المقدمـــة
الحمد لله على نعمائه وآلائه الظاهرة للحواس ، والخفية التي تدرك بالتدبر والإستقراء ، ويتفضل الله عز وجل ويرضى منا بالقليل من الشكر ، وتستديم النعم حتى مع تخلفنا عن هذا القليل لبيان سعة رحمة الله بالناس والخلائق ، وهل هذه الإستدامة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، الجواب نعم.
وهذا الجزء هو الثامن والخمسون بعد المائتين من معالم الإيمان وهو الثالث من هذا السفِر الذي يختص بـ(علم الإحصاء القرآني غير متناهٍ) بعد أن صدر بخصوص هذا العلم الجزءان (245-247)( ) كما معروض في موقع مكتبنا www.marjaiaa.com.
الحمد لله الذي أنزل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وهذا التبيان خير محض ، ونفع عام ، وتفضل الله عز وجل وقرن مع التبيان في ذات الآية الهدى والرحمة والبشارة للمسلمين ، لإصلاح الناس للدنيا والآخرة ، وإقامة الحجة على الذين كفروا ، وتمام الآية هو [وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى]( ).
ومن الإعجاز في الصفات الأربعة أعلاه للقرآن مجيؤها بصيغة الإطلاق مع إتحاد الكتاب وهو القرآن ، والذي أنزل عليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولتكون شهادة النبي محمد على الناس بالقرآن ومن القرآن لبيانه لكل شئ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ووصف الله عز وجل القرآن بأنه تبيان وهو رحمة وبشرى ودعوة للناس للتصديق به ، والإمتناع عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن المشركين رفعوا لواء العداوة له ، وتجاهروا بايذائه وأهل بيته وأصحابه ، ولأنهم حاربوا التبيان والهداية والرحمة والبشارة فلابد أن يبطش بهم الله سبحانه.
فانزل الله الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم تعد أسباب الترجيح المادية لجيوش المشركين مادة وعلة للنصر ، بل كانت سبباً لخسارتهم ولحوق الخزي بهم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية .
فمن تبيان القرآن لكل شئ بلحاظ عنوان هذا الجزء وهو (علم الإحصاء القرآني غير متناهٍ) وجوه :
الأول : قانون لم يغز النبي أحداً ، والذي صدرت بخصوصه سبعة وعشرون جزءً من هذا السِفر المبارك وهي :
(164-165-166-168
169-170-171-172
-174-176-177-178
180-181-182-183
187-193-194-196-204
212-216-221-229-239-239).
الثاني : عدم إنتفاع المشركين من إيذائهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة قبل الهجرة ، ومثلاً لما اشتد أذاهم طلب النبي من طائفة من أصحابه الهجرة إلى الحبشة ، حيث هاجر لها من شباب قريش ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة ليكونوا سفراء الإسلام ، وليدل ثباتهم على الدين وعدم إرتدادهم حتى بين أمة من أهل الكتاب من النصارى على معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصدق نبوته ، ولتكون مقدمة لهجرته وأصحابه إلى المدينة المنورة ، وسلامة المهاجرين والأنصار من الإفتتان بديانة اليهود الذين كانوا في المدينة .
الثالث : تحلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بملكة الصبر ، والإجتهاد في طاعة الله ليكون مرآة لتبيان القرآن للوظائف العبادية للإنسان في الأرض ، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
الرابع : نزول آيات القرآن بالدفاع والقتال ، ولم يرد فيه هجوم وغزو المسلمين لغيرهم ، ويدل الجمع بين آيات القتال على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الخامس : استئصال مفاهيم الكفر وتقديس الأصنام في البيت الحرام والجزيرة ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية المتصلة إلى يوم القيامة إنتفاء عبادة الأصنام في الأرض إلى يوم القيامة ، وفيه إزاحة لمانع لرحمة الله في الأرض.
لقد أحب الله عز وجل الناس وتغشاهم برحمته ، ومن حبه لهم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على الغزو والنهب والسلب وسلطان الظالمين والطواغيت على المستضعفين .
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الرزق الكريم ، وسلامة الأبدان وتغشي اللطف الإلهي للناس ، باستدامة النعم ، ومضاعفتها ، والمجئ باصناف مستحدثة منها ، ليفوز أبناء الجيل اللاحق بنعم غير موجودة عند أسلافهم لبيان سعة خزائن الله عز وجل والنفع العظيم من دعاء وصبر وجهاد الأنبياء والصالحين ، وفي هذه النعم وحضورها واليسر في نيلها دعوة للناس للهداية والإيمان ، مع غنى الله عز وجل عن الخلائق ، قال تعالى [وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله الذي خلق الملائكة وجعل إحصاء كثرة أعدادهم وأماكن وجودهم لا يحصيه ويعلمه إلا هو سبحانه ، وجعلهم منقطعين إلى عبادته ، وينزلون حيث يأمرهم الله عز وجل ، منها النزول بالوحي للأنبياء ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وعن عبد الله بن مسعود (قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح ينفض من ريشه التهاويل والدر والياقوت)( ).
وتدل آيات القرآن على إحصاء الله عز وجل الأعمال وضبط أفعال بني آدم وعدم تضييع او فوات بعض منها، فاذا كان الإنسان قد ينسى وقدم الإعتذار سلفاً عن النسيان والخطأ فان الملائكة لا ينســون ولا يفوتهم تدوين أي فعل من أفعال الإنسان ،لذا اختتمت سورة البقرة بقوله تعالى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
وتبدو هنا موضــوعية إقــرار المؤمنين بالملائكة فمن وظائف الملائكة احصاء أعمال بني آدم، والاقرار بهم تثبيت لحضورهم في الوجود الذهني الأمر الذي يكون له شأن في نوع العمل، والحرص على تدوين الحسنات واجتناب فعل السيئات خشية كتابتها من قبل الملائكة.
وهل تحصي الملائكة كل نوايا وأفعال الناس ، الجواب لا ، فالإحصاء التام يختص به الله تعالى ، منه قوله تعالى [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتنهى الآية في مفهومها عن الجحود والإستكبار عن المسألة وطلب العفو وتخبر بأنه حاجة وان المؤمنين استطاعوا الوصول إلى هذه الحقيقة أي لزوم طلب العفو والمغفرة .
ولم تقل الآية ربنا اجعلنا لا ننسى أو نخطأ لأنه لا يتناسب مع طلب العفو والمغفرة ولأنه من التكليف بما لا يطاق.
وقد يتعلق موضوع آيات الإحصاء بغير لفظ ، كما في قوله تعالى [فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ]( ).
وقال تعالى [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
كما في مادة كتب ، قال تعالى [وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وقال تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.
وقد تحمل مادة [أَحْصَى] على غير العد والحساب ، و(عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من طاف بالبيت سبعا يحصيه كتبت له بكل خطوة حسنة ومحيت عنه سيئة ورفعت له به درجة وكان له عدل رقبة)( ).
وقيل المراد من كلمة يحصيه اعلاه هو إتقان وإكمال الطواف بشروطه وآدابه ، والمختار أن المعنى أعم ، ومنه إحصاء أشواط الطواف لحجية الظاهر.
وهل يمكن القول بقانون القرآن كتاب الإحصاء السماوي ، الجواب نعم.
ففي كل زمان تتجلى ذخائر من كنوز وعلوم القرآن ، وهو من الشواهد على بقاء آياته غضة طرية ، وعلى سلامته من التحريف ، قال تعالى [إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ]( ).
وجاءت الأحاديث بالحض على عمارة البيوت بقراءة القرآن.
و(وعن الرضا عليه السلام يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله قال: اجعلوا لبيوتكم نصيبا من القرآن، فان البيت إذا قرء فيه يسر على أهله، وكثر خيره، وكان سكانه في زيادة، وإذا لم يقرأ فيه القرآن ضيق على أهله، وقل خيره، وكان سكانه في نقصان)( ).
لبيان النفع العظيم في قراءة القرآن في البيوت والمساجد ودور العبادة مطلقاً ، والمنتديات ووسائط النقل ونحوها .
وفي المقام مسألتان :
الأولى : هل يشترط القراءة الجهرية ، الجواب لا ، وإن كانت الجهرية هي الأفضل إلا مع وجود مانع .
الثانية : هل قراءة القرآن في الصلاة في البيت للرجل أو المرأة من مصاديق الحديث أعلاه ، أم أن القدر المتيقن هو النافلة خارج الصلاة ، الجواب هو الأول .
ومن عظيم قدرة الله عز وجل إحصاؤه كل شئ ، دقّ أو كبر ، قال تعالى [وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا]( ).
حرر في الثالث من شعبان 1445هـ
14/2/2024
تجدد موضوع الآية
من خصائص الآية القرآنية أنها قد تنزل لسبب مخصوص يسمى سبب النزول ولكنها تبقى غضة طرية في رسمها ومضامينها القدسية وموضوعها ويتجدد حكمها كل يوم إلى يوم القيامة .
ومنه قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ]( )، التي نزلت بخصوص قطيفة حمراء فقدت من غنائم معركة بدر قبل القسمة ليصلح الله عز وجل حال المسلمين في غنائم المعارك اللاحقة والتي كان فيها مشركو قريش هم الغزاة المعتدون ، وفي معركة حنين التي جرت بتعدي وهجوم ثقيف وهوازن المباغت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة ، هزم الله عز وجل المشركين فوقع في أيدي المسلمين إكثر من (40) ألف رأس غنم و(24) ألف بعير ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، وحبسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة لينظر في قسمتها بعد الفراغ من الطائف وينتظر بالوحي قدوم وفد هوازن وثقيف ، فلم يتعد عليها أحد ، وهو من الإعجاز الغيري لقوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
ولا تختص الآية بالغنائم إذا انتهت المعارك والبشارة بتحقق النصر فيها بل تشمل كل من يتولى أمراً من شؤون المسلمين ويدل على هذا العموم ما ورد (عن عدي بن عميرة الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس من عمل منكم لنا في عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل ، وفي لفظ فإنه غلول يأتي به يوم القيامة)( ).
ويدل حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العموم من لفظ الغلول .
(وَقَالُوا الْغُلُولُ وَالْإِغْلَالُ الْخِيَانَة إلَّا أَنَّ الْغُلُولَ فِي الْمَغْنَمِ خَاصَّةً وَالْإِغْلَالُ عَامٌّ (وَمِنْهُ) لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِير غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ أَيْ غَيْرِ الْخَائِنِ)( ).
أتى أبو ذر معاوية فقال (ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله الساعة .
قال: يرحمك الله يا أبا ذر ، ألسنا عباد الله والمال ماله .
قال: فلا تقله. قال: سأقول مال المسلمين)( ).
إحصاء أسماء السور والآيات
من إعجاز القرآن تقسيمه إلى سور وعددها (114) سورة ، وتقسيم كل سورة إلى آيات متعددة ، وليس من عدد ثابت ومتساو للآيات في سور القرآن ، فمنها ما تكون آياتها كثيرة ، ومنها قليلة كما مبين في باب إحصاء حروف وكلمات القرآن( ).
وأكثر سور القرآن آيات هي سورة البقرة التي تأتي بعد سورة الفاتحة وفق نظم القرآن ، وعدد آياتها (286) آية ، وأقل سور القرآن آيات هي سورة العصر وسورة الكوثر وسورة النصر .
ومجموع آيات كل منها ثلاث آيات.
وأكثر سور القرآن كلمات هي سورة البقرة ، وعدد كلماتها (6144) كلمة.
وأقل سور القرآن كلمات هي سورة الكوثر ، وعدد كلماتها (10) كلمات وهي أيضاً أقل آيات القرآن حروفاً إذ أن عدد حروفها (42) حرفاً.
ومن إسرار التوقيف في نظم القرآن وتيسير حفظه مجئ السور الطوال في بدايات القرآن ، والسور القصار في آخره ، وفيه عون على تقسيم سور القرآن إلى المكي والمدني .
وقد ذكر لكل سورة اسم ، للبيان والتوضيح ، والترغيب بالتلاوة ، ومن السور ما لها أكثر من اسم مثل سورة الإسراء التي تسمى سورة بني إسرائيل ، وسورة سبحان لأنها تبدأ بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( ).
وتسمى سورة الإخلاص باربعة أسماء والثلاثة الأخرى :
الأول : سورة التفريد .
الثاني : سورة التجريد .
الثالث: سورة التوحيد)( ).
ومن السور ما تسمى باسماء أحد الأنبياء مثل : سورة هود ، سورة يوسف ، سورة إبراهيم ، سورة محمد ، سورة نوح .
قسمة تفصيلية للمكي والمدني
عدد السور عدد الآيات عدد الكلمات عدد الحروف
السور المكية 89 4742 49589 204547
السور المدنية 25 1494 28202 118209
المجموع 114 6236 77791 322756
وفي هذا الجدول مسائل :
الأولى : هناك سور مختلف فيها هل هي مكية أو مدنية ، وقد ذكر الإختلاف في نحو ثلاثين سورة ، اجتهدت هنا باضافتها إلى المكي أو المدني.
الثانية : قد لا تتطابق أرقام هذا الجدول مع غيره من الإحصائيات في المقام ، وإحصائيات العلماء المتقدمين المتسالم عليها هي الأولى والأقرب.
الثالثة : هذا الجدول تقريبي ففيه هامش .
إحصاء حروف وكلمات القرآن
قد تقدم مثل هذا الجدول في الجزء السبعين بعد المائة ، وفيه إضافة هنا بقسمة تفصيلية للمكي والمدني.
ترتيب السورة اسم السورة ترتيب النزول عدد آياتها عدد كلماتها عدد حروفها مكان النزول
1 الفاتحة 5 7 29 139 مكيّة
2 البقرة 87 286 6144 25613 مدنيّة
3 آل عمران 89 200 3503 14605 مدنيّة
4 النساء 92 176 3712 15937 مدنيّة
5 المآئدة 112 120 2837 11892 مدنيّة
6 الأنعام 55 165 3055 12418 مكيّة
7 الأعراف 39 206 3344 14071 مكيّة
8 الأنفال 88 75 1243 5299 مدنيّة
9 التوبة 113 129 2506 10873 مدنيّة
10 يونس 51 109 1841 7425 مكيّة
11 هود 52 123 1947 7633 مكيّة
12 يوسف 53 111 1795 7125 مكيّة
13 الرعد 96 43 854 3450 مكيّة
14 إبراهيم 72 52 831 3461 مكيّة
15 الحجر 54 99 658 2797 مكيّة
16 النحل 70 128 1845 7642 مكيّة
17 الإسراء 50 111 1559 6480 مكيّة
18 الكهف 69 110 1583 6425 مكيّة
19 مريم 44 98 972 3835 مكيّة
20 طـه 45 135 1354 5288 مكيّة
21 الأنبياء 73 112 1174 4925 مكيّة
22 الحج 103 78 1279 5196 مكيّة
23 المؤمنون 74 118 1051 4354 مكيّة
24 النور 102 64 1317 5596 مدنيّة
25 الفرقان 42 77 896 3786 مكيّة
26 الشعراء 47 227 1322 5517 مكيّة
27 النمل 48 93 1165 4679 مكيّة
28 القصص 49 88 1441 5791 مكيّة
29 العنكبوت 85 69 982 4200 مكيّة
30 الروم 84 60 818 3388 مكيّة
31 لقمان 57 34 550 2121 مكيّة
32 السجدة 75 30 374 1523 مكيّة
33 الأحزاب 90 73 1303 5618 مدنيّة
34 سبأ 58 54 884 3510 مكيّة
35 فاطر 43 45 780 3159 مكيّة
36 يس 41 83 733 2988 مكيّة
37 الصافات 56 182 865 3790 مكيّة
38 ص 38 88 735 2991 مكيّة
39 الزمر 59 75 1177 4741 مكيّة
40 غافر 60 85 1228 4984 مكيّة
41 فصلت 61 54 796 3282 مكيّة
42 الشورى 62 53 860 3431 مكيّة
43 الزخرف 63 89 837 3508 مكيّة
44 الدخان 64 59 346 1439 مكيّة
45 الجاثية 65 37 488 2014 مكيّة
46 الأحقاف 66 35 646 2602 مكيّة
47 محمد 95 38 542 2360 مدنيّة
48 الفتح 111 29 560 2456 مدنيّة
49 الحجرات 106 18 353 1493 مدنيّة
50 ق 34 45 373 1473 مكيّة
51 الذاريات 67 60 360 1510 مكيّة
52 الطور 76 49 312 1293 مكيّة
53 النجم 23 62 359 1405 مكيّة
54 القمر 37 55 342 1438 مكيّة
55 الرحمن 97 78 352 1585 مدنيّة
56 الواقعة 46 96 379 1692 مكيّة
57 الحديد 94 29 575 2475 مدنيّة
58 المجادلة 105 22 475 1991 مدنيّة
59 الحشر 101 24 447 1913 مدنيّة
60 الممتحنة 91 13 352 1519 مدنيّة
61 الصف 109 14 226 936 مدنيّة
62 الجمعة 110 11 177 749 مدنيّة
63 المنافقون 104 11 180 780 مدنيّة
64 التغابن 108 18 242 1066 مدنيّة
65 الطلاق 99 12 279 1170 مدنيّة
66 التحريم 107 12 254 1067 مدنيّة
67 الملك 77 30 337 1316 مكيّة
68 القلم 2 52 301 1258 مكيّة
069 الحاقة 78 52 261 1107 مكيّة
070 المعارج 79 44 217 947 مكيّة
071 نوح 71 28 227 947 مكيّة
072 الجن 40 28 286 1089 مكيّة
073 المزمل 3 20 200 840 مكيّة
074 المدثر 4 56 256 1015 مكيّة
075 القيامة 31 40 164 664 مكيّة
076 الإنسان 98 31 243 1065 مدنيّة
077 المرسلات 33 50 181 815 مكيّة
078 النبأ 80 40 174 766 مكيّة
079 النازعات 81 46 179 762 مكيّة
080 عبس 24 42 133 538 مكيّة
081 التكوير 7 29 104 425 مكيّة
082 الإنفطار 82 19 81 326 مكيّة
083 المطففين 86 36 169 740 مكيّة
084 الإنشقاق 83 25 108 436 مكيّة
085 البروج 27 22 109 459 مكيّة
086 الطارق 36 17 61 249 مكيّة
087 الأعلى 8 19 72 293 مكيّة
088 الغاشية 68 26 92 378 مكيّة
089 الفجر 10 30 139 573 مكيّة
090 البلد 35 20 82 335 مكيّة
091 الشمس 26 15 54 249 مكيّة
092 الليل 9 21 71 312 مكيّة
093 الضحى 11 11 40 164 مكيّة
094 الشرح 12 8 27 102 مكيّة
095 التين 28 8 34 156 مكيّة
096 العلق 1 19 72 281 مكيّة
097 القدر 25 5 30 112 مكيّة
098 البيِّنة 100 8 94 394 مكيّة
099 الزلزلة 93 8 36 156 مكيّة
100 العاديات 14 11 40 164 مكيّة
101 القارعة 30 11 36 158 مكيّة
102 التكاثر 16 8 28 122 مكيّة
103 العصر 13 3 14 70 مكيّة
104 الهمزة 32 9 33 133 مكيّة
105 الفيل 19 5 23 96 مكيّة
106 قريش 29 4 17 73 مكيّة
107 الماعون 17 7 25 112 مكيّة
108 الكوثر 15 3 10 42 مكيّة
109 الكافرون 18 6 27 95 مكيّة
110 النصر 114 3 19 79 مكيّة
111 المسد 6 5 29 81 مكيّة
112 الإخلاص 22 4 15 47 مكيّة
113 الفلق 20 5 23 71 مدنيّة
114 الناس 21 6 20 80 مدنيّة
قانون توالي النعم
الحمد لله الذي جعل الناس يعجزون عن إحصاء نعمه عليهم تلك التي تأتيهم في أي ساعة من ساعات الحياة الدنيا ليكون من مصاديق تقدير المضمر في قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( ) على وجوه :
الأول : وإن تعدوا نعمة الله في كل ساعة من ساعات الدنيا لا تحصوها.
الثاني : وإن تعدوا نعمة الله على كل إنسان لا تحصوها .
الثالث : وإن تعدوا نعمة الله عليكم في معركة بدر لا تحصوها ، لذا قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الرابع : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فاجتهدوا بالشكر لله .
الخامس : وإن تعدوا نعمة الله على الناس لا تحصوها .
السادس : وإن تعدوا نعمة الله على الخلائق لا تحصوها.
السابع : يا أيها الذين آمنوا إن تعدوا نعمة الله عليكم لا تحصوها.
الثامن : يا أيها الناس إن تعدوا نعمة الله على أي فرد منكم لا تحصوها.
ليكون من باب الأولوية العجز عن إحصاء النعم على الأسرة الواحدة والطائفة وأهل القرية وأهل البلد والأمة .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، إخبار القرآن عن تخلف وعجز الناس عن إحصاء النعم .
هل [نِعْمَةَ] اسم جنس
ورد لفظ [نِعْمَةَ اللَّهِ] ثماني مرات في القرآن في الآيات التالية :
الأولى : قوله تعالى [سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
وينقسم اسم الجنس لغة إلى قسمين :
الأول : اسم الجنس الجمعي ، وهو الذي يراد منه الجنس كله ، أو يكون صالحاً للدلالة عليه ، وعلى شطر من الجنس ، أو بعض أفراده مثل : ثمر ، شجر ، شاء( )، ليل ، عرب ، ترك .
ويفرق بينه وبين مفرده بالتاء للمفرد مثل : ثمرة ، شجرة ، ليلة ، أو ياء النسب مثل عربي ، تركي ، وكما في قوله تعالى [فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ]( ).
ومع قلة كلمات الآية أعلاه ففيها اسم جنس جمعي من جهات :
الأولى : جنات .
الثانية : نخيل .
الثالثة : أعناب .
الرابعة : فواكه .
وجمعها ضمير مفرد [وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ] لبيان تعدد معاني اللفظ القرآني ، وبلاغة اللغة العربية وتفرع المسائل عن هذا التباين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثاني : اسم الجنس الإفرادي : وهو الذي يقصد به الجنس كله أو شطر منه من غير لحاظ للقلة أو الكثرة مثل ماء ، مطر .
ولا يختص اسم الجنس بواحد دون آخر من أفراد جنسه مثل قلم ، رجل ، وتدخل فيه أسماء الإشارة ، والأسماء الموصولة ، وأسماء الشرط ، وأسماء الإستفهام ، فهي أسماء أجناس لا تختص بفرد واحد منها فمثلاً (هو) ضمير لكل مذكر غائب إلا مع القرينة التي تدل على إرادة فرد مخصوص.
اسم العلم
يقابل اسم الجنس اسم العلم الذي يدل على معيّن بحسب وضعه أي أن الإشتراك بالاسم على نحو الصدفة والإتفاق لا يضر مثل اسم جعفر ، زيد ، فاطمة ، ومنه أسماء الأمصار والأنهار والقبائل بخلاف النكرة مثل رجل .
وينقسم اسم العلم إلى علم مفرد ، مثل : سليمان ، مركب إضافي مثل : عبد الله ، وعبد الرزاق.
ومركب مزجي مثل : بعلبك ، ومنه الكنية التي تصدر بأب مثل : أبي الحسن ، أو أم مثل : أم هانئ .
ومنه اللقب مثل الذي يكون صفة مثل زين العابدين ، المهدي ، أو نسبة إلى قبيلة مثل القرشي ، أو إلى بلدة مثل المكي ، المصري ، الكوفي.
وإذا اجتمع الاسم واللقب في جملة واحدة يقدم الاسم ويؤخر اللقب وجوباً ، كما في قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ]( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]( )، القطع والجزم بتخلف الناس عن إحصاء نعم الله عليهم ، مما يملي عليهم الشكر له سبحانه .
اليوم في القرآن
من إعجاز القرآن مجئ لفظ (اليوم) ليشمل الحياة الدنيا والآخرة مع التباين بلحاظ القرائن وسياق الآية وموضع كلمة (اليوم) ومشتقاته فيها.
اُختلف في اليوم في الإصطلاح على وجوه :
الأول : اليوم المدة المحصورة بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وبه قال المالكية وهو ظاهر مذهب الشافعية .
الثاني : اليوم هو المدة المحصورة بين طلوع الشمس إلى غروبها ، وبه قال أهل الحساب والفلك ، وجماعة من الحنابلة .
الثالث : ساعات النهار من طلوع الشمس إلى مغيبها ، وساعات الليل من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر ، أما الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فهي ساعة مستقلة ولما سئل الإمام الباقر عليه السلام (عن ساعة ما هي من الليل ولا هي من النهار أي ساعة هي ، قال : ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس)( ).
وعن الإمام (الرضا عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ [فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا]( ) قال : الملائكة ، تقسّم أرزاق بني آدم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فمن نام فيما بينهما نام عن رزقه)( ).
واليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، قال تعالى [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ]( )، وتقام صلاح الصبح عند طلوع الفجر الصادق .
ومن بديع صنع الله جعل اليوم الوحدة الزمانية التي عليها مدار الحياة ، ويدرك كل إنسان هذه الحقيقة ، وإن كان أعمى ، ليكون وصف عالم الآخرة بأنه يوم القيامة تقريب للمدركات العقلية بالوسائط الحسية الظاهرة.
وقد ورد لفظ اليوم ومشتقاته نحو (472) مرة في القرآن ، أي أكثر من عدد أيام السنة .
وتبين آيات الخلق والتكوين ، ودلالة أفراد الزمان على المسافة والسرعة ، وأحوال الناس يوم القيامة .
وفي إحصاء كلمة (اليوم) و(يوماً) يكون المجموع (365) مرة بعدد أيام السنة ، مع ترك يومكم ، يومهم ، يومئذ .
من معاني اليوم في القرآن
من معاني اليوم في القرآن وجوه :
الأول : يوم من أيام الدنيا .
الثاني : يوم التغيير التأريخي كما في قوله تعالى [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
والمراد يوم معركة بدر ولم يرد لفظ [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وفيه تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للمسلمين والمحققين لبيان وإحصاء فضائل هذا اليوم ، وما يميزه عن باقي الوقائع في قصص الأنبياء ، والسنة والنبوية .
الثالث : أوان الوقائع التأريخية وإن كانت مدتها ساعة من نهار ، كما في الجمع بين يوم التغيير بقوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] وواقعة بدر في ساعة من نهار يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الرابع : مدة زمان منظورة .
الخامس : مدة واقعة غير محدودة بموعد مخصوص ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( ).
السادس : عالم الآخرة ، مع شدة أهوالها وطول مدتها ، وتعدد المواطن التي يحشر ويحاسب بها الناس ، قال تعالى [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ]( ).
لبيان وجوب الإيمان بالمعاد وهو أصل من أصول الدين .
وورد لفظ يوم القيامة في القرآن (سبعين) مرة .
ومن معاني تسمية الآخرة يوماً تقريب معنى الآخرة إلى الأذهان ، قال تعالى [يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، وكما يتعاقب الجديدان ، الليل والنهار ، فان الآخرة لابد أن تأتي ليكون كل يوم من أيام الحياة الدنيا مقدمة وتذكيراً بعالم الآخرة ، ودعوة للتدبر في أهواله ، وسبل النجاة منها .
ويختص الله عز وجل وحده في المقام بأمور منها :
الأول : إحصاء عدد أيام الحياة الدنيا .
الثاني : إحصاء الوقائع في الظرف الزماني الطولي من خلق آدم إلى يومنا هذا .
الثالث : إحصاء الوقائع التي صرفها الله ومنع من وقوعها رحمة بالناس عامة ، والأنبياء والمؤمنين خاصة .
الرابع : العلم بأوان يوم القيامة ، قال تعالى [لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
ويدل عجز الناس عن تعيين أوان يوم القيامة بالدلالة الإلتزامية على جهل الناس بعدد أيام الحياة الدنيا في المستقبل ، كما يدل على أن حسابات تعيين يوم القيامة وفق الظواهر الكونية والفلكية ليس بتام.
وأكثر ما ذكر اليوم في القرآن هو بخصوص يوم القيامة .
الخامس : تعيين مدة الإقامة أوان السفر والترحال سواء طلباً للعشب والماء ، أو للإنتقال إلى سكن جديد ، أو للسفر مطلقاً ، قال تعالى [وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ]( )، ومنه المقدمة العقلية للحج بقطع المسافة إلى البيت الحرام ، ومنه قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
لبيان تعذر إحصاء خطوات وفد الحاج على الخلائق ، والمشاق التي لاقوها في طريق الحج ، والله عز وجل وحده هو الذي يحصيها ، ويثيب عليها في الدنيا والآخرة .
إحصاء الشفاعة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التراحم والتوادد بين الناس وتفضل وتغشاهم برحمته ، ومنها هدايتهم إلى الشفاعة فيما بينهم في المعاملات والأحكام والنكاح ، ولا يحصي أفراد الشفاعة ومواضيعها بين الناس في الدنيا إلا الله عز وجل .
ولم تقع شفاعة الصلاح والعفو والتعاون والتكافل إلا بتوفيق وهداية من الله عز وجل ، وتكون الشفاعة في الدنيا عند السلطان والأمراء ، وفي التجارات والمكاسب والخصومات ونحوها أما في الآخرة فتتصف الشفاعة بأمور :
الأول : ليس من مُشفع إلا الله عز وجل ، فهو الذي يتوجه له الملائكة والأنبياء والأولياء والمؤمنين يسألون الشفاعة .
الثاني : قانون خصال الشفيع في الآخرة ، كما في قوله تعالى [وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، إذ بينت هذه الآية صفات الشفيع :
الأولى : قانون وجوب تنزه الشفيع في الآخرة عن مفاهيم الشرك في الدنيا ، وفيه ذم وتبكيت ووعيد الكافرين ، قال تعالى [فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ]( ).
الثانية : قانون وجوب إقرار الشفيع بالتوحيد والحق .
الثالثة : علم الشفيع بحال الذي يشفع له ، وأنه من المؤمنين ، ولم يغادر الدنيا إلا عن توبة وانابة .
ولا يحصي الشفاعة بين الناس في الدنيا إلا الله عز وجل ، وكذا الشفاعة في الآخرة فلا أحد يحصيها غير الله عز وجل لكثرتها ، وتعدد مصاديقها ، وعلم الله وحده بها من يوم خلق السموات والأرض ، وهي من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا شفيع أنجح من التوبة)( ).
والشفاعة للملائكة وللانبياء والأوصياء والمؤمنين والقرآن.
وفي المؤمنين من يشفع لمثل ربيعة ومضر، وأقل المؤمنين شفاعة من يشفع لثلاثين إنسانا والشفاعة لا تكون لاهل الشك والشرك، ولا لاهل الكفر والجحود بل تكون لأهل التوحيد.
و(عن أبي قلابة قال: يدخل الله بشفاعة رجل من هذه الأمة الجنة مثل بني تميم، أو قال: أكثر من بني تميم، وقال الحسن: مثل ربيعة ومضر)( ).
إحصاء مصاديق التقوى
التقوى لغة هي الوقاية والإحتراز ، وحفظ الشئ عما يضره ، قال تعالى [وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( ).
و(عن عدي بن حاتم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان يترجم له ، فيقول : ألم أوتك مالاً؟ فيقول : بلى . فيقول : ألم أرسل إليك رسولاً .
فيقول : بلى . فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا النار ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار.
فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)( ).
والتقوى في الإصطلاح على شعبتين متداخلتين :
الأولى : العمل بطاعة الله .
الثانية : ترك معاصي الله .
ومن مصاديق التداخل بينهما التوقي بطاعة الله عن عقوبته ، ولا يحصي عدد المتقين ، وموارد التقوى ، وأفراد التقوى إلا الله عز وجل ، وهو سبحانه وحده يعلم أفراد وكيفية الرحمة التي تتوجه للمتقين ، ومن يلوذ بهم بسبب التقوى ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ]( ).
والتقوى هي الخشية من الله عز وجل ، وإدراك العبد أن الله يراه ويدّون قوله وفعله ، فيخشى الله عز وجل في موارد التقوى باتيان مصاديق الطاعة ، وإجتناب أفراد المعصية ، لأن هذا الإجتناب من التقوى.
وورد عن (أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلى مغيربان الشمس ، حفظها ونسيها من نسيها ، وأخبر ما هو كائن إلى يوم القيامة.
حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا خضرة حلوة ، وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون . ألا فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى ، فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً .
ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم ألم تروا إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه ، فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فليلزق بالأرض .
ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب ، سريع الفيء .
وشر الرجال من كان بطيء الفيء ، سريع الغضب .
فإذا كان الرجل سريع الغضب سريع الفيء فانها بها ، وإذا كان بطيء الغضب بطيء الفيء فإنها بها .
ألا وإن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب ، وشر التجار من كان سيء القضاء سيء الطلب .
فإذا كان الرجل حسن القضاء سيء الطلب فإنها بها ، وإذا كان الرجل سيء القضاء حسن الطلب فإنها بها .
ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يقول بالحق إذا علمه . ألا إن لكل غادر لواء بقدر غدرته يوم القيامة .
ألا وإن أكبر الغدر أمير العامة . ألا وإن أفضل الجهاد من قال كلمة الحق عند سلطان جائر .
فلما كان عند مغرب الشمس قال : ألا إن ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كمثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى)( ).
وهل من حد أدنى وحد أعلى للتقوى في كل زمان ، المختار نعم.
ولا يحصي كل منهما إلا الله إذ يهدي الله عز وجل الناس للتقوى والخشية منه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
والنسبة بين العبادة والتقوى العموم والخصوص المطلق فالعبادة أعم.
والتقوى ملكة نفسانية ولها مبرز خارجي في القول والفعل .
وليس من حاجب أو برزخ بين الإنسان والتقوى ، وكل فرد من الناس مؤهل أن يكون من المتقين سواء كان غنياً أو فقيرا .
والتقوى أمر وجودي له شأن وموضوعية في سنخية عمل الإنسان ، ويكون حاضراً معه في الآخرة ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( )، لبيان قانون منافع التقوى في الدنيا والآخرة .
وسئل الإمام علي عليه السلام عن التقوى (فقال : هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل)( ).
وتقوى الله أمر واجب بالسعي لمرضاة الله عز وجل ، وجعل واقية بينك وبين عذاب الله بالإمتثال لأوامره والتحلي بالخلق الحميد وإجتناب معاصيه ، ولا يحصي عدد المتقين ، ومصاديق التقوى في الأرض إلا الله عز وجل .
فمن مصاديقها ما هو في السر ، مثل العزم على فعل الحسنة ووجود برزخ خارجي دونها والإمتثال النفسي عن اقتحام وفعل الفاحشة مع تهيئة مقدماتها ، ومن التقوى في المقام ما ورد في قصة يوسف عليه السلام بعصمته من الفاحشة خشية وقربة إلى الله[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
قانون التقوى الذاتية والغيرية
لقد تكرر في القرآن الأمر [اتَّقُوا اللَّهَ] خمساً وخمسين مرة ، منها ما جاء من عند الله عز وجل خطاباً للناس جميعاً كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( )، أو خطاباً للذين آمنوا ومنها ما ورد على لسان الأنبياء .
وورد على لسان نوح مكرراً لقومه ، بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
وورد على لسان شعيب ، وهود ، ولوط ، وموسى ، وورد على لسان عيسى في القرآن [وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
وورد الأمر بالتقوى خطاباً للناس جميعاً بقوله تعالى [اتَّقُوا رَبَّكُمْ] ثلاث مرات في القرآن( )، وهو من مصاديق صبغة العالمية في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات القرآن وجوه :
الأول : قانون إنتفاع المسلمين من أوامر الأنبياء لقومهم بتقوى الله.
الثاني : قانون حمل المسلمين لألوية التقوى إلى يوم القيامة .
الثالث : تعدد موضوع التقوى في القرآن ، وفيه ترغيب للمسلمين والمسلمات بتقوى الله ، والخشية منه في السر والعلانية .
الرابع : وجوب تحلي المسلمين بأسمى مراتب التقوى لقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه إكرام وتشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ، وأهليتهم للخلافة في الأرض بأداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلامتهم من الإرتداد .
وهل يدل قوله تعالى [وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( )، على سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان إلى يوم القيامة ، الجواب نعم .
من أقسام التقوى
لقد وتوجهت أكثر أوامر تقوى الله في القرآن إلى المسلمين والمسلمات ، كما أنهم ينتفعون من الأوامر الموجهة إلى الأمم السابقة ، وهو من مصاديق وراثتهم لهذه الأمم ، وتوثيق القرآن لإقامة الله الحجة عليهم إلى يوم القيامة بذكر أمر الله وانبيائه إليهم بتقوى الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
فكل آية من آيات التقوى حجة على الناس بلزوم الخشية والخوف من الله ، ورجاء نواله ، ويتجلى هذا الخوف والرجاء بأداء الفرائض العبادية .
ويمكن تقسيم التقوى تقسيماً استقرائياً إلى أقسام :
الأول : التقوى الذاتية : التي تتجلى بقول وفعل المكلف ، وأدائه الفرائض العبادية وإجتنابه ما نهى الله عز وجل عنه ، وهل تشمل التقوى النوايا ، الجواب نعم ، وفي التنزيل [وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ]( ).
الثاني : التقوى التي تأتي بفضل الله عز وجل كما في قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، فلا يصل الرجس والقبائح إلى ألسنة وجوارح أهل البيت ويدل قوله تعالى في يوسف عليه السلام [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، على أن الفوز بمرتبة صرف السوء لا تختص بالنبي يوسف عليه السلام أو الأنبياء وحدهم ، إنما الملاك فيها هو إخلاص العبادة لله عز وجل ، وفيه بعث للعمل الصالح.
ومن التقوى الغيرية إنعدام المعصية فقد يعزم الإنسان على فعل المعصية ولكنها تغيب عنه ، أو تكون دونها حواجز وبرزخ بلطف من الله عز وجل ، ومنه قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث : التقوى الغيرية : منها الإتعاظ من الناس الأحياء منهم والأموات ومن قصص القرآن ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
قانون تعدد مصاديق التقوى
من معاني الأمر بتقوى الله وجوه :
الأول : إرادة تقوى الله والخشية منه بخصوص مضامين الآية القرآنية.
الثاني : المقصود تقوى الله في العبادات والمعاملات .
الثالث : قانون التحذير والإنذار من الإضرار بالكاتب والشاهد ، قال تعالى [وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ]( ).
الرابع : قانون ترغيب المسلمين بالتداين فيما بينهم .
وقانون كتابة الديون التي تجري بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم من أهل الملل ، بلحاظ أن هذه الكتابة شاهد على ضبط وعدالة المسلمين ، وبرزخ دون تحريف وتبديل تفاصيلها وآجالها ، ومانع من الإفتراء والنسيان بخصوص الديون ، إذ أنها حصانة للمسلمين من الربا ، وإخبار للناس جميعاً بأن المسلمين يقرضون المال قربة إلى الله عز وجل ، ويتنزهون عن الربا وأن الله حرمه عليهم , وحرمته عامة تتغشى الناس جميعاً لقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
لقد أمرت آيات القرآن بالعدل في الحكم والمعاملات ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
والنسبة بين التقوى والعدل هي العموم والخصوص المطلق ، فالعدل فرع التقوى ومصداق لها .
ومن معاني الآية أعلاه البشارة للمسلمين بالإمارة والسلطنة والحكم وتولي شؤون القضاء ، وذكرت الآية الناس لبيان تعدد مذاهب وملل الناس الذين يلجأون للمسلمين في القضاء والحكم فيجب العدل والإنصاف.
ولم يأت هذا الحكم والعدل بالسيف والغزو إنما جاء بالمعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المعنى الإصطلاحي للإيمان
الإيمان لغة : التصديق والإقرار ، وهو في الإصطلاح سور جامع للقول باللسان ، والتصديق بالجنان بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وترشح المصاديق العملية للإيمان على الجوارح والأركان.
وهل هذا الترشح من أصل الإيمان ، أم يطلق عليه الإيمان مجازاً ، المختار هو الأول .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الإيمان بضع وسبعون باباً ، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله)( ).
لبيان وحدة موضوع الإيمان وشموله للقول والعمل ، لتكون النسبة بين المعنى الإصطلاحي واللغوي للإيمان عموماً وخصوصاً مطلقاً .
ولا يتعارض مع هذا المعنى بعض الأحاديث الواردة بخصوص الإيمان بالتصديق بالقلب والجنان إنما هي في طوله ، خاصة وأن الأثر الخارجي يترتب على القول والفعل ، وأن الحساب يوم القيامة على عالم الإيمان.
وهل النفاق برزخ بين الإيمان والكفر لأنه ايمان باللسان وكفر بالقلب والجنان ، الجواب لا.
إذ أخبر الله عز وجل في آيات متعددة على أن النفاق كفر ، منها قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ]( )، وقال تعالى في ذم المنافقين [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ]( )، وقال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ).
قانون الهداية إلى الإيمان
من إعجاز القرآن هداية آياته للإيمان ، وبيانها للحسن الذاتي للإيمان وشروطه والثناء على المؤمنين بحسن عاقبتهم ، وذم الكفر ، والإخبار عن قبحه والنفاق ، وسوء عاقبة كل منهما .
ولو دار الأمر بين المعنى الأعم للإيمان الشامل للتصديق القلبي وعالم الأفعال ، وبين الإكتفاء بالتصديق بالجنان ، فالمختار هو الأول ، لأصالة الإطلاق ، وللسنة النبوية .
إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإيمان القولي والفعلي ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
إذ أدرك المشركون أن الإيمان صلاة وأفعال عبادية فحاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الأوائل وقاموا بحصار ظالم على بني هاشم لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله بالقول والفعل.
وفي حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم (هل تدرون ما الإيمان قالوا : الله ورسوله أعلم قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم الحديث وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإيمان معرفة بالقلب ، وإقرارٌ باللسان ، وعمل بالأركان.
وعن علي بن الحسين زين العابدين قال : حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال : حدثنا أبي سيد الأوصياء قال : حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال : الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول)( ).
ويدل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الإيمان بضع وسبعون باباً ، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله)( ).
على تعدد مصاديق وأفراد الإيمان لتشمل الإعتقاد والقول وعمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإجتنابه وسائر المعاصي ، قال تعالى [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
وفي مريم ورد قوله تعالى [وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ]( )، أي المطيعين لله.
وهل يفيد الغيرية والتعدد بين إيمانها وقنوتها ، وكما في قوله تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
المختار لا ، إنما النسبة بين الإيمان والقنوت عموم وخصوص مطلق ، والإيمان أعم ، بدليل وصف الله عز وجل للمؤمنين بحسن السمت والعمل في طاعة الله ، وما يتضمن القنوت والخشوع والطاعة لله عز وجل ، إذ قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
ويشمل ذكر المؤمنين في الآية أعلاه ونحوها المؤمنات أيضاً.
إنما ورد التذكير للفرد الغالب في لغة التخاطب فذات شروط الإيمان تنطبق على النساء إلا ما خرج بالدليل.
فكل من المسلم والمسلمة مأموران بالإيمان ، وطاعة الله ، والإمتثال لأوامره ، وإجتناب نواهيه ، والتقيد بموارد التكاليف الخمسة ، من الوجوب ، والإستحباب ، والإباحة ، والكراهة ، والمحرمة .
إحصاء مصاديق الإيمان في القرآن
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإيمان ، وهو علة خلق الناس إذ قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتدل هذه الآية على تقريب الله الناس إلى ذكره وعبادته وطاعته ، ومن اللطف الإلهي في المقام نزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل لوجوه في المقام منها :
الأول : بيان معنى ومفاهيم الإيمان .
الثاني : إرادة فرض التكاليف على الناس ، لقانون التكاليف العبادية رحمة ، يؤديها فريق من الناس فيعم الفضل الإلهي الناس جميعاً .
الثالث : قانون مصاحبة النبوة للحياة الدنيا إذ هبط آدم إلى الأرض نبياً رسولاً.
فان قلت قد انقطعت النبوة بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، والجواب هذا صحيح ، ولكنها بقيت بالقرآن معجزة عقلية تتلى آياته يومياً من قبل الملايين من المسلمين والمسلمات على نحو الوجوب العيني ، قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ]( ).
وبقيت بتعاهد المسلمين والمسلمات للسنة النبوية القولية والفعلية ، وهو من الإعجاز في تثبيت سنن العبادة في الأرض لقوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
قانون كل آية دعوة للإيمان
من إعجاز القرآن قانون كل آية منه دعوة للإيمان سواء في منطوقها أو مفهومها ، ومع أن المراد بالإيمان هو الإيمان بالله عز وجل إلهاً ورباً ، فقد ذكرت آيات القرآن الإيمان بالملائكة والكتب السماوية والأنبياء واليوم الآخر ، وهو من فضل ولطف الله عز وجل بأن جعل وجوب الإيمان بخلقه المكرمين مصاحباً للإيمان به لبيان لزوم التصديق بالوسائط بين الله وعباده ، وبما يؤدى إلى حفظ الشرائع وسنن العبادات.
ومن مصاديق الإيمان قانون دعوات الآية المتعددة للإيمان ، فتجد في الآية الأمر والنهي والخبر والإنشاء والشرط ، وكل فرد منها دعوة للإيمان ولا يحصي أفراد دعوة الإيمان في القرآن إلا الله عز وجل .
وكذا لا يحصي أعداد الذين يعملون بمصاديق الإيمان في القرآن إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق إحاطة الله علماً بكل شئ ، وفيه ترغيب للناس بالإيمان فحينما يعلم العبد أن سيده مطلع على عمله وما تحدثه به نفسه فانه يجتهد في الصالحات ، ويصرف عن ذهنه الهّم بالمعصية ، وجاء على لسان الهدهد في ذم قوم بلقيس قبل إسلامهم [أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ]( ).
ثم خاطب الله عز وجل الناس بتعقب الحساب للعلم بقوله تعالى [لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ليدرك الناس انفراد الله عز وجل بالعلم وإحصاء ما في النفوس وعالم الأعمال والمحاسبة عليه قال تعالى [أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( )، فينجذب إلى الإيمان طوعاً وقهراً لبيان فضل الله عز وجل بالآية القرآنية ، ودعوتها للناس والإيمان .
إحصاء دقيق وجديد للآيات المكية والمدنية
لقد تضمنت السور المكية والمدنية الإنذار والتخويف والوعيد ، وكان نسبة الإنذار والوعيد من مجموع الآيات المكية أكثر من نسيتها في الآيات المدنية والسور المدنية .
وتتصف الآيات المكية وهي التي نزلت قبل الهجرة بالقصر ، والإعجاز والإنذار ، والوعيد ، لحمل الأذهان للإنجذاب إليها ، ولينقلها الناس إلى من خلفهم ، وعدد السور المكية هو (89) تسع وثمانون سورة منها أغلب السور القصار ، ومنها سورة الأنعام ،والأعراف ، ويونس ، ومريم ، والشعراء ، والشورى ، والسجدة ، والنمل ، والفرقان ، والصافات ، ولقمان ، والدخان ، والواقعة ، والإنفطار .
أما الآيات والسور المدنية فهي التي نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وتتصف ببيان أحكام التشريع في العبادات والمعاملات وأنظمة الأسرة، والصلات الإجتماعية العامة من غير أن تبتعد عن لغة البشارة والإنذار .
وعدد السور المدنية هو خمس وعشرون سورة ، ولا بد من إحصاء دقيق للمكي والمدني وفق عدد الآيات وليس السور ، فمع أن عدد السور المكية هو ضعف عدد السور المدنية إلا أن عدد كلمات الآيات المدنية أكثر من عدد كلمات الآيات المكية ، إلى جانب إتصاف أغلب الآيات المدنية بالطول مقابل القصر في الآيات المكية .
ولا بد من تأليف هيئة من العلماء لهذا الإحصاء ، فهو لا يختصر على إحصاء الآيات حسب عددها في كل سورة ، ولكن لتضمن بعض السور المكية آيات مدنية ، وتضمن بعض السور المدنية آيات مكية .
هل هذه السور مكية أو مدنية
من السور المختلف فيها هل هي مكية أو مدنية :
الأولى : سورة الرعد والمختار أنها مكية.
الثانية : سورة الرحمن والمختار أنها مدنية.
الثالثة : سورة الصف والمختار أنها مدنية .
الرابعة : سورة التغابن والمختار أنها مدنية .
الخامسة : سورة المطففين والمختار أنها مكية.
السادسة : سورة الزلزلة والمختار أنها مكية.
ويتضمن هذا الجزء جدولاً بتقسيم كل سور القرآن إلى مكي ومدني.
ترى لماذا توجد آيات مكية في سورة مدنية وبالعكس ، الجواب ترتيب آيات وسور القرآن توقيفي ، وكان جبرئيل عليه السلام ينزل بالآيات .
ويدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض كتاب الوحي ويقول (ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ : ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا)( ).
كما كان جبرئيل يعارض ويتدارس القرآن مع النبي مرة كل سنة ومنها التلاوة وفق الترتيب التوقيفي ، وعارضه في السنة التي توفى فيها مرتين ، فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه الأجل والإنتقال إلى الرفيق الأعلى.
وقد ينزل شطر من سورة قبل الهجرة ثم تنزل منها آيات بعد الهجرة ، إذ أن تقسيم القرآن إلى مكي ومدني استقرائي ، لذا اُختلف في المراد منه .
وعن (ابن عباس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء)( ).
علامات تختص بها السور المكية وأخرى المدنية
هناك علامات تختص بها السور المكية أو المدنية وهذه العلامات ليس على نحو الدقة العقلية ، إنما هي على الفرد الغالب ، منها :
الأولى : كل سورة فيها [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وليس فيها [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فهي مكية ، وفي الحج اختلاف ، والمختار أنها مكية.
الثانية : كل سورة فيها (كلا) فهي مكية ، وورد[كلا] بفتح اللام في القرآن (33) مرة في خمس عشرة سورة كلها في النصف الثاني من القرآن ، وحرف [كلا] يفيد التنبيه ، كما يفيد الردع والزجر والوعيد ، لتناسب صيغ إنذار القرآن للذين كفروا ، منها [كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى]( )، ومنها [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ]( )، ومنها [كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ]( )، [كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ]( ).
وقال ثعلب (كلا) مركبة من كاف التشبيه و(لا) النافية.
ونسب إلى الكسائي أن (كلا) إذا وردت بمعنى (حقاً) فهي اسم.
الثالثة : كل سورة أولها حروف المعجم مكية ، إلا سورة البقرة ، وآل عمران ، وفي الرعد خلاف ، والمختار أنها مكية .
الرابعة : كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية ، عدا سورة البقرة.
الخامسة : كل سورة فيها ذكر المنافقين مدنية ، سوى سورة العنكبوت.
السادسة : كل سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض فهي مدنية .
السابعة : كل سورة ذكرت فيها القرون السالفة فهي مكية .
الثامنة : لم تنزل آيات الدفاع والقتال والمدد الملكوتي إلا في المدينة ، لأن المشركين جهزوا الجيوش للهجوم عليها.
وقيدت هذه الآيات قتال المسلمين بأنه في سبيل الله ، كما في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، للدلالة على أن صبغة قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدفاع.
ووردت هذه الآيات في سور منها : آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنفال ، التوبة .
كما ورد بصيغة النفير منها قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
ويرد بلفظ الجهاد وإن كان هذا اللفظ أعم من القتال وميادينه ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وأكثر السور التي وردت فيها مادة القتال هي :
الأولى : سورة البقرة في الآيات 178-190-191-193-216-244-246.
الثانية : سورة النساء في الآيات 74-75-76-77-84-89-91.
الثالثة : سورة التوبة في الآيات 5-12-13-14-29-36-111-123.
وكل واحدة من هذه السور الثلاث مدنية.
ومن وجوه التمييز بين المكي والمدني أسباب النزول والوقائع.
تنقيح أسباب النزول%
يمكن تقسيم آيات القرآن تقسيماً استقرائياً إلى جهات منها :
الأولى : الآيات التي لها سبب نزول حاضر ويكون قطعي الدخول في موضوع الآية ، ولا يخرج بتخصص أو تخصيص ، وفي قوله تعالى [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( ).
ورد (عن ابن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة قالت: فيَّ-والله-وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْرَ سورة “المجادلة”، قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه.
قالت: فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء.
فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي.
قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي.
قالت : قلت : كلا والذي نفس خويلة بيده ، لا تخلص إليَّ وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه.
قالت : فواثبني وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني .
قالت : ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابًا، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه.
قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا خويلة ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه.
قالت : فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سُرِّيَ عنه .
فقال لي : يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ، ثم قرأ عليَّ [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( )، إلى قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مُريه فليعتق رقبة.
فقلت يا رسول الله ما عنده ما يعتق.
قال : فليصم شهرين متتابعين .
فقلت : والله إنه شيخ كبير ما به من صيام.
قال : فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر .
فقلت : يا رسول الله ما ذاك عنده.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر.
فقلت : يا رسول الله وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر،
قال : فقد أصبت وأحسَنْت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرًا ، قالت: ففعلت)( ).
الثانية : عدم ثبوت بعض ما ذكر بخصوص أسباب بعض الآيات ، كما في أسباب قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى]( )، وقراءة أحد الصحابة على اختلاف في اسمه وتارة لم يذكر اسمه في قراءة سورة [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( )ـ بعد شرب الخمر .
الثالثة : الآيات التي أختلف في أسباب نزولها ، والذي يدل بالدلالة التضمنية على وجود أسباب نزول لها ، منها قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، وفيه أقوال :
الأول : (خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فاصابهم الضّباب فحضرت الصّلاة فتحروا القبلة وصلّوا فمنهم من صلّى إلى المشرق ومنهم من صلّى إلى المغرب. فلما ذهب الضّباب استبان لهم إنّهم لم يصيبوا. فلّما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية)( ).
الثاني : (قال عبدالله بن عامر بن ربيعة : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً فجعل الرّجل يتّخذ أحجاراً فيعمل مسجداً يُصلّي فيه ، فلّما أصبحنا إذا نحن قد صلّينا إلى غير القبلة فقلنا يا رسول الله : لقد صليّنا ليلتنا هذه إلى غير القبلة فأنزل الله هذه الآية)( ).
الثالث : (قال عبد الله بن عمر : نزلت في صلاة المسافر يصلّي حيثما توجّهت به راحلته تطوعاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلّي على راحلته جائياً من مكّة إلى المدينة) ( ).
الرابع : (قال عكرمة : نزلت في تحويل القبلة لما حوّلت إلى الكعبة. فأنزل الله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ( ).
والأولى التنقيح بلحاظ آيات القرآن الأخرى ، وعلم الحديث رواية وعلم الحديث دراية مع توثيق الكتب السابقة للروايات الخاصة بأسباب النزول في المقام.
كنوز الإحصاء في سبب النزول
إذا كان سبب نزول آية قرآنية قضية عين ، وواقعة في زمان مخصوص كالساعة الواحدة فان موضوع الآية متجدد وباق إلى يوم القيامة.
وهناك أفراد ومسائل تتعلق بأسباب النزول لا يحصي كثرة أفرادها إلا الله عز وجل ، ويعجز الناس عن إحصائها منها :
الأولى : عدد المسلمين والمسلمات الذين يعلمون بأحكام هذه الآية .
الثانية : عدد الآيات التي يتجدد فيها ذات سبب النزول .
الثالثة : سعة موضوع الآية ، وانطباقه على شواهد كثيرة .
الرابعة : عجز الناس عن إحصاء الأجر والثواب للذين يعملون بمضامين الآية ، وينتهون عما نهت عنه .
الخامسة : تفضل الله بسبل تيسير العمل بمضامين الآية ، وهو الأمر الذي يتكشف للناس يوم القيامة ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( )، فمن مصاديق الرحمة الإلهية قانون تقريب الناس إلى الإمتثال للإحكام الشرعية ، وقانون إزاحة الموانع دون العمل بأحكام الشريعة .
السادسة : عجز الناس عن إحصاء عدد الذين يتكرر عندهم ذات سبب نزول الآية ، ويعملون بها .
السابعة : العجز عن إحصاء الذين انتفعوا من الآية الكريمة ، ولا يختص هذا الإنتفاع بالذين يعملون بمضامين الآية ، بل يشمل غيرهم القريب والبعيد ، والمسلم وغير المسلم .
الثامنة : كم وكيف تفقه الناس بالمعارف الإلهية للعلم بالوقائع التي صارت سبباً لنزول آيات القرآن .
التاسعة : إحصاء أسئلة الناس عن أسباب النزول وقراءتهم لها ، وإخبار الآخرين عنها ابتداءً .
العاشرة : إحصاء التدبر العام بالقرآن بسبب الوقائع التي نزلت بخصوصها الآيات .
الحادية عشرة : إحصاء معالم الإيمان الظاهرة والخفية بسبب أسباب النزول ، لبيان قانون أسباب النزول سبب للهداية والصلاح.
الثانية عشرة : إحصاء أسباب النزول الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة عشرة : إحصاء أسباب النزول بخصوص أهل البيت ، قال تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
الرابعة عشرة : إحصاء أسباب النزول بخصوص أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا]( ).
الخامسة عشرة : إحصاء منافع تعلق الآية بأسبابها حال النزول .
السادسة عشرة : إحصاء صيرورة سبب النزول وسيلة لحفظ المسلمين آيات القرآن والتثبت من معناها .
السابعة عشرة : إحصاء وضبط كون أسباب النزول برزخاً دون إختلاف المسلمين وعلمائهم في معنى ودلالات الآية القرآنية .
الثامنة عشرة : مع أن [نِعْمَةَ اللَّهِ] في الآية تفيد الجنس ، إلا أنها أيضاً تفيد المفرد في المقام .
وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي اللفظ جامعاً للجمع والمفرد ، إذ أن لفظ نعمة من أسماء الجنس الجمعي ، والجنس الإفرادي ، واسم المفرد أي النعمة الواحدة ، ومن مصاديقه عجز الناس عن إحصاء نعمة واحدة عليهم كماً وكيفاً وعدداً مثل نعمة الرزق ونعمة المطر ونزول الغيث ، ونعمة الصحة ، ومحو الأمراض والأدران عن الناس ، وحال الشفاء بعد المرض ، قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
ومن وجوه تقدير مفرد النعمة : وإن تعدوا نعمة الله في رزقكم لا تحصوها ، وإن تعدوا نعمة الله في سلامتكم من الأدران لا تحوصها خاصة وأن الكثير يمحوها الله من غير أن يعلم بها صاحبها ، وهو من مصاديق اللطف في قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الإختلاف في سبب نزول آية المواريث
وفيه وجوه :
الأول : (أخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما يتمشيان ، فأُغشي عليَّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليَّ فأفقت .
فقلت : يا رسول الله كيف أمضي في مالي ، كيف أصنع في مالي.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فيَّ آية المواريث.
الثاني : قال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أُحد وترك امرأة وابنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد ، وإن سعداً قُتل يوم أحد معك شهيداً ، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلاّ ولهما مال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك فأقامت حيناً ثم عادت وشكت وبكت ، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ]( )إلى آخرها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمّهما وقال : أعطِ بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ، فهذا أول ميراث قُسّم في الإسلام.
الثالث : قال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة.
الرابع : قال السدي : نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر ، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات ، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئاً ، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية المواريث)( ).
قانون صلاة الجماعة معجزة للنبي محمد (ص)
قد تقدم هذا العنوان في الجزء الخمسين بعد المائتين من هذا السِفر ، لتكون صلاة الجماعة خمس مرات كل يوم في مشارق ومغارب الأرض إلى يوم القيامة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحصي أفراد صلاة الجماعة في الأزمنة المتعاقبة إلا الله عز وجل ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية بأن يتعاهد المسلمون والمسلمات صلاة الجماعة في كل جيل وفي الصيف والشتاء ، والحل والترحال.
واختلف في صلاة الجماعة من جهة الوجوب والإستحباب على وجوه:
الأول : صلاة الجماعة مستحبة مؤكداً : وهو المختار ، ويدل عليه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (من صلى أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)( ).
وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي بانها ليست واجباً إنما هي سنة مؤكدة.
الثاني : وجوب صلاة الجماعة : على المكلف ، ونسب إلى عبد الله بن مسعود ، وبه قال عطاء والأوزاعي .
الثالث : حضور المسجد واجب : وجوباً عينياً لمن كان قريباً منه لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد).
لتكون النسبة بين الوجه الثاني أعلاه وبين هذا الوجه عموماً وخصوصاً مطلقاً .
واختلف في عدد الدور التي تكون جيراناً للمسجد ، منها أربعون داراً من كل جانب ، وقول أن جار المسجد من سمع النداء ، وهل يشمل السماع بمكبرات الصوت الحديثة ، الجواب لا .
ولا ملازمة بين صلاة الجماعة وأدائها في المسجد ، فتصح في البيت والسكن ، نعم الصلاة في المسجد أكثر ثواباً سواء كانت جماعة أو فرادى ، لما فيه من عمارة المسجد ، وتعاهد حق جواره .
وورد كل من لفظ [يَعْمُرُوا] و[يَعْمُرُ] مرة واحدة وفي آيتين متجاورتين ، قال تعالى [مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ]( ).
الرابع : صلاة الجماعة واجبة وجوباً كفائياً ، أحياءً للسنة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ( ) بسبع وعشرين درجة)( )( ).
وإذ يعجز الناس عن إحصاء أفراد صلاة الجماعة للمسلمين في أرجاء الأرض فمن باب الأولوية عجزهم عن إحصاء منافعها وثوابها في الدنيا والآخرة .
قوانين في صلاة الجماعة
الأول : قانون تشريع صلاة الجماعة رحمة ولطف من عند الله عز وجل.
الثاني : قانون ترشح المنافع عن صلاة الجماعة .
الثالث : قانون صلاة الجماعة معجزة حسية غيرية متجددة كل يوم.
الرابع : قانون صلاة الجماعة مصداق للإيمان ودعوة للإيمان .
الخامس : قانون صلاة الجماعة سلام وأمن وسكينة ، قال تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
السادس : قانون صلاة الجماعة تأديب وإصلاح للنفوس والمجتمعات.
السابع : قانون صلاة الجماعة مرآة الأخوة الإيمانية ومناسبة لإزاحة الضغائن والكدورة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
الثامن : قانون صلاة الجماعة حفظ للقرآن ، ومنع من ضياع آياته ومضامينها القدسية ، لتكون الصلاة من معاني ومصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
ومن مصاديق حفظ الله للقرآن وأحكامه تشريع إقامة المسلمين الصلاة خمس مرات في اليوم ، وتهيئة مقدماتها بفضل من الله عز وجل.
وقد ورد لفظ [إِنَّا نَحْنُ] بصيغة الجمع المكرر خاصاً بالله عز وجل في خمس آيات وهي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا]( ).
إحصاء صلاة وسلام الأجيال على النبي محمد (ص)
لقد نزل القرآن بالثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب تعاهد المسلمين لهذا الثناء ومنه صلاة وسلام أجيال المسلمين المتعاقبة عليه على نحو الوجوب العيني ، والذي يتجلى بالأمر الإلهي في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
وصلاة الله عز وجل على النبي رحمة ، ومن الملائكة استغفار ، ومن المؤمنين دعاء لزيادة رفعة ومرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في النشأتين .
لبيان قانون عجز الناس عن إحصاء ما أعطاه الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، لشكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغه الرسالة بالصلاة عليه ، وبيان وجوب هذه الصلاة في القرآن وفيها تأديب للمسلمين ، وإرشاد لنوع الصلة بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تتجلى باتباعه في طاعة الله.
وقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليخاطب المسلمين والمسلمات [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن لطف الله عز وجل في الآية أعلاه من سورة الأحزاب الجمع بين صلاته وصلاة الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ]( )، وفيه دلالة على رضا وغبطة الملائكة بجعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وجوه في رد الملائكة
يحتمل قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وجوهاً :
الأول : احتجاج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض ، ثم قاموا بالوحي إلى الأنبياء ، ورؤية عباده المؤمنين لله عز وجل ، وهي شهادة عملية على حكمة الله في جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الثاني : لم يكن قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، احتجاجاً ، إنما كان توسلاً وتضرعاً إلى الله بهداية جميع أهل الأرض للإيمان.
الثالث : استبشار الملائكة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يدل عليه حديث الإسراء عند عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ، ثم أخذ جبرئيل (بيدي فصعد بي إلى السماء ، فلما انتهينا إلى الباب استفتح ، قالوا : من أنت .
قال : جبريل . قيل : ومن معك ، قال : محمد .
قالوا : وقد بعث إليه .
قال : نعم . ففتحوا له وقالوا : مرحباً بك وبمن معك)( ).
وهكذا كان كل خزنة لاحدى السموات يرحب بالنبي بما يفيد علمهم بأنه سيبعث ، وانتظارهم لبعثته .
وهل انقطعت صلاة الله والملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند وفاته ، أم أنها مستمرة .
الجواب هو الثاني فهي متصلة ومستمرة إلى يوم القيامة ، وتدل عليه صيغة المضارع (يصلون) التي تفيد الإستمرار والدوام .
إحصاء الصلوات على النبي (ص)
ينفرد الله عز وجل باحصاء كل من :
الأول : عدد صلوات الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأفراد رحمته له وللأجيال المتعاقبة من أمته.
الثاني : كيفية صلوات الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : المنافع الخاصة والعامة لصلوات الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : أوان صلاة الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : عدد الملائكة الذين يصلون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : عدد صلوات الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : كيفية صلاة الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن : منافع صلاة الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبي ذاته ولأمته ومنها الإستغفار والدعاء .
و(عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ) قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك ، قال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد)( ).
مسائل في الصلاة على النبي (ص)
وفي آية الصلاة على النبي مسائل :
الأولى : تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته .
الثانية : تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء.
الثالثة : دعوة المسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في المعارك ، والإغتيال ببركة صلاة الله وملائكته عليه ، لقانون صلاة الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقية له في حياته وبعد وفاته ، والنسبة بين القانونين أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فالثاني أعم من الأول.
السادسة : تهذيب الأخلاق .
السابعة : قانون الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عبادة الله .
الثامنة : الأجر والثواب لمن يكثر من الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسعة : عجز الخلائق عن إحصاء صلوات الله وملائكته على النبي وعن معرفة كيفيتها ، وهل هي كيفية ثابتة أم متعددة ، المختار هو الثاني .
فليس من حصر لوجوه ومقدار صلاة الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل هي متصلة أم منقطعة ، الجواب هو الأول.
وتسمى الصلاة على النبي التصلية وهي عبادة ، وتقرب إلى الله عز وجل لصيغة الأمر في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
وهي مقدمة في الدعاء والمسألة لأن الله عز وجل يقبل هذه الصلاة ، وهو سبحانه كريم فعندما يقبل جزء وطرفاً من الدعاء لا يرد غيره .
ومن معاني الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء له ، وسؤال رفع درجته ، ويدل عليه قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ومن إعجاز القرآن تجلي اللطف الإلهي في صلاة الله على المسلمين وهي من اللامتناهي بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا]( ).
لبيان قانون الدنيا دار صلاة الله على المؤمنين ، وهذا القانون فرع قانون الدنيا دار رحمة الله على المؤمنين والناس جميعاً .
إحصاء السلام على النبي (ص)
من معجزات القرآن الغيرية تعاهد وحرص المسلمين على الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا تمر دقيقة من دقائق وساعات الدنيا إلا وهناك من يقيم الصلاة ذات الركوع والسجود ، ويصلي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو أمر لا يحصي كثرته إلا الله عز وجل.
ومن إعجاز القرآن في المقام أن نزول آية قرآنية واحدة تجعل الإمتثال لها ينفذ إلى البيوت ، ويجهر به في المساجد والمنتديات ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( )لبيان قانون الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرض في الإسلام ، لأن الأصل هو حمل الأمر المتعدد في [صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا] على الوجوب .
وقال الشافعي ببطلان الصلاة بترك الصلاة على النبي ، وقال مالك هي سنة .
والمختار أنها واجب في الصلاة وخارجها ، ولكن الإكتفاء بالمرة والمرات القليلة في المقام لا يخلو من فوات الثواب .
والمختار أن الصلاة لا تبطل بتركها .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (مَنْ صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي، فَلْيُقِلَّ عبد من ذلك أو ليكثر)( ) .
وعن (عبد الرحمن بن عوف : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : إني لقيت جبريل عليه السلام فبشرني ، وقال : إن الله يقول لك : من صلى عليك صليت عليه ، ومن سلم عليك سلمت عليه ، فسجدت لله شكراً)( ).
وهل تنحصر الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة معينة وهل يشترط العربية فيها ، المختار لا ، فتجزي الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأي لغة كانت .
نعم الأولى كيفية الصلاة التي وردت في النصوص (عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً }( ) قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك ، قال قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد)( ).
لماذا الصلاة على النبي (ص)
ترى لماذا يصلي المسلمون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب من جهات :
الأولى : الطاعة والإمتثال لأمر الله تعالى .
الثانية : بيان المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : إستحضار ذكر الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الوجود الذهني .
الرابعة : طرد الشياطين والإحتراز من أهل المعاصي .
الخامسة : قانون تجديد الإيمان بذكر الله عز وجل ، ومن أسماء النبي محمد الذكر ، قال تعالى [ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا*رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا]( ).
السادسة : الفوز بمحبة ورضوان الله عز وجل بالإكثار من سؤال الله عز وجل الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ أنها دعاء ومسألة وتوسل إلى الله عز وجل بأن يرحم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويبارك له في أمته.
وكما أن لفظ (قل) الذي ورد في القرآن خطاباً خاصاً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (328) مرة يشمل الأمة إلا ما خرج بالدليل ، فأن سؤال الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تضرع إلى الله عز وجل أن يرحم أجيال أمته ، وأن يأذن له بالشفاعة يوم القيامة .
السابعة : من صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الله عليه ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا]( ).
الثامنة : رد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على من يصلي ويسلم عليه بعد وفاته سواء القريب عند قبره الشريف أو البعيد عنه في الأمصار .
ولا يعلم بعدد صلوات المسلمين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله لكثرتها ، ولأن الملايين من المسلمين يصلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الإنفراد ، سواء في الصلاة أو خارجها ، وبالجهر والإخفات ، فلا يسمعهم إلا الله عز وجل .
التاسعة : الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باب هداية للقائل والسامع ، وهل تدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم.
العاشرة : الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعث للسكينة في النفوس ، وبرزخ دون غلبة النفس الغضبية والسبعية.
إحصاء الأسئلة للنبي محمد (ص)
لقد وردت كلمة [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن ، ووردت مادة [سْأَلِ] نحو مائة وتسعاً وعشرين مرة لبيان موضوعية السؤال في تأريخ النبوة ، وإذا أريد من السؤال التعريف فانه يتعدى إلى مفعول به ثان سواء بنفسه أو بالجر ، فتقول : سألته عن كذا .
وتختص كلمة [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها ذكر له ، وتشريف له ، وبيان لجهاده في سبيل الله ، والمدد من الله له بالوحي ، والجواب الذي تنتفع منه الأجيال ، وأكثر سورة وردت فيها مادة [يَسْأَلُونَكَ] سورة البقرة كما يأتي :
الأولى : سبع مرات في سورة البقرة ، منها [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الثانية : مرتان في سورة الأعراف .
الثالثة : مرة واحدة في كل من سورة ، المائدة ، الأنفال ، الإسراء ، الكهف ، طه ، النازعات.
وأخرج (عن ابن عباس قال : ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ، كلهن في القرآن ، منهن [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ]( )، و[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ]( )، و [َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى]( ) و [َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ]( )، و [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ]( )، و[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ]( )، ما كانوا يسألونك إلا عما كان ينفعهم)( ).
والمختار توجه مئات الأسئلة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت وزوجاته وأصحابه ومن غيرهم ، إذ تتجلى معالم النبوة بالسؤال .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا لم يسأله أحد عن مسائل مخصوصة يبادر هو للسؤال عنها ثم الجواب عليها ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
قانون السؤال سبب للنزول
قد يكون سؤال المسلمين وغيرهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبباً لنزول آية قرآنية في موضوع عام أو خاص .
من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قربه من الناس وإنصاته لهم ، وإجابته على الأسئلة ، وكثير منها لم يكن عند النبي لها جواب ، فينزل الوحي عليه ، لتنتفع الأجيال من أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل ورود أجوبة أسئلة كثيرة في القرآن من عند الله بلفظ (قل) ، كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وهناك أسئلة كثيرة لم ترد في القرآن ، ولكن ورد ذكرها في السنة النبوية منها (عن معاذ بن جبل : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإِيمان؟ قال : أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله . قال : وماذا .
قال : وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيراً أو تصمت)( ).
وعن (معاوية بن حيدة القشيري : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وأن تكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت)( ).
وهناك عدد من أسباب نزول الآيات يتعلق بأسئلة توجهت إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء من المسلمين أو غيرهم مثلاً (عن قتادة في قوله [لَيْسَ الْبِرَّ…] الآية.
قال : ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر ، فأنزل الله هذه الآية ، فدعا الرجل فتلاها عليه.
وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم مات على ذلك يرجى له في خير ، فأنزل الله [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ]( ) وكانت اليهود توجهت قبل المغرب والنصارى قبل المشرق وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ( ).
واحياناً يأتي مصداق واقعي لمضامين الآية القرآنية ، و(عن إبراهيم التيمي : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فسكت حتى جاء رجل فأسلم ، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قاتل فاستشهد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا منهم من الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)( ).
و(عن عبد الله بن جراد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل يزني المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك .
قال : هل يسرق المؤمن .
قال : قد يكون ذلك .
قال : هل يكذب المؤمن .
قال : لا . ثم أتبعها نبي الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ( ).
قانون الجواب النبوي حجة
جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة ودعوة للإيمان لأنه من الوحي.
و(عن جابر قال : سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود يقال له بستان ، فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : هل أنت مؤمن إن أخبرتُ بأسمائها .
قال : نعم .
فقال : حرثان والطارق والذيال وذو النقاب وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ)( ).
وقد يأتي السؤال من قبل ملك ينزل من السماء ليتفقه المسلمون في أمور دينهم .
و(عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه إذا جاءه رجل ليس عليه ثياب السفر يتخلل الناس حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوضع يده على ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ما الإِسلام .
قال : شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً .
قال : فإذا فعلت فأنا مؤمن .
قال : نعم .
قال : صدقت .
قال : يا محمد ما الإِحسان .
قال : أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك .
قال : فإذا فعلت ذلك فأنا محسن .
قال : نعم .
قال : صدقت .
قال : يا محمد متى الساعة .
قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
وأدبر الرجل فذهب .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليّ بالرجل ، فاتبعوه يطلبونه فلم يروا شيئاً .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك جبريل جاءكم ليعلمكم دينكم)( ).
وقريب منه عن أبي ذر يرفعه .
تأليف مجلدات عن الأجوبة النبوية
ولا بأس بتأليف مجلدات خاصة بالأسئلة التي وجهت إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجوبته عليها وشرحها ، والإستدلال بها ، وموافقتها للقرآن ، في أبواب وفصول مستقلة مثل:
الأول : الأسئلة الموجهة من قبل المسلمين .
الثاني : الأسئلة الموجهة من قبل أهل الكتاب ، كما في أسئلة اليهود المتعددة له صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الأسئلة التي نزل بها الملك ليعلم المسلمون أمور دينهم.
الرابع : الأسئلة التي وردت في القرآن بلفظ [يَسْأَلُونَكَ] ولفظ [قَالُوا] ونحوه ليتولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب بالوحي والتنزيل ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( )، [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الخامس : الأسئلة المكية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
السادس : الأسئلة المدنية بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
السابع : أسئلة أهل البادية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
و(عن أنس قال: جاء رجل من أهل البادية – وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله – فقال يارسول الله: متى قيام الساعة ؟ فحضرت الصلاة .
فلما قضى صلاته قال: أين السائل عن الساعة .
قال : أنا يارسول الله .
قال : فما أعددت لها ؟ قال: والله ما أعددت لها من كثير عمل: صلاة ولا صوم، إلا أني احب الله ورسوله .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله: المرء مع من أحب، قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشئ أشد من فرحهم بهذا)( ).
الثامن : توجه الأسئلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص القرآن وإعجازه وبيان مضامين آياته .
التاسع : أسئلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس .
العاشر : اسئلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملائكة .
(وعن عمر مولى عفرة قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبرئيل، فقال: إني أحب أن أعلم أمر السحاب، فقال جبرئيل: هذا ملك السحاب فاسأله، فقال: تأتينا صكاك مختمة: اسق بلاد كذا وكذا، كذا وكذا قطرة)( ).
الحادي عشر : طلب العفو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجابته بالإيجاب .
الثاني عشر : الأسئلة الموجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص بر الوالدين وشؤون الأسرة.
وعن الصادق عليه السلام (قال: جاء رجل وسأل النبي صلى الله عليه وآله عن بر الوالدين فقال: ابرر أمك أبرر امك ابرر امك ، ابرر أباك ابرر أباك ، ابرر أباك، وبدأ بالأم قبل الأب)( ).
الثالث عشر : الأسئلة للنبي حول الآيات الكونية .
الرابع عشر : الأسئلة للنبي بخصوص قصص الأنبياء .
الخامس عشر : الأسئلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التي صارت أسباباً لنزول آيات القرآن .
السادس عشر : أسئلة الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع عشر : أسئلة أهل البيت وأزواج النبي له صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن عشر : الأسئلة بالواسطة ، التي ينقلها إليه غير السائل .
التاسع عشر : الأسئلة المكتوبة ، والأجوبة النبوية المكتوبة .
العشرون : الأسئلة عن الصلاة .
الواحد والعشرون : الأسئلة عن الزكاة .
الثاني والعشرون : الأسئلة عن الصيام .
الثالث والعشرون : الأسئلة عن الحج .
الرابع والعشرون : الأسئلة عن الخمس .
الخامس والعشرون : الأسئلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الأوامر والواجبات العبادية .
السادس والعشرون : الأسئلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المستحبات .
السابع والعشرون : الأسئلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن النواهي والمحرمات .
الثامن والعشرون : الأسئلة عن الشفاعة .
و(عن عوف بن مالك الأشجعي قال : عرس( ) بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فافترش كل واحد منا ذراع راحلته وانتبهت بعض الليل فإذا ناقة للنبي ليس قدامها أحد فانطلقت أطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا معاذ بن جبل و عبد الله بن قيس قائمان فقلت أين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالا : ما ندري غير أنا قد سمعنا صوتا بأعلى الوادي.
فاذا مثل هدير الرحمن فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أتاني آت من ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة.
فقلنا يا رسول الله نناشدك الله والصحبة لما جعلتنا من أهل الشفاعة.
قال : إنكم من أهل شفاعتي .
فانطلقنا معا نستبق إلى الناس فإذا الناس قد فزعوا وفقدوا نبيهم.
فقال : إنه أتاني آت من ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة والشفاعة فاخترت الشفاعة.
قالوا : يا رسول الله نناشدك الله والصحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك فلما أضبوا.
قال : أشهدكم أن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)( ).
التاسع والعشرون : الأسئلة عن عالم الآخرة ، وأجوبة النبي عنها .
الثلاثون : ويمكن تقسيم الأسئلة إلى قسمين :
الأول : الأسئلة التي وردت أجوبتها في القرآن .
الثاني : الأسئلة التي وردت أجوبتها في السنة النبوية .
الواحد والثلاثون : الأسئلة وأجوبتها مما ورد في حديث متواتر أو حديث خبر الواحد .
وقد تجد أجوبة للعلماء في مجلدات مثل أجوبة السيد المرتضى عن المسائل الطرابلسيات ، والمسائل الرازية ، والمسائل الطبرية ، والمسائل الموصليات ، والمسائل الحلبية ، وغيرها ، وثلاث مسائل بعنوان : المسائل التبانيات .
فمن باب الأولوية أن تؤلف المجلدات والرسائل الجامعية في أبواب متعددة تخص أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قوانين في أجوبة النبي (ص)
وفيها وجوه :
الأول : قانون موافقة أجوبة النبي محمد لآيات القرآن ، وهو علم مستقل.
الثاني : قانون أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي.
الثالث : قانون حاجة الأجيال لأجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كانت الأسئلة التي توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوفيق من الله ، أما أنها على نحو الصدفة ، المختار هو الأول .
الرابع : قانون استنباط المسائل والأحكام من أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة التي توجه إليه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس : أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة معجزة له.
السابع : تجدد الشواهد على صحة أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : قانون اقتباس العلوم والمسائل من أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
علم الإحصاء في الحديث النبوي
كما وردت مادة [أَحْصَى] في مواضع من القرآن فانها جاءت في الحديث النبوي لبيان قانون الحديث النبوي مرآة وتفسير للقرآن منها ما ورد في الحديث القدسي عن أبي ذر (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي.
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)( ).
و(عن الهروي عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه ، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: إن لله عزوجل تسعة وتسعين اسما، من دعا الله بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنة)( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لمعاذ بن جبل : كم تذكر ربك كل يوم ؟ تذكره كل يوم عشرة آلاف مرة ، قال : كل ذلك أفعل ، قال : أفلا أدلك على كلمات هن أهون عليك ، وهن أكثر من عشرة آلاف وعشرة آلاف مرة ؟ تقول : لا إله إلا الله عدد حصاه ، لا إله إلا الله عدد كلماته ، لا إله إلا الله عدد خلقه ، لا إله إلا الله زنة عرشه ، لا إله إلا الله ملء سماواته ، لا إله إلا الله ملء أرضه ، لا إله إلا الله مثل ذلك لا يحصيه محص : ملك ولا غيره)( ).
والمراد هنا من الإحصاء العدد والحفظ والتوثيق وترتب الثواب عليه ، فلا يقف إحصاء الله عز وجل للأمور والأعمال عند العد والحساب إنما هي فاتحة الأجر والثواب وتوالي النعم ، والعفو والمغفرة .
وعن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَقُولُ مَنْ طَافَ أُسْبُوعًا يُحْصِيهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ)( ).
وقد تقدم أن الإحصاء في الحديث لا ينحصر بكمال أداء الطواف ، إنما يشمل ذات الإحصاء والعد ، بسبعة أشواط ، تعاهداً للسنة النبوية.
الإختفاء في دار الأرقم
يؤدي المسلمون في مشارق ومغارب الأرض الصلاة خمس مرات في اليوم ، ويصدح الأذان بالتوحيد وذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة من عند الله ، ومع هذا يعلمون أنه اضطر للإختفاء في دار الأرقم بن أبي الأرقم من المشركين لبيان جهاده وصبره وسرية الدعوة مع نزول الوحي عليه .
و(الأرقم بن أبي الأرقم: واسمه عبد مناف بن أسد بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم يكنى أبا عبد الله.
قال ابن السكن: أمة تماضر بنت حذيم السهمية ويقال بنت عبد الحارث الخزاعية كان من السابقين الأولين قيل : أسلم بعد عشرة)( ).
وشهد الأرقم معركة بدر ، وأحد ، والمشاهد كلها ، وأقطعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم داراً بالمدينة .
والأرقم من بني مخزوم ، وهناك صحابي آخر اسمه الأرقم بن أبي الأرقم الزهري ، وكان على بيت المال لعثمان بن عفان .
ويدرك المسلمون الأوائل مع قلتهم يومئذ أن القرآن ينزل عليه وأنه رسول الله من عند الله ، ويرون المعجزات الحسية التي تجري على يديه والتي تصاحبه .
ليكون دار الرقم بن أبي الأرقم المخزومي مركز إنطلاق الدعوة الإسلامية .
ويقع دار الأرقم على جبل الصفا المطل على المسجد الحرام ، وسميت فيما بعد دار الإسلام .
وإختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدار الأرقم في الدعوة السرية ، وعجز قريش عن اكتشاف وفود الصحابة لها كل يوم مع طول مدة إقامته فيها معجزة حسية له.
وفيها مسائل :
الأولى : علو جبل الصفا ، وانعزاله عن حركة الناس اليومية .
الثانية : كان الأرقم شاباً يبلغ عمره نحو ثماني عشرة سنة ، ولم يكن إسلامه معروفاً أو شائعاً ، ولا يخطر على أذهان رؤساء الشرك أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يجعلها مركزاً للدعوة والتبليغ ، إذ كانوا يظنون أنه يقيم في دار أبي طالب ، أو أحد دور كبار الصحابة .
الثالثة : قرب دار الأرقم عن البيت الحرام ، فهي على نحو مائة متر منه.
الرابعة : وقوع دار الأرقم في منتصف المسافة بين المسجد الحرام ودار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شعب أبي طالب ، فلا يقدر المشركون على رصد حركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فاذا خرج من البيت الحرام فكأنه يتوجه إلى داره.
الخامسة : إمكان الوافدين إلى مكة دخوله من غير إثارة شكوك مثل أبي ذر لقربه من المسعى بين الصفا والمروة.
وهل كان إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدار الأرقم بالوحي أم إجتهاداً منه ، الجواب هو الأول لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومن الشواهد على الإعجاز في هذا الإختيار سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مدة إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دار الأرقم.
وكان الصحابة يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دار إقامته هذا ويتلو عليهم ما نزل من آيات القرآن ، وأحكام الشريعة ويتدارس معهم الأحوال العامة وشؤون أهل مكة وزوارها ، وينصت لشكواهم من أذى قريش لهم.
لتكون تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن وتعليمهم أمور دينهم خير مواساة ودعوة للصبر ، والتطلع إلى الفرج وحسن العاقبة .
ولما بلغ عدد الصحابة في دار الأرقم أربعين رجلاً خرجوا وكأنهم لم يعودوا يخشون كفار قريش فكبروا وطافوا بالبيت .
توثيق القرآن لإيذاء قريش للنبي (ص)
من السور المكية سورة العلق التي تبين أذى قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ووجوب ثباتهم على الإيمان ، وقرب بطش الله بالمشركين ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى]( ).
و(عن ابن عباس في قوله [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( )، قال أبو جهل بن هشام : حيث رمى رسول الله بالسلا على ظهره وهو ساجد لله عز وجل)( ).
و(كان علي بن الحسين عليه السلام إذا سافر صلى ركعتين ثم ركب راحلته، وبقي مواليه يتنفلون فيقف ينتظرهم فقيل له ألا تنهاهم ؟ فقال: إني أكره أن أنهى [عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ) والسنة أحب إلي)( ).
لبيان إنتفاع المسلمين من الآية القرآنية التي تضمن ذماً للذين كفروا.
وتسمى دار الأرقم التي على جبل الصفا دار الإسلام ، وجعلها الأرقم صدقة على ولده وكتب بها كتاباً (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاز الصفا إنها محرمة بمكانها من الحرم لا تباع ولا تورث، شهد هشام بن العاص وفلان مولى هشام بن العاص.
فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجرون ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر)( ).
وكانت هذه الدار مطلة على المسعى بين الصفا والمروة ، فوقعت في تفس أبي جعفر المنصور ، وحينما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن (ذو النفس الزكية) كان عبد الله بن عثمان بن الأرقم ممن تابعه ، ولكنه لم يخرج معه ولم يحمل سيفاً.
(فتعلق عليه أبو جعفر بذلك فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحبسه ويطرحه في حديد، ثم بعث رجلا من أهل الكوفة يقال له شهاب بن عبد رب وكتب معه إلى عامل المدينة أن يفعل ما يأمره به، فدخل شهاب على عبد الله بن عثمان الحبس وهو شيخ كبير بن بضع وثمانين سنة وقد ضجر بالحديد والحبس .
فقال له : هل لك أن أخلصك مما أنت فيه وتبيعني دار الأرقم؟ فإن أمير المؤمنين يريدها وعسى إن بعته إياها أن أكلمه فيك فيعفو عنك. قال: إنها صدقة ولكن حقي منها له ومعي فيها شركاء إخوتي وغيرهم، فقال: إنما عليك نفسك، أعطنا حقك وبرئت .
فأشهد له بحقه وكتب عليه كتاب شرى على حساب سبعة عشر ألف دينار ثم تتبع إخوته ففتنتهم كثرة المال فباعوه فصارت لأبي جعفر ولمن أقطعها ثم صيرها المهدي للخيزران أم موسى وهارون فبنتها وعرفت بها)( ).
ثم تعاقب على شرائها جماعة حتى صارت جزءً من المسعى .
(وقيل توفي الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي سنة خمس وخمسين بالمدينة وهو ابن بضع وثمانين سنة وكان قد أوصى أن يصلى عليه سعد بن أبي وقاص وكان بالعقيق فقال مروان أيحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى عبيد الله بن الأرقم ذلك على مروان وقامت بنو مخزوم معه ووقع بينهم كلام ثم جاء سعد فصلى عليه)( ).
سوء عاقبة أعداء النبوة
من خصائص النبوة وجود طائفة تعادي النبي ، وتجحد بنبوته ، وهذا الجحود من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة ضعفاً.
ولاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد العداوة من الكفار ، فكان رجالات قريش يؤذونه وأصحابه في مكة قبل الهجرة ، وفرضوا حصاراً إجتماعياً واقتصادياً قاسيا على بني هاشم وبني المطلب لحملهم على تسليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم ليقتلوه.
وعندما خاب سعيهم وأكلت حشرة الأرضة وثيقتهم التي علقت في الكعبة ، خططوا باتقان لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه فأمره الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة في ذات ليلة الإغتيال إذ نزل جبرئيل بالأمر ، ليكون أوان الهجرة على نحو الدقة العقلية معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
واشتد العداء والأذى على النبي وأصحابه بعد الهجرة .
ومن إعجاز القرآن كثرة آيات الإنذار والوعيد للذين كفروا ، وشموله لأمور الدنيا وأهوال الأخرة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ]( ).
ولم يرد لفظ (تعساً) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، والتعس مصدر معناه السقوط والبعد والعثار ، وقال الشاعر :
(يا سيدي إن عثرت خذ بيدي … ولا تقل : لا ، ولا تقل تعسا)( ).
ومن الآيات إبتلاء الكافر بضيق الصدر والكآبة الخفية التي قد تصدر في عالم القول والفعل .
ولم يرد لفظ (ضيقاً) في القرآن إلا مرتين :
الأولى : إرادة الحالة النفسية للكافر ، قال تعالى [وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ]( ).
ولا تدل الآية على إرادة إضلال الإنسان ابتداءً من عند الله ، إنما في الآية حذف ، وهو إختار الكفر فترتب عليه الضلالة كعقوبة عاجلة ، ولمنع الناس من الإفتتان به.
الثانية : سوء عاقبة الذين كفروا في النار ، إذ قال تعالى [وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا]( )، ولا يحصي طرائق وسبل الإبتلاء التي تصيب الكفار مجتمعين ومتفرقين إلا الله عز وجل ، فان قلت إن الإبتلاء يصيب المؤمنين أيضاً ، الجواب من جهات :
الأولى : التباين الموضوعي في الإبتلاء بين المؤمنين والكفار .
الثانية : سرعة زوال ابتلاء المؤمنين وإيجاد سبل النجاة منه .
الثالثة : تحلي المؤمنين بالصبر في تلقي البلاء ، وهو من مصاديق التخفيف ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الرابعة : الأجر والثواب العظيم للمؤمنين على الإبتلاء ، وسوء عاقبة الذين كفروا بعد الإبتلاء .
استهزاء قريش بالنبوة
تتعدد الشواهد اليومية لتجاهر قريش بالسخرية من التنزيل والنبوة ، فمثلاً كان (الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو ابن خال النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان من المستهزئين، وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى)( ).
لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لقريش إن الله عز وجل سيفتح له كنوز كسرى .
وكأنه يقول كيف يقدر هؤلاء الأفراد الفقراء إزاحة ملك كسرى مع قوته وعشرات الآلاف من رجاله ، ولم يكتف الأسود بالسخرية من الصحابة الأوائل ، بل كان يسخر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لاقاه إذ يقول له : أما كلمت اليوم من السماء يا محمد .
وفي قوله تعالى [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]( )، كان الرجل من العرب يعبد الحجر ، وإذا رأى أحسن منه استبدله.
وكان (الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم السهمي، كان أحد المستهزئين الذين يؤذون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ابن الغيطلة، وهي أمه، وكان يأخذ حجراً يعبده، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول ، وعبد الثاني.
وكان يقول: قد غر محمد أصحابه ووعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر)( ).
وقيل أن الآية أعلاه نزلت فيه ، ولكن موضوعها أعم.
لقد اتخذ الذين كفروا السخرية سلاحاً ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ]( ).
وقامت قريش بتجهيز الجيوش لقتال البني محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد رزقهم الله عز وجل الجاه بين القبائل وعند الروم والفرس ، مع كثرة الأموال ، وإبل التجارة ، فمثلاً كانت قافلة أبي سفيان التي أُدعي أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أراد الإستيلاء عليها تتألف من ألف بعير ، وموقرة بتجارة من خمسين ألف دينار ذهب ليس معها إلا أربعين رجلاً.
وفي كتيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بُواط في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة مرت عير لقريش برئاسة أمية بن خلف، وفيها ألفان وخمسمائة بعير محملة بالبضائع ، وليس معها إلا مائة رجل .
وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتان من الصحابة لو شاء لاستولى على القافلة بسهولة .
وهو من الشواهد على عدم تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقافلة أبي سفيان التي صارت ذريعة لمعركة بدر .
ولم يقع قتال ، ولم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أحدا لذا يقال (فرجع ولم يلق كيداً) ( ).
ففي معركة بدر كان عدد الصحابة في الميدان أقل من ثلث جيش المشركين ومع هذا انتصر المسلمون فمن باب الأولوية إذا كان عددهم ضعف عدد المشركين أن يهزموهم لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطمع بمال ، إنما كان يدعو الناس لكلمة التوحيد.
وقبل الهجرة نزلت سورة قريش وهي خاصة بهم ولكنها عبرة للقبائل الحليفة لها ، وموعظة لأجيال الناس المتعاقبة وتتضمن مصاديق متعددة للرحمة الإلهية لقريش ، وفضل الله عليهم ، قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
ومن معاني (ليعبدوا الله) التصديق بنزول القرآن ونبوة محمد ، ولكنهم اختاروا الإقامة على الكفر وعبادة الأصنام ، وجهزوا الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
قانون النبي محمد (ص) رسول
لقد بيّن الله عز وجل وظائف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس وأنها رحمة ورأفة بهم جميعاً والإختلاف في مقدار الإنتفاع من هذه الرحمة ، واستجابتهم للأوامر والنواهي ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولا تختص هذه الحرمة بأيام التنزيل إنما هي متجددة إلى يوم القيامة ، فلذا قال تعالى [لِلْعَالَمِينَ] لبيان أن رسالته رحمة لكل من :
الأول : المسلمون .
الثاني : أهل الكتاب .
الثالث : الكفار .
وليس المقصود من الكفار هنا الذين تابوا ودخلوا الإسلام بل المقصود الذين بقوا على الكفر أو توارثوه من آبائهم ، إذ ينتفعون من الرحمة العظمى لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ، ومن مصاديق هذه الرحمة إنقطاع عبادة الأوثان في الأرض .
إحصاء إخوة النبي (ص) من الرضاعة( )
لقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخوة له من الرضاعة ليكون هذا الذكر والبيان تفسيراً للآية التي تتضمن نشر الحرمة بالرضاعة كما في قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وأخوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة هم :
الأول : حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، و(عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي (عليه السلام) قال : قلت يا رسول الله مالك تنوق في قريش وتدعنا .
قال : وعندك أحد.
قلت : نعم بنت حمزة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة)( ).
والتي أرضعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمه حمزة هي ثويبة مولاة لأبي لهب .
الثاني : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي ، وهو ابن عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برة بنت عبد المطلب .
وعن (أم حَبيبة قالت: يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان -وفي لفظ لمسلم : عزة بنت أبي سفيان .
قال : أو تحبين ذلك .
قالت : نعم ، لَسْتُ لك بمُخْليَة ، وأحب من شاركني في خير أختي.
قال : فإن ذلك لا يَحل لي .
قالت : فإنا نُحَدثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة.
قال : بنْتَ أم سلمة .
قالت : نعم.
قال : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّتْ لي ، إنها لبنت أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَة فلا تَعْرضْن علي بناتكن ولا أخواتكن.
وفي رواية للبخاري : إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي)( ).
وأبو سلمة من السابقين هاجر إلى الحبشة ، ثم شهد بدراً وجرح في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، والتأم جرحه ، ثم انفجر عليه ، فمات في شهر جمادى الآخرة من السنة الرابعة للهجرة .
وتزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بعده زوجته أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية والتي روت نحو (378) حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأحاديث عائشة (221) حديثاً منها (174) متفق عليها .
الثالث : مسروح ابن ثويبة مولاة أبي لهب ، وأسلمت ثويبة ، ولم تهاجر ، وماتت بعد صلح الحديبية .
الرابع : الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ، وقيل اسمها حذافة ، والشيماء لقبها ، وكانت توركه مع أمها حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ أنها تكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بست سنوات ، ووقعت شيماء في الأسر عند المسلمين يوم حنين مع سبايا قومها من هوازن ، وقد عنف بها المسلمون في الطريق فقالت لهم (تعلمون والله إنى لاخت صاحبكم من الرضاعة.
فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدى – هو أبو وجزة – قال: فلما انتهى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إنى أختك من الرضاعة.
قال : وما علامة ذلك .
قالت : عضة عضضتنيها في ظهرى وأنا متوركتك.
قال : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها وقال : إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت.
قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي.
فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما يقال له مكحول وجارية فزوجت أحدهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية)( ).
وأسلمت الشيماء ، واعتق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جميع سبايا هوازن وثقيف .
الخامس : عبد الله بن الحارث ابن حليمة السعدية .
السادس : أنيسة بنت الحارث ابنة حليمة السعدية .
خبر لا أصل له
هناك رواية بأن أبا طالب جعل الله له ثدياً فرضع منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن جاءت حليمة السعدية فدفعه إليها.
وهي رواية ساقطة دلالة وسنداً فيها ثلاثة لم يوثقوا ، منهم علي بن المعلى وأخوه محمد ، ودرست بن أبي منصور من الواقفة.
كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفى وعمر النبي ثمان سنوات .
إنما رضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثدي ثويبة مولاة أبي لهب ، وكان حمزة بن عبد المطلب أخاه من الرضاعة .
لذا لما ذكرت ابنة حمزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أما علمت أنها ابنة أخي من الرضاعة ، وأشكل بعدم إمكان اشتراكهما في الرضاعة وأبي سلمة بلبن ابنها مسروح ، للتباين في العمر بين حمزة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنوات ، إلا أن يقال الفارق سنتين وأرضعت حمزة في أول أيام ولادته وأرضعت النبي في آخر أيامه.
ولا تصل النوبة لعموم المنزلة في الرضاعة ، إنما تتحقق الأخوة في الرضاعة وتنشر الحرمة مع اتحاد الفحل وإن كان مع تفاوت المدة كما لو ارضعت الأم زيداً مع ولدها حسن ، وأرضعت هدى مع ابنها حسين ، من ذات الزوج ، فتحرم هدى على زيد .
أما ما ورد عن فاطمة بنت أسد أنها قالت (كنت مريضة فكان محمد يمص عليا لسانه في فيه فيرضع بإذن الله)( ).
فلا يتعلق بأحكام الرضاعة بوجوب مص المرتضع من ثدي .
ويدل زواج الإمام علي عليه السلام من فاطمة الزهراء وامتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الزواج من بنت حمزة على صحة زواج الإمام علي وعدم وجود رضاع ينشر الحرمة في البين ، إلى جانب العصمة.
وما رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا النكاح المبارك ومباركة جبرئيل إلا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ) وقوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
إنما الأخوة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي أخوة الإيمان ، والمراد من المنزلة هي الولاية ، وقد وصف القرآن الإمام علي عليه السلام أنه نفس رسول الله ، قال تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
أسباب الهجرة إلى الحبشة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هجرة رهط من أصحابه إلى الحبشة بدينهم ، وكان عدد المهاجرين الأوائل أحد عشر رجلاً وأربع نسوة هاجروا في شهر رجب من السنة الخامسة للهجرة( )( ).
ترى لماذا هاجروا إلى هذه البلاد البعيدة ذات الديانة السماوية ، فيه مسائل :
الأولى : إزدياد إيذاء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : قيام بيوتات وقبائل قريش بايذاء ابنائها الذين دخلوا الإسلام وسجنهم ، وإكراههم على الإفتتان والردة .
الثالثة : قانون الحاجة إلى نجاة المسلمين الأوائل في دينهم لمنع الفتنة والريب ، قال تعالى [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : قانون حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سلامة المسلمين في أنفسهم ومنع إيذائهم أو قتلهم كما تجلى في عزم رؤساء قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
لبيان شدة بطش قريش بالصحابة الأوائل أيضاً ، ومن الشواهد عليه الحصار الإقتصادي والإجتماعي الذي فرضته قريش على أهل البيت بعد هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة بسنتين إذ ابتدأ الحصار في السنة السابعة للهجرة .
لذا فمن أسباب الهجرة إلى الحبشة النجاة من القتل .
قانون هجرة الحبشة سد للذرائع
من مصاديق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إزدياد عدد الذين يدخلون الإسلام كل أسبوع سراً وعلانية ومنذ السنين الأولى للدعوة ، أما في السنين الأخيرة فقد نزل القرآن شاهداً بقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
ومن معاني سد الذرائع ترك الفعل المباح والخالي من المفسدة إذا كان يؤدي إلى مفسدة وأمر محظور وضرر خاص أو عام ومنه بقاء الصحابة في مكة بجوار البيت الحرام وبقرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمعون ما ينزل من القرآن ويتلقون أحكام الشريعة من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن من الهجرة إلى عالم مجهول ، ولكن تركت هذه الإقامة سداً لذرائع قريش ، ودفعاً للفتنة .
ومن أمثلة الذرائع قوله تعالى [ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، فكان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله من المراعاة فرغ سمعك لكلامنا وليسعنا حلمك.
ولكن معنى هذه الكلمة عند يهود المدينة : اسمع لا سمعت ، فنهى الله عز وجل المسلمين عن قولها سداً لذريعة المشابهة اللفظية.
وفي باب مناسك الحج حرمة استعمال الطيب على المحرم لما فيه من دواعي ومقدمات الإفتتان .
ولقد رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شدة إيذاء قريش لأصحابه ، وإزدياد هذا الأذى طردياً مع كل من :
الأول : توالي نزول آيات القرآن ، ومنها ما يتضمن ذم الذين كفروا وعبادتهم للأوثان وانقطاعهم للدنيا ، قال تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ]( ).
الثاني : إزدياد عدد المسلمين ودخول الإسلام إلى بيوت رؤساء الشرك من قريش باسلام ابنائهم وبناتهم ومواليهم ، ليسمعوا القرآن يتلى في بيوتهم وكأنه مرآة لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في المسجد الحرام اثناء الصلاة .
الثالث : ثبات المسلمين الأوائل في مقامات الإيمان .
الرابع : كثرة الشباب بين المسلمين الأوائل .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه ما يقذفه الله من الرعب في قلوب المشركين من غير سبب من البشر .
المختار هو الأول ، فكثرة المسلمين الأوائل وثباتهم على الإيمان ، وكون أكثرهم من فئة الشباب فضل من عند الله ، ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسبب لنفاذ الرعب إلى قلوب ومجتمع المشركين ، مع أنهم كانوا يقومون بضرب وإهانة الصحابة .
فصاروا يخططون للإنتقام من الصحابة الأوائل خصوصاً المستضعفين منهم ، ولابد أن خططهم تصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه (تفرقوا في الأرض فان الله تعالى سيجمعكم قالوا إلى أين نذهب قال إلى ها هنا واشار بيده إلى ارض الحبشة فهاجر إليها ناس ذوو عدد منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه حتى قدموا أرض الحبشة)( ).
فان قلت قد أدت هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة إلى إزدياد أذى قريش إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت على نحو الخصوص لاسيما وأن حصارهم لبني هاشم بدأ بعد سنتين من هجرة المسلمين الأوائل ، الجواب نعم .
إحصاء منافع هجرة الحبشة
لقد امتازت قريش من بين قبائل العرب بتولي شؤون التجارة الدولية لوجوه :
الأول : التيسير من الله عز وجل .
الثاني : قوانين بركة جوار البيت الحرام .
الثالث : هذه التجارة مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : وجوب التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : الصبغة الدولية لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا جاء إرساله من عند الله بصيغة الماضي [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
السادس : إكرام الله عز وجل لجوار البيت الحرام .
السابع : حاجة وفد الحاج للتسوق ، والبيع والشراء لذا اتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوق عكاظ والمجنة ونحوها من أسواق مكة مناسبة ومحلاً لدعوته إلى الله وتبليغ الناس الرسالة.
ولم تكن تجارة قريش منحصرة باليمن في الشتاء والشام في الصيف ، فمن إعجاز القرآن الإطلاق وعدم التقييد والحصر ببلاد مخصوصة ، قال تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
لبيان مسير قوافل قريش في أيام السنة كلها ، والوصول إلى البلاد البعيدة والنائية ، ومنها رحلة اليمن لجلب العطور والسيوف والأحجار والحرير من بلاد الهند وما خلفها كالصين.
ورحلة قريش إلى بلاد الشام لجلب الحبوب ونحوها من المحاصيل الزراعية والأقمشة والذهب والفضة.
وكذا تشد قريش الرحال إلى الحبشة للتجارة في البحر بدليل أن الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة خرجوا من مكة سراً بين راكب وماش ، وعندما وصلوا إلى الشعيبة وهي الميناء على البحر الأحمر آنذاك قريباً من جدة التي انشئت فيما بعد أيام عثمان وجدوا سفينة تجارية تريد أن تبحر إلى الحبشة .
(وروى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب ، فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة)( ).
فأجرة نصف دينار لكل واحد منهم .
لقد أقلعت السفينة حالما ركب فيها الصحابة المهاجرون وكأنها على موعد بانتظارهم ، وقيل كانتا سفينتين .
وما أن علم رجالات قريش بتوجه هؤلاء النفر من الصحابة إلى الحبشة حتى خرجوا من مكة للحاق بهم ، وإعادتهم قهراً إلى مكة لمعرفتهم بمنافع هذه الهجرة في بناء صرح الإسلام دولياً ، ولكنهم ما أن وصلوا إلى ميناء الشعيبة تفاجأوا بركوب الصحابة البحر حال وصولهم للميناء من غير تأخير ولو ساعة واحدة خلافاً للمتعارف بأن السفينة التجارية ، وكذا الوسائط التجارية حتى في هذا الزمان كالسيارات والبواخر تتريث وتنتظر الركاب والحمولة.
لتكون نجاة الصحابة من بطش قريش من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون نجاتهم مقدمة لخروج جماعة من الصحابة من مكة .
لقد كان هؤلاء الصحابة أول سفراء الإسلام ، وفازوا بسلامة دينهم ، ورأوا الإكرام من قبل النجاشي ، كما وصفت الحال أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة التي تزوجها فيما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ (قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا خير جار النجاشي، آمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم، أن يبعثوا إلينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم)( ).
ومن منافع ضرب قريش للتجارة بين البلدان ومنها الحبشة معرفة أحوال الملوك وحاشيتهم وكيفية التقرب إليهم ، وسؤالهم ، فبعثت قريش رجلين من أهل الدهاء هما :
الأول : عمرو بن العاص .
الثاني : عبد الله بن أبي ربيعة .
وهل تختص منافع هجرة الحبشة بذات الواقعة ورجالاتها ، ونسائها ، الجواب لا ، فهذه المنافع متعددة ومتصلة وهي مقدمة لهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وتجدد مصاديق الهجرة بالدين والإيمان في كل زمان لبيان قانون إختصاص حصر منافع هجرة الحبشة بالله عز وجل وحده .
تأريخ الذين ولدوا في الحبشة
من معجزات القرآن خروج الصحابة وزوجاتهم مهاجرين إلى الحبشة ، ولم تتخلف زوجات بعضهم عنهم ، بل خرجن من مكة مؤمنات ، وكن من بيوتات قريش ، وهو من أسرار خروجهم سراً من مكة إلى ميناء الشعيبة على البحر الأحمر ، وعن جدة 75 كم ، ويبعد عن مكة (90)كم أي مع بعده عن جدة فان المسافة بينه وبين مكة قريبة من المسافة بين مكة وجدة.
التي هي (79)كم ، بلحاظ خط سير القوافل ، المستقيم بين مكة والشعيبة.
وهل خرجت النسوة تبعاً لأزواجهن المهاجرين ، الجواب إنما خرجن باسلامهن ، وهو فضل وجهاد للمسلمات الأوائل ، فانعم الله عز وجل عليهم في الحبشة بأداء الفرائض العبادية وتلاوة القرآن والتدبر في آياته بيسر وأمن ولا يعلم كيف كانت المشاق في معيشتهم وسبل التخفيف الذاتية والغيرية إلا الله سبحانه .
ولكن من قوانين الهجرة في سبيل الله تيسير الرزق ، قال تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
إحصاء منافع معجزات الأنبياء
من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، نزول الوحي والأمر من عند الله عز وجل إلى الأنبياء ، وجريان المعجزة الخارقة على أيديهم ، وكل معجزة لطف من عند الله بالنبي وقومه.
ثم صارت هذه المعجزة ميراثاً للأجيال المتعاقبة بذكرها وتوثيقها في القرآن الذي [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
ولا يحصي معجزات الأنبياء ومنافعها إلا الله عز وجل ، إذ أن عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، ومن الأنبياء من جرت على يديه أكثر من معجزة ، كما أن المعجزة الواحدة قد يتكرر وقوعها ويكثر الذين يشهدون عليها ، وينتفعون وينفعون بها .
ومنها ما تتعدد وظائفها ، ومنها عصا موسى عليه السلام ، وفي التنزيل [وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]( ).
وكان موسى عليه السلام يتكئ على عصاه حينما يمشي ، ويتحامل عليها عندما يقف اثناء رعي الأغنام ، ويهش بها الأغنام ، ويحرك بها الشجر لتتساقط الثمار والأوراق فيأكل هو ، وتأكل الأغنام.
وهل المآرب الأخرى في الآية أعلاه معجزات لموسى عليه السلام ، المختار هي أعم ، وهو الذي يدل عليه نظم الآيات ، وقد ذكرت المعجزة من الآية التالية [قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى]( )، ولا يعني هذا ابتد\اء معجزة العصا.
ولا يحصي منافع معجزات الأنبياء إلا الله وحده ، وشاء الله أن تكون بنزول القرآن متجددة كل يوم ، ومنها :
الأول : بيان مصاديق لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثاني : حب وإكرام الله للأنبياء وبيان المائز بينهم وبين عامة البشر ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
الثالث : قانون الصلة والقرب بين السماء والأرض ، إذ يدل الوحي والمعجزة على عدم وجود ثمة مسافة بين السماء والأرض .
الرابع : إقامة الحجة على الناس جميعاً بالمعجزة ، ولا يحصي أفراد الحجة بمعجزات الأنبياء إلا الله عز وجل .
الخامس : قانون المعجزة سبيل هداية للناس .
السادس : بيان إتحاد سنخية النبوة ، والجامع المشترك بينهم .
السابع : التخفيف من عند الله عز وجل عن الأنبياء والناس بالمعجزة ، فهي حجة وبرهان ولها لسان وشفتان .
الثامن : قانون المعجزة دعوة سماوية للإيمان بالغيب ، وفي الثناء على المتقين ، قال تعالى [الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ]( ).
التاسع : قانون جذب الناس إلى مقامات الإيمان بالمعجزة الحسية والعقلية.
العاشر : قانون توثيق المعجزة الحسية بالمعجزة العقلية ، فقد أراد الله عز وجل حفظ معجزات الأنبياء بالقرآن ، وسلامته من التحريف
وليكون من معاني الحفظ في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ]( )، حفظ مواثيق ومعجزات الأنبياء بالقرآن ، وحفظ قواعد انتفاع المسلمين والناس جميعاً من معجزات الأنبياء السابقين بسلامة القرآن من التحريف.
ومن إعجاز القرآن نزول عدد من الآيات بخصوص قصص ومعجزات الأنبياء لينهل منها الملايين من المسلمين وغيرهم المواعظ والعبر ، ويتخذوا مناهج سيرتهم ضياء ونبراساً في العمل الصالح.
منافع علم مقدمات النبوة
لا ينحصر علم مقدمات النبوة بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يتضمن مقدمات نبوة الانبياء الآخرين بحسب الآيات كما في صفة ولادة موسى وعيسى عليهما السلام ، والأخبار الواردة في السنة النبوية عن سيرة وقصص الانبياء، مع ايجاد الجامع في المقدمات بين الانبياء واستنباط الدروس والمسائل الكلامية واستقراء ذخائر الآيات في هذا العلم الشريف الذي يؤكد العناية الالهية بالنبي من ساعة ولادته بل قبل ان يولد، لان الله سبحانه يتعاهده في الأصلاب والأرحام الطاهرة.
ومن منافع هذه الآيات ومقدمات النبوة مجتمعة ومتفرقة أمور :
الأول : قانون وجوب التصديق بالرسالة الخاتمة .
الثاني : قانون الزجر العام عن الكفر والجحود بالنبوة .
الثالث : قانون الإنذار من محاربة وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : قانون خسارة وخيبة وخزي الذين يحاربون الأنبياء ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الحجج الغيرية للنبوة
من أسماء الله اللطيف ، وهو سبحانه لطيف بخلقهم مجتمعين ومتفرقين ، وفي التنزيل [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ]( ).
ومن لطف الله عز وجل في الآية أعلاه مجئ الرزق والمرزوق على نحو التنكير ، والذي يفيد الإطلاق والعموم ، إطلاق أفراد ومصاديق الرزق ، وعموم الذين يرزقهم الله ، وفيه دعوة للناس للإيمان وسؤال الرزق الوفيبر من عند الله ، وفي مريم عليها السلام ومجئ فاكهة الشتاء لها في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء [قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
والحجج الغيرية للنبوة على أقسام :
الأول : رشحات اللطف الإلهي بخلافة الإنسان في الأرض ، فيكون تقدير قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أي أرزقه وأمده بمستلزمات الخلافة ، وتعاهدها ، ولا يحصي مصاديق هذا المدد إلا الله عز وجل ، لذا لم يعلم كفار قريش أنهم إذا قاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينزل الملائكة لنصرته.
وفيه لطف من الله عز وجل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وبالمشركين وابنائهم أيضاً .
الثاني : أسباب الهداية والرشاد والصلاح واستدامتها بين الناس.
الثالث : سبق تمادي الناس في المعاصي ، وعبادة الأوثان ، وقانون حاجة الناس لرسالة السماء ، وتطلع طائفة منهم إلى سبيل للهداية والرشاد ، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)( ).
الرابع : منها البشارات ببعثة خاتم النبيين في الكتب السماوية السابقة ، وعلى لسان الأنبياء السابقين ، وورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ) .
ومن مصاديق الحاجة إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طول الفترة بين رسالة عيسى عليه السلام وبين رسالته ، إذ استمرت نحو ستمائة سنة ، عبد فيها كثير من الناس الأصنام ، وشاع الغزو وسفك الدماء بينهم ، وأصابهم الجوع والفاقة ، واُستعبد كثير من الناس بغير حق ، وانتشر وأد البنات ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ]( ).
فكانت رسالة النبي محمد حاجة للناس جميعاً ، القوي والضعيف ، والقبائل والأمم .
ولا يحصي حاجة الناس لرسالته في زمانها والأزمنة اللاحقة إلا الله عز وجل لبيان قانون تخلف الخلائق عن إحصاء مصاديق اللطف الإلهي ، وفي التنزيل [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ).
المعجزة الحسية والعقلية
لقد جمع الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المعجزة الحسية والعقلية ، وفيه دعوة جلية وعامة للتصديق بنبوته ، ومن الشواهد على إجتماع المعجزة الحسية والعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورود لفظ (اتبعوه) في القرآن على قسمين :
الأول : اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته ومعجزاته القولية والفعلية ، قال تعالى [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الثاني : اتباع القرآن وأحكامه ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
لبيان اتباع المعجزة العقلية والمعجزة أمر خارق للعادة يجريها الله عز وجل على أيدي الأنبياء ، وينقضي أوان المعجزة الحسية بفعلها وكثير منه ما يكون لساعة ونحوها مثل نجاة إبراهيم من النار ، وفي التنزيل [حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
ولكن أثر ونفع المعجزة الحسية يستمر كما في سلامة إبراهيم عليه السلام ، وبقائه حياً بعد حادثة الحرق ، وإعادته لبناء البيت الحرام ، إذ قال تعالى [يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
ومنها ما يأتي المصداق الفعلي للمعجزة بعدها كما في إخبار عيسى عليه السلام بني إسرائيل بما يدخرون ، وفي التنزيل [وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ]( ).
وكان عيسى عليه السلام يقول للغلام الذي معه في الكتاب إن أهلك خبأوا لك كذا وكذا .
وجاءت المعجزة العقلية وهو القرآن ليوثق معجزات الأنبياء إلى يوم القيامة ، وهذا التوثيق عون ومدد للمسلمين والمسلمات بالتصديق بجميع الأنبياء والمرسلين ، ومنها مثلاً تكليم الله عز وجل لموسى عليه السلام قال تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( )، ولا يعلم كيفية كلام الله لموسى إلا الله سبحانه .
ومنها آية ناقة صالح ، وتجلي المعجزة الحسية فيها كل يوم ، ومع هذا أقدم قومه على عقرها ليعجل الله عز وجل لهم العذاب [فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا]( ).
وفيه دعوة للمسلمين والناس بقبول معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحصي الذين اهتدوا للإيمان بمعجزات الأنبياء الحسية ، وبتوثيقها في القرآن إلا الله عز وجل .
تعاهد المسلمين للزكاة
الزكاة لغة هي النماء والزيادة ، وفي الإصطلاح اخراج مقدار من مال مخصوص إذا بلغ نصاباً بتمام الملك والحول ، وهذا من الإعجاز للتضاد الظاهري بين المعنى اللغوي والإصطلاحي للزكاة فمع أنها قطع جزء من المال ودفعه للفقراء فانها تسمى زكاة .
لبيان الوعد من عند الله عز وجل بأن يخلف مال الزكاة والخمس ، ويجعل في المال المتبقي النماء والبركة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية إقبال المسلمين على دفع الزكاة بقصد الطاعة والقربة إلى الله عز وجل .
لقد فرض الله عز وجل الزكاة القليلة في مال أغنياء المسلمين لتدفع إلى الفقراء ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ومع أن التذكير في الآية أعلاه شامل للرجال والنساء ، فقد ورد الأمر بالزكاة بصيغة المؤنث بقوله تعالى [وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول أهل مكة الإسلام وتولي عدد من الذين أسلموا يوم الفتح الإمارة ، ورئاسة السرايا ، وجمع الزكوات ، وحسن أدائهم ، ولا عبرة بالقليل النادر .
ليصبحوا وابناؤهم من أصحاب الأموال ، وممن يخرج الزكاة من ماله ، قربة إلى الله تعالى ، ويجو الأجر والثواب الذي لا يعلمه ولا يحصيه إلا الله عز وجل وحده .
وهل إخراج الزكاة من الإنفاق في سبيل الله ، الجواب نعم ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
نعمة إيلاف قريش
لقد أهلك الله عز وجل أبرهة وجنوده الزاحفين لهدم البيت الحرام لتتعاهد قريش سنن إبراهيم في التوحيد ، ويصدقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجامعة للشرائع لتدوم عليهم النعم الذي تجلى بقوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
ولكنهم اتخذوا الكفر وعبادة الأوثان منهاجاً يومياً ، واقتدى بهم رجال القبائل والأعراب ، فخرجوا معهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم واضطر هذا الخروج رجالات قريش للقيام بتوفير الظهر والمؤون والأسلحة لهم ، مع رُشى خاصة لرؤسائهم واسقاط الديون ، والوعود المالية ونحوها ، بدل تآلفهم في ظلال التوحيد والنبوة لتستديم عليهم النعمة .
و(عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ، ولا يعطيها أحداً بعدهم : إني فيهم وفي لفظ النبوّة فيهم ، والخلافة فيهم ، والحجابة فيهم ، والسقاية فيهم ، ونصروا على الفيل ، وعبدوا الله سبع سنين( ).
وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم ، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ])( ).
ومن تألف قريش تعاونهم وتكافلهم الإجتماعي للقضاء على الإحتفاد ، و(عن عمر بن عبد العزيز قال : كانت قريش في الجاهلية تحتفد ، وكان احتفادها أن أهل البيت منه كانوا إذا سافت يعني هلكت أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية ثم تناوبوا فيها حتى يموتوا من قبل أن يعلم بخلتهم.
حتى نشأ هاشم بن عبد مناف.
فلما نبل وعظم قدره في قومه قال : يا معشر قريش إن العز مع الكثرة ، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالاً وأعزهم نفراً ، وإن هذا الإِحتفاد قد أتى على كثير منكم ، وقد رأيت رأياً .
قالوا : رأيك راشد فمرنا نأتمر .
قال : رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم فأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيراً عياله بعدد عياله ، فيكون يوازره في الرحلتين رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن ، فما كان في مال الغني من فضل عاش الفقير وعياله في ظله ، وكان ذلك قطعاً للاحتفاد.
قالوا : نعم ، ما رأيت فألف بين الناس .
فلما كان من أمر الفيل وأصحابه ما كان وأنزل الله ما أنزل وكان ذلك مفتاح النبوة وأول عز قريش حتى أهابهم الناس كلهم وقالوا أهل الله والله معهم.
وكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العام ، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان فيما أنزل الله عليه يعرف قومه وما صنع إليهم وما نصرهم من الفيل وأهله [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ) إلى آخر السورة.
ثم قال : ولم فعلت ذلك يا محمد بقومك وهم يومئذ أهل عبادة أوثان فقال لهم [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ]( ) إلى آخر السورة .
أي لتراحمهم وتواصلهم ، وكانوا على شرك ، وكان الذي آمنهم منه من الخوف خوف الفيل وأصحابه واطعامهم إياهم من الجوع من جوع الاحتفاد)( ).
وتآلف قريش وكثرة تجارتها من مقدمات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب التوفيق والفلاح فيها ، لبيان قانون نصرة الله للأنبياء بتهيئة مقدمات النبوة.
قانون توالي النعم مقدمة للبعثة
لقد كانت النعم الإلهية على قريش ظاهرة جلية سواء في جوارهم للبيت الحرام وتوليهم الوفادة والسقاية العامة وقدوم لمكة للحج أو العمرة أو لطلب من قريش الذين اتسعت الناس تجارتهم ، وكثرت أموالهم ، وصار الشأن الرفيع لهم بين القبائل .
و(عن ابن عباس قال : لما أمر الله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج ، صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى : إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم . فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وأول من أجابه أهل اليمن . فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة ، إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ)( ).
ثم تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم ومن أوسطهم ، لتعدد الآيات الحسية الشخصية والعامة عند قريش .
وتتجلى الفيوضات والبركات في معيشتهم ومجتمعهم ، وتفضل الله عز وجل عليهم بالنعمة العظمى بجعل خاتم النبيين منهم ، فقابلوا هذه النعم المتعددة بالجحود ، والحرب بالسيوف ، وإهراق الدماء في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وغيرها .
فتفضل الله عز وجل بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لتكون آيات النعمة على قريش ومقابلتهم لها بالجحود من العبرة والإتعاظ لأولي الأبصار .
وهل يختص الأمر بزمان التنزيل ، الجواب لا ، بل هي شاملة لكل الأزمنة ، وتقدير الآية : لعبرة لأولي الأبصار في كل زمان .
وللمفسرين قول مشهور بأن المقصود من أولي الأبصار هم أهل البصائر ، والمختار حمل الكلام على ظاهره وأن المراد هم أولو الأبصار والذين ينتفعون من نعمة النظر في التدبر والآيات ، وهذا الإنتفاع مرتبة في التدبر والبصيرة .
لبيان قانون وهو الترابط بين الأبصار والبصائر وكل منهما تقود إلى الأخرى ، وهو من أسرار جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
والإتعاظ واقتباس الدروس من آيات العبرة الستة نعمة من عند الله ، وهو سبحانه يعطي بالأتم والأوفى ، فارادة الأبصار هو الموافق في الآية لأنه أعم من البصائر.
ومن معاني التدبر بالبصر قوله تعالى [الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ]( ).
وهل يخرج من الآية الذين أصروا على الكفر والجحود فختم الله على أبصارهم كما في قوله تعالى [خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، الجواب لا.
لقد حرموا أنفسهم باختيار الكفر من نعمة البصر والبصيرة في نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة على كفار قريش ، وهو من أسباب عزمهم العودة إلى القتال في معركة أحد .
ليدرك أولو الأبصار أن ذات نتيجة الخسارة تنتظرهم لذا نزل بخصوص معركة أحد قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
إحصاء البركة
البركة هي الزيادة في الخير باكثر من قاعدة السبب والمسبب ، وهي فضل من عند الله عز وجل ، وتطلق على النماء والزيادة واليُمن ، والسلامة من الآفات والأدران ، قال تعالى [ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ]( ).
ومن معاني البركة كثرة واستدامة الخير وثباته واستقراره ودوامه ، ومنه برك البعير إذا استقر على الأرض ، وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ]( ).
وفي قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، ورد (عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال : أتانا رسول الله صلّى الله عليه ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن (سعد) : أمرنا الله أنْ نصلّي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلّي عليك .
فسكت رسول الله صلّى الله عليه حتّى تمنّينا أنّه لم يسأله .
ثمّ قال : قولوا اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميدٌ مجيد ، والسلام كما قد علمتم)( ).
قانون كل آية بركة
تتعدد الآيات التي وردت فيها مادة (بركة) لبيان أمور :
الأول : كل آية قرآنية مباركة ، وهو من رشحات قوله تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ]( ).
فتكون البركة لآيات القرآن على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والإفرادي .
الثاني : قانون ترشح البركة كل يوم عن الآية القرآنية ، وهو من مصاديق ودلالات تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلوات اليومية الخمس.
الثالث : قانون تغشي البركة لآيات الحياة الدنيا ، وحال المؤمنين فيها ، قبل البعثة النبوية وبعدها ، وقد تأتي البركة بذات اللفظ وقد تأتي بالمعنى والدلالة.
وتتجلى البركة في كل آية من الآيات التالية [وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ).
فالبشارة من الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام بولادة إسحاق بركة عظمى ، وتنجز هذه البشارة بولادته نعمة وبركة خاصة مع تحقق الولادة وعمر إبراهيم يومئذ نحو مائة سنة ، وعمر زوجه سارة تسعين سنة .
لتكون هذه الولادة بشارة لأهل هذا الزمان وما بعده في الإرتقاء في علوم طب الإبدان ، وإمكان الإنجاب عن كبر بالنسبة للزوج والزوجة ، وقد كفل الله عز وجل الأرزاق ، قال تعالى [نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( ).
ولا يحصي أفراد الرزق للعباد إلا الله ، ولا يقدر على توالي الرزق على الناس إلا الله سبحانه ، ويتجلى قانون كل من الرزق والمرزوق من مصاديق ملك الله للسموات والأرض .
وولد إسحاق مباركاً من عند الله ، ونال مرتبة النبوة ، وتبين هذه الآيات التعدد بين النبوة والبركة ، واستمرار البركة في ذرية إبراهيم لتشمل إسماعيل وذريته ، وذرية إسحاق .
لبيان قانون عجز الخلائق عن إحصاء أفراد البركة في ذرية إسماعيل بن إبراهيم وذرية إسحاق ، ومن ذرية إبراهيم وإسماعيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل تختص هذه البركة بالذرية ، الجواب لا ، إنما تشمل أجيال المسلمين والمسلمات بهدايتهم إلى الإيمان والإنتفاع العرضي منه ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وليس من حصر لمصاديق البركة التي تأتيهم كأمة وأفراد ، ولا يحيط بها علماً الا الله عز وجل.
ويتجلى قانون كل فريضة عبادية يؤديها المسلم هي من البركة وسبب في نزول البركة على الذي يؤديها وذويه .
وعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم عن طريق أمه ، وورد حكاية عنه في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( )، لبيان البركة في ذات شخص عيسى عليه السلام ، وفي أفعاله العبادية.
من أقسام البركة
ويمكن تقسيم البركة إلى أقسام منها :
الأولى : البركة الزمانية : فكل يوم يطل على الناس هو بركة وزيادة نعمة من الله ، وقال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ]( ).
الثاني : البركة المكانية : في بقاع مخصوصة منها ، وفي البيت الحرام ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : بركة التنزيل : وقد ورد الثناء على القرآن ، ووصفه بالبركة في آيات متعددة منها قوله تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ]( )، ويمكن القول بقانون كل وحي وتنزيل مبارك.
الرابع : بركات السماء والأرض ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( )، وإذا كان الغيث والزراعات من بركات السماء والأرض ، فهل استخراج النفظ والغاز والمعادن من بركات الأرض ، الجواب نعم .
(وقال ابن الدمينة:
يقولون لا تنظر، وتلك بليةٌ … ألا كل ذي عينين لا بد ناظر)( ).
ولا يستطيع الناس إحصاء البركات في كل يوم وليلة لكثرتها وانتفاع إنسان من عدد من البركات في آن واحد ، وهو من أسرار قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الخامس : البركة التي تأتي فضلاً من الله عز وجل زيادة على قاعدة السبب والمسبب .
السادس : ما يتفضل الله عز وجل من البركة غير المنظورة استجابة لدعاء الصالحين ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وهل هذه البركة بالداعي وصاحب السؤال ، الجواب لا ، فسعة وعموم الإستجابة من الله من مصاديق البركة ، ويعطي الله عز وجل بالأتم والأوفى.
نزول تحريم الخمر وبراءة ونزاهة الإمام علي (ع)
ذكر مثلاً عثمان بن مظعون انه قيئ شرب الخمر فنزل تحريم الخمر ، مع أنه من الذين حرموا على أنفسهم الخمر في الجاهلية ، وقد (قال: لا أشرب شراباً يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي. فلما حرمت الخمر أتى وهو بالعوالي ، فقيل له: يا عثمان. قد حرمت الخمر. فقال: تباً لها قد كان بصري فيها ثاقباً)( ).
أو نسبة شرب الخمر في نزول هذه الآية إلى الإمام علي عليه السلام في بعض الروايات الضعيفة وهو برئ منه ، وبعضها لم تذكر أنه شربها مع الصحابة الآخر .
وعن الإمام علي عليه السلام قال (دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر ، فحضرت صلاة المغرب ، فتقدم رجل فقرأ [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( ) فالتبس عليه فنزلت [لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ]( ) الآية ، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وفي هذا الحديث فائدة كثيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر ، وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد برأه الله منها فإنه راوي هذا الحديث)( ).
ولا يدل الحديث على تضمن الدعوة شرب الخمر ، فلعل بعضهم شربها وحضر الدعوة .
وحكى عن الحسن البصري قال : أن علياً لم يقبل أن يشرب معهم في دار أبي طلحة بل خرج من بينهم ساخطاً على ما يفعلون .
وحينما نزلت الآية قال الإمام علي عليه السلام (تبا لها، والله يا رسول الله لقد كان بصري فيها نافذا منذ كنت صغيرا، قال الحسن: والله الذي لا إله إلا هو ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط)( ).
ثم أن آية التطهير حجة في المقام على عصمة الإمام عليه السلام من شرب الخمر ، قال تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
كما وردت احاديث تدل على أن سبب نزول قوله تعالى [لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى]( )، غير الذي ذكروه ، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال إلا من جهة الترجيح قرآناً وسيرة ورواية ودراية .
و(روى الامام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر انه قال : اللهم بينْ لنا في الخمر بيانا ، فنزلت هذه الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافيا ، فنزلت الآية التي في سورة النساء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى]( ).
فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافيا فنزلت الآية التي في المائدة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ…]( ) الآية ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ [فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ]( ) قال عمر : انتهينا ، انتهينا)( ).
كما ورد عن أنس بن مالك في سبب النزول قال (كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة وكعبا وسهيل بن بيضاء نبيذ التمر والبسر حتى أسرعت فيهم ، فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت ، قال : فوالله ما انتظروا أن يعلموا أحقا قال أم باطلا ، فقالوا : اكفأ يا أنس ، قال : فكفأته ، فوالله ما رجعت إلى رءوسهم حتى لقوا الله وكان خمرهم البسر والتمر)( ).
كما نسب شربها قبل تحريمها إلى أبي بكر وأنه قعد ينوح على قتلى بدر فنزلت آية التحريم ، لذا (كانت عائشة تدعو على من ينسب إليه :
تحيا بالسلامة أم بكر . . . فهل لي بعد قومي من سلام
وتقول : والله ما قاله)( ).
وقد يكون سبب النزول سؤالاً وجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه أو من أهل الكتاب أو من المشركين ، فيتفضل الله على الناس جميعاً بمجئ الجواب بالوحي والتنزيل ، كما في قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]( ).
إحصاء المنافقين والمنافقات
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب وبشريعة وأحكام متكاملة تتغشى الواقع العام في الجزيرة وخارجها ، وتتولى شؤون الأسرة والميراث بما يمنع الخلاف فيها .
لتحيط كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث وبالإخبار عن أهوال عالم الآخرة في تعاقب الجديدان الليل والنهار.
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي التخفيف عن الناس من وجوه :
الأول : تعيين الفرائض العبادية البدنية والمالية ، والحج الذي هو عبادة بدنية مالية .
الثاني : الإنتفاع العام والأمثل من عالم التنزيل ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث : منع الفرقة والخلاف بين المسلمين في العبادات والمعاملات ، وهل هذا المنع من مصاديق كمال الدين وتمام النعمة في الآية أعلاه ، الجواب نعم .
الرابع : قانون نشر مفاهيم التوحيد وسنن الصلاح والرشاد بين الناس طوعاً وقهراً وانطباقاً.
الخامس : تعيين السور الجامع الذي يلتقي عنده الناس ، وهو عبادة الله وحده ، قال تعالى [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
السادس : قانون حضور أحكام السماء في الوقائع العامة والخاصة للسلامة بالصدور عن القرآن وبما يبعث السكينة في النفوس.
السابع : سعي المسلمين في مقدمات الإستعداد للإنتقال إلى عالم الآخرة ، وذكر الموتى بالإستغفار وأعمال البر ليلحقهم الثواب بعد مغادرتهم الحياة الدنيا ، وتعطل ماكنة العمل الشخصي الذي كان في حياتهم شاملاً للعمل الصالح وثوابه ، وضده وما فيه من الإثم ليكون ما يصلهم بعد مماتهم الأجر والثواب من فعل أبنائهم وغيرهم.
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لكون الميِّتُ في قَبْرِهِ كالغَرِيقِ يَنْتَظرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ من ابْنِهِ أَو أَخِيهِ أو صَدِيقِهِ ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ ، كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّنْيا وَمَا فِيهَا)( ).
أقسام فترة النبوة
يمكن تقسيم فترة النبوة إلى قسمين :
الأول : أيام التنزيل والدعوة في مكة ، إذ تفضل الله بالنبوة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في سن الأربعين ، وغادر مكة بعدها بثلاث عشرة سنة .
وتقسم هذه الفترة إلى شعب :
الأولى : مرحلة الرؤيا الصالحة والتي استمرت ستة أشهر ، فان قلت كثير من الناس يرون الرؤيا الصالحة ، والجواب هذا صحيح ، ولكن من بركة رؤيا إدراك النبي بأن هذه الرؤيا من عند الله ، وليست فقط رؤيا صالحة ، وقد ورد في إبراهيم عليه السلام [قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثانية : فترة ابتداء الوحي ، وحديث الملك ، ونزول القرآن الذي ابتدأ بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
الثالثة : الدعوة السرية ، خشية بطش قريش .
الرابعة : دعوة ذوي القربى والمقربين والأصدقاء ، قال تعالى [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ]( ).
الخامسة : الإجهار بالدعوة والإتصال بوفود القبائل التي تأتي للحج ، وسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لإيوائه.
الثاني : أيام التنزيل والدعوة في المدينة المنورة مدة عشر سنوات بعد الهجرة ، وهي على شعب منها :
الأولى : بناء المسجد النبوي ، ودعوة الناس إلى الإسلام .
الثانية : بعث سرايا حول المدينة .
الثالثة : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب للتبليغ والإستطلاع .
الرابعة : المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الخامسة : الدفاع في معركة بدر ، قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ).
السادسة : مرحلة تبليغ الأحكام والسنن وتفقه المسلمين في أمور الشريعة ، وإكثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة بعد سيادة الإسلام في الجزيرة ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
ولم يكن نفاق في مكة ، إذ كان المسلمون مستضعفين يصيبهم الأذى من كفار قريش ، والنفاق هو إخفاء الكفر مع إظهار الإيمان ، وحضور الصلوات ، ويدل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، على استمرار ضعف المسلمين بعد الهجرة إلى حين معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
ليظهر بعدها النفاق في المدينة ، ويقابله إخفاء المسلمين في مكة إيمانهم تقابل الضدين .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو إزدياد عدد المسلمين في مكة مع هجرة عدد منهم على نحو مستمر ، فمع كثرة المهاجرين لا ينقص عدد المسلمين في مكة ، بينما يأخذ عدد المنافقين في النقصان.
ولأن النفاق كيفية نفسانية وفعل خفي فلا يعلم عدد المنافقين والمنافقات إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
لذا نزل القرآن بذم النفاق وإبطان الكفر ، وفيه سورة تسمى سورة المنافقين ، وتستحب قراءتها في صلاة الجمعة ، للتذكير بالقبح الذاتي للنفاق وأثره الغيري ، وسوء عاقبته ، ومن المنافقين من أسلم ثم طرأ الشك والوهم عليه أو أغراه وأغواه الذين كفروا ، قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ]( ).
وقد حذر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منهم ، وتوعدهم الله بالإنتقام منهم في الدنيا والآخرة ، بقوله تعالى [هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]( ).
ويحتمل هذا التحذير وجوهاً :
الأول : إنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : يلحق الخلفاء والأمراء والعلماء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تلحق الأمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المختار هو الأخير ، وهو من الشواهد على بقاء آيات القرآن حاكمة على عالم الأفعال في أيام الحياة الدنيا .
وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات للتنزه من درن النفاق ، لذا جاء ذكر المنافقات في القرآن خمس مرات ، مع أن القرآن نزل في زمان فيه الشأن للذكور ، قال تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
كثرة آيات النفاق
وهل آيات سورة المنافقين هي الأكثر في ذمهم أم آيات القرآن الأخرى التي تذكرهم بالذم والتبكيت ، الجواب هو الثاني ، لبيان الضرر العام المترشح عن النفاق .
وكما يحصي الله عز وجل المنافقين فانه يحصي أقوالهم وأفعالهم التي تدل على النفاق ، ويجعل برزخاً بينها وبين التأثير العام في المجتمع ، لتتجلى وجوه :
الأول : قانون كل آية قرآنية برزخ دون النفاق .
الثاني : قانون أداء الفرائض العبادية واقية من النفاق .
الثالث : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في محاربة المنافقين بالحجة والبرهان ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ولابد من أثر ونفع عظيم من جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين يتجلى بالتخلص من النفاق والإحتراز منه .
وهل يختص جهاد المنافقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، فهو عام يشمل المسلمين والمسلمات [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، ولا يحصي منافع جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد المنافقين إلا الله عز وجل خاصة وأنها لا تختص بالأثر بالمنافقين بل تشمل الصلاح العام ووقاية المسلمين من النفاق .
وكذا لا يحصي منافع آيات القرآن في صرف الناس عن النفاق ، والنفرة منه إلا الله عز وجل ، لبيان قانون التنزيل واقية من النفاق إلى يوم القيامة .
إحصاء علوم التفسير والتأويل
من أشرف العلوم التي يدرسها الإنسان علوم وذخائر التنزيل ، وقد صاحبت هذه العلوم الإنسان من حين هبوطه إلى الأرض إذ تلقى آدم الوحي وهو نبي رسول .
ثم تفضل الله عز وجل بالكتب السماوية وختمها بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ليغوص العلماء في بحار كنوزه ، ففي كل زمان يستنبط العلماء لآلئ من إعجاز الآية القرآنية أو من الصلة بينها وبين غيرها من الآيات .
وتتجلى غرائبه في الوقائع والأحداث وموافقتها لآيات القرآن ، واتخاذه سلاحاً للوقاية والإحتراز .
وقد حض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العلماء على فهم علوم القرآن ، والتوسع في تفسيره بعيداً عن الرأي ، وأخبر بأن عجائبه لا تنقضي.
و(عن الحارث الأعور قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت عليّاً (عليه السلام) فأخبرته ، فقال : أوقد فعلوها؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله .
قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم.
وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس منه الألسن ، ولا يخلق من الرد ، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا [إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ]( )، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)( ).
ولا يستطيع الناس إحصاء كنوز التفسير لتجددها ، ففي كل جيل تستخرج علوم منها وهو من إعجاز القرآن وبقاء آياته غضة طرية .
وأول من قام بتفسير القرآن هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدى أصحابه إلى قواعد تفسير آياته .
و(عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل)( ).
لقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإختلاف والشقاق في تفسير القرآن والبحث عن وجوه للتعارض بين آياته .
و(عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال : بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضرب الكتاب بعضه ببعض . قال : وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً ، فما عرفتم منه فاعملوا به( ) ، وما تشابه عليكم فآمنوا به)( ).
كما حذر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قراءة القرآن بسرعة ومن غير تدبر ، إذ ورد (عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدقل ، يتأوّلونه على غير تأويله)( ).
والدقل تمر صغير وهو أردء أنواع التمر.
ومن خصائص علوم التفسير أنها مقدمة وحافز للعمل بأحكام آيات القرآن ، وهذا العمل على وجوه :
الأول : قانون العمل بآيات القرآن من الشواهد على إعجازه .
الثاني : انتفاء التعارض بين القرآن وبين الوقائع والأحداث .
الثالث : قانون الوقائع مرآة للقرآن .
ويجتهد العلماء في كل جيل بخوض غمار التفسير ، ليغادروا الدنيا بقانون الإقرار بالعجز عن الإحاطة بعلوم القرآن ، وفي التنزيل [إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ]( ).
ومن مصاديق عجزنا عن إحصاء علوم القرآن مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولم يفتح العلماء كلاً من :
الأول : علم الصلة بين أول ووسط وآخر الآية : وقد خصصت له في تفسير كل آية من (معالم الإيمان) باباً خاصاً مع الإقرار بعجزي عن استظهار العلوم الخاصة بهذا الباب .
الثاني : علم سياق الآيات : بقراءة الآية القرآنية بلحاظ الآيات المجاورة لها ، ومن مسائله العطف الموضوعي بين الآيات ، ولحاظ أسباب النزول والوقائع في نظم القرآن ، وشواهد صدق على قانون ترتيب آيات القرآن توقيفي .
الثالث : تفسير صلة الآية بكل آية من القرآن : بأن نأخذ الآية مثل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وتبين صلتها مع كل آية من آيات القرآن إلى آخر آية منه [مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ]( ).
وستبقى أفراد التفسير متجددة ، وفي كل زمان تطل على الناس علوم مستحدثة منها البيان وفق الكتاب واللغة والبلاغة وأدلة الإستنباط ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
إحصاء علوم ذات القرآن
الحمد لله الذي جعل القرآن بياناً و[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه بيانه للأحكام والعلوم الواردة فيه والمستقرأة بخصوص ذات كلماته وآياته ، وهي غير العلوم المستنبطة منه في أمور الدين والدنيا وعالم الآخرة ، ومن هذه العلوم :
الأول : علم نزول القرآن ، إذ نزل القرآن إلى السماء الدنيا جملة.
و(عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين ، وفي لفظ : ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوماً ، ثم قرأ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ( ).
وقال الطبرسي (فقيل أن الله أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ثم أنزل على النبي بعد ذلك نجوما في طول عشرين سنة عن ابن عباس و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و هو المروي عن أبي عبد الله)( ).
الثاني : ترتيب سور وآيات القرآن توقيفي .
الثالث : علم المحكم والمتشابه ، وعلم الناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمبين.
الرابع : علم أسباب النزول .
الخامس : جمع القرآن وكتابته وتلاوة آياته والمحسنات اللفظية ، وعلم رسم القرآن .
السادس : مواطن نزول الآيات والسور ، وتقسيم السور إلى (المكي والمدني).
السابع : معاني الحرف القرآني .
الثامن : ذخائر عربية القرآن .
قانون القرآن واقية من الردة
من المصاديق لإعجاز القرآن الحسي والعقلي أن آياته حرز وواقية من الإرتداد إذ أن آيات القرآن حصن وشفاء بلحاظ أن الإرتداد داء ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
ولا يعلم بما في الصدور من الإيمان ومراتبه أو الشك والجحود إلا الله عز وجل ، فرحم الله الناس وجعل آيات القرآن تنفذ إلى شغاف القلوب ، فتجذب وتثبت الإيمان ، وتطرد منها النفاق ، ولا يحصي الشفاء بآيات التنزيل إلا الله .
ومن الإعجاز وإرادة الكثرة في الآية أعلاه توجه الخطاب فيها إلى عموم الناس بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] ولا تكفي آيات القرآن بالشفاء من النفاق والريب بل ذكرت الآية خصالاً ومنافع للقرآن من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بالخطاب في هذه الآية إلى الناس جميعاً من أيام التنزيل وإلى يوم القيامة .
وهذه الآية من عشرين آية من القرآن ابتدأت بالنداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ].
الثانية : إكرام القرآن ووصفه بأنه موعظة ، وفيه وجوه :
الأول : آيات القرآن على نحو العموم المجموعي موعظة من عند الله عز وجل .
الثاني : قانون كل آية من القرآن موعظة .
الثالث : تختص الموعظة بالآيات التي تتضمن الوعظ والإرشاد.
والمختار هو الوجه الأول والثاني أعلاه ، ولا يحصي مواعظ القرآن والإنتفاع العام منها إلا الله عز وجل .
الثالثة : من أسرار النداء العام للناس جميعاً في الآية أعلاه انتفاع المسلم ، وغير المسلم من آيات القرآن ومن تلاوته أو استماعه لها أو الإطلاع على تفسيرها.
وهو من أسرار موضوعية أسباب النزول وتقريبها معاني الآية إلى الأذهان لما فيها من الإدراك بالحواس .
الرابعة : تقييد الموعظة في القرآن بأنها من عند الله رب العالمين ، لبيان مصاديق الرحمة في جعل القرآن موعظة .
وتقدير الآية : قد جاءتكم آيات القرآن موعظة من ربكم .
الخامسة : قانون القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والريب ، وآفة الحسد والكآبة والكدورة ، ويحتمل المراد من الشفاء :
الأول : الوقاية .
الثاني : العلاج .
الثالث : الوقاية والعلاج .
والمختار هو الأخير ، فمن معاني الشفاء السلامة من الأدران ، وعلاجها ، ولا يقدر على حصانة القلوب من الأمراض وعلى علاجها إلا الله عز وجل ، وهو وحده الذي يحصي منافع التنزيل في صلاح القلوب ، والمراد من القلوب في المقام العقول ، والضمائر وأصل الإرادة والعزيمة.
السادسة : لقد أخبر الله عز وجل في القرآن عن وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانتقاله إلى عالم الآخرة ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
لتكون هذه الآية حرزاً للمؤمنين من الردة بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وفيها دعوة لمحاربة الردة والمرتدين.
ولما مات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حدثت ردة واسعة في الجزيرة ، كان القضاء عليها معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ، وشاهداً بأن القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور.
كيفية الشفاء بالقرآن
ترى كيف يكون الشفاء بالقرآن ، فيه وجوه :
الأول : تلاوة آيات القرآن .
الثاني : الأثر الفعلي والنفع المترتب على تلاوة القرآن .
الثالث : العمل بمضامين الآية القرآنية .
الرابع : إتخاذ الآية القرآنية مادة للدعاء .
الخامس : النظر في المصحف.
وفي خبر ضعيف سنداً (عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرأه ظهرا، كفضل الفريضة على النافلة)( ).
ويتجلى قانون أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى ، فهو سبحانه لم يكتف بجعل القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور إنما جعله هدى ورشاد لبيان أن حرب القرآن على الردة متجدد ، ولا يقف عند التخلص منها ومن الشك ، بل بابدال الشك باليقين ، والكفر بالإيمان ، قال تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَهُدًى] العصمة من الردة ، ومحاربتها أيام النبوة وبعدها ودعوة الناس لإتخاذ القرآن دليلاً ونبراساً .
ونزل القرآن بالإخبار عن قانون القرآن رحمة للمؤمنين ، وإرادة الإطلاق بالرحمة في الدنيا والآخرة .
و(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)( ).
إحصاء منافع إتحاد لغة القرآن في أقطار الأرض
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً رسولاً إلى الناس جميعاً على اختلاف مشاربهم ، وتعدد أقطار مساكنهم ، فأمره أن يخبر الناس بهذا العموم والعالمية لقوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجمع بين متضادين ، بين لغة القرآن المحصورة العربية ، وبين عالمية الدعوة ومعجزة تلقي عامة المسلمين هذه الآية بالقبول والإمتثال وإدراك قانون عدم تجلي المعاني المتعددة للفظ القرآني إلا باللغة العربية .
وقد أخبر الله عز وجل عن عربية القرآن في سياق الثناء عليه ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ]( ).
السادسة : قوله تعالى [قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ]( ).
لماذا نزل القرآن بالعربية
لقد نزل القرآن باللغة العربية لوجوه :
الأول : العربية لسان أهل الجزيرة ، ومنهم أهل مكة والمدينة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، وقد كتب الإنجيل باللغة الأرامية.
الثاني : إتصاف اللغة العربية بخصائص ليست موجودة في اللغات الأخرى ، من جهة أسرار البلاغة ، وغزارة المادة وسعة وتعدد معاني الكلمة العربية ، وكنوز الدلالة والمفردات ودقة المعاني بحروفها القليلة.
الثالث : يتصف العرب أيام التنزيل بالفصاحة والبلاغة وكان الشعراء والخطباء يتبارون في أسواق مكة في موسم الحج بالنظم والنثر فنزل القرآن ليعجزهم في بلاغتهم ، ويجعلهم يدركون أنه كلام فوق كلام البشر وبلاغتهم.
وقد ورد لفظ [فِي رَيْبٍ] مرتين في القرآن إحداهما في البعث والنشور ، وأسرار الخلق والتكوين ، كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ]( ).
والأخرى وهي معطوفة على النداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] وتتعلق بنزول القرآن بقوله تعالى [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الرابع : وصف الله عز وجل القرآن بأنه نزل [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ]( )، أي واضح وجلي ويمنع من الفرقة والخلاف في المسائل اللغوية والأحكام التشريعية ليتفرع علم النحو والبلاغة عن علوم وآيات القرآن.
الخامس : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً في مكة والجزيرة ، وكانت لغتهم العربية ، وقال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( ).
السادس : تجليات المعنى المتعدد للفظ العربي وتعضيد الشعر العربي له.
السابع : اللغة العربية لغة أهل الجنة .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحب العرب لثلاث : لأني عربي ، والقرآن عربي ، وكلام أهل الجنة عربي)( ).
صيغ الخطاب في القرآن
يرد في القرآن :
الأول : الخطاب العام .
الثاني : الخطاب الخاص .
الثالث : خطاب الجنس .
الرابع : خطاب النوع.
الخامس : خطاب العين لإرادة شخص واحد مثل [قُلْنَا يَا آدَمُ] ( ) [قَالَ يَا نُوحُ] ( ) [قِيلَ يَا نُوحُ] ( ) [قَالُوا يَا صَالِحُ] ( ) [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ]( ) [يَا مُوسَى لَا تَخَفْ]( ) [يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ]( ).
ولم يرد في القرآن (يا محمد) مع ورود اسمه خمس مرات في القرآن ، وفيه إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للمسلمين بدعوته بالرسالة [رَسُولُ اللَّهِ] ومناداته بالنبوة (يا نبي الله) وإجتناب دعوته باسمه ، قال تعالى [لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
إن تعدد صيغة الخطاب في القرآن علم تستنبط منه مسائل كثيرة ، وفيه دعوة للسلم ولغة الإحتجاج ، وحسن الخطاب .
الخطاب الخاص والمراد منه العموم
قد يرد خطاب خاص والمراد منه العموم بلحاظ القرينة مثل [أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ]( )، إذ ابتدأ الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتضمن بعده الخطاب إلى كل من يملك إجراء إيقاع الطلاق ، كما أنه عام للمسلمين والمسلمات للتفقه في الدين.
ومن الإعجاز مجئ الآية بحرف الشرط لما يستقبل من الزمان (إذا) لتأكيد كراهة الطلاق .
ولا يستطيع الناس إحصاء عدد مرات إنصراف المسلمين عن الطلاق حرصاً على وحدة الأسرة المسلمة ورجاء الثواب ، والعمل بالنصوص الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تفيد كراهة الطلاق.
واختلف في أصل حكم الطلاق على وجهين :
الأول : الأصل في حكم الطلاق الإباحة ، وهو مشهور علماء الإسلام ، وهو المختار .
الثاني : الأصل في حكم الطلاق الحظر .
نعم تنطبق على الطلاق أحكام الوجوب ، والندب ، قال تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ]( )، والكراهة.
كما يكون الطلاق حراماً أيام الحيض والنفاس ، وفي الطهر الذي جامعها فيه الزوج أو إذا كان مقدمة لوقوع الزوج بالزنا ونحوه من المحرمات.
خطاب المدح
قد يأتي الخطاب القرآني بالمدح والثناء العام مثل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أي آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويشمل هذا الخطاب ، المؤمنين وكل من آمن بالدعوة الظاهرة ممن نطق بالشهادتين.
لتترتب عليه التكاليف العبادية فمع النطق بالشهادتين يتوجه الأمر إلى العبد بالصلاة خمس مرات في اليوم ، وصيام شهر رمضان وأداء الزكاة بشروطها ، وحج بيت الله الحرام ، مع تحقق الإستطاعة ، وحرمة التسويف والتأجيل ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]( ).
ومن إعجاز القرآن أن كل تكليف مدح وثناء على ذات المكلفين ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ومن صيغ المدح والثناء في القرآن توثيق صبر وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقد يجتمع في آية واحدة كل من :
الأول : المدح .
الثاني : الذم .
الثالث : طرف ثالث مسكوت عنه.
ويتجلى هذا الجمع في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
(وقال أبو معشر : دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة ، فسألهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقالوا : قد جمعوا لكم جموعاً كثيرة فاجتنبوهم. فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ( ).
ومن خطاب المدح في القرآن ما ورد في الثناء على أهل الجنة كما في قول الملائكة لهم [سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
إذ ورد (عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله عزّ وجلّ يدعو يوم القيامة بالجنة ويأتي بزخرفها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة ، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب.
فتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربّنا نسبح الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ، فيقول الله عزّ وجلّ : هؤلاء عبادي الذين أوذوا في سبيلي ، فيدخل عليهم الملائكة يقولون سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ( ).
ومن خصائص خطاب المدح في القرآن الترغيب بالإيمان ، والعمل الصالح ، والبشارة بالأجر والثواب للمؤمنين .
خطاب الذم
يرد في القرآن خطاب الذم والوعيد مثل [يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ] الذي نزل في مكة قبل الهجرة النبوية لتحذير المشركين من إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته .
وورد لفظ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) مرة واحدة في القرآن كما تضمن القرآن الخطاب في الآخرة لرؤساء الكفر والضلالة منه قوله تعالى [ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ]( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه أسلوب المدح والذم ، ومن الآيات في المقام لم يرد المدح في القرآن إلا لمستحقيه من الصالحين ، ولم يرد خطاب الذم فيه إلا للظالمين والكافرين .
لتكون كل آية في المقام إصلاحاً للناس ، وباعثاً للسكينة في النفوس ، ووعيداً دنيوياً وأخروياً للذين كفروا ، قال تعالى [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
إحصاء آيات المدح والذم
أيهما أكثر في القرآن آيات المدح أو الذم ، وفي إحصاء الآيات في المقام لابد من التفصيل فقد يرد مدحان أو ثلاثة أو أكثر في آية واحدة ، وكذا يرد ذمان أو أكثر في آية واحدة ، وقد تجمع الآية بين المدح والذم .
وفي باب الذم مثلاً ورد قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا]( )، ففي الآية ذم للذين كفروا من وجوه :
الأول : إيذاء الكفار لله عز وجل .
الثاني : إيذاء الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نزول لعنة الله بالذين كفروا من يؤذون الله ورسوله .
الرابع : لعنة الله للذين كفروا في الآخرة .
ترى ما هي النسبة بين اللعنة في الدنيا والآخرة ، الجواب نسبة العموم والخصوص المطلق ، فلعنة الآخرة أشد وأمر .
الخامس : شدة عذاب كفار قريش ونحوهم يوم القيامة.
الأمر بالتقوى
من إعجاز لغة الخطاب في القرآن توجه الأمر [اتَّقُوا اللَّهَ] إلى الناس جميعاً وإلى أمم الأنبياء وإلى المسلمين والمسلمات بل وإلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
لتلحق به أجيال المسلمين وفيه دلالة على توجه ذات الأمر بالوحي إلى الأنبياء جميعاً ، وأن الحياة الدنيا تتقوم بتقوى الله والخشية من الله والإمتثال لأوامره.
ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أي خليفة يتحلى بالتقوى والصلاح .
ولا يحصي منافع الأمر بتقوى الله في القرآن وامتثال المسلمين له من أيام آدم وإلى يوم القيامة وإجتنابهم المحرمات طاعة لله عز وجل ، وخوفاً منه ورجاء ثوابه إلا الله عز وجل .
ولابد من علة لتكرار الخطاب والأمر بالتقوى في القرآن ، والتكرار من صيغ البلاغة ، ويعتمده العرب في مخاطباتهم ، ولكن التكرار من القرآن ذو فوائد متعددة ، فالى جانب البلاغة وجوه :
الأول :التذكير والبعث على الإتعاظ .
الثاني : بيان موضوعية التقوى في حياة الناس .
الثالث: قانون النجاة في الآخرة بالتقوى .
الرابع : تجلي معاني خاصة في كل فرد من التقوى بلحاظ الموضوع والحكم .
الخامس : خصوصية السياق في كل مرة تذكر فيها التقوى ، بلحاظ ذات الآية .
السادس : إقتباس الدرس والقوانين من صلة ذكر التقوى با لآيات المجاورة .
السابع : بيان منافع التقوى .
الثامن : وقائع مخصوصة .
التاسع : تأكيد قانون الحاجة إلى التقوى في الآخرة .
العاشر: من معاني التكرار تعدد صيغ الهداية والرشاد بذكر التقوى ومقدماتها ، وكيفيتها ، ومنافعها .
وكما في قوله تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا]( )
ولا يختص إنشاء المدح في القرآن بلفظ نعم ، والذم بلفظ بئس ، بل يشمل معاني ومفهوم ودلالات الآية القرآنية .
ففيها أربع أفراد من المدح للمؤمنين ، وخمسة من الذم ، أما أفارد المدح للمؤمنين فهي على وجوه :
الأول : المدح العام بصفة [الَّذِينَ آمَنُوا] .
الثاني : عمل الصالحات .
الثالث : الجزاء الحسن بوفاء أجورهم .
الرابع : الزيادة بالأجر والثواب بفضل من الله عز وجل .
أما أفراد الذم في هذه الآية للذين كفروا فهي على وجوه :
الأول : الإمتناع أنفة عن اتباع هدى النبوة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثاني : الإستكبار والتعالي عن عبادة الله وإتباع الرسول .
الثالث : الوعيد بنزول العذاب بالذين كفروا .
الرابع : إنتفاء وجود الولي والمعين والشفيع للذين كفروا يوم القيامة .
الخامس : ليس من نصير يوم القيامة للذين كفروا ، بينما ورد الوعد من عند الله عز وجل للذين آمنوا بالنصر يوم القيامة بقوله تعالى [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ]( )ولم يرد لفظ [لَنَنْصُرُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الإلتفات بلاغة في الخطاب
قد يرد الخطاب بالإنتقال من لون لآخر ، من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر ، مثل قوله تعالى [وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
فبعد أن أقر هذا المؤمن بأن الله عز وجل هو الذي خلقه وبيانه لفضل الله عز وجل وشكره تعالى على نعمة الخلق توجه إلى قومه بالإنذار بأنهم سيرجعون إلى الله ، فان لم تقولوا بالخلق من عند الله ، وإن تظنوا أنها أرحام تدفع ، وأرض تبلع.
فان المعاد والحشر أمر حتم ولابد منه ولا يستثنى منه أحد منكم فاستعدوا له بالتصديق بالرسل .
وقد يتضمن الإلتفات تعدد الجهة المقصودة وموضوعية أسباب النزول ومنه الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب كما في قوله تعالى [وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا* إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا]( ).
فهذه الآيات من سورة الإنسان ، وهي في سياق الثناء على أهل البيت وقوله تعالى [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
والمدار على عموم المعنى وليس سبب النزول وحده ، وليكون من معاني الإلتفات في قوله تعالى [إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً]( )، مخاطبتهم والمؤمنين في الجنة يوم القيامة ، فيكون من معاني الإلتفات في الآيات نسبة العموم والخصوص المطلق.
وسمى خطاب التلوين ، كما في قوله تعالى [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى]( )، في خطاب متعدد إلى موسى وهارون ثم انتقل الخطاب إلى الإتحاد والمفرد [يَا مُوسَى] لبيان مائز الرسالة عن النبوة ، وأن موسى يتكلم عن نفسه وشهادة عن أخيه هارون.
ليأتي الخطاب في القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهداً على أمته والناس ، قال تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا]( ).
لبيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة على أمة من أجيال متعاقبة .
ولا يعلم عدد أفراد شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيفيتها إلا الله عز وجل فهو وحده الذي يحصيها وييسرها .
الجامع بين التشريف والعمل
ومن خطابات القرآن الجامع بين التشريف والبعث على العمل ، ومنه ورود قوله تعالى [قُلْ] وإلحاق المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما خرج بالدليل في إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، كما في قوله تعالى [إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( )، وحتى هذا المعنى يشمل المسلمين ليقولوا (يا أيها الناس أن النبي محمداً رسول الله إلينا وإليكم جميعاً).
فمن وجوه التشريف في الخطاب القرآني وجوه :
الأول : تضمن الخطاب المدح .
الثاني : المباشرة في خطاب المدح من غير واسطة ، كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وعدده في القرآن تسع وثمانون ، وكلها نزلت في المدينة ، ليكون من الشواهد على تعيين السور المدنية ، وعلى إكرام المهاجرين والأنصار مجتمعين .
الثالث : خطاب الشهادة من الله على الإيمان والصبر في طاعته تعالى .
الرابع : الخطاب الذي يتعلق المدح فيه بصيغة الشرط ، كما في قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخطاب الجامع بين الموجود والمعدوم
وهو سور الموجبة الكلية في الخطاب والنداء القرآني ، ومنه [يَا أَيُّهَا النَّاسُ][ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] [يَا بَنِي آدَمَ] قال تعالى [يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ]( ).
والمراد من المعدوم الذي لم يولد بعد لبيان تجدد الخطاب القرآني وقانون توجه الخطاب القرآني لأهل كل زمان ، وفيه أمارة على بقاء القرآن وخطاباته إلى يوم القيامة .
فيكون المعدوم قبل ولادته ملحقاً بالموجود ، أما بعد ولادته وبلوغه سن التكليف فيتوجه الخطاب القرآني له مباشرة ، وهو من أسرار الصلة والتقارب اليومي بين كلام الله والناس .
ومن الإعجاز أداء المسلمين الصلاة خمس مرات في اليوم وتلاوتهم القرآن فيها .
ولا يحصي منافع الخطاب القرآني في هداية وصلاح الناس إلا الله عز وجل .
وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بصيغة الحتم والمشيئة ولتهيئة وظائف للملائكة خاصة بالناس أجاب الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
وليس من احتجاج في المقام ولكنه توسل من الملائكة ، فمثلاً أراد الملائكة أن لا يكتبوا على الناس إلا الحسنات ، وأن تكون خلافة الإنسان في الأرض بالإيمان وحده ، فليس من نمرود أو فرعون أو مشركي قريش وحرب على النبوة والوحي.
فكان توسل الملائكة رحمة بالناس ، فأجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، وأن مرتبة الخلافة اختبار وامتحان ، وفيها خلود بالنعيم للذين يحسنون مقامات الخلافة بالطاعة والعبادة ، ويتلقون خطابات القرآن بالإمتثال ورجاء الثواب.
وهو من مصاديق انفراد الله عز وجل بالعلم الخاص بخلافة الإنسان ، فما كان من الملائكة إلا الرضا والإستجابة والإمتثال لأمر الله عز وجل حين أمرهم بالسجود لآدم [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ]( ).
إحصاء مصاديق [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )
ورد لفظ [إِنِّي أَعْلَمُ] ثلاث مرات في القرآن ، مرتين في احتجاج الله عز وجل على الملائكة في خلافة الإنسان في الأرض ، والثالثة على لسان يعقوب في احتجاجه على ابنائه ، ولكنها مقيدة بالعلم من الله بالوحي ، إذ قال تعالى [فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
وليس من حصر لموارد وأفراد ما ينفرد به الله عز وجل من أحوال بني آدم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فهي كثيرة منها :
الأول : مدة الحياة الدنيا ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( )، ومع التطور العلمي الهائل في هذا الزمان فان العلماء يعجزون عن تحديد عمر الدنيا ، وبدايات عمارة الإنسان للأرض .
الثاني : أوان انتهاء الدنيا علم يختص به الله ، وهو من مصاديق انفراده بملكية الله المطلقة للسماء والدنيا ، وفي التنزيل [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ]( ).
الثالث : منافع خلافة الإنسان في الأرض على الناس والخلائق .
الرابع : عدد المؤمنين والمؤمنات .
الخامس : تعاهد الإنسان الخلافة في الأرض بسنن التقوى.
ويدل قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، على نسبة العموم والخصوص من وجه بين الناس والجن ، إذ يشتركان بوجوب عبادتهم لله عز وجل ، وينفرد الناس بالخلافة في الأرض لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع تقدم خلق الجن على خلق آدم ، لبيان أن الناس أرقى مرتبة من الجن وبالإستقراء من القرآن والجمع بين آياته.
السادس : إحصاء وجوه طاعة الناس .
السابع : إحصاء المعاصي التي تخالف علة خلق الناس وعبادتهم لله عز وجل .
الثامن : علم الله بنزول الملائكة بالوحي إلى الأنبياء ونزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين.
تقدير [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]
ومن معاني وتقدير [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( )، وجوه :
الأول : إني أعلم ما يعلن وما يكتم الناس ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ).
الثاني : الله أعلم بمنافع خلافة الإنسان في الأرض لعامة الخلائق.
الثالث : الله أعلم بسعة رحمة الله بالناس .
الرابع : الله أعلم بوظائف ومنافع النبوة .
الخامس : والله وحده أعلم بالخلائق .
السادس : لا يحصي وجوه وصيغ مغفرة الله للناس إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
السابع : إني أعلم بالثواب العظيم الذي أعده الله للمؤمنين .
الثامن : إني أعلم بنزولكم لنصرة الأنبياء ، وإعانة المؤمنين .
التاسع : إني أعلم بدعائكم للأنبياء والصالحين ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
العاشر : إني أعلم بمناجاة الناس لي .
الحادي عشر : إني أعلم بحبي للتوابين ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
الثاني عشر : إني أعلم بغناي عن الخليفة وعنكم وعن الخلائق كافة.
الثالث عشر : إني أعلم بمراتب ودرجات الإيمان .
الرابع عشر : إني أعلم بما يخفي المنافقون في نفوسهم .
الخامس عشر : إني أعلم بما احجبه من مقدمات الفساد وأسباب سفك الدماء .
السادس عشر : إني أعلم بما أعددت من العذاب للمفسدين والذين يسفكون الدماء .
السابع عشر : إني أعلم بأن خلافة الإنسان في الأرض لا تنجي المشرك والكافر والفاسق من العذاب .
الثامن عشر : إني أعلم الغيب ، وأنتم لا تعلمون .
التاسع عشر : إني أعلم بسنن التقوى والعبادة التي يكون عليها المؤمنون في كل زمان .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي .
فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون)( ).
العشرون : إني أعلم بمصالح الخلائق وأنتم لا تعلمون .
الواحد والعشرون : إني أعلم ببعثة الأنبياء ، ووجود الصديقين والشهداء ، والأولياء والصالحين ، والعلماء العاملين ، وأنتم لا تعلمون بعددهم وجهادهم ، ودعاءكم ونصرتكم لهم .
الثاني والعشرون : نقل ابن كثير قولاً (تضمن قولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ( ) طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم)( ).
ويلزم الدليل لهذا القول وهو من طبائع الناسوت فوظيفة الملائكة الطاعة المطلقة لله ، والإنشغال بالتسبيح ، والرضا بفضل الله عز وجل بالسكن في السماء ، إنما المختار أن الملائكة سألوا الله عز وجل أن يكون الناس كلهم مؤمنين.
أيهما أكثر في القرآن الجملة الخبرية أو الإنشائية
تقسم الجملة التامة سواء كانت اسمية أو فعلية ، أو شرطية إلى قسمين :
القسم الأول : الجملة الخبرية : التي تتضمن الإخبار عن واقع خارجي ، وتحتمل الجملة الخبرية الصدق والكذب ، ولكن في التنزيل والسنة لا تتضمن الجملة الخبرية إلا الصدق وتفيد الثبات ، وقد حذر القرآن من طرو الكذب على الجملة الخبرية بين المؤمنين بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )، لبيان وجوه :
الأول : قانون دعوة القرآن المسلمين للتدبر بالإخبار .
الثاني : قانون تنزه المؤمنين عن الخبر الكاذب .
الثالث : قانون موضوعية الخبر في الحياة العقائدية والعامة للمسلمين .
الرابع : قانون الإيمان والتقوى واقية من الكذب .
وقد تتضمن الآية القرآنية الواحدة الخبر والإنشاء ، مثل [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، والخبر فيها على جهات :
الأولى : الإخبار عن تحقق نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثانية : نزول خبر النصر من السماء ، فذات النزول خبر لا يحتمل إلا الصدق والحق .
الثالثة : الإخبار عن قانون نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من عند الله سبحانه.
الرابعة : الإخبار عن تحقق النصر في واقعة بدر ، لإفادة الباء الظرفية.
الخامسة : بيان الآية أعلاه لحال المسلمين يوم المعركة وأنهم أذلة.
السادسة : يترشح عن الجمع بين النصر وحال الذلة زوال هذه الذلة والإستضعاف عن المسلمين .
إما الإنشاء في الآية فورد في قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ولا يحصي شكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لله عز وجل على نعمة النصر يوم بدر إلا الله عز وجل .
لبيان قانون إحصاء الله لمصاديق كل من الجملة الخبرية والإنشائية ، فلا يعلم أفراد شكر المسلمين لله عز وجل السابقة والحالية واللاحقة في الأجيال القادمة إلا الله عز وجل فهو سبحانه وحده يعلم السابق والحاضر واللاحق.
و(عن أنس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه -أو قال ساقاه-فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : أفلا أكون عبدًا شكورًا)( ).
القسم الثاني : الجملة الإنشائية : وهي التي تتضمن الطلب ، والنهي ، والإستفهام ، والنداء ونحوه ، وليس لها حقيقة ثابتة في الخارج ، فاللفظ هو الذي يوجد النسبة ، فلا تحتمل الصدق أو الكذب .
ويمكن تقسيم صيغة الإنشاء إلى شعبتين :
الأولى : الإنشاء الطلبي كالأمر ، والنهي ، والإستفهام ، والنداء .
الثانية : الإنشاء غير الطلبي ولا يستلزم طلباً مثل : المدح ، والذم ، والقسمَ ، والرجاء ، والتعجب ، والقبول والإيجاب في العقود ونحوها .
وأيهما أكثر في القرآن الجملة الخبرية ومنها آيات الخلق ، القصص ، والأمثال ، والوقائع ، والمعاد .
أم الجملة الإنشائية ومنها الأمر ، والنهي ، والإنشاء غير الطبي .
لابد من إحصاء آيات القرآن آية آية ، وقد تتضمن الآية عدة جمل خبرية وإنشائية في أن واحد .
وقد تأتي كلمة خبرية تتضمن فعلاً وفاعلاً ومفعولاً به أول ، ومفعول به ثاني مثل [فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ] وهي أطول كلمة في القرآن وردت في الآية [وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ]( ).
والأرجح أن الجمل الخبرية في القرآن أكثر من الإنشائية قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الجملة الخبرية والإنشائية
يمكن أن أضيف قسيماً ثالثاً للجملة الخبرية والإنشائية في القرآن ، وهو الجملة الخبرية الإنشائية أي التي تتضمن معنى الخبر والإنشاء في آن واحد ، كما في أول آية من القرآن بعد البسملة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، فهي إخبار ودعاء.
ومن الجمل الخبرية ما تتضمن الإنشاء مثل ، قوله تعالى [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( )، فهو خبر بمعنى النهي ، أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام لكفاية الحجة والبرهان ، ولقانون الإسلام دين السلام ، وقانون الإسلام خير محض ، ونعمة دائمة ,
وقوله تعالى [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ]( )، للوعد والوعيد ، وقوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ]( )، ومعنى يتربصن : أي يمكثن ، أي يجب أن تمكث المرأة بعد طلاق زوجها ثلاث حيضات بلا نكاح جديد بخصوص المدخول بها من ذوات الحيض غير الحامل.
منافع إحصاء الجمل الخبرية والإنشائية
من إعجاز القرآن أمور :
الأول : قانون تفرع المسائل والقوانين عن كل علم من علومه .
الثاني : قانون تجدد استظهار العلوم والأبواب الكلامية والفقهية والأصولية واللغوية من القرآن .
الثالث : لو سألنا هل العلوم والقوانين والمسائل التي استخرجت من القرآن إلى الآن هي الأكثر أم التي ستستقرأ منه هي الأكثر ، المختار هو الثاني ، ومنها التوسعة في فروع ذات العلوم المستقرأة والمستنبطة من القرآن.
وقد قام العلماء باحصاء السور المكية والسور المدنية ، ولأن هذا الجزء من (معالم الإيمان) يتعلق بـ(علم الإحصاء القرآني غير متناهِ)( )، وقد تضمن هذا الجزء إحصاءً جديداً يتعلق بتقسيم الآيات إلى مكية ومدنية ، وكذا كلماتها وحروفها.
ونؤسس هنا لعلم جديد من وجوه :
الأول : إحصاء الجملة الخبرية والجمل الإنشائية في القرآن في كل سورة ، ومجموعها في سور القرآن .
الثاني : إستنباط المسائل والقوانين منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثالث : إحصاء الجمل الخبرية التي يراد منها الإنشاء مثل [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ]( ).
ومن خصائص هذا النوع من الجمل أنها تجمع بين الخبر والإنشاء ويتوجه فيها التكليف لأكثر من طرف ، وعلى حكام المسلمين وولاة الأمور وأهل الحل والعقد تعاهد أنظمة النكاح والطلاق.
إحصاء منافع الحروف المقطعة
من ذخائر القرآن الحروف المقطعة في مطلع تسع وعشرين سورة من القرآن وإكرامها بجعلها آية مستقلة مثل [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ]( ).
ومن الإعجاز في المقام تلقي المسلمين لها بالقبول ، وتلاوتها ، وقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الثواب العظيم في كل حرف منها.
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ، ونجاة من تبعه ، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
وتدعو الحروف المقطعة العلماء للوقوف عندها واستنباط المسائل من أسباب النزول والدلالة والأثر الإعجازي ، وتدخل الحروف المقطعة في علم الإحصاء وفق الذكاء الإصطناعي .
ولا يدرك هذا العلم كنه الحروف المقطعة إلى جانب موضوعيتها في الرسم القرآني ، وحفظ المسلمين للقرآن ، ومع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن فلا زالت الحروف المقطعة كالطلاسم السماوية.
ومن أسباب نزول الحروف المقطعة أن قريشاً كانوا يصفقون ويثيرون الضوضاء والصخب عند تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ، فنزلت الحروف المقطعة في مطالع السور فصاروا ينصتون بانبهار ، فتتوالى آيات القرآن.
ومن إعجاز القرآن قانون حمل الآية الناس على الإصغاء لها ، خاصة وأن قريشاً وعامة العرب آنذاك أهل بلاغة .
ومن خصائص القرآن أن المدار على عموم معنى الآية القرآنية ، وليس سبب النزول وحده وهو من أسرار قانون بقاء الآية القرآنية غضة طرية إلى يوم القيامة .
من منافع الحروف المقطعة
من منافع الحروف المقطعة وجوه :
الأول : حمل الناس على الإصغاء للقرآن .
الثاني : صرف أذى وضرر قريش عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : بيان عجز الناس عن فهم معاني ودلالات الحرف القرآني ، فلم تأت الحروف المقطعة مستقلة منفصلة بل تتعقبها آيات القرآن وما فيها من الأوامر والنواهي ، والخبر والقصة والمثال والوعد والوعيد .
الرابع : الحروف المقطعة أسماء استأثر الله عز وجل بعلمها ، وقيل هي الحروف التي تبني بها الملائكة القصور في الجنة .
الخامس : عجز الناس عن الإتيان بذات الحروف ودلالتها مع أنها في ميسورهم .
السادس : ترغيب الناس بالإصغاء لآيات القرآن ، والتدبر فيها.
ومن أصل (114) سورة بدأت تسع وعشرون سورة منها بالحروف المقطعة.
السابع : منع الناس من الكلام في القرآن وعلومه بالرأي والإجتهاد الذي لا يستند إلى أصل .
السور التي بدأت بالحروف المقطعة
من أسرار الحروف المقطعة أنها تبعث المسلمين وعامة الناس إلى التدبر بآيات القرآن وعددها (6236) آية مع كثرة كلماتها ، وعدم الوقوف عند الحروف المقطعة.
لتكون هذه الحروف في بدايات عدد من السور مقدمة لفهم معاني وأحكام الآيات واستقراء الذخائر منها .
ولا يحصي عدد الذين تلوا الحروف المقطعة مع التصديق بأنها من عند الله إلا الله سبحانه .
السور التي وردت في مطلعها الحروف المقطعة هي :
الأولى : سورة البقرة.
الثانية : سورة آل عمران.
الثالثة : سورة العنكبوت.
الرابعة : سورة الروم.
الخامسة : سورة لقمان.
السادسة : سورة السجدة.
السابعة : سورة غافر .
الثامنة : سورة فصلت .
التاسعة : سورة الزخرف .
العاشرة : سورة الدخان .
الحادية عشرة : سورة الجاثية .
الثانية عشرة : سورة الأحقاف .
الثالثة عشرة : سورة يونس .
الرابعة عشرة : سورة هود .
الخامسة عشرة : سورة يوسف .
السادسة عشرة : سورة إبراهيم .
السابعة عشرة : سورة الحجر .
الثامنة عشرة : سورة الشعراء .
التاسعة عشرة : سورة القصص .
العشرون : سورة الأعراف .
الواحدة والعشرون : سورة الرعد .
الثانية والعشرون : سورة مريم .
الثالثة والعشرون : سورة طه .
الرابعة والعشرون : سورة النمل .
الخامسة والعشرون : سورة يس .
السادسة والعشرون : سورة ص .
السابعة والعشرون : سورة الشورى .
الثامنة والعشرون : سورة ق .
التاسعة والعشرون : سورة القلم.
قانون موضوع الآية أعم من سبب النزول
موضوع الآية أعم من السبب الذي نزلت بخصوصه ، فآية الغلول تشمل تنزه الأنبياء عن الخيانة وعن الإستحواذ على المال العام ، خاصة وأن كثيراً من الأنبياء لم يقاتلوا ، وليس عندهم غنائم ، ومع هذا جاءت الآية مطلقة ، وذكرت النبي بصيغة التنكير [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ]( ) لإرادة العموم إلا أن يقال بأن تقدير الآية : وما كان لنبي قاتل وغنم أن يغل.
والأصل العموم لورود الآية في الثناء على الأنبياء ،وعصمتهم من الخيانة والتعدي على المال العام وأموال الزكوات خلسة لإفادة النكرة في مقام النفي العموم.
وتقدير الآية (ما كان لنبي قاتل أو لم يقاتل أن يغل).
و(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ :وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى يَأْخُذَ الْعَبَاءَةَ فَيَخُونَهَا وَإِنْ كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا تَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ)( ).
والمختار أن موضوع الغلول هو الخيانة في الغنائم والمال العام إذ ورد (عن معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فلما سرت أرسل في أثري فرددت.
فقال : أتدري لمَ بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) لهذا دعوتك ، فامضِ لذلك.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غنم مغنماً بعث مناديه يقول : ألا لا يغلن رجل مخيطاً فما فوقه ، ألا لا أعرفن رجلاً يغل بعيراً يأتي به يوم القيامة حامله على عنقه له رغاء ، ألا لا أعرفن رجلاً يغل فرساً يأتي به يوم القيامة حامله على عنقه له حمحمة( ).
ألا لا أعرفن رجلاً يغل شاة يأتي بها يوم القيامة حاملها على عنقه لها ثغاء يتتبع من ذلك ما شاء الله أن يتتبع . ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اجتنبوا الغلول فإنه عار ، وشنار ، ونار)( ).
و(عن عدي بن عميرة الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس من عمل منكم لنا في عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل وفي لفظ فإنه غلول يأتي به يوم القيامة)( ).
ومن معاني قوله تعالى [أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ]( )، أي لم يغل ، ويختلس من أموال المسلمين.
[كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ]( )، أي الذي غلّ واختلس وسرق.
و(عن عبادة بن الصامت :أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين وبرة من بعير ، ثم قال : أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة.
وعليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره الأنفال ، ويقول : ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم)( ).
وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا لا يغلن أحد فرسا فيأتي يوم القيامة به على ظهره له حمحمة فيقول: يا محمد يا محمد، فأقول: قد بلغت قد بلغت قد بلغت، فلا أملك لك من الله شيئا)( ).
وهل يشمل ميزان الحسنات والسيئات ورجحان احداهما الذي يسرق المال العام ، الجواب نعم ، ولكن بعد مواطن عديدة يحمل فيها ثقل ما استحوذ عليه من المال العام .
وإذا كان يحمل الشاة ولها ثغاء ، والفرس ولها حمحمة لترى الخلائق قبيح ما فعله في الدنيا ، فالذي يسرق الأموال الورقية هل لها صوت ينبه الخلائق إلى غله أم لا .
المختار هو الأول ، فلابد من جرس ونحوه يلفت أنظار أهل المحشر إليه وإلى مقدار وثقل ما أخذه غيلة من المال العام بلحاظ كمه وثقله ووطأته ، وهل يساعده أحد على هذا الحمل من الأبناء أو الأتباع ، الجواب لا ، ليتجلى مصداق واقعي لقوله تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]( ).
قانون تلقي أخبار السماء بالقبول
ورد لفظ (رسله) بالإضافة الى الله تعالى سبع عشرة مرة في القرآن وقد تكرر في ثلاث آيات من ثلاث سور متتاليات هي البقرة وآل عمران والنساء.
وتبين قراءة هذه الآيات تباين نظر الناس للرسالة وهم على مشارب شتى هي :
الأول : الإيمان بالرسل من غير تفريق وتمايز بينهم.
الثاني : الإقرار ببعض الرسل دون بعضهم الآخر.
الثالث : الإعتراف بالله عز وجل إلهاً مع نفي النبوة ، كما في البراهمة.
الرابع : الكفر بالله ورسله جحوداً وضلالة وعناداً.
الخامس : العداوة للرسل ويدل عليه قوله تعالى [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]( ).
السادس : الكفار الذين عصوا الرسل فيما جاءوا به من عند الله، قال تعالى [وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ]( ).
لقد فاز المؤمنون من أيام آدم وإلى يومنا هذا بالتصديق بما جاء به الأنبياء والرسل من عند الله عز وجل ، لذا ورد الثناء على المؤمنين في آيات كثيرة من القرآن مع البشارة لهم ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وقد ورد لفظ المؤمنات في القرآن ثماني عشرة مرة ، تتضمن الثناء عليهن ، والبشارة لهن ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وفيه شهادة لهن بحسن اختيار الإيمان ، ووجوب الرأفة والإحسان إليهن ، وفيه الأجر والثواب .
وورد لفظ المشركات فيه ثلاث مرات ، مرتين بالجمع بينهن وبين المنافقين والمنافقات والمشركين ، مع الوعد الكريم للمؤمنين والمؤمنات ، قال تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
ومرة بخصوص حرمة نكاحهن ، ولم يرد في القرآن لفظ الكافرات وهو من الإعجاز للتمييز بين المشركة والكتابية في باب النكاح وغيره.
والنسبة بين الكافرات والمشركات عموم وخصوص مطلق فالكافرات أعم ، لبيان قانون ورود المشركات في باب الوعيد بالعذاب يشمل الكافرات أيضاً ، وكذا فان ذم الكافرين بصيغة جمع المذكر وحدها شاهد على شمول الإناث الكافرات أيضاً .
الملائكة في الآخرة
لم تقف الصلة بين الملائكة والناس بالحياة الدنيا بل تشمل عالم الآخرة ، إذ يحضر الملائكة إما للشهادة أو للقيام بوظائف منها خدمة أهل الجنة ، أو عذاب أهل النار ، وأيضاً لا يحصي عددهم وكثرتهم ووظائفهم إلا الله عز وجل.
وهل ينطبق عليهم في الآخرة قوله تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، أم أن الآخرة تكون لهم دار جزاء من غير عمل كما هو حال الناس ، الجواب هو الأول ، خاصة وأن كثيراً من الملائكة يستعدون من أيام الحياة الدنيا لما يأمرهم الله عز وجل به في الآخرة .
ومن الآيات في المقام جمعهم في الآخرة بين أمور :
الأول : قانون مداومة الملائكة على التسبيح .
الثاني : قانون إتيان الملائكة لما يأمرهم الله عز وجل بأتم وجه ، قال تعالى [لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ]( ).
الثالث : قانون استدامة عمل الملائكة من غير ملل أو كلل.
ويكون حال الملائكة في الآخرة على وجوه :
الأول : إنقطاع عمل طائفة من الملائكة في الدنيا ، وليس لهم حضور في الآخرة .
الثاني : حضور طائفة من الملائكة في الآخرة للشهادة على الناس بعد ضبط أقوالهم وأفعالهم فيها .
وهل يكون هذا الضبط بالتدوين من قبل الملائكة أم بالحفظ بالذات .
المختار هو الأول ، وفي الخبر (عن أصبغ بن نباته قال: إن سلمان قال لي: اذهب بي إلى المقبرة، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: يا سلمان سيكلمك ميت إذا دنت وفاتك .
فلما ذهبت به إليها ونادى الموتى أجابه واحد منهم، فسأله سلمان عما أرى من الموت وما بعده فأجابه بقصص طويلة، وأهوال جليلة.
وردت عليه إلى أن قال : لما ودعني أهلى وأرادوا الانصراف من قبري أخذت في الندم.
فقلت : يا ليتني كنت من الراجعين.
فأجابني مجيب من جانب القبر [كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
فقلت له : من أنت ، قال : أنا منبه أنا ملك وكلني الله عزوجل بجميع خلقه لانبههم بعد مماتهم ليكتبوا أعمالهم على أنفسهم بين يدي الله عزوجل.
ثم إنه جذبني وأجلسني وقال لي : اكتب عملك ،.
فقلت : إني لا أحصيه .
فقال لي : أما سمعت قول ربك [أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ]( ).
ثم قال لي : أكتب وأنا أملي عليك.
فقلت : أين البياض ، فجذب جانبا من كفني ، فإذا هو ورق.
فقال : هذه صحيفتك ، فقلت : من أين القلم .
فقال : سبابتك ، قلت: من أين المداد.
قال : ريقك، ثم أملى علي ما فعلته في دار الدنيا ، فلم يبق من أعمالي صغيرة ولا كبيرة إلا أملاها كما قال تعالى [وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا]( ).
ثم إنه أخذ الكتاب وختمه بخاتم وطوقه في عنقي فخيل لي أن جبال الدنيا جميعا قد طو قوها في عنقي.
فقلت له : يا منبه ، ولم تفعل بي كذا.
قال : ألم تسمع قول ربك [وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
فهذا تخاطب به يوم القيامة ويؤتى بك وكتابك بين عينيك منشورا تشهد فيه على نفسك. ثم انصرف عني)( ).
وعن الحسن البصري (قال : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك ، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة)( ).
الثالث : قيام طائفة من الملائكة بوظائف في الدنيا وأخرى في الآخرة.
الرابع : خلق الله عز وجل لطائفة من الملائكة للآخرة ، وأخرى في الآخرة ، وفي التنزيل [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
الخامس : خزنة الجنة وهم ملائكة يتعاهدون أمور الجنة ، ويتولون العناية بها ، وينتظرون قدوم أهلها من المؤمنين ويعملون على تهيئة أسباب الضيافة والإكرام لهم من السكن والمأكل والمشرب والملبس ، وزمراً أي جماعات ممن ينتهي حسابه ، وترجح كفة ميزانه ، وهم متفاوتون في تقربهم إلى الجنة ، وقربها منهم بحسب اجتهادهم في التقوى والصلاح ، قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( ).
و(عن سهل بن سعد قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف الجنة حتى انتهى ، ثم قال : فيهما ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم قرأ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ( ).
وجاء ذكر خزنة الجنة في الآية أعلاه بصيغة الجمع [خَزَنَتُهَا] وورد في الخبر أن اسم الملك خازن الجنة (رضوان) في مقابل (مالك) خازن النار .
و(عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لكل شيء قلبا ، وإن قلب القرآن يس ومن قرأ يس وهو يريد بها الله عز وجل غفر الله له ، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة ، وأيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف من سورة يس عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ، ويستغفرون له ، ويشهدون غسله ، ويشيعون جنازته ، ويصلون عليه ، ويشهدون دفنه ، وأيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة فيشربها ، وهو على فراشه ، فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ، فيمكث في قبره وهو ريان ، ويبعث يوم القيامة وهو ريان ، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان)( ).
ولا يحصي عدد الملائكة ولا وظائفهم إلا الله عز وجل .
نزول رضوان
وفي قوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا]( )
قال القرطبي (ويروى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلى الله عليه و سلم وفي الخبر : إن رضوان لما نزل سلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : يا محمد رب العزة يقرئك السلام وهذا سفط فإذا سفط من نور يتلألأ يقول لك ربك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة.
فنظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى جبريل كالمستشير له فضرب جبريل بيده الأرض يشير أن تواضع.
فقال (يا رضوان لا حاجة لي فيها الفقر أحب إلي وأن أكون عبدا صابرا شكورا) فقال رضوان : أصبت الله لك)( ).
وعلى فرض ثبوت هذا الخبر فان من الآيات ما ينزل بها غير جبرئيل والذي يكون حاضراً عند هذا النزول ، ولم يذكر القرطبي رجال سند للخبر ، خاصة مع بعده عن أيام التنزيل ومحله .
إذ أنه ولد وعاش أيام شبابه في قرطبة من بلاد الأندلس ، وبعد سقوطها غادر إلى مصر نحو سنة 633 هجرية واستقر في المنيا من مصر وتوفى فيها في شهر شوال من السنة 671 هجرية .
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (إذا كان يوم القيامة نظر رضوان خازن الجنة إلى قوم لم يمروا به فيقول: من أنتم ؟ ومن أين دخلتم ، قال: يقولون: إياك عنا فإنا قوم عبدنا الله سرا فأدخلنا الله سرا)( ).
خزنة النار
مثلما جعل الله عز وجل للجنة خزنة فانه سبحانه جعل للنار خزانة ، وقد ورد ذكرهم في القرآن على شعب :
الأولى : ذكر عدد الملائكة القائمين على النار ، و(عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ( ).
الثانية : ذكر خزنة النار بصيغة الجمع ، قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ]( )، كما يقوم خزنة النار بالإحتجاج على الذين كفروا [كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ]( ).
الثالثة : تفضل الله عز وجل بذكر اسم الملك القائم على النار وهو (مالك) قال تعالى [وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ]( ).
الرابعة : الزبانية : الذين يدفعون المجرمين إلى النار دفعاً ، مشتق من الزبن وهو الدفع بشدة ، قال تعالى [سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ]( )، أي ملائكة غلاظ لعذاب الكافرين .
يقال (ناقةٌ زَبونٌ دَفوعٌ. وزُبُنَّتاها كحُزُقَّةٍ رِجْلاها ، وحَرْبٌ زَبونٌ: يَدْفَعُ بعضُها بعضاً كَثْرَةً. وزابَنَه: دافَعَه)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل خزانة الجنة والنار أيام الحياة الدنيا القائمين على كل منهما في الدنيا هم أنفسهم في الآخرة ، إذ أن المشهور والمختار أن الجنة والنار مخلوقتان الآن .
الثانية : هل يتضمن عمل الملائكة دخولهم النار من غير أن تمسهم ، أم أنهم يوجهون الأعمال من خارجها .
أما المسألة الأولى ، فالجواب نعم ، ومما يدل عليه ما ورد عن عبد الله بن عمرو (قال : خرج علينا رسول الله صلى عليه وسلم يوماً كالمودع فقال : أنا محمد النبي الأمي ، أنا محمد النبي الأمي ، أنا محمد النبي الأمي ، ولا نبي بعدي.
أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، وعلمت خزنة النار وحملة العرش ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذهب بي فعليكم كتاب الله ، أحلوا حلاله وحرِّموا حرامه)( ).
وأما الثانية فالمختار أن الملائكة لا تمسهم ولا تؤذيهم النار وإن دخلوا فيها لبعض الأعمال التي يؤمرون بها ، خاصة وأن وهجها وحرها يحس بشدته من مكان بعيد بينما يخاطب أهلها مالك (يا مالك).
وفي سلامتهم من حر النار مثال في الحياة الدنيا إذ ورد قوله تعالى [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، إذ تخلفت النارت عن الإحراق خرقاً لقانون العلة والمعلول في واقعة مخصوصة بأمر من عند الله عز وجل ولتكون سلامة الملائكة من حر النار بين أهلها مما يزيدهم عذاباً وحسرة .
فتنة القبر
حالما يدخل الإنسان قبره يأتيه الملكان منكر ونكير يختبرانه ويسألانه عن دينه ، وعن عمله في الدنيا ، وهذا السؤال هو فتنة القبر .
والنسبة بين فتنة القبر وعذاب القبر عموم وخصوص مطلق ، فالفتنة أعم ، ويأتي بعدها عذاب القبر لمن يستحقه إلا إذا كان قد اجتهد بالإستغفار ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
و(عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: كيف أنت إذا رأيت منكراً ونكيراً.
قال : وما منكر ونكير .
قال : فتّانا القبر ، أصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، يطآن في أشعارهما ويحفران بأنيابهما معهما عصاً من حديد ، لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها]( ).
ومن إعجاز القرآن ذكر المتقين على نحو الخصوص ، قال تعالى [وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ]( )، أي تقرب منهم فليس ثمة مسافة ليسهل ويعجل بدخولهم لها .
وعن الإمام علي عليه السلام قال (يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان ، فعمدوا إلى احداهما فشربوا منها ، فذهب ما في بطونهم من أذى أو قذى وبأس ، ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها ، فجرت عليهم نضرة النعيم.
فلن تغير أبشارهم بعدها أبداً ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا بالدهان ، ثم انتهوا إلى خزنة الجنة فقالوا [سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( ).
ثم تلقاهم الْوِلْدَان يطوفون بهم كما يطيف أهل الدنيا بالحميم ، فيقولون : ابشر بما أعد الله لك من الكرامة .
ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين ، فيقول : قد جاء فلان باسمه الذي يدعى به في الدنيا.
فتقول : أنت رأيته .
فيقول : أنا رأيته ، فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، فإذا انتهى إلى منزله نظر شيئاً من أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه أخضر ، وأصفر ، وأحمر ، من كل لون ، ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق . ولولا أن الله تعالى قدر أنه لا ألم لذهب ببصره)( ).
الجمع بين العطف والإستئناف
قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، قد تقدم الكلام يوم أمس في الواو (ولقد) إذ قالوا انها للإستئناف.
والمختار علم مستحدث وهو أنها واو عطف واستئناف ، عطف بلحاظ نظم الآيات واتحاد الخطاب في آية البحث والآية السابقة [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( )، وهي واو استئنافية لإستقلال موضوع الآية .
لفتح علم جديد في إعراب ودلالة اللفظ القرآني بخصوص كل حرف عطف هل يتضمن الإستئناف وكذا العكس أي هل يتضمن حرف الإستئناف العطف مثل الواو والفاء ، وثم وغيرها .
فاذا ثبت قولي هذا وهو مستقرأ من تعدد معاني اللفظ القرآني بأن حرف العطف قد يأتي في القرآن للعطف والإستئناف معاً ، فلابد من إعادة إعراب اللفظ القرآني ، واستقراء مسائل وقوانين كلامية وبلاغية ونحوه مستحدثة من دلالاته .
وعن الإمام علي عليه السلام في وصيته لابن عباس (لا تخاصمهم بالقرآن فان القرآن حمال ذو وجوه)( ).
ويدرس علماء النحو والتفسير معاً من جديد كل حرف عطف في القرآن بالدليل والقرينة هل هو :
الأول : حرف عطف .
الثاني : حرف استئناف .
الثالث : حرف عطف واستئناف بالدليل .
أما اللام في لقد فقد قالوا انها حرف واقع في جواب قسم مقدر ، ولم يثبت هذا القسم ، ولو دار الأمر بين ثبوت هذا القسم وعدمه ، فالأصل عدمه .
وقد ورد في القرآن لفظ [لَقَدْ] أربعاً وخمسين مرة ، ولفظ [وَلَقَدْ] مائة وتسعاً وعشرين مرة ، أي بعددها يكون قسم محذوف ولا أصل له خاصة وأنه من شرائط لام القسم المحذوف وقوع نوع التوكيد بعدها سواء كانت ثقيلة أو حقيقة.
واستدل عليه بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
والتقدير : والله لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا)
كتب الله والله لاغلبن أنا ورسلي.
ولكن معنى كتب أي فرض فلا تصل النوبة للقسم .
وتقدير القسم المحذوف : والله لقد نصركم الله والله لأغلبن أنا ورسلي.
والمختار حتى هذه الآية ليس فيها قسم محذوف إنما هي لام التوكيد ، وكذا في موارد عديدة تأتي فيها اللام مثل [كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي]( )، وأن اللام جواف قسم محذوف .
ليتجلى قانون علوم القرآن أعم من القواعد العلمية الوضعية .
ونقترح إعادة النظر بالموروث النحوي وفق قراءة قرآنية أوسع لأن النسبة بين معاني اللفظ القرآن وإعرابه المتحد عموم وخصوص مطلق ، لتعدد معاني اللفظ القرآني وموقعه في الجملة .
من معاني حرف الباء
قال تعالى [إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ]( ). الآية توثيق وتبكيت لظن الدهرية وطائفة من الزنادقة بقولهم أرحام تدفع وأرض تبلع .
وموضوعنا هنا حرف الباء في (بمبعوثين) ، إذ يذكر في الصناعة النحوية أنه حرف زائد ، وهو قول مخالف لفلسفة وقدسية التنزيل وقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن في قراءة كل حرف عشر حسنات .
إذ ورد (عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى.
فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه ، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد.
فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
ولحرف الباء أربعة عشر معنى ، منها الإلصاق وحصر سيبويه معناها به ، وليس بتام ، لقانون تعدد معنى الحرف القرآني ، وهو الذي تدل عليه اللغة وذخائر التفسير .
ومنها المصاحبة ، والسببية [فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ]( )، والتبعيض [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ]( )، أي ببعض الرأس ، كما عن الإمام الباقر عليه السلام.
والإستعانة ومنه (بسم الله) ، والظرفية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، ومنها باء التوكيد التي سميت زائدة لأن حذفها لا يخل بالمعنى.
وأعراب الآية أعلاه من سورة الأنعام :
(وما) الواو عطف ، و(ما) نافية تعمل عمل ليس .
نحن : ضمير منفصل مبني في محل رفع اسم (ما).
الباء قيل زائدة ولكنها تفيد التوكيد.
والمختار عدم وصف الباء في القرآن بالزائدة إنما يقال أنها للتوكيد ، ففي قراءتها عشر حسنات .
مبعوثين : خبر (ما) مجرور لفظاً منصوب محلاً وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم ، لذا لابد أن يشترك علماء التفسير في إعراب القرآن.
ومن إعجاز القرآن عجزنا عن تعدد معاني حروفه لتعددها من جهات :
الأول : المعنى اللغوي ، قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثاني : المعنى النحوي ، فمثلاً إذا كان لحرف الباء أربعة عشر معنى ، فننظر أي من هذه المعاني تناسب الحرف أربعة أو خمسة أو أكثر منها ولا نقف عند معنى واحد.
وتصل معاني حرف اللام إلى خمسة عشر معنى ، وقد تقدم في تفسير (آيات الصيام).
الثالث : المعنى البلاغي .
الرابع : المعنى الأصولي .
انتفاء موضوع الجزية
قال تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
ولم يرد لفظ [الْجِزْيَةَ] في القرآن إلا في هذه الآية ، وفيها إكرام لأهل الكتاب وبقاؤهم على ديانتهم ، لأن المسلمين يخرجون في السرايا يقاتلون ويدافعون عن أهل الكتاب وعقيدتهم وأموالهم ، وأهل الكتاب يواصلون العمل بالتجارة والصناعة ، ولا يخرجون للثغور والمرابطة كما في معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ومعركة الخندق في شوال من السنة الخامسة.
فلو تمكن المشركون من اقتحام المدينة المنورة فانهم لا يفرقون بين مال مسلم أو يهودي في النهب والتخريب وفي سبي النساء والصبيان وقد جاءوا للثأر مما لحقهم من الخسارة والخزي في معركة بدر خصوصاً وأن يهود المدينة كان لهم عقد صلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمى ميثاق المدينة ، وكانت عندهم أسواق خاصة بهم ، منها أسواق لأدوات الزراعة وأسواق للذهب .
فالجزية ضريبة قليلة مقابل حمايتهم والدفاع عنهم ، ولا يجبرون على دخول الإسلام لذا سموا بأهل الذمة أي في ذمة الإسلام والمسلمين .
ومن كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن (ومن كره الإسلام من يهودي أو نصراني فانه لا يحول عن دينه وعليه الجزية).
أي عليه الجزية للدفاع عنه وضبط الأمن وتقديم الخدمات.
و(عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجزية عن يد قال : جزية الأرض والرقبة ، جزية الأرض والرقبة)( ).
أما لفظ [صَاغِرُونَ] فمتعلق بأول الآية وهو الحرابة وقتال المسلمين وليس المواطنين في هذا الزمان المتساوين في الحقوق والواجبات .
و(عن الزهري قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس أهل هجر ، ومن يهود اليمن ونصاراهم من كل حالم دينار)( ).
ولا تؤخذ الجزية من النساء ، والصبيان ، والرهبان ، ورجال الدين ، وذوي العاهات كالأعمى والأعرج ، والفقراء ، والشيخ .
وقد انتفى حكم الجزية في هذا الزمان لتبدل الموضوع بأن صارت أحكام الدول على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات وفق الدستور والقوانين والأنظمة ، وإذا انتفى الموضوع انتفى الحكم.
فلا أقول أن حكم الجزية تعطل ، إنما موضوعه منتف في هذه الأزمنة ، فلا جزية في البين ، وأضرب لكم مثلاً وهو أحكام عتق رقبة في القرآن.
وإذ لم يرد لفظ [الْجِزْيَةَ] إلا مرة واحدة في القرآن ، فقد ورد لفظ [تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] خمس مرات في القرآن منها ثلاثة في آية واحدة [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
وليس من تحرير وعتق رقبة في هذا الزمان لانتفاء موضوعه ، كما ورد الثواب العظيم في عتق رقبة بقوله تعالى [وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ]( )، وفك رقبة : أي عتقها . ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انتفاء الرق في الإسلام ، وانتفاء حكم الجزية . وقد وقعت الحرب المؤلمة بين العراق وإيران لثمان سنوات من سنة 1980م وكان في جيش إيران نصارى وسقط عدد منهم قتلى ، وكان في جيش العراق نصارى أيضاً ، ووقع منهم قتلى . كما جاءت جيوش الحلفاء للعراق سنة 2003 وفيها ضباط وجنود مسلمون قاتلوا تبعاً للأنظمة والقوانين في هذه البلدان. معجزة بر الوالدين قرآناً وسنة بر الوالدين اصطلاح عام يتضمن الإحسان إلى الأب والأم ، والرفق بهما ، وطاعتهما في مرضاة الله ، وإعانتهما مع الحاجة إلى هذه الإعانة بالمال والوقت والجهد ، وإظهار الود واللطف بهما ، وإكرامهما عند حضورهما أو مع غيبتهما ، أو غيبة أحدهما . ومن الإعجاز في المقام جعل الله عز وجل الإحسان للوالدين مقترناً بطاعته ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا]( ). وورد لفظ (إحسانا) أعلاه بصيغة النكرة في سياق الإثبات والتي تفيد الإطلاق ، وقيل أنها لا تفيد الإطلاق إلا مع القرينة الدالة على العموم ، وهي ظاهرة في الآيات منها قوله تعالى [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] ومنها [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ). وبر الوالدين جاءت به كل الشرائع السماوية . و(عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كان فيما أعطى الله موسى في الألواح الأول في أول ما كتب عشرة أبواب : يا موسى لا تشرك بي شيئاً فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار ، واشكر لي ولوالديك أقك المتالف ، وانسأ في عمرك ، وأحييك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها. ولا تقتل النفس التي حرمت إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء باقطارها وتبوء بسخطي والنار ، ولا تحلف باسمي كذباً ولا آثماً فإني لا أطهر ولا أزكي من لم ينزهني ويعظم أسمائي. ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضيلي ، ولا تنفس عليهم نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ، ومن لم يكن كذلك فلست منه وليس مني. ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك وتعقد عليه قلبك ، فإني واقف أهل الشهادات على شهادتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤلاً حثيثاً. ولا تزن ، ولا تسرق ، ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي ، وتغلق عنك أبواب السماء ، وأحبب للناس ما تحب لنفسك ، ولا تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان لخالصاً لوجهي ، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله جعل السبت لموسى عيداً ، واختار لنا الجمعة فجعلها لنا عيداً)( ). تجلى بر الوالدين في الإسلام بقوانين دقيقة مع بيان عظيم شأنه في الواقع اليومي ، والأجر العظيم لمن يبر ويحسن إلى والديه . وتضمنت السنة النبوية البيان والتفصيل في كيفية بر الوالدين . وعن (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِىِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ أَوِ الْجِهَادِ أَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ. قَالَ : فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌ . قَالَ : نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ : فَتَبْتَغِى الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ . قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا)( ). والنسبة بين مكارم الأخلاق وبر الوالدين هي العموم والخصوص المطلق ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بعثت لاتم مكارم الأخلاق)( ). ولا يستطيع الناس الإحاطة علماً بمنافع بر الوالدين في الدنيا والآخرة ، ليكون من باب الأولوية أمور : الأول : عجز الناس عن إحصاء منافع بر الوالدين في الدنيا ومنها سبل الهداية والصلاح وحسن السمت . الثاني : عجز الناس عن إحصاء منافع بر الوالدين في الآخرة . الثالث : تخلف الخلائق عن إحصاء ما صرفه القرآن والسنة من عقوق الوالدين . لقد قرن الله عز وجل بر الوالدين بعبادته لبيان أنه طريق سالكة للعبادة ، وسبب ليرثها اللاحق من السابق ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( ). وحسن معاملة الوالدين واللطف بهما من الآداب والخلق الحميد ، ليكون من ثمرات الشريعة الإسلامية إكرام المسلم في كبره وهرمه على نحو يومي متجدد ومن داخل أسرته ، وضبط الأنظمة الإجتماعية في العالم ببضع كلمات من التنزيل وهو من إعجاز القرآن . مكارم الأخلاق من العصمة اتصاف النبي بالخصال الاخلاقية والتربوية الحميدة، فمن لطف الله تعالى بالأنبياء والناس ان يصلح النبي منذ صباه في سيرته وسمته واخلاقه كي لا يتردد الناس في اتباعه أو يطرحون الشكوك بالاستصحاب الباطل الذي نقض بالنبوة والدعوة الى الله عز وجل ، ومن هذه الخصال ملكة الصبر والتقوى والإستقامة. فمع التوبة والبعثة النبوية لا اعتبار لما صدر من الإنسان من المعصية والذنب والتعدي. ولكن الله يخفف عن النبي والناس جميعاًً بعصمة النبي وتنزيهه من صباه، فلا يرى الناس في سيرته الا الخير والبر والصلاح. ولقد سمى الناس النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة (الصادق الامين) وهذا الوصف من مقدمات النبوة ومن فضل الله تعالى في إصلاح النبي لمراتب الرسالة الرفيعة، فهذا اللقب انتزعه بالتوفيق لحسن خلقه وسيرته وسط مجتمعات الغزو والقتل وعبادة الاصنام وشيوع المنكرات والفواحش. ومن الدلائل الباهرة انه لم يخرج عن هذا الوصف أيام النبوة لا في قوله ولا في فعله فيعلم الناس تلك الحالة جرياً وانطباقاً بصدق دعواه النبوة، بل ان النبوة نفسها تصدق نفسها وتثبت صدقه . فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يثبت بنفسه النبوة وهي تثبت وتؤكد صدقه بالآيات القاهرة والمعجزات الظاهرة والحجج الدامغة ومنها آيات القرآن. وفي الحديث المشهور ، والضعيف سنداً قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي)( ). ابتداء الدعوة إلى الإسلام لقد ابتدأت رسالة الإسلام في مكة ومن جوار البيت الحرام ليكون قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العالمية. وكان النبي يؤدي الصلاة في المسجد الحرام ويتلو آيات القرآن ، وكان النبي إذا رأى غريباً يأتي للبيت الحرام لأداء العمرة ونحوه جلس بجانبه وأخبره عن رسالته وتلا عليه القرآن ، وأمره أن يستر أمره خشية أذى قريش ليكون رسولاً إلى بلدته وقريته . ومن الإعجاز في المقام مسائل : الأولى : قصر الآيات المكية مثل [وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( )، في الوقت الذي فيه عدد كلمات آية الدَين 129 كلمة من 551 حرفاً.
الثانية : إتصاف العرب بسرعة الحفظ ليبدلهم الله بالأشعار في سوق عكاظ بآيات القرآن ، وما فيها من الإعجاز من الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، السالم عن المعارضة .
الثالثة : اجتماع الإنذار مع القصر في الآيات المكية ، كما في قوله تعالى [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ]( ).
بحث كلامي
مع قلة كلمات الآية [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( )، فانها تجعل المسلم حين يتلوها أو يسمعها في روضة ناضرة ، وتغمر نفسه بهجة وغبطة لما فيها من وجوه:
الأول : إبتداء الآية بحرف الإضراب (بل) وما فيه من القطع والتوكيد وإبطال الضد.
الثاني : الإخبار السماوي بأن الله عز وجل هو ولي المسلمين والمسلمات ، ومن الآيات أن هذا الإخبار يطل على الناس كل يوم يدعوهم للإيمان ، وينهى عن محاربة الإسلام ، والتي لا تجلب إلا الخيبة والخسران ، لذا تعقبتها آية القاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
بلحاظ أنه من مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين، ليكون من الإعجاز في نظم آيات القرآن أنه إذا جاءت بشارة أو إنذار في آية تأتي الآية التي بعدها بوجوه وضروب من معاني البشارة والإنذار.
الثالث : بشارة نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معارك الدفاع ضد المشركين ، وتجلت هذه المعجزة في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الرابع : من الإعجاز في هذه الآيات أن الآية السابقة تبطل سعي الذين كفروا وتجعل المسلمين في مأمن من جهات:
الأولى : قانون العصمة من طاعة الذين كفروا.
الثانية : قانون سلامة المسلمين من الإرتداد ومقدماته.
الثالثة : قانون استمرار إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية، وتوقيهم من الإنقلاب والإرتداد .
الرابعة : قانون نجاة المسلمين من الخسران سواء في الدنيا أو الآخرة، لقوله تعالى[فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى]( ).
واختتمت الآية بقانون يتغشى الأكوان والعوالم المختلفة في الأزمنة المقدرة والمعدومة , وهو أن الله عز وجل (خير الناصرين) لأن أمره بالكاف والنون , وهو سبحانه الذي يعلم عواقب الأمور، قال تعالى[وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
الخبر المستفيض
الخبر المستفيض في علم دراية الحديث على وجوه :
الأول : الحديث الذي رواه أكثر من واحد ولم يبلغ حد التواتر.
الثاني : هو الحديث المشهور .
الثالث : الحديث المستفيض هو المتواتر .
الرابع : وهو المستفيض إن زادت رواته على اثنين أو ثلاثة ، ويقال له المشهور أيضاً .
والمختار أنه الحديث المشهور الذي رواه أكثر من واحد ولم يبلغ حد التواتر ، إذ يوحي ظاهر الاسم (المستفيض) بالشهرة ، وقد يستعمل في الخبر المشهور مطلقاً ، فيقال مثلاً (النبوي المستفيض).
ويمكن إضافة إصطلاح جديد إلى علم الحديث وهو خبر الواحد المستفيض سواء كان صحيحاً أو حسناً أو موثقاً ، أي أنه مع كونه خبراً لواحد ولكنه مشهور ومستفيض ، وفيه نوع رجحان له وقبوله.
ويقسم المستفيض إلى قسمين :
الأول : المستفيض اللفظي .
الثاني : المستفيض المعنوي .
قبول النبي (ص) خبر الواحد
لقد جعل الله عز وجل السنة النبوية منهاجاً يومياً للمسلمين ، فهي شعبة من الوحي ، ولطف من عند الله عز وجل ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وورد لفظ [فَتَبَيَّنُوا] ثلاث مرات في القرآن فالى جانب قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) من سورة الحجرات ورد هذا اللفظ مرتين في آية واحدة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
وكل من الآيتين ابتدأت بنداء الإيمان ، ولم يرد في القرآن لفظ (تبينوا) من غير الفاء ، التي تفيد التعقيب والفورية ، ومن دلالات الجمع بين الآيتين عدم انحصار التبين بخصوص خبر الفاسق.
ومن معاني الذكر الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ]( ).
ومن المقاصد السامية للآية بعث المسلمين لقول الحق والصدق ولو على أنفسهم.
وعن ابن عباس (قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، كانت البقرة أول سورة نزلت ، ثم أردفها سورة النساء قال : فكان الرجل يكون عنده الشهادة قبل ابنه أو عمه أو ذوي رحمه ، فيلوي بها لسانه أو يكتمها ، مما يرى من عسرته حتى يوسر فيقضي ، فنزلت [كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ]( ) يعني إن يكن غنياً أو فقيراً)( ).
الوثوق بالخبر
مع أهمية خبر الواحد وأنه من أهم مسائل أصول الفقه فقد جعلته الشريعة أمراً المعصوم سهلاً ، ومع رفع الحرج ، ومنع الخلاف والخصومة فيه ، إذ أشارت إلى تقديم الوثاقة على الوثوق.
فالأولوية لعدالة الراوي ولوثاقة الخبر ، وموافقة الرواية للقرآن أو السنة.
وفيه مسائل :
الأولى : شهادة أئمة أهل البيت والصحابة على قانون سلامة القرآن من التحريف.
الثانية : القرآن الذي بأيدي المسلمين هو الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقانون الأصل هو القرآن.
الثالثة : إتحاد نسخ المصاحف التي عند المسلمين وحجيتها .
الرابعة : قانون الأخذ بالرواية الموافقة للقرآن بغض النظر عن مذهب الراوي .
الخامسة : قانون الترغيب بالرجوع إلى القرآن والصدور عنه .
السادسة : توثيق وتدوين السنة النبوية بحيث تعرض عليها الرواية ليكون هذا العرض في طول عرض السنة على القرآن.
السابعة : منع الخلاف بخصوص وثاقة الراوي ، والجرح الذي قد يكون من الغيبة أو الإفتراء ، لأن الأولوية لموافقة الرواية للقرآن والسنة .
الثامنة : الإكتفاء بطرح الرواية المعارضة للقرآن والسنة .
التاسعة : إنشاء قانون وقاعدة كلية لضبط وتنقيح الروايات .
خبر الواحد في القرآن
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ) .
هذه الآية هي السادسة من سورة الحجرات وهي مدنية (وهي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون حرفاً ، وثلاثمائة وثلاثة وأربعون كلمة ، وثماني عشرة آية)( ).
(عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} : من قرأ الحُجرات أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومَنْ عَصاه) ( ).
والفاسق هو الخارج عن الطاعة إلى فعل المعصية , والنبأ الخبر ذو الشأن والأهمية , قال تعالى [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ] ( ).
(روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : ما سلت السيوف ولا اقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف ولا جهر بأذان ولا أنزل الله ” يا أيها الذين آمنوا ” حتى أسلم أبناء القيلة( ): الاوس و الخزرج) ( ).
وورد النداء التشريفي [يا أيها الذين آمنوا] تسعاَ وثمانين مرة في القرآن.
وعن ابن عباس : ما نزل يا أيها الذين آمنوا إلا في المدينة , وتسمية السورة الحجرات لقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( ).
والمراد من الحجرات جمع حجرة , وهي حجرات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت لكل زوجة من أزواجه حجرة .
ونزل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( ) أي من خارجها , من خلفها , أو من أمامها .
ونزلت الآية في وفد بني تميم وكانوا سبعين رجلاَ وفيهم عُيَيْنة بن حصِن الفزاري والأقرع بن حابس إذ قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقت الظهيرة , وهو راقد فنادوا من وراء حجرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
أخرج إلينا يا محمد مدحنا زين , وذمنا شين ، فاستيقظ وخرج إليهم ولم يلمهم على النداء , ومناداته باسمه ولكنه قال لهم :
ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين.
أي يفوز الذي يمدحه الله ويخسر الذي يذمه الله وفيه تحذير وإنذار.
والإستدلال بمفهوم الآية السادسة أعلاه من سورة الحجرات [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( )على قبول خبر الواحد العدل الثقة .
ومن معاني الآية أنها حرب على الأخبار الكاذبة , ومنع من الأضرار المترشحة عن الإشاعات التي لا أصل لها , للزوم التثبت من الأخبار لأن الفاسق الذي يرتكب المعاصي , لا يتورع عن الكذب الذي هو فرع الفسوق.
فالنسبة بين الفسوق والكذب هو العموم والخصوص المطلق , وجاءت الآية بذكر الفاسق مطلقاَ من غير تقييد بالتجاهر بالفسق لزيادة الحيطة والحذر وإجتناب الندم على التفريط والتصديق بخلاف الحقيقة , وحصول الضرر أو التعدي بسببه .
إذ ورد لفظ (فاسق) بصيغة النكرة في سياق النفي الذي يفيد العموم , وجاءت الآية بصيغة(ان) في (إن جاءكم) لإحتمال القلة والندرة , ولم تأت بلفظ (إذا) .
لذا كانت حادثة الوليد بن عقبة وكذبه مع أنه مبعوث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرداً نادراً , إذ كان مجتمع المدينة من المهاجرين والأنصار مجتمع صدق لا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وقد يصدر الخبر الكاذب من المنافقين , قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ]( ).
إذ كان المنافقون ينشرون الأخبار الكاذبة عن كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسرايا أصحابه , بوجوه منها :
الأول : يقولون قُتل فلان .
الثاني : جرح فلان .
الثالث : أسر جماعة .
الرابع : أن العدو ليهجم على المدينة.
الخامس : نقل تهديد المشركين للمسلمين .
السادس : المبالغة والتهويل بقدرات وقوة جيش المشركين.
وفي الثناء على المسلمين ، وحسن توكلهم على الله ، وعدم إلتفاتهم إلى هذا اللبث والإشاعات ، نزل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
ولم يترك الله المنافقين وشأنهم بل ابتلاهم بالخوف من التنزيل وما فيه من فضحهم وإبطال أذاهم ، قال تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ]( )، ولا يحصي ما صرفه الله من أذى وأضرار المنافقين والذين كفروا عن الإسلام والنبوة والتنزيل إلا الله عز وجل لوجوب شكر المسلمين لله عز وجل بالقول والفعل ، ومنه التحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل .
فتنتشر الإشاعات الكاذبة , وما يسمى بالطابور الخامس.
(وذلك أنّ ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه وآله يوقعون في الناس أنّهم قُتلوا وهزموا ، وكانوا يقولون : قد أتاكم العدوّ ونحوها.
كما يشمل موضوع الآية حض المرابطين والمجاهدين بأخذ الحيطة والحذر من الأخبار الكاذبة التي يأتي بها المنافق ونحوه .
وقال الكلبي : كانوا يحبّون أنْ يفشوا الأخبار) ( )، وخبث المنافقين أشد .
سبب نزول آية [إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ]
عن ابن عباس وقتادة وابن أبي يعلي : نزلت الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدقات بني المصطلق( )، خرجوا يتلقونه فرحاً به وإكراماً له، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنهم منعوا صدقاتهم.
لقد أرسله النبي ليأتي بزكاة بني المصطلق بعد أن اتفق على أجل وموعد مع الحارث بن ضرار الخزاعي لجمعها ، ولكن الوليد عندما قرب من ديارهم فرِق وخاف ورجع إلى المدينة.
وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقد منعوني الزكاة ، وأرادوا قتلي ، فنزل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
والحارث بن ضرار الخزاعي هو والد جويرية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورد عنه أنه (قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإِسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها .
قلت يا رسول الله : ارجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإِسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إليَّ يا رسول الله رسولاً يبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الابان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه إحتبس الرسول فلم يأتِ فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله فدعا بسروات قومه.
فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة.
فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث.
فقالوا : هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك ، قال : ولم .
قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله .
قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته ولا أتاني ، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله ، فنزل [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( ) إلى قوله حَكِيمٌ( ).
وهل من موضوعية لآيات الدفاع في دخول أهل مكة الإسلام ، الجواب نعم ، فلكل آية من آيات : الصبر ، الجهاد ، القتال ، الدفاع ، البشارة ، الإنذار ، موضوعية في هداية الناس للإسلام ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، إذ تتعاضد آيات القرآن في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات.
قانون الآية ضد للإرهاب
الآية القرآنية وسيلة سماوية لإستئصال الغزو والإقتتال والفواحش ، وتذكر آية [سَتُغْلَبُونَ] في آيات معركة بدر لما فيها من الشواهد على هزيمة المشركين ، كما أنها من آيات معركة أحد لدلالتها على إنذار المشركين من العزم والتهيئ لمعركة أحد .
إذ جاءت بعدها مباشرة الآية [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( ).
وذكرت الآية الذين كفروا على نحو الإطلاق ، وتقدير الآية على وجوه:
الأول : قل للذين كفروا بالله رباً وإلهاً ، لبيان حرمة الشرك بالله ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
الثاني : قل للذين كفروا برسالتك .
الثالث : قل للذين كفروا بالتنزيل ، ويستهزؤون بآيات القرآن .
الرابع : قل للذين كفروا بنعمة الله ومنها جوار البيت الحرام .
الخامس : الذين كفروا بالمعجزات التي تجري على يديك .
قانون الإنذار الذاتي حرب على الإرهاب
من خصائص لغة الإنذار في القرآن زجرها عن الظلم والتعدي ، والنسبة بين الظلم والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالظلم أعم ، ونزل القرآن بالإنذار من الكفر والجحود والظلم ومن الكفر بالنعم ، ومنها نعمة الأمن والتعايش الإجتماعي ، ولبيان أن الهزيمة تلحق بالإرهاب والعنف.
لقد رفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألوية السلام والمودة بين الناس برداء الهدى والإيمان.
ومن الإعجاز قانون دعوة آيات القرآن للسلام والمودة ونبذ الحروب والقتال بين الناس ، لقانون أحكام التنزيل دستور شامل للناس وقانون القرآن سلاح للأجيال.
ليكون من دلالات سلامته من التحريف والتغيير والتبديل لقانون حاجة الناس للصلاح ورأفة الله عز وجل ولطفه بهم بقانون قرب الصلاح من الناس بالتنزيل والإتعاظ والهداية والتفكر بالآيات الكونية والإجتماعية ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله تعالى بعثة الأنبياء لإستئصال الكفر الذي هو أصل المعاصي وتفضل الله تعالى بانزال الكتب السماوية ، والمدد الملكوتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للغلبة على المشركين.
تفسيرنا والذكاء الإصطناعي
الذكاء الإصطناعي ثورة علمية خارقة واسمه بالأنكليزية (Artificial intelligence) وهو خصائص وخرازميات تتصف به البرامج الحاسوبية بما يجعلها تقترب من القدرات الذهنية للبشر ، وتستحضر التصور الذهني ، وانماط العمل .
ويتصف الذكاء الإصطناعي بالتعلم والإستنتاج وردود الفعل بواسطة مليارات الكلمات التي يغذى بها ، وهو في تطور سريع ومبهر.
وهل يستلزم هذا الذكاء اللجم والتقييد بما يفيد البشرية ، ويمنع من الضرر العام ، الجواب نعم .
والذكاء الصناعي من مصاديق أول سورة نزلت من القرآن [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )
فلا تعلم الأجيال السابقة ما يصل إليه العلم بآلات الذكاء الإصطناعي ، والوظائف التي أعدت له ، لتتضمن الآيات أعلاه دعوة المسلمين والناس للتحقيق واستقراء العلوم ، والإكتشافات في مناهج الحياة ووجوب تسخير هذه العلوم في طاعة الله ، وفي إجتناب نواهيه.
ومع الإرتقاء في الذكاء الإصطناعي فانه لا يرقى عن صفة الآلة التي تتخلف عن ذوات الأرواح ، قال تعالى [قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]( )، لبيان أن الذكاء الإصطناعي من العلم القليل ، وينفرد الله عز وجل بكمال العلم وإحصاء كل شئ.
ومن خصائص النبوة أنها حاجة للناس ، وقد جاءت بمكارم الأخلاق ، ولا تستمر الحياة الدنيا إلا بالأخلاق الحميدة ، وبمنع إشاعة الفجور ، والظلم والفسوق.
ولابد من استحضار هذه الضابطة في الصناعات وعلم الذكاء الإصطناعي ولابد من دخول السباق في الإنتفاع من الذكاء الإصطناعي .
ومن هيئات أفراد الذكاء الإصطناعي ما يكون على هيئة البشر فهل هو محرم للنهي عن تجسيد ذوات الإرواح .
وقد ورد (عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون)( ).
وهذا الخبر مقيد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم)( ).
إذ المراد التماثيل لذوات الأرواح .
والمختار عدم شمول الحكم هيئات الذكاء الإصطناعي ، إذ كان فيها ما يدل على أنها آلة مصنوعة كما لو كانت فيها علامة فارقة عن البشر وهيئتهم.
ولابد من الفصل بين الصناعة والإقتناء ، إذ اختص الذم النبوي بصناعة ما يشبه ذوات الأرواح وليس إقتناءها .
خبر الواحد في العقائد
يقسم الحديث إلى قسمين :
الأول : المتواتر الذي يرويه جماعة عن جماعة لا يتواطئون على الكذب .
الثاني : خبر الواحد ، الذي يرويه فرد واحد أو اثنان ، فلا يصل إلى مرتبة المتواتر .
والإسلام عقيدة وإيمان في القلب والجوانح ، ومنه الإقرار بالتوحيد والإيمان بالملائكة والكتب السماوية والأنبياء من غير تفريق ، وقد ختم الله النبوة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد ابتدأت عمارة الأرض بنبي ورسول وهو آدم ، وأختتمت النبوة برسول من أولي العزم وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، واستدامة شريعة تتجلى بالقول والعمل والسلوك والسيرة .
وهذا التقسيم إستقرائي ، وتجمع أفراده آيات عديدة منها قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عن ابيه علي بن الحسين( ) عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان)( )( ).
ويدل هذا الحديث وأمثاله على الإتحاد بين العقيدة والعمل في الشريعة الإسلامية ، وهو لا يمنع من التقسيم فالاعتقاد من أفعال القلب وترجل أحكام الشريعة بالعمل بها .
ويجب ألا يؤدي هذا التقسيم إلى صيرورته حاكماً للفصل بين العقائد والعمل ، ثم يقال بأن خبر الواحد من الظن ، فلا يؤخذ به في العقائد ، وإن لم يرق خبر الواحد إلى القطع واليقين ولإجماع المسلمين على عدم حجية الظن فيقال بعدم الأخذ بخبر الواحد .
ولم تثبت الملازمة بين خبر الواحد والظن ، وقد يرقى خبر الواحد مراتب عن الظن.
بحث فقهي
لقد جــاءت العبادات عينية لا فــرق فيها بين الغنــي والفقير، والحاكم والمحكوم، والسيد والعبد الى جانب الواجبات الكفائية، وشرعت صلاة الجماعة لتكــون عــنواناً دائمـاً للتخفيف مع الترغيب فيها والدعوة اليها وجعل ثوابها عن ثواب خمس وعشرين صلاة انفرادية.
روي عن ابي سعيد الخدري، وعن عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)( ).
وفي الخبر عن الإمام الصادق قال (همّ رسول الله صلى الله عليه وآله باحراق قوم في منازلهم كانوا يصلون في منازلهم ولا يصلون الجماعة، فأتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله أني ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله: شد من منزلك إلى المسجد حبل واحضر الجماعة)( ).
وقال بن سيد الناس: (اختلف العلماء في الصلاة التي أراد رسول الله صــلى الله عليه وســلم احــراق بيــوت المتخــلفــين عنها ما هي، فقيل هي صلاة العشاء وقيل العشاء أو الفجر وقيل الجمعة وقيل كل صلاة)( ).
وقد يقول قائل ان شد الحبل من المنزل الى المسجد من التشديد والإصر خصوصاً وان صلاة الجماعة مستحبة وليس واجبة، والجواب من وجوه:
الأولى : التخفيف في ذات الصلاة وأدائها جماعة وسقوط القراءة عن المأمومين وطرد الشك.
الثانية : التخفيف نوعي عام يشمل كل المسلمين فلا اعتبار للقضية الشخصية بالنسبة لواحد من المسلمين، والثواب العظيم لهذا الشخص يستحق شد الحبل.
الثالثة : حضور الأعمى مع شد الحبل حجة على الآخرين المبصرين والأصــحاء للمواظبة على حضور الصلاة من باب الأولوية القطعية.
الرابعة : الأمر بشد الحبل لتوكيد أهمية حضور صلاة الجماعة وليس على نحو اتيان الفعل ذاته الذي يكون شاقاً في أحيان كثيرة اذا كان يمر على بيوت وأبواب عديدة تفصل بين بيت الأعمى والمسجد، مع قطعية امكانه وحصوله آنذاك بالنسبة لصاحب المسألة.
الخامسة : شد الحبل ليس من التشديد والإصر ولكنه قائد شخصي واستغناء عن الغير في مرضاة الله واتخاذ للآية بدل الحاجة الى الإنسان، وتدل عليه التطورات والصناعات الحديثة كالسيارة في النقل والآلة الكاتبة والإستنساخ وادوات الطهي والهاتف وغيرها.
السادسة : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم تعاهد صلاة الجماعة.
قانون تقديم النفع العام
من معاني الحديث المتقدم لزوم حرص الأعمى على حضور صلاة الجماعة ، وفيه وجوه :
الأول : تقديم النفع العام على التشديد الخاص وليس الضرر الخاص فحسب، فلا ضرر على هذا الأعمى لقانون الإسلام خال من الضرر العام والخاص لعمومات قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).
الثاني : يمكن ان نستخلص قانوناً يتعلق منه بالتخفيف وهي (خلو التخفيف من الضرر) فالتخفيف مناسبة لمنع الإصر والثقل والشدة.
بل ان شد الحبل نفسه تخفيف بالإكتفاء به عن القائد وبنيل الثواب العظيم للجماعة به، ومنع الحسرة عن النفس عند الحرمان من صلاة الجماعة، وفيه تخفيف عن الذات والغير بالبحث عن القائد.
الثالث : قانون بذل الوسع لحضور الجماعة من الشواهد على العدالة والإيمان .
الرابع : قانون المواظبة على حضور صلاة الجماعة إصلاح للنفوس وحرب على النفاق.
الخامس : أولوية حضور السالم من الأمراض لصلاة الجماعة ، وعمارة المساجد ، فاذا سقط العذر عن الأعمى ، فالبصير أولى بالحضور ، ومن أدلة صلاة الجماعة تعاهدها حتى في حال القتال ، قال تعالى [وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
بحث اخلاقي
في كل باب من أبواب الحياة يطل عليك الإسلام بأحكامه الشريفة وقواعده الأخلاقية وآدابه الإنسانية فهو مدرسة الحياة يدعو الناس اليه ويقودهم الى سبل الصلاح ويذكرهم بوظائفهم في كل خبر أو أمر أو نهي خصوصاً مع القول بأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.
ومنه مدرسة السفر وقانون الإتعاظ من السفر كتاباً وسنة ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج في سفر كبر الله ثلاثاً ، وتلا قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ]( )، ثم يقول (اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهم، هون علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم، اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا .
وكان إذا رجع إلى أهله قال : آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون)( ).
والأصل في السفر أنه أمر مباح ، ويأتيه بالعرض الوجوب او الإستحباب او الكراهة او الحرمة، والسفر الى الحج مقدمة عقلية واجبة لوجوب المقدمة لوجوب ذيها ولأنه لا يحصل أداء المناسك الا بالسفر وقطع المسافة الى الديار المقدسة.
ويحرم السفر بنية ارتكاب المعصية كالسرقة.
وفي حديث أبي ذر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث : مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم)( ).
وتخصيص الأمر بالعاقل دلالة على الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل , وان الإسلام لا يتعارض مع أحكام العقل، كما ان العقل يدعو الى الأخلاق الحميدة ومنها اختيار أسباب السفر ، وإجتناب المهالك فيه .
ولو دار الأمر بين منافع الإقامة والسفر فليس من قانون ثابت في المقام.
وقد حضّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السفر ومنه قوله (سافروا ، فإنكم إن لم تغنموا مالا أفدتم عقلا)( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : السفر ميزان القوم( ).
فبالسفر تعرف معادن الرجال وتظهر السجايا الحميدة وتبرء الذمة وتدفع كوامن السوء وبواطن الشر، ويمكن معرفة كنه وسمت الإنسان في حال السفر لما فيه من كثرة المزاولة والمخالطة وسرعة مداهمة الأمور المفاجئة والحاجة فيها للتحلي بسعة الصدر والصبر وبذل الوسع واجتناب الغضب والشح ونحوهما من الأخلاق المذمومة.
ولا يعلم بالمنافع التي يجلبها الإنسان لنفسه بالسفر ، والأضرار التي يدفعها عنه بالسفر ، وكذا العكس إلا الله عز وجل .
ومن آداب السفر افتتاحه بالصدقة لدفع النحوسة ولشراء السلامة، وفي العزم على الصدقة في السفر دلالة على اللجوء إلى الله تعالى في المهمات, والخشــية من المجهــول والســعي لــدفع الأذى باختيــار التقرب الى الله عز وجل بالصــدقة وليس من مقدار معين لما يتصــدق به، ولا تتعــلق الصدقة بالشأن ويكفي صرف الطبيعة والمالية، ولا ينحصر اعطاء الصدقة بالغني بل يشمل الذي يريد ان يستدين في السفر لعمومات ادلتها وعظيم نفعها .
والبسملة وتلاوة القرآن عند السفر مناسبة كريمة لطرد الشياطين وواقية للمسافر، وتوسل لحضور الملائكة وحراستهم له، ودفع الهم والسأم من السفر سواء بالذات او بالعرض.
يستحب تناول تمرات أو شربة ماء حال الشروع في أذان المغرب
قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ) ، وقال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا]( )، ومن اليسر والتخفيف تناول الشئ القليل من الرطب أو الزبيب أو الحلوى مطلقاً أو اللبن أو الماء الفاتر عند الشروع بالأذان ،وفيه أخبار نبوية متعددة منها ، عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، (يستحب للصائم إذا أفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء) ( ).
يستحب عند الشروع بالأذان تناول قليل من التمر أو العصير أو الماء الفاتر ، للكتاب والسنة ، والجمع بين النصوص ، أما الكتاب فلقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
وهو من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ) لإرادة انتهاء الغاية من اللام .
ووردت هذه الآية في الصوم وموضوعها أعم ، ومن اليسر تناول تمرات أو عصير أو شرب الماء ونحوه عند الشروع في الأذان ، وهذا التناول غير أفطارالعشاء الذي يؤتى بها بعد الصلاة ، فيجمع بين الحسنيين ، أما الذي ينتظره أفراد لوليمة ومائدة إفطار ، فيجوز له إفطار العشاء قبل الصلاة بحيث لا يفوته وقت صلاة المغرب الذي هو أشبه بالمضيق .
وتناول تمرات أو ماء عند أذان المغربِ لا يتعارض مع أداء الصلاة في أول وقتها ، بل هو عون على أدائها هذا .
ومن التخفيف استحباب إفطار الصائم عند الشروع في أذان المغرب ، ويستحب للصائم أن يتناول حال الشروع في أذان المغرب تمرات أو شربة لبن أو ماء فاتر ، وتدل عليه السنة القولية والفعلية وروايات عديدة.
ولابد من الفصل بين مسمى الأكل أو الشرب هذا وبين روايات تقديم الصلاة على الإفطار الذي يراد منه العشاء .
وعن جابر (عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : اذا غاب القرص أفطر الصائم ودخل وقت الصلاة)( )، ومثله أحاديث عديدة .
والحديث وإن جاء بصيغة الجملة الخبرية إلا أنه يتضمن الأمر والندب واستحباب الإفطار عند الغروب .
وفي هذا الحديث مسائل :
الأولى : أوان الإفطار وصلاة المغرب عند غياب القرص ، ويكون أوان ذهاب الحمرة المشرقية من باب الإحتياط جمعاً بين النصوص لقوله عليه السلام في المقام : وتأخذ بالحائطة لدينك .
الثانية : تقديم الإفطار القليل ، و(عن سهل بن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) ( ).
فيختص بتناول العشاء جماعة قبل الصلاة ، لقاعدة نفي الحرج ، وهو أجنبي عن أكل فردات من التمر أو إناء من اللبن أو الماء أثناء الإذان ، فلا تعارض بين الحديثين .
وعن الصادق عليه السلام (إذا غابت الشمس فقد حل الافطار، ووجبت الصلاة، ووقت المغرب أضيق أوقات الصلاة اليومية ، وهو إلى حين غيبوبة الشفق، ووقت العشاء من غيبوبة الشفق إلى ثلث الليل)( ).
والشفق هو الحمرة التي تظهر في جهة المغرب بعد غروب الشمس وزوال الحمرة المشرقية لتبعثر ضوء الشمس في الطبقة العليا من الغلاف الجوي ، وإذا غاب الشفق يأتي بعده الغسق .
(والليل ينقسم إلى اثنتي عشرة ساعة، لها أسماء وضعتها العرب، وهي: الشاهد، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم الفحمة، ثم الموهن، ثم القطع، ثم الجوشن، ثم الكعبة، ثم التباشير، ثم الفجر الأول، ثم الفجر الثاني، ثم المتعرض)( ).
والتبادر علامة الحقيقة ، ويدل الحديث أعلاه على أن المراد من الإفطار الجلوس للعشاء وإحتمال فوات وقت صلاة المغرب .
أما الإفطار بتمرات أو لبن أو ماء عند الأذان فهو باق على استحبابه كتاباً وسنة.
قانون خلود الشريعة السماوية
لقد أراد الله عزوجل لأحكام الإسلام البقاء في الأرض بصيغة الأداء والإمتثال النوعي العام، وطرو النسيان الفردي لا يضر به لذا جاءت الآية بسؤال عدم المؤاخذة على النسيان، ولم تتعد السؤال وطلب المغفرة، فلم تقل هذه الآية او آية غيرها في القرآن ان الله لا يؤاخذكم على النسيان، مما يعني ان المسألة تعليقية وتتوقف على عفو ورحمة الله تعالى.
وتستلزم الإلحاح بالدعاء لذا وردت في موضع خاص من القرآن هو خاتمة سورة البقرة.
والنسيان الذي يصيب الإنسان يتعلق بالإعتقاد والأفعال والحقوق والقدر المتيقن ما يفوت الإنسان مما يدرك وجوب فعله او لزوم تركه من غير نسيان للمعتقد والأصول لخروجها بالتخصص وورود الآيات القرآنية التي تحذر من تعدي النسيان وطغيانه وغلبته على الإنسان ، قال تعالى [فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا] ( ).
ولابد من محاربة آفة النسيان الذاتية والغيرية ، بمعنى على المكلف ان يجتهد في استحضار ما يجب عليه في يومه وليلته ، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التعاون في طرد النسيان قدر الإمكان ، بحضّ الغير على واجباته ويدعوه للمستحب ويعاونه على طرد النسيان.
لذا تجد تشريع الأذان في الصلوات اليومية آية اعجازية لتذكير المسلمين بوقت وأداء الصلاة ، وحضّ الناس جميعاً على ذكر الله.
وفيما يتعلق بالآية فان من فلسفته طرد النسيان واللطف بالعباد للتذكير بالصلاة ووجوب ادائها وفي التنزيل [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ]( ) .
ولا يحصي المنافع العامة والخاصة من الأذان إلا الله عز وجل .
سؤال التجاوز
يدل الدعاء وكثرة سؤال المسلمين الله عز وجل على إقرارهم بالضعف العام ، وحاجتهم وعالم الممكنات إلى رحمة الله تعالى ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج ، لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ) لبيان فاقة الناس مجتمعين ومتفرقين ، وحضهم على الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ، ومن غنى الله تعالى في الآية أعلاه عدم مؤاخذته الإنسان على النسيان .
فجاءت الإستجابة مركبة من ايجاد الوسائل والأسباب التي تحول دون النسيان مثل الأذان للصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهر بالقرآن وصلاة الجماعة ، والتذكير بمنافع الصلاة في الدنيا والآخرة ، والشيب علامة لدنو الأجل، والمرض للتذكير بنعمة الصحة وحتى العطاس يأتي سبباً بدنياً لقول الحمد لله فيحتسبها الله عزوجل شكراً على نعمة العافية ومناسبة لتجديد دوامها.
نعم قد يغفل المكلف مع ورود هذه الأسباب والمقدمات الا انها غفلة على نحو القضية الشخصية ، وهي من مضامين الدعاء [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]( ).
وكما تنفع تلك المقدمات المسلم فانها تنفع الكافر لما فيها من لغة الإنذار والتنبيه والدعوة الى الإسلام.
حديث الرفع
ويختص الله عز وجل بالإحصاء في باب حديث الرفع بأمور :
الأول : لا يعلم عدد المرات التي ينسى فيها الإنسان إلا الله عز وجل.
الثاني : لا يعلم بسبل وكيفية تذكير الإنسان لما نساه إلا الله عز وجل .
الثالث : لا يعلم بما يمحوه الله من الذنوب وآثارها إلا الله عز وجل.
الرابع : الله وحده القادر على منع الإنسان عن النسيان والخطأ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ترى أيهما أكثر الخطأ الذي ارتكبه المؤمن أم الخطأ الذي محاه الله عنه ، الجواب هو الثاني .
وعن ام الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ان الله تجاوز لأمتي عن ثلاث عن الخطأ والنسيان والإستكراه)( )، واخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس، وابن ماجة عن أبي ذر.
وفي الخبر عن الصادق عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وضع عن امتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد)( )، ويسمى هذا الحديث حديث الرفع.
وروي عن ابي بكرة وابن عــمر وثوبــان وعقبة بن عامر ، وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واخــرج عن سـعيد بن منصور والحســن البصري قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجاوز الله لابن آدم عما أخطأ وعما نسى وعما أكره وعما غلب عليه( ).
وهذا الحديث يدل على الإطلاق في (بني آدم) وسعة رحمة الله في الآخرة ، ولكنه ضعيف بالإرسال، وليس معارضاً للنصوص بل في طولها المستفيضة الواردة عن الصحابة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اختصاص المؤمنين بحديث الرفع ، ودل على هذا الإختصاص ان الآية جاءت على نحو الدعاء والتضرع والتوسل إلى الله تعالى ومن مقام الإيمان.
بلحاظ انه علة التأهيل لهذا السؤال كما ان سعيد بن منصور نفسه اخرج عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تجوز لهذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا اليه).
ولا يحصى أخطاء الناس ونسيانهم للأمور والواجبات العبادية ، وما استكرهوا عليه من القول والفعل إلا الله عز وجل ، وفيه رحمة عامة للناس ، لذا تجد القرآن يبدأ بالبسملة ، وفيها ثلاثة أسماء من الأسماء الحسنى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ]( ).
قانون اللطف بعدم المؤاخذة على النسيان
لم يرد لفظ (تؤاخذنا) ولا لفظ (نسينا) بصيغة الجمع إلا في الآية الأخيرة من سورة البقرة، ولم يأت لفظ (يؤاخذ) إلا الله تعالى سواء بصيغة الجمع، أو فعل مخصوص أو إرادة المفرد .
ومن الأول قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ]( )، وفيه بيان لموضوع عدم المؤاخذة على نحو العموم الإستغراقي في حكم مخصوص.
ومن الثاني ما ورد في موسى وفي التنزيل [قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ]( )، فهذه الآية جــاءت بلغة المفــرد وهــي خاصـة في الإحتجاج بين موسى والخضر، وهو من أمر الله تعالى وآياته الباهرات.
فالآيات اعلاه تبين موضــوع عــدم المؤاخذة ويتعـلق بأفراد شخصية، اما ترك الواجــب وعــدم أدائه حتــى فوات وقته فيشمله الرجاء ، وعــمومات الدعـــاء في هـذه الآية ونحوها ، ومنه يعرف أهميتها في عالم الحساب ودفع العقاب .
نعم ورد في السنة حديث الرفع وفيه تخفيف وبشـــارة رفع العقـاب عن موارد النسيان عن افراد الأمة بمعنى مع بقاء الناســي على نهج الإسلام وتعاهده لمبادئه.
وقد جاء كلام موسى مع الخضر في عدم المؤاخذة على النسيان، اما المسلمون فانهم سألوا ربهم عدم المؤاخذة على النسيان، ولا يعني هذا التفضيل على موسى عليه السلام، لأن الأنبياء سادة الأمم وأشرف الخلق أجمعين، وفيه أمور:
الأول : ان كل آية مستقلة عن الأخرى، ولا ملازمة بين موضوعي المؤاخذة في الآيتين.
الثاني : النبي موسى معصوم ولا ينسى وظائفه وواجباته إلا أن يشاء الله .
الثالث : ان عمل الخضر عن أمر الله تعالى، لذا ورد عنه في التنزيل [وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي] ( ) أي ليس من تلقاء نفسي ، ولا باجتهاد مني لبيان أن الخضر عبد مأمور.
وقانون وجود النبي لا يمنع من وجود أئمة وأولياء لله في أيامه يفعلون ما يأمرهم الله عز وجل ، وفيه تعضيد للنبي ، وهل هو من السعة والفضل الإلهي في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) الجواب نعم.
لبيان أن مصاديق نعمة الخلافة في الأرض أعم وأكبر من أن تحيط بها الخلائق ، فهذه الإحاطة خاصة بالله عز وجل ، وهو من مصاديق احتجاج الله على الملائكة في ذات آية الخلافة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الرابع: ان نسيان موسى لم يكن في العبادات والتكاليف الشرعية بل جاء في مسألة شخصية تدخل ضمن المباحات.
الخامس: ما ورد في قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ) يشمل المؤمنين جميعاً في كل الأزمنة، كما يتجلى قانون الأنبياء الأبنياء قادة المؤمنين .
السادس : انتفاع المسلمين من قصص الأنبياء وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وفي كل الأحوال فهذه الآية من مفاخر الإسلام وشهادة على بلوغ المسلمين مراتب الإيمان والتقوى وادراكهم لفوات بعض الأعمال لا عن عمد بل بسبب السهو والنسيان، فلجأوا الى الله مجتمعين مستغيثين طالبين التجاوز.
وجاءت الآية بأداة الشرط (إن) فلم تقل ولا تؤاخذنا على النسيان، انما قيدته باداة الشرط أي في حال حصول وطرو النسيان للإتكال على الله تعالى في اجتناب النسيان على نحو الموجبة الكلية او الجزئية .
فالدعاء مقدمة للنسيان المحتمل، وليس سؤالاً لإسقاط اثر النسيان حتمي الوقوع، وبينهما فرق.
فالآية تظهر أدب العبودية وحرص المؤمنين على عدم النسيان ولجوئهم الى الدعاء لسد الفرج ومنع ترتب الإثم، والآية اعلان عن سعي المؤمنين لعدم نقص الثواب في الآخرة.
وقد ورد ذكر شهادة المرأة في آية التداين قوله تعالى [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا]( ) وهو جزء علة لتعدد المرأة في الشهادة بدلاً عن الرجل لتكون كل واحدة عضداً للأخرى في التذكير والتنبيه واستحضار تفاصيل الشهادة.
وقيل المراد [أَنْ تَضِلَّ] أي تَنسى .
والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فان تضل أعم تشمل الخطأ والنسيان خاصة مع تقادم الأيام ، وهو ليس عيباً أو نقصاً في المرأة ، ولكن الشهادة في الأمور الحسابية والأموال أمر طارئ عليها ، إذ أنها مشغولة بأمور المنزل وشؤون الأولاد ، فجاء التخفيف من عند الله من غير إسقاط شهادتها من الأصل ، ولا الإستغناء عنها ، أو جعل شهادتها عند الحاجة ، وفقد الرجال بل تجوز شهادة المرأة حتى مع حضور الرجال .
وقد جاء النسيان مطلقاً وشاملاً للرجل والمرأة في قوله تعالى [إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ( ).
وفي العقد الفريد (وقال مُقاتل بن سُليمان، وقد دَخَلْته أبهة العِلم: سَلُوني عمّا تحت العَرْش إلى أَسفل الُثرى. فقام إليه رجلٌ من القوم فقال: ما نسأَلك عما تحت العرش، ولا أسفل الثرّى، ولكن نسأَلك عَمَّا كان في الأرض، وذَكَرَه الله في كتابه، أَخْبرني عن كَلْب أَهل الكَهْف، ما كان لونُه؟ فأَفحمه.
وقال قَتَادة: ما سمعت شيئاً قطُّ إلا حَفِظْتُه، ولا حَفِظت شيئاً قَط فَنَسيته، ثم قال: يا غلام، هَاتِ نعلي؛ فقال: هُما في رِجْليك، فَفَضحه اللهّ)( ).
قانون النسيان آفة
النسيان آفة تؤكد ضعف الإنسان ودليل نقصه، وانه من عالم الإمكان، وتبين حاجته الى الله تعالى في طرد النسيان والعفو عن النسيان.
ويرد النسيان بمعنى الترك أي ان الدعاء يتعلق بترك العمل بسبب القصور في الفهم او العجز عن التأويل الصحيح او الإهمال والتقصير ولكنه في هذه الحالة يتداخل احياناً مع الخطأ فجاءت الآية بالمعنى الأعم الشامل للنسيان والخطأ.
وفي أصناف الرجال (قال الخليل بنُ أحمد: الرجال أربعة: رجلٌ يدرِي ويدْرِي أنه يَدْرِي فذاك ناس فذكَر، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فعلِّموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه)( ).
وترى التكلف والتشديد في القول أعلاه ، بينما جاء القرآن بالبيان والوضوح والتخفيف عن الناس ، وبلوغ معاني الآية إلى الناس جميعاً بأدنى تدبر ، كما في قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ( ).
أي مع الإقرار بأن الله لم يكلفنا إلا ضمن الطاقة والميسور فاننا ننسى أو نخطأ .
أصالة عدم العدم
يمكن استقراء قاعدة كلامية وفقهية في قوله تعالى [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ( )، وهي لو دار الفعل المخالف للصواب بين الخطأ والعمد، فالأصل الخطأ بمعنى وجود وجوه ثلاثة هي:
الأولى : العثرة والزلة خطأ.
الثانية : الغلط والذنب عن عمد.
الثالثة : الزلة والغلط المردد بين الخطأ والعمد.
وليس من دليل او إمارة او قرينة تدل على احتسابه من أحدها، فتعتمد فيه القاعدة أعلاه بأنه خطأ للأصل في المقام وهو الأدنى .
وفي القواعد الفقهية هناك قاعدة تسمى (أصالة الصحة) وهي حمل عمل المسلم على الصحة، ولكن المقام يختلف لأنه يتعلق بما لو شككنا بالفعل هل هو صحيح او خطأ، كما لو شك في الوضوء او الصلاة هل كانت تامة او ناقصة فالأصل الصحة، اما هنا فالخطأ متيقن ولكن الشك فيما إذا كان عن خطأ و عمد .
ويمكن ان نسميها قاعدة (اصالة عدم العمد) وتدل عليها عمومات حديث (ادرؤوا الحدود بالشبهات) ( ).
ولم يرد لفظ (اخطأنا) في القرآن إلا في هذه الآية وجاء على نحو الإعتذار المتقدم الذي يدل على التقيد الحسن بآداب العبودية.
قانون الإستجابة
القرآن يفسر بعضه بعضاً ويدل الجمع بين قوله تعالى [رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]( )، وقوله تعالى [وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِه]( )، على حقائق واشراقات قرآنية خاصة ويبين قانوناً وهو استجابة الله عزوجل لدعاء المؤمنين ، وانه سبحانه خص المسلمين بهذه النعمة والفضل العظيم.
فتجد في القــرآن الدعــاء والإســتجابة له، ويمـكن ان نسميه قانون (الإستجابة) وهو نعمة عظمى على الناس .
نعم يمكن ان تناقش النسبة بين عدم المؤاخذة الوارد في الآية أعلاه من سورة البقرة بصيغة الدعاء ونفي الجناح الوارد في سورة الأحزاب ولا تعارض بينهما، فكل دعاء وارد في القرآن على لسان أحد الأنبياء او على لسان المسلمين لابد من الإجتهاد والبحث في آيات القرآن عن الإستجابة له على نحو الموجبة الكلية او الجزئية ، كما يشملها جميعاً ، قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، الذي هو كسور الموجبة الكلية للأدعية الواردة في القرآن.
وهو علم جديد يبين الإعجاز القرآني وما فيه من البشارات والدلائل على عدم تضييع او فوات دعاء شخصي للمسلم يوم القيامة بمعنى ان مضامين قانون الإستجابة بطرفيها الدعاء والإستجابة حضّ للمسلمين على الدعاء وإخبار عن حصول الإستجابة.
قانون الإستغفار حاجة
قد يقال كيف يتجــرأ المؤمنــون ويطلــبون عــدم المؤاخذة على الخطأ ، وهذا الطـلب خلاف مضــامين العــبودية والإنقــطــاع الى الله، ومن كان عاشقاً منجذباً الى محبوبه فانه لا يرتكب أزاءه الخطأ ويكون شديد الحرص على اجتناب الغفلة عنه فترك الخطأ يكون من باب الأولوية.
وهذا الكلام صحيح ولكن الذي هو أرجح وأفضل منه هو الإعتذار المتقدم عن الخطأ المقدر والنســيان المحتــمل لما جبلت عليه النفس الإنســانية من الضــعف والفتــور وغياب المعـاني عن الذاكرة احيانا وغلبة النفس الشــهوية او الغضــبية بالإضــافة الى وسـاوس الشيطان .
ولا يريــد المؤمنــون تـرك منــازل الرق والعبــودية لله والدعــاء للحرص على البقاء في منازل العبودية والرق وساحة القرب من الله تعالى ، واتخاذ الدعاء وســيلة لقـهر الطــباع والتغلب على آثار النقص والإمكان في ذات الإنسان، والنجاة من غضبه وسخطه تعالى لعدم الخروج عن رضاه ورحمته ، وفي التنزيل [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ).
ولأنه تعالى قال [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )، فجاء الأمر بالدعاء وموضوعه على نحو الاطلاق، وتتجلى موضوعية صيغة الجمع في الدعاء لمنع الحرج وللحاجة الى هذا الدعاء في موضوعه، ولتوكيد معرفة المسلمين باستجابة الله تعالى.
قانون تعدد صيغ الإستغفار
كثرة آيات الدعاء وكنوز منافعها مصاديق صيغة الجمع [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )، على وجوه :
الأول : ادعوني مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : قانون قبول دعاء الفرد للجماعة .
الثالث : قانون قبول دعاء الجماعة للفرد الواحد منهم أو من غيرهم.
الرابع : ادعوني بمضامين آيات الدعاء الواردة في القرآن .
الخامس : ادعوني بالآيات التي تذكر فيها الجنة لسؤال الفوز بها ، وبالآيات التي تذكر فيها النار للنجاة منها .
و(عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ.
قال : ثم ركع بقدر قيامه ، يقول في ركوعه : سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ، ثم سجد بقدر قيامه ، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة)( ).
ومن المسائل المستقرأة من هذا الحديث :
الأولى : قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السور الطوال في صلاة النافلة كسورة البقرة وآل عمران والسور الأخرى الطوال .
الثانية : قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمسمع ومرآى من الصحابة لتوكيد حفظهم لها .
الثالثة : حفظ الصحابة للسور القصار من باب الأولوية القطعية ، وهو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف .
و(عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرا مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ)( ).
واستدل به الشافعي على جواز الوقوف عند آية الرحمة وسؤال الله الرحمة ، والوقوف عند آية العذاب للإستعاذة منه سواء في صلاة الفرض والنافلة ، وكرهه أبو حنيفة .
الرابعة : قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سور القرآن في الصلاة وخارجها دعوة للصحابة لتدوينها وكتابتها في الرقاع والأكتاف والعسب ، وهذه الكتابة عون للصحابة على حفظ القرآن عن ظهر قلب ليكون مصدراً وحجة وثروة وتركة .
الخامسة : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحض أصحابه على كتابة وحفظ آيات القرآن ، وعلى قراءتها بحضرته.
السادس : آيات الإستعاذة من الشيطان .
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإِنس .
قال : يا نبي الله وهل للإِنس شياطين .
قال : نعم شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا( ).
وألفاظ آيات الدعاء أعم من أن تختص بمادة الدعاء ، إذ تأتي بصيغ متعددة منها :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
السادسة : قوله تعالى [هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ]( ).
السابعة : قوله تعالى [رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
الثانية عشرة : وفي دعاء آدم وحواء وهما في الجنة [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
وهل هذا الدعاء هو الوحيد لهما في الجنة ، الجواب لا ، إنما ورد من باب المثال ولموضوعيته ، فلم تكن جنة آدم وحواء من جنان الخلد التي لا عمل فيها ، إنما هي محل ابتلاء وإختبار ، وإن كانت الدار الآخرة مناسبة لدعاء التوسل والشكر لله ، ومنه في أصحاب الجنة .
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا]( ).
وافرغ أي أنزل وأصبب كما يفرغ الدلو ، والذي ورد مرتين في القرآن ، الثانية في احتجاج السحرة على فرعون بعد إيمانهم وسؤالهم الصبر من عند الله لوعيد فرعون لهم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم جميعاً ، كما في الآية [وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( ).
وعن (عبد الله بن عباس حين قالوا [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ]( ) قال : كانوا في أول النهار سحرة، وفى آخر النهار شهداء)( ).
الأولى في طالوت والمؤمنين الذين معه حينما برزوا لجالوت وجنوده ، كما في سورة البقرة [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
ليتخذ المسلمون هذا الدعاء في حال الرخاء والشدة ، ويأتيهم الصبر نافلة من عند الله ، وهل تلاوة المسلمين والمسلمات لهذه الآيات في الصلاة دعاء بمضامينها ، الجواب نعم.
ومن فضل الله قانون عدم تعارض الدعاء مع قصد القرآنية .
الرابعة عشرة : قوله تعالى [وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [اكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا]( ).
العشرون : قوله تعالى [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ]( ).
الواحد والعشرون : قوله تعالى [رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ]( ).
الثانية والعشرون : قوله تعالى [إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الثالثة والعشرون : قوله تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( ).
الرابعة والعشرون : قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
الخامسة والعشرون : قوله تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ).
السادسة والعشرون : قوله تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]( ).
السابعة والعشرون : قوله تعالى [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامنة والعشرون : قوله تعالى [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
التاسعة والعشرون : قوله تعالى [رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثلاثون : قوله تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
ومن مفاهيم الآية وسؤال العفو عن النسيان والخطأ اجتناب الكبائر والفواحش والخطايا والذنوب، فمن يسأل الأدنى فانه يعلن كفايته في الأكثر والأكبر، ولكن تلك الكفاية لم تأت منهم على نحو الموجبة الكلية، بل بالتوفيق والهداية من الله تعالى .
وفي المقام وجوه :
الأول : فضل الله في هداية الناس إلى طرق وسبل للهداية والإستغفار لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
الثاني : لا يحصي منافع الدعاء في الدنيا إلا الله ، ليكون تخلف الخلائق عن إحصاء منافعه في الآخرة من باب الأولوية القطعية.
الثالث : الدنيا دار الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل .
الرابع : دعوة المسلم للإجتهاد في دعائه كثرة وموضوعاً وفي أمور الدين والدنيا .
الخامس : قانون الدعاء واقية من إرتكاب المعاصي لعدم إجتماع الضدين.
السؤال العام للتخفيف
لقد توجه المسلمون للتضرع إلى الله فيما يخص أصل التكليف لأن الإصر عنوان اضافي لا يمنع من طروه الا الله عز وجل فسألوا دفعه [رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا]( ) .
والتكليف على وجوه:
الأول : ما لا يطيقه المسلمون.
الثاني : ما يطيقه فريق من المسلمين دون الفريق الآخر.
الثالث : ما يطيقون شطراً منه.
الرابع : ما يطيقه جميع المسلمين.
وموضوع السؤال هو الأول بقوله تعالى [رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ]( )، فقد اجتمع المسلمون بدعاء واحد، وهو من الكلي المشكك بلحاظ القدرات الفردية ويحمل الدعاء على ارادة إطاقة أضعفهم، الا انه لا يمنع من الموارد الخاصة بحسب الشأن والمقام والعلم والمنزلة.
فالمسلمون جميعاً يلتقون في التكاليف، الا أن وظيفة العالم أعلى مرتبة من غيره، وكذا الحاكم بالنسبة للمحكوم والرئيس والملأ وأصحاب القرار والتأثير في القول والفعل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره.
فالسؤال في الآية بالمعنى الأعم ويشمل التكاليف العامة للمسلمين ، والأمور الشخصية التي تواجه كل شخص، كما لو كان المكلف تغلب عليه النفس الشهوية ، ويميل إلى سرقة مال الغير لو تمكن منه ، وأصبح بمقــدوره أخذه .
فان الله عز وجـل يحول دونه ودون هذا التمكن ، ومن العصمة امتناع المعصية ، فيجعل الله الغير يحترز ويحفظ أمواله، او يأتي سلطان يقيم الحد الشرعي على الســارق فيخشــى منه، او يقــذف في قلبه الفــزع من انكشــاف امره، او يملأ قلبه ايماناً فيجعله يتعفـف عن السرقة مع التمكن منها والأمن من العقاب.
وكذا بالنسبة للمرأة فقد تقع في إغواء وافتتان أزاء شخص معين، ومن التكليف بما يطاق ان يحجب الله عز وجل عنها أسباب الصلة والمعاملة معه، او ينسيها ذكره او يجعلها تتفقه في الدين وتعلم اضــرار الزنا والفاحشة مطلقاً او تتهيء لها أســباب الزواج منه او من غيره الذي قد يكون أفضل منه ويقودها الى سبل النجاة في الآخرة، فعدم الإطاقة ينحل الى أمرين:
الأول: عام يشمل المسلمين كافة كما يتجلى في الفرائض كالصلاة والصوم.
الثاني: خاص، ملازم للإنسان في حياته، فتراه غنياً لأن الفقر يوقعه بالأذى والشر، او العكس يكون فقيراً لأن الغنى باب للإبتلاء لا يستطيع معه أداء الفرائض، فينجيه الله عز وجل من التقصير والإثم بالفقر لينجو يوم القيامة من العقاب والعذاب الشديد، مع تأهيله لتحمل الفقر والصبر عليه والرضا بما قسم الله تعالى له، لذا تجد احياناً فقيراً فرحاً بما عنده اكثر مما يفرح الغني بما آتاه الله من فضله.
و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القناعة كنز لا يفنى)( ).
فكل مسلم يدعو للمسلمين ويدعو لنفسه على نحو خاص، ودعاؤه للمسلمين يشمل الأمرين معاً التكاليف العامة وعدم تكليف أي واحد منهم بما لا يطيق، فلا يحصي أفراد الدعاء إلا الله عز وجل ، وهو سبحانه يحب لعباده الإنشغال بالدعاء والإنقطاع إليه ويقربهم إليه ، وفي التنزيل [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
فينتفع كل مسلم من هذه الآية بأربعة وجوه:
الأول : دعاء المسلمين له فيما يخص التكاليف العامة.
الثاني : دعاؤهم له في التكاليف والوظائف الخاصة.
الثالث : دعاؤه لنفسه في التكاليف العامة.
الرابع : دعاؤه لنفسه في الوظائف الخاصة سواء كانت مقدمات للتكاليف العامة او ازالة للعوارض والموانع او في المباحات، واجتناب المحرمات.
قانون الدعاء بالتخفيف
لقد سأل المسلمون الله عز وجل عدم التكليف إلا بما يطاق فسألوا عدم تحمل الإصر والثقل والتشديد ، قال تعالى [رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا]( ).
فهل الإصر مما يطاق فسألوا التخفيف عنه، الجواب: على قسمين:
الأول : التشديد من الكلي المشكك فمنه ما يطيق المكلف أداءه، ومنه ما لا يطيق، وجاء السؤال مطلقاً وشاملاً لهما معاً، فحتى الذي يطاق منه لا يخلو من مشقة وعسر.
الثاني : الثقل والتشديد من مقدمات وأسباب التقصير لعدم قدرة كثير من المكلفين على استدامة قهر النفس الشهوية والغضبية مما يعرض الإنسان للعقاب الذي يترتب على التقصير.
ومن مفاهيم الآية ان المسلمين لم يبتدعوا لهم طرقاً في العبادة تتضمن التشديد على النفس، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التحذير من البدعة والنهي عنها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (في خطبته : إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور مُحْدَثاتها، وكل مُحْدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)( ).
وهذا من الإعجاز القرآني الغيري لأن المسلمين لم يحتاجوا إلا للكتاب والسنة لتأسيس الأحكام، ولبطلان الإجتهاد في مقابل النص.
وتنمي الآية ملكة عدم التشديد في نفوس المسلمين، فمن يتوسل ويسأل عدم فرض شــيء عليه، فانه يتجنبه ويمتنع عنه نعم يمكن ان يسأل التخفيف ولكنه بعــد مدة مديــدة يقع بذات التشديد او ان الأجيال اللاحقة تقع بنفس الإصر .
فجاءت الآية لتثبت الملكة النوعية بدوام وجود القــرآن وتــلاوته ولأن الآيــة جــاءت بصـيغة الجمع والدعاء شامل لكل أجيال المؤمنين، فالذين يسألون ليسوا الموجودين ايام التنزيل فقط بل عامة المسلمين الى يوم القيامة وهذا من اعجاز القرآن.
وفي الآية توثيق لسنن الأمم السالفة وايضاح سماوي لتأريخها، وتفضيل المسلمين على غيرهم وموضوعية الدعاء في هذا التفضيل.
وفي الآية دراسة مقارنة بين المسلمين وغيرهم من الأمم في الأحكام بلحاظ التخفيف والتشديد، وتبين في مضمونها جانباً من أهلية المسلمين لخلافة الأرض من وجوه:
الأول: تخفيف الأحكام عنهم بما يساعدهم على تعاهد الأداء وعدم التفريط بالواجبات او المستحبات.
الثاني: سؤالهم المتكرر بالتخــفيف وامتناعــهم عن التشـــديد على النفس وهذا الإمتناع يحول دون دخول أمور في الشريعة ليست منها.
الثالث: مجيء السنة النبوية بالتخفيف والتحذير من التشديد، وعن الإمام الصادق قال: جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي صلى الله عليه وآله .
فقالت: يا رسول الله إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله مغضبا يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال له: يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم واصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)( ).
وفي باب الصيام (خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى مكة عام الفتح، وصام وصام الناس معه حتى بلغ كراع الغميم( )، فلما شق على شطر منهم الصيام افطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فقال في الذين بقوا على صيامهم (اولئك العصاة) ( ).
وقيل كانت الغلظة والفظاظة غالبة على طباع اليهود وما كان ينصلحون الا بالتكاليف الشاقة والشدة، وهذه الأمة تتصف بالرقة والكرم ويغلب على طباعهم كرم الخلق فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.
ولم يثبت هذا التباين وكونه علة للتغليظ على اليهود والتخفيف على المسلمين .
لقد ابتدأ المسلمون بالإيمان التام والإقرار برسالة كل الأنبياء من غير فرق بينهم، فجاءت رحمة التخفيف الذي لا يحصي أفراده وكيفيته إلا الله عز وجل .
قانون التنزه عن التشديد
التشديد على قسمين، قسم يترشح من تبعيض الإيمان بالرسل، وقسم ابتداع من القوم انفسهم، ومتى ما كان الإيمان تاماً فان النفوس تنصلح لقبول الأحكام، وهناك بون بين من يشدد على نفسه وبين من يسأل الله عز وجل التخفيف .
لقد سأل المسلمون العودة الى الشريعة الحقة الخالية من التشديد والتي هي نهج الأنبياء والمؤمنين، بمعنى ان أصل الشرائع خال من الإصر والشدة والضيق، فبالإسلام عادت دورة الشرائع عن الإصر ، وبدأت انطلاقتها الأولى من جديد ولكن بثبات ودوام هذه المرة.
ومنه عصمة المسلمين من التشديد على أنفسهم في العبادات ، وتتجلى هذه العصمة بقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وكأنهم سألوا اعادة الشريعة من جديد ليتعاهدوها ويحفظوها ويتوارثوها بينهم الى يوم القيامة، وسؤال التخفيف هذا مقدمة خارجية وجزء من الأهلية لخلافة المسلمين للأرض .
النسبة بين الإصر والثواب
ترى ما هي النسبة بين الإصر والثواب، فيه وجوه:
الأول : ازدياد درجات الثواب مع الإصر والضيق والشدة.
الثاني : نقص الثواب مع الإصر، بمعنى ان الحصة الزائدة التي يؤتى بها في العبادة تسبب نقصاً في الثواب.
الثالث : ذات الثواب مع الإصر او بدونه.
والأقوى هو ذات الثواب مع الإصر او بدونه اذا كان الإصر جزء من التكليف، اما اذا كان بدعة فلا ثواب بل هو من التشريع المحرم والتشديد على النفس .
وقد ورد ذم لبني إسرائيل لتشديدهم على أنفسهم في مسألة ذبح البقرة كما تقدم في قصتها، ولم يكتفوا بالإمتثال المطلق لقول موسى عليه السلام، كما ورد في التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ( )، واتجهوا نحو سؤال التفصيل في أوصاف تلك البقرة وتكرار هذا السؤال ، وكان هذا التشديد عبرة وموعظة للمسلمين لذا ورد في أكبر سورة في القرآن.
وجاءت السورة باسم البقرة للذكرى والإعتبار وتنمية الفطنة عند المسلمين والإعتبار من الأمم السالفة، فان قلت ان السؤال في البقرة قضية في واقعة بمعنى انها حادثة وليس فعلاً متصلاً ومتوارثاً .
قلت انه شاهد على الطباع والقرائح وكيفية التصرف مع الأنبياء، وفي قصصهم مع موسى شواهد كثيرة قال تعالى [فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً] ( ).
اخرج النسائي وابن ماجة وغيرهما عن عبد الرحمن بن حسنة: (ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان بني اسرائيل كانوا اذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض)( ).
وهو من الإصر والتشديد ، فلجأ المسلمون الى الله عز وجل ملتمسين رحمته وعفوه ليسألوا التخفيف وعدم التشديد في الأحكام، والتشديد على وجوه، تارة يأتي في أصل التكليف والتنزيل وأخرى على نحو تدريجي ومن قبل العلماء والملوك والأفراد .
أما الأول فان التنزيل استمر نحو ثلاث وعشرين سنة ويمكن ان يكون هناك تدرج في الأحكام خصوصاً مع وجود الناسخ والمنسوخ، ولكن قراءة في مصاديق النسخ في القرآن تظهر لك وجوه الرأفة فيه، وانه كان باتجاه التخفيف وليس التشديد.
أما الثاني فان الملوك والملأ قد يميلون أحياناً الى إمضاء البدعة بلحاظ مصالحهم ومنافعهم والغايات الخاصة مع تغييب لقول العلماء ، أو يتركون أمرها لأنها خارج شؤون الحكم .
وجاءت الآية لمنع التمادي في ايجاد حيل شرعية على أحكام الشــريعة، والتشـديد على الأمة والتكليف بما لا يطاق او بما يؤدي الى التعب والعناء.
ومن الآيات في الشريعة الإسلامية الإحتراز والإمتناع من البدعة ببركة هذه الآية والآيات الأخرى.
النعم العامة
من الآيات في الإسلام ان النعم التي نزلت على المسلمين في متناول عامة الناس ، وان الله عز وجل لم يقطع النعم بل دعاهم الى الإسلام والإيمان بالأنبياء والرسل جميعاً من غير فرق بينهم.
ومن وجوه تفضيل خاتم النبيين انه يرفع الإصر عن الناس .
وبذا تتجلى فلسفة الرسالة وان الإيمان بجميع الرسل له منافع اضافية عظيمة منها رفع الإصر والشدة والتشديد في التكاليف ومنعه من الوصول الى المؤمنين ليبقى الإيمان بجميع الرسل حاجة للناس جميعاً وباباً للتخفيف ونزول شآبيب الرحمة وعوناً على أداء العبادات.
والخطاب بالإيمان بالرسل كافة وبالنبي محمد خاصة توجه بعناية خاصة وآيات باهرات دخلت الى البيوت وطرقت الأسماع ، بعد ان بشرهم ببعثته الأنبياء السابقون ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ]( ).
وتبين الآية ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لبني اسرائيل وللناس جميعاً وذكر (ان الإصر هو العهد الذي كان الله سبحانه أخذه على بني اسرائيل ان يعملوا بما في التوراة، عن ابن عباس والضحاك والسدي)( ).
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الازرق قال له: أخبرني عن قوله [وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا] قال عهدا ، قال وهل تعرف العرب ذلك، قال نعم أما سمعت أبا طالب وهو يقول :
أفى كل عام واحد وصحيفة
يشد بها أمر وثيق وأيصره( )
وقال الزجاج: الإصر ما عقدته من عقد ثقيل.
ويمكن إنشاء علم التخفيف في القرآن وإحصاء الآيات التي تتضمن التخفيف في باب العبادات والمعاملات عن المسلمين وغيرهم.
قسمة الماء العامة
قال تعالى [وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ]( ).
من معاني (ما) النافية أنها تعمل عمل ليس كما في قوله تعالى [مَا هَذَا بَشَرًا]( ).
[وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ] أي لستم له خازنين ، فهل تحمل الآية على خزن دول المنبع الماء بسدود عميقة وواسعة عن دول المصب وتحجب أكثر الماء عن دول المصب مع حاجتها إليه في عموم الأرض وبلدان الأرض لأن الخطاب للناس جميعاً ، وهو الواقع الخارجي لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم.
ولزوم العمل وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة للمياه والتي تعرف باتفاقية هلسنكي ، والإنفاقات الثنائية بين بلدان المنبع والمصب .
ولو كانت هذه الإتفاقيات لا توفر ماء الشرب لبعض المناطق التي يصلها النهر في دول المصب ، فتقدم آية البحث حاجة الناس لشربه وسقي دوابهم والضروري من المزروعات .
إذ تبين الآية أن الوظيفة الإساسية للماء هو شرب الماء وحاجات الناس ودوابهم وزراعاتهم لقوله تعالى [فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ] وهذا الكلمة أطول كلمة في القرآن إذ تتألف من أحد عشر حرفاً ، وكأنها تخبر عن فضل الله في توفير الماء للأبناء والأحفاد كما أتاحته للآباء والأجداد.
وليس من بركة بهذا الخزن لقاعدة لا ضرر ولا ضرار والآية نفي ونهي ووعيد .
وسميت الرياح لواقح لأنها حوامل تحمل المطر كما في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا]( ), وفيه بشارة استدامة الأمطار في كل زمان ، مع حضّ الناس على الدعاء وسؤال وصلاة الإستسقاء.
وهل يدل قوله تعالى [وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ]( )، لزوم معالجة حياة البحر للسقي والشرب ، الجواب نعم ، لمنع الهجرة بسبب الشح العرضي للماء ، وهي بشارة في هذا الزمان على تسخير التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي لحمل الغيوم وتسييرها إلى البلدان الفقيرة والغنية أيضاً ، بالإستمطار وتجميع الغيوم والتحكم بمسيرها ، وهو في طول الأمطار التي تأتي بقوله تعالى [وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ]( ).
إحصاء صبر المسلمين
لقد نزل القرآن بالأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعامة المسلمين بالصبر ، وتعددت آيات الصبر ، وفيه وجوه :
الأول : قانون ضرورة الصبر والتحمل .
الثاني : قانون الملازمة بين الإيمان والصبر .
الثالث : قانون الحاجة إلى الصبر .
الرابع : قانون الصبر سبيل النجاة .
الخامس : قانون الأجر والثواب على النصر .
السادس : قانون الدنيا دار الصبر .
السابع : قانون الترغيب بالصبر ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
الثامن : حب الله للصابرين والصابرات ، قال تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
وحينما جهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله ، وأخبر بأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصار يتلو آيات القرآن ويصلي في المسجد الحرام حتى أظهرت قريش بطشها وكفرها ، والإصرار على الإقامة على الجحود.
ليتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى وكان النبي يظهر أسمى مراتب الصبر ، ويدعو أصحابه إلى الصبر ، فحينما تخرج قريش آل ياسر إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء لتعذيبهم بشدة الحر ، يمر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرى عمار وأباه وأمه يعذبون يقول لهم (صبراً آل ياسر ، فان مصيركم الجنة)( ).
وتموت أم عمار سمية بنت خباط تحت التعذيب على يد أبي جهل ، وهو من الأمارات على عموم نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالبشارة بالجنة ، سواء ماتوا تحت التعذيب ، أو قتلوا في الميدان أو ماتوا حتف أنفسهم ، فهو لم يقل لهم إن الفتح قريب ، إنما دعاهم للصبر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( ).
ليبقى هذا النداء خالداً لهم ولكل الذي يعذبون في سبيل الله .
ولا يحصي صبر المسلمين في طاعة الله ، وفي تحمل الأذى في سبيله إلا هو سبحانه .
ولا يحصي ثواب الصبر في طاعة الله إلا هو سبحانه ، لذا فان كل أمر بالصبر في القرآن والسنة النبوية هو من فضل الله وهو رحمة عامة ، وسبيل هداية وصلاح ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومن أذى قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نعته بابشع الصفات ، فبعد أن كانوا يسمونه (الصادق الأمين) قبل البعثة ، صاروا يسمونه بعدها ساحراً ، كذاباً ، كاهناً ، مجنوناً ، مع شمول هذا الأذى أهل البيت والصحابة ، وفيه دعوة رئاسية لهم للإرتداد ، ولكنهم ثبتوا على الإيمان ، بصبر ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكأن قريشاً تقول لهم : كيف تتبعون كذاباً ، كيف تتبعون مجنوناً ، بما يدل بالدلالة الإلتزامية على إنكارهم نزول القرآن .
قانون الصبر تكليف
لقد وردت آيات تأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر منها:
الأولى : قوله تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا]( ).
وآيات تأمر المسلمين بالصبر لتشمل النبي محمداً أيضاً من باب الأولوية منها قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وتبين الآية أعلاه عدم الوقوف عند الصبر وحده ، فلابد من اليقظة والحيطة والعمل بالمصابرة أي بالثبات في مقامات الإيمان وفي الثغور ، والسبق في منازل الصبر والإجتهاد في العبادة .
و(عن أبي أيوب قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل لكم إلى ما يمحو الله تعالى به الذنوب ويعظم به الأجر.
فقلنا : نعم يا رسول الله.
قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة .
قال : وهو قول الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( ) فذلكم هو الرباط في المساجد)( ).
وهذا التفسير النبوي خلاف التبادر الذي هو من علامات الحقيقة ، إذ تتبادر إلى الذهن المرابطة في الثغور وميادين الحرب ، فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المرابطة بسنن العبادة والتقيد بأحكام الصلاة ومقدماتها ، وعمارة المساجد بصلاة الجماعة.
ولا يحصي أفراد صبر المسلمين في العبادات والمعاملات وتحمل الأذى إلا الله عز وجل وهو وحده الذي يثيب عليه.
ومن مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بيان الحديث النبوي وصفا بديعاً لحضور أعمال المؤمن معه في القبر لتذب عنه ، أما الصبر فيبقى كالحرز والإحتياط في ناحية من القبر ، إذ ورد في حديث طويل عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(فإذا وضع في قبره، جاءته الصلاة فكانت عن يمينه، وجاءه الصيام فكان عن يساره، وجاءه القرآن فكان عند رأسه، وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه، وجاءه الصبر فكان ناحية القبر.
قال : فيبعث الله، عز وجل ، عُنُقًا من العذاب.
قال : فيأتيه عن يمينه.
قال : فتقول الصلاة : وراءك والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره.
قال : فيأتيه عن يساره ، فيقول الصيام مثل ذلك.
قال : ثم يأتيه من عند رأسه ، فيقول القرآن والذكر مثل ذلك.
قال : ثم يأتيه من عند رجليه ، فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك. فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد مساغًا إلا وجَد ولي الله قد أخذ جنته.
قال : فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج.
قال : ويقول الصبر لسائر الأعمال: أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم، فإن عجزتم كنت أنا صاحبه، فأما إذ أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان)( ).
ولا يحصي مقدار وحسنات كل فرد من أفراد صبر المؤمن إلا الله عز وجل ، لأن الصبر يكون تارة بالقول والعمل ، وأخرى بالكيفية النفسانية سواء الصبر فيما يحب الله وان استلزم بذل الجهد ، أو الصبر عما حرّم الله.
لذا تكرر قوله تعالى [اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، في القرآن أربع مرات ، ليجتمع مع حب الله عز وجل للصابرين بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
وأيهما أكثر نفعاً للمؤمنين الصحبة والمعية أم الحب من عند الله عز وجل ، الجواب لكل منهما منافع لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل .
والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالحب من الله أعم من المعية ، وكل منهما لطف لايقدر عليه إلا الله عز وجل .
فالحب من الله هو الأصل ، وهو يصاحب الإنسان في الدنيا والآخرة ، ويكون واقية من العذاب ، وباباً للإذن بالشفاعة يوم القيامة.
صبر المسلمين معجزة غيرية للنبي محمد
لقد صاحب الصبر الإنسان من أول خلق آدم عليه السلام ، إذ أباح الله عز وجل له الأكل من ثمار الجنة كلها والتي لا يحصيها إلا الله عز وجل ، ونهاه عن شجرة واحدة وأخبره بأن الإقتراب منها ظلم .
وورد لفظ [هَذِهِ الشَّجَرَةَ] ثلاث مرات في القرآن ، كلها بخصوصها وهي:
الأولى : قوله تعالى [وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ]( ).
وهل يدل عدم صبر آدم وحواء عن الأكل من الشجرة على عجز الإنسان عن الصبر ، الجواب لا ، إنما هو درس في الجنة ليتعظ آدم وذريته منه ، ولتتجلى الحاجة لقانون عمارة الأرض بملكة الصبر ، وهو سبيل النجاح في الدنيا ، والنجاة في الدنيا والآخرة .
وهل صبر الأنبياء بالملكة والإجتهاد والتعلم ، أم بالوحي ، المختار هو الجامع بينهما والوحي هو الأصل ، ليكونوا أسوة للمؤمنين.
وأخبر القرآن في آيات متعددة عن صبر الأنبياء وحضهم على الصبر ، ومنه قوله تعالى [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وأمر الله عز وجل حكام وأمراء المسلمين وعامة أجيالهم المتعاقبة بالصبر ، مع ذكره في ذات الآية الأضرار في الفرقة والشقاق ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة الصبر في الأحاديث النبوية في كثرتها وتعدد موضوعها ، وحضورها في الصبر في طاعة الله ، وعن المعصية ، وعند المصيبة.
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نظر في الدين إلى من فوقه وفي الدنيا إلى من تحته كتبه الله صابراً شاكراً ، ومن نظر في الدين إلى من تحته ونظر في الدنيا إلى من فوقه لم يكتبه الله صابراً ولا شاكراً)( ).
و(عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عجباً لأمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء فشكر كان خيراً ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً)( ).
لقد اتخذ المسلمون الصبر حبل مودة بينهم ، ووسيلة المواساة ، وعدم اليأس والقنوط ، وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى [قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ]( ).
وكما ورد لفظ [يَقْنَطُ] مرة واحدة في القرآن في الآية أعلاه ، فقد ورد مرة واحدة قوله تعالى [تَقْنَطُوا] بقوله تعالى [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
لبيان أن الصبر نعمة عظمى ، وأنه مادة للتوبة والإنابة والمثابرة في طاعة الله ، وكثرة الإستغفار ، فلابد من التوبة للفوز بالمغفرة لعدم التعارض بين الآية أعلاه وآيات الوعيد والعذاب للظالمين والفاسقين والكافرين.
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ورد عن ابن عباس (أن أهل مكة قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له . فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة ، وقتلنا النفس ، ونحن أهل الشرك.
فأنزل الله [يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( )، وقال [وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ]( )، وإنما يعاتب الله أولي الألباب ، وإنما الحلال والحرام لأهل الإِيمان ، فإياهم عاتب ، وإياهم أمر إذا أسرف أحدهم على نفسه أن لا يقنط من رحمة الله وأن يتوب ، ولا يضن بالتوبة على ذلك الإِسراف والذنب الذي عمل.
وقد ذكر الله تعالى في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا المغفرة فقالوا [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا]( )، فينبغي أن يعلم أنهم كانوا يصيبون الأمرين فأمرهم بالتوبة)( ).
و(عن ابن سيرين قال : قال علي (عليه السلام) أي آية أوسع فجعلوا يذكرون آيات من القرآن [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ]( ) ونحوها ، فقال علي (عليه السلام) : ما في القرآن أوسع آية من يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ…( ).
والنسبة بين الصبر والقنوط هي التضاد والتنافي ، لذا أمر الله عز وجل بالصبر في العبادات وإجتناب النواهي ، وهل القنوط من النواهي ، الجواب نعم.
ولا يحصي الذين انتفعوا من الآية أعلاه وآيات الصبر في الدنيا والآخرة إلا الله عز وجل .
إحصاء مواطن خزي الكافرين
الخزي : الهوان والوقوع في الذل وأسباب الذم والعار والاحتقار والصغار ، وضد الخزي الشرف ، والعز ، والمجد ، والوقار.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار وامتحان وابتلاء ، وكما ان الدنيا مزرعة للآخره فهي مقدمة لأهوال يوم القيامة فيلحق الكافر الخزي في الدنيا ليكون إنذاراً ودعوة للتوبة ، وتذكيراً بأن خزي يوم القيامة أشد وأعظم.
فاذا كان الانسان لا يطيق الذل في الدنيا فكيف له في ذل يوم القيامة الذي هو أضعاف مضاعفة كماً وكيفاً وزماناً لعذاب الدنيا ، لذا تكرر ذكر الخزي في القرآن بالجمع بين خزي الدنيا وخزي الآخرة.
وقد اقترن الإنذار بالخزي في الدنيا مع الوعيد بالعذاب في الآخرة للذين كفروا في آيات منها قوله تعالى [ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
ويتجلى التباين الرتبي بين خزي الدنيا وخزي الآخرة بترشح خزي الآخرة عن العذاب الشديد في النار ، والخلود فيها ، قال تعالى [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ]( ).
ولا يعلم كثرة مواطن الخزي التي تلحق الكافرين إلا الله عز وجل ، وهل منه الخزي الداخلي بمعنى أن الكافر يشعر في قرارة نفسه بالصغار والذل والفزع.
الجواب نعم ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
لقد اختص الله لنفسه بملكية السموات والأرض ، وخلق الناس ليعبدوه بالكيفية التي يأمرهم بها بواسطة أنبيائه وكتبه ، لذا أكدت الآيات على وجوب الإيمان بالرسل والكتب السماوية ، والذي يكفر بها يلقى الخزي والصغار في الدنيا .
ويلقى الكافر الخزي عند قبض روحه بشدة وقسوة من قبل الملائكة ، قال تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
وهل يختص خزي الكافر في أيامه في الحياة الدنيا ، الجواب لا ، إنما يلحقه الخزي بعد وفاته أيضاً بذم الناس له على كفره وسوء فعله ، ليكون عبرة لغيره.
ومن الخزي في الدنيا ما لحق كفار قريش يوم معركة بدر ، إذ صاروا على ثلاثة أقسام :
الأول : وقوع سبعين أسيراً منهم بأيدي المسلمين ، مع أن جيش المسلمين يومئذ أقل من ثلث عدد جيش المشركين .
الثاني : سقوط سبعين قتيلاً من المشركين ، وسحبهم إلى القليب.
الثالث : فرار الجموع الباقية من جيش المشركين .
وفي قوله تعالى [سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ]( )، ورد (عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عُنُقه. فبَلغَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : لئن فعله لأخذته الملائكة)( ).
وعندما أصر أبو جهل على القتال لحقه الخزي بأن سقط قتيلاً يومئذ ، ليلحقه الخزي بين أهل مكة والمدينة وعامة العرب ، وتذكره أجيال المسلمين بالذم.
إحصاء الرؤيا ومنافعها
الرؤيا هي الصور والرموز التي يراها الإنسان في المنام ، واشتق اسمها من الرؤية البصرية ، وقد تأتي بلفظ رأى مع القرينة التي تدل على أنه حلم وليس يقظة ، كما ورد بخصوص ملك مصر [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ).
وتأويل الرؤيا : تدبرها وتقديرها وتحليلها ، واستنباط المسائل منها ، والرؤيا دعوة للدعاء لتقريب وجلب المصلحة ، ودفع المفسدة ، وهي بشارة وإنذار لإصلاح الذات والتوبة .
والحلم بضم الحاء او بضمها وضم اللام –الرؤيا , والجمع احلام ويقال حلم يحلم : اذ رأى في المنام، قال ابن سيده : حلم في نومه يحلم واحتلم.
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما.
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وعن (الإمام علي عليه السلام) عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة)( ).
والرؤيا الصادقة من كنوز الدنيا الروحية ، جعلها الله عز وجل بينه وبين كل إنسان من أهل الأرض ، فلابد لكل إنسان أن يرى الرؤيا الصادقة مع التباين بين الناس في الكم والموضوع ووضوح البشارة أو الإنذار ، والإنتفاع منها ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
ومن الآيات في المقام التقاء المؤمن وغيره في العناية بعالم الرؤيا ، سواء كانت رؤيا بشارة أو رؤيا مفزعة ، مع المائز للمؤمن وهو اتجاهه إلى الدعاء والمسألة في الرؤيا .
وفي رؤيا صاحبي يوسف قال تعالى [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ذكر أن يوسف عليه السلام (قال لأهل السجن : إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين لصاحبه : تعالى حتى نجرب هذا العبد العبراني فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا)( ).
وهو بعيد خاصة وأن علة عرض رؤياهما على يوسف هي إقرارهم بأنه من المحسنين ، مما يدل على أنهما لم يذكرا الرؤيا للإختبار ونحوه .
ومن العسير تأليف الرؤيا المتعددة بالصيغة التي ذكرت في القرآن وتعقبها بتأويل النبي يوسف ، وتحقق مصداق هذا التأويل .
ولو دار الأمر بين هل هي رؤيا صدق أم كذب فالصحيح هو الأول ، وهو من عمومات قوله تعالى في الثناء على القرآن [لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
وفي المقام مسائل :
الأولى : لا يحصي عدد رؤيا كل إنسان إلا الله عز وجل ، فهو وحده الذي يعلم خفايا النفوس .
الثانية : لا يحصي أثر وبركة الرؤيا في إصلاح الأفراد والمجتمعات إلا الله عز وجل .
الثالثة : الرؤيا الصادقة من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، فيقبل الإنسان على بشارات الرؤيا ويمتنع عما فيه إنذار.
الرابعة : قانون الرؤيا حجة على الإنسان .
وهل تحضر الرؤيا الصادقة يوم القيامة ، المختار نعم ، لبيان فضل الله عز وجل على الناس ، ولقوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الخامسة : لا يحصي منافع الرؤيا إلا الله عز وجل ، ولا تختص هذه المنافع بالدنيا ، بل تشمل الآخرة أيضاً .
السادسة : دعوة الناس للعناية بالرؤيا الصادقة وتأويلها .
السابعة : البعث على التصدق والدعاء لصرف مصداق رؤيا الإنذار ، فلا يقول الإنسان عند وقوع مصداقها إني علمت بالرؤيا أن هذه المصيبة ستقع بل عليه أن يدعو الله لصرفها.
فمثلاً رأى شخص سقوط أحد أسنانه ، وتم تأويله بموت أخ أو قريب ، فاذا اجتهد في الدعاء لصرف شر هذه الرؤيا ، فان الله عز وجل يمحو أثرها ، ويمد بعمر الذي أخبرت الرؤيا عن موته .
ولو توجه صاحب يوسف عليه السلام الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ، بأنه يصلب وتأكل الطير من رأسه ، فهل يتحقق ذات الصلب ، أم يمحوه الله عنه ، وإذا كان يمحى الأثر المتعقب لهذه الرؤيا لماذا لم يأمره يوسف عليه السلام بالدعاء .
والجواب يتجلى في ذات الآيات باخبار يوسف لهما بأنها من مجتمع مشركين ، قال تعالى [مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ]( ).
وهذا الشرك من أسباب الصلب ، وحجب الإنتفاع من الرؤيا وتأويلها فأراد يوسف توبتهما ، ولا يعلم كثرة اتخاذ الناس التوبة طريقاً للنجاة في الدنيا والآخرة بسبب رؤيا البشارة أو رؤيا الإنذار إلا الله عز وجل ، ويتجلى قانون الرؤيا مقدمة للتوبة .
قانون سؤالنا الله بربوبيته المطلقة
قد تقدم ذكر عدد المرات التي ورد فيها لفظ (الرب) اسماً لله تعالى في القرآن وما له من الدلالات( ).
ويبين الإتيان باسم (الرب) مضامين الخضوع والتضرع والرجاء للقادم من الأيام، ولأن سؤال المؤمنين جاء شاملاً لما يتعلق بالإرادة التكوينية والتشريعية جاء النداء (ربنا) وهو النداء الذي تبدأ به لغة الدعاء في القرآن ، وتكرار النداء به يدل على أهمية موضوع التكليف والحاجة العامة للتخفيف وعدم التشديد في الفرائض، وبدراسة مقارنة في النداء في آيات (ربنا) يظهر الإرتقاء العقائدي عند المسلمين.
فمع ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة لاقوا أشد الأذى من قريش والكفار مطلقاً فان تكرار ندائهم جاء بخصوص التكاليف بينما جاء سؤال قوم شعيب عليه السلام فيما يتعلق بالكفار والإحتجاج عليهم وسؤال الإنتقام منهم .
وفيه نوع اعجاز ودلالة على ثقة المسلمين في استدامة أحكام الإسلام، فلو كان التكليف امراً طارئاً وعرضياً لما كرروا النداء بربنا وسؤال التخفيف في الأحكام بالإضافة الى معرفتهم بالتخلص من أذى الكفار ودحر الشرك ومنع تعدي الظالمين، وفعلاً فما مرت سنوات معدودات على الإسلام حتى أصبح أكثر رؤوس الكفر مسلمين بعد ان قتل جماعة منهم في بدر وأحد وغيرهما.
لقد أراد المسلمون حفظ الأرض ومن عليها بأدائهم للتكاليف فيقومون بأداء الصلاة والصيام والحج ودفع الزكاة امتثالاً لأمر الله تعالى.
فيحفظ الله بني آدم والنظام الكوني العام ويمنع الكواكب من التساقط، والأنهار من التفجر، والعالم من الزوال، والكائنات من الهلاك والإندثار، لقد أرادوا التخفيف ليكون سبيلاً لدخول الناس الى الإسلام وعدم الإمتناع بسبب التكاليف.
لقد أراد المسلمون التذكير بأنهم محتاجون إلى ربوبية الله في دوام حياتهم وتوالي النعم عليهم، وعند الحساب في النشأة الآخرة وانهم متمسكون بالربوبية في مراتبها الثلاث:
الأولى : في أصل الخلق وما قبله ، وفي التنزيل [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثانية : في استدامة الحياة والنظام الكوني العام.
الثالثة : في عالم الآخرة والجزاء.
انه بعث لروح التوكل والإرتقاء في منازل الكمال، واذا تضمن اللفظ القرآني منافع اضافية لا يسمى تكراراً لتعدد الموضوع ولتكرار لفظ (ربنا) خصوصية في كل مرة.
قانون التكليف بالممكن والميسور
لقد توجه المسلمون للسؤال لما يعنيهم ويخصهم ويقيض لهم أسباب الإطاعة واعلنوا تسليمهم لله تعالى واستعدادهم للإستجابة وانتظارهم للتكاليف، وفوضوا الأمر اليه تعالى وتوسلوا اليه بخصوص ماهية التكليف .
فلم يسألوا انعدام التكليف والإعفاء منه، ولم يقولوا اعفنا مما حملته الأمم السابقة، بل اعلنوا رضاهم بالتكليف واهليتهم للإمتثال الأحسن، ولم يسألوا المدد والقدرة على التحمل فيما لا يطيقون، بمعنى انهم لم يقولوا اعنا ووفقنا لأداء ما لا طاقة لنا به، انما اختاروا الأخف لأن [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، لا يكلف بما لا يطاق ابتداء او استدامة، وطلبوا عدم التكليف بما فيه مشقة وثقل.
لذا ترى التخفيف ظاهر في التكاليف ذاتاً وعرضاً، اما في ذات التكاليف فان المكلف يستطيع أداء الأكثر مما فرض عليه كما في الصلوات اليومية التي لا تأخذ من يومه الا بمقدار الواحد الى الخمسين، ولا تفرض عليه الا بعد بلوغه سن التكليف، وبالنسبة للزكاة فان مقدارها قليل يستطيع الغني أداءه من غير ان يؤثر سلباً على ما في يده .
وجعل الله سبحانه صلاة النوافل والصدقة المستحبة لمن اراد الإكثار من العبادة والإنفاق والتقرب إلى الله بهما، وكذا بالنسبة للصيام وان العبد يستطيع صيام أكثر من شهر.
ومن التخفيف العرضي تيسير أداء التكاليف وتهيئة أسبابها ودقة النظام في مقدماتها، فالأذان وصلاة الجماعة من التخفيف، وسرعة انقضاء ساعات الصيام وافاضات شهر رمضان من التخفيف، وهناك اسباب سكينة وآيات عديدة يحس بها العبد عند التوفيق لأداء العبادات فتجعله يقبل بشوق على العبادات فتصبح من افراد الإطاقة ، وهي من اللطف الإلهي ، الذي يختص باحصائه الله وحده.
وهل الرؤيا من مصاديق [مَا يُسِرُّونَ] في قوله تعالى [أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ]( )، الجواب لا ، لإرادة الفاعلية في كتم العبد لأسراره وإحاطة الله عز وجل علماً بها ، إنما الرؤيا من مصاديق قوله تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
بمعنى اصلاح الحالة النفسية والشوق لأداء الفعل والرغبة فيه، فالإطاقة التي سألها المسلمون اعم من ان تنحصر بذات الفعل العبادي ، بل تشمل أموراً :
الأول : أسباب ذات الفعل .
الثاني : مقدماته .
الثالث: الحال .
الرابع : الشأن وكيفية التلقي .
الخامس : انجذاب النفس له .
السادس : طرد الشيطان ، والحيطة من الوساوس .
السابع : دفع المعصية والرجس عن المكلف .
الثامن : الغبطة والسعادة عند التوفيق لأداء الفعل العبادي .
التاسع : إدراك المؤمن للأجر والثواب العظيم على أدائه كل فرد من أفراد الفعل العبادي .
و(عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله عز وجل، جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به .
وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)( ).
قوانين في تلاوة القرآن
من إعجاز القرآن أمور :
الأول : قانون تصرف الذهن والقلب في معاني ودلالات القرآن بشوق ومن غير ملل عند قراءته أو الإنصات له .
وهل لهذا التصرف والتفكر من أجر إضافي أم يبقى ذات الأجر على كل حرف عشر حسنات ، المختار هو الأول ، قال تعالى [أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ).
الثاني : قانون قراءة القرآن واقية من الضجر والسأم .
الثالث : قانون بعث تلاوة القرآن على الصلاح طوعاً وانطباقاً بفضل من الله عز وجل.
الرابع : قانون الأجر والثواب في قراءة كل حرف ، وكل كلمة من القرآن.
الخامس : قانون قراءة القرآن حرز ومادة وعون للإحتجاج به .
السادس : قانون تلاوة القرآن مدرسة في الصبر .
السابع : قانون تلاوة القرآن رجاء للفوز بحب الله.
ورود كلمة [يُكَلِّفُ] مرتين في القرآن
من الإعجاز في قوله تعالى [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، تجليات اللطف الإلهي ، والرحمة بالناس جميعاً ، فلا يشدد الله على الناس بكثرة التكاليف الإضافية ، ويؤاخذهم على التخلف عنها ، بل يسري قانون التكليف دون الطاقة والقدرة والتحمل على كل إنسان .
وقد ورد لفظ [يُكَلِّفُ] مرتين في القرآن ، احداهما في الآية أعلاه بالتكليف من الله ، لبيان أن أسمائه تعالى المُكلِف -بضم الميم وكسر اللام – وأنه ينفرد وحده بتكليف العباد ، وإنزال الشرائع والأحكام.
أما الثانية فهو قوله تعالى [لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا]( ).
والنسبة بين الآيتين عموم وخصوص مطلق ، فالآية أعلاه أعم ، وفيه إشارة إلى تخفيف واستجابة من الله عز وجل للدعاء في الآية الأخيرة من سورة البقرة ، ويدخل اليسر في الآية على التكليف بما يطاق لينقص ويقل ، وهو من بديع فضل الله عز وجل ورحمته بالناس بما تعجز الخلائق عن الإحاطة به كيفاً وكماً ، وعن إحصائه.
وذات اليسر مصاحب للعسر وغالب عليه لقوله تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
وهذا لايعني الجحود والتفريط بالواجبات ، وإرتكاب المعاصي ، لمجئ الإنذار المتعدد في القرآن ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا]( ).
قانون استدامة الرحمة
من أسماء الله تعالى (الرحمن) (الرحيم)، ومن الآيات ان هذين الاسمين معروفان لدى المسلمين وأهل الملل جميعاً، وقد وردا في البسملة وهي من أعظم آيات القرآن وفيها وجوه :
الأول : البسملة آية من كل سورة عدا براءة وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام.
ونسب إلى ابن عباس وابن عمـر وابن الزبير وأبي هـريرة، وأهل مكة كابن كثير، وأهل الكوفة كعاصـم والكسائي، وبه قـال الإمام أحمد بن حنبـل في رواية عنه وابن المبارك، واكثر أصحاب الشافعي، ومن التابعين عطاء وطـاوس وسـعيد بن جـبير ومكحـول والزهـري، وهو المختار.
الثاني : أنها آيـة مســتقلـة كانــت تنزل لبيـان الفصل بين السوّر وتحديد رؤوسـها، وبه قال مالـك والأوزاعـي وأكثر أصـحاب أبي حنيفة.
الثالث : هي آية من سورة الفاتحة دون سواها.
كما ورد الاسمان في سورة الفاتحة التي يقرأها المسلمون على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية واختصا بآية مستقلة هي قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ).
ولأن الله سبحانه الرحمن الرحيم وهو الهادي الى منازل الإيمان جاء سؤال طلب الرحمة من الله، وهذه الرحمة ليست ابتدائية بل انها مستديمة ومستمرة فأصل الخلق رحمة من الله تعالى، ودوام الحياة رحمة ، والتوفيق للإسلام رحمة، واجابة الدعاء ودفع الأسقام ودقائق النعم كل منها رحمة وفضل من الله تعالى، ان سؤال الرحمة اقرار بانحصار العظمة والجبروت بالله تعالى وانه استولى على كل ما دق وكبر .
ومن وجوه الرحمة دوام نعمة الإيمان والقرب من منازل التقوى والترقي في مراتب العبادة فان حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن رحمة الله تعالى بقاء باب التوبة مفتوحاً وعدم غلقه ما دام في الإنسان نفس.
وجاء سؤال الرحمة مطلقاً في موضعه وزمانه وحكمه ومصاديقه وشاملاً للنشأتين، ومن الرحمة استدامة الإيمان والمحافظة عليه والولد الصالح، وتعاهد الإيمان في الذرية والأعقاب والنجاة من أعداء الدين والقوم الظالمين.
وهناك فرق بين المؤمن والكافر في تلقي الرحمة، فالكافر لا ينال رحمة الله تعالى الا في الدنيا، أما المؤمن فانه ينالها في الدنيا والآخرة وبأبهى أفرادها وأحسنها في الكم والكيف .
لقد سألوا الرحمة مباشرة من الله تعالى من غير واســطة ، فبينما نزل القرآن بواسطة الملك على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وقام بتبليغه للأمة وأجــيالـها فان سؤال الرحمة لا حاجب او واسـطة فيه بـين المؤمنين، وبين الله عز وجل.
ومن مفاهيم الرحمة الإلهية ان فتح الله باب الدعاء للمؤمنين وأرشدهم اليه ولقنهم صيغه المباركة، فصــيغة الدعاء الواردة في هذه الآية لها قدسية خاصة وفيها اسرار ملكوتية ومنافع خاصة لا يعلمها الا الله عز وجل، لذا فان خاتمة سورة البقرة كنز وذخيرة وسلاح عقائدي مبارك يحتاج اليه كل مسلم ومن التخفيف ان جاءت ادعيتها بآية واحدة وبصيغة الجمع.
قانون عجز الخلائق عن إحصاء رحمة الله
لا يحصي رحمة الله على الخلائق إلا هو سبحانه ، وحتى إذا ارادت بعض أجناس الخلائق حساب وعدّ أفراد ومصاديق الرحمة فانهم يعجزون عن معرفتها ، فمنها ما لا يكون ظاهراً للخلائق ومداركهم وحواسهم ، وفي التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
وورد لفظ [أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] أربع مرات ، وكل واحدة منها على لسان نبي :
الأولى : في موسى في قوله تعالى [قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الثانية : على لسان يعقوب عليه السلام بقوله تعالى [قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الثالثة : في يوسف عليه السلام ، قال تعالى [قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الرابعة : في أيوب عليه السلام ، قال تعالى [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
لبيان مصداق لقانون (المسلمون ورثة الأنبياء) إذ يتلون كل يوم أدعية ومناجاة الأنبياء ، ولا يحصي تلاوة المسلمين لهذه الآيات إلا الله تعالى ، وفيه معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أسماء الله تعالى الولي، وهو الناصر والملك والمالك والذي يتولى شؤون الخلائق وتدبيرها والقادر على حفظها،لقد جاء الخطاب بلفظ [أَنْتَ مَوْلاَنَا]( ) وفيه مسائل:
الأول : ظاهره يدل على القرب.
الثاني : بلحاظ موضوع الدعاء والإقرار لله بأنه المتولي لكل نعمة فان اسم الإشارة ولغة الخطاب تدل على الخضوع والخشوع.
الثالث : تبين الآية التوجه إلى الله تعالى بمنتهى صيغ التذلل.
الرابع : الدعاء انقطاع إلى الله سبحانه، وإعلان لإنحصار الحاجة به سبحانه.
الخامس : مجيء الدعاء بصيغة الجمع يبين إقرار المسلمين بالحاجة النوعية للباري عز وجل ورحمته ، فليس من أحد ينصر أحد من دون الله تعالى.
والولي والمولى بمعنى، ولا تعارض بين هذا الحصر وبين قوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( )، لأن ولايتهـم مشتقة من ولاية الله وتأتي في طولها .
وكذا بالنسبة لقوله تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة]( )، فولاية الرسول مشتقة من ولاية الله تعالى وهي فضل ولطف وتخفيف منه تعالى على المؤمنين.
وقد اذن الله عز وجل وأخبر بها، فقابلها المؤمنون بالإنقطاع اليه تعالى وان ولاية الرسول لا تؤدي الى الغلو بمقام النبوة، وبهذا يمتاز المسلمون عن غيرهم من الملل، ويتصفون بالإنقياد التام لأوامر الله تعالى ، واللجوء اليه ، والإستجارة به وطلب النصرة والمدد منه سبحانه.
ولم يرد [أَنْتَ مَوْلاَنَا] ( ) في القرآن إلا مرة واحدة في خاتمة سورة البقرة ، ويتضمن المدح والثناء على الله بالإقرار بالولاية المطلقة له، وهو من اعجاز الآية بلحاظ كونه خاتمة السورة .
وعن جابر قال (لما نزلت آمن الرسول قال جبرئيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أحسن الله الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه فسأل لا يكلف الله نفساً الا وسعها حتى ختم السورة بمسألة محمد صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وحدة المسلمين العبادية
ترى الفوارق بين الفرق الإسلامية في المسائل الصــغروية ولا ترقى إلى مرتبة الفروق او مسائل اختلاف، لأنها لا تتعرض للأصل والفرع والحكم الشرعي وماهية التكليف، ومع ان الشــاذ النادر امــر شائع في كل القواعد والمفاهيم وانه لا يغير من الحقائـق وصحة القاعدة شيئاً الا ان الشـــاذ منــعدم في فتـــاوى علماء المسلمين فيما يخــص اصــل الأحكـام والعبادات وأجزائها.
فالإجماع على عدد الصلوات اليومية وركعاتها مثلاً بالإضافة الى الإجماع على وجوب الوضوء مقدمة لها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، وهكذا باقي الفرائض.
وتبين الآية تعاهد المسلمين على حصر الولاية بالله تعالى.
فمع التفاوت الزماني بين أجيالهم وانعدام التقاء الأجـيال، فكل جــيل في زمن غير زمان الآخر فانك تراهم تعاهدوا فيما بينهم التسليم بالولاية المطلقة لله تعالى .
وهذا من إعجاز القرآن ان يكون ميثاقاً ثابتاً لتجــديد العهد كل جيل يتبع الآخر ويدرك انه يشترك معه بهذا العهد والسابق يعلم ان الجيل اللاحق ســيتبعه في تســـليمه بالولاية المطلقة لله، وانهــا الأمانة التي جعلها الله عند أهل الأرض فانفرد المسلمون بحملها وتعاهدوها، بل إن المسلمين منتشـــرون في أمصار متعددة، وجاءت القيود السياسية والحدود الدولية الى جانب الفواصل الجغرافية ولم تقلل من الصلات بينهم، ولكنهم مجتمعون على هذا الميثاق وتعاهده على نحو الإجتماع والتضامن والإشتراك، فلا شيء يمنع من اتحادهم في الإقرار العملي بالولاية المطلقة لله تعالى، والتسليم بولاية الله للمسلمين ، فهو الذي يتولى أمورهم ، ويدبر شؤونهم ، ويهديهم سبل الرشاد ، وهذا التسليم المحور الثابت الذي تلتقي عليه كلمتهم ويعرف بعضهم بعضاً بالإتحاد في مقام العبودية والخضوع لله تعالى.
إنها مسكنة تتضمن الشرف والعز والرضا بالولاية والشكر على الهداية والتوفيق لها.
معنى الولاء
يدل لفظ (مولى) على المدح ويتعلق بالانتماء والولاء، وله في اللغة معان عديدة فيطلق على المالك والسيد والعبد والمعتِق والمعتَق والصاحب والقريب والجار والحليف والابن والعم والشريك والولي والرب والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصهر.
أما في اصطلاح علم الرجال فيطلق على غير العربي الذي يوالي قبيلة عربية، وبه يقول الأكثر بل هو الشائع عرفاً، أو لعتقه او عتق أبيه من قبل أحد رجال تلك القبيلة، والحلف غيره، فقد حالف وآخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الانصار والمهاجرين مرتين أي آخى بينهم وكل من الفريقين عربي.
لذا قد يطلق لفظ المولى على غير العرب، فيقال فلان عربي وفلان مولى، وكأنه مركب من أمرين:
الأولى : بدل لفظ أعجمي.
الثانية : ترتب على العتق له.
والظاهر انه أعم وان لم يكن معتقاً ولكن تركيبة المجتمع العربي وتقسيمه الى قبائل وافخاذ جعل المسلم الاعجمي الذي يعيش بينهم ينتمي بالولاء الى احــدى القبائل العــربية ولو بالســـكن في ربعهم وحيهم وارضــهم، وهذه اللفظة في المقام لا تفيد مدحــاً.
نعــم لو جــاءت بلفظ المصاحب والملازم فانها تفــيد ذلك ان كــانت الصــحـبة لمن عرف بالعلم والصـلاح، وتفيد ذماً اذا كانت الصحبة لكافر او ملحد.
كما يرد لفظ (غلام ) ومن غلمان فلان ويعني انه مولاه وعبده او انه تتلمذ على يديه وكان تابعاً له او صحبه وأخذ منه، بل ان التلاميذ وهو جمع تلميذ قد تطلق على الخدم والإتباع.
وعن بعضهم ان المراد منه المتعلم والخادم الخاص للمعلم، والعرف السائد ان المراد منها المتعلم .
وفي لسان العرب ذكر مادة تلمذ مع اختصــار في شــرحها، فقال (تلمذ: التلاميذ: الخــدم والأتباع واحدهم تلميذ)( )، مما يدل على ان الكلمة لم تكن من الكلمات الشائعة والتي يكثر استعمالها.
ولكن ورد عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال لهشام بن الحكم : يا هشام علمه فاني احب ان يكون تلماذاً لك” دلالة على ان المراد منه التعلم.
وهو في اللغة يطلق على الذكر أول ما يبلغ( ) وهذه اللفظة لا تفيد مدحاً ولا ذماً، نعـم لو كانت تفيد الصحبة والملازمة فانها تفيد ذلك في حال الورع والتقوى،لأنها نــوع تأدب ورفقة طويلة وحسن صحبة.
الولاية لله
لقد توجه المسلمون الى الله باعلان الولاية لله تعالى على نحو الإطلاق لأنها الوسيلة لإحراز النصر والظفر على الأعداء ، ويدل قوله تعالى [أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، على ان النصر بيد الله تعالى ولا يمنحه الا لأوليائه، وان ظهور الكافرين في بعض المعارك ليس نصراً انما هو من الإستدراج والإفتتان ، قال تعالى [أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( )، ويمكن الخروج بنتيجة وفق القياس الإقتراني وهي :
الكبرى : النصر بيد الله لا يمنحه الا لأوليائه.
الصغرى : المؤمنون أولياء الله.
النتيجة : النصر للمؤمنين.
نعم جاءت الآية على سبيل الدعاء والتوسل وليس في ظاهرها ما يدل على حصول الإستجابة ولكنها تجلت بوضوح في معارك الإسلام الأولى، والنصر اعم من تحققه في المعركة وسوح القتال .
فمنه الحجة والبرهان وإراءة الآيات واثبات ان الإسلام دين سماوي وان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق، وهذا النصر أكبر من النصر في المعارك والقتال في أحيان كثيرة، لذا ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمد قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء)( ).
ومن النصر العز والرفعة للمسلمين وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه وهويته وذاته ورفعة الإسلام وقوته، ومن النصر بعث الخوف في قلوب الكافرين واجتنابهم التعدي على الثغور الإسلامية وحقوق المسلمين المادية والإعتبارية، والإعلان العالمي لإكرام مقدسات المسلمين، ولحوق الخزي والفضيحة لمن يحاول التعدي عليهم في مبادئهم.
سيادة التوحيد
لقد تجلت معالم الإسلام عقيدة روحية وعملية يومية منبسطة على جميع أرجاء الأرض ومنتشرة في مختلف البلدان، فمع التداخل الحضاري لم يعد أحد يجهل فلسفة الإسلام وثبات المسلمين على التوحيد والتصديق بالكتب السماوية والإيمان بجميع الرسل من غير تمييز بينهم ، قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ) ، وهو أمر موافق للمقولات العامة التي تدعو الى التقارب بين الحضارات، بمعنى ان الإسلام دعا اليها قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ولا زال الناس متخلفين عن دعوة الإسلام، الأمر الذي يعني مقدمة كريمة لمنع تأثر المسلمين السلبي بالنظريات الجديدة، بل بالعكس فان هذه النظريات واطروحات التقارب مناسبــة كــريمة لإظـهار وجوه الإعجاز في القرآن وخواتيم سورة البقرة .
ومن النصر على الكافرين عودتهم الى ما يدعو اليه الإسلام من الإتحاد في الإيمان ، واعطاء الأولوية للتوحيد والتصديق بالنبوات واقتباس الأحكام.
ولقد جعل القرآن الإيمان التام أهم الثوابت التي يجري على أساسها التقارب، وبذا وضع الحواجز دون الزيغ والتهاون وغلبة الهوى والتفريط وتقديم رغبات النفس الشهوية والمنافع الدنيوية والإنصات الى أصوات الطواغيت واعوان الشياطين، فالصلة مع المشركين لها مضمون واحد هو النصر عليهم وليس الإلتقاء معهم لأن الواجب يقتضي اتخاذهم التوحيد والإيمان رداءً.
قانون من النصر إنتفاء العدو
لقد بينت آيات القرآن التناقض بين الإيمان والكفر ولم تكتف ببيانه بل أخبرت عن حاجة المسلمين الى النصر على الكافرين كحاجتهم الى العفو وسؤال عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ ورجاء العفو والمغفرة وهي أمور يحتاجها المسلم في آخرته اكثر من حاجته لها في دنياه، فلابد ان النصر على الكافرين يحتاجه المسلمون في آخرتهم ايضاً بثواب الدفاع والصبر مقدمة لأداء العبادات والمواظبة على الطاعات.
ومن النصر على الكافرين انتفاء موضوع الكفر في المحلة والقرية والبلدة، ويمكن ان نشرع قانوناً وهو ( من النصر انتفاء العدو)، وجاء الدعاء بطلب النصر من عند الله تعالى للإمتناع عن اتباع صيغ غير شرعية في محاربة العدو وقتاله ومناظرته والتعامل معه، لذا وضعت ضوابط دقيقة وقواعد ثابتة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإجتناب القتال إلا في حال الدفاع.
فطلب النصر من الله تعالى يعني اجتناب الحرام في المعاملة ومنه الهداية الى أفضل السبل للجهاد وتهيئة مقدماته، وقد يكون من النصر الصبر والإمهال والرفق والعفو.
وقد وردت آيتان في موضوع الإقتراب من التقوى والفوز بمرضاة الله بقوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، وقال تعالى [اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
ويبين قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا]( )، فلسفة أخذ الحيطة والإستعداد للمواجهة وعدم الغفلة او الركون للكافرين في أفعالهم وأقوالهم، ومن مفاهيم طلب النصر على جهة ما الحذر منها والتوقي من غدرها.
قانون السورة القرآنية دعوة للإيمان
من الإعجاز في تقسيم القرآن إلى سور تفصل بينها آية البسملة أن كل سورة كنز سماوي ، وهي مادة للهداية والرشاد .
سورة البقرة اسماً ومسمى دعوة للإيمان ، ومدرسة للأجيال ، وآية سماوية بين الدفتين، وقد ورد لفظ (البقرة) بصيغة المفرد اربع مرات في القرآن كلها في سورة البقرة على التعاقب في الآيات (67-68-69-71).
وتشير كلها الى موضوع شخصي وقصة بقرة واحدة، كانت آلة ملكوتية ، في اثبات نبوة موسى وكشف الحقائق والمنع عن التعدي والباطل كما ورد بصيغة الجمع خمس مرات، واحدة في سورة البقرة في الآية السبعين ضمن التسلسل أعلاه ، واثنتين في سورة الأنعام ، ومثلهما في سورة البقرة.
في بيان فضل الله عز وجل على الناس في الأنعام وحليتها وتسخيرها في أمور الدين والدنيا .
وسأل رجل الإمام علياً عليه السلام (عن الهدي ، ممَّ هو .
قال : من الثمانية الأزواج ، فكأن الرجل شك .
فقال علي : تقرأ القرآن ، فكأن الرجل قال نعم .
قال : أفسمعت الله يقول [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ]( )، قال : نعم .
قال : وسمعته يقول [لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ]( )، [وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا]( )، فكلوا من بهيمة الأنعام ، قال : نعم .
قال : أفسمعته يقول [مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ* وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ]( )، قال : نعم .
قال : أفسمعته يقول [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ]( )، إلى قوله [هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ].
قال الرجل : نعم .
فقال : إن قتلت ظبياً فما علي ، قال : شاة .
قال علي : هدياً بالغ الكعبة .
قال الرجل : نعم .
فقال علي : قد سماه الله بالغ الكعبة كما تسمع)( ).
وورد بالإسناد عن بريدة قال (قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول : تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة.
قال : ثم سكت ساعة، ثم قال : تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمابتان أو غيايتان، أو فرْقان من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني .
فيقول : ما أعرفك.
فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا .
فيقال : بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا) ( ).
وفي الحديث وجوه :
الأول : اقتران سورة آل عمران مع سورة البقرة في الفضل.
الثاني : الحديث دعوة لتعلم سورة البقرة وسورة آل عمران مع ان التعلم أعم من التلاوة والقراءة، وبين القراءة والتعلم عموم وخصوص مطلق، فكل تعلم هو قراءة بالذات أو الواسطة وليس العكس.
لأن تعلم السورة القرآنية ليس تعلماً لموضوع أدبي او فقهي كي تكون النسبة عموماً وخصوصاً من وجه.
الثالث : روي عن عبد الله بن مسعود انه قال: (كان الرجل اذا تعلم سورة البقرة جد فينا أي عظم)( ).
الرابع : يؤكد الحديث وجود علوم وافاضات في سورة البقرة وآل عمران ويحث المسلمين على تعلمهم وأبنائهم السورتين .
وصيغة الحديث جاءت بلغة الأمر (تعلموا)، والذي يحمل على الوجوب الا مع القرينة الصارفة على الإستحباب والظاهر ان المراد هنا الإستحباب لحصر الواجبات.
الخامس : يدل الحديث على موضوعية علم التفسير والتأويل والحاجة اليه، والى استخراج كنوز سورة البقرة وآل عمران.
السادس : يقال زهر الشيء: صفا لونه واضاء، واليوم الأزهر هو يوم الجمعة، ويقال رجل أزهر أي ابيض مشرق الوجه، وفي صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه أزهر اللون ، ونعت سورة البقرة وآل عمران بانهما زهراوان مدح مستقل وإخبار عما تبعث كل سورة من الضياء والنور.
السابع : التظليل يوم القيامة أمان ورحــمة ، والغمامة واحدة الغمام وهي السحابة البيضـاء، والغيابة الهبطة والســتر كعنــوان للأمن والسلامة من العذاب، والفرقان- بكسر الفاء- القطعتان أي ان كل سورة لها نفع عظيم على نحو مستقل عن الأخرى.
وستبقى سورة البقرة مدرسة عقائدية وإفاضة ملكوتية، ورحمة ساهمت في الإرتقاء الأخلاقي، وبيان وتثبيت أحكام الشريعة في الأرض الى يوم القيامة وكذا بيان الأحكام الشرعية في سورة آل عمران .
ولا يحصي ثواب قراءة المسلم لسورة البقرة وآل عمران إلا الله عز وجل ، لقد أنزل الله القرآن ليتجلى عجز الملائكة عن إحصاء النعم الدنيوية والآخروية التي تترشح عن تلاوته والتقيد بسننه وأحكامه .
كلمة واحدة جملة مفيدة
كلمة [فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ] جملة من حرف عطف وفعل وفاعل ومفعول به أول ومفعول به ثاني .
وهو من الإعجاز في عربية القرآن واحاطة كلماته المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث .
[فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ] أكثر كلمات القرآن حروفاً ، وعدد حروفها أحد عشر حرفاً.
وتأتي بعدها كلمة [أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ]( )، وعدد حروفها عشرة حروف .
و[أَنُلْزِمُكُمُوهَا] كلمة تفيد جملة مفيدة
الهمزة : للإستفهام .
نلزم : فعل مضارع .
كم : ضمير في مفعول به .
الواو : حركة لإشباع الميم ، ويقال في الصناعة النحوية أنها زائدة ، والمختار ليس من زائد في القرآن فيجب أن يكتفى بالقول أنها حركة لإشباع الميم ونحوه .
ها : ضمير مفعول به ثان .
والفاعل نحن يعود لله عز وجل ورد بصيغة الجمع للتعظيم .
ومن إعجازالقرآن إنفراد الله عز وجل بصيغة الجمع للتعظيم ، فلا يطلق هذا اللفظ على المفرد من الإنس أو الجن أو غيرهما من الخلائق.
[أَنُلْزِمُكُمُوهَا] جملة إنشائية تامة .
وقد يجتمع المدح والذم في آية واحدة بلحاظ عالم الفعل ، وموضوعية التخيير المقرون بالتكليف كما في قوله تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
أما ثالث أطول كلمة في القرآن فهي [فَسَيَكْفِيكَهُمُ] وهي جملة مفيدة .
الفاء : رابطة لجواب الشرط المقدر .
السين حرف استقبال يفيد القرب في مقابل سوف للبعيد ، لبيان سرعة نزول المدد والعون والكفاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل .
يكفي : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة المقدرة.
الكاف : ضمير مفعول به أول .
هم : ضمير متصل مفعول به ثان .
الله : لفظ الجلالة فاعل مرفوع .
وجملة [فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ] جملة إنشائية تامة.
وعلم إحصاء الجمل الخبرية والإنشائية في القرآن ، وكذا علم إحصاء المدح والذم في القرآن لا يقدر عليه الذكاء الإصطناعي فلابد من تتبع كلمات القرآن كلمة كلمة ، في كل إحصاء منها ، ومن الأوامر والنواهي.
وقد يتضمن الخطاب القرآني الواحد المدح والذم وفق السبر والتقسيم كما في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] إذ يتضمن المدح والشكر للمؤمنين ، والذم والتوبيخ للكافرين بحسب موضوع الآية ، منه مثلاً [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( )، [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( )، وهذه الآية الوحيدة من بين عشرين آية تضمنت النداء العام [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] لم يأت النداء في أولها ، لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنه قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( )، ففيه تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوبيخ ووعيد للذين كفروا .
ومع ورود [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين خطاباً مباشراً في القرآن من عند الله للمسلمين والمسلمات فلم يأت الخطاب للذين كفروا إلا بالآية أعلاه وبواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون الدنيا دار ثواب الحمد لله
لقد خلق الله عز وجل الأكوان والجن والإنس لطفاً منه تعالى ، وآية في بديع صنعه ، وعظيم قدرته وسلطانه ، وجعل الحمد لله قانوناً وضابطة كلية في كل جنس من الخلائق ، واختار الله عز وجل الإنسان للخلافة في الأرض .
وجعل عليهم ملائكة يحصون أقوالهم وأفعالهم ، ولم يكن هذا الجعل سراً بل أخبر الله عز وجل الناس جميعاً وهو من ضروب حاجتهم إلى البلاغ من عند الله ، فبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لبيان خصائص الخلافة وأن الدنيا مزرعة للآخرة ، وأن الحمد لله واجب على كل إنسان ، ويصير الملائكة في حال غبطة عند كتابة قول الحمد لله ، أما ثوابه فانهم يعجزون عن الإحاطة به علماً.
و(عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ)( ).
ولا يعلم الأجر والثواب على الحمد لله إلا الله عز وجل لأن هذا الأجر مفتوح من جهة الزيادة والمضاعفة مع تقادم الأيام في حياة قائل الحمد لله وبعد مماته لقانون قول الحمد لله إدخار في النشأتين.
لذا ورد (عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد ينعم الله عليه بنعمة إلاَّ كان (الحمد) أفضل منها)( ).
وفي قول الحمد لله منافع لا يحصيها إلا الله منها :
الأول : الحمد لله دعاء ، وهل منه قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، في سورة الفاتحة ، الجواب نعم ليجتمع الدعاء مع القرآنية ، وهل هو من الشواهد على وراثة المسلمين للأنبياء في مناجاتهم وكنوز الدعاء .
الثاني : قول الحمد لله دعاء وتسليم بأن النعم كلها من عند الله عز وجل .
الثالث : قول الحمد لله ذكر لله عز وجل باللسان والذي ينعكس على الأركان ، قال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ]( ).
الرابع : قول الحمد لله باعث للسكينة في النفوس ، قال تعالى [أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الخامس : وردت أحاديث في السنة النبوية هي ثروة بخصوص الحمد لله .
منافع آيات النار
لقد صدر والحمد لله الجزء الخامس والأربعون بعد المائتين والسابع والأربعون بعد المائتين ويختصان بعلم (الإحصاء القرآني غير متناه)( ).
وبلحاظ الآيات التي تتضمن بيان سوء حال الذين يدخلون النار ، وإجتماع ضروب الأذى والضرر عليهم.
ومن بدائع خلافة الإنسان في الأرض وجود أمة في كل زمان تستحضر عذاب النار وشدته والأسباب التي تؤدي إليه ، من الكفر والمعاصي والظلم وسفك الدماء بغير حق ، فيحرصون على الإبتعاد عنها ، وهذا الحرص كيفية نفسانية وقول وفعل لا يحصيها إلا الله عز وجل وهو من بركات استحضار عذاب النار ورجاء الثواب الأخروي.
لذا جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على المسلمين ، ومنه في المقام الأمر بالصالحات التي تحجب النار عن الإنسان في الآخرة ، والنهي عن المعاصي التي تجعل الملائكة يسوقونه إلى النار ، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
ومن خصائص أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم الإستهانة بالذنوب ، فنراهم يتناجون باجتنابها ، كما أن الفرد الواحد منهم يخشى الله بالغيب ، ويمتنع عن الفواحش ، ولا يعلم بهذه الخشية إلا الله عز وجل .
فصحيح أن الملائكة يقومون بتدوين الأعمال ، ولكنهم لا يعلمون بالأسباب والمقاصد النفسية منها ، التي لا يعلمها إلا الله عز وجل لذا يأتي الأجر والثواب على نية العمل الصالح ، وعلى النية والعزم على إجتناب السيئات .
ومن آيات النار وصفتها في القرآن هي :
الأولى : قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا]( ).
وهل تلاوة القرآن واقية من النار ، الجواب نعم ، سواء للقارئ أو السامع ، وهو من أسرار وجوب تلاوة القرآن على كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم .
ولا يحصي منافع تلاوة آيات القرآن في الصلاة في الوقاية من النار يوم القيامة إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق نعت القرآن بالذكر والبركة ، قال تعالى [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ]( ).
قانون الإطلاق في بركة القرآن
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الخير والبركة وزيادة الفيوضات الإلهية على الناس ، وهو من أسرار وعلة خلق الناس.
فمن معاني [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ]( )، وجوه :
الأول : أفيض على الجن والإنس ليعبدونِ .
الثاني : اديم النعم على الجنس والإنس ليعبدونِ .
الثالث : احيط الدنيا بالبركات الظاهرة والخفية ليعبدونِ.
ولا يحصي هذه البركات إلا الله عز وجل وحده .
الرابع : تفضل الله بتهيئة مقدمات العبادة للناس جميعاً ، ومنها النبوة والتنزيل ، ومنها الرئاسات العامة ، وشؤون الملك التي تكون عوناً للناس لتقريبهم لعبادتهم لله عز وجل .
الخامس : ينزل الله عز وجل الغيث من السماء للرزق الكريم الذي هو مقدمة للعبادة ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ]( ).
ويتجلى قانون الملازمة بين التنزيل والبركة كل يوم ، وتعددت الآيات التي تتضمن الإخبار عن بركة القرآن منها :
الأولى : قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وسورة الأنعام مكية مما يدل على ترغيب أهل مكة بالإسلام وكانت قريش أهل تجارة وأصحاب أموال ، كما في قوله تعالى [لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
فهل اتباع القرآن وأحكامه يزيد من أموالهم ويرفع من شأنهم بين الناس ، الجواب نعم .
ولكنهم اختاروا محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فانشغلوا عن التجارة ، وسخروا إبلها ورؤوس الأموال في القتال والعدوان وغزو المدينة لبيان قانون الخسارة بعدم إتباع القرآن بينما فاز الذين اتبعوا القرآن من أهل البيت والمهاجرين والأنصار .
ومن فضل الله عز وجل استدامة وتجدد البركة ، فالذين تابوا وآمنوا من قريش شملتهم البركة بمعجزة للقرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأيهما أكثر بركة القرآن في الدنيا أم في الآخرة ، الجواب هو الثاني ، ولا يعلم أفراد ومصاديق وكيفية البركة في الدنيا أو الآخرة إلا الله عز وجل .
ليكون من معاني قوله تعالى [هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ] أي مبارك في الدنيا والآخرة .
بركة القرآن في الآخرة
النسبة بين الآخرة ويوم القيامة عموم وخصوص مطلق ، فالآخرة أعم ، وتبدأ من دخول القبر .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من مات فقد قامت قيامته)( ).
وتأتي البركة في الآخرة من وجوه :
الأول : الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
الثاني : الأجر والثواب على الصالحات في الدنيا .
الثالث : البركة ومضاعفة الثواب ساعة الفعل الصالح ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
الرابع : من بركة القرآن أنه شفاء ورحمة ، وواقية للبيوت والنفوس من الشيطان ، وهذه الواقية خير محض ونفع في الدارين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا تجعلوا بيوتكم مقابر ان الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)( ).
الخامس : البركة التي تأتي للإنسان بعد وفاته ، ومن مصاديقها عدم الإختصاص بالفعل العبادي له ، إنما تشمل ذكر واستغفار الصالحين من أهل الدنيا له .
السادس : بركة القرآن في عالم البرزخ ، وصيرورته انيساً وحارساً لمن حفظ آياته .
و(عن ابن عباس قال : ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر ، وهو لا يحسب أنه قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها ، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر.
فإذا إنسان يقرأ سورة الملك (تَبَارَكَ) حتى ختمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر)( ).
السابع : بركة التنزيل يوم القيامة بحضوره شفيعاً وشاهداً لمن قرأه ، ومن عمل بأحكامه ، ومن سهر الليل في التدبر في علومه ، واتخذه حجة ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
و(عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه)( ).
وقد وردت صفة مبارك للقرآن بصيغة التنكير في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ويفيد التنكير في مقام الإثبات الإطلاق .
فليس من حصر لوجوه البركة في القرآن من جهات :
الأول : الموضوع .
الثاني : الحكم .
الثالث : التخفيف عن الناس .
الرابع : شمول البركة للذي يتلو القرآن والسامع وغيرهما.
الخامس : عدم وقوف بركة القرآن لخصوص المسلمين بل يعم أهل الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس : قانون جذب القرآن الناس للتوبة وعمل الصالحات .
السابع : بركة القرآن في درء المفاسد ، وفي حجب إغواء الشيطان.
وهل بركة القرآن من مصاديق تصديقاً للكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل بقوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : القرآن شاهد على ما في الكتب السماوية التي أنزلت على الأنبياء السابقين من البركة .
الثاني : قانون حفظ بركة الكتب السماوية السابقة في القرآن ، قال تعالى [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
الثالث : حفظ القرآن لأحكام الشرائع السماوية ، وسلامته من التحريف أو الزيادة أو النقيصة.
يوميات علمية للمرجعية الإسلامية
المرجع الصالح الطائي
بفيض من ألطاف الله عز وجل الظاهرة والخفية تم هذا اليوم 19-1-2024 إتمام روضة ناضرة من معالم الإيمان الجزء (257) [إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ].
والمساهمة في تنضيده وطبعه ونشره من الخمس والحقوق الشرعية مبرئة للذمة ، وفيها الأجر والثواب.
العدد : 19/24 في 19/1/2024
يتجلى الإعجاز في آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] من وجوه منها :
الأول : سبب نزول الآية أعلاه هو معركة أحد التي وقعت في (15) شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ويذكر علماء السيرة والتفسير هذه المعركة بأنها غزوة للنبي محمد (ص) وكأنه هو الغازي.
والحق أن مشركي قريش هم الغزاة إذ قطعت جيوشهم مسافة (450)كم من مكة إلى مشارف المدينة مع العزم على اقتحامها واستباحتها ، فقطعوا هذه المسافة ليقطعهم الله [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا].
الثاني : موضوع الآية متجدد وباق إلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على قانون بقاء آيات القرآن غضة طرية إلى يوم القيامة .
الثالث : من معاني صيغة الجمع في الآية [فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] قذف الخوف والفزع في قلوب الرؤساء والأتباع من الذين أشركوا وليخيم الرعب في معسكرهم.
من الجزء (257) من معالم الإيمان
العدد : 20/24 في 20/1/2024
لقد قمتُ بتقسيم إعجاز الآية القرآنية إلى 1-الإعجاز الذاتي 2- الإعجاز الغيري ، ومن الأول ورود أربع صفات عظيمة للقرآن في شطر آية واحدة لم ترد في وصف أي كتاب سماوي أو ملك ، إذ قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ].
ومن الإعجاز الغيري لهذه الآية تحقق ملايين المصاديق لها كل يوم بتقوى وأداء المسلمين الفرائض العبادية ,وبالرحمة المتصلة والرزق الكريم من عند الله عز وجل.
ومن هذا الإعجاز والتبيان المطلق صيرورة السنة النبوية القولية والفعلية وتوثيقها مرآة لصفات التبيان المطلق والهدى والرحمة والبشارة في الآية .
العدد : 21/24 في 21/1/2024
بين البسملة والتسمية
البسملة هي قول (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي آية من القرآن .
أما التسمية فهي قول (بسم الله) وهي من الذكر ، ويؤتى بالتسمية عند الإبتداء بالوضوء ، وذبح الحيوان ، والصيد ونحوه.
العدد : 22/24 في 22/1/2024
اختراق الرعب لقلوب الكفار يوم معركة أحد معجزة حسية غيرية للنبي محمد (ص) ووعيد وإنذار لهم بالخيبة والخسران في معركة الأحزاب ، وحُنين ، وتخفيف وبشارة عن النبي (ص) والمؤمنين , قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ].
العدد : 23/24 في 23/1/2024
النسبة المنطقية بين الذين آمنوا والمؤمنين عموم وخصوص مطلق ، فكل مؤمن هو من الذين آمنوا وليس العكس .
وعن الإمام الصادق عليه السلام: يدخل في [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] المنافقون والضُلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة/ البحار 11/148.
العدد : 24/24 في 24/1/2024
من معجزات النبي محمد (ص) معجزة كثرة الصحابة ، فلم يغادر الدنيا إلا وعدد أصحابه نحو مائة ألف مدة النبوة (23) سنة ، اختاروا النطق بالشهادتين وأداء الفرائض العبادية، وجاهدوا الكفر والضلالة وعبادة الأصنام ، لتتوالي عليهم النعم ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا].
العدد : 25/24 في 25/1/2024
من معجزات النبي محمد (ص) وقانون تجدد نصر الله عز وجل له , قانون سلامة المدينة المنورة من الإستباحة حتى عندما زحف عشرة آلاف مقاتل من كفار قريش وحلفائهم عليها في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة في معركة الخندق [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا].
العدد : 26/24 في 26/1/2024
من إعجاز القرآن الغيري تفقه المسلمين والمسلمات في الأحكام والسنن والعلم العام بأن خطاب جمع الذكور في القرآن يفيد اشتراك الرجال والنساء في الأحكام إلا ما خرج بالدليل ، وفي قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ].
ورد التذكير مرتين في ذات نداء التشريف وفي ضمير جمع الذكور في [عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ] ولوحدة الحكم والتكليف يدرك الجميع شمول المسلمات بهذا الخطاب والتكليف لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
العدد : 27/24 في 27/1/2024
معجزة انقطاع الإبادة الجماعية برسالة محمد (ص)
وقعت حرب داحس والغبراء في أواخر العصر الجاهلي بين فرعين من قبيلة غطفان , بين قبيلتي عبس وذبيان ، ودخلت معهم قبائل عديدة مثل فزارة ، وشيبة ، وأسد ، وطي .
وبلغ عدد القتلى فيها نحو (156) ألف قتيل قتل فيها عروة بن الورد وعنترة بن شداد وحمل بن بدر , وسببها حدوث غش ومكر في رهان لسباق بين الحصان داحس والفرس الغبراء , أيهما يسبق , ومقدار الرهان مائة من الإبل , ومثلها في الإبادة وطول المدة حرب البسوس .
لتنقطع برسالة النبي محمد (ص) حروب الإبادة بين العرب بدخول القبائل الإسلام ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ].
العدد : 28/24 في 28/1/2024
الإسلام دين العلم والمعرفة
أول كلمة نزلت من القرآن [اقْرَأْ] إذ قال تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] مما يدل على أن الإسلام دين العلم والمعرفة والسلم والإحتجاج.
وعندما تم أسر سبعين من الكفار يوم بدر اشترط النبي على عدد منهم لفك أسرهم تعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة .
العدد : 29/24 في 29/1/2024
معجزة صلح الحديبية
بعد سنة من معركة الخندق التي غزا فيها عشرة آلاف من المشركين المدينة المنورة تم عقد صلح الحديبية في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ليدخل الإسلام بسنتين بينه وبين فتح مكة أكثر من الذين دخلوه في (19) سنة وهي السنين السابقة من حين بعثة النبي محمد (ص) لقانون الإسلام دين السلام, وأنه انتشر بالحجة والمعجزة والبرهان ونزل بخصوص هذا الصلح قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا].
العدد : 30/24 في 30/1/2024
ذكر الله الإنسان قبل خلقه بعنوان [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة] وأمر الملائكة أن يسـجدوا لآدم طاعة لله قال تـعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] وهو تشريف وإكرام للناس يجب أن يقابل بالشكر لله وعمارة الأرض بالتقوى والمودة العامة.
العدد : 31/24 في 31/1/2024
من معجزات النبي محمد (ص) في باب الأسماء والكنى نسيانك اسم عمرو بن هشام بن المغيرة حالما تسمعه ، ولا تذكر منه إلا كنيته(أبا جهل) التي سمّاه بها النبي (ص) فذهبت شياعاً لشدة إيذائه للنبي (ص) والمسلمين والمسلمات الأوائل .
وفي معركة بدر أصرّ أبو جهل على الإبتداء بالقتال فلقى حتفه في ساعاتها الأولى .
العدد : 32/24 في 1/2/2024
النسبة بين الوحي والقرآن هي العموم والخصوص المطلق ، فالوحي أعم ومنه الحديث القدسي والسنة النبوية، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى].
والقرآن كتاب الله المعجز الذي نزل جبرئيل بالفاظه وكلماته.
العدد : 33/24 في 2/2/2024
معجزة كثرة الأوامر من الله عز وجل إلى النبي محمد (ص) ولحوق أجيال المسلمين به ، إذ ورد لفظ (قل) في القرآن (332) مرة منها (328) مرة إلى النبي محمد (ص) ، وكل مرة منها هي ذكر وإكرام له ، وتقدير هذه الآيات (قل يا محمد) إلى جانب أوامر بصيغ أخرى مثل [أَقِمِ الصَّلَاةَ] [قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا] والنواهي المتعددة .
مما يدل على أنه أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن .
العدد : 34/24 في 3/2/2024
المراد من النفس
نزل قوله تعالى [لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا] بلفظ النفس، والمراد من النفس وجوه :
الأول : ذات الشيء ، والإنسان روحاً وجسداً كما في قوله تعالى [فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ].
الثاني : الجوهر المتعلق بالأجسام تعلق التدبير والتصرف.
الثالث : اسم النفس الحيوانية لكل حساس.
الرابع : اسم النفس الناطقة.
الخامس : الباقي من الإنسان بعد الموت.
السادس : المزاج الذي هو عبارة عن اعتدال الأركان والأخلاط.
السابع : الروح ، كما في قوله تعالى في حال الإحتضار [وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ].
والمراد في المقام وعنوان التكليف هو الأول أي ذات الإنسان كمكلف ومركب من جسد وجوارح وروح لاشتراكها في أداء التكاليف .
العدد : 35/24 في 4/2/2024
الحمرة المشرقية هي حمرة في السماء من جهة المشرق تزول بعد غروب الشمس ليأتي بعدها الشفق وهو حمرة من جهة المغرب بزوالها ينتهي وقت صلاة المغرب , ويأتي بعد الشفق الغسق ، وتحدث حمرة مشرقية أخرى قبل طلوع الشمس هي آخر وقت فضيلة صلاة الصبح.
العدد : 36/24 في 5/2/2024
لقد كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ترجمان القرآن ، ومبيناً لمعارفه ، وهو من مصاديق حديث الثقلين.
ومع شدة البلاء والسجون التي تعرض لها فقد كان الإمام يحضّ الناس على التدبر في أحكام وسنن وإعجاز القرآن ، ويدفع الشبهات عنه.
العدد : 37/24 في 6/2/2024
قانون سدّ الذرائع
الذرائع جمع ذريعة وهي الوسيلة والسبب والوصلة إلى الشئ ، وسدها في الإصطلاح منع الفعل المباح والسالم من المفسدة إذا كان يؤدي إلى مفسدة وأمر محظور ، أي أن النسبة بين المعنى اللغوي والإصطلاحي للذريعة هو العموم والخصوص المطلق ، فالأخير هو الأخص.
ومنه قوله تعالى [وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ].
فمع أن سبّ وذم الأوثان وآلهة المشركين الزائفة تعظيم لشعائر الله ، فقد نهى الله عز وجل عنه لصيروته ذريعة لسب الله عز وجل فالمصلحة العامة بترك سب الله عز وجل أولى من مصلحة سبّ آلهة المشركين .
ولأن النفع العام بالإحتجاج وإقامة النبي (ص) والمؤمنين البرهان على التوحيد , ولكفاية ذم القرآن لعبادة الأوثان وبيانه لسوء عاقبتها .
العدد : 38/24 في 7/2/2024
عندما بلغ النبي محمد (ص) أربعين سنة قمرية بدأت البعثة النبوية ، وكان لستة أشهر لا يرى رؤيا إلا تحققت كفلق الصبح ، ثم نزل عليه الوحي في غار حراء الذي كان يتحنث فيه [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ].
وقد هالته رؤية جبرئيل باليقظة ، فرجع إلى زوجه خديجة لتبدأ الدعوة السرية ، وتليها الدعوة العلنية [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ].
وليتوالى نزول آيات القرآن كمعجزة عقلية لم يشهد لها ولمنافعها العظيمة التأريخ مثيلاً.
العدد : 39/24 في 8/2/2024
معجزة أصحاب الصُفّة
الصُفّة – بالضم – السقيفة – ، وهي بجوار المسجد النبوي محلاً لإيواء فقراء المهاجرين الذين ليس لهم مأوى أو مسكن ، ويتعلمون فيها القرآن ، ويحضرون الصلاة اليومية مع النبي (ص), ويخرجون في السرايا ، ويزيد عددهم أو ينقص ، وقد يصلون إلى (300) أحياناً وليس لهم مهنة أو عمل يناسبهم ، وكانوا يتوزعون على الصحابة عند الغذاء ، ويتولى النبي (ص) إطعام بعضهم ونزل بعض الأنصار الصفة مواساة لهم .
وأصحاب الصُفة معجزة غيرية للنبي محمد (ص) وكذا تَحَسن حياتهم فيما بعد ليورث عدد من أهل الصفة أموالاً طائلة فمثلاً ترك خباب بن الأرت مالاً قدره أربعون ألف دينار , وترك عبد الله بن مسعود تسعين ألف درهم ، ودفع عثمان لورثته بـ(25) ألف أخرى كان قد حبسها لسنتين .
وكانت تركة الزبير بن العوام نحو (35) مليون درهم عدا الأراضي الزراعية كما أنه اتجه إلى شراء العقارات في المدينة والكوفة والبصرة والفسطاط وغيرها .
وقدرت تركة طلحة بن عبيد الله بـ(600) ألف دينار ذهب ، ونحو مليوني درهم فضة عدا الدور والأراضي الزراعية , وكانت له ضيعة في العراق يقدر دخلها بنحو (400) ألف درهم سنوياً.
العدد : 40/24 في 9/2/2024
آية الضمائر
وهي التي انفردت بين آيات القرآن باجتماع خمسة وعشرين ضميراً فيها [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ].
العدد : 41/24 في 10/2/2024
قانون ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية.
كما في قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا] فالوصف هو السرقة ، ويترتب عليها الحكم وهو القطع ، إن تحققت شرائط السرقة كما مبين في السنة النبوية.
العدد : 42/24 في 11/2/2024
في كتيبة رسول الله (ص) إلى بُواط في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة مرت عير لقريش برئاسة أمية بن خلف، وفيها ألفان وخمسمائة بعير محملة بالبضائع ، وليس معها إلا مائة رجل .
وكان مع النبي (ص) مائتان من الصحابة لو شاء لاستولى على القافلة بسهولة .
وهو من الشواهد على عدم تعرض النبي (ص) لقافلة أبي سفيان التي صارت ذريعة لمعركة بدر .
العدد : 43/24 في 12/2/2024
كان في زمان الإمام علي عليه السلام رجل مجنون (يمشي أمام الجنائز وينادي: الرحيل الرحيل، لا تكاد جنازة تخلو منه، فمرت يوماً جنازة (بالإمام علي ع ولم يره أمامها ولم يسمع نداءه فسأل عنه فقيل له: هو هذا الميت فقال: لا إله إلا الله
ما زال يصرخ بالرحيل مناديا
حتى أناخ ببابه الجمال)
العدد : 44/24 في 13/2/2024
[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ]
لمناسبة ذكرى ولادة الإمام الحسين عليه السلام يطل على الأرض ضياء شمس من شموس التوحيد ، ونور قمر من
أقمار العرفان بصدور الجزء (258) من معالم الإيمان في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً , فهي بفيض ولطف من عند الله عز وجل.
وأقوم بتأليف وتصحيح ومراجعة كتبي بمفردي والحمد لله ، وجميع أجزاء تفسيري وكتبي الفقهية والأصولية معروضة على موقعنا WWW. Marjaiaa.COM
العدد : 45/24 في 14/2/2024
طُبعَ هذا الجُزْءُ عَلى نَفقةِ
الأمير الشيخِ غانم الشيخ درع الفَياّض