع أنهم عشيرته وقومه ، والأصل أنهم أولى الناس بالتصديق بنبوته لرؤيتهم المعجزات طيلة وجوده في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة ، بل وحتى قبلها إذ كان (الصادق الأمين).
السادس : قانون وجوب التفقه في السنة الدفاعية ، ومعرفة الوقائع أيام النبوة وموضوعها وأسبابها .
السابع : قانون التضاد بين الذين يقاتلون في سبيل الله ، وقتال الكفار دفاعاً عن عبادة الأصنام .
الثامن : من معاني (ذلك) المعجزة بالمثلية البصرية مع التباين الواقعي بينها ، لبيان المائز بين المعجزة والسحر ، إذ نعت الله عز وجل أثر السحر بالتخيل والخداع كما في موسى عليه السلام والسحرة ، قال تعالى [قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى]( ).
وعن (وهب بن منبه [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى]( )، لما رأى ما ألقوا من الحبال والعصيّ وخيل إليه أنها تسعى، وقال: والله إن كانت لعصيا في أيديهم، ولقد عادت حيات، وما تعدو عصاي هذه، أو كما حدّث نفسه، فأوحى الله إليه أن [وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى]( ).
وفرح موسى فألقى عصاه من يده، فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها، تبتلعها حية حية، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدا، قالوا: آمنا برب هارون وموسى، لو كان هذا سحر ما غلبنا)( ).
التاسع : من معاني (ذلك) في الآية رؤية المسلمين الكفار مثليهم أي نحو ستمائة ، ويرى الكفار المسلمين ضعف عدد المشركين الذي كان تسعمائة وخمسون .
العاشر : معجزة تقليل ومضاعفة أعداد الجيوش في آن واحد .
الحادي عشر : الرؤية البصرية وفي حال اليقظة للمثلية العددية في ميدان القتال .
ومن وجوه دفع رؤيا الأحلام صيغة الجمع في الآية ، فلا يرى أفراد الجيشين رؤيا واحدة في المنام ، إنما المعجزة أعظم من الرؤيا ، إذ جعلت أفراد الجيشين يرون المعجزة مع التضاد بينهما والتضاد بين الإيمان والكفر .
وهل رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيش الكفار أقل من عددهم الحقيقي أم أن هذه الرؤية خاصة بالصحابة .
الجواب هو الأول لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام لـ[فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الثاني عشر : قانون ترغيب التنزيل الناس بالتبصر والتفكر بالآيات .
الثالث عشر : موضوعية حاسة البصر في هداية الناس للإيمان .
وهل يحرم الأعمى من هذه النعمة ، الجواب لا ، لسماعه عن الوقائع والمعجزات وتدبره فيها وهو من أسرار وجوب تلاوة المسلمين والمسلمات آيات وسور القرآن في الصلاة اليومية.
واستماع الناس لها ، ولتلاوة القرآن خارج الصلاة ، واستحباب حفظ القرآن عن ظهر قلب ، لقانون التلاوة مدرسة يومية متنقلة .
الرابع عشر : رؤية الآيات والمعجزات واقية ومانع من تجدد القتال في الميدان.
لماذا [لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( )
من إعجاز قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( )، خاتمة الآية ، وفيها مسائل :
الأولى : قانون تعذر حدوث رؤية المثلية البصرية في الواقع إلا بالمعجزة .
الثانية : قانون عجز العلوم الحديثة والذكاء الإصطناعي عن إحداث المثلية البصرية بين طرفين أحدهما قليل والآخر كثير ، لبيان قانون بقاء المعجزة الحسية في القرآن شاهداً على أفراد الزمان الطولية .
الثالثة : قانون إشتراك الناس برؤية المعجزة الحسية .
الرابعة : قانون وجوب توثيق المسلمين لوقائع معارك الإسلام الدفاعية الأولى .
الخامسة : كما أن لقاء المسلمين والمشركين في ميدان المعركة آية ، فكذا صرف القتال عن المسلمين ، وهل ما صرفه الله من القتال عن المسلمين هو الأكثر أم العكس.
الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وقوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
السادسة : يشمل قوله تعالى [لِأُولِي الْأَبْصَارِ] الذين حضروا ميدان يوم بدر ، فيزداد المسلمون إيماناً ويتعظ المشركون ، وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة .
السابعة : منع المشركين من العودة للقتال ، وإن رجع المشركون لمعركة أحد ، فانهم إنسحبوا في ذات اليوم .
الثامنة : عندما أشار بعض رؤساء قريش وهم في الروحاء بعد الإنسحاب من معركة أحد بالرجوع للإغارة على المدينة حال الرعب دونه.
و(عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم . بئسما صنعتم ارجعوا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد.
فقال المشركون : نرجع قابل . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعد غزوة ، فأنزل الله الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ( ).
التاسعة : تعدد المعجزات يوم بدر ، لذا ورد اسم الإشارة (ذلك) للبعيد والكثير ، ولم يرد بلفظ إن في هذا .
العاشرة : قانون انتفاع الناس من آيات معركة بدر وإن كان هذا الإنتفاع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
وهل كان سبباً لتوبة وهداية طائفة من الكفار ، الجواب نعم ، سواء من حضروا المعركة أم من بلغتهم المعجزات فيها .
الحادية عشرة : معجزات معركة بدر حسية تدرك بالبصر والسمع ، لذا لم تختتم الآية بقوله تعالى (لأولي الألباب).
الثانية عشرة : توثيق القرآن لمعجزات معركة بدر ، وتقدير الآية (أن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار في كل زمان ومكان).
الثالثة عشرة : قانون المعجزة صارف للناس عن القتال .
الرابعة عشرة : قانون عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للغزو والقتال ، لأن المعجزة سبيل لهداية الناس على اختلاف مشاربهم ومداركهم العقلية .
قانون قرب مصداق الإنذار
يقال أنذره ينذره إنذاراً أي حذره وزجره.
ومن إعجاز القرآن تعدد وجوه الإنذار للذين كفروا ، ومنه قرب تحقق مصداق الإنذار ، وهو الذي يتجلى في آية البحث ، فهي لم تقل : سوف تغلبون ، بما يفيد بعد تنجز الإنذار ، بل جاءت بالسين [سَتُغْلَبُونَ] لإفادة المستقبل القريب ، فليس بين نزول آية البحث وبين هزيمة المشركين ثمة مدة تذكر.
ومن الشواهد عليه توالي معارك الإسلام ، إذ هجم المشركون في معركة بدر ونزلت بهم المصيبة والخسارة ، ورأى العرب نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهذ الرؤية ومعرفة العرب بمعركة بدر ونتائجها من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لبيان قانون من نصر الله معرفة أجيال الناس به ، ومن الإعجاز في المقام تجدد احتفال واستحضار المسلمين لمعركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من كل سنة ، إلى جانب ذكرها في الخطب والمجالس والمناهج الدراسية.
كما أن الآية أعلاه مدرسة للكليات والدراسات العسكرية في العالم بالإنتفاع منها ، من وجوه :
الأول : أسباب معركة بدر بين الحقيقة والمكر ، فالشائع أنها وقعت بسبب تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلة أبي سفيان ، ولم يثبت هذا التعرض ، أما من جهة المسلمين فلم يقصدوا القتال ، ولم يطلبوه ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتى ساعة من بدء القتال يحرص على إنصراف قريش ، ودفع سفك الدماء .
الثاني : مقدمات معركة بدر ، والإستعداد لها من الجانبين ليتبين البون الشاسع بين إستعداد مشركي قريش للمعركة وبين استعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ، من جهات :
الأولى : إعلان المشركين النفير في مكة .
الثانية : قيام عقبة بن أبي معيط وأبي جهل ونحوهما بتعيير الذي يتخلف عن النفير.
الثالثة : المناجاة في مكة بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين قتيل وأسير .
ففي جوار بيت الله يتناجون بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل الأمر السماوي إلى النبي محمد بالتعجيل بالإنذار السماوي بهزيمتهم ، ويتجلى هذا التعجيل بقوله تعالى [قُلِْ] لقانون تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية حال نزولها بالإضافة إلى استقبال الكفار الزجر والتوبيخ ، وهو من أسباب تصفيقهم وصخبهم عندما يقرأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في مكة قبل الهجرة .
و(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون [لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن ، فأنزل الله وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا( ).
الثالث : وقائع معركة بدر ، التي وثقها القرآن والسنة النبوية ، وأقوال كل من الصحابة والذين حضرو المعركة من المشركين .
الرابع : نتائج معركة بدر القريبة والبعيدة .
المراد من [غُزًّى] الكفار
قال أكثر المفسرين أن المراد من قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
(يعني المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] في النفاق ، وقيل : في النسب [إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ] ساروا وسافروا فيها لتجارة أو غيرها [أَوْ كَانُوا غُزًّى] غزاة فقتلوا)( ).
و(نهى الله سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أقوالهم و أفعالهم فقال [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا]( ) يريد عبد الله بن أبي سلول و أصحابه من المنافقين عن السدي و مجاهد وقيل هو عام [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] من أهل النفاق)( ) ( ).
وعن (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا]( ) أَيْ : لا تَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ)( ).
و(عَنِ السُّدِّيِّ : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى] ( )، قَالَ : هَؤُلاءِ الْمُنَافِقُونَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ)( ).
و(عَنْ مُجَاهِدٍ : [أَوْ كَانُوا غُزًّى] قَالَ : هُوَ قَوْلُ الْمُنَافِقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا( ).
والمختار على وجوه :
الأول : شمول المؤمنين والمنافقين في النداء السماوي [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لأن المراد التصديق الظاهري بالدعوة الإسلامية .
الثاني : إنذار المنافقين من التمادي في النفاق ، وإظهار النفاق عند تعرض المسلمين لحال الشدة والإبتلاء بهجوم المشركين .
الثالث : منع عامة المسلمين من التشبه بالذين كفروا ، ولم يختص هذا المنع بمضامين آية البحث بل يشمل التشبه بالكفار ، واِتباعهم .
ولم يكن هذا المنع مستحدثاً في شريعة النبي محمد بل هو منصوص في شرائع الرسل السابقين ، قال تعالى [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا]( ).
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)( )، لم يقل غزوة.
قانون الإمتناع عن التشبه بالكفار
النسبة بين الركون للكفار والتشبه بهم عموم وخصوص مطلق ، فالركون أعم ، قال تعالى [وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ]( ).
ومن الركون للظالمين مودتهم ونصحهم وإعانتهم وموالاتهم .
وكذا ذات النسبة بين اِتباع الذين كفروا والتشبه بهم لذا فان النهي المبارك في آية البحث [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( )، يتضمن وجوهاً :
الأول : النهي عن التشبه بالكفار بخصوص مضامين الآية وما يقولونه لاخوانهم وعن إخوانهم .
الثاني : النهي عن موارد متعددة من التشبه في القول والفعل والمناسك والشعيرة والبدعة واللباس الذي يختص بهم ، وليس اللباس الذي صار وفق العرف عاماً .
الثالث : النهي عن قبول مفاهيم الكفر والضلالة ، وأعذارهم .
و(عن أبي عبيدة بن حذيفة ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من تشبه بقوم فهو منهم)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (من تشبه بقوم عدّ منهم)( ).
لقد وردت آية البحث بنهي المسلمين جميعاً عن محاكاة الكفار والتشبيه بهم في توجيه اللوم لأصحابهم في كل من :
الأول : الذين ماتوا في الضرب في الأرض أي في السفر للبلدان البعيدة للتجارة ونحوها .
الثاني : الذين قتلوا في الغزو فيما بين القبائل .
الثالث : لوم الذين كفروا لأصحابهم الذين قتلوا في معركة بدر مثل أبي جهل ، وعتبة بن أبي ربيعة .
فليس في آية البحث وصف للمسلمين بأنهم غزىً وغزاة إنما الغزاة هم المشركون ، والنهي عن التشبيه في حال ضرب المسلمين للتجارة أو الدفاع عن النبوة والتنزيل .
تقدير [أَوْ كَانُوا غُزًّى]
وردت الآية بصيغة ضمير الجمع الغائب لإفادة غير المسلمين ، فلم تقل الآية (أو كنتم غزى).
واختلف في الأخوة الواردة في الآية الكريمة [قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] على قولين :
الأول : قول المنافقين لإخوانهم في النسب كما في قول المنافق من الخزرج مثل عبد الله بن أبي بن أبي سلول إلى الصحابة من الخزرج لانه كان رئيس الخزرج .
الثاني : قول المنافقين لإخوانهم في النفاق .
والمختار على شعبتين :
الأولى : المراد من الآية الذين كفروا وليس المنافقين .
الثانية : المراد الأخوة والتشابه في الكفر والضلالة.
والذي يدل عليه أول الآية [لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ]( )، أي إخوانهم في الكفر ، وهو من إعجاز القرآن بقانون يفسر بعض الآية بعضها الآخر .
وفيه دعوة للعلماء بالنظر إلى معنى الكلمة القرآنية من جهات:
الأولى : ذات الآية القرآنية .
الثانية : الآيات المجاورة .
الثالثة : تعدد ورود ذات الكلمة في السورة الواحدة .
الرابعة : ورود الكلمة نفسها في آيات القرآن كافة.
الخامسة : المعنى المستقرأ من السنة النبوية ، وفيه وجوه :
الأول : من مصاديق قانون القرآن معجزة عقلية تثبيته لقوانين السلم في الكتب السماوية.
الثاني : قانون السلم في السنة التقريرية.
الثالث : قانون السلم – في ثنايا السنة الدفاعية.
الرابع : قانون السلم في السنة النبوية من موضوع متحد.
السادسة : المعنى اللغوي وما ورد في الشعر العربي القديم بخصوص كلمة ما في القرآن ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
السابعة : الإجتهاد في استقراء معاني الكلمة القرآنية من الوجوه أعلاه.
من معاني [أَوْ كَانُوا غُزًّى]
يكون تفسير قوله تعالى [أَوْ كَانُوا غُزًّى]( )، على وجوه :
الأول : أو كان الذين كفروا غزىً.
الثاني : أو كان الذين كفروا غزىً بعضهم لبعض .
الثالث : أو كان الذين كفروا غزىً للمسلمين.
فحينما يُقتلون يعلن إخوانهم في الكفر ما يشبه الشماتة بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
إذ يتضمن قولهم [لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( )، ذم أفراد جيش الذين كفروا خصوصاً الرؤساء على خروجهم لقتال المسلمين .
ومن مفاهيم آية البحث دعوة المسلمين لتقوى الله ، والخشية منه وعدم الشماتة بالمؤمن إذ ابتلي بالموت إذا خرج للتجارة أو الحج أو العمرة ، وإذا قتل في ميدان الدفاع ، قال تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( ).
بحث كلامي
قال تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، وفيها إخبار عن إحاطة الله علماً بما يفعله الإنسان وما يهم به ، والخطرات التي تطرأ على ذهنه.
وخاطبت الآية المسلمين والمسلمات إكراماً وتأديباً لهم ، وإخباراً عن الأجر والثواب الذي ينتظرهم على الصالحات التي يعملونها ، وعلى التي يهمون بها ، ويرغبون بادائها ، ويحول المانع دونها ولقهر الذهن لتعكس الصور التي ترتسم في الخاطر القيم والامور الحميدة، وجعلت الاظهار والاخفاء بعرض واحد، من جهتين:
الاولى: علم الله بهما ، لبيان قانون أن الهمّ بالشئ والخاطرة النفسية من الأشياء وليست أمراً عدمياً ، ويدل عليه الجمع بين آية البحث وما فيها من المحاسبة التي لا تتم إلا مع العلم بالشئ وقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا]( ).
الثانية: المحاسبة عليهما.
وجاء العلم بهما في الآية أعلاه من سورة البقرة بجعله جزء مملوكاً مما في السماوات والأرض، أي ان علم الله تعالى بالأشياء يكون على نحو الدقة العقلية .
وخفايا النفس الانسانية امر وجودي وليس عدمياً ولكن لا يستطيع احد ان يطلع عليه الا الله، فان قلت: ان اجهزة اكتشفت لمعرفة حال الكذب من الصدق ويمكن توثيق النتائج، قلت: ان هذا الاكتشاف محدود في موضوعه ، ويدل على إعجاز الآية من جهات :
الأولى : عدم حصول الدقة في معلومات هذا الجهاز واقعاً، كما انه ليس بحجة شرعية.
الثانية : لهذا الجهاز وظائف متضادة ففيه نفع وفيه اذى، أما علم الله تعالى فهو رحمة وعون وسبب للصلاح.
الثالثة : قانون عجز الخلائق عن معرفة ما يدور في الذهن في كل ساعة.
الرابعة :ان علم تعالى بخفايا النفس الانسانية مطلق، فيشمل الخاطرة التي تمر على الذهن ثم ينساها الانسان نفسه، ولكن الله لا ينساها بل انه سبحانه يعلمها قبل حصولها وطروها ويعلم اسبابها، وهل يوطن الانسان نفسه عليها ويهم باخراجها الى عالم الاعمال ام انه يتخلى عنها ويتركها وييسرها الله عز وجل أم يجعل دونها المانع والبرزخ لقانون من العصمة امتناع المعصية .
واخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: “ان الله يقول يوم القيامة ان كتابي لم يكتبوا من اعمالكم الا ما ظهر منها، فاما ما اسررتم في انفسكم فانا احاسبكم به اليوم، فاغفر لمن شئت واعذب من شئت( ).
أي ان خفايا النفس الانسانية والخواطر التي تطرأ على القلب لا يعلمها الا الله عز وجل.
عن محمد بن مسلم سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام (عن قول الله عزوجل : يعلم السر وأخفى قال : السر ما كتمته في نفسك، وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته)( ).
الخامس : علم الله عز وجل لما في النفوس لمنفعة العباد وصلاحهم ، وصرف الفتن وعزائم الشر عنهم .
(وروى عن أسماء بنت يزيد : أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُكثر في دعائه : اللهم (يا) مقلَّب القلوب ثبَّت قلبي على دينك.
قالت : فقلتُ : يا رسول اللّه وإنَّ القلوب لتقلب .
قال : نعم ما خلق اللّه من بني آدمَّ من بشر إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه،
وإن شاء أقامه على الحق،
فنسأل اللّه تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا .
ونسألهُ أن يهبْ لنا من لدنه رحمةً إنَّهُ هو الوهاب.
قالت : قلت : يا رسول اللّه ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي .
قال : بلى قولي : اللهم ربَّ محمّد النبي .
اغفر لي ذنبي .
واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلاّت الفتن ما أحييتني)( ).
ويتعلق الإبداء والإخفاء في الآية بأمر واحد وهو ما في النفوس، وترجله في الخارج او حبسه مكراً أو حرجاً أو رأفة وما يفيد التعدد في ذات الشئ المعلوم والمغايرة والاثنينية كما ورد في قوله تعالى[وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، فما يبدونه غير ما يكتمونه.
أما هذه الآية فتتعلق بما في النفوس بالذات سواء ابدوه او اخفوه، فهي ناظرة الى الاصل والعزم وتجلي النوايا على اللسان والجوارح لان موضوعها ليس العلم وحده بل المحاسبة على ما في النفس الانسانية سواء دخل في الأعمال وخرج على اللسان ، أم أن الانسان اخفاه وستره .
موضوع الآية أعم من سبب النزول
لا يختص موضوع آية النبأ [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ] ( ) بالوليد بن عقبة وإن كان هو سبب نزولها , إذ أن المدار على عموم المعنى فيكون الإستدلال بالآية بمفهوم الوصف , فإذا كان الفاسق لا يقبل خبره من رأس ولابد من التثبت فيه , فإن خبر العدل لا يحتاج التثبت لأن قوله ليس فيه سفاهة أو جهالة , ولا يترتب على هذا القبول الندم .
وتتعلق الآية بالموضوع ومقدمات الأحكام , إذ أنها تتضمن ادعاء الوليد بن عقبة امتناع بني المصطلق عن دفع الزكاة ولا أصل لهذا الإدعاء الذي سرعان ما انكشف كذبه بمجئ وفد بني المصطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخباره بأن الوليد لم يأتهم ، ولنزول الآية أعلاه ، ومن إعجازها موت الوليد بن عقبة على الفسق .
واستدل بالآية على نحو الإطلاق حتى في الأحكام , وقيل لا خلاف في رد شهادة الفاسق لقوله تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
وهل الأصل في المسلم العدالة حتى يتبين جرحه أم الأصل بخلافه المختار هو الأول ، ومنه قاعدة حمل عمل المسلم على الصحة.
لبيان التخفيف عن المسلمين ، ومنع الخصومة والكدورة ولأن الأحكام لا تبنى على الدقة العقلية .
قانون كراهة الطلاق
لقد ورد لفظ [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ] ثلاث مرات في القرآن ، في ثلاث آيات متجاورات من سورة الطلاق وهي [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا * وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا *ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا]( ).
وهل ورودها في سورة الطلاق على نحو الخصوص دعوة لترك الطلاق ، وعدم اللجوء إليه إلا من حاجة مع أنه حلال ، ومع ضبط أحكامه وإنصاف المرأة.
الجواب نعم ، ويلزم التفقه في العبادات والمعاملات والأحكام ، قال تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ]( ).
و(عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام (قال: ما من شئ مما أحله الله عز وجل أبغض إليه من الطلاق وإن الله يبغض المطلاق الذواق.
أي الذي سرعان ما تقل رغبته بالمرأة بعد الزواج منها ، ويبتغي امرأة بصفات أخرى .
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن الله عزوجل يحب البيت الذي فيه العرس، ويبغض البيت، الذي فيه الطلاق، وما من شئ أبغض إلى الله عزوجل من الطلاق)( ).
قانون الآية دعوة للصبر
لقد أراد الله عز وجل بآية البحث وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( )، للمسلمين بناء عقائدياً يتقوم بالإيمان بالله عز وجل وقضائه وقدره ، وعدم التقاعس عن الدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل.
ليكون التباين والتضاد جلياً بينهم وبين الذين كفروا الذين إذا خرج أصحابهم الكفار في تجارة وسفر بعيد أو قتال مع قبائل أخرى أو ضد الإسلام وقتلوا أظهروا الشماتة بهم ، وقالوا أن خروجهم هو سبب موتهم أو قتلهم فيكون هذا القول [حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] بسبب غزوهم لغيرهم ظلماً وتعدياً ، وبسبب عدم تصديقهم بالقضاء والقدر.
وكان المسلمون يخرجون في الكتائب والسرايا والذين يخرجون فيها أقل من الذين يبقون في المدينة في الغالب ، كما أن النساء تبقى في المدينة ، فأراد الله عز وجل لهم التسلح بالإيمان ، وعدم نفاذ النفاق إلى نفوس العامة منهم ، وتحذيرهم من قول الكفار كمشركي مكة والقبائل الأخرى لأصحابهم [لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
فالمراد من الذين كفروا في الآية ليس المنافقين ، إنما هي زجر للمنافقين عن محاكاة الذين كفروا .
وتدعو الآية المسلمين والمسلمات عموماً إلى الدعاء لنجاة السرايا والمرابطين في الثغور ، وتشمل هذه الآية المنافقين والمنافقات لتكون واقية من إتساع النفاق في مجتمع المدينة ، ومحاصرة وفضحاً له .
وجاءت آيات قرآنية أخرى تعضيداً لآية البحث ، منها قوله تعالى [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]( ).
ليتجلى قانون لزوم إحتراز المسلمين والمسلمات من التشبه بالذين كفروا عند وقوع الموت أو القتل للتباين الموضوعي ، وإذا اختلف الموضوع تبدل الحكم .
إذ يقتل الكافر على كفره وجحوده فتكون عاقبته سوء الذكر من قبل أصحابه ، وتنتظره النار ، أما الذي يقتل في سبيل الله فانه يرقى إلى منزلة رفيعة عند الله عز وجل ليكون قانون عدم التشبه بالذين كفروا واجباً على المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات كما بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قانون المندوحة والسعة في معنى الشهادة في سبيل الله وأنها لا تختص بالقتل في ميدان القتال.
وعن جابر بن عتيق (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال غلبنا عليك يا أبا الربيع فصحن النسوة وبكين فجعل بن عتيك يسكتهن.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية.
قالوا وما الوجوب يا رسول الله.
قال الموت ، قالت ابنته إن كنت لارجو أن تكون شهيدا قد كنت قضيت جهازك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله قد أوقع أجره على قدر نيته وما تعدون الشهادة قالوا القتل في سبيل الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والمبطون شهيد والغرق شهيد وصاحب الهدم شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد وصاحب الحرق شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة)( ).
تفضيل النبي محمد (ص)
لقد نال الأنبياء أسمى مرتبة بين البشر ، كما ورد تفضيل بعض الأنبياء على بعض كما في قوله تعالى [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ]( )، وقوله تعالى [وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ]( ).
لتفتح هذه الآيات الدراسات في باب التفاضل بين الأنبياء وفق القرآن والسنة والذين صدروا من مشكاة تنزيل واحدة .
وبيان الآيات والدلائل التي يتجلى فيها تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي . بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه.
ونصرت بالرعب يرعب مني عدوّي على مسيرة شهر ، وأطعمت المغنم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأعطيت الشفاعة)( ).
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على تفضيله منه (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)( )، ومنه فضل الله عز وجل عليه بالشفاعة العظمى .
وأنكر عمرو بن عبيد من المعتزلة الشفاعة ، ولا عبرة بانكاره ، لخروجه عن الإجماع المترشح عن القرآن والسنة .
تفضيل النبي (ص) بالعبادات
يمكن دراسة التفضيل بلحاظ الموضوع خاصة مما يتعلق بالعبادات ، من جهات :
الأولى : تعدد العبادات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تعاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعبادات في أيام حياته ، ووصيته للمسلمين بها .
الثالثة : نزول القرآن بالعبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابعة : تقيد أجيال المسلمين والمسلمات بأداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
والعبادات على أقسام :
الأولى : العبادات البدنية : وهي الصلاة والصيام.
الثانية : العبادات المالية : وهي الزكاة والخمس .
الثالثة : العبادات المالية البدنية : وهو الحج .
وتدل على وجوب كل فرد منها آيات من القرآن ، ونصوص عديدة من السنة النبوية وقول المعصوم ، والإجماع ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وقال ابراهيم بن عمر بن كيسان (أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحاج صائحاً يصيح لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح)( ).
ويقصدون الفتوى بخصوص الحج ومناسكه.
وفي رواية (فان لم يكن عطاء ، فعبد الله بن أبي نجيح) ومع هذا فان الناس يقبلون على أئمة أهل البيت في موسم الحج في الفتوى بخصوص الحج وغيره من العبادات والمعاملات.
وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته بكمال الدين وتمام النعمة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
المعجزة الحسية الذاتية والغيرية
من وجوه تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنفراده باجتماع المعجزة العقلية والحسية .
تُقسم معجزات الأنبياء إلى قسمين :
الأول : المعجزة الحسية .
الثاني : المعجزة العقلية التي انفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولفتح أبواب كلامية على العلماء والمحققين قمت بشطر المعجزة الحسية إلى شعبتين:
الأولى : المعجزة الحسية الذاتية .
الثانية : المعجزة الحسية الغيرية .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اجتماع هذه الأفراد في واقعة واحدة كما في قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ) فالمعجزة العقلية ذات الآية القرآنية, ونسبة الرمي إلى الله سبحانه.
والمعجزة الحسية الذاتية رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي قبضة من تراب يوم بدر لتبلغ أفراد جيش المشركين ، وعددهم (950).
وأما المعجزة الحسية الغيرية فهي دخول ذرات هذه القبضة إلى مناخرهم وعيونهم ليولوا هاربين.
ومن الشواهد اليومية للمعجزة الحسية الغيرية أداء المسلمين مناسك العمرة ، والسنوية بأداء المسلمين مناسك الحج.
ومن الإعجاز في المقام استمرار هذه المناسك لعدة أيام أما مقدماتها فتسبقها بأشهر ، لذا قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وأشهر الحج هي :
الأول : شوال .
الثاني : ذو القعدة .
الثالث : ذو الحجة .
ويدخل شهرا ذي القعدة وذي الحجة في الأشهر الحرم الأربعة وهي :
الأول : ذو القعدة .
الثاني : ذو الحجة .
الثالث : محرم .
أشهر ثلاثة متصلة .
الرابع : شهر رجب ، وهو منفصل .
ولا يؤدي مناسك حج البيت الحرام إلا المسلمون مع أنه فريضة على الناس جميعاً ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
شواهد التفضيل في أداء الحج
من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أداء الحج بلحاظ عنوان هذا الجزء (آيات الدفاع سلام دائم) وجوه :
الأول : فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، واسقاط جميع الأصنام التي في البيت الحرام .
وعن عبد الله بن مسعود (قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثُمائة وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا( ).
الثاني : قانون فتح مكة سلماً من غير قتال يعتد به ، وفيه معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فقبل الفتح بثلاث سنوات سارت قريش بعشرة آلاف رجل لاستباحة المدينة وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليسعى رجالها يوم الفتح في إيجاد مكان آمن لهم فيعطي النبي محمد أماناً عاماً لمن دخل المسجد الحرام فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجره، ولا يُخْتَلى خَلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم .
يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه -قتالَه أهلها يومَ فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة، وقيل: صلحًا)( ).
والذي أذهب إليه بفتح مكة سلماً أمر مستحدث فليس من قتال يعتد به ، وليس من صلح بين طرفين ، فقد لجأ رجالات قريش إلى البيت الحرام بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من غلق باب داره لمنع الإحتكاك مع الصحابة.
وهل يتعارض القول فتحت مكة سلماً مع قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه).
الجواب لا ، فالحلية أعم من وقوع القتال ، إنما تشمل الدخول بالسلاح والإذن بالدفاع ضد المشركين من أمثال عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو وبعض الأحابيش والإستعداد للدفاع ، وهذه الحلية من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
وجاءت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ للبيان والتفسير من جهتين :
الأولى : السنة الفعلية : بامتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتال وأمره لأصحابه باجتناب القتال وتوجيهه اللوم لخالد بن الوليد لقيامه بالقتال ، والذي اعتذر .
وقال الطبري (قال لخالد والزبير حين بعثهما لا تقاتلا إلا من قاتلكما فلما قدم خالد على بنى بكر والاحابيش بأسفل مكة قاتلهم فهزمهم الله عز وجل ولم يكن بمكة قتال غير ذلك غير أن كرز بن جابر أحد بنى محارب بن فهر وابن الاشعر رجلا من بنى كعب كانا في خيل الزبير فسلكا كداء ولم يسلكا طريق الزبير الذى سلك الذى أمر به فقدما على كتيبة من قريش مهبط كداء فقتلا ولم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال ومن ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس إليه يبايعونه فأسلم أهل مكة وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عندهم نصف شهر لم يزد على ذلك حتى جاءت هوازن وثقيف فنزلوا بحنين)( ).
الثانية : السنة القولية : عفو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل مكة قاطبة ، وعصمته من الثأر والغضب والإنتقام ، إذ دخل يوم الفتح الكعبة ، وصلى فيها (ثُمّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اُسْتُكِفّ لَهُ النّاسُ فِي الْمَسْجِدِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدّعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِئَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ .
قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ .
قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ)( ).
الثالث : بعث آيات الدفاع الخوف والرعب في قلوب المشركين يوم فتح مكة ، وعجزهم إعلان النفير وجميع الجيوش ، وحتى لو أعلنوا النفير فليس من أنصار كثيرين .
الرابع : دخول أكثر أهل مكة الإسلام قبل فتح مكة .
الخامس : حضور منافع آيات الدفاع ونتائج معارك الإسلام الأولى يوم الفتح ، أما الصحابة فانهم يرجون الفتح مع الثبات على الإيمان ، وأما المشركون فانهم ذكروا خسائرهم في معارك الإسلام الأولى حيث قلة عدد وعدة المسلمين بينما حضر مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشرة آلاف من الصحابة ليدرك الناس جميعاً باب الأولوية في المقام .
السادس : موضوعية قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، يوم فتح مكة ، وهل يكون هذا الرعب جلياً ظاهراً لأنه بجوار البيت ، وجحود المشركين بنصبهم الأصنام فيه ، الجواب نعم .
السابع : عدم قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( )، ومثابة أي يثوبون يأتون إليه ثم يرجعون إليه مرة بعد مرة .
و(قال ابن عبّاس : يعني معاذاً وملجأً)( ).
عدد حج النبي (ص)
يمكن تقسيم حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبيت الحرام إلى جهات :
الأولى : الحج قبل البعثة النبوية ، وأختلف في عدد حج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والأصل هو حرص قريش وغيرهم من العرب على أداء الحج ، وتعاهده ، والتفاخر به .
الثانية : حج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة وقبل الهجرة إلى مكة ، وكان النبي محمد يدعو الناس في المشاهد والمناسك إلى الإسلام مع شدة ايذاء قريش ، وتكذيبهم له أمام وفد الحاج.
الثالثة : حج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة واحدة بعد الهجرة وهي حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (حج رسول الله صلى الله عليه واله فقال : عشرين حجة)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عليهما السلام (عن جابر بن عبدالله ، قال : حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة قرن معها عمرة)( ).
ويفيد الجمع بين الخبرين أن المراد بحديث جابر هو الحج بعد البعثة النبوية .
و(عن البراء بن عازب، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة)( ).
و(عن جبير بن مطعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال : يا بني عبد المطلب أو يا بني عبد مناف إن وليتم من هذا الأمر شيئًا فلا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار)( ).
قانون التخفيف دفع للقتال
من عظيم قدرة الله وسعة سلطانه أمور :
الأول : قانون استجابة الكائنات كلها لله عز وجل .
الثاني : قانون مقاليد كل شئ بيد الله عز وجل وحده .
الثالث : قانون اختصاص الله عز وجل بالعلم بكل شئ .
ومع عظيم خلق الملائكة وكثرتهم التي يعجز الناس عن إحصائها فان علمهم محدود ومنحصر بما علمهم الله وحده إذ قالوا عند خلق آدم [قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
ولم يرد لفظ (لا علم) في القرآن إلا مرتين ، إذ وردت الأخرى بخصوص الرسل في الآخرة بقوله تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ]( ).
لبيان عدم علم غيرهم من الخلائق إلا ما علمهم الله من باب الأولوية القطعية .
فلا يعلم الأنبياء بأمور :
الأول : عدد الذين استجابوا لدعوتهم في أيام حياتهم وما بعدها .
الثاني : خفايا النفوس وصدق الإيمان .
الثالث : لا يعلم الرسل عدد المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر إلا ما علمهم الله عز وجل .
الرابع : الذين صدوا عن دعوة الرسل .
الخامس : المكائد والمكر الذي فعله أعداء التوحيد والنبوة .
السادس : مراتب إيمان المسلمين وإخلاصهم وأدائهم الفرائض العبادية.
والإستجابة إلى الرسل من اللطف الإلهي الذي لا يحيط به إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
وهداية الناس إلى الإيمان مقدمة وسبب لزجر المشركين عن قتال الأنبياء ، كما يتجلى في زيادة أعداد المسلمين على نحو تدريجي ، وكأنه يحاكي التوالي والتعاقب في نزول آيات القرآن ، وهو من بركات هذا التعاقب ، ليكون كل منهما زاجراً عن القتال .
قانون الإحتراز بالإستعداد للدفاع
وأمر الله عز وجل المسلمين بأخذ الحيطة من المشركين بالإستعداد للقتال ، وإعداد العدة له ، لبيان معجزة للقرآن في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ]( ).
ولم يتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولحوق الأمِة به بل توجه الخطاب إلى المسلمين جميعاً ، وهل يشمل النساء أم لا ، لأن القتال ساقط عن النساء .
الجواب هو الأول ، لبيان تعلق أحكام الآية بمقدمات إجتناب القتال ، ودرء الفتن ، لتساهم المرأة في الجهاد بمالها ، للحيلولة دون القتال وسفك الدماء .
فمن منافع الآية أعلاه والإمتثال لما فيها من الأوامر وجوه :
الأول : قانون استدامة حذر المسلمين من الذين كفروا .
الثاني : قانون الإبتعاد عن الغفلة .
الثالث : جمع المسلمين للعدة والسلاح .
الرابع : التمرين على القتال والرمي وركوب الخيل والسباحة .
الخامس : قانون تقيد المسلمين بأداء الفرائض العبادية ، فصحيح أن الآية جاءت باتخاذ العدة للدفاع إلا أنها تبعث على اليقظة ، وتدعو إلى الحرص على أداء الصلاة وإتيان الزكاة ، خصوصاً وأن من مصارف الزكاة سهم (في سبيل الله) قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
السادس : إحتراز وامتناع المشركين عن الهجوم على المدينة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
السابع : قانون بعث السكينة في نفوس المسلمين ، بالإستعداد للدفاع ، وصدّ المشركين .
الثامن : منع الإختلاف والشقاق بين المسلمين في إعداد الخيل والأسلحة للدفاع أو القول بتسخر الأموال للبنى التحتية والأعمار .
ومن إعجاز الآية تقييد الإنفاق على الدفاع لقوله [مَا اسْتَطَعْتُمْ] لبيان تخصيص نسبة من الموارد للدفاع بحسب قلة أو شدة التهديد من قبل الذين كفروا وجيشوهم ، ومدة مصداقية هذا التهديد واقعاً.
وهل التخفيف بدفع وصرف القتال من مصاديق الرحمة ، الجواب نعم.
(وروى الصادق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم، وأخر تسعاً( ) وتسعين رحمة يرحم بها عباده)( ).
الجواب نعم فمن مصاديق الرحمة ما تكون على نحو القضية الشخصية ، ومنها النوعية ، ومنها محو القتال وسفك الدماء والمعاصي ، وتثبيت الهدى والإيمان والفطنة ، واليقظة ، والإنفاق في سبيل الله عند المؤمنين ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
خصائص الدعوة النبوية في مكة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن النسبة بين مصاديق الدعوة في مكة وفي المدينة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، ومادة للإفتراق بينهما .
أما مادة الإلتقاء فمن وجوه متعددة منها :
الأول : نزول آيات وسور القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء في مكة أو المدينة .
الثاني : توالي المعجزات الحسية التي تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : مواظبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلاة في أوقاتها .
الرابع : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الإسلام .
الخامس : ملكة الصبر عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : شدة الأذى من مشركي قريش ، وعداوتهم له ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
السابع : دخول الناس الإسلام ، سواء في مكة أو المدينة .
الثامن : إحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا.
التاسع : مصاحبة الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ]( ).
العاشر : تعدد محاولات قريش لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء في مكة أو المدينة .
الحادي عشر : أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، وأذاهم للنبي وأصحابه في المدينة هو الأكثر إذ هجموا بجيوش عظيمة ، وسيوف مهندة( ).
أما مادة الإفتراق : فتتصف الدعوة في مكة بوجوه :
الأول : ابتداء البعثة النبوية في مكة .
الثاني : نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء وهو ابن أربعين سنة ، وقبلها بثلاث سنوات كان يرى الرؤيا التي تتضمن الإخبار بأنه نبي .
الثالث : كان النبي يتحنث ، ويميل الى الإنفراد عن قومه لما هم عليه من الضلال وعبادة الأوثان ، وكلما قربت أيام البعثة إزداد ميله للخلوة ، وكان التحنث في غار حراء من عادة العُباد والزهاد .
ويبتعد جبل حراء عن البيت الحرام (4) كم على يسار الذاهب إلى عرفات .
والغار فجوة صغيرة في أعلى الجبل وارتفاعه 634م ، كما يطلق على الجبل جبل حراء نسبة إلى الغار الذي فيه ، وجبل الإسلام وجبل النور ، وهو جزء من الحرم ، والذي يقف على رأس هذا الجبل يشاهد أبنية مكة ، وساعة الحرم .
وطول الغار أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلاث أرباع الذراع.
الرابع : أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في المسجد الحرام في مكة ، أما بعد الهجرة فقد قام ببناء المسجد النبوي .
الخامس : وقوع معارك بين النبي والمشركين بعد الهجرة ، باصرار وتعد من المشركين .
السادس : نصرة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسمية القرآن للصحابة بالمهاجرين والأنصار ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
السابع : عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق المدينة مع اليهود الذين فيها .
الثامن : عقد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
التاسع : مدة إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة ومدة إقامته في المدينة عشر سنوات .
العاشر : كثرة الصحابة في المدينة من المهاجرين والأنصار .
الحادي عشر : تحقق النصر والفتح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة فلم يغادر النبي محمد الدنيا حتى نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الثاني عشر : توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة الرسائل إلى ملوك وأمراء عصره يدعوهم إلى الإسلام .
الثالث عشر : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحجة الوداع من المدينة في السنة العاشرة للهجرة .
الرابع عشر : بيان تمام أحكام الشريعة في المدينة ، ومن آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
تحنث النبي (ص) في مكة
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجاور في حراء شهراً من كل سنة ، وقيل هو شهر رمضان ، وهذه المجاورة طريقة من يتحنث من قريش أيام الجاهلية ، والتحنث التبرز والتعبد ، أي أن النبي محمداً ليس هو الوحيد الذي تحنث في غار حراء ، ولا يتسع هذا الغار إلا لأربعة أشخاص .
وقال أبو طالب في قصيدة طويلة يؤكد فيها تعاهده لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذبه وبني هاشم عنه بالسيف ، ومنعهم أيدي قريش من الوصول إليه حتى يهلكوا دونه ودون نبوته ونزول القرآن :
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ … وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ حَقّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ … وَبِاَللّهِ إنّ اللّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ … إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالْأَصَائِلِ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةٌ … عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا … وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثُلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللّهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ … وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ … إلَالٌ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ الْقَوَابِلِ
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيّةً … يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى … وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ
وَجَمْعٍ إذَا مَا الْمُقْرَبَاتِ أَجَزْنَهُ … سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا … يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ
وَكِنْدَةُ إذَا هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيّةً … تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ
حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا احْتَلَفَا لَهُ … وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الْوَسَائِلِ
وَحَطْمِهِمْ سُمْرَ الصّفَاحِ وَسَرْحُهُ … وَشَبْرِقَهٌ وَخْدَ النّعَامِ الْجَوَافِلِ
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مُعَاذٍ لِعَائِذٍ … وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللّهَ عَاذِلِ
يُطَاعُ بِنَا الْعُدّى وَوَدّوا لَوْ انّنَا … تُسَدّ بِنّا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نَتْرُكُ مَكّةَ … وَنَظْعَنُ إلّا أَمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نُبْزَى مُحَمّدًا … وَلَمّا نُطَاعِنُ دُونَهُ وَنُنَاضِلْ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصَرّعَ حَوْلَهُ … وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ إلِيْكُمُ … نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلَاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ… مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ
وَإِنّا لَعَمْرُ اللّهِ إنْ جَدّ مَا أَرَى … لَتَلْتَبِسَنّ أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ( ).
وفيه شاهد بأن النبي محمداً ليس ضعيفاً في مكة وأنه لم يمتنع عن تبليغ رسالته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
و(قال البراء بن عازب : عرض جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة السبت وليلة الأحد، ثم أتاه بالرسالة ليلة الاثنين ففجأه الحق – وفي لفظ: فجاءه الحق – وهو في غار حراء وفي رواية: فأتاه جبريل وميكائيل، فنزل جبريل وبقي ميكائيل واقفا بين السماء والأرض ، فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو.
قال : هو هو.
قال : فزنه برجل ، فوزنه به فرجحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : زنه بعشرة فوزنه فرجحهم.
قال : زنة بمائة ، فوزنه فرجحهم.
قال: زنة بألف ، فوزنه فرجحهم.
ثم جعلوا يتساقطون عليه من كفة الميزان فقال ميكائيل: تبعته أمته ورب الكعبة ثم أجلس على بساط كهيئة الدرنوك، فيه الياقوت واللؤلؤ .
فقال أحدهما لصاحبه: شق بطنه ، فشقه فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحها.
فقال أحدهما لصاحبه : خط بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاء.
ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاطه.
ثم أجلساه فبشره جبريل برسالة ربه حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له جبريل: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ ، فغطه حتى بلغ منه الجهد .
ثم أرسله فقال له اقرأ قال : ما أنا بقارئ.
فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال له اقرأ قال: ما أنا بقارئ فغطه حتى بلغ منه الجهد.
ثم أرسله فقال : [اقْرَأْ]( ) أو جد القراءة : مبتدئا [بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، الخلائق [خَلَقَ الْإِنْسَانَ]( ) الجنس [مِنْ عَلَقٍ]( ) جمع علقه وهي القطعة اليسيرة من الدم الغيظ وجمعها لأن الإنسان في معنى الجمع [اقْرَأْ]( ) تأكيد للأول.
[وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ] ( ) الذي لا يوازيه كريم.
[الَّذِي عَلَّمَ]( ) الخط [بِالْقَلَمِ] ( ) وأول من خط إدريس صلى الله عليه وسلم.
ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنيعا وتدبيرا وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة فقال [عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ) وتعليمه الهدى والكتابة والصناعة والزراعة وغيرها.
وهذا القدر من هذه السورة هو الذي نزل أولا بخلاف بقية السورة فإنما نزل بعد ذلك فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ترجف بوادره.
وفي لفظ: فؤاده.
لا يلقاه حجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله.
فرجع إلى بيته وهو موقن قد فاز فوزا عظيما فدخل على خديجة فقال : (زملوني زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع)( ).
وهل كانت رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل ، وضمه له في حال اليقظة أم المنام .
الجواب هو الأول ، فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال يقظة ، كما أنه عند رجوعه إلى بيت خديجة كان الحجر والشجر يسلم عليه بصفة الرسالة مما يدل على كون الوحي باليقظة ، وفيه بداية تنزيل الكتاب السماوي الجامع للأحكام الشرعية ، والسالم من التحريف إلى يوم القيامة .
ضروب إيذاء قريش للنبي (ص) في مكة
لقد كان رد قريش على الدعوة إلى الإيمان في مكة من الجحود منها :
الأول : السخرية والإستهزاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : التصفيق والصفير لمنع الناس من السماع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوته آيات القرآن ، قال تعالى [وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
الثالث : إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونعته بأنه كذاب .
الرابع : حض الناس على عدم التصديق برسالته.
الخامس : الإمتناع عن التصديق بنزول القرآن من عند الله مع تجلي إعجازه العقائدي والبلاغي ، وتضمنه البشارة والإنذار والوعد والوعيد ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا]( ).
السادس : ضرب حصار اقتصادي واجتماعي على بني هاشم استمر لثلاث سنوات .
السابع : إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدنه في المسجد الحرام عندما يصلي ، وخارج المسجد الحرام ، وفي مواطن الحج في عرفة ومنى .
وعن عبد الله بن مسعود (قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزورٍ قريب منهم.
فقالوا: مَنْ يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة بن أبي معيط: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم عليك بالملأِ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة. اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف ، أو أمية بن خلف .
فقال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي أو أمية فإنه كان رجلاً ضخماً فتقطع)( ).
وكان أبو لهب ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(فكان يطرح العذرة والنتن على باب النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان جاره، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أي جوارٍ هذا يا بني عبد المطلب ! فرآه يوماً حمزة فأخذ العذرة وطرحها على رأس أبي لهب، فجعل ينفضها عن رأسه ويقول: صابئ( ) أحمق ، فاقصر( ) عما كان يفعله لكنه يضع من يفعل ذلك)( ).
الثامن : تعذيب قريش لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينحصر هذا التعذيب بالرجال من المسلمين بل شمل رهطاً من المسلمات الأوائل منهن :
الأولى : (لبيبة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب، وكان عمر يعذبها حتى تفتن ثم يدعها، ويقول: إني لم أدعك إلا سآمةً، فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم.
الثانية : زنيرة ، وكانت لبني عدي، وكان عمر يعذبها، وقيل: كانت لبني مخزوم، وكان أبو جهل يعذبها حتى عميت، فقال لها: إن اللات والعزى فعلا بك.
فقالت : وما يدري اللات والعزى من يعبدهما ؟ ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على رد بصري، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد .
زنيرة بكسر الزاي، وتشديد النون، وتسكين الياء المثناة من تحتها، وفتح الراء.
الثالثة : النهدية، مولاة لبني نهد، فصارت لامرأة من بني عبد الدار فأسلمت، وكانت تعذبها وتقول: والله لا أقلعت عنك أو يبتاعك بعض أصحاب محمد .
ومنهم: أم عبيس، بالباء الموحدة، وقيل عنيس، بالنون، وهي أمة لبني زهرة، فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
الرابعة : سمية بنت خباط والدة عمار بن ياسر (كانت سابعة سبعة في الإسلام عذبها أبو جهل وطعنها في قبلها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام. وكان ياسر حليفاً لأبي حذيفة فزوجه سمية فولدت عماراً فأعتقه وكان ياسر وزوجته وولده منها ممن سبق إلى الإسلام)( ).
وكان أبو جهل يأتي الرجل الشريف( ) ويقول له: أتترك دينك ودين أبيك وهو خير منك ، ويقبح رأيه وفعله ويسفه حلمه ويضع شرفه، وإن كان تاجراً يقول: ستكسد تجارتك ويهلك مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به حتى يعذب)( ).
التاسع : سعي قريش في إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه إنجاز خطط قتله ليلة الهجرة ، باحاطة عشرة من شباب قريش لداره في شعب أبي طالب في مكة وإرادة الإجهاز عليه في فراشه عند السحر ، فنزل جبرئيل عليه السلام وأمره بالهجرة في الحال ، وفيه معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال تعالى [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وكان الثالث معهم في طريق الهجرة عبد الله بن أريقط الديلي دليلاً ، ولم يكن يومئذ مسلماً ، وقيل كانوا أربعة ورابعهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر.
العاشر : منع المعتمرين ووفد الحاج من الإتصال بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الحادي عشر : إخافة القبائل من إيواء ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ).
الثاني عشر : تشديد المشركين على أولادهم وعوائلهم ، ومنعهم من دخول الإسلام ، وحبس بعضهم .
حديث (نُصرت بالرعب) سلام
الرعب شدة الخوف المباغت ، وفقدان رباطة الجأش وهو من أهم مقدمات وأسباب نصر الطرف الآخر ، لذا تجتهد رئاسة الجيوش في هذا الزمان بالحرب النفسية ، والوقاية منها ، ولكنها صاحبت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضد المشركين على نحو الإعجاز والتحدي السالم من المعارضة.
فلا يستطيع الشعر والأراجيز لشعراء ونساء قريش منع الرعب من النفاذ إلى قلوب المشركين .
و(عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء الله ، قلنا يا رسول الله ما هو؟ قال : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي تراب الأرض طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم)( ).
وتقدير نُصرت بالرعب أي نصرني الله ببعث الرعب في قلوب أعدائي مني قبل أن أصلهم بمسيرة شهر ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية الظاهرة ، ويدل عليه قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وظهور الرعب والخوف على المشركين بانهزامهم في نفس يوم معركة أحد مع أنهم هم الذين أصروا على القتال ، وقاموا بالإبتداء به .
كما ظهر الرعب جلياً على أبي سفيان وأصحابه بالإنسحاب من معركة أحد في ذات اليوم الذي بدأت به مع أن الجولة لهم بعد أن كانت للمسلمين.
وهل كان الرعب حاضراً في كل معركة من معارك المسلمين الأولى ، الجواب نعم .
وذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الرعب أعلاه إنفراده من بين الأنبياء بفضل من الله عز وجل في خمس خصال .
وتتجلى في إنسحاب المشركين في معركة أحد موضوعية واثر الملائكة وكذا في الخندق .
قانون النصر بالرعب رحمة
لقد نصر الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرعب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فهذا الرعب رحمة بالمسلمين وعوائلهم ومدنهم ، وهو رحمة بالكفار من جهات :
الأولى : الكفار الذين يتوجهون إلى قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، فحالما يخرجون من مدنهم وقراهم للقتال يبتليهم الله بالرعب الخاص والعام ، ومن العام ما يظهر على ألسنتهم وأفعالهم ، والفرقة والشقاق بينهم .
الثانية : الكفار الذين يتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، لإنذارهم إذ يملأ الخوف قلوبهم ، ويبادر أكثرهم إلى التفرق والفرار.
وهل يختص هذا الرعب بكتائب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تسمى في كتب السيرة غزوات رسول الله ، الجواب لا.
إنما هي مطلقة ، وتشمل السرايا التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنها سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب ومعه ستون رجلاً كلهم من المهاجرين في شهر شوال من السنة الأولى للهجرة ، ولقوا أبا سفيان ومعه مائتان عند بطن رابغ ، وترامى الفريقان بالنبل ، ولم يقع قتال.
وتبعد رابغ عن المدينة المنورة نحو (250)كم وعن مكة نحو (200) كم ، وصارت ميقات أهل مصر والشام ومن يمر عليها .
ومثلاً في كتيبة تبوك التي ضمت أكبر جيش للمسلمين إذ بلغ ثلاثين ألفاً في أوان الصيف ، وزمن قحط بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبوكاً ، ولبث فيها عشرين ليلة .
ولم يلق قتالاً والحمد لله ، إلا سرية من المسلمين توجهت بأمره إلى دومة الجندل ، لتأسر أميرها ، الذي صالح المسلمين على دفع الجزية ، وكذا صالح ملك أبلة (العقبة) على الجزية .
الثالثة : بعد عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك وفدت قبائل العرب إلى المدينة لمبايعته ودخول الإسلام وسمي العام التاسع للهجرة عام الوفود.
ومنهم وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلاً وخلفوا مسيلمة بن حبيب الكذّاب في رحالهم يحفظها ، ولما عادوا إلى اليمامة ارتد وتنبأ كذباً ، وشهد له زوراً الرّجال بن عنفوة .
وكتب له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب ،سلام على من اتبع الهدى أما بعد [إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وقُتل مسيلمة في معركة اليمامة في حروب الردة سنة (11) للهجرة ، قتله وحشي الذي الذي سئل وقد سكن حمص (ألا تخبرنا بقتل حمزة فقال نعم إن حمزة قتل طعيمة بن عدى فنذر لى مولاى جبير بن مطعم إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر .
فلما خرج الناس عام عينين – وعينين جبل تحت أحد بينه وبينه واد – خرجت مع الناس إلى القتال فلما اصطفوا للقتال .
خرج سباع فقال هل من مبارز فخرج إليه حمزة فقال يا سباع يا ابن أم انمار يا ابن أم مقطعة البظور أتحارب الله ورسوله ثم شد عليه فكان كامس الذاهب .
وكمنت لحمزة تحت صخرة حتى مر على .
فلما أن دنا منى رميته بحربتي فأوقعتها في ثنته حتى دخلت من وركيه فكان ذلك آخر العهد به .
فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الاسلام ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا وقالوا إنه لا يهيج الرسل فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما رأني قال أنت وحشي قلت نعم .
قال أنت قتلت حمزة قلت قد كان من الامر الذى بلغك يا رسول الله قال أما تستطيع أن تغيب وجهك عنى قال فرجعت .
فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرج مسيلمة الكذاب قلت لاخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله وأكافئ به حمزة فخرجت مع الناس فكان من أمرهم ما كان قال وإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس قال فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه قال ودب إليه رجل من الانصار حتى ضربه السيف على هامته)( ).
الرابعة : الكفار الذين لم يصل إليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا السرايا التي يبعثها في أرجاء الجزيرة ، لعمومات الرعب ، ولقوله تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
من معاني [تَثْقَفَنَّهُمْ]
وفي معنى [تَثْقَفَنَّهُمْ] وجوه :
الأول : تصادف الذين كفروا .
الثاني : تظفر بهم .
الثالث : أدركتهم في القتال وأسرتهم .
الرابع : التمكن من المشركين قبل أو بعد القتال ما دامت حال الحرب قائمة .
يتعلق موضوع الآية بالذين ينقضون عهدهم كل مرة من الذين كفروا لما في قتالهم من تأديب لغيرهم ، وزجر لهم عن الهجوم على المدينة وغزوها .
وفي قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( )، ورد عن قتادة في الآية (قال : ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالعفو ، ويحث عليه ويرغب فيه حتى أمر أن يعفو عمن لا يرجو أيام الله ، وذكر أنها منسوخة نسختها الآية التي في الأنفال فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ( ).
ولم ينسب قتادة هذا النسخ إلى ابن عباس .
والمختار أن الآية محكمة غير منسوخة وتتضمن الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقول ويأمر المسلمين .
وتقدير الآية (يا أيها الرسول قل للذين آمنوا من الصحابة والتابعين وفي كل جيل من المسلمين يغفروا للذين لا يرجون ايام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون).
وهو من الشواهد على حاجة المسلمين والناس جميعاً لسلامة القرآن من التحريف ، وتكفل القرآن بهذه السلامة بوعد من الله لأجيال الناس المتعاقبة بقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
والنصر بالرعب برزخ دون القتال ، وإن حدث قتال المسلمين فهو دفاع ضد أناس يملأ قلوبهم الرعب ، لذا لم يحقق المشركون أي نصر في معارك الإسلام الأولى .
قانون الملازمة بين الشرك والرعب
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نصر الله عز وجل له بالرعب لبيان قانون المنع من القتال ، إذ أن العلة التامة للفعل هي وجود المقتضي وفقد المانع .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وجود المقتضي للقتال لأن سلطان القرآن في الدعوة إلى الله أعظم من القتال ، لذا جاءت الآية بصيغة العموم ، ونفاذ الرعب إلى قلوب المشركين سواء كانوا في مكة أو غيرها من القرى والأمصار .
وعزموا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يعزموا على قتاله ، ليكون من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نُصرتُ بالرُّعب)( )، مسائل :
الأولى : قانون استيلاء الرعب على قلوب المشركين مانع من خوضهم المعارك المتصلة .
الثانية : قانون نفاذ لقلوب المشركين سبب لإنسحاب المشركين السريع من المعارك ، إذ انهزموا في اليوم الذي بدأت به معركة بدر في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة .
وفي معركة أحد إنسحبوا في ذات اليوم أيضاً بعد أن عزموا على الفرار من الساعات الأولى للقتال في اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، لولا ترك الرماة المسلمين مواقعهم التي جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها طمعاً منهم في الغنائم بعد أن رأوا المشركين بدأوا بالفرار مع أن عددهم في الميدان يومئذ أكثر من أربعة أضعاف المسلمين وفي طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأبي سفيان والمشركين في حمراء الأسد بعد معركة أحد .
ورد عن ابن عباس في حديث (قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب)( ).
الثالثة : قانون الملازمة بين الشرك والرعب معجزة غيرية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين وهناك مسألتان :
الأولى : هل إصابة المشركين بالرعب خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : هل من نفع للمؤمنين من إيقاع الرعب في قلوب المشركين.
أما المسألة الأولى فالجواب إيقاع الرعب عام في المشركين الذين يحاربون الأنبياء ، ولكن الخاص منه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رعب وفزع المشركين منه مسيرة شهر من قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم أو توجههم لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله وجعل أصحابه بين قتيل وأسير .
إذ ورد عن ابن عباس قال (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي . بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه .
ونصرت بالرعب يرعب مني عدوّي على مسيرة شهر ، وأطعمت المغنم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأعطيت الشفاعة ، فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة ، وهي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئاً)( ).
وما يصيب المشركين من الفزع والرعب في محاربة الأنبياء السابقين أقل من هذه المدة ومسافتها ، والمراد من الأحمر والأسود أي العجم والعرب ، وإرادة عموم الناس ولأن الغالب على ألوان غير العرب من العجم البياض والحمرة .
أما الغالب من الأسود العرب وأفريقيا لأن الوان أكثر العرب السُمرة والأدمة .
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، إن أخذ المشركين بالذعر والخوف سبب لقانون سلامة أصحابة الأنبياء من الوهن والإستكانة.
قانون الرعب مانع من القتال
يتجلى قانون ذعر وخوف المشركين سبب لهزيمتهم إن وقع القتال ليكون من معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، دعوة المشركين لأمور:
الأول : إجتناب قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بيان معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات نفوس المشركين بطرو حال ضيق وخوف ورعب في نفوسهم عند بعثته .
الثالث : دعوة المشركين للتساؤل عن سبب حال الرعب والفزع الذي ملأ قلوبهم مناسبة للتوبة.
الرابع : قانون استحضار الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كسبب للرعب الذي استولى على قلوب المشركين .
الخامس : تغشي الرعب لمجتمع المشركين ، وظهوره في مشاورتهم لينعكس باجتنابهم قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
السادس : قانون أخذ الخوف المشركين وسيلة سماوية لانتصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم .
وصحيح أن الرعب كيفية نفسانية إلا أنه لها مبرز خارجي في القول والفعل الفردي والجماعي.
لذا وردت الآية بصيغة الجمع (في قلوب الذين أشركوا) ليكون عملهم شاهداً على فزعهم ، وفيه دعوة لهم للمناجاة بالتوبة والإنابة ، وهو من أسرار إسلام كثير من رجالات قريش بالتحاور بينهم في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والقبح الذاتي لعبادة الأوثان والبقاء عليها.
النسبة بين آيات القتال والرعب
من خصائص قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، قانون ابتداء تنزيه الأرض من الشرك برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل هذا الإبتداء عاجل أم آجل ، الجواب هو الأول بدليل ورود الآية بالسين [سَنُلْقِي] الذي يفيد الفورية ، فالرعب مصاحب لمشركي مكة قبل خروجهم إلى معركة أحد ، وكلما اقتربوا من المدينة إزداد رعبهم لبيان أن الرعب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
فما دام المشركون بجوار البيت الحرام فان الرعب يملأ صدورهم ، وهو من مصاديق البيان والتفسير لآية الرعب أعلاه بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب يرعب مني عدوّي على مسيرة شهر)( ).
وبين مكة والمدينة مسيرة ستة أيام لراكب البعير وهي وسيلة النقل بين الأمصار في تلك الأيام.
ومع استحداث وسائط نقل سريعة ، فهل يبقى تقدير شهر الرعب هذا خاصاً بقوافل الإبل أم يشمل السيارة والقطار ونحوهما.
الجواب هو الثاني بذات مدة الشهر لأصالة الإطلاق فيلحق الرعب بالمشركين قبل المسير بشهر مسير السيارة ، ويتجلى بوسائل الحديثة ذات صبغة العالمية .
إذ أن الأرض ملك لله عز وجل وحده ، ولم يخلق الناس إلا للإقرار بالوحدانية ، وعبادته وحده ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ولا يرضى الله بهذا الإقرار وحده بل لابد من طاعته تعالى وأداء الفرائض العبادية حسب الشرائع التي جاء بها الرسل ، ونسخ اللاحقة منها للسابقة.
والمختار أن النسبة بين إرعاب المشركين ، ووقوع القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم عموم وخصوص مطلق ، فإرعابهم وإخافتهم أعم وتأتيهم في حال الحرب والسلم ، وتقدير حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصرت بالرعب في حال الحرب والسلم ، فينفذ الرعب والخوف منه إلى قلوب المشركين وإن كانوا في بيوتهم ، ويمتنعون عن إيذاء المؤمنين ، وعن التحشيد للقتال وغزو المدينة .
قوانين في منافع الرعب
الأول : قانون صرف القتال بالرعب الذي يلقيه الله عز وجل في قلوب المشركين .
الثاني : قانون الرعب سيف سماوي ضد الشرك .
الثالث : قانون الرعب سبب لإنحسار الشرك ومفاهيم الضلالة .
الرابع : قانون الرعب تعضيد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته .
الخامس : قانون الرعب وسيلة سماوية لقصر مدة القتال .
السادس : قانون الرعب جذب للناس للإيمان ، فحينما يرى الناس حال الرعب عند الذين كفروا يهتدون للإيمان .
السابع : قانون الرعب مادة للتوبة والإنابة .
الثامن : قانون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا دعوة للمسلمين لشكر الله عز وجل .
التاسع : قانون رعب الذين كفروا معجزة حسية غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
العاشر : لا يقدر على إلقاء الرعب في القلوب إلا الله عز وجل .
الحادي عشر : قانون الرعب لطف ، وباب نجاة من الموت على الشرك ، وسوء عاقبته ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا]( ).
الثاني عشر : قانون سلامة المؤمنين من رعب القلوب ، وفوزهم بالعلو على المشركين بسلاح إرعاب المشركين من عند الله ، واستقرار الرعب في قلوبهم ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث عشر : قانون عجز الذين كفروا متفرقين ومجتمعين عن رد الرعب أو منعه من النفاذ إلى قلوبهم .
الرابع عشر : قانون ترشح الأمراض النفسية والبدنية عند الذي يلقي الله الرعب في قلبه .
الخامس عشر : قانون إخافة الله للمشركين من سبل تمكين المؤمنين في الأرض وعملهم في مرضاة الله ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
السادس عشر : قانون إخافة المشركين نصر للرسول والمؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابع عشر : قانون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا شاهد على ظلمهم لأنفسهم وغيرهم ، ودعوة سماوية للناس لعدم الركون إليهم ، قال تعالى [وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ]( ).
الرعب أمر وجودي
تدل الآية الكريمة [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، على أمور :
الأول : قانون الرعب أمر وجودي وليس عدمياً .
الثاني : قانون استجابة الرعب لأمر الله عز وجل .
الثالث : قانون غزو الرعب لقلوب الذين كفروا .
الرابع : قانون مصاحبة الرعب للذين كفروا .
إذ تدل الآية على نفاذه إلى قلوب الذين كفروا ، واستقراره فيها وعدم مغادرته لها إلا بالتوبة والإيمان لذكر الآية لعلة الرعب وهي [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
الخامس : قانون إصابة الذين كفروا بالأمراض النفسية بسبب دخول الرعب إلى قلوبهم ، ويفسر القرآن بعضه بعضاً إذ يجعله الله عز وجل ضيقاً وجزعاً وكآبة متصلة ، قال تعالى [وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ]( ).
السادس : قانون امتلاء القلوب بالرعب سبب للوهن والهزيمة ، وتعلق نفوس الكفار بالفرار كما في معركة بدر ، وتعجلهم بالإنسحاب كما في معركة أحد ، والإرتباك والإضطرار والملل كما في معركة الخندق .
السابع : قانون نفاذ رعب القلوب إلى الجوانح والجوارح والأركان وهو من الدلائل على أن القلب أمير الجوارح .
الثامن : قانون رعب الكفار ترغيب لهم بالإيمان ، والتخلص من عبئ ثقيل على قلوبهم .
التاسع : لا يقدر على إلقاء الرعب في القلوب إلا الله عز وجل وهو من أسرار قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
العاشر : قانون إقامة الرعب في قلوب الذين كفروا وترشحه على قولهم وأفعالهم ، وسوء إختيارهم بالجزع ، وقصر النظر .
ومن لطف الله عز وجل بالناس كافة في الحياة الدنيا إقامة الحجة على الذين كفروا باستحقاقهم إلقاء الرعب في قلوبهم لأنهم إختاروا الشرك بالله من غير دليل أو حجة أو برهان ، وفي التنزيل [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ).
قانون الرعب سلاح
تتسابق الطوائف والأمم باقتناء السلاح ، وكثرته ، وتطويره، والإتفاق الكثير عليه ، وعلى تعاهده والتمرين عليه ، وتعيين رجال لحراسته ، ومخازن لإيداعه ، للحاجة إليه في الدفاع أو صد هجوم العدو ولبعث الرعب في قلوب الأعداء .
فنزلت آية البحث [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، معجزة حسية عظمى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها توفير للأموال والجهود في شراء الأسلحة الكثيرة والتفرغ للتمرين عليها ، وخزنها ، وحراستها ، ليتوجه المسلمون إلى عبادتهم ، والتفقه في الدين ، والشكر لله عز وجل على النعم ، وللإعمار والبناء .
ولبيان قانون التخفيف عن الذي يدخل الإسلام ، وكون الرعب سلاحاً لا يتعارض مع وجوب استعداد المسلمين للدفاع لقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
ومن معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية [سَنُلْقِي]( )، عدم حاجة المسلمين إلى كثرة جعجعة السلاح والخيل لأن الكفار في حال خوف ورعب وفزع ، لذا قال تعالى [تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
ليقترن الألم عند الكفار بالرعب والخوف ، وفيه زجر عام لهم من الهجوم على المدينة ، وإن هجموا فانهم يعجزون عن مواصلة المجالدة والمبارزة والقتال .
ففي معركة أحد ، ومع أن جيش المشركين أكثر من أربعة أضعاف عدد جيش المسلمين فان المشركين استعدوا للفرار في أول المعركة عند قتل ثمانية من حملة لوائهم وسقوط اللواء أرضاً.
لولا أن أغلب رماة المسلمين تركوا مواضعهم طمعاً بالغنيمة ، وهذا الترك خلاف أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم إذ قال لهم.
كما عن البراء بن عازب (قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير ووضعهم موضعا وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم.
قال فأنا والله رأيت النساء يشددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخيلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون.
وقال عبد الله بن جبير فنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم.
فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا)( ).
ومما يستقرأ من ترك الرماة مواضعهم وذكره على نحو متواتر في كتب السيرة أنه شاهد على هزيمة المشركين في بدايات المعركة التي أعدوا لها لأكثر من سنة ، وبذلوا الأموال وألقوا الأشعار والمواثيق فيما بينهم وسوء المقصد بالتجاهر بالعزم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
لبيان موضوعية استحواذ الرعب على قلوب المشركين .
قانون سلاح الرعب مدد
لقد استعملت الدول والجيوش سلاح التخويف والرعب كمقدمة للقتال وفي حال القتال ، ولكن الرعب الذي تذكره الآية أمر فريد ومعجزة من جهات :
الأولى : يحول الرعب الإلهي دون القتال .
الثانية : قانون إختصاص الرعب بالذين كفروا ، سواء كانت الكثرة ورجحان القوة لهم أم لغيرهم .
الثالثة : قد يتحارب الذين كفروا فيما بينهم فهل يلحقهم الرعب أم أنه يختص بالذين يحاربون الإسلام .
الجواب هو الأول ، لقانون الملازمة بين الرعب والتلبس بالشرك بنص قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الرابعة : يمكن تسمية المشركين ذوي القلوب المرعوبة .
الخامسة : قانون الرعب سلاح خفي وعلني .
السادسة : قانون عصمة المؤمنين وقلوبهم ومناجاتهم من الرعب ، إنما تتغشاهم السكينة وهي ضد الرعب ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الحاجة العامة لترعيب المشركين
لنزول واستقرار الرعب في قلوب المشركين موضوعية في كل فرد من أفراد قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وهي :
الأول : قانون قطع وهلاك طائفة من الكفار في ميدان المعركة .
الثاني : الكبت وشدة الحزن والغيظ .
الثالث : قانون مصاحبة الكبت والغيظ والحزن للذين كفروا حتى مع إدعائهم النصر في معركة أحد ، وهذه المصاحبة كاشفة لبطلان دعواهم.
الرابع : قانون سوق الرعب للذين كفروا إلى بلادهم خائبين .
الخامس : قانون وقوع الخلاف والشقاق بين الذين كفروا بسبب الرعب الذي ملأ قلوبهم .
السادس : قانون عدم مغادرة الرعب لقلوب الذين كفروا إلا بالتوبة والإنابة ، قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ]( ).
وقد تقدم في الجزء (123) من هذا السِفر الذي اختص بتفسير آية [سَنُلْقِي]( )، (وتبين آية البحث أن الرعب أمر وجودي وأنه لا يختص بالترشح عن أسبابه المادية الخارجية كمداهمة الخطر ، ودنو الضرر بل يأتي من عند الله عز وجل للكفار مجتمعين ومتفرقين بسبب ذاتي وحال إعتقاد ، فما أن يختار الإنسان الكفر حتى يدنو منه الرعب ثم يغزو قلبه ، ويكون له سلطان عليه مثلما إختار الشريك الذي لا سلطان به من عند الله)( ).
السابع : قانون إجتماع الرعب والكبت والكآبة والخيبة عند المشركين ، لذا تراهم عطلوا تجارتهم إلى الشام واليمن ، وسخروا إبل التجارة لمحاربة النبوة والتنزيل .
الثامن : قانون ترعيب المشركين مقدمة لصلح الحديبية إذ أدرك المشركون عجزهم عن مواصلة القتال ، وركوب الديون لهم ، وقانون توالي دخول الناس في الإسلام أفراداً وجماعات .
والرعب ليس قتالاً ، ولكنه وسيلة لمنع القتال ، وإخبار للناس جميعاً بأن القتال إذا حدث فان عاقبة المشركين الخسارة والهزيمة .
ترعيب المشركين معجزة حسية غيرية للنبي محمد (ص)
من فضل الله عز وجل على الأنبياء خاصة والمؤمنين والناس جميعاً مصاحبة المعجزة للنبوة.
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم عن المعارضة ، ومعجزات الأنبياء على قسمين :
الأول : المعجزة الحسية : ويشترك بها كل الأنبياء ، وقد يكون عند نبي من الأنبياء واحدة أو أكثر .
الثاني : المعجزة العقلية : وينفرد بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جمع الله له المعجزة الحسية والعقلية ، وقد قسمتُ معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية تقسيماً استقرائياً إلى شعبتين :
الأولى : المعجزات الحسية الذاتية لشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها معجزة الإسراء ، وإنشقاق القمر ، وسلام الحجر عليه ، وتسبيح الحصى في يديه ، وأنين الجذع الذي كان يخطب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما صنعوا له منبراً إلى أن جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده عليه.
و(عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر فلما اتخذ المنبر وتحول إليه حن الجذع فأتاه فاحتضنه فسكن وقال : لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة)( ).
وليس من حصر لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : المعجزة الحسية الغيرية ، وهي التي تكون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن تتجلى عند غيره من الناس .
ويمكن تقسيمها تقسيماً استقرائياً إلى قسمين :
الأول : المعجزة الحسية الغيرية عند أهل البيت والمؤمنين مثل قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن عبد ود العامري يوم الخندق ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، وكان عبد الله بن مسعود يقرأها (وكفى الله المؤمنين القتال بعلي)( ).
ومنها ولادة فاطمة الزهراء إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة أنسية حورية.
الثاني : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المشركين وما ابتلاهم الله به ، ومنه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الإعجاز المتعدد في آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا]
ويتجلى الإعجاز في هذه الآية من وجوه :
الأول : سبب نزول الآية أعلاه هو معركة أحد التي وقعت في الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ويذكر علماء السيرة والتفسير هذه المعركة بأنها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي أنه هو الغازي.
والحق أن مشركي قريش هم الغزاة إذ قطعت جيوشهم مسافة (450)كم من مكة إلى مشارف المدينة مع العزم على اقتحامها واستباحتها ، فقطعوا هذه المسافة ليقطعهم الله [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثاني : موضوع الآية متجدد وباق إلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على قانون بقاء القرآن غضاً طرياً إلى يوم القيامة .
الثالث : من معاني صيغة الجمع في الآية [فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] قذف الخوف والفزع في قلوب الرؤساء والأتباع من الذين أشركوا ويخيم الرعب في معسكرهم ، لذا ورد قوله تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ]( ).
الرابع : الآية وعد من الله عز وجل بقطع وهلاك طائفة من المشركين في ميدان المعركة ، وهل يختص القطع بهذا الهلاك أم أن القطع المذكور في الآية المباركة على وجوه متعددة الجواب هو الثاني ، منها :
الأول : سقوط قتلى من المشركين في ميدان المعركة ، وقد سقط منهم سبعون في معركة بدر ، واثنان وعشرون في معركة أحد .
الثاني : قد يصدق عنوان القطع على الفرد الواحد من المشركين إذا كان ذا شأن أو شجاعة كما في قتل عمرو بن عبد ود العامري في معركة الخندق ، إذ كان فارس مضر ، ولم يحضر معركة أحد لانه جرح في معركة بدر فتخلف عن الخروج لها.
الثالث : بايمان وجيه أو رئيس من المشركين فاسلامه إضعاف للذين كفروا.
الرابع : من قطع المشركين وقوع عدد منهم أسرى ، كما في وقوع سبعين أسيراً من المشركين في معركة بدر .
الخامس : الخسارة المالية للمشركين من وجوه :
الأول : تسخير أبل القوافل لقتال النبوة والتنزيل .
الثاني : تعطيل قوافل قريش وكأن قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، تهديد ووعيد لكفار قريش من إصرارهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : انفاق رؤساء قريش الأموال على القبائل ورؤسائها للخروج معهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن بين ثلاثة آلاف عدد جيش قريش ألفان من المستأجرين .
الرابع : شراء الأسلحة والعدة والمؤون لتجهيز الجيوش في الهجوم على المدينة .
الخامس : إنشغال رجالات قريش بالإعداد للمعركة ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا]( ).
السادس : توظيف أرباح قافلة أبي سفيان في قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، إذ طاف جماعة منهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وكل واحد منهما قتل أبوه في معركة بدر وهم من أسياد قريش على أرباب أموال القافلة لتوظيفها في حرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أختلف في المقام على وجهين :
الأول : توظيف كل أموال القافلة في الحرب .
الثاني : توظيف أرباح القافلة في الحرب .
والمختار هو الثاني ، وكان عدد إبل القافلة ألف بعير محملة بالبضائع ، منها الذهب والفضة والحنطة والشعير والأقمشة والقطن وغيرها لتوثيق مصداق تأريخي لقوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
وكيف أن المشركين جحدوا بهذه النعمة بعبادتهم الأوثان ، وامتناعهم عن التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترشح عن هذا الجحود بزوال النعم بتسخيرهم لأموال وإبل التجارة في قتال النبوة والتنزيل والمؤمنين ، قال تعالى [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ويمكن القول بقانونين ليس من دور بينهما :
الأول : قانون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من أسباب تلف أموال المشركين .
الثاني : قانون تلف أموال المشركين سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا.
وعدم الدور للتباين الجهتي والتعدد الموضوعي .
قانون معركة بدر زاجر عن تجدد القتال
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة المعركة التي يلتقي بها مع الكفار دعوة للسلم ، وكف الأيدي وزاجراً عن تجدد القتال ، ومنها معركة بدر وهي أول معركة بين النبي وأصحابه من جهة وبين مشركي قريش.
وتمتاز هذه المعركة بانحصار أفراد جيش المشركين بقريش وأهل مكة بخلاف معركة أحد والخندق اللتين وقعتا بعدها إذ استجارت قريش بالقبائل ، وقدموا لهم الأموال والوعود.
وفيه شاهد على الخزي الذي لحقهم ، وإصابتهم بالرعب فهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
واسم معركة بدر بلحاظ موضع المعركة ، أما بلحاظ الزمان فان اسمها في القرآن يوم الفرقان ، قال تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
وذكرت الآية اللقاء لبيان أنه أمر عابر في تأريخ عمارة الإنسان في الأرض ولكن له موضوعية كونه مفرقاً بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، وتأكيداً عملياً عملي لقانون النصر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والهزيمة للمشركين .
ولمعركة بدر نتائج إعجازية تختلف عن نتائج المعارك التي تجري بين القبائل والدول ونحوها ، لخصوصية سماوية لمعارك النبوة ، ولأن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان في حال دفاع وقد أوصى أصحابه بعدم البدء بالقتال.
نعم كان ينادي وسط الميدان (قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) لتذكير مشركي قريش بذات النداء حيث كان يصدح به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وفي أسواقها مكة وفي منى أيام الحج قبل الهجرة النبوية .
الإخبار بالكتابة واللحن
وفي أيام حصار قريش وحلفائها على المدينة في معركة الأحزاب ، قام حيي بن أخطب بتحريض كعب بن أسد لنقض عهده مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد وامتنع كعب في بداية الأمر ، ولكن حيي بن أخطب الح عليه ظناً منه أن الأحزاب سيقتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمعه من الوعيد من رؤساء قريش وكثرة جيوشهم إذ كان عددهم عشرة آلاف رجل حتى برئ كعب بن أسد رئيس بني قريظة من العهد الذي بينه وبين رسول الله .
(فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ بن النعمان وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبدالله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.
فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا.
فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس .
قال : فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد .
فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه وكان رجلا فيه حدة فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه.
ثم قالوا : عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين)( ).
ومحل الشاهد هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فإن كان حقا فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس) ثم قالوا (عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع).
وروي أن الوليد بن عقبة لما قرب من بني المصطلق خرجوا إليه متلقين له فرآهم على بعد ففزع منهم وظن بهم الشر فانصرف فقال ما قال وروى أنه بلغه أنهم قالوا لا نعطيه صدقة ولا نطيعه فانصرف وقال ما قال فالفاسق المشار اليه في الآية هو الوليد بن عقبة ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفساق حتى صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران ثم قال لهم أزيدكم إن شئتم)( ).
وجوه تقسيم السور إلى مكي ومدني
من علوم القرآن الإستقرائية تقسيم سور وآيات القرآن إلى مكية ومدنية ، وأختلف في كيفيته على وجوه :
الأول : المكي ما نزل في مكة وإن كان بعد الهجرة أي أن الآيات والسور التي نزلت في صلح الحديبية ، وفي فتح مكة ، وفي حجة الوداع هي مكية وفق هذا التقسيم فمع أن قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
آية من سورة المائدة وهي من آخر سور القرآن نزولاً ، فان هذه الآية تحتسب مكية لنزولها في أطراف مكة .
أما المدني فهو ما نزل في المدينة أي أنه نزل بعد الهجرة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل المدينة إلا عند الهجرة ، في السنة الثالثة عشرة للبعثة .
وهناك آية ليست مكية ولا مدنية نزلت في طريق الهجرة وهي[إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]( ).
الثاني : المراد من المكي هو ما وقع خطاباً لأهل مكة ، والمدني هو الخطاب القرآني إلى أهل المدينة .
ولم يثبت هذا التخصيص ومن معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، توجه كل آية من القرآن في منطوقها أو مفهومها إلى الناس جميعاً ، برهم وفاجرهم ، عربيهم وأعجميهم .
ويدل قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، على مخاطبة الآيات المكية للناس في مكة ومن حولها ، وهو الذي تدل عليه السنة النبوية بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة ، ووفد الحاج والمعتمرين إلى الإسلام ، ومناداته في منى أيام التشريق (قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا)( ).
مع الأذى الذي كان يلقاه في هذه المناداة والدعوة حتى من قبل عمه أبي لهب .
(قَالَ الْوَاقِدِيّ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ صَالِح ٍعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ)( ).
ولا يصدق عليها أنها سرية على نحو السالبة الكلية إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بني هاشم والأصحاب والأصدقاء ومن يطمئن لهم بنبوته ، ونزول القرآن عليه .
وأنه نبي آخر الزمان ليلتفتوا إلى المعجزات الحسية التي تجري على يديه ، ويدل على عدم صدق السرية التامة إيمان زوجه خديجة بنت خويلد ، والإمام علي عليه السلام في أول أيام البعثة .
ومن الدلائل على عدم إختصاص نزول القرآن قبل الهجرة مضامين هذه الآيات وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها على الوافدين إلى مكة للحج أو العمرة فاذا رآى شخصاً غريباً في البيت الحرام جلس بجواره وعرض عليه الإسلام وأوصاه بكتمان أمره حتى وإن لم يقبله ، وهذه الوصية من معاني السرية والتقية في المقام.
ليكون هذا الشخص رسول النبوة إلى أهله وقريته وبلدته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
وهل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، مصاحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أول البعثة ، أم من بعد مدة الدعوة السرية ، الجواب هو الأول .
الثالث : وهو المشهور والمختار أن المكي ما نزل قبل الهجرة النبوية وإن كان نزوله خارج مكة .
أما المدني فهو ما نزل بعد الهجرة ، وإن كان نزوله في مكة ومنه قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ).
و(عن ابن عمر قال : هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) حتى ختمها ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع)( ).
و(عن ابن عباس قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله من غزوة حنين ، وأنزل الله سورة الفتح قال: يا علي بن أبي طالب ويا فاطمة [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) إلى آخر السورة.
وقال السدي وابن عباس: ثم نزلت [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ]( )،الآية، فعاش بعدها ستة أشهر، فلما خرج إلى حجة الوداع نزلت عليه في الطريق [يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ]( )الآية فسميت آية الصيف. ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ) فعاش بعدها إحدى وثمانين يوما، ثم نزلت عليه آيات الربا، ثم نزلت بعدها وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ( ).
قانون استجابة الحواس لأمر الله
من إعجاز القرآن قبول قوله تعالى [يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ]( )، لوجوه متعددة من المعاني والتفسير ، وكل فرد منها إعجاز لا يقدر عليه إلا الله ، لبيان قانون استجابة حواس الناس مجتمعين ومتفرقين لأمر الله عز وجل ، وهذه الإستجابة قهرية ، ومن عالم الممكنات ، وتكون على وجوه :
الأول : جذب الحواس إلى الآيات الكونية ، وآيات التنزيل ، والمعجزات الحسية .
الثاني : تسخير الحواس في طاعة الله ، طوعاً من صاحبها ، أو قهراً له.
الثالث : نفرة الحواس من المعصية .
الرابع : قيام الحواس بوظائف عبادية للهداية للإيمان وإزاحة الكفر عن النفوس والأرض كما في آية البحث بأن ترى عيون المسلمين عدد المشركين قليلاً ، وترى عيون المشركين عدد المسلمين كثيراً.
فقلوب الكفار لازالت على الكفر والشرك ، ولكن أبصارهم أبت اتباعهم في تلك الساعة ، ولم يكونوا كالعميان إنما كانوا يرون ما فيه ضررهم ورعبهم ، وهو سبب من أسباب هزيمتهم يوم بدر.
وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا]( )، إرادة عمى الكافر عن الآيات ، وامتناعه عن التبصر فيها ليكون موضوع الآية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
فقد يكون الفرد والجماعة والطائفة من جنود الله ، وقد تكون بعض حواس وأعضاء وجوانح الفرد والجماعة من جنود الله عز وجل بما فيه النفع الشخصي والعام .
ولا يعلم عدد الذين دخلوا الإسلام من جيش المشركين يومئذ إلا الله عز وجل ، أي أن الله عز وجل رحم المسلمين ورحمهم حينما رأوا وفي اليقظة عدد المسلمين ضعفي العدد الواقعي الذي هو ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وهي معجزة لا يقدر عليها إلا الله .
والقرآن يفسر بعضه بعضا ويدل على العموم بتقليل عدد المسلمين في أبصار المشركين وبالعكس ، قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
لبيان معجزة في علم التفسير ، وهو التخفيف عن علماء التفسير ، ومنع الحيرة والإختلاف بينهم بالرجوع إلى تفسير القرآن بالقرآن .
و(عن سعيد ابن أبي آوس في قوله [يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ]( ) قال : كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمَّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم .
قالوا : ثلاثمائة وبضعة عشرة .
قالوا : ما كنَّا نراكم إلاّ تضاعفون علينا .
قال : وذلك ممَّا نصر به المسلمون)( ).
النسبة المنطقية بين الوثوق والوثاقة بالحديث
كل منهما مصطلح في علم الرجال والأصول ، وله موضوعية في قبول الرواية أو تضعيفها ، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فالوثوق أعم من الوثاقة فيشمل الحديث رواية ودراية لوحدة موضوع الرواية وترجيحها ، والثقة بها عند اجتماع الشرائط ، وأحد أفرادها علم الرجال ووثاقة الرواة.
وتتعلق الوثاقة برجال سند الرواية ، ومن الوثوق القرائن التي تفيد صدور الرواية عن النبي والمعصوم .
المراد من الوثاقة : وثاقة وعدالة شخص الراوي ، ورجال سند الرواية ، بأن يترجم لكل واحد منهم ، فاذا ثبت في كتب الرجاليين وثاقتهم صحة الرواية من خلال سند الرواية .
رسائل النبي (ص) إلى هرقل وكسرى
بعد صلح الحديبية بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسائل إلى ملوك عصره يدعوهم إلى الإسلام ، أما هرقل فقد تلقى الكتاب بقبول حسن ، ورجع دحية الكلبي إلى المدينة بجواب قيصر وفيه (إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله لعيسى ، فعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : قَدْ ثَبَّتَ الله مُلْكَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَى أدْنَى الأَرْضِ مِنْهَا بِفَتْحِ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى المُسْلِمِينَ)( ).
أما كسرى ملك فارس فقد سلمه الصحابي عبد الله بن حذافة وقيل خارجة بن حذافة كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه لمن قرأه له وفيه (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللّهِ فَإِنّي أَنَا رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ كَافّةً لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ فَإِنْ أَبَيْت فَعَلَيْكَ إثْمُ الْمَجُوسِ)( ).
فامتلأ كسرى غيظاً خاصة وأن النبي محمداً قدم اسمه على اسم كسرى بقوله من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، وهذا التقديم في عرف المراسلات أن الأعلى يخاطب الأدنى ،وتتضمن الرسالة الوعيد إن تخلف عن الإسلام ، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خاتمتها (فان ابيت فعليك اثم المجوس عليك) فقام كسرى بتمزيق الكتاب.
وأراد قتل الصحابي الرسول الذي عاد إلى المدينة ، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (قَد مَزَّقَ الله مُلُكهم فلا مُلكَ لَهُمْ أبَداً . إذا ماتَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ)( ).
تعدد رسائل النبي (ص)
تعددت رسائل وكتب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك وأمراء زمانه ، وكذا تعدد وقتها ومنها :
الأول : إرسال (الأقرع بن حابس بن عبد الله الحميري إلى ذي مران).
الثاني : إرسال أبي بن كعب إلى سعد هذيم.
الثالث : إرسال جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وذي رعين.
الرابع : إرسال حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس.
الخامس : إرسال حسان بن سلمة إلى قيصر مع دحية.
السادس : إرسال الحارث بن عمير إلى ملك الروم وقيل إلى صابح بصرى.
السابع : إرسال حريث بن زيد الخيل إلى يحنة بن رؤبة الأيلي.
الثامن : إرسال حرملة بن حريث إلى يحنة.
التاسع : إرسال خالد بن الوليد إلى نجران.
العاشر : إرسال دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر.
الحادي عشر : إرسال رفاعة بن زيد الجذامي إلى قومه.
الثاني عشر : إرسال زياد بن حنظلة إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر.
الثالث عشر : إرسال سليط بن عمرو إلى هوذة وثمامة بن أثال.
الرابع عشر : إرسال السائب بن العوام إلى مسيلمة.
الخامس عشر : إرسال شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر.
السادس عشر : إرسال أبا أمامة صدي بن عجلان إلى جبلة بن الأيهم.
السابع عشر : إرسال الصلصل بن شرحبيل إلى صفوان بن أمية.
الثامن عشر : إرسال ضرار بن الأزور إلى الأسود وطليحة.
التاسع عشر : إرسال ظبيان بن مرثد إلى بني بكر بن وائل.
العشرون : إرسال عبد الله بن حذافة إلى كسرى.
الواحد والعشرون : إرسال عبد الله بن بديل إلى اليمن.
الثاني والعشرون : إرسال عبد الله بن عبد الخالق إلى الروم.
الثالث والعشرون : إرسال عبد الله بن عوسجة إلى سمعان.
الرابع والعشرون : إرسال العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى.
الخامس والعشرون : إرسال عمرو بن العاص إلى ملكي عمان.
السادس والعشرون : إرسال عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي.
السابع والعشرون : إرسال عمرو بن حزم إلى اليمن.
الثامن والعشرون : إرسال أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمي إلى هجر.
التاسع والعشرون : إرسال عبد الله بن ورقاء مع أخيه إلى اليمن.
الثلاثون : إرسال عقبة بن عمرو إلى صنعاء.
الواحد والثلاثون : إرسال عياش بن أبي ربيعة إلى اليمن.
الثاني والثلاثون : إرسال فرات بن حيان إلى ثمالة بن أثال.
الثالث والثلاثون : إرسال قدامة بن مظعون إلى المنذر بن ساوى.
الرابع والثلاثون : إرسال قيس بن نمط إلى أبي زيد قيس بن عمرو.
الخامس والثلاثون : إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن.
السادس والثلاثون : إرسال مالك بن مرارة مع معاذ بن جبل إلى اليمن.
السابع والثلاثون : إرسال مالك بن عبد الله إلى اليمن.
الثامن والثلاثون : إرسال مالك بن عقبة أو عقبة بن مالك مع معاذ إلى اليمن.
التاسع والثلاثون : إرسال المهاجر بن أبي أمية إلى الحارث بن عبد كلال.
الأربعون : إرسال نمير بن خرشة إلى ثقيف.
الواحد والأربعون : إرسال نعيم بن مسعود الأشجعي إلى ذي الكلحبة.
الثاني والأربعون : إرسال واثلة بن الأسقع مع خالد بن الوليد إلى أكيدر.
الثالث والأربعون : إرسال وبرة وقيل وبر بن بحيس إلى ذاذويه.
الرابع والأربعون : إرسال الوليد بن بحر الجرهمي إلى أفيال اليمن.
الخامس والأربعون : إرسال أبا أمامة صدى بن عجلان إلى قومه باهلة( ).
وتدل رسائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك والأمراء ، وكتابتها بعد صلح الحديبية على صبغة السلم في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يريد قتالاً مع أحد.
وما كانت معارك الإسلام الأولى بدر وأحد والخندق إلا للدفاع ، وصرف شرور المشركين .
تأكيد الرؤية البصرية
لقد أخبرت الآية عن تقليل عدد المشركين في عيون المسلمين ، ومضاعفة عدد المسلمين في عيون المشركين [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( ) أي ليس برؤيا أحلام ، لبيان تجلي المعجزة الحسية والغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأجيال المتعاقبة.
والأصل بالرؤية إذا وردت في القرآن والكلام العربي تحمل على الرؤية البصرية وفي اليقظة كسائر البصريات ، فلماذا ذكرتها آية البحث.
الجواب للتأكيد ومنع التأويل الخاطئ والظن بأنها في المنام ، خاصة وأن آية أخرى ذكرت تغشي النعاس للصحابة يومئذ ، بقوله تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ]( ).
فجاء قوله [رَأْيَ الْعَيْنِ]للفصل والتمييز ومنع الخلط بينهما ، والتخفيف عن العلماء في بيان وتفسير آيات القرآن ، و(من إعجاز القرآن قانون عصمة تفسير القرآن من التأويل الخاطئ).
وعن الإمام علي عليه السلام (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت الشجرة حتى أصبح)( ) وما أن أصبحوا حتى كانت المثلية البصرية .
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نافذة في الأبصار ، وكأن ما يرونه أشبه بعالم الأحلام إذ تكفل الله عز وجل بنصرهم بالمعجزة ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، إذ صار التبدل والتغيير خلاف الواقع في أبصار وعيون المسلمين والمشركين في آن واحد برؤية المسلمين للمشركين قلة ، ورؤية المشركين للمسلمين كثرة ، ويدل على هذا العموم قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
ومن الإعجاز في المقام عدم تحقق رؤيا واحدة في المنام لجميع أفراد الجيشين لغلبة القضية الشخصية في موضوع الرؤيا ، بينما جاءت معجزة الرؤية البصرية في اليقظة سوراً جامعاً لأفراد الجيشين مع التضاد بينهما بلحاظ التباين والتنافي الإيمان والكفر .
معجزة آية الشورى
الأرجح أن آية [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ]( )، نزلت في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة لبيان مسائل :
الأولى : مشاورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه قبل نزول هذه الآية كما في معركة بدر ، وهذه المشاورة من الوحي ، فعندما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم قريش للقتال أخبر أصحابه ثم أكثر من استشارتهم ، ومنها أن المقداد بن عمرو قام وقال (يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( ).
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد، يعني مدينة الحبشة، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فدعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس؛ وإنما يريد الأنصار لأنهم كانوا عدد الناس، وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة وليس عليهم أن يسير بهم.
فقال له سعد بن معاذ : لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وأعطيناك عهودنا فامض يا رسول الله لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً ، إنا لصبرٌ عند الحرب ، صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ، ثم انحط على بدر فنزل قريباً منها)( ).
وهل المشاورة في المقام واجبة أم مستحبة الأصل في الأمر (وشاورهم) هو الوجوب ، ولا دليل أو قرينة على إنصرافه إلى الإستحباب .
نعم قد تكون المشاورة من جهة تعدد الموضوع من الكلي المشكك كماً وكيفية لصيغة العموم في (في الأمر) وكل ما كان الأمر ذا بال فالمشاورة واجب ، والملاك في الفعل النبوي على الوحي وعزم الرسول لقوله تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
وموضوع الآية أعم من واقعة بدر لأن المدار على المضامين القدسية للآية القرآنية ، ويدل قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ]( ) على موضوعية الشورى في الحياة العامة والشؤون المهمة للمسلمين .
قانون حضور وقائع بدر بالوجود الذهني
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة وقائع معركة بدر حاضرة في أبصارهم وبصائر المشركين لينفذ لها الخوف والرعب ويتجلى بسرعة مسيرهم ورجوعهم إلى مكة من معركة أحد وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
خاصة بعد أن سمعوا قول معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو يحذرهم ويخوفهم مع أنه كافر مثلهم ولكنه من خزاعة التي كانت سلماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ استبشر أبو سفيان برؤيته.
وقال (هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمدا وأصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد أجمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم .
وغضبوا لقومهم غضباً شديداً ولمن أصبتم من أشرافهم، قالوا: ويلك! ما تقول؟ قال: والله ما نرى أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل)( ).
وقد كان صفوان بن أمية قد حذرهم من الرجوع للقتال قبل قدوم معبد عليهم ، وصفوان من رؤساء جيش قريش ، وقد قُتل أبوه في معركة بدر ، ومع هذا قال لهم (يا قوم، لا تفعلوا! فإن القوم قد حزنوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أرشدهم صفوان وما كان برشيدٍ( )، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! فانصرف القوم سراعاً خائفين من الطلب لهم) ( ).
وفي الآية موعظة وعبرة من جهات :
الأولى : قانون إتخاذ الناس البصر مقدمة للتدبر والتفكر ، والتبصر ، قال تعالى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
الثانية : قانون المعجزة الحسية برزخ دون الفتنة والقتال ، لذا تفضل الله وقيّد قتال المسلمين بأنه في سبيل الله وعند قيام المشركين بقتالهم ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثالثة : قانون بعث القرآن الناس لتسخير أبصارهم وحواسهم في التدبر في آيات النبوة والتنزيل .
لماذا يقاتل المشركون
لقد دخل الذين كفروا معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحينين ، وهم يستخفون بأنفسهم لقبح هذا الدخول من وجوه :
الأول : الدفاع عن الأوثان ، وإرادة بقائها منصوبة في البيت الحرام ، ويتسالم العرب في كل زمان أنه بيت الله عز وجل فلا يرضى للشرك أن يصل إليه ولا يمهل المشركين الذين نصبوا الأوثان والحجارة ، لذا فان نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم مؤكد وحتمي .
الثاني : إصرار الذين كفروا على بقاء الأصنام منصوبة في البيت الحرام ، لكل قبيلة صنم أو أكثر .
وكان مجموعها يوم فتح مكة ثلاثمائة وستين صنماً أسقطت بيد النبوة في ساعة واحدة .
و(قال ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً ، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) بجعل الصنم ينكب لوجهه ، وجعل أهل مكة يتعجبون ، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد)( ).
ومعنى زهق الباطل أي ذهب واندرس إلى غير رجعة ، لتكون تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية أعلاه عند إسقاط الأصنام معجزة له ، لقانون عصمة البيت الحرام من الأصنام إلى يوم القيامة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : صدّ المشركين عن سبيل الله ، وسعيهم لمنع دخول الناس الإسلام ، لذا قال تعالى في ذمهم [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
الرابع : لقد نزل القرآن بذم عبادة الأوثان ، فحمل رؤساء قريش هذا الذم على إرادة سبّ آبائهم لأنهم غادروا الدنيا على عبادتها ، فقالوا إن محمداً يشتم آباءنا ، مع أنه لم يشتمهم.
وفي قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ]( )، قال ابن عباس (يريد حمزة بن عبد المطلب كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل ، وذلك إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع كعبد مسكين يقول : يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آبانا.
فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فأنزل اللّه تعالى هذه الآية)( ).
الخامس : من إعجاز القرآن إصابة الذين كفروا بالخوف والرعب والخشية من نزول آيات في ذمهم ، ومن الدعوة إلى قتالهم ، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً.
ومن الشواهد على قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، فان قلت هذه الآية مدنية ، والجواب من جهات :
الأولى : لم يقاتل المشركون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد هجرته إلى المدينة ، وكانت أول معركة بينهم هي معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.
الثانية : إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عما سواه فان صيغة المضارع (سنلقي) لا تنفي سبق نفاذ الرعب لقلوب المشركين .
الثالثة : بيان علة الرعب وهو الشرك بالله ، كما في الآية أعلاه ، لبيان قانون الملازمة بين الشرك والرعب إلى يوم القيامة .
قانون ضرر الكفر في الميدان
لا يختلف اثنان من الناس على حقيقة وهي أن الكفر قبيح ذاتاً وموضوعاً وأثراً ، وهو من أسرار نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، وتنصيب الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
فتبعث الآية الأولى أعلاه النفرة في النفوس من الكفر ، وتبين الآية الثانية قانون الكفر ضد للخلافة في الأرض .
وهل تشمل هذه النفرة ذات أشخاص الكافرين ومجتمعاتهم ، الجواب نعم ، وهو من أسباب التوبة والإنابة ، فترى رأساً وزعيماً من الكفر يبادر إلى دخول الإسلام ، وقد يتبعه قومه.
وهذا الاتباع ليس محاكاة لهم ، إنما لوجود النفرة من الكفر في النفوس ، إذ أن رئاسة الكافر لهم برزخ دون التدبر في الآيات ، ومن الإيمان .
ومن التباين بين طرفي معركة بدر وأحد أن المسلمين وقفوا صفاً واحداً في ثبات على الإيمان ، ورضا وتسليم بحكم الله وطلب النصر والشوق للقاء الله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ]( ).
والكفر ضرر محض ، ويتجلى في القتال بأنه مجلبة للبلاء والحسرة والأذى ، لأن الإنسان يقحم نفسه في القتال ومغادرة الدنيا بالقتل على الكفر من غير توبة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
ويحجب الكافر عن نفسه برزخاً دون القتل في الميدان أو الموت المبكر ، لأنه امتنع عن الإيمان ، لذا فان رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمن وسلامة وإطالة في العمر .
النداء العام في القرآن
أكثر آيات الخطاب العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] نزلت في مكة لما فيها من الدعوة العامة للإيمان ، ولبيان تكليف كل إنسان بأصول الدين.
إذ ورد النداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن تتضمن الدعوة إلى التوحيد ، والإحتجاج على الناس بعظيم وبداعة مخلوقات الله وربوبيته المطلقة ، وقبح الكفر والشرك ، وهذا لا يمنع من تكليف عامة الناس بالفروع كتكليفهم بالأصول.
و(عن علقمة قال : كل شىء نزل فيه ياأيها الناس فهو بمكة وكل شىء نزل فيه يأيها الذين آمنوا فهو بالمدينة وهذا مرسل قد أسند عن عبد الله بن مسعود)( ).
وعلقمة تابعي ، قيل ولد أيام النبوة ، سكن الكوفة وصاحب عبد الله بن مسعود واخذ منه الكثير ، فقيه قارئ أهل الكوفة ، وكان يختم القرآن في خمس ليالي .
وروى ابن عون عن محمد قال كان أصحاب عبد الله بن مسعود (خمسة كلهم فيه عيب: عبيدة أعور، ومسروق أحدب، وعلقمة أعرج، وشريح كوسج ، والحارث أعور)( ).
والمراد من كوسج نقي الخدين من الشعر .
وكان علقمة عقيماً لايولد له ، وخرج مع الإمام علي عليه السلام في صفين ، واختلف في وفاته قيل أنه مات سنة اثنتين وستين ، وقيل خمس وستين.
ولم تكن خطابات [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] كلها مكية ، فمنها ما نزل في المدينة ، وفي سورة البقرة ، والنساء ، منها [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وتبدأ سورة النساء بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( )، لبيان اتصال صبغة العالمية في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الخطابات العامة في السور المكية لا تفيد الحصر بتبليغ كفار مكة .
إنما يشمل هذا الخطاب الناس جميعاً وفي كل زمان ، ومنه قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
والنسبة بين خطاب [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] و[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] عموم وخصوص مطلق ، ليدخل المسلمون بالخطاب العام ، كما يشملهم الخطاب الخاص [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وهو تشريف لهم ، والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة .
وكذا ذات النسبة بين النداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وبين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا] والذي لم يرد في القرآن إلا مرة واحدى بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
نداء الإكرام القرآني إلى النبي (ص)
ورد نداء الإكرام قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ] في القرآن ثلاث عشرة مرة ، منها آيتان متجاورتان [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ]( ).
وكلها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد نداء [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ] ثلاث مرات والمقصود فيها رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لبيان قانون أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه الخطاب والأمر إليه في القرآن بلفظ (قل) (328) مرة وفيه إكرام للمسلمين ، ودعوة للناس للتدبر في القرآن وأسرار ودلالات العدد فيه ، وموضوع الكثرة وفوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين مرتبة النبوة والرسالة .
ومن هذه الخطابات ما هو خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه ما تلحق به الأمة ، لبيان بقاء واستدامة أحكام القرآن بما فيه الصلاح .
وجوب معرفة التوحيد
يجب على كل إنسان ذكراً أو أنثى الإيمان بالله عز وجل ومعرفة صفاته الثبوتية المطلقة كالقدرة والعلم والحياة والإرادة والكلام، وأنه تعالى قديم أزلي باق أبدي.
ولو معرفة إجمالية تتضمن التسليم والإقرار وتجب على المكلفين عبادة الله وحده .
ومعرفة الصفات السلبية أي ما ينفى عن الله تعالى فهو سبحانه ليس بمركب ولا جسم ولا عرض، وليس في جهة أو مكان، ولا تصح عليه اللذة والألم ، وهو سبحانه منزه عن أين ومتى وكيف ، وأنه واحد أحد لا شريك له ، وهذا الوجوب عليه إجماع علماء الإسلام.
وعن الإمام الصادق عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عيله وآله قال: إن الله تبارك وتعالى يأتي يوم القيامة بكل شئ يعبد من دونه من شمس أو قمر أو غير ذلك ، ثم يسأل كل إنسان عما كان يعبد، فيقول كل من عبد غيره: ربنا إنا كنا نعبدها لتقربنا إليك زلفى.
فيقول الله تبارك وتعالى للملائكة: اذهبوا بهم وبما كانوا يعبدون إلى النار ما خلا من استثنيت)( ).
القائل [حَرِّقُوهُ] جماعة
في قوله تعالى [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ]( ).
نسب إلى عبد الله بن عمر إنه قال (إنّ الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد .
قال شعيب الجبّائي : اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)( ).
وقال عطية (وروي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس أي من باديتها فخسف الله تعالى به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)( ).
وكذا في تفسير الثعالبي ، وتفسير الخازن .
وقال القرطبي في تفسيره (بل قاله ملكهم نمرود)( ).
و(قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس، قيل له: وللفرس أعراب؟ قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة)( ).
وكذا في تأريخ الرسل والملوك( ).
ورواه الطبري في جامع البيان ، والخبر موقوف أي أنه أضيف إلى الصحابي ابن عمر من غير أن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ضعيف سنداً ، ففيه الليث بن أبي سليم ، وهو ضعيف وله كثير من المناكير ينسبها إلى مجاهد عن ابن عمر.
وقال أحمد : الليث بن أبي سليم مضطرب الحديث ، وقال النسائي : ضعيف ، وقال ابن حبان : اختلط في آخر عمره( ) .
وشعيب الجبائي إخباري يروي عن كتب بني إسرائيل كوهب بن منبه .
ويروى الخبر عدد من المفسرين والمؤرخين بلحاظ الموضوع ، وعلى سبيل الخبر والإعتبار .
ونحن هنا ننفي الخبر سنداً ولغة وقرآنياً ، وأن قوله تعالى [قَالُوا حَرِّقُوهُ]( )، ينطبق على جماعة من الملأ ورؤساء الكفر يصل كلامهم إلى الملك ، وليس شخصاً واحداً من عامة الناس أو جماعة منهم ، فلم تقل الآية (قال حرقوه).
وعن زيد بن علي (أما إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال : إنَّكُمْ سَيَجِيئُكُمْ رُوَاةٌ، فَمَا وَافَقَ القُرآن فَخُذُوا بِهِ، ومَا كانَ غيرَ ذلكَ فَدَعُوهُ)( ).
وألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة .
وقول أن الرجل من الإكراد هو الذي صنع المنجنيق وجعلوا إبراهيم في كفته وهو أول من صنع المجانيق (فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا ثم ألقوه منه إلى النار قال حسبنا الله ونعم الوكيل كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار)( ).
فجمعوا الحطب مدة (حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم) ( ).
المراد من [قَالُوا حَرِّقُوهُ] جماعة
المختار أن القائل [قَالُوا حَرِّقُوهُ] جماعة من قوم نمرود ومن حاشيته وبطانته ، وليس شخصاً واحداً من غيرهم سواء الأكراد أو غيرهم لوجوه :
الأول : ورود الآية بصيغة الجمع [قَالُوا] ويحمل الكلام العربي على ظاهره ، والمقصود ثلاثة أو أكثر .
الثاني : تطلق صيغة الجمع على المفرد للتفخيم ، وفي ثناء الله عز وجل على نفسه ، وعظمة نعمه ، وآية نزول القرآن ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ) إذ تكرر ضمير الجمع في الآية مع قلة كلماتها خمس مرات ، وواجب الوجود بسيط غير مركب ، والمختار أن إطلاق لغة الجمع على المفرد في القرآن خاص بالله عز وجل .
الثالث : من خصائص القرآن تفسير آياته بعضها لبعض ، إذ تبين المراد من [قَالُوا] في المقام الملأ والوجهاء ، وأهل المشورة كما في نوح عليه السلام وجحود قومه بنبوته [فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ]( )، وفي موسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ]( ).
وفي الكفار من وجهاء قريش ومقابلتهم لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في التنزيل [وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ]( ).
وفي أخبار منقطعة قيل قاتل إبراهيم عليه السلام ، ولم ترفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري (أول من خطب على المنبر إبراهيم عليه السلام حين أسر لوط واستأسرته الروم ، فغزا إبراهيم حتى استنقذه من الروم .
وأخرج ابن عساكر عن حسان بن عطية قال : أول من رتب العسكر في الحرب ميمنة وميسرة وقلباً إبراهيم عليه السلام لما سار لقتال الذين أسروا لوطا عليه السلام .
وأخرج ابن أبي شيبة عن يزيد بن أبي يزيد عن رجل قد سماه قال : أوّل من عقد الألوية إبراهيم عليه السلام ، بلغه أن قوماً أغاروا على لوط فسبوه ، فعقد لواء وسار إليهم بعبيده ومواليه حتى أدركهم ، فاستنقذه وأهله.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الرمي عن ابن عباس قال : أوّل من عمل القسي إبراهيم عليه السلام)( ).
إنما أخبرت آيات القرآن عن جهاد إبراهيم بالإجتهاد بالتقوى والصبر وكسر الأصنام ، ثم قام ببناء البيت الحرام ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وقد كسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثمائة وستين صنماً بفتح مكة ، لتنقطع عبادة الأصنام إلى يوم القيامة ويكون الجامع المشترك بين العرب والفرس والكرد والترك وغيرهم من المسلمين هو الإيمان لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) ومن مفاهيم هذه الآية القبح الذاتي للإقتتال بين المسلمين ، وعدم النفع العام المستديم منه .
الحمد لله الذي تفضل بقطع عبادة الأوثان إلى يوم القيامة برسالة وجهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وأجيال المسلمين المتعاقبة .
لقد كسر إبراهيم عليه السلام الأصنام في آية نبوية ، وكان رد قومه [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ]( ).
قانون صدق الإيمان مقدمة للدفاع
يبين قوله تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( )، لغة القطع واليقين في إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالله عز وجل إلهاً ورباً وسيداً ، مع التصديق والتسليم بكل من :
الأول : ملائكة الله وما جعل الله عز وجل لهم من القدرات الفائقة ، ليكون هذا التسليم مقدمة لنزولهم لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الإسلام الدفاعية في بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، وفي معركة بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، وفي معركة الأحزاب قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( )، ليدل قوله تعالى [جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ] على أن المشركين هم الغزاة .
الثاني : الإيمان بقانون من الإراة التكوينية وهو نزول الكتب السماوية على الرسل وهو من مصاديق قانون خلافة الناس في الأرض ، واحتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، من جهتين :
الأولى : الإفساد في الأرض ، لبيان قانون الأصل هو وجوب تنزيه الأرض من الفساد .
الثانية : سفك الدماء بغير حق ، واضطرار النبي والحاكم إلى إقامة حدّ القصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الحكم بالقصاص ليس من سفك الدماء ، المذموم ، إنما هو لمنع القتل والظلم والتعدي .
الثالث : قانون إنفراد النبي محمد وأمته بالتصديق بجميع الأنبياء والرسل.
ويفسر القرآن بعضه بعضاً ، إذ تفيد الآيات امتثال المسلمين جميعاً لقوله تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
ومن الإعجاز الغيري للآية أعلاه أنك لم تجد طائفة في أجيال المسلمين تنفي نبوة أحد من الأنبياء البالغ عددهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي ، لبيان قانون استقرار وثبات الإيمان بالنبوة كجسر عقائدي بين السماء والأرض ، ومصداق متصل لخلافة الناس في الأرض ، ودعوة لهم للصدور عن النبوة والتنزيل .
الرابع : إفراد الآية لموضوع قانون (عدم تفريق المسلمين بين الأنبياء من حيث الشهادة) لكل واحد منهم بالوحي والتنزيل ، وفي الآية حذف وتقديره : لا نفرق بين أحد منهم ونظيره من الأنبياء ، لبيان كل من :
الأول : قانون إتحاد سنخية النبوة .
الثاني : قانون وجوب طاعة الرسول .
الثالث : قانون طاعة الرسول من طاعة الله ، قال تعالى [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
الرابع : قانون خلو أفعال الأنبياء من التناقض أو التضاد بينها .
وتقدير الآية (لا نفرق بينهم) من جهة التصديق بنبوتهم ، فلا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم الآخر .
وهو لا يتعارض مع التفاصيل في المعجزات بين الأنبياء ، ولا في علو مرتبة الرسل على الأنبياء ، وكل رسول هو نبي وليس العكس ، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر ، منهم خمسة أولو العزم ، وهم:
الأول : نوح عليه السلام.
الثاني : إبراهيم عليه السلام.
الثالث : موسى عليه السلام.
الرابع : عيسى عليه السلام.
الخامس : محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قوله تعالى [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]( )
وردت الآية بصيغة الإطلاق من جهات :
الأولى : نصر الله ، وأنه يحسم المعركة .
الثانية : بيان حضور المشيئة الإلهية في الخصومة والقتال .
الثالثة : ينصر الله أحد الفرقاء .
ولم تبين الآية نصر الله لخصوص المؤمنين ، ولم تذكر الآية ماهية الشخص أو الفريق أو الملة التي ينصرها الله عز وجل ، ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
ولم يرد لفظ [يُؤَيِّدُ] في القرآن إلا في آية البحث لبيان إعجاز القرآن وهو الجمع بين أمور :
الأول : قانون النصر من عند الله عز وجل.
الثاني : تأييد الله للذين ينصرهم .
الثالث : قانون تعضيد النصر بالتأييد .
فهل التأييد في الآية غير النصر ، أم أنه ذات النصر ، إذ أن للباء معاني متعدد ، منها :
الأول : الإلصاق ، وحصر سيبويه معنى الباء به ، ويكون معناه في الآية إلصاق التأييد بنصر الله ، أي أن الباء تفيد الغيرية والتعدد بين التأييد والنصر .
الثاني : باء المصاحبة وبلحاظ الآية أعلاه يكون المعنى يأتي النصر مصحوباً بتأييد من الله ، وهو يدل على التعدد والغيرية أيضاً .
الثالث : باء الإستعانة وهي الداخلة على آلة الفعل ، ومنه قوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ] الباء فيه للإستعانة ومنه [وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ]( )، وهنا يمكن القول بالإتحاد بين التأييد والنصر والمغايرة بينهما أيضاً بأن الله عز وجل يجعل التأييد بالنصر .
الرابع : باء السببية ، وهي التي تدل على ترتب أمر على أمر ، ومنه قوله تعالى [فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ]( ).
الخامس : الظرفية ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، أي في الموضع الذي يسمى بدر .
السادس : باء التبعيض ، التي تدل على جزء من الشئ ، واستدل الإمام الباقر عليه السلام على مسح جزء من الرأس في الوضوء بالباء في قوله تعالى [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ]( ).
السابع : باء التوكيد والتي تسمى الباء الزائدة ، وسميت بالزائدة أي أن حذفها من الكلام لا يخل بالمعنى ووجودها للتنبيه على التوكيد كما في الباء في قوله تعالى [وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ]( ).
إذ ان (ما) نافية تعمل عمل ليس .
نحن : ضمير منفصل مبني في محل رفع اسم (ما) الباء زائدة تفيد التوكيد.
والمختار عدم وصف الباء في القرآن بالزائدة إنما يقال أنها للتوكيد ، ففي قراءتها عشر حسنات .
مبعوثين : خبر (ما) مجرور لفظاً منصوب محلاً وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم .
من المخاطب بقوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ]( )، المختار هم الناس جميعاً ، لذا اختتمت الآية بقوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( )، ولم تقل لأولي الألباب ، لإدراك الناس للحسيات ويرون الشواهد من غير حاجة للتفكر والتدبر ، ويستنبط من قوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]( )، قانون المغايرة بين التأييد والنصر ، وقانون تعدد معنى الحرف القرآني ، فلا يقف عالم التفسير على معنى واحد للقرآن بل لابد أن ينظر في كل معنى للحرف هل هو مناسب للآية .
قانون استدامة النصر بالتأييد
المختار تعدد معنى الحرف واللفظ القرآني وأنه أعم من القواعد النحوية والبلاغية ليفيد حرف الباء في [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]( )، معاني منها:
الأول : قانون النصر مقدمة للتأييد من عند الله ، لبيان التعدد والمغايرة بين التأييد والنصر من عند الله عز وجل .
الثاني : المصاحبة ، إذ يعطي الله عز وجل بالأوفى والأتم ، ومنه فضله بمصاحبة التأييد للنصر .
الثالث : إلصاق التأييد من الله بنصره لمن يشاء ، فتأتيه نعمتان نعمة التأييد ونعمة النصر ، وإذ يكون النصر معجزة حسية في أوان ومكان مخصوص فان التأييد مصاحب له ، ومتجدد ومستمر كمعجزة عقلية لبيان اجتماع المعجزة الحسية المخصوصة ، والمعجزة العقلية المستمرة ومن التأييد المنافع العظيمة لأجيال المسلمين من النصر يوم بدر ومن الشواهد عليه [فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( ).
الرابع : قانون التأييد وسيلة استعانة للنصر .
ومن التأييد في المقام مقدمات ومستلزمات النصر ، ومن باء الإستعانة مثلاً قولك كتبت بالقلم أي استعنت بالقلم واتخذته آلة للكتابة ، فكذا من معاني الباء في الآية الإستعانة بالتأييد من الله لتحقيق النصر ، لبيان قانون لا يقدر على مقدمات ومستلزمات النصر إلا الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات للدعاء .
ويمكن القول بقوانين :
الأولى : قانون التأييد مقدمة للنصر .
الثانية : قانون إقتران التأييد بالنصر .
الثالثة : قانون النصر مقدمة للتأييد .
الخامسة : قانون النصر تأييد .
وليس من تعارض بين هذه القوانين ، ولا يلزم الدور بينهما .
الخامس : الظرفية فيأتي التأييد من عند الله بذات النصر ، ويكون تقدير قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، ولقد أيدكم الله عند نصركم ببدر ، وظرفية التأييد هنا أخص من المصاحبة .
السادس : باء التوكيد (الزائدة) لإفادة تعلق التأييد بذات النصر ليكون نصر الله على شعبتين :
الأولى : النصر الخالي من التأييد .
الثانية : قانون النصر الذي يعضده تأييد الله بمشيئة منه تعالى.
لذا ورد التأييد في الآية بخصوص نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على المشركين ببدر ، وهو من مصاديق تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتماع التأييد والنصرة له من عند الله عز وجل .
تقدير [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]( )
وفيه وجوه :
الأول : قانون النصر من الله للأنبياء تأييد لهم .
الثاني : تأييد الله لذات المنتصر زيادة في النعمة .
الثالث : والله يؤيد قوم بنصرهم على آخرين ليكون مقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : والله يؤيد أجيال المسلمين بنصره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر .
الخامس : والله يؤيد الأنبياء السابقين بنصره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيت نبوتهم بالقرآن والسنة .
السادس : والله يؤيد ذات المنتصر وغيره في آن واحد ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
السابع : والله يؤيد بنصره من يشاء لإلقاء الرعب في قلوب المشركين.
الثامن : والله يؤيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأتباعه في الأجيال المتعاقبة بنصر النبي في معركة بدر .
التاسع : والله يؤيد المسلمين بنصره الإمام علي وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث ، بقتلهم المشركين الذين أصروا على المبارزة وهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة .
العاشر : والله يعين ويمد بالتأييد الذين ينصرهم .
الحادي عشر : والله يؤيد بالملائكة الذين نصرهم يوم بدر ، اثناء المعركة وبعدها ، ليكون نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد من تأييده لنصرهم في معركة بدر.
الثاني عشر : من مصاديق تأييد الله لنصره وجوه :
الأول : تأييد نصر الله للمسلمين ببدر بذكره في القرآن ، ليتجلى قانون بقاء تأييد الله عز وجل للنصر في بدر إلى يوم القيامة .
الثاني : تأييد الله للأنبياء السابقين بذكر نصرهم في القرآن ، وفي موسى وهارون قال تعالى [وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ]( )، ليكون من معاني (مننا) في الآية أعلاه تأييد النصر .
الثالث : ذات النصر تأييد من عند الله .
والنسبة بين التأييد والنصر هي العموم والخصوص المطلق ، فتأييد الله لمن يشاء أعم من النصر ، والنصر أحد مصاديقه ، ومن مصاديق التأييد نقل المؤمنين من حال الذلة إلى العزة والغنى وبعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا ، وقطع دابر منهم ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
المقصود من يؤيد بنصره
ترى ما المقصود بقوله تعالى [يُؤَيِّدُ]فيه وجوه :
الأول : يؤيد الله المؤمنين بالملائكة ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثاني : (عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله {يؤيد بنصره من يشاء} قال : يقوي بنصره من يشاء قال : وهل تعرف العرب ذلك .
قال : نعم .
أما سمعت قول حسان بن ثابت:
برجال لستمو أمثالهم … أيدوا جبريل نصراً فنزل)( ).
الثالث : الذب والدفع عن الذين ينصرهم الله .
الرابع : يؤيد الله بنصره من يشاء بمنع المشركين من جمع صفوفهم والتحشيد ، وشراء الأسلحة وإعادة الكرة في الهجوم .
التأييد الزماني
يأتي تأييد الله عز وجل للنصر على جهات بلحاظ الزمان:
الأولى :قبل المعركة وفي خصوص مقدماتها .
الثانية : أثناء المعركة .
الثالثة : بعد المعركة .
وهل يتساوى التأييد في هذه الجهات الثلاث ، الجواب لا ، [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ]( ) والأرجح أن التأييد بعد المعركة هو الأكثر لإستدامته وتعدده وتواليه .
قد يأتي التأييد من الله عز وجل بأمر متحد شامل للجهات الثلاث أعلاه كما في قذف الرعب في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ويدل على الإطلاق في المقام وشمول هذه الجهات الثلاث بيان علة وسبب قذف الرعب ، وهو الشرك بالله والمصاحب لهم قبل واثناء وبعد المعركة ، ولبيان نكتة وهي ذهاب الرعب عن الذي يتوب إلى الله .
وهل يختص الرعب في الآية أعلاه بموضوع وميدان المعركة ، الجواب لا ، إنما هو ملازم لهم في حياتهم اليومية ، وخياراتهم ومعاملاتهم مما يسبب لهم الإرباك والضيق .
بين التأييد والنصر
يحتمل قوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ]( )، وجوهاً :
الأول : ذات النصر هو التأييد ، فان قيل كيف يؤيد الله المؤمنين ، الجواب ينصرهم على الذين كفروا .
الثاني : قانون التعدد والمغايرة بين التأييد والنصر .
الثالث : تأييد اتخاذ النصر وسيلة لتحقيق غايات حميدة بعد النصر .
الرابع : قانون سبق التأييد للنصر .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، وعظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين ، فتنتهي المعركة في يوم واحد بنصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كما في معركة بدر أما التأييد فهو باق ومتجدد كل يوم .
ليكون من معاني [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وجوه :
الأول : لعلكم تشكرون الله على نصر لكم .
الثاني : لعلكم تشكرون نصر الله مع كونكم أذلة .
الثالث : لعلكم تشكرون تأييد الله عز وجل لنصره لكم .
الرابع : لعلكم تشكرون التأييد بعد النصر ببدر ، ودخول الناس الإسلام.
الخامس : لعلكم تشكرون تأييد الله لكم بالغنائم وبدل فك الأسرى .
السادس : لعلكم تشكرون الله على تأييده بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في المعركة ، ومن حفظ الأغتيال بعدها.
لفظ [بِنَصْرِهِ]
لقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ، وكلها منسوبة إلى الله عز وجل وهي :
الأولى : قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]( ).
ويعود الضمير (الهاء) فيها إلى الله عز وجل ، ووردت اثنتان في الخطاب إلى النبي والمسلمين ، واختصت واحدة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن هداية المؤمنين من تأييد الله عز وجل له .
وتبين هذه الآيات مسائل :
الأولى : المشيئة المطلقة لله ، وحضورها في الوقائع والأحداث اليومية ، وأن مقاليد كل شئ بيد الله وحده ، وهو سبحانه [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثانية : تأكيد نصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر .
الثالثة : حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة في ميدان المعركة ، وإن كان الله عز وجل قادراً على نصره وإن دخل المعركة بمفرده أو بالملائكة ، ولكن وجود أهل البيت والصحابة واستبسالهم في الميدان من فضل الله عز وجل .
واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فليس من حصر لوجوه ومصاديق تأييد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ]( ).
وفي الآية ترغيب بالإيمان للفوز بنصر الله ، سواء النصر على نحو القضية الشخصية أو العامة ، وإنذار وزجر عن الشرك والضلالة لإقتران الهزيمة والخسران بهما في الدنيا والآخرة .
قانون تعدد وجوه النصر الإلهي
جاء التأييد بصيغة الجمع بقوله تعالى [فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( )، لبيان معجزة قرآنية وهي مجئ التأييد خاصاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]( )، ثم جاء التأييد العام للمؤمنين .
لتأكيد بقاء ومصاحبة التأييد للمؤمنين إلى يوم القيامة لأن الله عز وجل إذا أنعم بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها.
وليكون تقدير الآية أعلاه (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين المؤيدين بنصر الله).
وكما أنه لم يرد لفظ (أيدك) في القرآن إلا مرة واحد ، وكذا (أيدكم) كما ورد مرة واحدة أيضاً بصيغة جمع الغائب ، بقوله تعالى [أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ]( ).
ولا ينحصر نصر الله عز وجل بميدان القتال ، ومنه وجوه :
الأول : النصر في صرف القتال .
الثاني : النصر بالحجة الظاهرة ، فلا تصل النوبة للقتال .
الثالث : النصر بقذف الخوف في قلوب المشركين وابتلائهم بالجوع والفاقة ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
الرابع : هلاك الظالمين ، والملوك الذين حاربوا النبوة والتنزيل .
الخامس : رزق الله المؤمنين ملكة الصبر والإقبال على عبادة الله ، وحمل لواء التوحيد ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا]( ).
السادس : كثرة أنصار النبي في حياته وبعد مغادرته الحياة الدنيا ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون تعدد وتجدد وجوه العبرة البصرية
ورد لفظ [عِبْرَةٌ] في الآية الأخيرة من سورة يوسف [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
وورد باضافة لام الإبتداء المزحلقة التي تفيد التوكيد خمس مرات كما في الآيات :
الأولى : قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
ووردت (عبرة) في القرآن بصيغة المفرد النكرة ، ولم ترد في القرآن بلام الجنس او بلفظ الجميع ومنها مرتان بقوله تعالى [لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]، لبيان وجوب تسخير الناس لأبصارهم في التدبر في ماهية الحياة الدنيا ، ولزوم اتخاذ الإقرار بالتوحيد والنبوة منهاجاً دائماً وحبس النفس الشهوية عما حرّم الله عز وجل.
فمن فضل الله عز وجل تهيئة النعم في رغائب وشهوة الإنسان وفق الشريعة والنجاة من الظلم والتعدي ، ولتكون مناسبة للشكر لله عز وجل بالتوفيق للعمل بمرضاة الله.
حرمة الغلول
لقد نسب الله عز وجل نصر المسلمين في معركة بدر له سبحانه وحده ، وهو لا يرضى بالشريك أبداً لذا أكدت الآية حال المسلمين يومئذ بأنهم [أَذِلَّةٌ] أي أنهم متخلفون عن تحقيق النصر بجهودهم الخاصة .
وتدل عليه تفاصيل الواقعة ، ولغة الأرقام فيها ، إذ أن عدد المسلمين أقل من ثلث عدد المشركين في ميدان المعركة ، أما من جهة العدة والسلاح والخيل ، فان الفارق بينهما أكثر إتساعاً .
ومن نصر الله عز وجل للمسلمين يوم بدر وقوع سبعين أسيراً والغنائم الكثيرة بيد المسلمين للإرتقاء عن حال الذلة التي كانوا فيها ، ورفع الإضطهاد ، وإبعاد شبح الإبادة الجماعية عنهم .
فلعل بعض المسلمين كان يخشى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو قتل الصحابة للتهديد والوعيد المتصل من قبل المشركين وشدة بطشهم ، وسعيهم في التحشير ضد النبوة والتنزيل.
وأن المسلمين ليس لهم إلا بلدة واحدة هي المدينة ، ففي حال خسارة معركة ليس عندهم بلدة أخرى ينسحبون إليها ، ليكون قانون نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بلدة واحدة مع شدة وتعدد المعارك ضده معجزة حسية له ، وشاهداً على صدق نبوته .
وليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقانون تجدد نصر الله له قانون سلامة المدينة المنورة من الإستباحة حتى عندما زحف عشرة آلاف مقاتل من قريش وحلفائها في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة في معركة الخندق.
ومن نصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقوع الغنائم الكثيرة في أيديهم في معركة بدر ، فاراد الله عز وجل لهم قانون الإنتفاع الأمثل من الغنائم ، وقانون العصمة من الفتنة بين المسلمين بسبب الغنائم خاصة وأن قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، يدل على الحاجة والفاقة عندهم، فنزلت قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
آية النهي عن الغلول
وردت في آية النهي عن الغلول كلمات لم ترد في آية أخرى وهي:
الأولى : [غُلَّ].
الثانية : [يَغُلَّ].
الثالثة : [يَغْلُلْ].
ولم يرد لفظ (غلول) في القرآن مما يدل سلامة المسلمين من آفة الغلول.
والغلول هو الأخذ خلسة من الغنائم قبل قسمتها على الصحابة ، أو إخفاء قطعة منها ، أو سرقتها وفيه أمور :
الأول : التفقه في الدين .
الثاني : تنمية معالم الإيمان في النفوس .
الثالث : الآية أعلاه موعظة .
الرابع : قانون الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزه عن الغلول .
الخامس : قانون وجوب الثقة التامة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وهذه الثقة مقدمة للتصديق بما ينزل عليه من الوحي.
السادس : قانون تنزه الأنبياء عن الغل من العصمة والوحي .
السابع : قانون الثناء على الأنبياء في سيرتهم وأفعالهم .
الثامن : قانون التضاد بين النبوة والغلول .
التاسع : تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدفاع عن السارق والذي يغل والغلول ، وفي قوله تعالى [وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( ).
وذكر كان (طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعًا لعمّه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم .
يقال له :زيد بن السمين ، فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ بعُذْره .
حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال [وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ]( )، إلى قوله [هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، يعني بذلك قومه.
[وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا]( )، وكان طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا( ).
ومن معاني [وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( )، أي لا تخاصم دونهم ، وتدافع عنهم ، وفيه شاهد على حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعدل بين الناس جميعاً القريب والبعيد .
لبيان فضل الله عز وجل على الناس برسالته للقضاء على الظلم والجور ، وسفك الدماء والثأر الذي كان شائعاً في الجزيرة ، وفي الآية دعوة للناس للجوء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحكم بينهم ، ونبذ الخصومة ، ومن الآيات أنه كان يحكم بين المسلمين ، وبين اليهود ، وبين المسلمين واليهود ، والكل راض بحكمه ، وهو من أسباب إنقطاع القتال والغزو والثأر في الجزيرة العربية .
سبب نزول آية [أَنْ يَغُلَّ]
من أسباب نزول الآية ما ورد بخصوص معركة بدر وفقدان قطيفة حمراء ، فقال بعض الصحابة لعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخذها قبل القسمة ، كما ذكرت وجوه أخرى من أسباب نزول الآية منها :
الأول : قسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفيئ بالعدل وعدم الغل فيها (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث طلائع فغنمت، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقسم للطلائع،
فلما قدمت الطلائع قالوا : قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية.)( ).
الثاني : تنزه النبي عن الخيانة .
الثالث : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خيانة أصحابه له .
الرابع : قيل المفقود سيف يوم بدر وليس قطيفة .
الخامس : عن محمد بن كعب (( وما كان لنبي أن يغل ) قال : تقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من كتاب الله)( ) وموضوع الآية أخص وإن كانت من مصاديق تنزيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخيانة .
وسميت الغلول لأن الأيدي صارت مغلولة وممنوعة منها ، فلا تصل إليها بسبب أخذها خفية .
وأختلف في القائل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ القطيفة يوم بدر (قال ابن عطية : قيل كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجا وقيل : كانت من المنافقين)( ).
ولكن ليس من منافقين يوم بدر ، إنما حدث النفاق بعدها ، وبعد أن ظهرت قوة ومنعة المسلمين .
والمختار أن سبب نزول الآية هو فقدان قطيفة حمراء من غنائم بدر قبل القسمة .
والقطيفة : كِساء له حُمل .
النسبة بين الغنائم والأنفال والفيء
وفيه وجوه :
الأول : الغنائم وهي التي استولى عليها المسلمون من الكفار المحاربين بالدفاع والقتال ، ومنها غنائم معركة بدر ، والغنائم التي حازها المسلمون يوم معركة حنين ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وبلحاظ الآية أعلاه يكون توزيع الغنيمة إلى خمس حصص ، أربعة أخماسها للمقاتلين والخمس الباقي لبيت مال المسلمين والفقيه الجامع للشرائط ليصرف في الموارد الستة المذكورة في الآية أعلاه .
الثاني : الأنفال : وهي الغنائم ونحوها ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وسميت الأنفال لأنها زيادة في أموال المسلمين .
(وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسِيدِيّ وَهُوَ جَاهِلِيّ قَدِيمٌ :
نَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ يَوْمَ جِئْتُمْ … تُزَجّونَ أَنْفَالَ الْخَمِيسِ الْعَرَمْرَمِ)( ).
والمراد من الخميس : الجيش .
والمشهور أن الأنفال هي الغنائم ، والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالأنفال أعم ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
ومن الأنفال ما يزيده النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض الجيش أو الصحابة ، لذا ورد (عن عطاء في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ] هو ما شذ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال ، من عبد أو دابة أو متاع فذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما شاء)( ).
و(عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون ، واكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب .
وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة واشتغلنا به ، فنزلت [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( ).
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدوّ نفل الربع ، وإذا أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث.
وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويُّ المسلمين على ضعيفهم)( ).
وفي المراد من الأنفال جهات :
الأولى : الغنائم .
الثانية : ما ينفله الرسول لبعض الأفراد من سلب ونحوه .
الثالثة : الخمس .
الرابعة : هو الفيء ، وما أخذ من الكفار وأهل الكتاب من غير قتال.
الخامسة : ما شذّ من الكفار من دابة أو عبد أو متاع .
الثالث : الفيء : وهو الذي أخذه المسلمون من الكفار وأهل الكتاب من غير قتال ، فهو خاص لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصرفه بما يراه ، ولا يأمر إلا بالوحي ، قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( )، ومنه مال خيبر ، وفدك.
دلالة آية الغلول على قتال الأنبياء
لقد ابتدأ قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( )، بذكر الأنبياء ونفي أخذهم من الغنائم مما يدل على وقوع قتال شطر من الأنبياء والقوم الكافرين ، ووقوع الغنائم بيد الأنبياء وأصحابهم ، وتنزه الأنبياء عن الأخذ منها ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
ويدل قوله تعالى [ربّيُّونَ] على تنزه أصحاب الأنبياء أيضاً عن الأخذ من الغنائم ، لبيان قانون إرتقاء أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمرتبة الربانيين بامتناعهم عن الأخذ من الغنائم بفضل من الله ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
ونزول هذه الآيات ، وتأكيد السنة النبوية على حرمة الأخذ منها ، والإنذار والوعيد على هذا الأخذ .
وفي حديث طويل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ألا لا يغلن أحد فرسا فيأتي يوم القيامة به على ظهره له حمحمة( ) فيقول: يا محمد يا محمد، فأقول: قد بلغت قد بلغت قد بلغت، فلا أملك لك من الله شيئا)( ).
وفي الآية رد في أيام النبوة وإلى يوم القيامة على الذي يتساءل عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه نبي الرحمة ، فمن مصاديق الرحمة في نبوته الدفاع ضد المشركين لقانون الملازمة بين الكفر والظلم ، لقوله تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ]( ).
حرمة سرقة المال العام
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمى قبل البعثة (الصادق الأمين ) ليكون الصدق والأمانة صفة عامة وسجية دائمة له بعد البعثة ويعضدها الوحي ، ويطل القرآن على المسلمين خمس مرات في اليوم بآيات الصدق والأمانة ، وحرمة السرقة والغدر والخيانة .
لقد ورد قوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) في الغنائم يوم بدر ، إذ أن المشركين هم الغزاة المعتدين فابتلاهم الله بالهزيمة والخسارة والخيبة ، وترك المؤون والأسلحة والإبل والقتلى والأسرى ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) الجواب نعم .
وتوجهت الآية أعلاه من سورة آل عمران للمسلمين لمنع الخصومة بينهم بسبب الغنائم وقسمتها ، ليكون هذا المنع معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تختص مضامين هذه الآية بغنائم الحرب ، الجواب لا ، فهي تشمل أموال الدولة والمصارف والشركات من باب الأولوية القطعية ، فليس من حرب أو غنائم في المقام ، ومال الدولة ملك للدولة ولأفراد الشعب على نحو العموم المجموعي والإستغراقي ، ولا تجوز سرقته أو الإحتيال عليه أو الإجتهاد بأخذه خلسة أو علانية ، وكذا أموال المصارف والشركات في دولة إسلامية أو غير إسلامية .
وتعدي بعض الأفراد على المال العام ، وكثرة الإنفاق منه ليس مسوغاً لنهبه وسرقته .
وقد تقدم في الجزء السابع والأربعين بعد المائة من هذا السٍفر (وهل يشمل الغلول السرقة من بيت مال المسلمين ، وأموال الدولة العامة ، والغش وأخذ المسؤول لحصة ونسبة من العقود ومبالغ المقاولات خلسة وتواطئً، وبما يجعل نسبة له غير أجرة وعطاء الدولة له.
الجواب نعم ، لتكون خصماً له يوم القيامة ، ووبالاً عليه إذ تأتي معه ، وفيه إعجاز بأن علوم الآية القرآنية لا تختص بفرد موضوع خاص بل هي أعم في المعنى والدلالة بلحاظ وحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وإرادة المعنى الأعم للغنائم ، وأنها تشمل واردات الدولة في كل زمان.
وهل يشمل الحكم الدولة غير الإسلامية إذ كان المسلم موظفاً مؤتمناً فيها ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ) ليكون المسلم في منهجه وسيرته مرآة لأحكام القرآن وداعياً إلى الله بصدق الأمانة وإخلاص العمل)( ).
ويمكن تعريف الغلول بالمعنى الأعم وهو الأخذ خلسة وحيلة من بيت المال والمال العام .
وهل الحاجة والعوز عذر للتجاوز على المال والمرافق العامة ، الجواب لا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
والغلول من المحرمات وهو سبب للفتنة والخصومة والنزاع واليأس والقنوط ، وقلة الرزق ، إلى جانب عقوبته الأخروية ، لبيان معجزة وهي النهي عن الغلول إصلاح للمجتمعات وتهذيب للنفوس.
لقد كان العرب في الجاهلية يغزو بعضهم بعضاً ، ويستولون على الأموال ويسبون النساء والصبيان فجاء الإسلام بالأخوة الإيمانية ، وهي أسمى من النسبية وتشترك معها من غير تعارض بينهما ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن الأخوة عدم التعدي على المال العام ، والنسبة بينه وبين الغنائم عموم وخصوص مطلق ، فقد انقطعت المعارك بين المسلمين والمشركين ، ومنها معركة حُنين التي كانت أكثر معارك الإسلام غنائم وحازوا فيها من الغنم مثلاً (40) ألف شاة.
فمن الإعجاز تعفف اثني عشر ألف مسلم في الميدان يومئذ عن الغلول والتعدي عليها ، وهو من الإعجاز الزماني لنزول الآية القرآنية ، إذ نزلت آية الغلول في معركة بدر وغنائمها في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة لتبقى حكماً عاماً شاملاً لأموال بيت مال المسلمين والأموال والمرافق العامة وأموال المصارف ومقتنيات الشركات مطلقاً إسلامية كانت أو غير إسلامية ، لعمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الناس مسلطون على أموالهم) ( )، بذكر الناس جميعاً مع اختلاف مذاهبهم .
قانون تنزيه الأنبياء
من إعجاز القرآن توثيقه السماوي للرسالات السماوية ، وذكر الخصال الحميدة للأنبياء على نحو العموم الإستغراقي ، لبيان نزاهتهم وعصمتهم ، وبين النزاهة والعصمة عموم وخصوص مطلق.
فالعصمة أخص ، وقد يجتمعان في آية واحدة كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، لقانون تنزه الأنبياء عن الغلول لصفة النبوة التي يتصفون بها مما يدل على عصمتهم ، إذ ورد ذكر الغلول من باب المثال وليس الحصر .
وعن سعد بن أبي وقاص (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أشدّ بلاء.
فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، فيبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك ، ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة)( ).
لقد تنزه الأنبياء عن التعدي أو الإستحواذ على المال العام ، والأخذ من بيوت المال بغير حق ، ويتجلى هذا التنزه بالسنة النبوية ، إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ سهمه من الأنفال ثم ينفقه في سبيل الله ، ولا يبيت المال في بيته ، وينفق في النهار مائتي ألف ، وثلاثمائة ألف درهم ليأتي الليل وأوان العشاء وليس في بيوت النبي نار في موقد ، وهو من معجزاته ، وشاهد على صبر أهل البيت وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضاة الله عز وجل .
لقد أرسى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القواعد العامة والخاصة للملوك والرؤساء وأولي أمر المسلمين في وجوب التنزه عن الإستيلاء على المال العام .
فمن معاني الجمع بين قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، وقوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، قانون وجوب اقتداء المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزه عن أكل المال العام .
والمختار أن الدولة مالكة لنيابتها عن عامة الشعب ، وكذا المصارف والشركات العامة ذات ملكية خاصة فلا يجوز التعدي على أموالها.
لقد أراد الله عز وجل بتنزيه الأنبياء بناء صرح العدالة وحفظ الأموال والاقتصاد ، وسلامة عامة الناس من الأمراض والعلل النفسية إذ أن قيام بعضهم بنهب المال العام ، أو الإحتيال للإستيلاء عليه يؤذي عامة الناس .
دفاع الله عن النبي محمد (ص)
من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ( )، أن ملكيته ملكية تصرف مطلق لا يشاركه فيها أحد ، ومسك السماوات والأرض في كل لحظة وثانية من أفراد الزمان الطولية ، فالله سبحانه خلق السماوات والأرض ولم يتركها وشأنها كما قال بعض الفلاسفة.
وهي ملكية إبداع وتجديد في الآيات الكونية ، وفي التنزيل [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( )، وقد بعث الله عز وجل الأنبياء فأكرمهم بالوحي والتنزيل ، وما دام الوحي مصاحباً لهم فانهم يمتنعون عن الغل ، وعن أخذ المال خلسة سواء من الغنائم أو غيرها .
وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وجعل لهم الخمس بقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وفيه وقاية للنبي ، وحصانة من الطعن والذم ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ما يرده ينفقه على المسلمين وفيه مسائل :
الأولى : قانون تنمية ملكة الصبر عند المسلمين والمسلمات .
الثانية :دخول الناس في الإسلام .
الثالثة : قانون عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اللوم ، لأنه لا يقول أو يفعل إلا بالوحي .
الرابعة : قانون توجه المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجاء نواله وعطائه .
الخامس : العذر للنبي عند عدم إيجاد ما ينفق .
السادس : قانون الزهد في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليومية في المأكل والملبس ونحوه .
السابع : البساطة وقلة النفقة في حجرات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت من سعف النخيل المغطى بمسوح الشعر ، وطول كل حجرة أقل من خمسة أمتار ، وكل واحدة لزوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ذكرها الله في القرآن [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ]( )وسميت السورة باسمها .
إن قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( ) دفاع عن الأنبياء جميعاً نزل في القرآن ليبقى خالداً إلى يوم القيامة.
وورد في سبب نزول الآية عن إبن عباس قال (نزلت هذه الآية { وما كان لنبي أن يغل } في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها . فأنزل الله {وما كان لنبي أن يغل })( ).
موضوعية موضوع الآية
لقد نزلت آية قرآنية بخصوص قطيفة حمراء في معركة بدر ، لتكون إنذاراً وموعظة وهدى للمسلمين بالتنزه عن الغلول مع كثرة الغنائم والمكاسب والنعم والزكوات على المسلمين ، ولتكون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثير منهم قطائف حمراء وغيرها .
إذ كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفيء وهو شعبة من الغنيمة فالفيء مال يحصل عليه المسلمون من الكفار وأهل الكتاب من غير قتال بطريقة الهدنة والصلح والجزية .
وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث صفايا فيء بني النضير ، وخيبر ، وفدك .
فاما فيء بني النضير فجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبساً للنوائب ، وأما فدك فقد وهبها لفاطمة عليها السلام.
وأما خيبر فقد قسمها ثلاث أجزاء ، جزءين بين المهاجرين والأنصار ، وجزء نفقة لأهله ، وما تفضل منها بين فقراء المهاجرين وغيرهم بخلاف الغنيمة التي ينالها المسلمون في معارك الدفاع فان للنبي منها الخمس .
فحال الفيئ خاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف به بالوحي لذا لم يقسمه بالسوية ، وكان يضعه في أصحابه وأهل بيته ، وقد أعطى عمه العباس من الفيء.
(قال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا وقد توضأ لصلاة الظهر، فما صلى يومئذ حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه و يحثي فأخذ، وكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة)( ).
والمراد من قوله (مما أخذ منا) أي ما دفعه عوضاً للفكاك من الأسر .
قال ابن إسحاق باسناده (عن ابن عباس، قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر والاسارى محبوسون بالوثاق، بات النبي صلى الله عليه وسلم ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: ما لك لا تنام يا رسول الله .
فقال : سمعت أنين عمي العباس في وثاقه ” فأطلقوه، فسكت، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكان رجلا موسرا ففادي نفسه بمائة أوقية من ذهب.
قلت: وهذه المائة كانت عن نفسه وعن ابني أخويه عقيل ونوفل، وعن حليفه عتبة بن عمرو أحد بنى الحارث بن فهر، كما أمره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ادعى أنه كان قد أسلم .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك وسيجزيك فادعى أنه لا مال عنده.
قال : فأين المال الذى دفنته أنت وأم الفضل وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم.
فقال: والله إنى لاعلم أنك رسول الله، إن هذا شئ ما علمه إلا أنا وأم الفضل)( ).
قانون تعدد موضوع الآية
وفي قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، ورد في سبب نزول الآية وجوه :
الأول : ظن بعض الصحابة يوم بدر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ قطيفة حمراء فقدت من الغنائم ، والقطيفة : كِساء له خمل .
الثاني : المفقود هو سيف وليس قطيفة.
الثالث : (السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم فقسم للناس ولم يقسم للطلائع فأنزل الله عليه عتابا [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ]( ) أي يقسم لبعض ويترك بعضا وروي نحو هذا القول عن ابن عباس)( ).
وليس في الآية عتاب متوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما هي دفاع عنه .
الرابع : ما كان لنبي أن يكتم شيئاً من كتاب الله ، قال محمد بن كعب( )، وموضوع الآية أخص .
والسنة بيان وتفسير للقرآن ، ورد (عن معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال : أتدري لمَ بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) لهذا دعوتك ، فامضِ لذلك)( ).
هل عمل النبي محمد (ص) بالتجارة
لقد كانت قريش رجالاً ونساءً يزاولون التجارة ويدل على هذا العموم قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، والأخبار الواردة بمشاركة النساء في التجارة ، ومنهن خديجة بنت خويلد التي كان عملها في التجارة سبباً لزواجها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ أن عمل نساء قريش بالتجارة لا يعني مخالطة الرجال ، والإشتراك في البيع والشراء ، إنما كان ذووهن ، وما لهن من الغلمان يقومون بالتجارة فكان حكيم بن حزام ابن أخ خديجة يشتري ويبيع لها ، وهو الذي اشترى لها زيد بن ثابت من سوق عكاظ ، وقيل من سوق حباشة ، وهو من أسواق مكة بأربعمائة درهم .
وسوق حباشة على بعد ست مراحل من مكة .
وتشير الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل فيه ، وباع واشترى فيه ، وهو يتاجر لصالح خديجة بنت خويلد قبل البعثة النبوية.
والمختار أن شراء زيد بن ثابت تم في سوق عكاظ ، وكان عمره ثماني سنوات ، خطف ظلماً من يد أمه في الغزو ، لبيان النعمة العظمى على أهل الجزيرة والناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقضاء بها على السبي وبيع الأحرار كعبيد ، وصيرورة زيد بن ثابت أسوة في الترغيب بالعزوف عن الغزو ، وفي بيان قبح السبي.
وعندما سمعت خديجة بأمانة وصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبركة التي تصاحب عمله رغبت بالمضاربة معه في تجارتها إلى الشام ، وعرضت عليه الأمر فقبل ثم تزوجها بعد أن رأت الآيات والوثاقة والثقة والأمانة والصدق.
وأهدت له زيد بن ثابت فاعتقه وتبناه ، وصار يعرف بـ(زيد بن محمد).
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يجمع بين الثراء وكثرة الإنفاق ، وفيه معجزة له لأنه لا يخشى الفقر والفاقة في غد ، وهو من الشواهد على زهده وعزوفه عن زخارف الدنيا ، وكانت بيوت أزواجه في المدينة من سعف النخيل مغطاة بمسوح الشعر ، مع أن الله عز وجل تفضل وجعل له الفيء وخمس الغنائم ، وكان ينفقها على فقراء المسلمين وغيرهم.
ليكون هذا الإنفاق مقدمة وباعثاً على التقوى والصلاح ، اللذين في آية الأنفال نفسها بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
وقال تعالى [وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى]( )، لبيان تعدد أسباب ثروة وغنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد خرج إلى الشام مع عمه أبي طالب ، ثم خرج في تجارة خديجة ، وشاء الله أن يحفظه في حله وترحاله مع تجلي علامات النبوة ظاهرة عليه.
وزاول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيع والشراء حتى بعد البعثة النبوية ولكن على نحو قليل ونادر ، وكان شراؤه أكثر من بيعه ، يشتري لعياله أو يشتري ليهب.
إذ كان منشغلاً بتبليغ الرسالة ، ومزاولته للتجارة من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
ولا يذكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بيع وشراء بعد الهجرة إلا ما ندر مما يصدق عليه أنه أقرب إلى الضرورة ، كبيعه عبد بعبدين كما قيل ، كما ورد شراءه جملاً في قصة شهادة خزيمة بشهادة رجلين .
لبيان ترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالبيع والشراء ويشتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ليتملك إنما ليهب ويعطي للمسلمين ، وتدل عليه مغادرته الدنيا من غير أن يترك الأموال .
و(عن عمرو بن الحارث قال : ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً)( ).
وعن (عمَارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه .
فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم .
فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه ، وإلا بعتُه .
فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: “أو ليس قد ابتعته منك .
قال الأعرابي : لا والله ما بعتك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل قد ابتعته منك.
فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان .
فطفق الأعرابي يقول : هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك ، فمن جاء من المسلمين.
قال للأعرابي : ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًا.
حتى جاء خزَيْمة ، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك .
قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته .
فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال : بم تشهد .
فقال : بتصديقك يا رسول الله.
فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية انتفاع المسلمين من نعته لخزيمة .
إذ ورد (عن زيد بن ثابت قال : لما نسخنا المصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب ، كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ]( ) فألحقتها في سورتها في المصحف)( ).
أقسام الخبر من جهة الصدق
ينقسم الخبر من جهة المتن إلى أقسام :
القسم الأول : خبر مقطوع بصدقه .
ومنه الخبر الذي يفيد العلم واليقين , ويمتنع دبيب الكذب إليه , ويترشح العلم عن الضرورة أو الإستدلال والنظر ومنها :
الأول : البديهيات المتسالم عليها عقلاَ ونظراَ مثل الاثنين نصف الأربعة.
ومثل الملازمة بين طلوع الشمس والنهار , وبين إطلالة الهلال وبداية الشهر القمري كما في قوله تعالى بخصوص هلال شهر رمضان [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
الثاني : الخبر الذي يدرك بالإستدلال مثل القياس :
الكبرى : كل ممكن محتاج.
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج ، ويدل عليه قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
الثالث : ملازمة الصدق للخبر مثل نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الرابع : الخبر الصادر من رسول الله صدق لإخباره عن الله عز وجل , ولعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
الخامس : خبر الطائفة والجمع الكثير عن صفة خاصة أو طارئة يتصفون بها فلابد أن قولهم صدق , كقول كل فرد من الجماعة أنا فقير .
أو بيان طائفة لأمور وأحكام الشريعة كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
لتدل الآية أعلاه على أن المراد من الطائفة ليس الفرد الواحد كي يستدل بها على حجية خبر الواحد لأن لفظ الطائفة قد يراد منه لغة الفرد الواحد , إنما يراد في الآية الجماعة كي يحفظوا الأحكام ويمتنعوا عن التحريف أو التغيير فيها.
بدليل صيغة الجمع فيها من جهات :
الأولى : واو الجماعة في (ليتفقهوا).
الثانية : واو الجماعة في (لينذروا).
الثالثة : ضمير الجماعة (هم) في قومهم.
الرابعة : ضمير الجماعة (هم) في اليهم.
السادس : الخبر الذي تتفق عليه الأمة فهو من الإجماع الذي يكون حجة .
السابع : الخبر المتواتر الذي يرويه جماعة عن جماعة , وبما يدل على عدم تواطئهم على الكذب سواء كان لفظياً كحديث المنزلة , أو معنوياَ كحديث الإسراء .
الثامن : الخبر المحفوف بالقرائن التي تشهد له بالصدق , وتمنع من نعته بالكذب .
القسم الثاني : الخبر المردد بين الصدق والكذب فلا يمكن القطع بصدقه , ولا بكذبه , وهو على أقسام :
الأول : الذي يترجح فيه طرف الصدق سواء من جهة رجال السند أو المتن والموضوع .
الثاني : الذي يترجح فيه طرف الكذب كخبر الفاسق ويدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) على عدم الملازمة بين خبر الفاسق والكذب , فليس كل ما يخبر به الفاسق كذباَ وزوراَ , لذا أمرت الآية أعلاه بالتبين عندما يأتي الخارج عن طاعة الله عز وجل بالخبر وعدم طرحه من رأس .
الثالث : الخبر الذي يتساوى فيه طرفا الصدق والكذب , وتقع مباحث علم الأصول في القسم الأول أعلاه كخبر العدل والثقة ونحوه وهو المسمى خبر الواحد , أو خبر الآحاد , وفيه شروط من جهات :
الأولى : شروط خاصة بالراوي .
الثانية : شروط بذات المتن .
الثالثة : ألفاظ الخبر .
القسم الثالث : الخبر المقطوع بكذبه وعدم صحته , وهو ساقط ولا يأخذ به العقلاء ويرد من جهة المتن , ولا تصل النوبة إلى السنة ومناقشته مما يكون خلاف الضرورة أو العقل أو الحس والوجدان , ومنه مثلاَ مدعي النبوة كذباَ وهو على قسمين :
الأول : مدعي النبوة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن غير معجزة تدل على صدق دعواه .
الثاني : مدعي النبوة بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو خاتم النبيين قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
ولم يرد لفظ (خاتم) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وقد اجتهد علماء الإسلام لإسقاط الخبر الموضوع والذي يتعارض مع الكتاب والسنة , وما يكون من الكذب .
غيبة المتجاهر بالفسق
وقيل يدل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) على أن الأصل في مجهول الحال عدم العدالة فلا يؤخذ بشهادته أو روايته.
ولا دليل على استقراء هذا المعنى من آية البحث إنما جاءت بمفهوم الشرط وخصوص الذي ثبت فسقه وخروجه عن الطاعة .
وهل تدل الآية على إرادة خصوص المتجاهر في الفسق لأن هذا التجاهر يكشف حاله , المختار الآية أعم .
إنما يتعلق الجهر بالفسق بمسألة جواز الغيبة للمتجاهر بالفسق , والمختار أنه غيبة لأن الله عز وجل نهى عن الغيبة مطلقاَ ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( ) فلابد من اختيار اسم وعنوان آخر له ، إلا أن يرد دليل على جواز غيبة المتجاهر بالفسق مثل منع إغواء المسلمين والناس لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
ومن إعجاز الآية أعلاه شمول نداء الإيمان فيها المنافقين والضلال لما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام .
وفي الآية تأديب واصلاح للمسلمين وتنمية للأخلاق الحميدة , وإجتناب فعل السيئات لأنه قبيح بذاته ويجلب الأذى لصاحبه فيجعله منبوذاَ لا تصدق الجماعة بقوله , ولا تقبل شهادته .
لقد أراد الوليد بن عقبة إيذاء بني المصطلق لعداوة سابقة معهم قال ابن جزى : ([إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا] سببها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ زكاتهم فروي أنه كان معاديا لهم فأراد إذايتهم فرجع من بعض طريقه فكذب عليهم.
وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنهم قد منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم بغزوهم ونظر في ذلك فورد وفدهم منكرين لذلك .
ولكن الخبر يترشح عنه وعن مضمونه طوعاً وانطباقاً التخويف والإنذار أو البشارة لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أرسل أحد أصحابه بأمر ذي شأن ، ويكون موضوعاً للتخويف يأمره بتبليغه وحده وكتمان الأمر عن الصحابة.
ومنه بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة يوم الخندق بين جيوش المشركين ويعلم حالهم.
خبر الواحد في السنة النبوية
عن حذيفة بن اليمان قال (لقد رأيتنا ليلة الأحزاب و نحن صافون قعود وأبو سفيان ومن معه فوقنا وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا.
وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقولون : إن بيوتنا عورة و ما هي بعورة فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له ويأذن لهم ويتسللون ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا رجلا حتى أتى علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي.
قال : فأتاني و أنا جاث على ركبتي فقال : من هذا ؟ فقلت حذيفة.
فقال : حذيفة ، فتقاصرت للأرض.
فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقمت فقال : إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم.
(أي علم النبي بتغير نوايا المشركين وأنهم يهمون للإنسحاب ، وهل هذا العلم من الوحي أم بواسطة الأخبار والعيون ، أما منهما جميعاً ، المختار هو الأول ، لعمومات قوله تعالى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
قال حذيفة : وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا.
فخرجت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم احفظه من بين يديه و من خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته.
قال : فوالله ما خلق الله فزعا و لا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئا.
قال : فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني)( ).
أي ترمي سهماً ، ولا تستعمل سيفاً ، لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يطلب السلم ، ولا يرضى بالقتال والتعدي .
وحينما دسّ حذيفة نفسه في معسكر المشركين رآى أبا سفيان يتدفأ بنار موقدة وكانت الليلة شديدة البرودة وتهب فيها ريح شديدة.
فأراد أن يضربه بسهم فتذكر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني).
وسمعهم يقولون : الرحيل الرحيل .
فرجع حذيفة إلى رسول الله ووجده يصلي ، قال حذيفة (فدنوت منه فأسبل علي شملته .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرته خبر القوم، أخبرته أنى تركتهم يرحلون)( ).
أقسام خبر الواحد
يقسم خبر الواحد إلى أقسام :
الأول : الصحيح : وهو ما اتصل سنده بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم بنقل المؤمن العدل عن مثله .
الثاني : الموثق : وهو الذي يتضمن توثيق راويه بغض النظر عن مذهبه وطائفته.
الثالث : الحسن : وهي رواية مؤمن ممدوح ولم يرد نص بعدالته .
الرابع : الضعيف : وهو الذي يقع في طريقه مجروح أو مجهول حال.
ويتقوم قبول الرواية بوثاقة سلسلة الرواة ، وليس الراوي المباشر الذي ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل رواة الحديث إلى حين توثيقه وكتابته.
الخامس : الوثوق : وهو الإطمئنان إلى صدور الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتدخل فيه الوثاقة بالرواة ، ولكن موضوع الوثوق أعم .
ومن الوثوق موافقة الرواية للقرآن وعدم تعارضها مع آياته ، فلو كانت الرواية صحيحة السند ولكنها تتعارض مع آيات القرآن فانها تطرح .
لما ورد عن الإمام الجواد عليه في مناظرته مع يحيى بن أكثم (أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه واله في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة وستكثر فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به)( ).
فالوثوق أعم من الوثاقة .
ومن الوثوق موافقة الرواية للسنة النبوية القطعية والعقل ، والذي يقول بأن الملاك بالراوي ووثاقته لابد وأن يرجع إلى نص الرواية.
لذا يقسم الحديث إلى قسمين :
الأول : علم الحديث رواية : وهو يختص بنص الحديث نفسه أي متنه ، وضبطه وبيان ألفاظه والحرص على نقله بالنص وليس الحكاية .
الثاني : علم الحديث دراية : وهو الذي يتعلق بسند الحديث ، وأحوال الرواة ووثاقتهم وشروطهم ، وهذا العلم مقدمة للأول أعلاه وقبول الرواية.
فالحجية فرع الوثوق والوثاقة ، وبعض المذاهب تكون الحجية عندهم مساوقة للعدالة ، ويريدون من العدالة الإنتساب إلى مذهبهم ، وينعتون بعض المذاهب بالبدعة فيكون عندهم فاسقاً مخالفاً لشرط العدالة فيسقط حديثه ، وهذه غلظة وقسوة ، وخلاف الواقع .
التهنئة للكتابيين في أعيادهم
من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً]( )، الأخوة بين الناس ، والأصل في الصلات بينهم هو الود والتراحم ، وهو من مصاديق نفخ الله من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، ومسمى المشاركة في أعياد الناس على جهات :
الأولى : احتفال المسلم برأس السنة الميلادية بلحاظ أنه توقيت فلكي ، وتأريخ معتمد رسمياً ، وعند الغالب من أهل العراق ، وليس هو من باب العقائد ، ولا الإقرار بعملهم .
الثانية : مسمى مشاركة الكتابيين أعيادهم .
الثالثة : جواز تهنئة الكتابيين في أعيادهم ، وهو من عمومات [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ) [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا]( ).
الرابعة : ولا تجوز هذه الوجوه مع المفسدة أو ترويج مفاهيم الضلالة والإنحراف ، وقد ذكر الله عز وجل في القرآن معجزة ولادة عيسى من غير أب ، وكلامه في المهد [فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
ولم يرد لفظ (فاشارت) ولفظ (إني عبد الله) في القرآن إلا في الآيتين أعلاه.
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم)( ).
وهناك أمور شخصية :
الأولى : التهنئة بالزواج .
الثانية : الشفاء .
الثالثة : الولد .
الرابعة : قدوم المسافر .
الخامسة : الدار الجديدة .
السادسة : الصحبة وحسن الجوار ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ]( ).
السابعة : السلامة من الأذى .
ونحوها من الأمور المشتركة والصلات الإجتماعية فهي جائزة ما دام ليس من حرب أو فساد .
وكان عند أهل المدينة عيدان أيام الجاهلية ، وبعد الهجرة قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أبدلكم الله بهما بعيد الفطر والأضحى.
[وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا]( )، أي أن الولادة في الصيف وكذا دلالة شهادة الرعاة لها مع أنه ليس من رعي في الشتاء .
قانون حرق القرآن إرهاب
لقد احتج الملائكة على جعل الإنسان كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، وليس من حصر لمصاديق الفساد وإن كانت أقل كثيراً من مصاديق الصلاح ، ومن ضروب الفساد استهزاء مشركي قريش بالقرآن والتنزيل ، فنزل ذمهم في القرآن.
ولم يجرأوا على حرق القرآن ، وحرق القرآن فساد في الأرض ، يحرق في بقعة صغيرة ليؤذي مليارات المسلمين وغير المسلمين ، وهو من مصاديق ذكر الأرض في الآية بمعنى اسم جنس ، وهو من إعجاز القرآن
هل احتجت الملائكة على الإرهاب في هذا الزمان ، ومنه حرق القرآن.
وحرق القرآن والكتب السماوية المقدسة الأخرى كالتوراة والإنجيل مخالف للقوانين الدولية والسلم المجتمعي ، ولا يصح مساعدة قانون محلي عليه
ويتضمن هذا التفسير آلاف القوانين التي تحرم الإرهاب وتبين قبحه .