معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 54

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة
الحمد لله الذي أفاض الوجود ، وجعله بأبهى حال وأدق نظام ، وأنزل القرآن من عالم الأمر وهـو أشرف من عالم الخلق، ليبقى إماماً للناس وقائداً الى الجنة، واصطفى الرســول الأكــرم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الواسطة المباركة لإشــراقة أنوار الشـريعة المتكاملة على العالم البديع الذي هو مرآة ودليل على نزول القرآن من عند الله تعالى.
وبعد صدور خمسين جزء من هذا السِفر في تفسير سورة البقرة , وكلها تأويل ومسائل وقوانين في ثورة لم يشهدها تأريخ العلوم الســمعية والعقـلية بفضل من الله تعالى خصوصاً وانها لا تتضمن الإستقراء والإسـتنباط ومباحث التأويل والتفسير .
جاء هذا الجزء وهو الواحد والخمسون لطفاً إضافياً وإعانة من الله تعالى ليتــضمن تفســير الآيات (1- 6) من ســورة آل عمران، ومعاني الغوص في مفاهيم التوحيد وعالم الكتاب السماوي وإعجاز القرآن في تصــديقه للتــوراة والإنجيــل , والمنافـع العقائدية العظيمة لهذا التصديق ليكون ضابطة كلية في الصلات العقائدية والأخلاقية والإجتماعية بين اتباع الكتب السماوية وفي التنزيل[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا] ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا في الدعاء.
قالوا : نعم . قال : قولوا : اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
ومن خصائص سورة آل عمران بيانها لصيغ الدعاء والترغيب فيه والندب إليه في حال الرخاء والشدة .
ويمكن القول بقانون كل آية من القرآن دعاء في منطوقها او مفهومها ويمكن أن يقتبس منها الدعاء ، كما يلزم تأليف مجلدات خاصة بهذا الخصوص ، وذكر آيات الدعاء في القرآن ومنها الآية السابعة والثامنة والتاسعة من هذه السورة [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
لقد حضّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قراءة المسلمين لسورة آل عمران ورغّب في تعلمها وسورة البقرة والتدبر في معاني كل منهما.
(قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم : تعلَّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان ، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاءً حتى يدخلاه الجنَّة) ( ).
وابتدأت هذه السورة بالحروف المقطعة (الم) وتأتي في هذا الجزء عدة عناوين بخصوصها ، وكذا في الجزء الرابع والثلاثين بعد المائتين ان شاء الله.
وتضمنت الآية الثانية من هذه السورة الشهادة بالتوحيد [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ).
لقد كان الذين كفروا يقومون بالتصفيق والصفير والصراخ في وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واللغظ ، والقاء الشعر واللغو عند سماع آيات القرآن كما ورد في التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( ).
فتنزل الحروف المقطعة (الم) ثم تأتي كلمة التوحيد وبيان الصفات الحسنى لله عز وجل كما في الآية الثانية من هذه السورة [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( )، لتنفذ إلى شغاف القلوب ، وتبعث على التنزه من عبادة الأوثان ، وتتجلى منافع للحروف المقطعة وهي أنها سلاح سلم وأمن فلم يحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيف ، ولا أصل لنسخ آية السيف لآيات السلم والصلح والموادعة ، إنما كان سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً سماوياً وهو كلمات وآيات القرآن ، ومنها الحروف المقطعة التي تخرج الكفار عن منع الناس من الإنصات له ، وتجعلهم في حيرة من أمرهم ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
لقد كان هذا الجزء يتضمن تفسير الآيات (1-12) من سورة آل عمران ثم تم شطره وصار تفسير الآيات (7-12) في الجزء الثالث والثلاثون بعد المائة من هذا السِفر المبارك .
إذ أقوم بفضل الله بالتأليف والتصحيح والمراجعة بمفردي لكتبي في التفسير والفقه والأصول مع إعطائي البحث الخارج في الفقه والأصول والتفسير في الحوزة العلمية في النجف الأشرف منذ سنة 1999م وإلى هذا اليوم السبت 22 شعبان 1443 الموافق 25/3/2022 ، قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة آل عمران
السورة كلها مدنية وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم وعدد آياتها مائتان، الا الشامي فجعلها مائة وتسعا وتسعين آية بعد مائتان باستثناء البسملة والتباين ليس عن نقص في كلمات السورة او زيادتها، بل في تقسيم الآيات اذ ان الكوفي عد (الم) آية.
وقد وردت نصوص متعددة في ثواب تعلم سورة البقرة وآل عمران وحفظهما خاصة وأنهما من أطول سور القرآن وفيهما أحكام شرعية كثيرة .
و(عن أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا)( ) أي علت منزلته وشأنه , وعظم في العيون , ومعنى قرأ في الحديث أعلاه أي حفظ لبيان أن هذا الحفظ واقية من التحريف والزيادة والنقصان في القرآن , وهو من فضل الله عز وجل وعمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
فضل السورة
لقد ورد لفضل بعض سور القرآن ذكر خاص، على لسان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد ما لها من الخصــوصــية والشرف العظيم ، وان كان لكل سورة من القرآن شرف وقدسية خاصة، وروى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس)( ).
والحديث حث على استثمار فضيلة يوم الجمعة لقراءة سورة آل عمران ، وتوكيد على ما لها من الشرف بحيــث تقــرأ يـوم الجمعة على نحو الخصوص، ولكن ذكر يوم الجمعة لا يفيــد الحصر بل جاء من باب المثال الأفضل والأحسن.
فالحديث يدل على منافع قراءة سورة آل عمران كل يوم ، وصلاة الملائكة دعاء واستغفار لقارئ السورة ، وقد ورد قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ) إذ يتغشى الله عز وجل برحمته النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم وينصره ويثني عليه ويدفع عنه الأذى , أما صلاة الملائكة فهي الدعاء والإستغفار والثناء والرضا , وسيأتي في الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين , ما ورد عن (أبي مسعود الأنصاري قال : لما نزلت { إن الله وملائكته يصلون على النبي . . . }( ) قالوا : يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟
وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال قولوا اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم ، اللهم بارك على محمد كما باركت على آل إبراهيم) ( ).
فمن أراد الفوز بهذا الفضل الخاص بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإنتفاع منه في النشأتين فليقرأ سورة آل عمران يوم الجمعة.
وعن ابي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قرأ آل عمران أعطي بكل آية منها اماناً على جسر جهنم)، وجاء هذا الحديث مطلقاً ومتعلقاً بذات القراءة ومنافعه تخص عالم الآخرة، والدنيا مزرعة لها، وقد وعد الله عز وجل المؤمنين بانتفاء الخوف والحزن عنهم يوم القيامة، أما قراءة آل عمـران فانها تحمل بشارة في الدنيا للأمن من السقوط في جهنم عند العبور على الصراط، وفي مواطن يوم القيامة الأخرى.
من فيض آل عمران
ومن افاضات هذه الآية ان الإيمان لا يتوقف على قراءة السورة كاملة ولا بقراءة شطر منها بل بقراءة كل آية ليكون الأمان متعدداً بعدد آيات السورة ، وهل تجزي قراءة واحدة للسورة في العمر ام لابد من تكرارها حسب اليسر والإمكان ، الجواب تكفي قراءة واحدة وصرف الطبيعة ويتكرر الأمان بعدد قراءة الآيات والسورة.
ومن المضامين القدسية في سورة آل عمران أمور :
الأول : تأكيد الوحدانية , قال تعالى [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
الثاني : وجوب عبادة الله عز وجل .
الثالث : صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الرابع : آيات في الأحكام .
الخامس : شذرات من قصص الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وزكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام وهو من أسرار تسمية السورة آل عمران .
السادس : آيات الدفاع في معركة بدر وأحد وقد ورد اسم بدر مرة واحدة في القرآن وفي هذه السورة ويتأكيد فضل الله عز وجل بالنصر على الغزاة المشركين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
السابع : مناهج ومعالم الإيمان .
الثامن : صيغ الإحتجاج والبرهان بما يؤدي إلى الهدى .
التاسع : التذكير بالموت وعالم الجزاء وصيرورة الناس فريقين قال تعالى فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ.
وسميت هذه السورة سورة المجادلة لما فيها من صيغ الإحتجاج ورد الشبهات عن النبوة والتنزيل ، ولأنها تجادل عن صاحبها يوم القيامة , واختصت هذه الآية ببيان المحكم والمتشابه بالآيات قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) وهي السورة الوحيدة التي سميت باسم أسرة أي آل عمران , ومنهم من سماها (تاج القرآن) ( ) , ولم يرد فيها نص.
بعد اختتام سورة البقرة والإحاطة الإجمالية بآياتها، وتجلي المدد الإلهي في أحكامها تشريعياً من عند الله تعالى، وإعانة المسلمين في الإستجابة والإمتثال .
وجاءت سورة آل عمران وآياتها المباركات ولتبدأ بالثناء على الله تعالى وتؤكد عظيم قدرته وسلطانه، وتمدح المسلمين لحسن ايمانهم وصدق توكلهم على الله، وتبين انتصار المسلمين في ميادين الدفاع الذي اضطروا إليه بسبب إصرار كفار قريش على القتال كما سيأتي بصدور خمسة وعشرين جزء من هذا السِفر خاصة بقانون (لم يغزُ النبي “ص” أحداَ) وهي الأجزاء :
أولاً : الجزء التاسع والخمسون بعد المائة ،.
ثانياً : الجزء الستون بعد المائة .
ثالثاً : الجزء الواحد والستون بعد المائة .
رابعاً : الجزء الثالث والستون بعد المائة .
خامساً : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
سادساً : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
سابعاً : الجزء السادس والستون بعد المائة .
ثامناً : الجزء السابع والستون بعد المائة .
تاسعاً : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
عاشراً : الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
احد عشر : الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
اثنا عشر : الجزء الثالث والسبعون بعد المائة .
ثالث عشر : الجزء الخامس والسبعون بعد المائة .
رابع عشر : الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
خامس عشر : الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
سادس عشر : الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
سابع عشر : الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
ثامن عشر : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
تاسع عشر : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
العشرون : الجزء الثاني والتسعون بعد المائة .
الواحد والعشرون: الجزء المائتان .
الثاني والعشرون : الجزء الثامن بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الرابع والعشرون : الجزء الثامن عشر بعد المائتين .
الخامس والعشرون : الجزء السادس والعشرون بعد المائتين .
ومن مضامين والمقاصد السامية لسورة آل عمران الإحتجــاج والمباهلة، وتجلي عشق المسلمين للفرائض العبادية واقامتهم على الصبر , ومن الإعجاز في نظم هذه السورة اختتامها بالأمر بآية الصبر والمصابرة , بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ), طلباً للثواب وسعياً في مرضــاته تعــالى، واعلاء لكلمة التوحيد.
وكما سميت سورة البقرة بسبب قصة البقرة التي أمر الله عز وجل بني اسرائيل بذبحها وترددهم في الأمر وكثرة سؤالهم للنبي موسى عن صفاتها، فان سورة آل عمران تضمنت أخبار أهل الكتاب، والإحتجاج وبراهين نبوة عيسى عليه السلام، وولادة مريم وقصة زكريا.
وفيه شاهد على صيغ السلم والإحتجاج مع أهل الكتاب التي جاء بها القرآن ، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( )، وأحسن اسم تفضيل .
والمراد الإحتجاج بالبرهان وبصيغ اللطف والمودة وستأتي قصة مباهلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وفد نصارى نجران والتي وثقها القرآن ، قال تعالى [نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
وقد ورد لفظ (آل عمران) مرة واحدة في القرآن، وفي هذه السورة وعلى نحو التكريم والمدح [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( )،

قوله تعالى [الم]
الإعراب واللغة
الم : خبر لمبتدأ مرفوع، أي هذه الم، والمراد من الكلمة اللفظ دون المعنى وذهب جمع من النحويين الى عدم اعرابها ، وقال الخليل : لو أعربت ذهب معنى الحكاية.
وفواتح السور موقوفة خالية من الإعراب لعدم وجود المقتضي والموجب.
ولا تقرأ (الم) كلمة واحدة مثل الأفعال والأسماء إنما يقرأ كل حرف على نحو مستقل (ألف , لام , ميم ) وهو من أسرار تسميتها الحروف المقطعة .
ووردت أحاديث عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ثواب قراءة الحرف القرآني , منها (عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة .
لا أقول { بسم الله } ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول { الم } ولكن الألف ، واللام ، والميم)( ).
و(عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات : بالباء ، والتاء ، والثاء)( ).
و(عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل .
وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه .
فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر) ( ).
ومن الإعجاز في السنة النبوية بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأجر والثواب على قراءة كل حرف من القرآن , وفيه دعوة لإقرار الحروف المقطعة التي في أوائل السور , وتلقيها بالقبول والرضا , وتعاهد بالتلاوة ورجاء الثواب بهذه التلاوة الذي يدل على التسليم بأنها نازلة من عند الله عز وجل .
ومن إعجاز القرآن قانون الملازمة بين نزول الآية القرآنية والنفع منها , فحالما تنزل الآية القرآنية ينتفع المسلمون منها كتنزيل وموضوع ومادة للعمل ومناسبة للأجر والثواب والهداية بخصوص أسباب النزول , ولا ينقطع النفع من الآية إلى يوم القيامة , إذ يبقى كل من :
الأول : جزئية الآية القرآنية من القرآن , وما بين الدفتين والإقرار بأنها كلام الله عز وجل .
الثاني : التدبر في الآية القرآنية .
الثالث : العمل بمضامين الآية القرآنية.
الرابع : دلالة نزول الآية القرآنية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تلاوة الآية القرآنية والفوز بالثواب على هذه التلاوة .
السادس : التأدب بأدب وأخلاق القرآن .
بحث نحوي
رسم آية البحث من حروف ثلاثة مقطعة , كل حرف مستقل يلفظ بغير ما يفيده رسمه , فلا يقال (الم) مجتمعة , ولا يقال أ-لَ-م.
إنما تتلى بأسماء الحروف ألف , لام , ميم , وهو من الإعجاز في الحروف المقطعة وبيان مصداق لقوله تعالى [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) في رسم الحروف ورموزها وألفاظها .
فإذا سألت ما مسمى الخاء في (يخسف) تقول : أخ , ومسمى الجيم من جعفر تقول : جَهْ للوقوف على ساكن لقاعدة من جهتين :
الأولى : إن كان الحرف المختار من الكلمة ساكناَ ادخلت عليه همزة وصل في أوله عند النطق به كما في حرف الخاء أعلاه .
الثانية : إذا كان الحرف متحركاَ يزاد في آخره هاء كما في (جعفر).
(قال سيبويه : خرج الخليل يوماً على أصحابه فقال : كيف تلفظون بالباء من ضربْ والدال من قدْ وما أشبه ذلك من السواكن ؟
فقالوا: با، دال ، فقال : إنَّما سمّيتم باسم الحرف، ولم تلفظوا به.
فرجعوا في ذلك إليه فقال: أرى – إذا أردت اللفظ به – : أن أزيد ألف الوصل فأقول اِبْ، اِدْ ؛ لأن العرب إذا أرادت الابتداء بساكن زادت ألف الوصل .
فقالت: اِضربْ، اُقتلْ إذا لم يكن سبيل إلى أن تبتدي بساكن .
وقال: كيف تلفظون بالباء من ضَربَ والضاد من ضُحَى ؟
فأجابوه كنحو جوابهم في الأول فقال: أرى – إذا لفظ بالمتحرك – أن تزاد هاءٌ لبيان الحركة كما قالوا: ارمه ” وما أدراك ماهيه ” فأقول: بَهْ، ضُهْ وكذلك كل متحرك. وبعد هذا ما لا يجوز في القياس غيره) ( ) ليتحصل في الحرف وجوه :
الأول : رسم الحرف .
الثاني : التلفظ بالحرف منتزعاَ من الكلمة التي يرد فيها .
الثالث : التلفظ بالحرف وهو جزء من الكلمة من غير زيادة همزة وصل في أوله في الحروف السواكن , ولا زيادة هاء في الألفاظ المتحركة فإذا تقرأ الجيم من جعفر في ذات الاسم وجزئية منه , فلا تكون هناك زيادة هاء في آخره .
الرابع : اسم الحرف وقد وردت هذه الوجوه في الحروف المقطعة وهو من إعجاز الآية .
وقد ترد مادة الكلمة سواء في اللغة أو الصرف مثلاَ (استثمار ) فأصلها (ثمر) وتنطق بحركة الفتحة لأنها أخف الحركات أو بسكون الراء.

قانون بيان الحروف المقطعة
لقد ورد قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وفيه وجوه :
الأول : كل آية من القرآن بيان .
الثاني : شطر الآية القرآنية بيان .
الثالث : الجمع بين كل آيتين بيان .
الرابع : السورة القرآنية بيان .
الخامس : مجموع آيات القرآن تبيان ، وهو ظاهر الآية القرآنية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من إعجاز القرآن ، نعم النسبة بين بيان القرآن وما بين الدفتين على نحو العموم المجموعي لآياته وبين الوجوه الأخرى أعلاه عموم وخصوص مطلق.
ومجموع آيات الحروف المقطعة تسع وعشرون آية ، متفرقة في بدايات السور ، فهل هي من التبيان أم هي خارجة بالتخصيص من قانون البيان القرآني ، الجواب هو الأول فهي بيان من جهات :
الأولى : بيان قانون وهو نزول هذه الحروف من عند الله .
الثانية : تفاخر جبرئيل بنزوله بالحروف المقطعة لأنها كلام الله ، ولمعرفته بما لها من الفوائد أوان النزول وإلى يوم القيامة.
الثالثة : قانون الأصل في الآية القرآنية أنها بيان والحروف المقطعة (الم) ( )، آية من القرآن فهي بيان .
الرابعة : تجلي البيان واستقراء المسائل من صلة الحروف المقطعة بالبسملة وبالآية التي بعدها.
الخامسة : النفع العام من الحروف المقطعة حال نزولها باصغاء الكفار لها وهم في حال ذهول.
السادسة : موضوعية الحروف المقطعة في تثبيت لغة العرب رسماً وصوتاً وأسماء للحروف.
السابعة : بيان مصداق لقانون [اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فلا يحيط الناس بالعلم اللدني في الحروف المقطعة.
سياق الآيات
لقد بدأت سورة آل عمران بالحروف المقطعة لتكون مقدمة لموضوعات الآية.
ابتدأت السورة بالبسملة ، وفيه دعوة للناس للتوكل على الله ، والتدبر في رحمة الله بالخلائق ، وأن كل سورة من القرآن هي رحمة مخصوصة للمسلمين والناس جميعاً ، ولبيان قانون وهو الإبتداء باسم الله مفتاح للخير والبركة.
وأن الحروف المقطعة لم تأت في القرآن إلا بعد البسملة لتدخل في تفسير هذه الحروف وتعدد المقاصد السامية منها.
وهل يدل ابتداء سورة البقرة وسورة آل عمران بالحروف المقطعة وهما مدنيتان نزلتا في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية على أن تسكيت الكفار عند التلاوة ليست علة تامة لنزول الحروف المقطعة بلحاظ نزولها في مكة لحمل الكفار على السكوت عند التلاوة.
فيستمع الناس لتلاوة القرآن من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن غيره ، المختار لا ، فان هذا التسكيت وجعل الناس ينصتون لتلاوة القرآن ونزول الحروف المقطعة مدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولطف من الله عز وجل به وبالمسلمين والناس جميعاً ، ويفوز المسلم بثواب التلاوة في كل جيل ، ويتدبر في معناها ، ويشكر الله عز وجل على نعمة إسكات الكفار الأبدي.
فقد دخل أهل مكة الإسلام وسقطت الأصنام ، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أزاحها بيده.
(قال ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً ، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول [جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( )، بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد) ( ).
وانتقلت السورة بعد الحروف المقطعة إلى كلمة التوحيد وبتقديم اسم الجلالة بقوله تعالى [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ).
لبيان أن الحروف المقطعة من فضل الله وهي في سلامة من التحريف ، وفي حرز وعهدة كلمة التوحيد فيتلو المسلم البسملة ثم الحروف المقطعة بأسمائها مع قلتها.
إعجاز الآية الذاتي
من الإعجاز ان تبدأ كل من سورة البقرة وآل عمران بحروف مقطعة متشابهة، فذات الحروف بدأت بها سورة البقرة ايضاً، وعلى القول بان هذه الحروف هي أسماء للسور، فلابد ان (الم) في أول سـورة البقرة غير التي في أول سورة آل عمران وسورة البقرة هي أكثر سور القرآن كلمات وآيات , وعدد آياتها (286) آية , وعدد كلمات سورة البقرة (6121) وقيل غير هذا , وعدد حروفها (25613).
وعدد كلمات سورة آل عمران (3503) وعدد حروفها (14525) حرفاَ وقيل غير هذا .
وليس من سورة أكثر آيات من سورة آل عمران إلا سورة الشعراء وعدد آياتها (227) آية .
ولكن كلماتها وحروفها أقل بكثير من عددها في سورة آل عمران , إذ أن عدد كلمات سورة الشعراء هو (1322) كلمة , وعدد حروفها (5517)
وبينما ورد ذكر القرآن بعد الحروف المقطعة في سورة البقرة : باسم الكتاب بقوله تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، وأنه نازل من عند الله ، مع حرمة الشك والريب فيه فان كلمة التوحيد تعقبت الحروف المقطعة في سورة آل عمران ، لبيان تفقه المسلمين في الدين ، وموضوعية التوحيد في العبادات والمعاملات.
وقد تقدم في الجزء الثاني من هذا السِفر أن لفظ ذلك الكتاب , لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه مع ورود لفظ الكتاب في القرآن ( 230 ) مرة( ).
وحتى على عدم القول بانها أسماء للسور يرد التساؤل حول اتحاد فاتحتي السورتين ام تعددهما بمعنى ان (الم) التي في سورة آل عمران هي نفسها التي في سورة البقرة أم تختلف عنها، والمختار التعدد والتباين أما بالنسبة لرسم الحروف فهو واحد، واما بلحاظ المعنى فانه متعدد بحسب السياق والموضوع والموضع.
ولابد لتكرار هذه الفاتحة من دلالة ومضامين قدسية، وهذا التكرار دعوة للبحث والتحقيق في الحروف المقطعة واستنباط الدروس واستخراج المسائل منها، وحتى في حال تعذر الوصــول الى نتــائج مؤيدة بالبرهان، فان مجرد البحث فيها بركة ونعمة لأنه عنوان تدارس للقرآن واشتغال بعلومه والوقوف عند المعنى الظاهر والمأثور.
وعدم ولوج الهلكات أفضل من اختراع العلل، وتظهر الآية عجز العرب وهم أهل البلاغة والبيان عن سبر أغوار القرآن وهي تحد دائم وسر من أسرار القرآن.
تأتي حروف تهجي معدودة لتحكي قصة اعجاز، وهذا الإعجاز يتجلى من وجوه :
الأول : ذات الآية .
الثاني : موضوع نزولها، فنزول الحروف وحده إعجاز .
الثالث : دلالة الحروف المقطعة .
الرابع : تلقي المسلمين لها بالقبول والرضا.
الخامس : تغشي الحيرة للذين أشركوا.
وحفظها إعجاز ، ووجود حروف التهجي في القرآن وفي مواضعها الثابتة منذ ايام التنزيل يدل على عدم التحريف في القرآن , وخلوه من الزيادة وانعدام النقيصة فيه.
فلا أحد يفكر بأن يضع هذه الحروف في القرآن ولا أحد يجرأ على حذفها وان لم يدرك مضمونها ومعناها فان لم تكن موجودة فيه لا يلتفت أحد إلى أهميتها وان كان من رجــال الفطــنة والعلم وأهل البلاغة والفصاحة، ومع وجودها في القرآن يعجز الجميع عن درك معناها , ولكنها تبعث على التحقيق واستنباط المسائل منها.
وستبقى الحروف المقطعة زينة القرآن، وعنواناً خاصاً به لم يوجد في كتاب غيره.
وعن ابن عباس (الألف آلاؤه ، واللام لطفه، والميم ملكه) وورد عن محمد بن كعب القرظي( ).
و(عن ابن عباس أنه قال معنى الم : أنا الله أعلم : ومعنى المص : أنا الله أعلم وأفضل ومعنى الر : أنا الله أرى، ومعنى المر : أنا الله أعلم وأرى)( ).
ويمكن تسمية هذه الآية بـ (الم ) آل عمران , بلحاظ أن ذات الحروف المقطعة اسم لأول آية من سورة البقرة .
إعجاز الآية الغيري
لقد كانت الحروف المقطعة سلاحاَ لإسكات المشركين في مكة الذين كانوا يصفقون ويصفرون ويكثرون اللغو والضوضاء عند سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن , قال تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ).
لبيان أن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالسيف ولا بالقتل إنما كان سلاحه القرآن وتلاوته عند [اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] ( ) ويمتنع عن رد الأذى بمثله .
وستبقى هذه الحروف سلاحا عقائديا يغني عن السيف , ويبعث النفرة من الإرهاب وإخافة الناس .
وعندما اشتد أذى المشركين على أهل البيت والصحابة اقترح على طائفة من أصحابه الهجرة إلى الحبشة (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ – مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ .
وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ . بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ .
قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ .
وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ – إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ .
فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ) ( ).
ويقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الملك النجاشي واسمه أصحمة بن أبحر ومعنى أصحمة (عطية) .
والنجاشي اسم كل ملك يلي الحبشة , مثل اسم كسرى لملك فارس , وقيصر لملك الروم .
وجاءت الحروف المقطعة لإسكات المشركين عند تلاوة القرآن , وهل هذا الإسكات مطلوب بذاته أم لغيره , الجواب هما معاَ , فمن أثار هذا الإسكات :
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن الأخرى , ومن الإعجاز أنه ليس من حروف مقطعة وسط السورة لبيان انتفاء السبب لها , ولإخبار الناس إلى يوم القيامة بأن الكفار يسكتون ويكفون عن الصفير والتصفيق حال سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو الحروف المقطعة وما بعدها من الآيات , وهو من الإعجاز الغيري للحروف المقطعة .
الثاني : استماع أهل مكة والوافدين إليها من القرى وحفظهم للآيات , وهو من أسرار إتصاف السور المكية بالقصر في الآيات وقلة عدد آيات السورة المكية .
الثالث : دخول طائفة من الناس إلى الإسلام بتلاوة القرآن وبركات ابتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحروف المقطعة .
الرابع : ابتداء التلاوة بالحروف المقطعة بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويشمل تلاوة أهل البيت والصحابة , فالحروف المقطعة عون ومدد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
ومن إعجاز الحروف المقطعة بقاؤها في الوجود الذهني بالرسم والرمز واللفظ مع الإقرار بالحاجة إلى استظهار معانيها.
الآية سلاح
للآية منافع عقائدية وعلمية مركبة، فهي دعوة للمسلمين للتدبر في معاني القرآن، وتبعث الثقة في نفوسهم لما فيها من إشارات وحث على الإنصات لآيات القرآن وأحكامه و(عن علي عليه السلام أن لكل كتاب صفوة وصفوة القرآن حروف التهجي) ( ).
وستبقى الحروف المقطعة سراَ من أسرار القرآن مع إجتهاد العلماء لاستقراء المسائل منها , وتلمس المسلمين لمنافعها من حين نزولها في مكة وصيرورتها سبباَ لإنقطاع كفار قريش عن مقابلة تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن بالصفير والصخب والإستهزاء .
وهل الحروف المقطعة من كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ) الجواب نعم , وهو لا يتعارض مع ما ورد عن ابن عباس في الآية أنه (قال : المستهزئون ، الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل ، فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أرني إياهم ، فأراه الوليد فأومأ جبريل إلى أكحله فقال : ما صنعت شيئاً .
قال : كفيتكه . ثم أراه الأسود بن المطلب ، فأومأ إلى عينيه فقال : ما صنعت شيئاً .
قال : كفيتكه ، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث ، فأومأ إلى رأسه فقال: ما صنعت شيئاً .
قال : كَفَيْتُكَهُ . ثم أراه الحرث ، فأومأ إلى بطنه فقال : ما صنعت شيئاً .
قال : كفيتكه . ثم أراه العاص بن وائل ، فأومأ إلى أخمصه فقال : ما صنعت شيئاً .
فقال : كفيتكه . فأما الوليد ، فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها . وأما الأسود بن المطلب ، فنزل تحت سمرة فجعل يقول : بنيّ ، ألا تدفعون عني.
قد هلكت وَطُعِنْتُ بالشوك في عيني . فجعلوا يقولون : ما نرى شيئاً . فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه . وأما الأسود بن عبد يغوث ، فخرج في رأسه قروح فمات منها .
وأما الحارث ، فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه . وأما العاص ، فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس ، أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمداً كاهن ، يخبر بما يكون قبل أن يكون وقال أبو جهل : محمد ساحر؛ يفرق بين الأب والابن .
وقال عقبة بن أبي معيط : محمد مجنون ، يهذي في جنونه .
وقال أبي بن خلف : محمد كذاب . فأنزل الله { انا كفيناك المستهزئين}( ) فهلكوا قبل بدر) ( ).
ومصاديق الكفاية في الآية متعددة في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة والمدينة , فالآية وإن وردت بصيغة الماضي إلا أنها تحمل معنى الوعد من عند الله عز وجل , والإستدامة في سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
وتحتمل منافع الحروف المقطعة في إسكات الذين كفروا وجوهاَ :
الأول : عند تلاوة ذات الحروف المقطعة .
الثاني : عند تلاوة الحروف المقطعة والآيات التي بعدها .
الثالث : الإطلاق في تلاوة القرآن .
والصحيح هو الأخير فقد جعل الله عز وجل الحروف المقطعة مناسبة وموضوعاَ لتفكر الناس فيها , وفي نزولها , والصلة بينها وبين الآيات التي بعدها.
كما تبعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين وتبقيهم في حيرة ودهشة، وتدعوهم للتأمل في أسرار القرآن وعدم التعجل في محاربته وتمنع من الصدود الإبتدائي عنه.
مفهوم الآية
تدل الحروف المقطعة على تعدد الحجج الإلهية في القرآن ومجيئها بكيفيات مختلفة مع تباينها فان كل واحدة منها تدل على الإعجاز والبيان وتجذب الأذهان والأسماع لما فيها من الإشارات.
وتبين هذه الحروف قدرة الله تعالى في عالم الإلفاظ كما يكون هي ومشيئته المطلقة شبه المعدوم يكون : للأمر الخفي في الأفعال والخلق والإبداع بأن يجعل شبه المعدوم وما لا يخبر به عن شيء دلالة ومعاني متعددة ومفاهيم مستنبطة.
ومن مفاهيم الحروف المقطعة وجوه :
الأول : اختصاص الحروف المقطعة بآية مستقلة , وفيه دعوة العناية بها في باب التلاوة والوقوف عندها والتفسير .
الثاني : مجئ الحروف المقطعة في أوائل السور منها ما هو مكي ومنها مدني لبيان مسألة وهي حتى مع إصغاء الناس للقرآن في المدينة فإن الحروف المقطعة نزلت فيها أيضاَ , لبيان أن موضوع الحروف المقطعة .
والسور المدنية التي نزلت في أولها الحروف المقطعة هي :
الأولى : سورة البقرة( ) .
الثانية : سورة آل عمران( ) .
الثالثة : سورة الرعد( ).
الثالث : في التصديق بنزول الحروف المقطعة أجر عظيم .
الرابع : بقاء باب تفسير الحروف المقطعة مفتوحاَ إلى يوم القيامة .
إفاضات الآية
لقد نزل القرآن تبياناً لكل شيء فلابد أن يكون جامعاً للأحكام والأسرار الملكوتية والكونية سواء في ظاهر الآيات أو في تأويلها ودلالالتها ، وهذا التبيان يكون معلوماً للناس سواء على نحو النص او الظاهر او عند التحقيق والإستنتاج .
وتبدأ الآية بما يجعل قارئ القرآن يقف عنده متأملاً في معنى (الم) وهو يعلم انه حرف قرآني نازل من السماء، مقتبساً انواره من التنزيل، ولابد له من مضامين قدسية بالإضافة الى الثواب في قراءته والتسليم بقرآنيته.
ومن إكرام الله عز وجل لآدم والناس جميعاَ قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( )
فهل من الأسماء التي علمها الله عز وجل لآدم (الم) التي في أول سورة البقرة والتي في أول سورة آل عمران أم أن القدر المتيقن هو تعليمه اسم القرآن ومضامينه القدسية , المختار هو الثاني.
الآية لطف
القرآن كلام الله الذي أنزله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللغة العربية التي كانت على مرتبة من الرقي بالشعر والنثر والتخاطب بين الناس ومنهم ذوو جاه وشأن وملوك.
وكانت تقام منتديات أدبية شعرية ضمن الأسواق التي تقام في مكة وما حولها موسم الحج قبل الإسلام وبعده ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وهل في الحروف المقطعة وتلاوتها إنذار ، الجواب نعم ، وهو الذي تجلى في أسباب وموضوع نزول الآية.
والحروف المقطعة في القرآن تعضيد للغة العربية ولطف سماوي للإعانة في حفظها وسلامتها ، لأنها لغة القرآن الباقي إلى يوم القيامة برسمه وتلاوته وأحكامه والتعبد به.
الحروف المقطعة رسماً ورمزاً واسماً وصوتاً
في كل حرف من الحروف المقطعة في القرآن وعددها تسعة وعشرون حرفاً حكمة سواء بنزوله أو بموضعه من سورة مخصوصة ومجموع حروف سورة الفاتحة (29) حرفاً أيضاً ، وفي تلاوة كل حرف منها عشر حسنات .
وتتلى هذه الحروف باسمها وقد يلزم لاسم الحرف ثلاثة حروف مثل (أ) ألف ، و(ب) يقرأ باء.
والحروف المقطعة التي وردت حسب نظم سور القرآن هي :
الم – الم – المص – الر – الر – الر – المر – الر – الر – كهيعص – طه – طسم – طس – طسم – الم – الم – الم – الم – يس – ص – حم – حم – حم – حم – حم – حم – حم – ق – ن.
وسميت الحروف المقطعة لأن كل حرف منها يقطع عن الباقي عند القراءة ، فرسم (الم) يدل في ظاهره على أنه استفهام بالهمزة بصيغة النفي ، فيقال : الم تر الهلال .
فتجيب بلى ، أي الإجابة بالإيجاب , وأنك رأيته ، قال تعالى [وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى]( )، لقاعدة نفي النفي إيجاب.
أما إذا أراد الإجابة بنفي الرؤية فيقول : نعم ، أي نعم لم أره ، ويرد (ألم) بمعنى الألم والوجع.
وترتيب حروف اللغة العربية الهجائية :
الاسم ألف باء تاء ثاء جيم حاء خاء دال ذال
الرمز أ ب ت ث ج ح خ د ذ

الاسم راء زاي سين شين صاد ضاد طاء ظاء عين
الرمز ر ز س ش ص ض ط ظ ع

الاسم غين فاء قاف كاف لام ميم نون هاء واو ياء
الرمز غ ف ق ك ل م ن هــ و ي

ووردت الحروف المقطعة في أول (29) سورة وعند حذف المكرر منها تكون أربعة عشر حرفاً مقطعاً وتجمع بمعنى : نص حكيم قاطع له سر.
وتجمع : صراط علي حق نمسكه.
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت السورة بالبسملة لتضفي على الحروف المقطعة قدسية خاصة بما يؤكد أن هذه الحروف كلام الله الذي تفضل به هبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضياء ينير دروب المسلمين ، ومناسبة للجوء إلى الله عز وجل والإقرار بالعجز عن درك كنه وأسرار نزول هذه الحروف ومعانيها وما لها من الإشارات.
كتبت مجتمعة (ألم) ويتسالم المسلمون على قراءتها خلاف الرسم ، إذ تتصف قراءتها بأمور:
الأول : قراءة كل حرف على نحو مستقل ، أ ، لام ، م.
الثاني : قراءة كل حرف باسمه وليس برسمه.
الثالث : الوقوف عند أخرها فهذه الحروف الثلاثة آية مستقلة.
لقد أسكتت هذه الحروف الكفار ، لما تمليه من الأنصات ، والتدبر في دلالاتها والمقاصد السامية .
وهي مناسبة لإعلان الإيمان ، والتسليم بنزول القرآن لذا ورد في قوله تعالى [وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
إذ تدل الآية أعلاه على استماع الناس لآيات القرآن ويعلن أهل العلم والتقوى التصديق التام بالقرآن ، وأن أولي الألباب والعقول السليمة ينتفعون من القرآن لأمور الدين والدنيا ، ومن خصال الراسخين في العلم تصديقهم بالقرآن ، وبيانهم لتأويل آيات القرآن ، ومنها الحروف المقطعة إذ قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
وبلحاظ الآية أعلاه ، هل الحروف المقطعة من الآيات المحكمات أم من المتشابهات ، الجواب هو الثاني.
السور التي وردت فيها الحروف المقطعة
من ذخائر القرآن ومباهج التفسير الحروف المقطعة , وهي دعوة للتحقيق فيها واستقراء المسائل منها , والتسليم بأنها نازلة من عند الله عز وجل , وأن معانيها أعم من ان تحيط بها أوهام البشر , وهو لا يمنع من أمور :
الأول : التدبر في الحروف المقطعة .
الثاني : تتبع المأثور فيها .
الثالث : الصلة بين عامة الحروف المقطعة والتي وردت في تسع وعشرين سورة من مجموع سور القرآن والتي عددها (114) سورة.
الرابع : المعنى المستقرأ من الصلة بين الحروف المقطعة والآية التي بعدها والقوانين التي تتضمنها .
الخامس : لزوم قراءة الحروف المقطعة بالهجاء حرفاَ , حرفاَ على نحو مستقل .
(وقال ابن عباس الر و حم و ن هي حروف الرحمن) ( ).
وعن (ابن عباس قال : فواتح السور أسماء من أسماء الله) ( ).
والسور التي جاءت فيها هذه السور والحروف الخاصة بها هي :
الأولى : (الم) أول سورة البقرة , وهي سورة مدنية( ).
الثانية : (الم) أول سورة آل عمران , وهي سورة مدنية( ) .
الثالثة : (الم) أول سورة العنكبوت , وهي سورة مكية( ).
الرابعة : (الم) أول سورة الروم , وهي سورة مكية( ) .
الخامسة : (الم) أول سورة لقمان , وهي سورة مكية( ) .
السادسة : (الم) أول سورة السجدة , وهي سورة مكية( ) .
السابعة : (المص) أول سورة الأعراف , وهي سورة مكية( ) .
الثامنة : (الر) أول سورة يونس , وهي سورة مكية( ) .
التاسعة : (الر) أول سورة هود , وهي سورة مكية( ) .
العاشرة : (الر) أول سورة يوسف , وهي سورة مكية( ) .
الحادية عشرة : (الر) أول سورة ابراهيم , وهي سورة مكية( ) .
الثانية عشرة : (الر) أول سورة الحجر , وهي سورة مكية( ) .
الثالثة عشرة : (المر) أول سورة الرعد , وهي سورة مدنية( ) .
الرابعة عشرة : (كهيعص) أول سورة مريم , وهي سورة مكية( ) .
الخامسة عشرة : (طه) أول سورة طه , وهي سورة مكية( ) , وقيل معنى (طه : يا رجل).
(عن ابن عباس قال : { طه } يا رجل . بالسريانية)( ) , وعن الإمام علي عليه السلام (قال : لما نزل على النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً }( ) قام الليل كله حتى تورمت قدماه ، فجعل يرفع رجلاً ، ويضع رجلاً ، فهبط عليه جبريل ، فقال : { طه }( ) يعني : الأرض بقدميك يا محمد { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى }( ) وأنزل { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} ( )) ( ).
السادسة عشرة : (طسم) أول سورة الشعراء , وهي سورة مكية( ) .
السابعة عشرة : (طسم) أول سورة القصص , وهي سورة مكية( ) .
الثامنة عشرة : (طس) أول سورة النمل , وهي سورة مكية( ) .
التاسعة عشرة : (يس) أول سورة ياسين , وهي سورة مكية( ) .
العشرون : (ص) أول سورة ص, وهي سورة مكية( ) .
الواحدة والعشرون : (حم) أول سورة غافر, وهي سورة مكية( ) .
الثانية والعشرون : (حم) أول سورة فصلت, وهي سورة مكية( ) .
الثالثة والعشرون : (حم) أول سورة الزخرف, وهي سورة مكية( ).
الرابعة والعشرون : (حم) أول سورة الدخان , وهي سورة مكية( ).
الخامسة والعشرون : (حم) أول سورة الجاثية , وهي سورة مكية( ).
السادسة والعشرون : (حم) أول سورة الأحقاف , وهي سورة مكية( ) .
وهذه السور (غافر , فصلت , الزخرف , الدخان , الجاثية , الأحقاف) متتالية في نظم القرآن وتسمى (الحواميم).
السابعة والعشرون : ( حم , عسق ) الآية الأولى والثانية من سورة الشورى , وهي سورة مكية( ) .
الثامنة والعشرون : (ق) أول سورة ق , وهي سورة مكية( ) .
التاسعة والعشرون : (ن) أول سورة القلم , وهي سورة مكية( ), قال تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ* مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ] ( ).
وعدد هذه الآيات (29) آية وكذا عدد الحروف الهجائية في اللغة العربية .
وهل الحروف المقطعة من الشواهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة بلحاظ أنها مدخل للإحتجاج وفيه غنى عن القتال وسلاح لتدبر الناس في كلام الله الذي يدعو إلى الإيمان والصلاح والسلم العام ، الجواب نعم وسيأتي البيان في الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر إن شاء الله , وهو خاص بقانون ( آيات السلم محكمة غير منسوخة ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بعث المسلمين للإقرار على أن الحروف المقطعة نازلة من عند الله عز وجل , وهو سبحانه يعلم بدلالتها ومنافعها .
الثانية : اختصاص القرآن بآيات منها الحروف المقطعة .
الثالثة : الحروف المقطعة من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف .
الرابعة : التخفيف عن المسلمين بالتلاوة وإدراك قانون وهو بكل حرف أجر وثواب .
الخامسة : الحفاظ العام على نظم وترتيب القرآن , وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
السادسة : وجود معاني خاصة لكل حرف من الحروف المقطعة كما يأتي في التفسير , والنسبة بين معانيها , وما مذكور منه العموم والخصوص المطلق , لأن تلك المعاني أعم وأكثر , وهو ما ينكشف للناس يوم القيامة , قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
السابعة : التحدي بالحروف المقطعة بلاغة وموضوعاَ ودلالة وتلقي المسلمين لها بالقبول والتصديق .
الثامنة : دعوة الحروف المقطعة الناس للإيمان .
التاسعة : بيان مسألة وهي أن القرآن عربي , وأنه نزل بلغة العرب .
العاشرة : الحروف المقطعة من الشواهد على علم الغيب الذي لا يعلم به إلا الله عز وجل , قال تعالى [وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
التفسير
قوله تعالى [الم ]
يقسم الناس تقسيماً استقرائياً بلحاظ الإستماع الى آيات القرآن الى اقسام:
الأول : الذين يستمعون ويصغون الى آيات التنزيل وهي تتلى عليهم، او يقصدون مكان الإستماع او يطلبون تلاوتها عليهم.
الثاني : الذين يسمعون الآيات وهي تتلى من غير قصد الإنصات كما لو كانوا في مكان او منتدى وقرئ القرآن.
الثالث : الذين يعرضون عن الآيات ويصمون آذانهم جحوداً وعتواً والحروف المقطعة جاءت مناسبة للأقسام الثلاث لأنها تجذب السامع وتجعله ينصت طوعاً أو كرهاً ويتشوق الى الإستماع لما بعد الحروف المقطعة فيكون هذا الشوق مقدمة لإدراك ما في آيات القرآن من الإعجاز.
وفي تفسير الإمام العسكري (أن معنى (الم) إن هذا الكتاب الذي أنزلته هو الحروف المقطعة التي منها ألف لام ميم وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين) ( ).
لقد فضل الله الأنبياء عليهم السلام على غيرهم من البشر وأكرمهم بالوحي والإخبار من غير واسطة أحد من البشر .
ومن خصائص النبي ان يأتي بالمعجزة وما يدل على نبوته من أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي يعجز الناس عن اتيانه بالأسباب والقدرات العادية والعلــمية الكـسبية .
والقرآن هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الإعجاز انحلالي بعدد آيات القرآن فكل آية منه معجزة من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية من السماء .
الثانية : ذات الآية القرآنية ومضامينها القدسية .
الثالثة : الآية القرآنية على نحو الإستقلال .
الرابعة : إنضمام الآية القرآنية الى غيرها من الآيات .
الخامسة : العلوم التي تترشح عن الآية القرآنية و(الم) آية مستقلة ودعوة للبحث والتحقيق.
وللحروف المقطعة خصوصية في أيام التنزيل، فمع الإخبار بأن القرآن كتاب نازل من عند الله تعالى فانه يتضمن الحروف المقطعة ومع هذا لم تجد أحداً من الكفار يعترض او يشكل عليها موضوعاً ومضموناً ومعنى.
وسكت وعجز أساطين الفصاحة والبلاغة عن الرد عليها ولم يظهروا الإستخفاف بها.
واشتغل نفر من أهل الكتاب في المدينة بها من جهة الحساب وآجال الأمم والدول ، وهذا ايضاً إعجاز إضافي أن تكون للحروف المقطعة وجوه متعددة تنظر كل أمة وجماعة اليها بالمنظار المناسب لها وما عندها من العلوم والتراث .
ويدل بالدلالة الإلتزامية على استظهار أسرار رياضية وهندسية وحسابية قد تظهرها الثورة التقنية والمعلوماتية الحديثة.
وقد تقدم الكلام مفصـلاً عن الحروف المقطعة في القرآن في تفسير أول آية من سورة البقرة وذكرت اربـعين وجهــاً لتأويــلها.
ولوجــود (الم) في أول سورة آل عمران دلالة خاصة وتوكــيد على أهـمية الحروف المقطـعة مطلقاً.
و(الم) على نحو التعيين، ليبقــى تراثــاً علمياً اسلامياً يدعو الباحثين لقراءة مضامينه، وليس بالضــرورة ان يؤتى بحقائق وعلوم جــديدة في الحــروف المقطـعة بل ان مراجعتها وما قيل فيها هو وحــده علم قائم بذاته يستحق الدراسات التخصصية، وللحروف المقطــعة اعجاز ذاتي وغيري، فالذاتي بتركيبتها وما فيها من الإشارات والمعاني ومضــامين التحدي، والغــيري انها مقدمة لغيرها من الآيات.
وذكر ان الإلف في (الم) اشــارة لله تعالى، واللام الى جــبرئيل والميم الى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونسب الى ابن عباس والضحاك.
والمعروف ان الفصاحة تتعلق بحروف اللغة العربية ونطقها، فجاء التحدي والبيان بأبسط مضامين الفصاحة وهو الحروف مجردة من المعنى الظاهري في لغة الخطاب والتفاهم، لتكون وحدها قاهرة للكفار بذات السلاح الذي يتباهون به وهو البلاغة، ولتوكد هذه الحروف الاعجاز بحمل اللفظ القرآني لمعان تفوق ما يتضمن كلام الناس سواء بالنسبة لواضعي اللغة او المتحدثين بها، ولتكون هذه الحروف حفظاً للغة وصيانتها.
لقد أسكتت الحروف المقطعة الكفار عند نزولها وامتنعوا مذهولين عن التصفيق والضجيج عند قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن الى ان تتوالى عليهم الآيات فيأخذهم البيان والإعجاز والبرهان، والمعروف ان الآية القرآنية تبقـى حية الى يوم القيامة .
والقرآن نزل للعرب وغير العرب من المسلمين وغير المسلمين، لذا فان تســكيت الكفار وجه واحد من معاني هذه الاية في زمن النزول، ومعانيها متعددة في زمن النزول وغيره من الأزمنة اللاحقة والى يوم القيامة، وهي علامات واشارات إلى آيات الله وآيام الدول والوقائع وآجال الأمم والجماعات.
وفيه وجوه:
الأول : ما لها من الأسرار أمر ظاهر ومعروف.
الثاني : يمكن استقراؤه والوصول اليه.
الثالث : انه خفي غير ظاهر.
الرابع : شطر منه ظاهر والآخر خفي.
والأرجح هو الرابع، ولكن الخفي منه ليس ممتنعاً عقلاً وشرعاً بل ان ابواب العلم اليه مفتحة، كما ان السعي في تحصيله أمر حسن وفيه ارتقاء علمي وان لم تصل الأمة الى درك كنهه في أزمنة مخصوصة، وتدخل التطورات العلمية في وسائل تحصيله ليكون القرآن حجة مركبة على أهل كل زمان من وجوه:
الأول : آيات التنزيل , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
الثاني : البراهين والحجج الثابتة في كل زمان.
الثالث : الدلالات والآيات الباهرات المستحدثة في كل زمان بحسب مناسبة الموضوع والحكم، وفي التنزيل[كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( ) وهذه الآيات تتجلى بوجوه:
الأول : مع الإرتقاء العلمي والإكتشافات في عالم الكون والخلائق وبديع صنعه تعالى.
الثاني : الوقائع والأحداث والشواهد التأريخية.
الثالث : جهود العلماء ورجال التفســير والفـقــه والعلوم الأخرى، والسعي النوعي والشخصي في استنباط الأحكام واستخراج درر القرآن.
الرابع : الإعجاز الذاتي للقرآن بانه يدل بذاته على ما فيه من الإعجاز والأسرار , قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )
وستبقى فاتحة سورة آل عمران (الم) كنزاً من كنوز القرآن من وجوه:
الأول : انها آية مستقلة.
الثاني : جاءت في أول سورة آل عمران.
الثالث : انها عنوان للسورة وعلامة واسم لها، وان جمعت مع الآية التالية للتمييز بينها وبين سورة البقرة.
الرابع : فيها دعوة للإقرار بما في القرآن من العلوم غير المكتشفة بعد، فالحروف المقطعة سر من أسرار القرآن، يحث على الكسب والتحصيل، ويجعل كل قارئ للقرآن يدرك ان علوماً من القرآن لم تكتشف وتتجلى بعد.
وهذه الحقيقة مناسبة للبحث والتحقيق في آيات القرآن، فتكون الحروف المقطعة سبباً لتحصيل علوم كثيرة، مع بقاء دعوة الحروف المقطعة نفســها الباحثـين وذوي الإختصاص للتحقيق فيها، ليكون هذا التحقيق وسيلة لنيل الثواب وكسب المعارف الإلهية وان لم يتم التوصل الى جانب من العلوم المدخرة فيها.
من أسرار القرآن الحروف المقطعة , ولا يعلم تأويلها , ومجيؤها في أول السور إلا الله عز وجل , لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وتبين الحروف المقطعة أن هذا التبيان أعم من أن تدركه عقول الرجال , وليس لنا إلا التصديق بأن الحروف المقطعة نازلة من عند الله عز وجل .
وأنها من العلم الذي استأثره الله عز وجل لنفسه , وهذا لا يمنع من المنافع العظيمة لوجود هذه الحروف في القرآن منها :
الأول : تلقي حروف وكلمات القرآن بالتصديق .
الثاني : التسليم بأن في القرآن آيات محكمات وآيات متشابهات , وهو الذي أخبرت عنه الآية السابقة من هذه السورة بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الثالث : إنصات المشركين عند سماع الحروف المقطعة وامتناعهم عن التصفيق والصفير عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن وأكثر الحروف المقطعة في السور المكية .
لتأتي بعد الحروف المقطعة آيات التنزيل وما فيها من سنن الأحكام والتكليف .
ومن الإعجاز أن الحروف المقطعة في أول السور وهي ليست كثيرة , ففي بداية هذه السورة حرف أو حرفان .. وأكثرها [كهيعص]( ) و[حم * عسق]( ) .
الرابع : وجوب تعاهد المسلمين لنظم القرآن .
الخامس : دلالة بقاء الحروف المقطعة في القرآن في كل زمان على سلامته من التحريف , قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) وقال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ).
السادس : لقد كان العرب أهل فصاحة وبلاغة , ومع هذا لم ينكروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزول الحروف المقطعة وتكرار تلاوتها .
وقيل من معاني (الم) أن الألف تذكر ببدء الخلق واللام وسط الخلق , وحرف الميم نهاية الخلق .
والحروف المقطعة أعجمية أي أنها لا تفيد معنى الحروف الموصولة , والمعجم أي المبهم .
(وقيل صلاة النهار عجماء أي لا يجهر فيها بالقراءة، وجرح العجماء جبار، وأعجمت الكلام ضد أعربت، وأعجمت الكتابة أزلت عجمتها نحو أشكيته إذا أزلت شكايته)( ).
قانون النفع المتجدد للحروف المقطعة
لقد كان كفار قريش يقومون بالتصفيق والصفير واللغو أثناء قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في مكة خاصة في موسم الحج لوجوه :
الأول : وقوع شطر من موسم الحج في الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة , واضطرار قريش للإمتناع عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها .
الثاني : مجئ وفد الحاج من المدن والقرى إلى مكة , وإصغاؤهم لتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات طوعاَ وقهراَ وانطباقاَ , وعن ابن اسحاق بإسناده عن ربيعة بن عبًاد (قَالَ إنّي لَغُلَامٌ شَابّ مَعَ أَبِي بِمِنًى ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنْ الْعَرَبِ .
فَيَقُولُ يَا بَنِي فُلَانٍ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْدَادِ وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي ، وَتُصَدّقُوا بِي ، وَتَمْنَعُونِي ، حَتّى أُبَيّنَ عَنْ اللّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ . قَالَ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ لَهُ غَدِيرَتَانِ عَلَيْهِ حُلّةٌ عَدَنِيّةٌ .
فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا دَعَا إلَيْهِ قَالَ ذَلِكَ الرّجُلُ يَا بَنِي فُلَانٍ إنّ هَذَا إنّمَا يَدْعُوكُمْ أَنْ تَسْلُخُوا اللّاتَ وَالْعُزّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَحَلْفَاءَكُمْ مِنْ الْجِنّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضّلَالَةِ فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ .
قَالَ فَقُلْت لِأَبِي : يَا أَبَتِ مَنْ هَذَا الّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ ؟
قَالَ هَذَا عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ) ( ).
الثالث : البيان والبلاغة العالية لآيات القرآن بما يجعلها تنفذ إلى شغاف القلوب .
الرابع : خشية قريش من رجوع وفد الحاج بتحفة إلى أهليهم وهي آيات القرآن , خاصة وأن السور المكية تتصف بالقصر وسهولة الحفظ وغزارة المعنى ومنها قوله تعالى[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ( ).
ولا يفهم من الأمر في الآية خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بل هو خطاب خاص ومعناه عام , إذ أن كل مسلم وكل إنسان مأمور بالقول هو الله أحد.
لذا إبتدأت سورة آل عمران بعد الحروف المقطعة بقوله تعالى [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] ( ) وكانت هي الآية الثانية من السورة بلحاظ أن الحروف المقطعة التي في أول السورة آية مستقلة , بعد البسملة .
فجاءت الحروف المقطعة لجذب إنتباه المشركين وجعلهم يصغون إلى آيات القرآن الأخرى.
لقد اندهش الناس من الحروف المقطعة فكانت مقدمة ومدخلاَ لأحكام التنزيل وهداية الناس .
(وعن ابن عمر : أن قريشاً اجتمعت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد ، فقال لهم عتبة بن ربيعة : دعوني حتى أقوم إلى محمد أكلمه ، فإني عسى أن أكون ارفق به منكم . فقام عتبة حتى جلس إليه .
فقال : يا ابن أخي إنك أوسطنا بيتاً ، وأفضلنا مكاناً ، وقد أدخلت في قومك ما لم يدخل رجل على قومه قبلك ، فإن كنت تطلب بهذا الحديث مالاً فذلك لك على قومك أن نجمع لك حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد شرفاً فنحن مشرفوك حتى لا يكون أحد من قومك فوقك ولا نقطع الأمور دونك .
وإن كان هذا عن لمم يصيبك لا تقدر على النزوع عنه بذلنا لك خزائننا في طلب الطب لذلك منه ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفرغت يا أبا الوليد ؟
قال : نعم . فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { حم} السجدة حتى مر بالسجدة فسجد وعتبة ملق يده خلف ظهره حتى فرغ من قراءتها ، وقام عتبة لا يدري ما يراجعه به . حتى أتى نادي قومه .
فلما رأوه مقبلاً قالوا : لقد رجع إليكم بوجه ما قام به من عندكم ، فجلس إليهم .
فقال : يا معشر قريش قد كلمته بالذي أمرتموني به . حتى إذا فرغت كلمني بكلام لا والله ما سمعت أذناي بمثله قط ، فما دريت ما أقول له!
يا معشر قريش أطيعوني اليوم ، واعصوني فيما بعده . اتركوا الرجل واعتزلوه ، فوالله ما هو بتارك ما هو عليه ، وخلوا بينه وبين سائر العرب ، فإن يكن يظهر عليهم يكن شرفه شرفكم ، وعزه عزكم ، وملكه ملككم ، وان يظهروا عليه تكونوا قد كفيتموه بغيركم . قالوا : أصبأت إليه يا أبا الوليد)( ) .
لقد كان رد قريش على عتبة بنعته بأنه صبا وترك دينهم , ولكنه لم يتعظ إنما خرج مع قريش إلى معركة بدر عندما جاء رسول أبي سفيان ضمضم بن عمرو يندبهم لإنقاذ قافلة أبي سفيان من استحواذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عليها ثم برز عتبة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد للقتال , فقتلهم الذين برزوا لهم من أهل البيت وهم الأمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث.


قوله تعالى[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] الآية 2.

الإعراب واللغة
[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] اسم الجلالة: مبتـدأ، لا: نافـية للجنس، وتعمل عمل (ان) وتسمى تبرئة، اله: اسم لا، مبني على الفتح، هو: بدل من محل لا واسمها او من الخبر المحذوف أي لا إله موجود الا هو. والجملة الإسمية (لا اله الا هو) خبر اسم الجلالة المبتدأ.
[الْحَيُّ الْقَيُّومُ] الحي: خبر ثـان مرفــوع بالضــمة.
القيوم : خبر ثالث مرفوع بالضمة، ويجوز اعرابهما صفتين لله، او خبرين لمبتدأ محذوف.
الألف واللام في اسم الجلالة أصليين جزء من ذات الاسم لا تغادره لأنها بنية الكلمة وهي ليست شمسية أو قمرية , ولالام العهد أو لام الجنس , وتجد قريب منها في اللام التي في الأسماء الموصولة مثل التي , الذي .
وفي لفظ الجلالة أقوال منها :
الأول : أصله (لاه , ثم ادخلت فيه الألف واللام وفخمت اللام .
الثاني : أصله إلاه من يأله إذا عُبد , بمعنى أنه معبود , ثم القيت الهمزة على لام التعريف .
الثالث : عن سيبويه : الألف واللام عوض من الهمزة التي في (إله) وليس هو من تعريف النكرة .
روي في الشواذ عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وعن زيد بن علي بن الحسين ، وعن جعفر بن محمد الصادق، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الحي القيام)( ) وهي قراءة عبد الله بن مسعود.
وعن ابن مسعود قال: (نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها الرجل من آخر الليل)( ).
في سياق الايات
بعد الحروف المقطعة جاءت الآية الثانية من سورة آل عمران بكلمات التوحيد مقرونة بالتعظيم والتقديس لتكون مفتاحاً من عالم التوحيد لدخول سورة آل عمران وبيان مضــامينها، وانها تتعلق باخلاص العبادة لله عز وجل حتى في خصوص قصص الإنبياء والمجاهدين الواردة فيها .
قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ]( ).
لقد قطعت آية البحث بالوحدانية لله عز وجل في الملكية والقدرة والمشيئة قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ), ( ) ثم جاءت بعدها آية الإخبار عن فضل الله عز وجل بإنزال القرآن .
لقد ورد لفظ الكتاب بقوله تعالى في الآية التالية [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( ) بصيغة الإجمال لتعدد معاني الكتاب .
ولكن التقييد يتجلى بذات الآية بالقربة بالإخبار عن نزول الكتاب على خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون معنى الآية نزل عليك القرآن بالمقام وبين الوحي والكتاب عموم وخصوص مطلق , فالوحي أعم .
ثم جاء تقييد وبيان آخر في خاتمة الآية بأن هذا الكتاب مصدق لكتاب التوراة الذي أنزله الله عز وجل على موسى عليه السلام , وكتاب الإنجيل الذي أنزله الله عز وجل على عيسى عليه السلام , وليس من نبي بين عيسى والنبي محمد التي استمرت نحو ستمائة سنة .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة أول جمعة خطبها بالمدينة (الحمد لله أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلّة من العلم وضلالة من الناس وإنقطاع من الزمان ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل .
[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( )، فقد رشد ومن يعصيهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيداً ، وأوصيكم بتقوى الله فأنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وان يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه وأن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربّه عون وصدق على ما تبغون من أمر الآخرة .
ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السرِّ والعلانية لاينوي بذلك إلاّ وجه الله يكن له ذكراً في عاجل أمره ، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء الى ما قدم ، وما كان من سوء تودّ لو أنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً .
ويحذركم الله نفسه والله روؤف بالعباد ، والذي صدق قوله ونجز وعده لا خلق لذلك فأنه يقول ما يبدلّ القول لديَّ وما أنا بظلام للعبيد، [وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، في عاجل أمركم وآجله في السرِّ والعلانية فإنه من يتّق الله كفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً.
ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً ، وان تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه .
وأن تقوى الله تبيض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة خذوا بحظّكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علّمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في سبيل الله حقّ جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين .
( ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيى عن بيّنة ) ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم، فأنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفيه الله ما بينه وبين الناس، وذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوّة إلاّ بالله العظيم) ( ) .
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : الله نزل عليك الكتاب بالحق .
الثاني : الله لا إله إلا هو نزل عليك الكتاب بالحق .
الثالث : الله الحي نزًل عليك بالحق .
الرابع : الله القيوم نزل عليك الكتاب .
الخامس : الحي القيوم نزل عليك الكتاب .
ومن معاني الجمع بين الآيتين إنه لا يقدر على تنزيل الكتب السماوية إلا الله عز وجل وهو من أسرار مجئ الآية بإسم (الكتاب) وليس القرآن.
وهل في تعريف (الكتاب) في الآية بالألف واللام لخصوص القرآن تشريف للقرآن ، وبيان لقانون كمال التشريع فيه ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ولابد من أسرار وعلوم ودلائل لمجئ اسم واسم القيوم في أول سورة آل عمرانن وفي لطف نزول الكتاب على الآية عطفاً موضوعياً.
فمن مصاديق الحياة الدائمة لله عز وجل وقيم منه أنه هو الذي أنزل الإنجيل في زمان بعثة عيسى عليه السلام والله سبحانه محيط بأفراد الزمان الطولية كلها.
وقيل ورد لفظ (نزّل) بالتضعيف الذي تدل عليه الشدة وعلى الزالي لكثرة وتوالي نزول آياته واستدامة قراءته ، بينما ذكر التوراة والإنجيل بلفظ (أنزل) لنزول كل منهما دفعة واحدة ، ولا يضر بهذا المعنى مجئ لفظ أنزل بخصوص القرآن كما في الآية بعد التالية [وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ]( ).
وقوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ]( )، فهو في القرآن من المجمل والمبين في كيفية التنزيل.
ومن معاني إكرام القرآن وتفضيله في عالم التنزيل قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
إعجاز الآية الذاتي
الآية وثيقة وشهادة على التوحيد جاءت واضحة بينة مفهـومة من كل الناس وبمختلف لغاتهم وهي حرب على الشــرك والكفر والضلالة، ولمجيئها في سورة آل عمران دلالات عقائدية خاصة بالإحتجاج على أهل الكتاب وفيها اثبات لوجود الصانع، ودعوة للناس للإيمان والتسليم بالنبوات ومناسبة لإستحضار ذكره تعالى والإقرار بانه حاضر معنا، وهذا الإقرار حرز ووسيلة للصلاح والرشاد واجتناب دعوة البنوة والغلو في النبوات.
وترسخ الآية في النفس الإنسانية صرحاً عقائدياً ثابتاً يفصل بين الواجب والممكن، والواجب لذاته هو الله تعالى، وباقي الخلائق والموجودات كلها ممكنات.
ومع قلة كلمات هذه الآية فإنها جمعت أربعة من الأسماء الحسنى وهي :
الأول : اسم الجلالة (الله) .
الثاني : إله , قال تعالى [وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثالث : الحي .
الرابع : القيوم .
ومن إعجاز القرآن في باب الأسماء الحسنى أنه إذا وردت عدة أسماء لله عز وجل في آية واحدة فلا بد أن يكون منها اسم الجلالة (الله) وورد لفظ (الحي القيوم) مرتين في القرآن إحداهما في هذه الآية والآخر في آية الكرسي .
وتعود الهاء في (بين يديه) إلى القرآن أي لما قبله من الكتب التي أنزلها الله عز وجل .
ويمكن تسمية هذه الآية بـآية (الحي القيوم) ولم يرد هذان الاسمان مجتمعين في القرآن الا مرتين إحداهما آية البحث ، والثانية آية الكرسي.
إعجاز الآية الغيري
لقد ابتدأت الآية باسمى مراتب الذكر ، ومظهر التقوى ، وركن الإيمان بالتسليم بالتوحيد ، والربوبية المطلقة لله عز وجل ، فليس من خالق ورازق ومعبود سواه تفضل على الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليصرفهم عن عبادة الأوثان والتزلف إليها وليأخذ بأيديهم إلى سبل الرشاد.
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة قول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سبع عشرة مرة في اليوم ، ومن أبهى معاني الصراط الإقرار بالوحدانية لله عز وجل وأنه [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
ومن قيمومة الله عز وجل فرض عبادته على الناس جميعاً ، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ]( ).
وسيأتي مزيد كلام بخصوص هذا المعنى في مقدمة الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين من تفسيري هذا للقرآن والحمد لله وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
وليس من نبي إلا وجاء بكلمة [لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] ومنهم من تحمل الأذى والضرر في الدعوة إلى التوحيد ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
وجاء في الآية اسم (الحي) وهو من الأسماء الحسنى وهو الدائم الباقي بذاته الذي [لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ]( )، وفي التنزيل [هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( )، وهو سبحانه (القيوم) مدبر الكون.
الآية سلاح
تساهم الآية في تثبيت الإيمان وصدق السريرة وتطرد الشك والريب والجحود وتمنع من الشرك.
وتعتبر عوناً للمسلمين في مواجهة نظريات الشرك والضلالة والجحود، وهي درس في الوحدانية وارشاد للعقول بان الله واحد لا ثاني له.
من خصائص الأنبياء أنهم جاءوا بسلاح التنزيل وما فيه من البشارة والإنذار , وبيان الأحكام والاوامر والنواهي .
وابتدأت سورة آل عمران هذه بلواء التوحيد , وتعددت فيها الأسماء الحسنى بعد افتتاح السورة بالبسملة لتنمية ملكة التقوى في نفوس المسلمين , والإحتراز من النفاق والإرتداد وتدعو الآية المسلمين والناس جميعاَ إلى اللجوء إلى سلاح الدعاء .
فمن معاني قوله تعالى [الْحَيُّ]( ) أنه سبحانه يسمع الدعاء ومعنى [الْقَيُّومُ]( ) أنه القادر على إجابة الدعاء وأن مقاليد الأمور بيده , وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وتمنح الآية المسلمين الصبر وتحمل الأذى في جنب الله عز وجل والرضا بما قسم وهي حجة على المشركين , مادة للإحتجاج عليهم , وفضح قبح الكفر .
مفهوم الآية
تؤكد الآية حقيقة ثابتة وهي (نفي الشـريك)، وتبين للناس تنزيه مقام الربوبية وعدم وجود شريك في الألوهية والخلق والتدبير، ان تعدد الآلهة امر ممتنع عقلاً وواقعاً، وكذلك فان التركيب في الواجب غير ممكن، لأن التركيب يستلزم الحاجة والإمكان، والآية تنهى عن الشرك وتمنع منه وتؤكد بطلانه وزيفه ومنافاته للواقع وحكم العقل، وتدعو الناس كافة، الى نبذه والتخلص منه ومما فيه من الضلالة والغواية قال تعالى [أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] ( ).
والشرك اكبر آفة وداء يصيب المجتمعات ويؤدي الى ضياع القيم الإنسانية، وغياب الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة ويحجب الناس عن التدبر بالآيات الكونية والقيام بوظائفهم الشرعية .
لذا اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ودافعوا بالنفوس والأموال في سبيل إعلاء كلمة الحق وتثبيت سنن التوحيد في الأرض، وليخلع الناس رداء الشرك والضلالة وفي التنزيل [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ).
وتبين هذه الآية في مفهومها قبح الشرك ولزوم محاربته والتخلص منه وانه غريب عن الأرض والإنسان، لأن خلق الإنسان لم يتم الا بالنفخ فيه من روحه تعالى , [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) ليكون هذا النفخ عهدا وميثاقا مصاحبا للإنسان يجذبه لمنازل الهدى والرشاد .
فلابد ان يبقى عند الإنسان وجوانحه انعطاف ولجوء الى مقام الربوبية، وهو وان كان ضعيفاً عند الكافر الا انه يمكن تنميته وتغذيته وتعاهده بالبينة والبرهان والدعوة الى الله ليرجع الى سبل الرشاد وينبذ الغواية .
وقد تفضل الله سبحانه وبعث الأنبياء وأنزل الكتب لمحاربة الشرك بصيغه المختلفة سواء العلني منه او الخفي الذي يتستر بادعاء الإنتماء إلى ملل سماوية ذات كتاب منزل، فالمدار في صدق الإنتماء اليها هو نبذ الشرك بكل وجوهه، ومحاربة الجاهلية والوثنية.
إفاضات الآية
يدل اسم الله عز وجل على الذات المقدسة كعنوان جامع لأمهات الأسماء وهو دعوة للقلوب للإنجذاب اليه سبحانه، وبشهادة التوحيد يتغشى التهذيب النفوس، والصلاح الأعمال، وتنتشر معاني الود والمحبة، وتترشح مفاهيم الإيمان، وفيه وقاية وحرز من الكفر ومضامين الضلالة.
وفي الآية تأديب للمسلمين وغيرهم بان الذات المقدسة لا تقبل الإنفعال والتعدد، وفي الإقرار بالتوحيد تعاهد للقيم القرآنية , ومفاهيم العبادة والخشوع لله تعالى.
لقد تضمنت آية البحث قانوناً من الإرادة التكوينية وشواهد قطعية على التوحيد ، بذكر ثلاثة أسماء لله عز وجل ، والرابع حصر الإلوهية به سبحانه لبيان غناه سبحانه ، وفي التنزيل [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
وهل تذكر الآية بعالم الآخرة أم أن موضوعها هو الدنيا ، الجواب هو الأول فهو سبحانه حي قيوم قبل الدنيا وفي عالم الآخرة لبيان حاجة الناس لرحمته سبحانه في النشأتين.
ومن إفاضات الآية تصدرها سورة آل عمران وهي من أكبر سور القرآن إذ تبلغ آياتها مائتي آية ، وسيأتي مزيد كلام في الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر المبارك.
لقد وردت أسماء حسنى لله متعددة في آيتين متجاورتين ، قال تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( )، ومع كثرتها ودلالة كل اسم منها على التوحيد وانحصار الربوبية بالله سبحانه فليس فيها اسم (الحي) ولا اسم (القيوم) مما يدل على موضوعية آية البحث وإفاضاتها في تنمية ملكة التقوى والصلاح عند المسلمين والناس جميعاً.
وهل آية البحث حرب على الإرهاب ، الجواب نعم ، وفيها دعوة لنبذه وإجتناب الإضرار بالناس فان الله عز وجل هو الحي الذي يرى أعمال الناس ، ولا يرضى بالتعدي على الآمنين ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
من خصائص الكتاب السماوي تأكيده على التوحيد , وهو الأصل الذي ترتكز عليه رسالات الأنبياء , وليس من نبي إلا واجتهد في الدعوة إلى التوحيد , وتحمل الأذى هو وأهل بيته وأصحابه في هذه الدعوة .
وهل قتال الأنبياء وأصحابهم كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ), ( ) .
على التوحيد أو لتثبيت النبوة والتنزيل الجواب لا تعارض بين الأمرين والنبوة والتنزيل فرع التوحيد , لذا ورد في ذكر أصول الدين انها :
الأول : التوحيد .
الثاني : النبوة .
الثالث : المعاد .
وسيأتي في الجزء الثالث والثلاثين بعد المائتين من هذا التفسير أنه ليس من أصل لتقسيم أحكام الشريعة إلى أصول الدين , وفروع الدين , إنما هو تقسيم استقرائي , والمراد من فروع الدين الفرائض العبادية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد تأتي آية تقدم الفرع على أصله كما في قوله تعالى في ذم المجرمين [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ]( ) فقدمت الآية الصلاة , ثم الزكاة الواجبة والمستحبة وحرمان الكفار أنفسهم من اتيان أي منهما , ثم إتصافهم بالجدال بالباطل , والميل إلى اللهو واللعب واتباع الهوى .
واختتمت الآية بذكر المعاد وأنهم كانوا ينكرون المعاد , والمختار أن التقسيم إلى أصول الدين وفروعه بمعنى تقدير الأولى بالأولوية في عالم الأفعال , لم يثبت .
وإن كان ذات التقسيم الإستقرائي أمر حسن ووقع الخلاف في تكليف المشركين بالفروع أو عدمه , والأولى هو بيان الإنتفاع العام من التكليف , والضرر الجسيم في التخلف عنه .
ومن إفاضات آية البحث بعثها المسلمين على التقيد بالفرائض والتكاليف واتيان ما أمر الله عز وجل وبذم واجتناب ما نهى عنه , قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
لقد تضمنت آية البحث اسم (الحي) واسم (القيوم) وكل منهما من الأسماء الحسنى ولا يصلحان إلا لله عز وجل .
فالله عز وجل مانح الحياة , وهو حي في كل زمان وخارج عالم الأزمنة والأفلاك , وحياته بصفات الكمال والجلال من العلم والقدرة والمشيئة والعزة والعظمة والملك المطلق والقوة ونحوها , قال تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ) .
ومن فضل الله عز وجل حصر القوة كلها لله عز وجل فهي سبب للرحمة والرأفة بالخلائق ومنها الرزق الوفير لبني آدم لذا قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ) .
الآية لطف
من خصائص آية البحث انها جامعة لأسماء حسنى , وليس معها غيرها , وهي :
الأول : اسم الجلالة (الله) وهو اسم علم خاص بالله عز وجل وحده , واختلف في اشتقاق هذا الاسم لغة اختلافاَ كثيراَ , واضطربوا وهو من مصاديق قدسية هذا الاسم .
ولابد للمسلم النطق به وقيل لو قال أحدهم : لا إله إلا الرحمن , لم يصح .
والمختار أنه يصح إلا ان تكون عناك قرينة على إرادة غير الله , أو التورية .
نعم لا تنعقد الصلاة إلا بقول (الله أكبر) في تكبيرة الإحرام فلا يصح قول (الرحمن أكبر).
وتضاف الأسماء الحسنى لله عز وجل فيقال : العفو الغفور من أسماء الله عز وجل , وقال تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
وهل يشترط بالدعاء ذكر الله عز وجل , قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) الجواب لا .
فقد يكون ذكر اسم من أسماء الله عز وجل موافق لموضوع السؤال , كما في سؤال الرحمة أو طلب المغفرة أو سعة الرزق , وفي التنزيل [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ]( ).
الثاني : كلمة التوحيد (لا إله إلا هو) فليس من إله في الأرض ولا في السماء , ولا فيما سبق من الأحقاب أو ما يأتي من إله غير الله عز وجل سبحانه [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثالث : اسم الحي , فالله هو الباقي الدائم بصفات العظمة والكبرياء والكمال , وقد وردت ذات كلمات آية البحث كجزء من آية الكرسي وهي[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]( ).
وهو من مصاديق ورود الحديث بأنها أعظم آية في القرآن , وقد تقدم الحديث منها , وهي من أشهر آيات القرآن عند المسلمين في كل زمان , (عن أبي أسيد الساعدي . أنه قطع تمر حائطه فجعله في غرفة ، فكانت الغول تخالفه إلى مشربته فتسرق تمره وتفسده عليه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : تلك الغول يا أبا أسيد ، فاستمع عليها .
فإذا سمعت اقتحامها قل : بسم الله أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالت الغول : يا أبا أسيد اعفني أن تكلفني أن أذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعطيك موثقاً من الله أن لا أخالفك إلى بيتك ولا أسرق تمرك ، وأدلك على آية تقرأها على بيتك فلا تخالف إلى أهلك ، وتقرأها على إنائك فلا يكشف غطاؤه ، فأعطته الموثق الذي رضي به منها .
فقالت : الآية التي أدلك عليها هي آية الكرسي . فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فقص عليه القصة ، فقال : صدقت وهي كذوب)( ).
وعن (أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }( ) و { الم ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم }( )) ( ).
و(عن أبي أمامة يرفعه : قال : اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور : سورة البقرة ، وآل عمران ، وطه ، قال أبو أمامة : فالتمستها فوجدت في البقرة في آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }( ) .
وفي آل عمران { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }( ) وفي طه{ وعنت الوجوه للحي القيوم }( )) ( ).
وعن (الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال : ما أرى رجلاً أدرك عقله في الإِسلام يبيت حتى يقرأ هذه الآية { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }( ) .
ولو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال ، إن رسول الله قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش ، ولم يؤتها نبي قبلي .
قال الإمام علي عليه السلام : فما بت ليلة قط منذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقرأها) ( ).
الرابع : القيوم : والله عز وجل هو الباقي في الأزلي الأبدي له السلطان والملك والربوبية المطلقة على الخلائق كلها لذا أمر الله عز وجل بقول كل واحد من المسلمين والمسلمات سبع عشرة مرة في اليوم [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين اسم الرب واسم القيوم , المختار أنه العموم والخصوص المطلق , وقد اقترن اسم الحي والقيوم في ثلاث مواضع من القرآن :
الأولى : آية البحث .
الثانية : آية الكرسي .
الثالثة : قوله تعالى [وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا] ( ).
ولم يرد اسم القيوم إلا مقترناَ مع اسم الحي بينما ورد اسم الحي مستقلاَ كما في قوله تعالى [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا] ( ) وقوله تعالى [هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وهناك مسألتان في الآية أعلاه :
الأولى : هل الأمر بالدعاء في الآية أعلاه [فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) والإخلاص في الدين على نحو الوجوب .
الثانية : هل يختص الخطاب في الآية بالمسلمين .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم , لأصالة الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الإستحباب .
وأما المسألة الثانية فالمختار أن الآية للناس جميعاَ بلحاظ سياق الآية ونظم الخطاب في الآية السابقة وهو قوله تعالى [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
نعم اشترطت الآية الإخلاص في الدين وإرادة صدور الدعاء عن إيمان وإقرار بالتوحيد , وهو الذي تدعو إليه آية البحث .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث باسم الجلالة , وهي الآية الوحيدة في سورة آل عمران التي إبتدأت باسم الجلالة ,
وعدد الآيات القرآنية التي إبتدأت باسم الجلالة (34) آية أولها وفق نظم القرآن [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( ) .
وسيأتي تفصيل وبحث مستقل بعنوان (قانون اسم السلام سلام) في الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين من هذا السِفر المبارك( ) .
فبعد الحروف المقطعة في أول السورة (الم) وحمل الرجال والنساء على الإصغاء لتلاوة القرآن طوعاَ وقهراَ , وهو مقدمة للإصغاء في الصلاة وقوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
يأتي ذكر الله عز وجل , ومن خصائص هذا الاسم أنه يملأ الأسماع , وينفذ إلى شغاف القلوب .
ومن الإعجاز في المقام عدم مجئ الآيات بأحكام تشريعية إنما هي أم وأصل لهذه الأحكام , ودعوة للناس لإتيان العبادات بقصد القربة , وخشية منه تعالى في المعاملات , قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ]( ) ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيؤها ثلاث مرات في القرآن وكلها في إنذار شعيب إلى قومه كما في قوله تعالى [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
[وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ).
[وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ) وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسميه خطيب الأنبياء .
(وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان شعيب نبياً ورسولاً من بعد يوسف ، وكان من خبره وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن { وإلى مدين أخاهم شعيباً قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }( ) .
فكانوا مع ما كان فيهم من الشرك أهل بخس في مكايلهم وموازينهم مع كفرهم بربهم وتكذيبهم نبيهم ، وكانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم حتى يشترونه ، وكان أوّل من سن ذلك هم ، وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشرونها منه بالبخس يعني بالنقصان ، فذلك قوله {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها }( ).
وكانت بلادهم بلاد ميرة يمتار الناس منهم ، فكانوا يقعدون على الطريق فيصدون الناس عن شعيب يقولون : لا تسمعوا منه فإنه كذاب يفتنكم ، فذلك قوله { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون}( ) .
الناس أن اتبعتم شعيباً فتنكم ، ثم إنهم تواعدوه فقالوا : يا شعيب لنخرجنك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا أي إلى دين آبائنا ، فقال عند ذلك { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإِصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت }( ) وهو الذي يعصمني { وإليه أنيب}( )يقول : إليه ارجع .
ثم قال {أولو كنا كارهين } يقول : إلى الرجعة إلى دينكم إن رجعنا إلى دينكم {فقد افترينا على الله كذباً . . . وما يكون لنا }( ) .
يقول : وما ينبغي لنا أن نعود فيها بعد إذ نجانا الله منها { إلا أن يشاء الله ربنا }( ) فخاف العاقبة فرد المشيئة إلى الله تعالى فقال { إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما }( ) .
ما ندري ما سبق لنا { عليه توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}( ) يعني الفاصلين قال ابن عباس : كان حليماً صادقاً وقوراً ، وكان رسول الله صلى عليه وآله وسلم إذا ذكر شعيباً يقول : ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما دعاهم إليه ، وفيما ردوا عليه وكذبوه وتواعدوه بالرجم والنفي من بلادهم) ( ).
وبعد ذكر الآية لإسم الجلالة ذكرت كلمة التوحيد ومعه الإلوهية بالله وحده فهو الخالق فلا خالق سواه , وهو الملك والمالك لكل شئ , فما عداه مخلوق ممكن محتاج إليه , للملازمة بين الإمكان والحاجة وهو وفق القياس الإقتراني الكبرى , كل ممكن محتاج إليه , للملازمة بين الإمكان والحاجة , وهو وفق القياس الإقتراني .
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : المخلوقات ممكنة .
النتيجة : المخلوقات محتاجة .
ولا ملك ومالك للاكوان إلا لله عز وجل وهو رب كل شئ , وهو سبحانه حاضر في كل مكان من غير ان يحده مكان أو جهة , قال تعالى [مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
ولا ينفع ولا يضر إلا الله سبحانه بيده مقاليد الامور , ومن معاني الألوهية المطلقة لله عز وجل الحساب الإبتدائي للإنسان في عالم القبر والبرزخ , ومن ثم إحضار الناس يوم البعث بين يديه للحساب والجزاء , مع التضاد بين وجهي الجزاء , فأما السعادة الأبدية في الجنة , وأما الخلود في النار بحسب الأعمال في الحياة الدنيا , قال تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يذّّكر في كل خطبة عامة بعالم الآخرة , والإستعداد للحساب والفوز بالعبور على الصراط المستقيم في الآخرة , (قال جابر : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة يخطب فيقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه : أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم .
إن العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته , ومن الشبيبة قبل الكبر , ومن الحياة قبل الممات والذي نفسي بيده مابعد الموت ومن مستعتب وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم) ( ).
وبعد كلمة التوحيد انتقلت الآية لذكر اسمين من الأسماء الحسنى (الحي القيوم) لبيان إنفراد الله عز وجل بالحياة الدائمة الأبدية والأزلية سأل (عثمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تفسير { له مقاليد السماوات والأرض }( ).
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما سألني عنها أحد . تفسيرها لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والله أكبر ، واستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير) ( ).
وأختتمت الآية بالاسم (القيوم) وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين والناس جميعاَ , ودعوة لهم للدعاء والمسألة وسؤال الحاجات منه تعالى , قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تنمية ملكة الإيمان والعبودية لله عز وجل .
الثانية : في الآية توطتة لأداء المسلمين والمسلمات الفرائض العبادية .
الثالثة : ترغيب المسلمين بالأجر والثواب لدلالة الآية على أن الله عز وجل وحده الذي بيده تقاليد الأمور ولا يقدر على الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة إلا هو سبحانه .
الرابعة : تلاوة المسلمين للآية ثناء على الله عز وجل وفيه الأجر والثواب , ففي ذات التلاوة أجر , وهل تلاوة المسلمين للآية سبب للهداية وزيادة الإيمان , المختار نعم .
لقد أثنى الله عز وجل على اهل الكهف بقوله تعالى [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ) .
لتبين الآية أعلاه قانوناَ وهو تفضل الله عز وجل بزيادة إيمان وهدى الذين آمنوا لتبقى هذه النعمة متجددة على المسلمين بذاتها وتعدد طرقها ومنها تلاوة آيات القرآن والتدبر في معانيها .
الخامسة : الآية واقية من الشك والريب , ووسوسة الشياطين .
السادسة : لابد من أسرار لإبتداء سورة آل عمران بالحروف المقطعة ثم آية الأسماء الحسنى هذه .
وعدد آيات هذه السورة (200) آية منها آيات في الأحكام وآيات تخص معركة بدر , وأخرى تخص معركة أحد , ومن هذه الأسرار الوعد من عند الله عز وجل بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في تلك المعارك , لدلالتها على أن القوة لله عز وجل جميعاَ .
فأخبرت سورة آل عمران عن تلاوة الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) وبعد الإستجابة جاء النصر قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) لبيان فضل الله عز وجل وأن الإستجابة منه تعالى باب للنصر المبين .
وهل تختص هذه الإستجابة بمعركة بدر .
الجواب لا , إذ تتصل فيوضاتها إلى يوم القيامة , كما تضمنت هذه السورة أخبار معركة أحد وكيف أن الغلبة في بداية المعركة كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولكن الرماة تركوا مواضعهم مما مكًن خيل المشركين المجئ لهم من الخلف , فاشاعوا القتل في صفوفهم .
ونزلت الملائكة مدداَ لإنقاذ ونصرة المسلمين قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) .
وتبعث آية البحث على الصبر , ومن التقوى التسليم بنزولها من عند الله عز وجل , والإقرار بالربوبية المطلقة له سبحانه .
السابعة : إفتتاح قدسي مبارك لسورة آل عمران بآية من بضع كلمات كلها أسماء حسنى لله عز وجل , وفيه مقدمة ومدد وعون لتلقي الأحكام الشرعية الوارة في هذه السورة .
التفسير
قوله تعالى [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ]
بدأت الآية بذكر الله عز وجل لتوكيد التوحيد والتنبيه عليه وجذب الأنظار الى مقام الربوبية الذي يعشقه المؤمنون، فبعد ان اختتمت سورة البقرة بدعاء المؤمنين وتضرعهم الى الله وسؤالهم العفو والمغفرة والرحمة جاءت بداية سورة آل عمران بذكره تعالى مقروناً بشهادة التوحيد، وجاءت الآية بذكر الله ثم نفت عنه الشريك، فهذا الإبتداء المبارك شهادة على ارتكاز الأعمال على اعلان التوحيد ونفي تمام الشرك، وان التوحيد ثابت ومتأصل في نفس المسلم.
وبذا يتصف القرآن بوجــوه من المعرفة الإلهية تدل على صدق الإيمان وتهدي الى الصلاح، والإبتداء باسمه تعالى وحده جهاد ضد الكفر والتجــاء الى الله تعالى منه.
ومــن الحقائــق المتعــلقة بماهـية ووجود الإنســان مـلازمة الحاجة له لأنه ممكن، والحاجة لا تنحصر بجانب معين أو أمر محدود بل شاملة لجميع جوانب الحياة ومرتبطة بالعالم الآخـر خصوصاً وانه دار حساب بلا عمل.
وبذكره تعالى تستفتح الشهادة والقول والعمل، لأن الإستفتاح أعم من أن يكون بالبسملة.
وفي الآية توكيد على عدم وجود واسطة بين التوحيد والشرك وان التوحيد أمر ثابت وبقاؤه في الأرض قطعي ومتصل وهو ملاك المغفرة , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
ففي كل زمان هناك أمة مؤمنة تدعو الى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتواجه الشرك وتحارب الكفر قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) وان كانت صيغ المواجهة والحرب متباينة من زمان الى آخر شدة وضعفاً، سعة وضيقاً.
ان تلاوة وقراءة شهادة التوحيد في القرآن وعلى اللسان مطلقاً مساهمة في بناء صرح الإيمان الذي يستلزم تعاهده قيام كل مسلم بوضع لبنة فيه لتكون عهداً وذخراً وأمانة مركبة من وجوه :
الأول: اثبات حفظ الأمانة والقيام بادائها , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( ).
الثاني: توكيد تلقيها من الأجــيــال الســابقة، وكأن كل جيــل مسؤول عن ايصالها الى الجيل اللاحق، فاتيان اللاحق بها اعتراف وشهادة على قيام الجيل السابق بوظيفته في تسليمها الى من بعده.
الثالث: تسليم الأمانة الى الأجيال اللاحقة.
ومثلما ان واجب الوجود بسيط، فان كلمة التوحيد بسيطة واضحة المعاني حسنة النظم لتبقى قريبة من القلوب ومن الأوليات التي يستحضرها الإنسان من غير واسطة.
واذا كانت الحــروف المقطــعة ســبباً للتنــبيه ووسـيلة لخذلان الكافرين ومنعهم من الصخب والمكاء عند تلاوة القرآن، فان تعقبها باسم الجلالة يبعــث في نفوســهم الرعــب والفـــزع، وهو مناسبة للإنصات للقرآن والتدبر فيه وادراك عظمته والإقرار بالعجز عن كنه معرفته.
وصخب المشركين كان في مكة فهل انقطع بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة خصوصاً وأن آية البحث مدنية لأنها من سورة آل عمران ، الجواب لا ، إذ كان المسلمون يتلون آيات القرآن في مكة حتى بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينزل القرآن لزمان دون آخر.
والآية دعوة للإنقطاع إلى الله تعالى وتعظيم شعائره، وحسن الإمتثال للأوامر الإلهية والتنزه من الشك والزيغ وفي تلاوتها طرد لنزغ الشيطان.
لقد جاءت الآية رداً ووقاية من معتقدات الشرك التي انتشرت في الجزيرة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
بحث كلامي
من صفات الله تعالى انه غني غير محتاج، والغنى ملازم لوجوب الوجود واجماع المسلمين على اتصافه سبحانه بصفات الكمال والإكرام وانه قادر، عالم، حي، مريد، قدير، صادق، متكلم، مدرك.
وقد ظهرت المعتزلة والأشاعرة كمدرستين كلاميتين في القرن الثاني الهجري وما بعده، وجاءت كل منهما بأقوال ومسائل، وأتسعت مباحث المدرستين، ومن المسائل الخلافية بينهما قول المعتزلة بان صفاته تعالى عين ذاته وقالوا بقيام الذات مقام الصفات.
بينما ذهب الأشاعرة الى القول بان الصفات كمال زائد على الذات المقدسـة مع الإقرار بانها قديمة وبينها وبين صفات الممكن عموم وخصوص من وجــه، فمــادة الإلتــقاء انها زائــدة علـى الذات، اما عنده تعالى فانها قديمة، واما في الممكن فانها حادثة، لأن كل ممكن حادث.
واحتج الأشاعرة على المعتزلة بانه لو كان عالماً بعلم يستلزم أحد أمرين اما ان يكون عالماً بنفسه، او انه عالم بعلم غير نفسه، والأول ممتنع عقلاً لأن ذات العلم لا يكون عالماً بنفس الوقت، (ويصح ان نقول يا علم الله اغفر لي وارحمني) ( ).
ولكن هذا لم يكن مقصوداً للمعتزلة لعدم القول بوحدة الذات والصفة في المفهوم ولأن البساطة تستوعب مفهوم الذات والصفة.
كما رد المعتزلة على الأشاعرة بان القول بالزيادة يستلزم القول بتعدد القدماء بحسب عدد الصفات، ولكن هذا لم يكن مقصوداً للأشاعرة لإجماعهم على انحصار القدم بالله عز وجل.
وألفت الكتب واشتغلت الحلقات بالأمر، وكل فرقة كسبت الى جانبها بعض الخلفاء والأمراء، واستطاعوا معها التأثير على الواقع العلمي العام ونشر أقوالهم.
ولكن الخلاف صغروي في ذاته وأثره وتأثــيره، وهو لا يسـتحق الجهود العلمية والمالية والإنشغال العام وتفويت كثيـر من الجهود وحصول النفرة والفرقة بين العلماء بخصوصها، وترى بعضهم يختار احد القولين ويتحمس له لا لشيء الا لأنه محسوب من هذه او تلك، وان الإنتماء يلزمه اخلاقياً بالذب عن مذهبه.
والإختلاف هل صفاته تعالى عين ذاته او ان الصفات زائدة على الذات لا يستحق انقسام العلماء والمتكلمين والأمة الى فرقتين للإتفاق على الكبرى الكلية وهي اتصافه سبحانه بصفات الكمال وانه تعالى عالم وقادر وحي ومتكلم ومنذ القدم وليس من تعدد او تركيب في واجب الوجود، ويمكن القول ان الإختــلاف بين المعتــزلة والأشــاعرة في هذه المسألة لفظي.
قوله تعالى [الْحَيُّ الْقَيُّومُ]
من أسماء الله تعالى (الحي) وهو مانح الحياة وجعل [مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، وأمتاز آدم عمن سواه من الخلائق اذ نفخ الله فيه من روحه، فكان العقل والخلافة في الأرض.
وجاء الإكرام الاضافي العام لبني آدم بنزول القرآن هبة سماوية لأهل الأرض جميعاً لينتفعوا منه جميعاً ولكن بدرجات متفاوتة والتنزيل من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
وقد فاز المسلمون بالعمل بأحكامه وتعاهده وحفظه ليكون شاهداً على الأسماء الحسنى وانه تعالى هو الذي تنحصر به استدامة الحياة دون غيره وعلى نحو الحقيقة والضرورة.
ويتفرع عن الحياة العلم والقدرة، وهو الذي يفيض الحياة على المخلوقات ويبعث فيها الحركة والقدرة .
فالحياة شاهد على القدرة وكذا العكس أي القدرة شاهد على الحياة، وثبوت الصفة فرع عدم استحالتها.
وبعد حصر الألوهية به تعالى جاء الثناء عليه سبحانه وبيان استحقاقه للألوهية وانــفراده بها وحصــرها به دون غــيره ، وحــاجة جميع الخلائق اليه، ولزوم انقطاع الناقص الى الكامل، والممكن الى الواجب.
ومن أسمائه تعالى (القيوم) وهو الذي يتولى شؤون الخلائق وبيده مقاليد الأمور وتبين الآية حاجة الإنسان الى من يقوم بتعاهده وحفظه ودرء الأضرار عنه وتهيئة مستلزمات استدامة حياته الى حين أجله، مثلما احتاج الى بعث الروح فيه.
وكما جاء اسم (الحي) على نحو الإطلاق أي انه مستوعب للأزمنة المقدرة وغير المقدرة في عالم اللامحدود، فكذا بالنســبة للقــيوم فانه شامل لجميع الموجودات والخلائق.
فالله عز وجل يتولى شؤون كل مخلوق على حدة، ومجتمعاً مع غيره، اجتماعاً خاصاً وآخر اجتماعاً عاماً، مع التعدد في هذا الإجتماع بحسب الجهة واللحاظ والحيثية والموضوع، والله عز وجل عالم بخفايا الأمور وعواقبها وقدرته وسعت كل شيء.
والآية مدح له تعالى ودعوة للناس للإقرار بالربوبية، وفيها تحذير من الشرك لفساده وبطلانه، وعن عبد الله بن سلام قال (قال بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلا في الوادي يقول اشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا اشهد لا يشهد بها أحد إلا برئ من الشرك)( ).
وتمنع الآية من إدعاء الربوبية من قبل الطواغيت والجبابرة، وفعلاً فانك ترى انقطاع هذه الدعوى بعد نزول القرآن وانعدام موضوعها، واخذ الكافر لا يفكر الا في نفسه وينشغل بلومها على اختيار الكفر، وادرك الطواغيت عدم وجود انصار لفكرة ادعائهم الربوبية، لأن معالم الإيمان دخلت كل بلدة وقرية ومنتدى، وضياء القرآن أخترق شغاف القلوب طوعاً وقهراً.
ومن لم يأخذ بأحكامه وقف عند قواعده واصابه الضعف والوهن عن المقاومة، وانحسرت أسباب العناد واللجاج.
وهذا الإنحسار جزء من رشحات قيمومته تعالى، وتدبيره شؤون الخلائق وإصلاح المجتمعات وجعلها مؤهلة للإنصات لدعوة الحق، والمنع من الصدود النوعي العام.
ان الإخبار عن ضعــف الإنســان وحاجــته الى مــن يتولى أموره، هو اكرام للإنسان ودعوة للتدبر في حقيقة ضــعفه وحاجته، وتلك الولاية خاصة به تعالى، لذا ختمت سورة البقرة بآية [أَنْتَ مَوْلاَنَا] ( )، ثم جاءت خاتمة سورة آل عمران لتؤكد اهليته سبحانه للولاية وقدرته على تولي شــؤون الخــلائق جميعاً، وفيها لطف وأمن من عند الله ، وطرد للخوف من قلب بني آدم.
فاذا كان بعضهم يقول هب ان القيمومة لله ولكننا نحتاج الأمان والسلامة من الكائنات الأخرى، ومن النجوم والكواكب وتساقطها، والجبال واندكاكها وزوالها والأنهار وفيضاناتها، وغيرها من الأهوال والمصائب الخارجة عن قدرة الإنسان، فجاءت الآية لتخبر بان قيمومته تعالى مطلقة شاملة لجميع الخلائق ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ( ).
وان ولايته تعالى للإنسان لا تنحصر بنفسه وذاته بل تشمل مستلزمات حياته كافة وما يحيط به، وهل تنحصر قيمومته تعالى بقوانين الأسباب والمسببات ، والعلل والمعلولات أم أنها مطلقة.
الجواب : هو الاخير، لوجوه:
الأول : ان الله عز وجل خالق الأسباب والعلل مما يعني عدم الحصر او التقييد بها، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثاني : عدم استعصاء مسألة عليه تعالى.
الثالث : فتح باب الدعاء والوعد الكريم بالإستجابة على نحو الإطلاق لعمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ].
لقد أكدت الآية حصر اطلاق الحياة بالله تعالى فهو سبحانه قديم سرمدي لا نهاية لحضوره في المستقبل المطلق، وفيه دعوة للناس للجوء اليه سبحانه وطلب الخلود في النعيم منه سبحانه.
وورد لفظ (الحي) لغير الله في الــقرآن تســع مــرات قال تعالى
[يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ]( )، ومع التباين بين الخالق والمخلوق، فانه سبحانه ذكر اسم الحي على نحو المشترك اللفظــي مع المائــز العظيم وانحصــار اســتدامــة الحياة به تعــالى، وانها في غيره مؤقــتــة ومشــتــقــة من قــدرته وهــي رشــحـة من رحمته وفضله.
ولا يمكن ان نقول ان الحياة صفة للناس والخلائق على نحو المجاز بل هي حقيقة ايضاً وأمر واقعي، ولكنه زائل غير دائم وجاء بفضل الله تعالى، ولا تستطيع الخلائق ان تهب الحياة لنفسها او لغيرها ولا استدامتها وتعاهدها، فالملك والعبد، والغني والفقير كل منهم يموت في أجله ولا يأكل الا رزقه.
فان قلت: ان عالم الإستنســاخ الحيــواني والبشـري يعني منح الحياة، وان الإنســان وان عجز عن منــح الحياة لنفسـه فانه استطاع ان يمنح الحياة لغيره، فهناك حقيقة مســتحدثة وهــي ان الإنسـان يهب الحياة لأخــيــه الإنسان بواســطة الإســتـنـسـاخ، والجواب ان الإنسان في الأصل علة مادية لوجود الإنسان بالنكاح والتناسل ومراحل حمل الأم.
اما الآن فطرأت مسألة علمية جديدة لم تســتوف شروط نجاحها بعد، وهي لا تخرج عن قانون العلة والمعـلول باضافة فضل الله تعالى في تعليم الإنسان واعانته على الإرتقاء العــلمي واخبار القرآن بهذه الثورات العلمية بالدلالة التضمنية لقوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
وكل كائن فهو مخلـوق لله تعالى سواء بالمباشرة او التسبيب مع تعدد وجوه التسبيب.
ومع ان الله عز وجــل جعــل المؤمنــين أعــزة فــانه أخبر عن حاجتهم الى من يدبر أمــورهم ويتولى شؤونهم، فهل في هذا الإخبار ذل لهم، الجــواب: لا، لأن ولايتهم محصــورة بالله تعالى وهم الذين ارادوا هذه الولاية وايقنوا بحاجتهم اليها على نحو التقييد فقالوا (انت مولانا).
فمن دلالات هذه الآية انها استجابة للمؤمنين بالإخبار عن الولاية بالمعنى الأعم وهو القيمومة والتدبير، ليس في شؤونهم فقط بل شؤون جميع الخلائق، وفيه عز لهم ، فهي من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهذه الآية ذاتها عز لهم وخزي للكافرين الذين يعادون الذي يتولى شؤونهم، والقادر على البطش بهم، لأن القيمومة تدل على القدرة المطلقة فمن يكون قيماً يكون قادراً على التصرف في الأشياء والأمور التي في حوزته.
والآية بشارة للمسلمين واخبار عن حتمية النصر والظفر على الأعداء، وفيها بعث للأمل في نفوسهم والثقة فيما عندهم والرضا بما قسم الله لهم، كما تطرد الخوف والحزن منهم لأن تولي أمورهم من عند الله تعالى وحضور الأشياء جميعها عنده يعني بالضرورة عدم وصول الضرر اليهم او حصول الخسارة عندهم , وفي التنزيل[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
والآية دعوة لإقامة الفرائض وتثبيت السنن السماوية ونشر المعارف الإلهية لما فيها من أسباب التوكل على الله والإطمئنان الى التوفيق والرشاد منه تعالى، وهي سبيل للصلاح والإحتراز في الأقوال والأفعال فمن يعلم ان القيم عليه حاضر وموجود فانه يتجنب غضبه ولا يتصرف بما لا يرضيه.
وأخرج ابن اسحق وابن جرير وغيرهما قال: (قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفد نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعقاب وعبد المسيح والايهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك) ( ).
وقال ابن اســحق حدثنى محمد بن ســهل ابن أبى امامة قال: (لما قـدم أهــــل نجـران على رســول الله صــلى الله عليه وآله وســـلم يســألونه عن عيسى بن مـريم نزلت فيهم فاتحــة آل عمران إلى رأس الثمانين منها)( ).
علم المناسبة
ورد لفظ (القيوم) في القرآن اسماً لله تعالى ثلاث مرات، وكلها مرتبطة مع لفظ (الحي)، بينما يستقل لفظ (الحي) اسماً لله في موضعين من القرآن.
والفاظ الآية محل البحث جزء من الفاظ آية الكرسي التي تبدأ بذات الكلمات، وآية الكرسي اعظم آيات القرآن، وكل آية في القرآن لها قدسية وعظمة خاصة، ومع القول بان هذه الآية في معناها ومضمونها تختلف في دلالتها عن معنى آية الكرسي خصوصاً وان الآية جاءت كاملة مستقلة بأول كلمات آية الكرسي.
وقد ورد عن ابي بن كعب قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا ابا المنذر: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قلت : (الله لا اله الا هو الحي القيوم) ( ) قال: ليهنئك العلم يا ابا المنذر والذي نفس محمد بيده ان لهذه الآية لساناً، تقدس الملك عند ساق العرش).
والمراد بأعظم آية يحتمل أموراً:
الأول: آيةالكرسي، وانه ذكر أولها في اشارة اليها.
الثاني: هذه الآية محل البحث من سورة آل عمران خصوصاً وان الحــديث جــاء بجــمــيع حــروفها وكلــماتها من غير زيادة عليها.
الثالث: الأمر الجامع للآيتين معاً وان كلاً منهما هي أعظم آية في كتاب الله.
والأصح هو الوجه الأول، من وجوه:
الأول: التبادر وانسباق آية الكرسي من حين سماع الفاظ أول الآية مجردة عن آية قرينة.
الثاني: الإرتكاز الذهنــي، بان آية الكــرسي هـي أعظم آيات القرآن، كما ان التــبادر ذاته متــوقف على العــلم الإرتـكازي الإجمالي.
الثالث: مجيء النصوص بخصوص آية الكرسي وتفضيلها، كما تقدم في التحقيق الروائي في تفسير آية الكرسي.
ان اقتران اسم القيوم بالحي له دلالات عقائدية، فالله عز وجل منح الحياة ليشترك فيها الإنسان وغيره من الكائنات النامية، مع الفارق والتباين بذات الحياة، وانه تعالى حي ومانح الحياة.
والحياة صفة ذاتية فجاء توكيد بروزها في الخارج بالقيمومة والتدبير، للكائنات كلها، وفي مجئ اسم القيوم مع الحي مسائل:
الأولى: عدم مجئ اسم القيوم في القرآن مستقلاً، بينما جاء اسم الحي وحده، قال تعالى [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ]( ).
الثانية: مجيء القيوم بعد الحي وليس متقدماً عليه، مما يدل على اثبات موضوعية الحياة في القيمومة، وابطال قيمومة غيره سبحانه، ودعوى الملوك والسلاطين والرهبان وغيرهم في ادعاء تولي شؤون الناس ولزوم رجوعهم اليهم لا أصل له، فلا قيمومة الا لله سبحانه لأنه وحده هو الحي على نحو مستديم وثابت.
الثالثة: لم يأت اسم “القيوم” مقترناً مع غير اسم الحي مما يدل على موضوعية عناوين الحياة للقيمومة، وتذكير الناس بانه تعالى يرى اعمالهم ويعينهم بلطفه على أفعال الخير والهداية.
ومن الآيات على أهمية وخصوصية اسم (القيوم) بين الأسماء الحسنى انه جاء في ثلاث مواضع منها آية الكرسي، وفي افتتاح سورة آل عمران، وكلمات هذه الآية جزء من كلمات آية الكرسي، مع انها آية مستقلة وكأنها اختصار لآية الكرسي ولكن لها خصوصيتها , وتترشح عنها المنافع العظيمة وأبواب الأجر والثواب، ولبيان تعدد فضل الله تعالى وقربه من العبد.


قوله تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] الآية 3

الإعراب واللغة
قرأ الحسن البصري (الأنجيل ، بفتح الهمزة ، وهو دليل على العجمة ، لأن أفعيل بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب . فإن قلت : لم قيل { نَزَّلَ الكتاب } {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل}( ).
قلت : لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل كل من الكتابين جملة .
وقرأ الأعمش : نزَل عليك الكتابُ) ( ).
بتخفيف نزل , ورفع الكتاب أي أنه فاعل والصحيح هو ما مرسوم في المصاحف .
ومن معاني نزًل بالتشديد , أي توالي نزول القرآن في أربع وعشرين سنة .
[نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ] نزل: فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر يعود لله عز وجل، الكتاب: مفعول به منصوب بالفتحة.
[بِالْحَقِّ] بالحق: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف حال من الكتاب، والتقدير متلبساً بالحق.
[مُصَدِّقًا] مصدقاً: حال منصوب.
[لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] اللام: حرف جر، ما: اسم موصول في محل جر باللام، بين: ظـرف مكان متعــلق بمحذوف صــلة الموصول.
يديه: مضاف اليه مجرور بالياء لأنه مثنى حذفت النون للإضافة، الهاء: مضاف اليه.
وروي عن الحسن البصري “الأنجيل” بفتح الهمزة.
سياق الآيات
بعد التوكيد القطعي بحصر الألوهية بالله تعالى، وانعدام الشركاء وخزي الكافرين وبيان معالم الدين للمسلمين وجاءت هذه الآية لتخبر عن عظيم فضل الله تعالى على الناس بانزال الكتب السماوية وكيف ان اللاحق منها يصدق ويعضد ويؤيد السابق له، وكذا العكس.
وبعد ذكر الآية السابقة لثلاثة من الأسماء الحسنى لله عز وجل جاء بيانه شاهد على عظمة الله عز وجل وإثبات لقدرته عز وجل , وتعدد وكثرة المنافع لهذه الأسماء مجتمعة ومتفرقة ومنها نزول التوراة والإنجيل ثم القرآن من عند الله عز وجل , وأن هذا النزول بالحق والصدق , لدفع وهم , ومنع دبيب الشارع إلى النفوس بالتنزيل .
وهل دخل رهط أو جماعة من الناس الإسلام بكلمة (الحق) وحدها الواردة في آية البحث المختار نعم , ومن معاني الحق في المقام وجوه :
الأول : الصدق .
الثاني : التأكيد بأن نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثالث : الرحمة العامة من عند الله عز وجل للناس بنزول القرآن .
الرابع : نزول الأوامر والنواهي من عند الله عز وجل .
الخامس : بقاء أحكام القرآن إلى يوم القيامة وسلامتها من التحريف والتبديل قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( ).
و(عن ابن زيد في الآية قال : كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم طرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت عليّ .
وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به ، حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله في ذلك فقال { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً ، واستغفر الله }( ) بما قلت لهذا اليهودي { إن الله كان غفوراً رحيماً }( ) .
ثم أقبل على جيرانه فقال { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم } إلى قوله { وكيلاً }( ) ثم عرض التوبة فقال { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ، ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه }( ) .
فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً }( ) وإن كان مشركاً { فقد احتمل بهتاناً }( ) إلى قوله { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى }( ) قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتاً يسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله)( ) وذكرت القصة في رواية أكثر تفصيلاَ عن الصحابي قتادة بن النعمان( ).
السادس : الإخبار السماوي بأن الله عز وجل هو الذي اختار النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة الخاتمة .
السابع : بيان إعجاز للقرآن , وهو تصديقه للكتب السماوية التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام والإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام .
الثامن : وحدة موضوع الكتب السماوية , وفيه شاهد صدق على نزول القرآن , وهل يصح تقدير الآية :
الأول : أنزل الله عز وجل التوراة بالحق .
الثاني : أنزل الله عز وجل الإنجيل بالحق .
الجواب نعم , قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ]( ).
التاسع : حاجة الناس لنزول القرآن , قال تعالى [إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة وجوه :
الأول : الله عز وجل نزل عليك الكتاب بالحق .
الثاني : لا إله إلا هو نزل عليك الكتاب .
الثالث : الحي نزل عليك الكتاب .
الرابع : القيوم نزًل عليك الكتاب .
ومن الإعجاز حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الآية , وكأنه يغشى عليه قهرا .
لقد ابتدأت الآية بالإخبار عن تفضل الله عز وجل بإنزال القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظاهر كلمة(نزًل) أي على نحو التدريج والتوالي .
وهذه الكيفية في التنزيل عليها الكتاب والسنة النبوية والإجماع , قال تعالى[وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ) وكانت سبباَ لدخول كثير من الناس الإسلام , ووسيلة لتثبيت الإيمان في قلوب الصحابة , إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما ينزل عليه القرآن يتصبب عرقاَ في اليوم البارد , وينقطع إلى الذكر قال تعالى[لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( )
إعجاز الآية الذاتي
تصف الآية القرآن بانه الكتاب بينما ذكرت التوراة والإنجيل باسميها، ليكون هذا التصديق شهادة على أهلية القرآن لحفظ الكتب السماوية للأخرى، مما يدل بالأولوية على حفظه لذاته بفضل الله تعالى، فهذه الآية من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن، واثبتت الآية صفة التنزيل للقرآن والكتب السماوية الأخرى، مما يدل على ان القرآن لم ينزل لذاته بل ليؤكد صدق الكتب السابقة والتي ورد ذكرها على نحو الخصوص وبالاسم منعاً للإفتتان والدعوى الباطلة لكتب موجودة بين الناس بانها منزلة .
وفيه دعوة للمودة بين المسلمين وأهل الكتاب , ونبذ العنف والتطرف وإجتناب التفجيرات الإرهابية , قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ).
فمن وجوه اعجاز القرآن انه مانع من الإدعاء الباطل في باب التنزيل، فبهذا التعيين استبان وتجلى الحق، وعرفت اشخاص التنزيل، نعم وردت آيات اخرى باضافة بعض الكتب السماوية كما في الزبور قال تعالى [وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ).
ولكن هذه الآية تبين امهات الكتب السماوية.
ويدل وصف القرآن بأنه الكتاب على احاطته بما في الكتب الأخرى، وقيد النزول (بالحق) يؤكد ان القرآن ضرورة وحاجة لأهل الأرض.
لقد ذكرت الآية القرآن بصفة الكتاب وذكرت التوراة والإنجيل بإسميهما لبيان أن النسبة بينها هي العموم والخصوص المطلق وأن القرآن أعم وأظهر منها , قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
وستأتي الآية التالية بذكر القرآن وحده وباسم [الْفُرْقَانَ]( ) وأن الله عز وجل هو الذي انزله , ومن معاني الفرقان شهادته وتصديقه بنزول التوراة والإنجيل .
ويمكن تسمية هذه الآية بــآية[نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( ).
وقد ورد في الآية لفظ [نَزَّلَ] ولفظ [أَنْزَلَ] لبيان الفرق في النزول ، فقد نزل القرآن نجوماً وحسب الأحداث والوقائع وأسباب النزول أن التوراة والإنجيل فقد نزل كل منهما جملة واحدة ، نعم قد ورد لفظ [أَنْزَلَ] بخصوص القرآن ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
إعجاز الآية الغيري
ابتدات الآية بالجار والمجرور الزماني (من قبل) للشهادة على تفضل الله عز وجل بنزول التوراة على موسى عليه السلام ، وبنزول الإنجيل على عيسى عليه السلام.
ولم يأت الإخبار عن نزولهما في المقام إلا بعد كلمة التوحيد وتأكيد نزول القرآن من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيه إعجاز وهو إذا ورد اسم التوراة والإنجيل مع القرآن فان القرآن يختص بكل من :
الأول : اسم الكتاب ، كما في آية البحث [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( ).
الثاني : اسم الفرقان كما في الآية التالية بقوله تعالى [مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( ).
وقد وردت تسمية كل من التوراة والإنجيل بالكتاب كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ]( ).
الثالث : توالي التنزيل ، لذا قيدت الآية نزول التوراة والإنجيل بأنه (من قبل).
الآية سلاح
في الآية مدد وضياء يهدي المسلمين في سبل المعرفة ويظهر لهم ولغيرهم عظمة القرآن وانه نازل من عند الله تعالى، وهذا النزول دعوة لتلقيه وقبول أحكامه واجتناب الإعراض عما فيه من السنن والأوامر والنواهي.
وفيها عون للمسلمين بقبول حقيقة عقائدية وهي ان التوراة والإنجيل كتابان نازلان من السماء ولكن هذا النزول احتاج الى التصديق والإثبات، والتصديق جاء من عند الله تعالى وليس من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وصف القرآن بانه كتاب.
لقد استقبل مشركو قريش وحلفاؤهم نزول القرآن بالتكذيب والجدال , قال تعالى[فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ] ( ) .
ولم ينحصر تكذيب قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقول إنما تجلى بشدة الإيذاء له ولأهل البيت والصحابة , فضربت قريش حصاراَ على بني هاشم استمر ثلاث سنوات من السنة السابعة للبعثة النبوية إلى السنة العاشرة منها أي قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فظنت قريش أن بني هاشم سيجزعون ويدفعون إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم صبروا على البلاء والحصار الإقتصادي والإجتماعي كما سيأتي بيانه إلى أن أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الحشرة الأر ضية لصحيفة الحصار التي كتبتها قريش فكان فيها خزيهم , لأن إخباره هذا من علم الغيب وفيه إنذار لهم ومن خلفهم , وزجر عن تجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة .
قال لهم (أبو طالب : صحيفتكم بيني و بينكم و إن ابن أخي قد خبرني و لم يكذبني أن الله عز و جل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم يدع لله فيها اسما إلا أكلته و بقي فيها الظلم و القطيعة و البهتان فإن كان كاذبا فلكم علي أن أدفعه إليكم تقتلونه و إن كان صادقا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا ؟ .
فأخذ عليهم المواثيق و أخذوا عليه فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و كانوا هم بالغدر أولى منهم و استبشر أبو طالب و أصحابه و قالوا : أينا أولى بالسحر و القطيعة و البهتان ؟ .
فقام المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف و هشام بن عمرو أخو عامر بن لؤي بن حارثة فقالوا : نحن برآء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة و لن نمالىء أحدا في فساد أنفسنا و أشرافنا و نتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرج أقوام من شعبهم و قد أصابهم الجهد الشديد فقال أبو طالب في ذلك من أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم و ما أرادوا من قتله :
( تطاول ليلي بهم و صب … و دمع كسح السقاء السرب )
( للعب قصي بأحلامها … و هل يرجع الحلم بعد اللعب )
( و نفي قصي بن هاشم … كنفي الطهاة لطاف الحطب )
( و قول لأحمد أنت امرؤ … خلوف الحديث ضعيف النسب )
( و إن كان أحمد قد جاءهم … بحق و لم يأتهم بالكذب )
( على أن إخوتنا وازروا … بني هاشم و بني المطلب )
( هما أخوان كعظم اليمين … أمر علينا كعقد الكرب )
( فيال خي لم تخبروا … بما قد مضى من شؤون العرب )
( فلا تمسكن بأيديهم … بعد الأنوف بعجب الذنب )
( علام علام تلافيتهم بأمر … مراح وحلم عزب )
( و رمتم بأحمد ما رمتم … على الأصرات و قرب النسب )
( فإنا و ما حج من راكب … لكعبة مكة ذات الحجب )
( تنالون أحمد و تصطلوا … طبات الرماح و حد القضب )
( و تعترفوا بين أبياتكم … صدور العوالي و حبا عصب )
( تراهن من بين صافي السبيب … قصير الحزام طويل اللبب )
( وجردا كالطير سمحوجة … طواها المقانع بعد الحلب )
( عليها صناديد من هاشم … هم الأنجبون مع المنتخب )
و قال أبو طالب في شأن الصحيفة حين رأى قومه لا يتناهون وقد رأوا فيها من العلم ما رأوا :
ألا من لهم آخر الليل منصب…وشعب العصا من قومك المتشعب
و حرب أبينا من لؤي بن غالب… متى ما تزاحمها الصحيفة تخرب
إذا ما نشير قام فيها بخطه … الذوابة ذنبا و ليس بمذنب
وما ذنب من يدعو إلى البر والتقى…ولم يستطع أن يأرب الشعب يأرب
وقد جربوا فيما مضى غب أمرهم …وما عالم أمرا كمن لم يجرب
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة .. متى يخبر غائب القوم يعجب
محى الله كفرهم وعقوقهم…وما نقموا من باطل الحق معرب
فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا … ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا … على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبوا يا مسلمين محمدا … لذي غربة منا و لا متغرب
ستمنعه منا يد هاشمية … مركبها في الناس خير مركب)( ).
ومن معاني الإنذار للذين كذبوا بنزول القرآن من عند الله قوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ]( ) .
ومن مصاديق السلاح ذي صبغة السلم في آية البحث قذفها السكينة في قلوب المؤمنين , وهي حرب على النفاق ومنع من إنتشاره , فهذه الآية مدنية .
وعندما تم نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
أدخل سبعون أسيراَ من قريش إلى المدينة مع الغنائم ظهر النفاق بالتجاهر بالإيمان وإخفاء الكفر , فنزلت هذه الآية حرباَ على النفاق , ومنعاَ من إنتشاره وحجة وإحتجاجاَ على بطلانه , وفيها دعوة ليهود المدينة وغيرهم إلى الموادعة والألفة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب أراجيف المدينة , أو الإرجاف فيها .
مفهوم الآية
تطرد الآية الشك والريب من النفوس، وتمنــع من الــقول بان الــقرآن من النبي او انه من الملك النازل على النبي سواء في لفظه أو مضــمونه، لأنها شــاهد ســماوي واخــبار منــه تعــالى بانه هو الذي انزل القرآن، وتوجه الخطاب في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعــوة للناس للصــدور عنه والأخذ منه وعدم ايذائه او الإعراض عنه.
وتمنع الآية في مفهومها من الجحود والصدود عن القرآن، وتدعو الناس الى الإصغاء له واجراء مقارنة بين ما فيه وما مذكور في التوراة والإنجيل التحريف وابطال التغيير، والأخذ بالتنزيل الذي [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ).
ولا تصله يد التحريف.
ان اهلية القرآن لتصديق الكتب السماوية الأخرى يدل على تكذيبه وفضحه للتحريف والتغيير والتبديل.
إفاضات الآية
تجعل الآية النفوس تعشق القرآن وتنجذب اليه لأمور:
الأول : نزوله من السماء , قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : التقاء التنزيل مع نفخ الروح، فان الله عز وجل نفخ في آدم من روحه، وهذا كلام الله نازل من عنده.
الثالث : إتصاف القرآن بالصــدق والخــلو من الزيــادة او النقيصــة، وذكر التــوراة والإنجيل، للشهادة السماوية على صدق نزولها من عند الله عز وجل .
ولبيان وجوه الإلتقاء والأسوار الجامعة بين القرآن وبينهما في الأحكام وعلوم الغيب والدعوة إلى الله عز وجل [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) ولــم يجبروا على ترك ديانتــهم مــع شمــول الدعـوة للإسلام لعموم الناس , ودعا القرآن للألفة معهم .
وأخبرت الآية عن قانون نزول القرآن من عند الله عز وجل , وقانون إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي هذا التنزيل .
ليكون من إفاضات الآية حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى تمام نزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة وكانت سورة النصر [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ) من آخر سور القرآن نزولاَ , و(عن ابن عباس قال : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح }( ) قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعيت إلى نفسي وقرب أجلي) ( ).
ومن إعجاز نظم القرآن اخباره عن نزول القرآن بعد ذكره في بدايات سورة آل عمران وعدد آياتها (200) آية وبعد أن ذكرت الآية ثلاثة من أسماء الله عز وجل الحسنى في آية قصيرة , لبيان موضوعية نزول القرآن في السموات والأرض .
وفيه حجة بلزوم تعاهده بالرسم والتلاوة والعمل بأحكامه , وأيهما أكثر أهمية تلاوة القرآن أم العمل بأحكامه , الجواب كل منها ذو أهمية وموضوعية وشأن عظيم في الدنيا والآخرة , والمختار أن العمل بأحكام القرآن هو الأهم .
وقد ورد بعد أربع آيات إخبار آخر عن نزول القرآن مع تفصيل في صفات ومضامين آياته , قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
الآية لطف
ذات نزول القرآن لطف من عند الله عز وجل بكل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة السماوية له بأنه خاتم النبيين .
الثاني : ذات القرآن معجزة عقلية تتجلى منافعها إلى يوم القيامة .
الثالث : نزول القرآن لطف بأهل مكة وزمان التنزيل .
لذا خص الله عز وجل النبي وأهل البيت الصحابة بآيات إكرام وثناء وسماهم المهاجرين والأنصار , لينفردوا بهذه التسمية الحميدة إلى يوم القيامة , كما خصهم بعنوان تشريعي في سبقهم للإسلام [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الرابع : اللطف بأهل الكتاب , ونصرتهم بالقرآن ودعوتهم للتصديق به .
الخامس : فضل الله عز وجل على أجيال المسلمين والمسلمات بنزول القرآن وهدايتهم للإيمان وتلاوة القرآن والعمل بها , وهل من لطف الله عز وجل في آية البحث لأمر من عند الله عز وجل سبحانه لكل مسلم ومسلمة بتلاوة القرآن سبع عشرة مرة في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية , الجواب نعم , قال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالإخبار عن تنزيل الكتاب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحتمل المراد من الكتاب وجوه :
الأول : القرآن .
الثاني : القرآن وعامة الوحي , وقال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : المراد القرآن والوحي والحديث القدسي , والمختار المراد هو القرآن بألفاظه وكلماته وآياته وسوره بدليل تتمة آية البحث نفسها وأنه مصدق للتوراة والإنجيل في مضامينه وأحكامه وأخباره وعلومه وما فيه من البشارة والإنذار , والصفات الحسنة والأخلاق الحميدة للأنبياء قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
ولم تذكر الآية (ونزل عليك) الفاعل ولكن الآية السابقة تدل عليه وأنه الله عز وجل لبيان مسائل :
الأولى : الحاجة إلى سياق الآيات .
الثانية : قانون العطف في القرآن أعم من حروف العطف .
الثالثة : الثناء على الله عز وجل لإفادة هذا العطف الموضوعي الثناء على الله عز وجل وأنه الحي القيوم الذي يحفظ القرآن في نزوله , وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين له إلى يوم القيامة , فمن مصاديق قوله تعالى [الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) في الآية السابقة قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) ويصح تقدير الآية :
الأول : نزل الله عليك الكتاب .
الثاني : نزل الله لا إله إلا هو عليك الكتاب .
الثالث : نزل الحي عليك الكتاب .
الرابع : نزل القيًوم عليك الكتاب .
ثم بينت الآية صفة التنزيل وهو بالحق والصدق ثم بينت الآية صفة للقرآن وهو تصديقه كما في التوراة والإنجيل من صفة التنزيل , والأحكام , وأيضاَ من البشارة الواردة في التوراة والإنجيل بخصوص نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فيكون من معاني الآية مصدق لما بين يديه من البشارة بنزوله وبرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن يفسر بعضه بعضاَ , ومن البشارات التي بين يدي القرآن وسابقة له وحاضرة أوان تنزيله بشارة موسى وعيسى عليهما السلام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ) .
ثم اختتمت الآية بالإخبار عن تفضل الله عز وجل بإنزال التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام .
وجاءت الآية التالية لتبدأ بالجار والمجرور[مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( ) وما فيهما من الإخبار بأن نزول التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن .
وأخرج عن سلمة بن قيس (وكان أول أمير كان على إيلياء قال : ما أنزل الله في التوراة ، ولا في الإِنجيل ، ولا في الزبور ، أعظم من اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ( ).
و(عن واثلة بن الأسقع : أن رسول الله صلى الله وآله عليه وآله وسلم قال : أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، وأنزل الانجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) ( ).
وفي ذكر التوراة والإنجيل في الآية وأنهما تنزيل من عند الله عز وجل , صيانة المسلمين من الطعن بالكتب السماوية السابقة أم المقابلة بالمثل لمن ينكر نزول القرآن منهم , وفي التنزيل [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
وتتضمن الآية قوانين من الإرادة التكوينية وهي :
الأول : قانون نسبة التنزيل إلى الله عز وجل .
الثاني : قانون لا يقدر على تنزيل الكتب السماوية ومضامينها القدسية إلا الله عز وجل لذا جاء الإخبار عن نزول القرآن ومعجزاته ومن قبله التوراة والإنجيل بعد آية التوحيد والصفات الحسنة لله عز وجل وهي قوله تعالى [ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) لبيان أن تنزيل الكتب ومضامينها القدسية من السماء لا تقدر عليه الخلائق .
الثالث : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن , بواسطة جبرئيل .
الرابع : من معاني تسمية القرآن الكتاب جمعه للأحكام الشرعية , وكونه طريق النجاة في النشأتين بالإيمان والدعاء والعمل الصالح .
الخامس : نزول القرآن بالحق والشريعة المتكاملة من عند الله عز وجل .
السادس : قانون تصديق القرآن للتوراة والإنجيل , وبشارات الأنبياء التي وردت بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها حق وصدق .
لبيان أن النسبة بين (ما بين يديه) وبين التوراة والإنجيل , هو العموم والخصوص المطلق .
السابع : فضل الله عز وجل بنزول التوراة والإنجيل قبل القرآن , وبين عيسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة سنة .
وتقدير خاتمة الآية على وجهين :
الأول : وأنزل الله على موسى التوراة بالحق .
الثاني : وأنزل الله على عيسى الإنجيل بالحق .
مع تفسير نزل عليك الكتاب بالحق : ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأول : نزل الله عليك يا محمد القرآن , ومن الإعجاز في الكتب السماوية ورود الخطاب الخاص إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويدرك القارئ والسامع هذه الخصوصية فيفهم أن المقصود هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون سواه من الناس .
الثاني : نزل عليك الكتاب فاتلوه وبلًغه قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالث : نزل عليك الكتاب واختارك من بين الناس بالحق .
الرابع : نزًل عليك الكتاب بأحكام الشريعة فهي حق .
الخامس : نزل عليك الكتاب بالحق فهو من معاني قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : إخبار الآية عن نزول القرآن من عند الله هز وجل دعوة للمسلمين والناس يتلقيه بالقبول والتدبر .
الثانية : وجوب المبادرة إلى العمل بأحكام القرآن .
الثالثة : لزوم الشكر لله عز وجل على نعمة التنزيل .
الرابعة : تحقق بشارة التوراة والإنجيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن على صدره .
ومن إعجاز هذه الآية إتحاد موضوعها مع الآية السابقة لها والآيات اللاحقة لها .
الخامسة : مجئ الإخبار عن نزول القرآن من عند الله عز وجل في بداية سورة آل عمران مقدمة لمجئ الأحكام في هذه الآية ومدد وإعانة للمسلمين والمسلمات للعمل بأحكامها .
السادسة : تلاوة المسلمين كل يوم للقرآن بما يتضمن الإقرار بنزول التوراة والإنجيل والديانة اليهودية والمسيحية .
السابعة : من معاني وتقدير الآية نزل الله عليك كل آية بالحق .
الثامنة : ليس لجبرئيل إلا إيصال أمانة التنزيل .
فلا يبدل كلمة ولا يأتي بكلمة من عنده وقد أثنى الله عز وجل عليه فقال [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ]( ) أي أن وظيفة تنزيل وإيصال آيات القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التفسير بالتقدير
تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الرسول نزل الله عز وجل عليك الكتاب .
الثاني : نزل عليك الكتاب ولا يقدر على تنزيله إلا الله عز وجل .
الثالث : نزل عليك وهو القرآن .
الرابع : نزل الله عز وجل الكتاب الذي جعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الخامس : نزل عليك الكتاب وأمدًك بالوحي المتصل والحديث القدسي (عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته) ( ).
(وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، عن الروح الأمين قال : يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فيقتص بعضها من بعض ، فإن بقيت له حسنة وسع الله له بها إلى الجنة قال : فدخلت على يزدان فحدثت مثل هذا الحديث ، قلت : فإن ذهبت الحسنة .
قال { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا }( ) الآية)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : (نعيت إلى النبي صلى الله عليه وآله نفسه وهو صحيح ليس به وجع قال : نزل به الروح الامين ، فنادى الصلاة جامعة، ونادى المهاجرين والانصار بالسلاح .
قال : فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فنعى إليهم نفسه ثم قال : اذكر الله الوالي من بعدي على أمتي الا يرحم على جماعة المسلمين فأجل كبيرهم ورحم صغيرهم ووقر عالمهم ولم يضر بهم فيذلهم ولم يصغرهم فيكفرهم، ولم يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم ، ولم يجمرهم في ثغورهم فيقطع نسل أمتي ثم قال: اللهم قد بلغت ونصحت فاشهد) ( ).
السادس : نزل الله عز وجل عليك الكتاب [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السابع : نزل عليك بالحق [فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ]( ).
الثامن : نزل عليك الكتاب لتتبعك أمة مؤمنة .
التاسع : نزل عليك القرآن بالحق ففيه الشريعة المتكاملة , وأحكام الحلال والحرام إلى يوم القيامة , قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
العاشر : نزل الله عز وجل عليك القرآن وليس على غيرك من البشر , فكن من الشاكرين .
(وعن الأوزاعي قال : المعنى إنّ جبرئيل أتى النبيّ {صلى الله عليه وآله وسلم} فقال له : يا جبرئيل صف ليّ النّار؟
فقال : إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها .
والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوباً من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أنّ ذَنوَباً من سرابها صبّت في الأرض جميعاً لقتل من ذاقه .
ولو أنّ ذراعاً من السلسة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلّت ولو إنّ رجلاً دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبيّ {صلى الله عليه وآله وسلم} وبكى جبرئيل لبكائه .
وقال : أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ، ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح الأمين أمين الله على وحيه؟
قال : أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت. فهو الّذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من السّماء أنً يا جبرئيل ويا محمّد إنّ الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ففضّل محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء)( ).
الحادي عشر : ياأيها الرسول نزل عليك الكتاب مصدقاَ لما سبق من الكتب السماوية وبعث الأنبياء والآيات الكونية ونحوها من الشواهد التي تدل على الوحدانية وعلى وجوب عبادة الله عز وجل وحده , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ).
الثاني عشر : يا أيها الرسول نزًل الله عز وجل عليك الكتاب بالحق فــ[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثالث عشر : مثلما أنزل الله عز وجل القرآن عليك فقد أنزل التوراة على موسى عليه السلام , وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام.
التفسير
قوله تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ]
بعد الثناء على الله تعالى والتنزيه والتعظيم لمقام الربوبية، جاءت هذه الآية لبيان وجه آخر من وجــوه التعظيم ولكــن ليس بالـذات كما في الآية السابقة بل بالفعل الدال على انحصار الإلوهية به تعالى، فمن إعجاز الآية الإخبار عن التنزيل كدليل على الربوبية ودعوة الى التوحيد، وجاء الخطاب موجهاً الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه وجوه:
الأول : بعث الثقة والطمأنينة والسكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : العز والظفر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث : المراد من الخطاب الأمة بواسطة النبي والإشعار بصدق نزول القرآن من عند الله تعالى.
الرابع : قانون القرآن ليس من كلام البشر او من عند ملك، انما هو من عند الله , قال تعالى[لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( ).
الخامس : التنزيل عنوان تشريف وتفضيل للمسلمين بان الله أكرمهم وانزل عليهم مائدة علمية وملكوتية من السماء.
السادس : الآية دعوة للبحث في كيفية النزول من خلال الآيات الآخرى والنصوص، وقد وردت اخبار وأقوال في كيفية نزوله، منها انه نزل الى سماء الدنيا ليلة البدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجماً على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مدة التنزيل مع الإختلاف فيها، هل هي عشرون او ثلاث وعشرون او خمس وعشرون سنة.
السابع : الآية اخبار للمسلمين بان الرسول من عند الله تعالى هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس غيره من المسلمين او غيرهم لذا ورد قوله تعالى [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( ) مما يدل بالدلالة الإلتزامية على اقرارهم بان النازل من عنده تعالى قرآن.
الثامن : صحيح ان جبرئيل هو الذي نزل بالقرآن الا ان الآية تخبر على نحو القطع بان الله عز وجل هو الذي انزل القرآن، مما يعني ان جبرئيل كان واسطة ملكوتية , قال تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ] ( ).
التاسع : في الآية مدح لجبرئيل لأنه حفظ الأمانة في تنزيل القرآن ولم ينقص من كلماته.
فجعل الله اخباره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اخباراً ومباشرة للتنزيل منه تعالى.
ويفيد لفظ التنزيل يفيد التكثير وهو حاصل في القرآن بلحاظ وكثرة آياته البالغة (6236) آية، وعدد سوره وهي مائة واربع عشرة آية وجاء اسم التنزيل بلفظ (الكتاب) وعدد كلماته البالغة وهو اكرام للقرآن وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين.
والكتاب عنوان جامع للكتب السماوية، ومن دلالات هذا الأعم ان القرآن مكتــوب في اللوح المحفــوظ وانه ثابــت ومــدون محفــوظ من التغيير والتبديل، خصوصاً مع الآيات التي تدل على حفظه من عنده تعالى.
وفي لسان العرب قال: الكتاب، مطلق: التوراة، وبه فسر الزجاج قوله تعالى [نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ]( ).
ولكن هذه الآية تدل على ارادة القرآن عندما يرد لفظ الكتاب مطلقاً، لأنها ذكرت القرآن باسم الكتاب، وذكرت التوراة والإنجيل باسميهما، فالكتاب يطلق على كل ما أنزل من السماء ومنها التوراة، ولكنه مع اجتماع القرآن والتوراة والإنجيل فانه لا يطلق الا على القرآن، وهذه القاعدة المستقرأة من هذه الآية تبين خصوصية القرآن والشرف العظيم الذي ينفرد به من بين الكتب السماوية.
ويرد لفظ الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر قال الجعدي:
يا ابنة عمي ! كتاب لله اخرجني..عنكم , وهل أمنعن الله ما فعلا ؟
فالآية دعوة لتلقي أحكام القرآن بالقبول والإستجابة لما فيها من مضامين الفرض والوجوب.
ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأول : نزل عليك الكتاب [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).
الثاني : نزل عليك الكتاب [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثالث : نزل عليك الكتاب [هُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
الرابع : نزل عليك الكتاب لتعاهد الناس عبادة الله عز وجل في الأرض التي هي علة خلقهم , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الخامس : نزل عليك الكتاب ليكون صراطاَ مستقيماَ , ووسيلة العبور على الصراط في الآخرة لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلون قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم .
يبلغ عدد سور القرآن الكريم 114 سورةً، وفيما يأتي عدد آيات كل سورة وتصنيفها من حيث المكي والمدني:
اسم السورة عدد الآيات التصنيف
الفاتحة 7 مكية
البقرة 286 مدنية
آل عمران 200 مدنية
النساء 176 مدنية
المائدة 120 مدنية
الأنعام 165 مكية
الأعراف 206 مكية
الأنفال 75 مدنية
التوبة 129 مدنية
يونس 109 مكية
هود 123 مكية
يوسف 111 مكية
الرعد 43 مدنية
إبراهيم 52 مكية
الحجر 99 مكية
النحل 128 مكية
اإسراء 111 مكية
الكهف 110 مكية
مريم 98 مكية
طه 135 مكية
الأنبياء 112 مكية
الحج 78 مدنية
المؤمنون 118 مكية
النور 64 مدنية
الفرقان 77 مكية
الشعراء 227 مكية
النمل 93 مكية
القصص 88 مكية
العنكبوت 69 مكية
الروم 60 مكية
لقمان 34 مكية
السجدة 30 مكية
الأحزاب 73 مدنية
سبأ 54 مكية
فاطر 45 مكية
يس 83 مكية
الصافات 182 مكية
ص 88 مكية
الزمر 75 مكية
غافر 85 مكية
فصلت 54 مكية
الشورى 53 مكية
الزخرف 89 مكية
الدخان 59 مكية
الجاثية 37 مكية
الأحقاف 35 مكية
محمد 38 مدنية
الفتح 29 مدنية
الحجرات 18 مدنية
ق 45 مكية
الذاريات 60 مكية
الطور 49 مكية
النجم 62 مكية
القمر 55 مكية
الرحمن 78 مدنية
الواقعة 96 مكية
الحديد 29 مدنية
المجادلة 22 مدنية
الحشر 24 مدنية
الممتحنة 13 مدنية
الصف 14 مدنية
الجمعة 11 مدنية
المنافقون 11 مدنية
التغابن 18 مدنية
الطلاق 12 مدنية
التحريم 12 مدنية
الملك 30 مكية
القلم 52 مكية
الحاقة 52 مكية
المعارج 44 مكية
نوح 28 مكية
الجن 28 مكية
المزمل 20 مكية
المدثر 56 مكية
القيامة 40 مكية
الإنسان 31 مدنية
المرسلات 50 مكية
النبأ 40 مكية
النازعات 46 مكية
عبس 42 مكية
التكوير 29 مكية
الانفطار 19 مكية
المطففين 36 مكية
الانشقاق 25 مكية
البروج 22 مكية
الطارق 17 مكية
الأعلى 19 مكية
الغاشية 26 مكية
الفجر 30 مكية
البلد 20 مكية
الشمس 15 مكية
الليل 21 مكية
الضحى 11 مكية
الشرح 8 مكية
التين 5 مكية
العلق 19 مكية
القدر 5 مكية
البينة 8 مدنية
الزلزلة 8 مدنية
العاديات 11 مكية
القارعة 11 مكية
التكاثر 8 مكية
العصر 3 مكية
الهمزة 9 مكية
الفيل 5 مكية
قريش 4 مكية
الماعون 6 مكية
الكوثر 3 مكية
الكافرون 6 مكية
النصر 3 مكية
المسد 5 مكية
الإخلاص 4 مكية
الفلق 5 مكية
الناس 6 مكية

قوله تعالى [بِالْحَقِّ]
من أسماء الله تعالى (الحق) وهو واجب الوجود والمتحقق وجوده وربوبيته، والمراد من الحق في الآية حال التنزيل واستدامته وتجدده وماهيته وفي الآية وجوه:
الأول : يقال حق الشيء يحق بالكسر، حقاً أي وجب، فنزول القرآن أصبح واجباً وحاجة للناس.
الثاني : نزل القرآن في أوانه وزمانه، كما ان نزوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره حق وصدق، بمعنى انه الذي يستحق نزول عليه دون غيره من البشر، وكأن القرآن بانتظار ولادته وبعثته صلى الله عليه وآله وسلم فما ان أكمل الأربعين من العمر حتى آتاه الله النبوة , ونزل جبرئيل بقوله تعالى[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ] ( ).
الثالث : يقال حق الشيء اذا ثبت، فنزول القرآن أمر ثابت، والآية اخبار عن عدم انقطاع الوحــي والتــنزيل عن النــبي محمـد صلى الله عليه وآله وسلم وان الله عز وجل ينزل الكتاب كله على النبي محمد، قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( )، أي ما تركك وما بغضك.
الرابع : الحــق نقيـض الباطل، وهذه النســبة والتـنافر التام بينهما يعرفها كل انسان ويدركها العقل البشــري، فجــاءت الاية الكريمة لتتضــمن البشــارة بان القرآن حــرب على الباطــل وازاحــة لــه من على الأرض، أي بــنزول القــرآن انتصــر الحق وأنحسر الباطل.
الخامس : الحق صبغة القرآن ومادته وموضوعه وليس فيه من الباطل شيء، فلا واسطة بين الحق والباطل، والقرآن كله حق وصدق، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ]( ).
السادس : قيد (بالحق) الوارد في الآية متعلق بالتنزيل، أي ان نزول القرآن كان بالحق، وهو دليل على ان القرآن كلام الله وانه نازل من السماء، ولابد من توكيد لهذه الحقيقـة في ثنايا القرآن وآياته لذا تجد الإعجاز يتغشى القرآن كله.
السابع : جاء لفظ (بالحق) للتوكيد على صدق التنزيل، وهو دعوة اضافية للناس للتسليم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عنده تعالى.
الثامن : تبعث الآية الثقة في قلوب المسلمين وانهم على الحق باختيار الإسلام وفيها حث لغيرهم بدخول الإسلام , والتخلص من كدورات الريب والشك والجحود.
التاسع : الآية مدح للمسلمين لأن الله عز وجل انزل الكتاب بالحق فتلقوه بالتصديق والإقرار بانه حق وصدق وانه كلام الله.
العاشر : في الآية بشارة انتصار الإسلام وبقاء القرآن وأحكامه وقهر الكفار والمشركين , قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الحادي عشر : قيد بالحق توكيد لصدق ما في القرآن من الأخبار، ولزوم الإمتثال لما فيه من الأحكام.
الثاني عشر : الآية دليل على عدم طرو النسـخ على القرآن فهو الناسخ لغيره من الكتب من غير ان يكون منسوخاً بغيره لا بكتاب آخر اذ لا كتاب بعده، ولا بالسنة النبوية.
الثالث عشر : في الآية اخبار عن التكامل في الشريعة الإسلامية لما جاء به القرآن من الحق والصدق , قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الرابع عشر : من معاني (الباء) مرادفة (في) أي ان القرآن نزل في الحق وتثبيته في الأرض ومنع وجود الباطل واستحواذه على النفوس وفي المعاملات فترى القرآن يأمر بالصلاة وفيها نهي عن المنكر والباطل والفحشاء.
الخامس عشر : قيد (بالحق) جاء توضيحياً وهو القيد الناظر لبيان الطبيعة فقوله تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ] ( )، إعجاز واخبار عن صدور القرآن من عند الله تعالى وما كان صادراً منه سبحانه لابد ان يكون حقاً في موضوعه واحكامه وغاياته.
السادس عشر : الآية ترغيب بعلوم القرآن وحث على معرفة الحق من خلالها , ومانع من اختلاط المفاهيم وتبدو أهمية الأمر ظاهرة في هذا الزمان وما يتصف به من وجود تأثير لوسائل الإعلام، في صورة الأشياء ورسم الوقائع والأحداث.
السابع عشر : تتضمن الآية الإخبار عن صدق ما في القرآن من القصص سواء قصص الأنبياء أو قصص الأمم السابقة، والدعوة للرجوع اليها والأخذ والإنتفاع منها، وهي برزخ دون الوضع والتحريف في تلك القصص.
الثامن عشر : الآية دعوة للصدور عن القرآن وعدم التردد في قبول ما فيه من الأحكام والمبادئ.
التاسع عشر : الآية اصلاح للمجتمعات والقيم وتهذيب الأخلاق، وتثبيت لمفاهيم الحق والصدق.
العشرون : قيد (بالحق) شامل لكل آيات القرآن وأحكامه، وهو حجة فيما يتعلق بمضامين الوعد والوعيد الواردة في القرآن، فكأنه توكيد لها ولزوم الإلتفات اليها والإستبشار بما فيه من الوعد، والخوف والخشية من صيغ الإنذار والوعيد الواردة في القرآن على نحو النص والبيان , قال تعالى[لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الواحد والعشرون : للفظ التنزيل وبالحق مجتمعين دلالات خاصة منها جذب الناس للإسلام، ورسوخ الإيمان في نفوس المسلمين بأحكام الحلال والحرام، والتسليم بنزوله من عنده تعالى.
الثاني والعشرون : لو ورد التنزيل وحده لقال أهل الريب والشك بأن التنزيل عام وله وجوه ، فجاء قيد بالحق للدلالة على لزوم الرجوع اليه وانه كاف للناس في عباداتهم ومعاملاتهم وما يصلح أحوالهم في النشأتين، وقد جاءت آيات عديدة بلفظ التنزيل من غير تقييد ولكن قيد بالحق في هذه الآيات والآيات المشابهة يدل على التقييد الموضوعي للتنزيل، قال تعالى [وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ]( ).
الثالث والعشرون : الآية ترغيب بالإيمان , وانذار وتخويف ووعيد لأولئك الذين يعرضون عن آيات التنزيل وأحكام القرآن , قال تعالى[وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا] ( ).
الرابع والعشرون : الآية دعوة للشكر لله تعالى على التنزيل , وهذا الشكر لا ينحصر بالمسلمين بل هو شامل للناس جميعاً سواء لدعوتهم بالقرآن للإسلام ومبادئ الحق والصدق، او لإكتسابهم بعض علوم التنزيل بالواسطة أي بواسطة المسلمين، أو لوقف التحريف في الكتب الأخرى التي بين ايديهم .
فالقــرآن مائــدة ملكــوتية معروضة للناس جميعاً لينهلوا منها وان لم يقدموا على الأخذ منها طواعية، فان مضامينها تترشح عليهم وتظللهم بظلالها المباركة فهو رحمة للناس جميعا.
وقد وردت مادة (نزل) في هذه الآية مرتين، مما يدل على موضوعية التنزيل والتوكيد عليه وتثبيت حقيقة من أهم ضروريات الدين وهي نزول القرآن من عنده تعالى.
ومن معاني الباء في الآية :
الأول : الإلصاق , كما في قوله تعالى [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ]( ).
الثاني : السببية , لبيان سبب وعلة الفعل .
الثالث : باء الظرفية التي تأتي بمعنى (في) كما في قوله تعالى [نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ] ( ).

قوله تعالى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]
تخبر الآية عن أهلية القرآن لتصديق الكتب السماوية وتثبيت نزولها من عند الله فمن شاء ان يتأكد من كتب الملل الأخرى، ومدى صدقها فليرجع إلى القرآن فانه الشاهد السماوي على صدقها او عدمه وهذه الوظيفة انفرد بها القرآن وهي دليل على سموه وعلوه وتفرده بتصديق الكتب الأخرى والكتب السماوية ليست بعرض واحد من هذه الحيثية فليس كل كتاب سماوي يصدق الآخر على نحو المقابلة والمقارنة والشواهد ولكن التصديق من طرف أكثر من الآخر ويستقل القرآن بهذه الكثرة فلابد لكل انسان من الرجوع اليه والصدور عنه في تثبيت صدق وسماوية الكتب الأخرى .
كما أنها بشارة وتصديق بالقرآن لوحدة موضوع التنزيل.
وتنسب الآية التصديق الى القرآن نفسه فهو الذي يقوم بالتصديق مما يعني عدم وصول النوبة إلى بيان لزوم العلماء لهذا التصديق ، او انه في حال عدم بيانهم لا يكون اثر ظاهر لهذا التصديق، بل ان التصديق ينبعث من ذات القرآن ومن غير حاجة الى استعانة بمقدمات قريبة او بعيدة من فعل الإنسان، فهذا التصديق من الإعجاز الذاتي بالإضافة الى انه من الإعجاز الغيري لآيات القرآن .
وهو من مصاديق الأمر الإلهي للمسلمين والمسلمات بأن يتلو كل واحد منهم القرآن سبع عشرة في اليوم والليلة في الصلاة الواجبة قال تعالى[فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
ولا ينحصر الأمر بالقراءة بل يشمل الإستماع لها من عامة المسلمين وغيرهم .
لذا فإن أكثر القراءة في ركعات الصلاة هي جهرية , قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
فقراءة آية من القرآن بحق ملة أو أمة تبين حقيقتها وتكشف عن صدقها وانتمائها للنبوة ، وورد في بني اسرائيل كما في التنزيل [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ]( ).
مما يدل على ان تصديق القرآن رحمة لأهل الكتاب وشاهد سماوي حاضر بين الناس يؤكد صدق ما عندهم.
وليس من الإنصاف ان ينتفع المليون من هذا التصديق أعظم انتفاع ثم يميلون الى الجحود بما فيه وعدم الرجوع اليه، لأن الإيمان بالتنزيل لا يقبل التجزئة والتبعيض، فقوله تعالى [مُصَدِّقًا] دعوة وحث للناس على الإيمان بالقرآن وقبول ما فيه من الآيات والأحكام والسنن واستنباط الدروس والموعظة من قصص الأنبياء التي جاءت به باحسن بيان لتبقى درساً للأجيال المتعاقبة وتبقي النبوة حاضرة بين الناس.
ولا تنزيل بعد انتقال الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، والكتب السماوية على قسمين:
الأول: ما يتضمن الإخبار والوقائع والأوامر والنواهي مما جاءت معه قرائن تؤكد نزوله من عند الله كالتوراة والإنجيل.
الثاني: ما يكون معجزاً في ذاته وبلاغته وأسراره ومضامينه الملكوتية.
وهذا القسم منحصر بفرد واحد هو القرآن، لذا فان الكتب السماوية الأخرى تحتاج الى القرآن وهي تتضمن البشارة به وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ودعت الناس للتصديق به عند بعثته , وورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ) لبيان مسألة في تفسير آية البحث وهي تصديق القرآن لبشارة عيسى عليه السلام .
لذا فان اثبات سماوية الكتب الأخرى يستلزم وجود الشاهد السماوي الذي يشهد بصدق نزولها من عند الله تعالى ، ولابد لهذا الشاهد من اجتماع شرائط الشهادة به، وكما ترى في المعاملات والحوادث لا يشهد الا من يتصف بالصدق والــعدل فكذا بالنسبة للشاهد السماوي بل هو أولى فلابد ان يثبت الشاهد سماويته وأهليته للشهادة والتصديق، وانه صادق في نفسه بانه من عند الله سبحانه.
وفي الآية اخبار بان تصديق الكتب الأخرى من وظائف القرآن فلابد ان يكون جامعاً لمقومات التصديق فكيف يكون تصديق القرآن للكتب الأخرى وللنبوات فيه مسائل:
الأولى : الإخبار عن نزول الكتب من عند الله تعالى بذكر أسمائها كما في هذه الآية [وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ].
الثانية : الإقرار بنبوة الأنبياء السابقين، وفيه تصديق للكتب الأخرى بالواسطة، بمعنى ان الإقرار بنبوة نبي وانه مبعوث من عند الله تعالى يستلزم التصديق بما أخبر به عن الله من الوحي والتنزيل.
الثالثة : تعيين الديانات والملل السماوية ايام نزول القرآن كما في حال اليهود في المدينة , ونصارى نجران ومعاملتهم كأهل كتاب سماوي قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) كما نزل القرآن بالجدال والأحسن مع عموم الناس , قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ) .
الرابعة : تتفرع عن هذا التصديق أمور تتعلق بذات الكتب وبغيرها.
الخامسة : تصديق الكتب السماوية الأخرى فضح وتكذيب للكتب الأخرى الموجودة بين الناس، سواء تلك التي يدعى انها من عند الله، او التي كتبت ووجدت لها قبولاً بسبب ما فيها من المضامين التي تناسب ميول وأهواء الناس، او لقيام السلاطين باشاعتها ونشرها واعطائها خصوصية.
السادسة : قانون القرآن خال من النقص وهو عنوان الكمال والتمام , قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) .
السابعة : إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمع انه لم يتلق الدروس عند علماء اليهود والنصارى فان القرآن جاء جامعاً للأحكام مبيناً لأسرار التوراة والإنجيل، وقد أظهر علماء أهل الكتاب عجزهم عن معرفة كنهه فبادر بعضهم الى اعلان اسلامه مثل ابن سلام.
قوله تعالى [ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]
جاء المدح بالوصف البياني المجازي وكأن القرآن له يدان، وشأن ومقام وتكون الكتب الأخرى حاضرة عنده لأنه آخرها نزولها، واثبات صدقها يتوقف على شـهادته وامضائه.
وتبين الآية جهاد الأنبياء السابقين والمسلمين من الأمـم السابقة في تعاهد الكتب السماوية وحفظها من التلــف وان طالتها يد التحـريف والمنع من ايجاد كتب أخرى من الله تعالى وجهاد المسلمين والصالحين منذ هبوط الإنسان الى الأرض.
وتصديق الكتب السماوية اللاحق للسابق يخبر ويبشر باللاحق، فجاء الإنجيل لتصديق ما تقدم من الكتب السماوية الأخرى كما في قوله تعالى [وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] ( ).
ولم يكن الإنجيل آخر الكتب السـماوية، والقرآن جاء ليصدقه ويخبر عن نزوله، وهذا من خصائص القرآن وفضله ان تكون الكتب السماوية يصدق بعضـها بعضاً.
أما القرآن فانه يصــدق ذاته وغيره، وهذا التصديق لا ينحصر بأيام التنزيل او موضوع الإخبار وحده ، بل هو شامل لأيام الحياة الدنيا، وموضــوعه يتعدى الإخبار وحده فيشمل تثبيت الحقائق ومنع التحريف.
وتدفع الآية الشك والريب إذ تشهد الآية على نزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل , وفيها إرشاد لإكرام أزاء الكتب السماوية الأخرى من وجوه:
الأول : التصديق الإبتدائي بأنها من عند الله سبحانه.
الثاني : منع المسلمين من التعدي على الكتب السماوية.
وعدم مقابلة بعض اهل الكتاب بمثل ما يفعلون من الجحود بالقرآن، والرد بالمثل من سجايا الإنسان مع القدرة عليه والتمكن منه.
فجاء القرآن لمنع استحواذ النفس الغضبية وزجر المسلمين عن التعدي على التوراة والإنجيل، وهذا من الإعجاز الغيري للقرآن في باب التنزيل واصلاح النفوس والمجتمعات .
وحينما ترى الذي يسئ للقرآن بغير حق ويجحد بآياته، والمسلم يقابله بالتصديق بكتابه مع تحلي المسلم بالتقوى والحرص على تعاهد العمل بآيات القرآن وهي سلم وخير محض.
فانه يشعر بالندم ويعرف ما يرتكبه من الخطأ ويدرك صدق نزول القرآن من عند الله تعالى بالآثار الخارجية وهي تنمية ملكة الصدق وقول الحق عند المسلمين وعدم الزيغ عنه.
لقد كان مجتمع الجزيرة العربية قائماً على الثأر والإنتقام ببطش وفتك فبدأ الإسلام بميدان المبادئ والعقائد فأكرم الملل السماوية الأخرى، ومنع من التعدي على أهلها وابتدائهم بالتكذيب بل أكد على تصديق نزول التوراة والإنجيل ثم نهى عن الرد عليهم بالمثل ان كذبوا بآيات الله.
الثالث : التصديق بالكتب المنزلة فرع الايمان بالأنبياء وبعثتهم من عند الله عز وجل.
الرابع : التوراة والإنجيل توطئة سماوية لنزول القرآن وبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتصف بالعصمة , وعدم الخطأ وتطرد الشك والريب.
الفتنة الكتابية
لقد منع القرآن من حصول النزاع بين المسلمين وأهل الكتاب فيما يتعلق بالتنزيل وخصوص القرآن، ولو وقع لأضر بالمسلمين وبأهل الكتاب ولأنتفع منه المشركون أشد انتفاع، وهذا المنع من إعجاز القرآن الغيري , فقد حال القرآن دون النزاع.
وحال دون قيام كل فريق يكذب بالكتاب الذي عند الفريق الآخر ثم يتعدى هذا التكذيب الى الطعن والقذف والذم والإستخفاف بالكتاب ومحاربة الأحكام والعبادات التي جاء بها.
والقرآن في حرز من صيغ تصعيد هذه الحــرب، فمن تكــامله عــدم وجــود خــلل فيه يجعل الأعداء يوجــهون ذمهــم اليه، بالإضافة الى صرف مشركي قريش عن التعدي عليه لأن التعدي أعــم من أن يرتكـــز على أسـباب واقعية او شرعية او لغوية.
ولم يمنع من الفتنة بين المسلمين وغيرهم فحســب، بل منــع من الفتنة بين أهل الكتاب انفسهم لأن تصديق القرآن جاء شاملاً لها فالإنجيل صدق التوراة، قال تعالى[الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] ( ) .
فجاء الإسلام ليصدق رسالة عيسى ، ومن أجل ان يكتفي به النصارى مصدقاً لابد وان يكون معجزاً منتصراً على الإفتراء والجحـود مثبتاً لسماويته وانه منــزل من عند الله تعالى، لذا جاءت الآية بتقديم التنزيل على التصديق، فمن الإعجاز الذاتي في الآية:
الأولى : تقديم التنزيل على التصديق باعتبار ان التنزيل تصديق لذات القرآن.
الثانية : جاء التصديق مطلقاً شاملاً من غير حاجة الى مصداق آخر، فالقرآن وحده كاف لأن يكون مصدقاً لكل الكتب السماوية السابقة.
الثالثة : يتعلق التصديق بما بين يديه وهذا المعنى فيه إكرام القرآن وبيان للرجحان الذي ينفرد به القرآن .
ومن أسماء الله تعالى (المانع) لقد منع الله عزوجل بالقرآن الفتنة بين المليين فيما يخص الكتاب، فمع اجلال واكبار كل امة لكتابها فلم تحصل حرب وفتنة بخصوصه.
لأن القرآن هو الفيصل والحكم، ويمنع القرآن من الشــقاق والنزاع بين ابنــاء الملة الواحـدة سواء بخصوص كتابهم او كتاب ملة اخرى غيرهم لأن القرآن هو الحكم الصادق العدل.
مسائل في التصديق
قانون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يأتيه من الوحي , قال تعالى[وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) وفيه مسائل :
الأولى : ومنه مضامين التوحيد وانعدام الشريك، والإقرار بالإلوهية لله تعالى.
الثانية : في القرآن اخبار عن الغيب وحوادث الزمان وما يناله المسلمون من النصر والغلبة، وما يتعرضون له في الإبتلاء والأذى ولو في الجملة فالقــرآن تصــديق لتلك الوقــائع والأحــداث، وشـاهد على تحققها، كما انها تثبـت إعجاز القرآن وصدق نزوله من غير ان يتعارض الأمر مع عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، لعلمه تعالى بما ســبق على نحـو الحتم وما يتفضل بمحوه ودفعه.
الثالثة : لفظ (ما بين يديه) اعم من ان ينحصر بايام التنزيل بل هو متصل وباق ما دامت السموات والأرض، لذا جعل الله عزوجل القرآن تبياناً لكل شيء، ليشمل مصاديق وأفراد البشارات والإنذارات والوعد والوعيد , قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
ومع ان الكتب السماوية الأخرى سابقة على زمان القرآن، فان الآية اخبرت بانها بين يديه، وفيه وجوه:
الأول: الآيات أعم من الكتب السماوية فتشمل النبوة والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية منها والعقلية , قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
والقرآن يصدق بعضه بعضا، فكل آية تصدق السابقة لها واللاحقة لها، وهما معاً تصدقان ذات الآية، فالتصديق متبادل ومتداخل.
الثاني: القرآن مصدق للأخبار الواردة في حق الأنبياء وقصصهم وجهادهم في سبيل الله , قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الثالث: الآية شاهد على وجود التوراة والإنجيــل أيـام نزول القرآن وهما قريبان وفي متداول أيدي الناس، ووجودهما دليل على منعة وإعجاز القرآن لأنه نزل لاحقاً ومتأخراً عنهما، ويثبت حضوره في باب العقائد وانتزع بإعجازه الذاتي والغيري الإقرار العام بأنه كتاب سماوي.
الرابع: السبق الزماني ذاته عنوان الحضور بين يدي القرآن، وكأن التوراة والإنجيل توطئة ومقدمة لنزول القرآن، وهو مصدق لهما، والمصداق – بالكسر – أرقى رتبة من المصدُق لأن الثاني محتاج للأول.
في الآية إعجاز ذاتي وغيري
لقد أسست في هذا السفر كلاَ من :
الأول : اعجاز الآية الذاتي.
الثاني : الغيري وهو أخص من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن.
ومن إعجاز الآية الذاتي اثبات تنزيلها وانها من عند الله، سواء ببلاغتها او بما فيها من الخصوصيات التي تؤكد انها ليس من كلام البشر.
أما إعجازها الغيري فهو على وجوه منها تعضيدها وتصديقها وتأييدها لغيرها من الآيات، بالإضافة إلى مضامينها العلمية ومنافعها في الميادين المختلفة.
وكذا فان القرآن ذاته مصدق لكل آية من آياته وشاهد على سماويتها وانها من عند الله، لذا قالت الآية [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]( ), قال تعالى[وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ]( ).
فالكل مصدق للجزء، والجزء مصدق للكل من غير تعارض أو دور بينهما .
ولا تصل النوبة الى احتساب الآية كالمقدمة الداخلية التي هي جزء من المركب الذي يتكون من أجزاء ولا يتقوم الا بتمامها.
والتصــديق يكــون بالعرض أي بعرض الكتب السماوية عـلى القرآن وعرض السنة النبوية عليه ايضاً، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث قال : (إذا جاءكم منا حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاطرحوه أو ردوه علينا)( ).
وأشكل بعضهم على الحديث دلالة , ولكنه صحيح في موضوعه فالتصديق والإستشهاد بالقرآن لما صح من السنة النبوية وتصديق واثبات صدق السنة من دعائم الإسلام لأمور:
الأول: قانون السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع.
الثاني: قانون السنة وحي واخبار ملكوتي فاضافة شيء لها خارج عنها موضوعاَ وحكماَ أمر له ضرر عام، وكذا النقص منها.
الثالث: لقد أُمر المسلمون بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلابد ان يتبعوا ما صدر عنه من القول والفعل والتدوين, ومن إعجاز الآية شهادتها للقرآن وكلماته وحروفه بأنها تنزيل من عند الله عز وجل .
وتدل تلاوة المسلمين والمسلمات للقرآن على سلامته من التحريف في كل زمان وإلى يوم القيامة , وهو من إعجاز الآية الغيري.
قانون سلامة القرآن من التحريف
الآية حجة وشاهد على عدم حصول التحريف في القرآن وعدم حصول النقص فيه، ولم تطرأ عليه زيادة، فمن شـرائط الصدق ان يكون تاماً غير ناقص فلا يمكن التصديق بالمحـرف والناقص، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولو كان الدليـل الذي يســتدل به علــى ســماوية الكتب الأخــرى محرفاً فلابد ان يحصل تعارض بينه وبين الكتب السماوية السابقة.
وعلى فرض وجود تحريف فيها ايضاً يحصل تعارض بينها، وقد يحصل توافق على نحــو الإتفاق والصــدفة والإلتقــاء في الأهــواء، ويكون امراً مكشوفاً لمنافاته لإدراك العقل وموازين الإعجاز وصيغ البلاغة ودلالاته القرآنية ، بالإضافة الى امتناع وحصانة القرآن عن التحريف والتغيير فقوله تعالى [مُصَدِّقًا] يعني بالضرورة صدقه الذاتي وسنخيته السماوية.
وفي الآية دعوة للعرض على القرآن سواء ما يخص الأحكام او المعاملات او المكاسب او الوقائع وشؤون الدول والجماعات والمبادئ والعقائد، فبالعرض يتبين صدقها من كذبها، ونفعها من ضررها، وما فيها من الثواب او العقاب، وهذا العرض يكون بصورة جماعية وبصورة شخصية ابتدائية ومستديمة.
بمعنى ان الجماعات تقوم بعرض المبادئ والوقائع على القرآن، وكذا الأشخاص كل شخص على حدة، والعرض يكون قبل الشروع بالفعل واختيار ما هو المناسب ازاء الظاهرة او الحدث او الدعوة، ويكون بعد الإنشاء والعقد والحدوث لعمومات قوله تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ) وهذا العرض ليس واجباَ إنما هو أمر نافع .
لقد كان جبرئيل يعارض النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل سنة في شهر رمضان أي يتدارس معه القرآن , ويعرض كل منهما الآيات والسور التي عنده على الآخر بما يفيد تثبيتها ويتجلى بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في الصلاة اليومية بمحضر من مئات الصحابة من المهاجرين والأنصار .
وهو من منافع خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب حيث يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه خارج المدينة , وعلى أفواه القرى وينجذب الناس إلى آيات القرآن وترسخ في الذاكرة , كما يقوم الصحابة من الرجال والنساء , بتلاوة آيات القرآن في الصلاة وخارجها .
وهل تختص سلامة القرآن من التحريف بتلاوة آياته , الجواب لا , قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
لذا جاءت الآية بقوله تعالى [بَيْنَ يَدَيْهِ] أي على نحو الإستمرار والدوام، فالقرآن يحث على الرجوع اليه والصدور عنه، ولابد ان التصديق مبين وظــاهر وبامكان الناس ادراك مضامينه ومعرفة مواضيعه.
علم التصديق
لقد جاءت الآية بصيغة الخبر ولكنها خطاب انشائي موجه الى الناس جميعاً لمعرفة ماهية الأشياء وحقائق التنزيل، وصدق نزول الكتب السماوية، ولا يختص هذا الباب بايام التنزيل بل هو شامل لجميع الأزمنة.
فان قلت: لقد بدأ هذا التصديق في ايام البعثة النبوية فما بال الأمم السالفة قبل نزول القرآن، فهل كانت تحتاج الى مصدق وفيصل سماوي تعرف به صدق الكتب ام هناك ما هو مصدق للكتب، الجواب: إنه من فضل الله عز وجل , وتقريب الناس إلى سبل العبادة , وفي كل زمان هناك مصدق للكتب السابقة ويبين لها.
وما يكون مصــدقاً فانه يحتاج بذاته الى من يصدقه يتمثل بنزول كتاب سماوي آخر وهــذا ليس من النســـخ بل هــو عـلم مســتقل نبينه في المقام ونطلق عليه (علم التصديق) وفيه صــادق ومصدق، فيه سابق يثبت نزوله بتصديق اللاحق له، فالتوراة مصدقة لما قبلها، ووردت فيها الأحكــام قــال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( )، بعـث الله عز وجل عيســى بالإنجيــل مصــدقاً للتــوراة، قال تعالى[وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ]( ).
ثم بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل وغياب للمعارف الإلهية وتخــلف عن الوظــائف الشرعية وطغيان لمفاهيــم الكفر والضــلالة ليــأتي بالقــرآن كتـاباً من عند الله تعالى صادقاً مصدقاً للكتــب الأخرى وداعياً الى الله بالحجة والبرهان، وليبقى إماماً للناس ومانعاً من النفاق والضلالة .
قوله تعالى [وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]
التوراة: الضياء والنور، وأختلف في أصل اللفظ وهل هو عربي او أعجمي، والقائل بأنه عربي قال بان معناه الضياء والنور، قال تعالى [فَالْمُورِياتِ قَدْحاً]( ).
وقال الخليل والبصريون اصلها وورية، فوعلة من ورى الزند اذا قدح وظهرت ناره، ولكن الواو الأولى قلبت تاء، كما في تولجة، والياء الفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وقال الفراء: أصلها تفعلة أي تورية بفتح التاء وسكون الواو وفتح الراء والياء الا انه صارت الياء الفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
واختلف في الإنجيل ايضاً، على ثلاثة وجوه:
الأول : انه اسم عبراني.
الثاني : سرياني.
الثالث : عربي.
وجاء في وصف الصحابة (قوم صدورهم اناجيلهم)، ولمدحهم وارادة التباين بين المسلمين وبين أهل الكتاب، فأهل الكتاب يقرؤون كتبهم في الصحف ولا يجمعونها حفظاً عن ظهر قلب الا على نحو الفرد النادر .
اما الصحابة والمسلمون عامة فان صــدورهم اوعــية لحفظ القرآن وتثبيته والمنع عن تضييعه، ويدل بالدلالة التضمنية عى عدم حدوث التحريف في القرآن، ومن الشواهد على هذا المدح وجوب قراءة القرآن في الصلاة الذي يتعاهد آيات القرآن وحفظها عن ظهر قلب ويساعد في سلامة الذاكرة.
وفي أصله ذكرت اقوال:
الأول : من النجل وهو الأصل، يقال كريم النجل أي الأصل والطبع وهو على وزن إفعيل، وقرأ الحسن البصري الأنجيل- بفتح الهمزة- قال ابن منظور: وليس هذا المثال من كلام العرب.
قال الزجاج : وللقائل ان يقول هو اسم اعجمي فلا ينكر ان يقع بفتح الهمزة لأن كثيراً من الأمثلة الأعجمية يخالف الأمثلة العربية على نحو آجر وهابيل وقابيل.
الثاني : قال الأصـمعي: النجل ماء يســتنجل من الأرض أي يســتخرج، ان الله عز وجل أظهر الإنجيل وأحكامه، وما فيه من الحق والصدق.
الثالث : قال ابو عمرو: التناجل تنازع الناس بينهم وقد تناجل القوم بينهم اذا تنازعوا، فسمي بالإنجيل لتنازع القوم فيه.
الرابع : النجل بالتحريك – سعة شق العين مع حسن، يقال نجِل نَجَلاً وهو أنجل، وعين نجلاء أي واسعة، سمي الإنجيل به لسعة ما يبعثه من النور والضياء.
وقال الزمخشري: (التوراة والإنجيل اسمان اعجميان، وقال تكلف اشتقاقهما من الورس والنجل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل، إنما يصح بعد كونهما عربيين)( ).
اما الرازي فقال بخصــوص اشتــقاق لفــظي التوراة والإنجيل في اللغة العربية: امر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم اوجبوا في كل لفظ ان يكون مأخوذاً من شيء آخر، ولو كان كذلك لزم اما التسلسل واما الدور( ).
واشتقاق الإلفاظ ليس مطلقاً بل يقف عند اصول معينة لا تشتق من غيرها، نعم قد لا تكون هناك دقة في أصل الأخذ وتعيين أصل اللفظ او يتعذر دليل الاشتقاق، ولكنه علم مستقل له قواعده واجتهد أهل اللغة في بحثه وتحقيقه وتثبيته.
وقال ايضاً: فلو كــانت التــوراة انما سميت توراة لظهورها، والإنجيل انما ســمي انجيلاً لكــونه اصلاً وجــب في كل ما ظــهر ان يسـمى بالتــوراة فـوجــب تسـمية كل الحــوادث بالتوراة، ووجــب في كل ما كان اصلاً لشيء آخر ان يسمى بالإنجيل، والطين أصل الكوز فوجب ان يكون الطــين انجيلاً والذهــب أصــل الســاعــة، والمغـزل اصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم انه ليس كذلك( ).
ولكنه خلاف أحكام اللغة ومفاهيم الألفاظ، والإجماع على ارتباط اللفظ بالمعنى واختصاصه به، والإشتقاق يتفرع عنه الإستقلال في اللفظ فبعد ان يشتق من الأصل فرع، ويطلق على معنى مخصوص فانه يبقى خاصاً ومرتبطاً به كاسم وكعنوان.
واذا بحثت في اللغة وجدت عدة أسماء اشتقت من لفظ واحد، لأن أصول الألفاظ الموضوعة في اللغة محدودة، والمعاني أكثر منها بأضعاف، والإشتقاق أمر عقلي ووجداني يلجأ اليه الإنسان بلحاظ القرينة والأمارة الدال على وجود شبه بين الفرع والأصل بحسب الذات والماهية او العرض او الوظيفة او الأثر , وهو غير المشترك اللفظي والمجاز.
وقال الرازي ايضاً: (فالتوراة والإنجيل اسمان اعجميان احدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية، فكيف يليق بالعاقل ان يشتغل بتطبيقها على اوزان لغة العرب فظهر ان الأولى بالعاقل ان لا يلتفت الى هذه المباحث)( ).
وليس من دليل قاطع بانهما أعجـميان ومن يقول باشتقاقهما في اللغة العربية لا ينكر القول بانهما اعجميان، ولكن الإشتقاق يذكر لأمرين:
الأول: على نحو الإحتمال في عربيتهما، واذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال، أي اذا احتمل انهما عربيان يبطل القطع والإستدلال بانهما أعجميان.
الثاني: ورودهما بهذين الاســمين في القــرآن، والقــرآن عــربي في تنزيله، وان كان ثبــوت اعجمــيتهما في حال تحققه لا يضر بعربية القرآن، ومع ان اللغة الشائعة للنصارى هي الإنكليزية فانهم لا يسمون الإنجيل باسمه كما هو الأصل في الأسماء وترجمتها.
والإشتغال بتطبيقهما على أوزان اللغة وظيفة لعلماء اللغة والتفسير والفقه ولو على نحو الإحتمال وليس القطع ، وربما تداخلت اللغات وتجد اصلاً في لغة هو ذاته في لغة أخرى من وجوه:
الأول : على سبيل القصد والإختيار.
الثاني : الإقتباس بان تقتبس احدى اللغتين من الأخرى.
الثالث : الإتفاق والصدفة خصوصاً وان الخلقة الإنسانية المشتركة وطبيعة اللسان تساعد على حصول التشابه في النطق ولو على نحو الموجبة الجزئية والفرد النادر.
الرابع : الفضل الإلهي فيما يخص أسماء الكتب المنزلة والأنبياء والأسماء المشتركة في الملل السماوية، بان يكون اشتقاقهما واحداً في اللغة الأم التي ورد فيها الاسم واللغة العربية خاصة كما في التوراة والإنجيل، واسم ابراهيم وموسى وعيسى وغيرها.
وهذه القاعدة التي نؤسسها هنا تتفرع عنها عدة قواعد وبحوث، وكأن هذه الأسماء على موعدة بورودها في القرآن وان الله عز وجل أصلح أسماءها لتكون مؤهلة للإنضمام تحت لواء لغة القرآن ويكون القرآن جامعاً لأحكامها، ولأســمائها ايضاً ويشتــمل التصــديق الوارد في هذه الآية على الأســماء والمســميات، وهــذا من إعــجاز القرآن وجزء من المقدمات اللغوية والعقائدية لنزول القرآن وسيادته وأهليته للنسخ.
وليس المدار والأهم في تفسير قوله تعالى [وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( ) هو المعنى أو الإشتقاق اللغوي , إنما الأهم هو الشهادة من عند الله عز وجل بأنه أنزل كتاب التوراة على موسى , وأنزل كتاب الإنجيل على عيسى عليهما السلام , وأن تنزيل الكتب السماوية ليس أمراَ مستحدثاَ بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقال تعالى [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ]( ).
وفيه دعوة للسلم المجتمعي وبين الدول بالجامع المشترك وهو التنزيل ومضامينه القدسية .
وبلحاظ الآية السابقة [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) يتجلى قانون وهو لا يقدر على تنزيل الكتاب من السماء إلا الله عز وجل , وفيه دعوة للناس للشكر لله عز وجل على نعمة التنزيل هذه ولزوم العمل بأحكام التنزيل .
لقد وصفت الآية القرآنية بأنه الكتاب فهل كل من التوراة والإنجيل كتاب أم صحف أو وحي , الجواب هو الأول , وهو من أسرار تسمية اليهود والنصارى أهل الكتاب والقرآن يفسر بعضه بعضاَ [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
وقد ورد لفظ الكتاب في الآية أعلاه مرتين , والمراد من الأول القرآن , أما الثاني فهو التنزيل للأنبياء مطلقاَ والنسبة بينه وبين التوراة والإنجيل عموم وخصوص مطلق , ومنه قوله تعالى[يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا]( ) وقال تعالى[قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ]( ) .
وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
بين المتشابه والمشترك اللفظي
المشترك ليس من التطويل , أو الإجمال المخل , إذ أن القرينة الصارفة تبين تعدد المعاني في ذات اللفظ المشترك وفي الموضوع الذي ورد فيه , وصلة ذات الآية بالآيات الأخرى فمثلاَ إذا ورد لفظ الجنة في القرآن فينصرف إلى جنة الآخرة , وقد يراد منها البستان في الدنيا , قال تعالى[وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا]( ).
ولم يرد لفظ (جَنَّتَهُ) في القرآن إلا في الآية أعلاه وهل تقييد الآية بأن صاحبها ظالم لنفسه على أن جنة آدم في السماء , الجواب لا , وان كان هو المختار .
استشهد بالمتشابه في القرآن على وجود المشترك اللفظي فيه ولعله من القياس مع الفارق فان موضوع المتشابه مختلف عن المشترك اللفظي، وقد بينا في مباحث علم التفسير اكثر من عشرين وجهاً لمعنى المحكم والمتشابه( ).
وفي قوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا]( ) يحمل المتشابه على الإعجاز والبلاغة والهداية، اما المعنى الخاص فهو الذي ورد في الآية بما يحتمل معه التأويل والمشــاكلة والمماثـلة التي تؤدي الى فناء اللفظ في معان مخصوصة، ودفع التحقيق واستحضار القرائن اللبس والتردد، وهو ليس من المشترك اللفظي بل من باب توظيف اللفظ في بعض لوازم المعنى.
فورود المتشابه في القرآن لا يدل على ثبوت المشترك اللفظي لتعدد معاني المتشابه، وقد ذهب كثير من علماء التفسير الى تعلقه بالمعنى والتأويل والتفسير.
وقيل ان المشترك واقع (بالنقل) فان النقل لم يميز بين وضع اللفظ لمعنى معين ونقله الى معنى آخر اي انه لم يميز بين المعنيين ولا يستطيع اثبات حصول الوضع لمعنى معين او لأكثر من معنى ولا مجال للإستصحاب القهقري في المقام، وقد يكون الوضع قد حصل لمعنى معين ثم تلافى وزال هذا المعنى واستعمل اللفظ في معنى آخر يكون مجازياً، او ان المعنى الأصل الذي وضع له اللفظ استعمل فيه لفظ آخر على نحو المجاز والاستعارة لينفرد المجازي باللفظ ثم يشترك معه معنى آخر او اكثر.
واستدل بالتبادر، وصحيح ان التبادر من العلامات التي يميز بواسطتها المعنى الحقيقي من المعنى المجازي، ولكن القدر المتيقن من التبادر وترتب الأثر عليه هو ان اللفظ حقيقة في المعنى في زمان التبادر وليس له قوة الإستصحاب القهقري، فلا يدل على ارادة الزمان السابق الا على نحو ترجيح التواتر الإجمالي، واليقين الموضوعي الإستقرائي بالقرينة الإحتمالية.
وقيد الإستقرائي الذي ذكرناه لإحتمال منافاته للواقع خصوصاً وان تصــور معنى معين في الذهن بمجرد اطلاق اللفظ لا يتوقف على اصل وضع اللفظ، بل على العرف والقرائن الحالية او المقالية، فالتبادر لا يصلح لإثبات واقع رجعي، او اعتبار الإستصحاب القهقري الذي يطلق عليه احياناً اصالة الثبات .
ومن خصائص القرآن وألفاظه حضورها في كل زمان وهو من الشواهد على فضله على العربية .
والشك في المقام على وجهين.
الأول : الشك بالوضع والمعنى الذي وضع له اللفظ اصلاً في اللغة.
الثاني : يُشك في مراد المتكلم من اللفظ بغض النظر عما وضع له اللفظ.
والبحث في المقام يتعلق بالأول وهو اصل الوضع وقد لا تكون فيه ثمرة كبيرة.
اما الثاني فمرجعه الأصول اللفظية، فالوضع في الإصطلاح نوع ارتباط بين اللفظ والمعنى، متى ما فهم الأول فهم الثاني سواء على نحو التبادر والوضع التعييني او على الوضع التعيني الذي يعني كثرة استعمال اللفظ في معنى مخصوص بما لا يستلزم استحضار القرينة , أو بمعنى الحقيقة الشرعية.
تسمية الكتاب السماوي
تعيين اسم الكتاب السماوي يحتمل وجوهاً:
الأول: نزوله مع الكتاب وبين ثناياه للتعريف والحجة كما في تسمية القرآن , قال تعالى[طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( ).
الثاني: تعيينه قبل نزوله ببشارة الأنبياء والكتب السابقة به، والتوطئة لقبوله من قبل المؤمنين.
الثالث: تسميته من قبل النبي الذي أنزل عليه واختياره له، وهذا الإختيار يحتمل وجوهاً:
الأول: انه تم بالوحي والإخبار الملكوتي.
الثاني: ابتداء من النبي واختراع منه.
الثالث: باستشارة أصحابه وتقرير النبي لتسميتهم له.
الرابع: التسمية من قبل المؤمنين ايام تنزيله، وأصحاب النبي الذي أنزل عليه الكتاب.
الخامس: تسميته فيما بعد أيام التنزيل.
السادس: سمي الكتاب المنزل بعدة أسماء ثم استقر على اسم مخصوص في الأزمنة اللاحقة لنزوله.
والأصح هو الأول والثاني مجتمعين لقاعدة نفي الحرج، ولإقامة الحجة على الناس ومنع الإجمال والإبهام، وبقرينة ما ورد في القرآن فقد بشر به ثم جاء يحمل اسمه في آياته.
وقد وردت البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة ، وورد في إنجيل يوحنا: (ان كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وانا اطلب من الأب فيعطيكم بارقليط – معزيا – آخر ليمكث معكم الى الأبد)( ).
وهناك نصوص في ذات المعنى، ويشبه هذا الكلام ما جاء على لسان ابراهيم واسماعيل عليهما السلام كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
والآية فيض وفضل من الله تعالى فقد أخبر سبحانه بنزول التوراة والإنجيل من عنده تعالى وفيه رحمة متشعبة تشمل:
الأولى : المسلمون باحاطتهم علماً بأسماء الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن , وتسليحهم بالفقاهة والمعرفة الإلهية وجعلهم يمتلكون القدرة على التمييز بين الكتاب السماوي وغيره.
الثانية : اهل الكتاب ببعث الثقة في نفوسهم وامضاء وأعمالهم وصحة عباداتهم التي جاءت وفق التنزيل قبل نزول القرآن.
الثالثة : الناس جميعاً بالتوكيد على سماوية التوراة والإنجيل.
وفي الآية اخبار بان القرآن ليس هو الكتاب الوحيد الذي أنزل من السماء وان رحمة الله تعالى متصلة على الناس بالكتب التي لا تنزل الا على الأنبياء، ولكن هذه الكتب توقف نزولها الى يوم القيامة إذ ختمت بالقرآن فلابد ان القرآن كاف للناس في عباداتهم ومعاملاتهم الى يوم القيامة.
وجاء الإخبار عن نزول التوراة والإنجيل في الآية التي تصف القرآن بانه مصدق لما بين يديه مما يعني ان التوراة والإنجيل مما بين يدي القرآن ولفظ [بَيْنَ يَدَيْهِ] يعني احاطة القرآن بهما، وانه أعم منهما موضوعاً وحكماً ودلالة.
لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرصة ومناسبة كريمة لتعليم أهل الكتاب التوراة والإنجيل على التنزيل، من غير تحريف او تبديل، وبلحاظ النسخ وصيغ التخفيف، وهذا التعليم لم يتوقف او يغلق بابه بل هو باق الى يوم القيامة بالقرآن والسنة النبوية، ولذا ترى القرآن خال من التغيير والنقص مطلقاً.
والنقص او الزيادة تكون على وجهين:
الأول: نقص وزيادة من غير اخلال بالمضمون والأصل كاضافة كلمة او تبديلها او اسقاطها.
الثاني: نقص وزيادة مخلان ومغيران للمعنى والمقاصد والغايات كما في الأوامر والنواهي.
ولكن القرآن خال من القسمين معاً، وحكمه خاص يختلف عن القواعــد العــقلية والعــرفية، فقد يتســاهــل الناس في كلــمة ترد في رســالة او شــرط او عقد او خطاب، اما القرآن فهو كتاب الله الذي يتعذر تغيير كلمة فيه دون ان يتبدل المعنى ولو كان هذا التغيير بالمرادف.
وجاء لفظ (أنزل) بصيغة الماضي للإشارة الى تنزيل القرآن والحث على الرجوع اليه لأن اخبار السماء فيه غضة طرية ، لم تلامس النفوس والأفعال وأحوال أهل الأرض، وتلقفها وتلقيها بشغف وشوق يساهم في سرعة انتشارها وانجذاب الناس كافة لها.
علم المناسبة
جاء لفظ التوراة في القرآن ثماني عشرة مرة، ولفظ الإنجيل اثنتي عشرة مرة، وليس في النصف الثاني من القرآن الا بنسبة السدس لكل منهما، ثلاث مرات للفظ التوراة، ومرتين للإنجيل، وكأن النسبة بينهما في عدد المرات ظاهرة حتى في هذه القسمة.
ومن الآيات عدم ورود لفظ التوراة او الإنجيل في سورة البقرة مع انها اكبر سور القرآن واهمها إذ تتضمن احكام الصلاة وفرض الصيام والزكاة ولابد له من دلالات:
الأولى : ذكر اسم موسى في سورة البقرة ثلاث عشرة مرة ولم يذكر في سورة آل عمران الا مرة واحدة، وذكر عيسى في سورة البقرة ثلاث مرات وفي آل عمران خمس مرات، أي ان موضوع اهل الكتاب جاء في سورة البقرة بقصص الأنبياء وليس بذكر الكتب المنزلة.
الثانية : أحكام سورة البقرة شاملة للناس جميعاُ وعليهم المبادرة , إلى منازل الإيمان نزل القرآن بالنطق بالشهادتين وفيه الملاك والمصلحة.
الثالثة : حينما يرد اسم آل عمران يتبادر الى الذهن تأريخ الملل وقادة الأمم وحوادث جانب من الأزمنة السالفة، فلذا ورد ذكر التوراة والإنجيل، أي لم يرد في آيات الأحكام اسماهما، وحتى في واقعة البقرة وما لاقاه بنو اسرائيل من البلاء وجهادهم في سبيل الله ذكر على نحو الوقائع والحوادث للإعتبار والإتعاظ، والدعوة الى الإسلام لنجاتهم والى الأبد من الكيد والأذى، فالأصـل انتماؤهم للإسلام وفيه قوة ومنعة لهم وللمسلمين، ومن يتول فان الله غني حميد.
الرابعة : لقد ثبتت سورة البقرة نبوة الأنبياء السابقين، وجاءت سورة آل عمران لتثبت الكتب التي نزلت عليهم.
الخامسة : المدار على القرآن، وما فيه من الأحكام والسنن، فالآية دعوة للناس للرجوع الى القرآن، وما فيه من البيان قال تعالىهَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
لقد اقترن ذكر التوراة مع الإنجيل في ثمان آيات من القرآن مما يدل على نوع ملازمة بينهما، وهذه الملازمة موضوعية وحكمية، اذ ان القرآن جاء ناسخاً وجامعاً لهما ومصدقاً لما جاء فيهما من الأحكام، ولم يتعمد القرآن عدم ذكرهما وتجاهلهما، لما في ذكرهما من احتمال التوكيد عليهما والإشارة اليهما خصوصاً وان شطراً من أهل الكتاب بقى على ديانته، لم يدخل في الإسلام وقد يتخذ من ذكر القرآن لهما سبباً للبقاء عليهما والإكتفاء باحدهما.
والقرآن كتاب سماوي جاء بالحق والصدق، فيبين الحقائق والعلوم والمعارف الإلهية ويدعو اليها وهو الإمام الرائد الخاتم ويطالبهم باقامة التوراة والإنجيل والعمل بمضمونهما وما فيهما من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجتمعت أسماء الكتب الثلاثة في آية واحدة قال تعالى [وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ] ( ).



قوله تعالى [مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ] الآية 4

الإعراب واللغة
[مِنْ قَبْلُ] جار ومجرور ومتعلقان بنزل.
[هُدًى لِلنَّاسِ] هــدى: حال من التــوراة والإنجيــل، ويجــوز اعرابه مفعولاً، لأجــله أي انزلهما لهداية الناس.
للناس : جار ومجرور متعلقان بهدى.
[وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ] الواو:حرف عطف، جمــلة انزل: فعل ماض مبني على الفتح، والفاعــل ضــمير مســتتر يعــود لله عــز وجل.
الفرقان : مفعول به منصوب، والجملة عطف على جملة انزل التوراة والإنجيل.
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ] ان: حرف مشــبه بالفعل، الذين: اسم موصول اسم ان ، جملة كفروا صلة الموصول، بآيات الله: بآيات: الباء حرف جر.
آيات : اسم مجرور وهــو مضــاف، اسم الجلالة مضاف اليه.
[لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ] لهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. عذاب : مبتدأ مؤخر، شديد: صفة، والجملة الإسمية في محل رفع خبر ان.
[وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ] الواو: استئنافية، اسم الجـلالة : مبتدأ.
عزيز : خبر أول، ذو: خبر ثان وهو مضاف.
انتقام : مضاف اليه مجرور وعلامة جره الكسرة.
في سياق الآيات
بعد ان بينت الآية السابقة تفضل الله تعالى بانزال القرآن والتوراة والإنجيل، جاءت هذه الآية لتؤكد السبق الزماني للتوراة والإنجيل في نزولهما، وان الله تعالى تفضل بانزال القرآن رحمة منه سبحانه، الأمر الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على تفضله على الناس وعظيم رحمته ولطفه بهم، ومع هذا فان الآية جـاءت بالتوبيخ والوعيد للكافرين على تفريطهم بهذه النعمة المركبة.
والعطف على نوعين :
الأول : عطف النسق .
الثاني : عطف البيان , ومن معانيه تعاهد التوضيح , ومنع اللبس , وطرد الوهم , وعدم الفهم , كما في لفظ طعام في قوله تعالى [كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ]( ).
وابتدأت آية البحث بالجار والمجرور , ويتعلق موضوعه بالآية السابقة مما يدل على العطف الموضوعي بين الآيتين , مع قلة الآيات التي تبدأ بالجار والمجرور في القرآن , ليكون تقدير آية البحث بلحاظ الآية السابقة على وجوه :
الأول : نزل الله عليك الكتاب بالحق هدى للناس .
الثاني : نزل الله التوراة من قبل هدى للناس .
الثالث : نزل الله الإنجيل من قبل هدى للناس .
وفي الآية تقديم وتأخير , تقديرها : وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس .
وقد وردت آية آخرى تتضمن الإخبار عن نزول القرآن هدى للناس.
قال تعالى[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]( ).
ومن خصائص القرآن توجه الخطاب فيه إلى الناس جميعاَ , وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
وإذ اختتمت آية البحث بالوعيد للذين كفروا , ويصرون على محاربة النبوة والتنزيل أخبرت الآية التالية بحضور الأشياء جميعاَ عند الله عز وجل وهو سبحانه يعلم كل شئ في الوجود لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ]( ).
وهل يختص علم الله عز وجل في هذه الآية بما ظهرت من الموجودات والكائنات ,الجواب لا , إنما يعلم ما خفي عنها , ومنه أفعال كل إنسان والسرائر والنوايا .
وفي الثناء على الله عز وجل ورد في التنزيل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
إعجاز الآية الذاتي
تجمع الآية بين الكتب السماوية الثلاثة في التنزيل والوظيفة العقائدية لكل منها وهي :
الأول : القرآن .
الثاني : التوراة .
الثالث : الإنجيل .
مع بيان ما ينفرد به القرآن من خصوصية وهي استحقاقه لاسم الفرقان والمميز بين الحق والباطل عند إجتماع ذكر هذه الكتب السماوية , قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ومن الإعجاز اجتماع ذكر أسباب الرحمة وعظيم فضل الله تعالى بالتنزيل مع الوعيد والتخويف والإنذار للجاحدين.
ويمكن تسمية هذه الآية بــ[مِنْ قَبْلُ].
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [مِنْ قَبْلُ] أربعاَ وتسعين مرة فيه , ولم يأت في أول الآية إلا في آية البحث ليكون عنواناَ واسماَ لها .
والنسبة بين (آيات الله) وبين القرآن والتوراة والإنجيل عموم وخصوص مطلق , فآيات الله أعم , وهو من إعجاز القرآن ببيان قبح الكفر بالجحود بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
وتدعو الآية الناس إلى التوحيد , لذا جاء في الآية قبل السابقة وهي الآية الثانية من سورة آل عمران [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ).
ومن إعجاز القرآن ذكره لفظ النزول والتنزيل لبيان كيفية الوحي وأن الملك جبرئيل ينزل من السماء لتبليغ النبي محمداًَ صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن , ولا يقدر أحد غير الله عز وجل على إنزال الكتاب إذ يسكن السماء الملائكة وهم [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
وتضمنت الآية الشهادة بأن القرآن من عند الله عز وجل من وجوه :
الأول : نزول القرآن من السماء .
الثاني : لا يقدر على التنزيل من السماء إلا الله عز وجل .
الثالث : نزول كل آية من القرآن من عند الله عز وجل .
وليس بجبرئيل الإضافة أو التغيير بألفاظ التنزيل لذا أثنى الله عز وجل عليه وقال سبحانه [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ] ( ) وتقدير الآية نزًل الله عز وجل عليك كل كلمة وآية من القرآن .
الرابع : إتصاف كل آية بأنها نزلت بالحق والصدق والله عز وجل وحده يعلم منافع الآية القرآنية .
الخامس : تصديق القرآن للتوراة وبشارة التوراة به .
السادس : تصديق القرآن لنزول الإنجيل على عيسى عليه السلام وبشارة عيسى والإنجيل بنزول القرآن إذ ورد في التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
السابع :تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن بالوحي , وهو الوسيلة المباركة والواسطة بين الله عز وجل والأنبياء , قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ) وتنفرد هذه الآية بذكر لفظ (أَوْحَيْنَا) ثلاث مرات .
إعجاز الآية الغيري
تتضمن آية البحث الشهادة السماوية لنزول التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل , وتدل بالدلالة التضمنية على صدق نبوة موسى وعيسى عليهما السلام , ولا يعلم منافع هذه الآية وإعجازها الغيري إلا الله عز وجل ومنه عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الموادعة مع اليهود في المدينة في (ميثاق المدينة) .
وإمتناعهم من إعانة المشركين في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة , إذ زحف ثلاثة آلاف من مشركي مكة وحلفائهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول القرآن وما فيه من ذم , وجعل الصحابة بين قتيل وأسير وشريد .
وكانت قريش ترغب بإدخال المهاجرين أسرى , مقيدين بالحبال إلى مكة ثأراَ لمعركة بدر , لمنع دخول الناس في الإسلام فرد الله عز وجل كيدهم فلم يقع أسير من المسلمين بأيديهم يومئذ وهو من معاني الكبت والخيبة التي خصهم في قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وآية البحث رسالة عقائدية تتضمن الود إلى أهل الكتاب واليهود والنصارى , وهي في مفهومها تبكيت وتوبيخ للذين كفروا لأنهم إمتنعوا عن إتباع الكتاب السماوي , لذا ذكرت الآية بعد نزول التوراة والإنجيل والفرقان ذم الذين كفروا بآيات الله عز وجل .
الآية سلاح
تبعث الآية العز والثقة في قلوب المسلمين لما فيها من بيان تفصيلي لأحكام التنزيل، وفيها قوة للمسلمين لما يلقاه مشركو قريش من الخزي والكبت , قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ), ( )، وان أبواب الهداية مفتوحة للناس مما يعني حث المسلمين على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لإرشاد الناس الى وظائفهم الشرعية.
وتطرد الآية الشك والريب في التنزيل وهي لسان في الإحتجاج وتأريخ النبوة والكتب السماوية , وهل ينحصر التنزيل بالقرآن والتوراة والإنجيل , الجواب لا , واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
ومن خصائص القرآن المطلق والمقيد , والعام والخاص , وتفسير آياته بعضها لبعض , فقد أخبر القرآن عن نزول الكتاب على الرسل , وأنزل الله عز وجل الزبور وأنزل الصحف على آدم ونوح وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء , قال تعالى[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ]( ).
مفهوم الآية
تخبر الآية في مفهومــها عن تحقق نزول الكتب من عند الله تعالى، وان الله عز وجل لم يترك الأمم والأجيال من غير تنزيل وما عند المسلمين كان موجوداً عند غيرهم بحســب زمانه ودرجته ومرتبته من التنزيل.
وليس من أحد من الكفار يحـق له الإعتذار لإقامته على الجحود والضلالة، فأبــواب الدعوة الى الإســلام وطاعـة الله مفتوحة في كل الأزمــنة ولله الحجــة البالغة على الناس.
وجــاء لفــظ الزمــن الماضي (مِنْ قَبْلُ) من غــير تقيــيد بأوانـه لأن الزمن الحاضر هو للقرآن ليبقى القرآن متجدداً حاضراً في كل زمان من الأزمنة المعلومة والمقدرة الى يوم القيامة.
وتسمية القرآن بالفرقان دعوة للزوم الرجوع الى القرآن والإحتجاج به وهو الحكم والفيصل في النزاع والخصومة بين اليهود والنصارى، وتدعو الآية المسلمين لإكرام التوراة والإنجيل كونهما نازلين من عند الله تعالى، كما تحث الناس على دخول الإسلام والنجاة من العذاب والعقاب الأخروي.
ويدل ذم الكافرين في مفهومه على انقسام الناس الى أقسام : مسلمين وأهل كتاب وكافرين.
وتمدح الآية المؤمنين وتبشرهم بالسلامة من العقاب، وما في خاتمة الآية من الإنذار والوعيد للكافرين بشارة للمسلمين للأمن من العقاب في الآخرة .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال إبليس لربه تعالى : يا رب قد أهبط آدم ، وقد علمت أنه سيكون كتاب ورسل ، فما كتابهم ورسلهم؟
قال : رسلهم الملائكة والنبيون ، وكتبهم التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان . قال : فما كتابي؟
قال : كتابك الوشم ، وقراءتك الشعر ، ورسلك الكهنة ، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه ، وشرابك كل مسكر ، وصدقك الكذب ، وبيتك الحمام ، ومصائدك النساء ، ومؤذنك المزمار ، ومسجدك الأسواق)( ).
وتمنع الآية من الخلط بين الكتب السماوية إذ تبين الفارق الزماني الكبير بين نزول التوراة والإنجيل , وبين القرآن مع إتحاد جهة الصدور وأن كلاَ منها نزل من السماء من عند الله عز وجل ولا يقدر على التنزيل إلا هو سبحانه .
وتدل تسمية القرآن (الفرقان) في هذه الآية بلحاظ إجتماعه مع التوراة والإنجيل في النزول على أنه آخر الكتب السماوية النازلة من عند الله عز وجل وأنه الجامع للأحكام الشرعية وأنه الفيصل والمبين للحق والمميز بينه وبين الباطل.
وتبين الآية قانوناَ وهو أن الكتاب السماوي لم ينزل إلا بوجود أمة مؤمنة هداها الله عز وجل بالنبوة والتنزيل لذا تجد المائز بين عبادة أهل مكة أيام البعثة النبوية للأوثان , وبين وجود أتباع موسى في المدينة المنورة (يثرب) ليبثوا البشارة برسالة الأنبياء .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه ونبوته على القبائل والوفود القادمة إلى أداء مناسك الحج في مكة , ويسألهم ايواءه وحمايته من أذى قريش وسعيهم لقتله , فلم يتصدى للأمر ويتعهد بنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا وفد الأوس والخزرج من المدينة .
وكان من أسبابه استحضارهم للبشارات التي كان يطلقها يهود المدينة عن نبي آخر الزمان (قال ابن اسحق فلما أراد الله اظهار دينه واعزاز نبيه وانجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم الذى لقى فيه النفر من الانصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا .
فقال لهم من أنتم . قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالى يهود قالوا نعم .
قال أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الاسلام وكان مما صنع الله بهم في الاسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل علم وكتاب وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا قد غزوهم ببلادهم .
فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا لهم إن نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وارم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض تعلموا والله انه للنبى الذى توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فان يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا)( ).
وكان عددهم ستة , لتتم البيعة في الموسم التالي من قبل اثني عشر رجلاَ خمسة من الستة الذين حضروا في العام الماضي , فكانت بيعة العقبة الأولى , ومنهم من جعل حضور الستة الأوائل هو بيعة العقبة الأولى , ولكن يكون على هذا المبنى ثلاث بيعات للعقبة .
إفاضات الآية
تتعاقب آيات الله النازلة على الناس لإرشادهم الى سبل الإيمان فينزل الكتاب السماوي ثم يعقبه الآخر وكل واحد منها رحمة بهم ودعوة للتآخي والصلاح، وذكر التوراة والإنجيل جاء من باب المثال الأهم وليس الحصر، والمراد كل الكتب والصحف التي أنزلت على الأنبياء.
بالإضافة إلى حقيقة وهي وجود أمة من اليهود , وأمة من النصارى أيام النبوة والتنزيل , فأن الله عز وجل حسّن المعاملة بينهم وبين المسلمين , واجتناب الخصومة والإقتتال , ومنع يهود المدينة من مؤازرة أو تعضيد المشركين في قتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزوهم المتعدد للمدينة .
وتبين آية البحث إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والقرآن بتسميته الفرقان عند الجمع بينه وبين التوراة والإنجيل , وقد سمًى الله عز وجل التوراة الفرقان ولكن عند الجمع بين الكتب السماوية الثلاثة .
يختص اسم وصفة الفرقان بالقرآن لبيان الإستغناء به , والصدور عنه .
الآية لطف
ابتدأت الآية بالجار والمجرور [مِنْ قَبْلُ] وهو من لطف الله عز وجل بالمضي والدعوة للرجوع إلى الآية السابقة وتأكيد قانون وهو الترابط والتداخل الموضوعي بين آيات القرآن , وأن الفاصلة بين آيتين , والتباين الزماني والمكاني في نزول الآيات بين المكي والمدني لا يغير في وحدة الموضوع والحكم في الآيات المتجاورة أو غير المتجاورة .
ومن إعجاز الآية عدم إكتفائها بالإخبار عن سبق زمان نزول التوراة والإنجيل إنما أخبرت عن الغاية الحميدة لكل منهما وهو هداية الناس .
ويحتمل لفظ الناس في الآية إرادة خصوص بني إسرائيل , والمختار العموم , والأصل إرادة الجنس من الألف واللام في الآية وإمكان مجئ (كل) بدلها .
لذا أخبر القرآن عن دعوة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون وملئه للإسلام , إذ إدًعى فرعون الإلوهية , وأراد موسى تأكيد عبوديته لله عز وجل وفي التنزيل [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن ذكره لمؤمن آل فرعون بقوله تعالى [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ]( ) واختلف في هذا المؤمن على أقوال :
الأول : كان من آل فرعون , ولكنه آمن برسالة موسى عليه السلام ويخفي إسلامه خوفاَ من بطش فرعون .
الثاني : كان ابن عم فرعون , قال تعالى [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ]( ).
الثالث : كان إسرائيلياَ .
والمشهور والمختار أنه من آل فرعون وعن (ابن عبّاس وأكثر العلماء : اسمه حزبيل) ( ) أي على وزن قنديل .
وتبين الآية تعدد أسباب الهدى السماوية إذ يأتي الرسل بالكتب السماوية , وكل كتاب هو هدى للناس , ومن خصائص لغة الجمع : الناس , عموم أسباب الهداية .
وهل المسلمون من الناس الذي تكون التوراة هدى لهم , وكذا يكون القرآن هدىَ لهم أم أن القرآن ناسخ في المقام , لذا تعقبهما قوله تعالى[وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ]( ) .
الجواب هو الأول , فمع نزول القرآن فإن التوراة هدى للناس في كل زمان وكذا الإنجيل لما ورد بخصوصهما والشهادة لها في القرآن بأن كلاَ منهما كتاب نازل من عند الله عز وجل .
ومن هداية التوراة والإنجيل للمسلمين شهادتهما بأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق وأن القرآن جاء بالأحكام الشرعية مبينا وناسخا .
ومن اللطف في آية البحث ذم الذين كفروا بالله ورسله وكتبه , وإصرارهم على الجحود ويحتمل لفظ (آيات الله ) بخصوص القرآن وجوهاَ :
الأول : كل آية من القرآن فرد مستقل من آيات الله عز وجل .
الثاني : كل سورة من القرآن آية مستقلة من عند الله عز وجل .
الثالث : الجمع بين كل آيتين من القرآن آية من عند الله عز وجل .
الرابع : القرآن جملة واحدة آية من عند الله عز وجل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية لذا ورد قوله تعالى (آيات الله) بصيغة الجمع .
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت الآية بالجار والمجرور لإفادة إتصالها بالآية السابقة , وهو لا يعني إنحصار موضوعها بها , فمن أسرار الفصل بين الآيات الإتصال بين أول وآخر الآية في الموضوع أو الدلالة , فمثلاَ الصلة بين (من قبل) وبين (والله عزيز ذو إنتقام) الوعيد للذين كفروا بالتوراة والإنجيل من الإمم السالفة والإنذار من الكفر بهما وإنكار نزولهما .
وبينت الآية أن نزول التوراة والقرآن ليس عن حاجة من عند الله عز وجل , إنما هو لهداية الناس , وإصلاحهم ونفعهم , وفي التنزيل [مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ]( ) ويمكن تقدير قوله تعالى (هُدًى لِلنَّاسِ) على وجوه :
الأول : هدىَ للناس في أداء الفرائض العبادية .
الثاني : هدىَ للناس رحمة بهم .
الثالث : هدىَ للناس وعصمة من الكفر ومفاهيم الضلالة .
الرابع : هدىَ للناس في كل زمان ممن بلغته الدعوة .
الخامس : هدىَ للناس للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته .
السادس : هدىَ للناس ورحمة ببني إسرائيل .
ثم أخبر الله عز وجل عن نزول القرآن لبيان وجوب التصديق بالكتب السماوية على نحو العموم المجموعي فلا يصح الإيمان ببعض منها دون بعضها الآخر , مع بيان أن القرآن هو الفيصل في الأحكام الشرعية وتقدير الآية : وأنزل الفرقان هدى للناس , لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
ثم إنتقلت الآية إلى ذم الذين كفروا مع بيان فضل الله عز وجل عليهم بالهداية وشمولها للناس جميعاَ .
وذكرت الآية الذين كفروا لبيان إقامة الحجة عليهم من عند الله عز وجل , وأنه سبحانه تفضل بهدايتهم المرة تلو الأخرى بالتنزيل , وبالآيات الكونية , وهل وجود أمة مؤمنة حجة على الذين كفروا الجواب نعم , فلم يأت الهدى لخصوص طائفة أو فرقة من الناس إنما هو شامل للناس جميعاَ ولكن الذين كفروا تخلفوا عن واجابتهم , وأضروا بأنفسهم بصدودهم عن سبل الهداية والرشاد , والإختيار بالإمتناع لا ينافي الإختيار .
ولم تكتف الآية بذكر الذين كفروا إنما أخبرت عما ينتظرهم من العذاب الأليم , وسوء العاقبة , واللبث الدائم في النار , واختتمت الآية بالثناء على الله عز وجل بصفتين :
الأولى : الله عزيز .
الثانية : الله ذو انتقام .
ومن إعجاز القرآن مجئ هاتين الصفتين بعد ذم الذين كفروا وهو من اللطف الإلهي بالمؤمنين , وسلامتهم من العذاب والإنتقام من الله عز وجل , نعم تبعث الآية على الخشية من الله عز وجل والحيطة والحذر , ولزوم إجتناب معصيته .
وتدعو الآية إلى التوبة والإنابة و(عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل)( ).

من غايات الآية
وفيه مسائل :
الأولى : بيان توالي نعمة التنزيل .
الثانية : تأكيد مصداق من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) فحين احتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض و[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) فرد الله عز وجل عليهم [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أنه لم يخل بين الإنسان وهواه , ولم يترك له الإحتمال في التدبر بالخلق والكائنات والتدرج في سلم الوصول إلى الهداية الذي يكون حينئذ دليلاَ بين الناس لإنقطاعهم للدنيا , إنما تفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس لمقامات الهدى والإيمان .
الثالثة : بيان تفضل الله عز وجل على الناس في سبل الهداية والرشاد .
الرابعة : إقامة الحجة على الذين كفروا , خصوصاَ رجالات قريش الذين تلقوا رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتكذيب وإنذارهم من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبارهم بأن العذاب ينتظرهم بسبب الكفر أو محاربة النبوة فعقوبتها أشد في الدنيا والآخرة .
لذا اختتمت الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( ) ولو دار الأمر بين إنتقام الله عز وجل من الكفار الذين يحاربون النبوة في الآخرة وحدها , أم في الدنيا والآخرة , المختار هو الثاني , قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الخامسة : الثناء على المؤمنين والمؤمنات الذين انتفعوا من التنزيل ومعجزات النبوة , واختاروا سبل الهداية , ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
التفسير
قوله تعالى [مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ]
قبل: نقيض بعد، وهو اسم، ويكون ظرفاً اذا اضيف الى غيره، واصله الإضافة الى غيره، فاذا حذف المضاف اليه بني على الضم ولا يدخله اعراب فلا يكون فاعلاً او مبتدأ لأنه لا يخبر عنها، ويكون غاية أي يكتفى به كفاية بعد حذف المضاف اليه، وكذا بالنسبة لبعد، قال تعالى [لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ] ( ).
(وقال ابو حاتم: وقالوا قبل وبعد من الأضـداد) ( )، ونسبه الى القول وهو نوع تضعيف له، فمعنى كل واحد منهما متباين ولا يأتي بديلاً للآخر، كما في الشراء يكون من الأضداد.
لقد أراد الله عز وجل اكرام انبيائه والإخبار عن صدق التنزيل وهذا من الآيات فهو ســبحانه لم ينــزل الكـتاب ويتركه ليثبت تنزيله بذاته او من خلال الآيات المقارنة له في ايام تنزيله كالمعجزات الحسية التي تأتي على يد النبي الذي أنزل عليه الكتاب، بل يتفضل سبحانه بالأخبار المتعاقب المتتالي بان هذا الكتاب نازل من عنده، ويسميه باسمه من غير لبس ولا ترديد ولا اجــمال، فيتــعين ان لا يــرد اسم مشابه له بين الناس بالصرفة والإعجاز، وان الله عز وجل يعصم الاسم من التكرار والمكر.
وهذا من أسرار التنزيل والقدرة الإلهية بإحاطة الله تعالى بالأمور وباختيارات الناس في الأسماء ويجعل مواضيع محصنة يذب عنها ويمنع عنها التعدي ومنها أسماء الكتب السماوية المنزلة.
فكان اسم التوراة خاصاً بالكتاب الذي أنزل على موسى وكتاب الإنجيل خاصاً بالكتاب الذي أنزل على عيسى عليه السلام، فلفظ (من قبل) دليل على الإعجاز في استقلالهما بهذين الإسمين، وما فيه من الإكرام والإجلال والدعوة الى التدبر في قدرة الله تعالى في الاسم والمسمى.
وتبين الآية تعدد الكتب الســماوية النازلة وربً ســائل يسـأل لماذا لم يكن كتاباً واحــداً نازلاً مــنذ أيام آدم او غــيره من الرسل ليبقى لجميع الأجيال، ولكن هذا التعدد في الكتب السماوية له منافع عظيمة منها:
الأولى : قانون الرأفة الإلهية بالناس في تجديد التنزيل.
الثانية : قانون غضارة التنزيل دعوة للناس للإلتفات الى أمور دينهم، فالجديد مناسبة للتفكر والتدبر والعمل.
الثالثة : طرو التحريف على بعض الكتب مع تعاقب الأيام.
الرابعة : التباين المكاني في سكن الناس وحاجة الأمصار المختلفة الى الكتاب السماوي.
الخامسة : لغة التدرج في الأحكام الشرعية وسنن الناسخ والمنسوخ.
السادسة : بعثة الأنبياء والرسل من عند الله تعالى الى الناس مبشرين ومنذرين فكل بعثة نبوية ضرورة في زمانها ومكانها، وهذه الرسالة يقترن معها كتاب نازل من عنده تعالى.
السابعة : يأتي الكتاب اللاحق جامعاً لأحكام الكتاب السابق مع أحكام شرعية مستحدثة تدل على الإرتقاء في الإيمان وتؤدي الى تثبيت مفاهيم التوحيد في الأرض.
الثامنة : التعدد في الكتب المنزلة يمنع الناس من الزيغ واتباع الهوى.
التاسعة : يحتاج الكتاب الجــديد الى آيــات لتصـديقه ومعجزات لتحقق نزوله من عند الله تعالى، فتتجدد الآيات الحسية والعقلية.
العاشرة : تكرار التنزيل وبصيغ متجددة مناسبة لإيمان فريق من الناس، وديمومته في بعض البلدان والمناطق من العالم ليشع الى ربوع الأرض ويلتقي ضياؤه مع القادم من المناطق والبلدان التي سبق فيها التنزيل، لتتعانق اشعة الإيمان وتتوطد اخوة الإسلام وتسود الدعوة الى الله , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
الحادية عشرة : الكتاب الجديد حفظ وصيانة للكتب السابقة، لأنه يفضح التحريف الواصل اليها، ويؤكدها اسماً ومسمى، ويكون شاهداً على صدق تنزيلها وحرباً على المشككين بها.
الثانية عشرة : التعدد رحمة متجددة وزيادة للفضل الإلهي والأمر المتكرر المتجــدد أفــضل من الذي يأتــي دفعــة واحــدة في موضــع محصور.
من القواعد الإمتــنانية قاعــدة اللطـف وان الله عز وجل يقرب العبد الى طاعته ويهديه اليها، ويجعله يتمسك بها لتتعلق بالمقدمة او ذيها او بهما معاً، فتعدد التنزيل من اللطف الإلهي على العباد ومنافع نزول كل كتاب لا تنحصر بأهل زمانه او بلد التنزيل، بل تشمل الأجيال المتعاقبة.
فالمسلمون في هذا الزمان ينتفعون من نزول التوراة والإنجيل، لذا ورد قــوله تعالى [هُدًى لِلنَّاسِ]( ) والألــف واللام للجــنس.
ولفظ الناس أعم من المسلمين فكل مسلم هو انسان وليس العكس، والمسلمون من الناس، ولكن الناس أعم ففيهم الكتابي والكافر والوثني، وهداية الكتب السماوية للناس لا تنقطع او تنحصر بزمان دون زمان بل هي مستمرة لما فيها من الأحكام والمواعظ , وقد ورد لفظ [هُدًى لِلنَّاسِ]( ) ثلاث مرات في القرآن :
الأولى : واحدة في آية البحث .
الثانية : قوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
وتتضمن هذه الآية اسم شهر رمضان وهو الشهر الوحيد الذي ورد اسمه في القرآن .
الثالثة : قوله تعالى [قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ] ( ).
وهل يتعلق [هُدًى لِلنَّاسِ] بالتــوراة والإنجــيل وحـدهما، أم يشمل القرآن، الجواب انه يشــمل الــقــرآن والهـداية، فلفظ [مِنْ قَبْلُ] خاص بالتوراة والإنجيل، اما لفظ الهدى فهو جامع للكتب الثلاث.
وفي الآية دلالة على عدم نزول كتـاب من غير منافع وفوائد عقائدية، وبينما جاء وصف القرآن في الآية السابقة بانه نزل بالحق، جاء وصف التوراة والإنجيل بانهما هدى للناس، لتبين الآيتان ان القرآن حاجة للناس، وفيه تمام هداهم وصلاحهم.
وفي اكرام القرآن للتــوراة والإنجيل منع من فتنة كتابية ومن وجوه درء الفتنة ان اليهود والنصارى لا يستطيعون رمي المسلمين بانهم يتقــولون عــلى التــوراة والإنجــيل.
فالقرآن يدعو المسلمين بكــرة وعشــية إلى حسن الصلات مع أهل الكتاب والى اكــرام التــوراة والإنجـيل كما انهما يكــرمــان القرآن بالتبشير به، واتحاد السنخية السماوية ذاته عنوان اكرام متداخــل ومتــبادل، والقــرآن مظــهر لهما ناطق بإعجازه وصدقهما في آن واحد.
فإعجاز القرآن يترشح على التوراة والإنجيل فيثبتهما ويدون في القلوب حقيقة عقائدية وهي ان التوراة والإنجيل سماويان، وهذا التثبيت لا يتم لولا الاثبات لسماويته بإعجازه الذاتي، وانتفع اليهود والنصــارى من هــذا التثبيت وبيان ســنخية الــتــوراة والإنجـيل.
وقيل ان معنى التــوراة بالعــبريــة القانــون , وانه (تعليم) و(تدريس).
ويطــلق على الكتب الخمسة الأولى من الكــتاب المقـدس عند النصارى العهد القديم وهي :
الأول : سفر التكوين.
الثاني : سفر الخروج.
الثالث : سفر اللاويين.
الرابع : سفر العدد.
الخامس : سفر التثنية .
وذكر ان التوراة لم يكتبها موسى، وانها عمل احبار الفوها على التعاقب معتمدين في تأليفها على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل، وقيل ان السامرة لهم توراة خاصة بهم.
والإنجيل يطلق عند النصارى على الكتب الأربعة وهي:
الأولى : انجيل متى وهو أقدمها، كتب بعد عيسى بثلاثين سنة باللغة العبرية.
الثانية : انجيل مرقس، كتب باللغة اليونانية في روما بعد انجيل متى.
الثالثة : انجيل لوقا.
ولم ير كل من لوقا ومرقس السيد المسيح .
الرابعة : انجيــل يوحــنا، وهـذا آخــرها كتابة، فــقد ذكــر انه كتب بعد موت المسيح بستين سنة أي سنة ثلاث وتسعين ميلادية.
وعدد الرسل عيسى عليه السلام اثنا عشر , واسماؤهم موثقة ومدونة في إنجيل متى :
(10: 1 ثم دعا تلاميذه الاثني عشر و اعطاهم سلطانا على ارواح نجسة حتى يخرجوها و يشفوا كل مرض و كل ضعف
10: 2 و اما أسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه الاول سمعان الذي يقال له بطرس و اندراوس اخوه يعقوب بن زبدي و يوحنا اخوه
10: 3 فيلبس و برثولماوس توما و متى العشار يعقوب بن حلفى و لباوس الملقب تداوس
10: 4 سمعان القانوي و يهوذا الاسخريوطي الذي اسلمه
10: 5 هؤلاء الاثنا عشر ارسلهم يسوع و اوصاهم قائلا الى طريق امم لا تمضوا و الى مدينة للسامريين لا تدخلوا) ( ).
وذكر أنه لم يؤمن بنبوة المسيح في حياته إلا مائة وعشرون رجلاَ , وكانوا خائفين يدعون إلى رسالته سراَ حتى بعد رفعه وبقي انصاره واتباعه على هذه الحال لنحو ثلاثمائة سنة .
وهناك اناجيل عديدة غيرها مطبوعة، ولكن الكنيسة أقرت الأربعة المتقدمة اعلاه واحتسبتها وحياً من الروح المقدس ، وتتضمن سيرة المسيح وتعاليمه ونصائحه وأعمال الرسل (الحواريين) في سبعة وعشرين سفراً.
وتبين الآية إتصال رحمة الله عز وجل بالناس في كل زمان بهدايتهم بالكتب السماوية , وفيه مسائل :
الأولى : نزول كل من التوراة والإنجيل حجة على الناس .
الثانية : بيان الترتيب وأن رسالة موسى عليه السلام قبل رسالة عيسى عليه السلام .
الثالثة : دعوة المسلمين للتصديق بأن التوراة والإنجيل كتابان نازلان من عند الله عز وجل , وفيه تأسيس للصلات الحسنة بين المسلمين واليهود والنصارى .
الرابعة : نزول التوراة والإنجيل مقدمة وبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن معاني هدى للناس : أي هدى للناس للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : من مصاديق تسمية القرآن (الفرقان) في الآية بيان النبؤات والكتب السماوية السابقة النازلة وأنه شاهد على اختصاص بشاراتها بشخص برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : لما كان نزول التوراة والإنجيل هدى للناس , فكذا فإن القرآن هدى للناس لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ودلت عليه ذات الآية بتسمية الفرقان فهو الفارق بين الحق والباطل , والتنزيل وغيره ومبينة للأوامر والنواهي .
السابعة : القرآن فرقان في كل زمان , لأصالة الإطلاق , وتقدير الآية وأنزل الفرقان هدى للناس في كل زمان .
و عن الحارث الأعور أنه (قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث، فأتيت علياً عليه السلام فقلت : ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث؟
فقال : وقد فعلوا؟
فقلت : نعم،
فقال : أما أني سمعت رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} يقول : إنها ستكون فتنة قال : قلت : فما الخروج منها يا رسول الله؟
قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلاّ أن قالوا {سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا}( ) .
من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور)( ).
بحث أصولي
الزمان وعاء للفعل بحسب حركته وتعاقب آناته لذا قسم الفعل الى الماضي والحال والمستقبل، وجعلوا عنصر الزمان هو الفرق بينه وبين الاسم بالإضافة الى حركته.
ويلاحظ في حديث الإمام علي عليه السلام: “الاسم ما انبأ عن المسمى والفعل ما انبأ من حركة المسمى، والحرف ما اوجد معنى في غيره” .
ان الاسم غير المسمى وان الزمان لم يذكر في اصل التعريف للفعل ولكنه اعم من نفيه لأن الوجود أعم من الإيجاد , فقد لا يجد الفرد أو الجماعة الشئ , ولكن هذا لا يعني أنه غير موجود ولأن التعريف ورد على نحو الإختصار، بل ان ذكر الحركة يدل بالدلالة الإلتزامية على ارادة الزمان فيه، اذ ان الحركة لابد لها من وعاء زماني لموضوعية الزمان في الفعل، واستدل بالتبادر حين الاطلاق على ارادة الزمان
والماضي كما في قولك (جاء زيد)، بالإضافة الى الإطراد وهو شيوع استعمال اللفظ في المصاديق الواجدة لملاك الإستعمال، وان لم يصح الإطلاق فيكون من عدم الإطراد وهو من علامات المجاز كاستعمال لفظ اسد في زيد.
وقالوا ان الأفعال الإنشائية لا تدل على الحال والزمان كما في الأمر والنهي والإستفهام لأنها تدل على البعث على الفعل في الأمر كما في الطلب او البعث على الترك والنهي عنه، كما في الترك، والسؤال، وحتى على القول بان هذه الأفعال لها مادة وهيئة، والمادة هي ذات الماهية وتركيب الحروف،
اما الهيئة فهي تدل على ذات الطلب او النهي.
ولكن الأفعال اعم من الإنشائية فتشمل الخبرية وعليها المدار في التقسيم الزماني، فالأقوى ان الأفعال تدل في هيئتها وتركيبها على الزمان من جهة التقسيم الإجمالي، بل حتى الأفعال الإنشائية فانها تدل على الزمان سواء بالإجمال او بلحاظ القرينة .
ويدل الفعل على الزمان وله حضور حين وضع اللفظ ازاءه، كما في قول أبي العتاهية :
الا ليت الشباب يعود يوماً فاخبره بما فعل المشيب( )
والمراد من المجردات هي الأفعال المستديمة التي لا ينحصر اوانها بزمان مخصوص من الماضي او المضارع او الأمر ولكن دلالة الفعل على الزمان لا تعني الحصر به، فما يدل على الزمان اعم من ان يتعلق بموضوع او فرد واحد، فلا حاجة للإنتقال الى المجاز عند الإسناد الى الزمانيات او غيرها لأن افراد الحقيقة متعددة.
وفي تعريف الفعل قالوا: “هو ما دل على معنى في نفسه مقترن باحد الأزمنة الثلاثة”، فالزمان قيد للفعل ويدل عليه الفعل بالدلالة الإلتزامية وعلى نحو عرضي.
وقد أخبرت الآية بان نزول التوراة والإنجيل متقدم زماناً على نزول القرآن وان الأحكام تتبع اللاحق من الكتب السماوية.
بحث بلاغي
من أنواع الإطناب بالزيادة التعليل وهو نوع تفسير وتقرير للحكم، وموضوع للبيان والفهم والحجة.
ويفتح التعليل أبواباً من العلم ويمنع من التفسير بالرأي والإجتهاد في مقابل النص، ويساعد على إجماع العلماء وحصر الأحكام وتيسير انطباقها على الموضوعات مع قلة اللبس ورفع الجهالة والغرر.
كما يساعد على قبول الأحكام ويبــعث في النفـس الشوق للقرآن وما فيــه من العلوم، ويأتي التعلــيل أحيــاناً وكــأنه جــواب لســؤال مقدر تضمنته الآية السابقة او الشطر الأول من ذات الآية بالمنطوق او المفهوم.
فبعد ان ذكــرت الآية السـابقة نزول التوراة والإنجيل من عند الله تعالى، بينت هذه الآية العلة الغائية من نزولهما وانه هدى للناس وأردفت الآية بالإخــبار عــن نزول القــرآن لدفــع وهـم، والظن بالوقوف عندهما، ومن الهدى الذي تضمنته التوراة والإنجيل البشارة بالقرآن.
بالإضافة الى ان الهداية عنوان جامع لكل الكتب السماوية وأتصف القرآن، بانه مصدق لهما، ومن وجوه التصديق ما فيهما من البشارة بنزول القرآن.
بحث أصولي
الزمان وعاء للفعل بحسب حركته وتعاقب آناته لذا قسم الفعل الى الماضي والحال والمستقبل، وجعلوا عنصر الزمان هو الفرق بينه وبين الاسم بالإضافة الى حركته.
ويلاحظ في حديثه عليه السلام : “الاسم ما انبأ عن المسمى والفعل ما انبأ من حركة المسمى، والحرف ما اوجد معنى في غيره”، ان الاسم غير المسمى وان الزمان لم يذكر في اصل التعريف للفعل ولكنه اعم من نفيه لأن عدم الإيجاد اعم من عدم الوجود ولأن التعريف ورد على نحو الإختصار، بل ان ذكر الحركة يدل بالدلالة الإلتزامية على ارادة الزمان فيه، اذ ان الحركة لابد لها من وعاء زماني لاعتبار الزمان في الفعل.
واستدل بالتبادر حين الاطلاق على ارادة الزمان الماضي كما في قولك (جاء زيد)، بالإضــافة الى الإطــراد وهـو شيوع استعمال اللفظ في المصــاديق الواجــدة لملاك الإســتعمال وعلى نحو الإستدامة , كما في اطلاق اسم (الأسد) على ذات الحيوان المفترس , فهو شجاع في كل مناسبة ، وان لم يصــح الإطلاق فيكون من عدم الإطراد وهو من علامات المجاز كاستعمال لفظ اسد في وصف رجل شجاع .
وقالوا ان الأفعــال الإنشـائية لا تدل على الحال والزمان كما في الأمر والنهي والإستفهام لأنها تدل على البعث على الفعل في الأمر كما في الطلب او البعث على الترك والنهي عنه، كما في الترك، والسؤال، وحتى على القول بان هــذه الأفــعال لها مــادة وهيئــة، والمــادة هـي ذات الماهية وتركيب الحروف، اما الهيئة فهي تدل على ذات الطلب او النهي.
ولكن الأفعال اعم من الإنشائية فتشمل الخبرية وعليها المدار في التقسيم الزماني، فالأقوى ان الأفعال تدل في هيئتها وتركيبها على الزمان من جهة التقسيم الإجمالي، بل حتى الأفعال الإنشائية فانها تدل على الزمان سواء بالإجمال او بلحاظ القرينة.
قوله تعالى [وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ]
الفرقان لغة مصدر فرقت بين الشيئين فرقاً وفرقاناً، يطلق على ما يحصل به الفرقان، بعد ان قيدت الآية نزول التوراة والإنجيل بقيد [مِنْ قَبْلُ] وما فيه من الدلالة على الزمن الماضي، وفيه اشارة الى استدامة نزول القرآن والعمل بأحكامه وكأن تنزيله مستمر، وذكر في معنى الفرقان في هذه الآية أقوال اخرى وهي:
الأول : انه الزبور، وهو كتاب مواعظ.
الثاني : ان الله جعل القــرآن والتــوراة والإنجــيل هــدى للناس فهــي فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع، ونسبه الرازي للأكثرين.
ولكن الآية وردت بلغة الإنزال والمتبادر منها انه نزول كتاب على نحو مستقل بالإضافة الى القرائن الدالة على ارادة القرآن وتفسير القرآن بعضه بعضاً.
الثالث : وقال الرازي المراد من الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بانزال هذه الكتب( ).
ولكن سياق الآية يأباه، والإشكال الذي ذكروه بان قوله تعالى [وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ] عطف على ما قبله، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، وان القرآن مذكور قبل هذا، مردود من وجوه ليس لأن الله أعاد ذكره تعظيماً لشأنه، بل للتباين الموضوعي.
فيمكن قراءة الواو في (وانزل التوراة) واواً استــئنافية لأن الإخـبار في الآية مستقل، فقد ثبــتت الآية الســابقة نزول القرآن بالحق وانه تصديق لما بين يديه، وما بــين يديه أعــم من التـوراة والإنجيل.
ثم تحدثت هذه الآية عن نزول التوراة والإنجيل، ولم تجعل نزولهما أمــراً منقــطعاً كي لا يتوهم الناس الإكتفاء بالرجوع اليهما، وانهما بعرض واحد مع القرآن وان كلاً من الكتب الثلاثة جاء هدى للناس بنفس الدرجة من الهداية.
فجاء البيان والتوكيــد والتعــريف بالقرآن بانه الفرقان المنزل من عنده تعالى ولابــد من الرجــوع اليه وانه ليــس بعــرض واحـد مع التوراة والإنجيــل، نعــم جاء في القــرآن اطــلاق لفظ القرآن على ما اوتي موسى وعيسى عليهما السلام .
قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ]( )، للإشارة الى التوراة والإنجيل على نحو الخصوص، ولأن كلاً منهما مفرق بين الحق والباطل وفيه أحكام شرعية.
وفي الحديث: (محمد فرق بين الناس) أي يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه، ويأتي الفرقان بمعنى الحجة والنصر،
والآية دعوة للمؤمنين للتفريق بين الناس بلحاظ الإيمان، لأن القرآن قسم الناس الى قسمين مؤمــن وكافر، وهذا التفــريق والقســمة باقيان الى يوم القيامة ليس فقط في مضمون القرآن وآياته بل في الواقع والحياة الدنيا، وهو من اعجاز القرآن ان يكون الواقع وحياة الناس انعكاساً لآياته، فرقت آياته بين الناس بحسب العقيدة، فتفرق الناس بحسبها، واصبح المدار على الهوية العقائدية.
والفرقان يدل على القرآن والتوراة والإنجيل بحسب القرينة الحالية والمقالية وهو عنوان جامع للكتب الثلاث، ولكن لو جاء مجرداً من غير قرينة فانه يدل على القرآن، فالقرآن فرقان لغيره وليس من كتاب آخر يكون فرقاناً له.
ومن خصائص نزول القرآن الهداية العامة والخاصة ، وظهور مصاديق آياته في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية وفي منهاج أهل البيت والصحابة والتابعين ، وتعاهد أجيال المسلمين لآيات القرآن ، والعمل بمضامينها.
وتجلت عظمة القرآن وتسميته الفرقان بتحلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصبر والتقوى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وفي وصف زهد وعلم وتقوى الإمام علي عليه السلام قال الزمخشري (قال معاوية لضرار بن ضمرة الكناني: صف لي علياً؛ فأستعفى، فألح عليه؛ فقال: أما إذ لابد، فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته؛ كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويعاقب كفه، ويعاقب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب .
كان والله يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقربه لنا، وقربه منا، لا نكلمه هيبة، ولا نبتدئه لعظمه؛ يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين .
فكأني الآن أسمعه يقول: يا دنيا التي تعرضت، أم إلي تشوفت؟ هيهات، هيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد ووحشة الطريق.
قال: فوكفت دموع معاوية ما يملكها على لحيته، وهو يمسحها، وقد أختنق القوم بالبكاء، وقال: رحم الله أبا حسن، كان والله كذلك؛ فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال: حزني عليه والله حزن من ذبح واحدها في حجرها، فلا ترفأ عبرتها، ولا تسكن حرتها. ثم قام فخرج)( ).
تسمية القرآن فرقانا
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بتسمية القرآن فرقانا , وفيه وجوه :
الأول : يحصل به الفرق والتمييز بين أهل الحق وأهل الباطل، فيكون القرآن سبباً لمعرفة أفراد كل فريق بلحاظ العقائد والأفعال، لأن القرآن جاء بأحكام وسنن ودعا الناس اليها جميعاً فمن عمل بها فهو من المؤمنين ومن جحد بها فهو من الكافرين لذا تضمنت هذه الآية ذم الكافرين.
الثاني : ان آياته متفرقة في موضوعاتها وأحكامها وتتناول الأحكام والقواعد وقصص الأنبياء والأمم السالفة.
الثالث : التعدد والتفريق في كلمات القرآن اذ انه ينقسم الى سور عددها اربع عشرة سورة، وكل سورة تنقسم الى آيات متعددة.
الرابع : كل آية من آيات القرآن مفرقة بين الحق والباطل وهي حجة لأنها نازلة من السماء، فالفرقان بلحاظ عدد الآيات واستقلال كل واحدة منها يمكن احتسابه اسم جنس لأنه يستوعب الآيات جميعها.
الخامس : القرآن مفرق بين الناس في الآخرة، فهو يقود المؤمنين العاملين بأحكامه الى الجنة، ويسوق من تركه واعرض عنه الى النار.
السادس : ورد في الحديث: (الفرقان المحكم الواجب العمل به والقرآن جملة الكتاب).
السابع : ســمي يــوم بدر في القــرآن بانه فــرقان، قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
فالقــرآن آلــة النصر على الكفار، فهو يبعث العز في نفوس المجاهدين ويعطيهم قوة اضــافية ويكون لهم مــدداً ســواء لوثاقتهم بانهـم على الحق او للوعد الكـريم بالجنة، ويبث الرعب والفزع في قلوب الكافرين، لذا تراهم ينهزمـون عند اشتداد القتال وشروع المسلمين بالزحف.
الثامن : القرآن سلاح دائم للظفر، به يفتح الله عــلى المسلمين وهو خطاب سماوي كريم موجه الى العقول يهديها الى التفريق بين الحق والباطل، وبين الصــدق والكــذب، وبين طريق الجنة وطريق النار.
التاسع : جاء ذكر القرآن باسم الفرقان بعد ذكر التوراة والإنجيل، لأنه يفرق بينهما وبين غيرهما من الكتب والسنن المتبعة والمستحدثة لأتصاف التوراة والإنجيل بالنزول من عند الله تعالى.
وكل كتاب سماوي فرقان بين الحق والباطل، وهو مفرق بين الكتاب الذي قبله وبين غيره مما يدعى زوراً ووهماً وبغير حق، أي ان وظيفة كل كتاب مركبة واحدة ثابتة لجميع الكتب وهي التفريق بين الحق والباطل، وبيان الواجبات والمحرمات، والأخرى التفريق بين الكتاب الصادق الذي نزل قبله، وبين ما يُراد الحاقه به او ادعاء انه مثله او مشابه له.
العاشر : القرآن يفرق بين آياته وسوره وبين غيرها، فلا يطرأ عليه زيادة او نقيصة، وهو بذاته مميز لآياته ومفرق لها عن غيرها.
والفرقان مثبت للحقائق لأن التمييز بين الأشياء يعني فصلها او استبانتها وهذا التفريق لم ينحصر بايام التنزيل بل هو مستمر ومتصل، لذا استحق القرآن اسم الفرقان لأنه يفصل بين الحق والباطل في كل الأزمنة والموضوعات.
وهل يكون فصله وبيانه للأشياء خاصاً بأهل العلم والتحصيل أم انه عام، الجواب هو الأخير، فلغة القرآن وما فيها من صيغ الإحتجاج والأخبار والأحكام جلية واضحة تخاطب كل مكلف ويدركها الناس جميعاً ذكوراً واناثاً.
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ]
الآية قاعــدة كلية لم تنحصـر بجماعة أو فئة دون اخرى، إذ يتجــلى إعجاز القرآن بمعالم وأسرار ينفرد بها، وقواعد في خـــواتم الآيات تصــلح ان تكــون موعـظة ودرساً وعــبرة للأجيال، ووعـداً ووعيداً، فهذه الآية في منطوقها وعيد للكافـرين، وفي مفهــومها وعــد للذين آمنــوا بالقــرآن كتاباً نازلاً من عند الله تعالى، وفرقاً بين الحق والباطل وداعياً الى الله تعالى.
وجاءت الآية بصيغة الجمع سواء في الكافرين او في الآيات، وفيه مسائل:
الأولى: ان الكافرين ليسوا بالقلة بل هم جمع، وهل تنحصر كثرتهم بأيام التنزيل ام تشمل غيرها، الجواب هو الأخير لأصالة الطلاق.
الثانية: الكفر على وجوه منها كفر الجحود وكفر النعمة وكفر البراءه وبلحاظ القرائن في المقام يكون المراد من الكفر هنا الكفر بالتنزيل وهو على أقسام :
الأول : انه فرع من الجحود والشرك والكفر بالربوبية.
الثاني : شعبة من الكفر بالنبوة، وهذا ايضاً على جهات :
الأولى : عدم الإيمان ببعثة الأنبياء، بدعوى ان الله عز وجل أعظم وأكبر من ان يرسل الى البشر انبياء، بل البشر يدركون بعقولهم وجوب العبادة.
الثانية : الكفر بنبوة بعض الأنبياء دون بعضهم الآخر.
الثالثة : الكفر بالكتاب المنزل بالذات، أي انهم لا ينكرون حصول التنزيل ولكنهم لا يؤمنون بما هو موجود من الكتب السماوية، وهذا الكفر على قسمين:
الأول: جحود وانكار للكتب الموجــودة بين أيــدي الموحدين مطلقاً.
الثاني: كفــر بشــطر من الكتب الســماوية المنزلة والإيمان بالشــطر الآخــر، قال تعالى [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( ).
الرابعة : جاءت الآية بصيغة الماضي (كفروا) وكأن كفرهم أصبح من الماضي الذي يخبر عنه ليكون الإخبار توثيقاً وبياناً، فان قلت الواقع يشهد باستمرار هذا الكفر والجحود، قلت هذا صحيح ولكن لغة الماضي تدل على قلة ضررهم وأذاهم وان ذات الكفر وشروره ماضية الى المحو والزوال.
الخامسة : الآية انذار للكافرين ودعوة لهم للتدبر في آيات الله.
السادسة : الآية بشارة للمسلمين وشهادة سماوية على سلامة اختيارهم الهداية والإيمان.
وجاء لفظ (الآيات) بصيغة الجمع وفيه وجوه:
الأول: آيات الله مطلقاً في الآفاق والنبوة والتنزيل.
الثاني: بعثة الأنبياء.
الثالث: الكتب السماوية المنزلة.
الرابع: التوراة والإنجيل والقرآن.
الخامس: القرآن وهو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل.
السادس: آيات القرآن وسوره.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وهي من العام والخاص ، ولو كان شخص او جماعة يكفرون ببعض الوجوه أعلاه من الآيات سواء آيات النبوة او التنزيل فهل تشمله الآية وما فيها من الوعيد، الجواب: نعم، فان الكفر ببعض آيات الله عز وجل يعتبر كفراً وجحوداً.
والواجب يقتضي الإيمان والتسليم بآيات الله على نحو العموم الإستغراقي.
وجاءت اضافة الآيات لله عز وجل وهو تشريف للأنبياء والكتب المنزلة وان كل واحد منها انما هو آية ورحمة منه وداعية الى الله فالأنبياء جاهدوا في سبيله تعالى، والكتب المنزلة تدعو بنفسها وبحجتها الذاتية الناس للإيمان وهنا تظهر الأسرار التي يختص بها القرآن بالإعجاز الذاتي لكل آية من آياته وهو فرد من افراد أهليته للإستقلال بعنوان الفرقان بعد تنزيله والى يوم القيامة .
وفي القرآن سورة اسمها سورة الفرقان تتكون من (77) آية , وتبدأ بقوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ) والمراد في الآية القرآن.
وهو لا يتعارض مع تسمية التوراة بالفرقان , قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وتدل الآية في مفهومها إلى التصديق بكل آيات الله عز وجل على نحو العموم الإستغراقي وكذا الإيمان بها على نحو العموم المجموعي , ومن آيات الله عز وجل في المقام :
الأولى : بعثة الأنبياء .
الثانية : نزول الكتب السماوية .
الثالثة : تصديق الكتب السماوية بعضها لبعض .
الرابعة : الآيات الكونية .
الخامسة : المعجزات الحسية التي تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : الآيات والبراهين في ذات الأفراد والمجتمعات , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
وفي الآية بيان لكثرة الآيات والبراهين التي تدل على بديع صنع الله عز وجل ووجوب عبادته , وحرمة الجحود والكفر ومفاهيم الضلالة وصحيح ان الآية جاءت بصيغة الفعل الماضي (الَّذِينَ كَفَرُوا) إلا أن موضوعها لا يختص به , إنما يستغرق أفراد الزمان الثلاثة وتشمل الآية الذم لفرعون وقومه الذين كذبوا برسالة موسى , ونزول التوراة , قال تعالى [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ* قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
وتبين الآيتان أعلاه استحقاق الذين كفروا من الأمم السابقة والحاضرة واللاحقة للعذاب الشديد .
قوله تعالى [لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ]
انذار وتخويف ووعيد بالنص الجلي بان عاقبة الكفر هي العقاب الأليم وهذا العذاب فيه وجوه:
الأول : العذاب في الدنيا مثل الإبتلاء بالمرض والفقر وضيق الصدر والإكتئاب وفقدان السعادة حتى في مواردها، وقد تأتيه اسباب الفرح ولكنه لا يستبشر بها سواء للمانع الذاتي , او للقسوة في القلب , او لعدم ادراك المنافع التي طرأت عليه , او لكثرة الهموم والآلام التي يعاني منها.
الثاني : العقاب في عالم البرزخ وهو عالم القبر منذ الموت لحين البعث.
الثالث : العذاب في عرصات يوم القيامة والحساب الشديد والتعرض للأهوال والأذى.
والأصل في العذاب هو الأخروي الجامع للقسمين الأخيرين اعلاه من غير استثناء قطعي لأيام الحياة الدنيا، خصوصاً وان الدنيا داء ابتلاء والآفاق ومليئة بأسباب النهي عن الكفر بحجج الله، والبراهين الدالة على توحيده تعالى وصدق النبوة.
قوله تعالى [وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]
من أسماء الله تعالى “العزيز” وهو القوي الذي لا يغلبه شيء، الغالب لأشياء مجتمعة ومتفرقة (وقيل: هو الذي ليس كمثله شيء) ( ).
وخاتمة الآية قاعــدة كليــة تبين عظيم قدرته تعالى وانه يتفضل بأسباب هداية الناس ويحثهم على التســليم بالآيات بعد ان يجعلها باهرة، سالمة عن المعارض، لإرشادهم الى سبل الإيمان والرشاد لا عن حاجة منه اليهم فهو الغنــي الحميد، ولكــن لهدايتهم ودوام النعم عليهم.
وفي الآية تخــويف وتــوبيخ للكافرين الذين لا يتبعون الأحكام النازلة من السماء وتدل الآية على موضوعية الكتب المنزلة في عالم الإيمان، وان الجحود بها ســبب للعـقاب والتعرض للبطش الإلهي، وكذا بالنســبة للآيــات الأخــرى من بعــث الأنبياء والآيات في الآفاق وفي النفوس، والايات المسـتحدثة الظاهرة للعقول والتي تدرك بالحواس، ومفاهيم تلك الايات أي التدبر في حال عدم وجودها وما يحــدث من الكــوارث والمصــائب والإبتلاءات في حال زوالها وانعدامها.
فالآيات الإلهية مستديمة دائمة تواجه كل انسان ابتداء مع نمو عقله ومداركه، ومن الآيات الشخصية ما حصلت له قبل التمييز والبلوغ كمراحل الحمل والولادة، فيتذكرها بالإعتبار بغيره وكيفية حصول الحمل، وقد يكون الولد عاق بوالدته ولكن حين رؤية كيفية الحمل وما تعانيه الأم مدة الحمل والطلق وما تبذله من الجهد وتلاقيه من السهر في مدة الرضاعة والحضانة وغيرها يتوجه الى اكرامها ويشعر بالتقصير ازاءها، حتى البار بها من صغره.
ومن الآيات ايضاً موت الإنسان وزهوق الروح ومغادرة الدنيا والإنتقال الى عالم الحساب، والموت لا يزور الإنسان الا لحظة مغادرة الدنيا وانفصال الروح عن الجسد، ولكن الإنسان يحتاجه للتدبر والتفكر باسرار الحياة وكيف انها عرض زائل فتأتي العبرة والتذكرة بموت الآخرين من حوله فيفجع الإنسان بأقرب الناس اليه، ومن الآيات عدم وجود سن معينة يطرأ معها الموت او يبدأ احتمال زيارته ومغادرة الدنيا فلم يجعل الله عز وجل مدة من العمر بمأمن من الموت، وليس من أحد يضمن انه يعيش يومه بل ساعته.
ولا يستطيع الطب والعلوم الحديثة اعطاء ضمان للإنسان بنجاته من الموت واسبابه ومقدماته إلى حين ، ولم تحلم شركات التأمين بمثل هذا المشروع الذي يدر عليها الأموال الطائلة والأرباح الكثيرة، وسيبقى اجل الإنسان يبد الخالق عز وجل لأنه عزيز غالب .
نعم هناك أسباب لدفع أوان الموت وتأجيله وصرف البلاء والأذى للإرشاد الى الهدى واجتناب غضب الجبار والإمتناع عن الكفر بالآيات التي جعلها الله ظاهرة بينة، وهو من اللطف الإلهي لييسر للناس هدايتهم ورشادهم ,وهو من عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
وتبين خــاتمة الآية ان العــذاب الشــديد يأتــي للكافر من عند الله تعالى، وجــاءت لدفــع وهــم فقد يظــن الكــافر ان المــراد من العذاب هو الدنيوي فتصيب الكافر الأدواء والعلل والفقر والجوع ووجوه الإبتلاء الأخرى، ولكنه يحتسبها حجة كافية لأن غيره من المسلمين ايضاً تعرض لها وأحياناً بصــورة اشــد واكــثر اذى، فلا يكون الكفر علة تامة للإبتلاء في الدنيا خصوصاً وان الكافر لم ينفرد به من بين الناس.
فجاءت الآية لتخبر عن الوعيد بالعذاب واطلاقه الزماني وان الله ينتقم من أعدائه الجاحدين نعمه وهذا الوعيد والتخويف رحمة بالكافرين، فمع انه حق وصدق وحقيقة وليس مجازاً الا انه يتضمن الدعوة القرآنية للتدارك والرجوع عن الكفر والضلالة، والإلتفات الى الوظيفة الشرعية ولغة العقل واجتناب الهوى والزيغ والإمتناع عن اغواء الشيطان وقهر الحجب الظلمانية التي يحاول جعلها على البصيرة والإنتقام المكافأة بالعقوبة.
ومن أسماء الله تعالى (المنتقم) الذي تصل عقوبته لمن يستحقها ولا يستطيع احد ردها او دفعها وينفرد سبحانه بالإنتقام، واذا رأيت سلطاناً جائراً او شخصاً ينتقم من غيره ويعاقبه بما يراه مناسباً من العقوبة فهذا ليس من الإنتقام لأن هذا السلطان وغيره عرضة للإنتقام الإلهي اذا كان كافراً بآيات الله.
ومن إعجاز خاتمة الآية أمور :
الأول : تعدد الوعيد من الله عز وجل .
الثاني : ورود الوعيد من الله .
الأول : لهم عذاب أليم , أي للذين كفروا بآيات الله .
الثاني : الله عزيز .
الثالث : الله ذو انتقام .
والنسبة بين الثاني والأول هو العموم والخصوص المطلق , فالعذاب الأليم للذين كفروا فرع صفة الله عز وجل بأنه عزيز .
وكذا ذات النسبة بين الله عزيز , والله (ذو انتقام) ترى ما هي النسبة بين الأول والثالث أعلاه .
الجواب العموم والخصوص المطلق فقوله تعالى [ذُو انتِقَامٍ] هو الأعم , والعذاب الذي ينزل بالمشركين والجاحدين بآيات الله فرع انتقام وبطش الله عز وجل .
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( )، في ثلاث آيات من القرآن ، وهي حسب نظم القرآن :
الأول : آية البحث ، إذ جاءت بصيغة الوعيد للذين كفروا بعد البيان بنزول العذاب الشديد بهم يوم القيامة ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان عظيم قدرة الله عز وجل , لذا ورد الدعاء والتضرع والإقرار بقانون القدرة المطلقة التي يتصف بها الله عز وجل كما في قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
الثانية : سخط الله عز وجل على الذين كفروا , قال تعالى أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الثالثة : إقامة الحجة على الذين كفروا بنزول التوراة والإنجيل ثم القرآن.
وذكرت الآية نزول التوراة والإنجيل بأنه (من قبل) لبيان مسألة وهي حضور تنزيل القرآن في كل زمان غضاً طرياً .
وهو من أسرار تلاوة كل فرد من المسلمين والمسلمات للقرآن كل يوم في الصلوات اليومية الخمس .
الثاني : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام]( ).
الثالث : قوله تعالى [فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]( ).
قانون دلالة الخاتمة
يمكن تأسيس قاعدة قرآنية جديدة اسمها (دلالة الخاتمة) وموضوعها ان خاتمة الآية تشير الى أولها وتدعو الى العمل به وعدم الغفلة عما فيه من الأحكام والمضامين القدسية، والمعاني والمعارف المستنبطة من خواتيم الآيات أكثر من ان تحصى هذه القاعدة خاصة بالعلقة والترابط بين صدر الآية وذيلها وأثر خاتمة الآية في امتثال الناس لما فيها .
وهو من الإعجاز الذاتي والغيري ان تمتلك الآية القرآنية نفسها أسباب العمل بها وحفظها وصيانتها من التحريف، لأن الترغيب والترهيب والوعد والوعيد أسباب تدفع المؤمن للتقيد بأحكام الآية وتزجر الكافر عن الإعراض عنها او التعدي على الآية في كلماتها وأهلها الذين يعملون بها.
فخاتمة الآية تجعل الكافر الذي اختار المعصية وعدم الإمتثال منشغلاً بنفسه، مدركاً لخطئه وهذا من الإعجاز الغيري لخاتمة الآية، فبالإضافة الى تثبيتها لأول الآية وحثها على العمل بمضامينها فانها تبعث الرعب والفزع في قلب الكافر وهذا البعث مركب من أمرين:
الأول: دلالتها على صدر الآية وتوكيدها عليه.
الثاني: صيغة الإنذار والتخـويف التي جاءت على نحو الإطلاق، ليكون موضوعها الزجر عن الكفر والضلالة بجميع افرادها.
وتؤكد الخاتمة ان القرآن هو الفرقان الذي يفصل بين مجتمع المسلمين ومجتمع الكافرين في الدنيا والآخرة، اما في الدنيا ففي الأعمال، واما في الآخرة ففي نوع الجزاء.
ومن وجوه استحقاق القرآن لصفة الفرقان ان ملكة التفريق تحصل في ذات الإنسان وفي نفسه اذ انه يستطيع التمييز بين الحق والباطل، ويعرف أسباب الهداية ويتحسس ويدرك الآيات بما في القرآن من الإنذارات والبشارات والدلالات الباهرات، بالإضافة الى اسرار الآيات نفسها، ومن منافع خاتمة الآية فيما يتعلق باسم الفرقان ان فريق الكفر والضلالة يبدأ يفترق وينعزل عن الناس وينكشف أمره، ويبعث فيه القرآن اسباب الفرقة والتشتت.



قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ] الآية 5.

الإعراب واللغة
[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ] ان: حرف مشبه بالفعل.
اسم الجلالة اسم ان منصوب.
لا: نافية، يخفى: فعل مضارع، شيء: فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
وجملة لا يخفى: خبر ان.
[فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ] في الأرض: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف صفة لشيء، ولا في السماء: عطف على ما تقدم.
يقال خفى الشــيء خفاء اذا اســتتر واخفــى الشـيء: كتمه (وقال ابن منظــور وخــفيــتــه: أظهــرته وهــو من الأضـداد( )، والمراد من الخفاء في الآيــة الإســتتار، وهذا المعنــى هــو الظــاهر والمتــبادر مـنــه للأذهـان.
في سياق الآيات
بعد مجيء الآية السابقة بتوكيد نزول التوراة والإنجيل والقرآن من عند الله تعالى، وتحذير الكافرين من الجحود بالآيات واخبارها بانهم لا يضرون بالكفر الا انفسهم وان الضرر الذي يلحقهم لا يمكن تصوره من جهة الشدة والبطش لأن الله تعالى هو الغالب الذي لا يقهر، وانه الذي يبطش بأعدائه في العقوبة ، جاءت هذه الآية لتخبر عن علمه بكل أفعال العباد.
ولتكون الآية التالية تفصيلاً لها فيما يتعلق بالأرحام.
لقد ذكرت الآية السابقة فضل الله عز وجل في إنزال التوراة والإنجيل والقرآن , ولم تذكر الآية على من نزلت هذه الكتب السماوية , ولكن آيات أخرى بينتها وذكرتها , قال تعالى [ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ]( ).
وفي عيسى عليه السلام [وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]( ) وقال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
لبيان إقامة الحجة على الناس , ثم أخبرت الآية عن العذاب الشديد الذي ينتظر الكافرين[بِآيَاتِ اللَّهِ]( ) لبيان النسبة بين آيات الله عز وجل وعموم التنزيل هو العموم والخصوص المطلق.
فآيات الله عز وجل ومنها التصديق ببعثة الأنبياء , والنسبة بين الوحي الذي ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن عموم وخصوص مطلق , فالوحي أعم وهو من آيات الله عز وجل , قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى] ( ) .
لذا وردت الآية بصيغة آيات الله عز وجل وحرمة الجحود بها على سواء على نحو العموم الإستغراقي أو العموم المجموعي و(عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ( ).
ويدل عليه أيضاَ قوله تعالى[قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( ) فتأتي طاعة الرسول في القرآن بالوحي وأخبرت آية البحث عن قانون من الإرادة التكوينية , وهو علم الله عز وجل بكل شئ سواء في الأرض أو في السماء.
لتتضمن الآية تأكيد الوعيد الوارد في الآية أعلاه , وإنذار الكفار والمنافقين بأن الله عز وجل بمحي عليهم آثامهم ولا يتعارض هذا المعنى مع تضمن الآية في منطوقها للوعد بالثواب من عند الله عز وجل للذين آمنوا وعملوا الصالحات.
إعجاز الآية الذاتي
لقد أخبر القرآن عن ملكية الله عز وجل المطلقة للسموات والأرض , وأنه سبحانه هو الذي خلقها ببديع صنعه كما في آيتين متجاورتين وهما :
قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ,( ).
وقال تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ.
وهذه أول آية في نظم سورة آل عمران تذكر الأرض والسماء بلحاظ مسائل :
الأولى : تقديم الأرض على السماء من بين خمس آيات بذات التقديم .
الثانية : مجئ السماء بصيغة المفرد , وفي الغالب تأتي بصيغة الجمع (السموات عند جمعها مع الأرض ليكون الألف واللام في المقام لام العهد , ولام الجنس وأن السماء وإن تعددت كلها بقبضة الله عز وجل ويعلم ما يقع فيها وهو سبحانه الذي يتعاهد ما فيها)
ويمكن تسمية هذه الآية بآية [لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ]( ).
ولم يرد لفظ (لاَ يَخْفَى) في القرآن إلا مرتين :
الأولى : في آية البحث وتتعلق بالحياة الدنيا في الجملة .
الثانية : قوله تعالى [يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ) .
وهو من الإعجاز في الصلة وقانون الترابط الموضوعي بين آيات القرآن والعوالم المتعددة :
الأول : الحياة الدنيا .
الثاني : عالم البرزخ .
الثالث : عالم الآخرة .
لبيان أن الله عز وجل يحصي أعمال العباد في الدنيا وتكون حاضرة معهم في الآخرة , قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ]( ).
ولم يرد لفظ (طُوبَى) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ترى لماذا قدمت الآية الأرض على السماء , الجواب لأن الآية في مقام التحذير والإنذار وتذكير الناس جميعاَ بأن الله عز وجل يراهم وما يفعلون , قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
ثم جاءت الآية التالية بالإخبار عن كون علم الله عز وجل ليس مجرداَ إنما هو الخالق المصور , فهو يعلم ما خلق وما سيكون عليه الإنسان في مراحل حياته من حين تصويره في الرحم وهو جنين , لذا جعل الله عز وجل أفراداَ قلائل من الناس عقيمين سواء من جهة الرجال أو النساء .
قال تعالى [أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ]( ).
ولم يرد لفظ عقيماَ في القرآن إلا في الآية أعلاه ولا ينحصر الأمر بالعقم , فمن الناس من يحول الله عز وجل دون زواجه وإنجابه ومنهم من يكثر له الأولاد والذرية .
وهل يدخل موضوع القدرة على الإنجاب والعقم في حال التصوير في الرحم , الجواب نعم , وهو من معاني اختتام الآية أعلاه بالثناء على الله عز وجل وذكر اسمين من الأسماء الحسنى (انه عليم قدير) .
ولو كتب الله لجنين ذكرا أو أنثى العقم ودعا له والداه أو غيرهم بالإنجاب فهل يستجيب الله , الجواب نعم إن شاء , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهل يدل الضمير (الهاء) في الآية أعلاه على اسم الجلالة , الجواب نعم وتقدير الآية (إن الله عليم قدير) لبيان قانون وهو أن الإشارة إلى اسم الجلالة بالضمير الظاهر والمستتر في القرآن أكثر من عدد واسم الجلالة الصريح .
إعجاز الآية الغيري
تبين الآية إحاطة الله تعالى علماً بجميع الكائنات والخلائق وهو أمر ينفرد به ســبحانه، الأمر الذي يترشــح عنه العــدل الإلهي وانعـدام الظلم لأن الأعمال جميعها ظاهرة عنده، وجاء كمال علمه بالأشياء مطلقاً من غير تقييــد بما في الأرض او ما في الســماء او بصــنف معـين من المخلوقات دون غيره، وتتــعدى الآيــة الإنســان في معــارفه المـحدودة، وتجعله يعترف صاغراً بمقام الربوبية لإنفراده تعالى بالكمالات.
تبين الآية سعة علم الله عز وجل وأن الأشياء كلها حاضرة عنده كل لحظة , ويكون من مصاديق قانون (التفسير بالتقدير ) الذي إستحدثته في هذا السِفر في المقام وجوه :
الأول : إن الله عز وجل لا يخفى عليه شئ من خلقه في الأرض ولا في السماء .
الثاني : إن الله عز وجل لا يخفى عليه شئ من رحمته بالخلائق وزيادة من تفضل عليها .
الثالث : إن الله عز وجل لا يخفى عليه شئ لأنه هو الذي [خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابع : إن الله عز وجل لا يخفى عليه شئ [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ( ).
الخامس : إن الله لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم .
فتبين الآية أعلاه علم الله عز وجل بالخلائق رحمة بها , و(عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ما هذه السماء؟
قال : هذه موج مكفوف عنكم)( ).
ويعلم الله عز وجل ما حدث في الأرض والسماء في الماضي ومن حين خلقهما , ويعلم ما يقع فيهما الآن , وفي المستقبل إلى أن تطوى بمشيئته وأمره .
(وأخرج ابن ماجة عن الربيع بنت معوذ عنها قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة عرسي وعندي جاريتان تغنيان وتقولان : وفينا نبي يعلم ما في غد .
فقال : أما هذا فلا تقولوه ، لا يعلم ما في غد إلا الله)( ) وهذا الحديث لا يعارض ما يخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المغيبات التي أخبره الله سبحانه.
وستأتي في الجزء الثاني والثلاثين بعد المائتين أحاديث نبوية عما بين السماوات وبينها وبين الأرض في تفسير قوله تعالى[وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ) التي يختص بتفسيرها هذا الجزء والحمد لله .
(عن ابن مسعود قال : بين السماء والأرض خمسمائة عام ، وما بين كل سماءين خمسمائة عام ، ومصير كل سماء يعني غلظ ذلك مسيرة خمسمائة عام .
وما بين السماء إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام ، وما بين ذلك الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام . والعرش على الماء ، والله فوق العرش ، وهو يعلم ما أنتم عليه .
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه نظر إلى السماء فقال : تبارك الله ما أشد بياضها ، والثانية أشد بياضاً منها ، ثم كذلك حتى بلغ سبع سموات .
وخلق فوق السابعة الماء ، وجعل فوق الماء العرش ، وجعل فوق السماء الدنيا الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والرجوم)( ).
الآية سلاح
في الآية حث للمسلمين على التقيد بأحكام الشريعة فمتى ما أدرك المسلم ان الله عز وجل يعلم كل شيء , ويرى مكانه ويحصي عليه أعماله فانه يبادر الى الصالحات ويحرص على الطاعات ويجتنب السيئات.
اما الكافر فان هذه الآية تبعث الخوف والفزع في نفسه وتمنعه من التمادي في الكفر والضلالة والإسراف في المعاصي والسيئات.
لقد أخبرت هذه الآية عن قانون وهو علم الله عز وجل بكل شئ سواء في الأرض أو في السماء , ومنه أحوال الإنسان وأفعاله , قال تعالى [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) و(شَيْءٍ) من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كبراَ وصغراَ .
وجاءت آية البحث بصيغة الإطلاق لتشمل الجميع وأخبرت الآية أعلاه عن علم الله عز وجل بما تخفي النفوس لبيان أن النوايا والأوهام الطارئة على قلب الإنسان يعلمها الله عز وجل ولا ينساها , وتكون حاضرة يوم القيامة في عالم الحساب إن شاء الله .
انها مدرسة القرآن التي تتشعب منافعها وتنعدم قرينتها، وتدل على استحقاق القرآن لكونه هو الفرقان , كما أخبرت الآية السابقة , وأن الفرقان صفة له وعلة للإصلاح .
مفهوم الآية
قد يقيس الإنسان جميع الأمور من خلال نظرة شخصية للذات وانعكاساتها اذ انه يدرك بما آتاه الله من العقل جهله وقصوره وقلة معرفته وعدم احاطته بالعلوم، ويعلم ان ما خفي عنه من الأمور التي حوله أكثر بكثير مما يعلمه ويعرفه، ومع هذا فانه يقر ويعترف بان الله تعالى يعلم كل شيء.
فجاءت هذه الآية لتبين له على نحو التفصيل كيف أن الله سبحانه يعلم دقائق الأمور وصغائر الأشياء ليزداد إتعاظ الناس ويلتفتوا الى واجباتهم ويعلمــوا ان التنزيل حــق وضـرورة وحاجة.
وتجعل الآية ذكر الله تعالى على البال، وعندما يريد الإنسان ان يقوم بفعل يستحضر أحكام الحلال والحرام وهل هذا الفعل يرضي الله تعالى ام لا.
فيأتي ما فيه مرضاة الله عز وجل , ويتجنب ما فيه المعصية والإثم قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وتبين الآية أن الله عز وجل وحده العالم بكل شئ , وتدخل الأشياء كلها في المعلوم على نحو :
الأول : العموم الإستغراقي , وعلم الله عز وجل بالأشياء متفرقة .
الثاني : العموم المجموعي , وأن الله عز وجل يعلم بالأشياء والخلائق والأكوان كلها بعلم واحد منه سبحانه لا يخفى شئ منها شيئاَ آخر على الله عز وجل .
الثالث : علم الله عز وجل بالأشياء على نحو العموم الإفرادي .
وهل تتضمن الآية الوعد والوعيد للذين يركبون الطائرة والمركبة الفضائية والذين سينتقلون إلى الكواكب الأخرى في مستقبل الأيام , الجواب , نعم لذا لا تترك الصلاة في الفضاء , وهي واقية وأمن .
وتدخل الأقوال والأفعال [إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
ومن خصائص آية البحث دعوتها للأخلاق الحميدة والتنزه عن الظلم , وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فيعلم الله تعالى نزول آية البحث والآيات المشابهة في الكتب السابقة والتي تتضمن الإخبار عن علم الله عز وجل بما يصدر من الإنسان من قول وفعل , وعلمه تعالى بالنوايا .
ليكون من معاني إخبار الآيتين السابقتين عن نزول التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل تضمن كل واحدة منهما بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو علم الله عز وجل بكل شئ .
وأن هذا العلم العام هدىَ للناس وزجر عن الفساد , وعن سفك الدماء والقتل بغير حق , إذ ورد قوله تعالى[نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( ).
إفاضات الآية
تنمي الآية ملكة التقوى في النفس وتجعل المسلم في احتراز دائم وحذر من الشبهات خشية الوقوع في المعصية وفي الآية تهذيب للإخلاق واصلاح للمجتمعات ودرء للفتن وفيها دعوة للصبر عند الشدة لأن الله عز وجل يعلم بالحال.
وتبعث آية البحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لوجوه :
الأول : الأجر والثواب في كل من الأمر والنهي هذا .
الثاني : وجود أذن صاغية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للعلم العام بأن الله عز وجل يعلم كل شئ .
الثالث : المدد والعون من الله عز وجل للذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر من الله عز وجل .
لقد خلق الله عز وجل الإنسان [فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) وهل هذا التقويم مقدمة لعلم الإنسان بأن الله عز وجل يعلم كل ما يقوله ويفعله الجواب نعم .
والقدر المتيقن من التقويم هو حسن الهيئة والصورة والعقل وتناسق أعضاء البدن والقدرة البدنية على قضاء الحوائج , وجلب المصلحة والرزق , ودفع الضرر .
وخلق الله الدواب تمشي على أربع ومنكبة على وجوهها أما الإنسان فهو يمشي على رجلين , ومن معاني [أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) استدامة وجود وسلامة الإنسان من الآفات , ونجاته من الحيوانات المفترسة .
وفي حديث ضعيف سنداَ عن ابن عباس (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) ( ) أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذا المعنى الخاص لا يتعارض مع المعنى العام وأصل الخلقة .
الآية لطف
بعد أن أختتمت الآية السابقة بالوعيد للذين كفروا [وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( ) إبتدأت آية البحث بذكر اسم الله وأنه سبحانه لا يخفى عليه شئ لتتضمن الآية أمرين :
الأول : البشارة بالأجر والثواب للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وأحسنوا لأنفسهم وغيرهم , وقد ورد قوله تعالى[أَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) ثلاث مرات في القرآن .
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على علم الله عز وجل بأعمال الناس صغيرها وكبيرها .
الثاني : الوعيد للذين كفروا , وإنذار كفار قريش من محاربة التدبر , ومن الإصرار على معركة بدر ومن تجهيزهم الجيوش لغزو المدينة في معركة أحد ثم الخندق .
ليتجلى مصداق للجمع بين خاتمة الآية السابقة وآية البحث وهو لحوق الخسارة والخزي بقريش ومن ولاهم في حربهم وقتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تشمل آية البحث الإخبار عن نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق , أم أن نزول الملائكة هذا بأمر من عند الله عز وجل , وأن الملائكة [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) .
الجواب لا تعارض بين الأمرين , إذ يرى الله عز وجل الملائكة في نزولهم وسرعة استجابتهم وحسن امتثالهم , وعدم تخلفهم عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويوحي لهم وهم في ميدان المعركة , قال تعالى بخصوص نزول الملائكة في معركة بدر [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
وورد لفظ [الأَعْنَاقِ] في القرآن مرتين إحداهما في الآية أعلاه والثانية في سليمان عليه السلام وجياده وفي التنزيل [رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
تضمنت آية البحث الإخبار عن قانون من الإرادة التكوينية وهو علم الله عز وجل بكل ما يقع في الأرض وفي السماء ، لبيان الناس جنس قليل من الكائنات التي في السموات والأرض مما لا يحيط بعلمها إلا هو سبحانه .
وتبين الآية أن حال الناس جميعاً حاضرة عند الله ، وهل يعني هذا أن الإنسان مخير على نحو الإطلاق ، الجواب لا .
فقد أخبرت الآية السابقة عن نزول الكتب السماوية لهداية الناس ، وإرشادهم ، ومن فضل الله عز وجل على كل إنسان تقريبه إلى منازل الطاعة وإبعاده عن مستنقع الرذيلة والحيلولة بينه وبين الفاحشة ، وما صرفه الله عز وجل عن أي انسان من السوء والضرر وفعل المنكر أكثر من أن يحصى ، وهو بيان لصبغة الوعد في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
ومن وجوه التقدير فيها : يمحوا الله ما يشاء من البلاء عن الفرد والجماعة والأمة ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل يشترط في محو البلاء خصوص الإيمان ، وأن الله تعالى لا يمحوه إلا عن المؤمنين والمؤمنات.
الثانية : هل يمحو الله عز وجل عن الكفار ما كتب لهم من الخير.
أما المسألة الأولى فالجواب لا يختص محو البلاء بالمؤمنين انما هو عام يشمل الناس جميعاً وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا ، وتقريبهم إلى سبل الطاعة.
ليكون من معاني الآية على وجوه :
الأول : يمحو الله ما يشاء عن الناس رحمة منه تعالى .
الثاني : يمحو الله ما يشاء عن الناس لتقريبهم إلى منازل الهدى والرشاد.
الثالث : يمحو الله ما يشاء عن المؤمنين لتثبيت أقدامهم في مقامات الصلاح والفلاح.
وأما المسألة الثانية فالمختار أن الله عز وجل لا يمحو ما كتب من الخير لعباده ، ولكن مصاديق الخير تكون حجة على الكفار ، ودعوة لهم للتوبة والإنابة.
وكأنه من إجتماع الضدين في المقام ، فهذا الخير رحمة وإنذار ، فان قلت قد يكون حجب الخير عن الكافر سبباً لزجره ومنعه من التمادي في الشر ، الجواب نعم .
والأظهر أن هذا الحجب مكتوب أصلاً من عند الله عز وجل ، كما في قريش فقد أغدق الله عز وجل عليهم بالنعم من جهات :
الأولى : ولاية شؤون البيت الحرام.
الثانية : الهيبة والشأن بين القبائل ، فهم أهل حرم الله.
الثالثة : عائدية النسب إلى إبراهيم الخليل ، والتفاخر به .
الرابعة : العمل في التجارة والكسب ، وإزدهار أسواق مكة في موسم الحج ، ومنها :
الأول : سوق عكاظ.
الثاني : سوق مجنة .
الثالث : سوق ذي المجاز.
وسيأتي التفصيل في الجزء الواحد والثلاثين بعد المائتين من هذا السفرِ( ).
الرابع : تسيير قوافل التجارة إلى غزة وسوريا من بلاد الشام في الصيف ، وإلى اليمن في الشتاء ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
والسورة أعلاه هي الوحيدة التي تبدأ بلام التعليل لتشير إلى إتصالها بالسورة التي قبلها وهي سورة الفيل وخاتمتها [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( )، ولم يرد لفظ (كعصف) و(مأكول) و(إيلاف) و(قريش) و(إيلافهم) و(أطعمهم) إلا في هاتين الآيتين , وهناك أيضا في لام (لإيلاف) اقوال منها :
الأول : تعلقها بما بعدها بقوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
الثاني : اللام للتعجب أي يا أيها الذين آمنوا اعجبوا.
والمختار تعلق الآية بخاتمة سورة الفيل ، وأن المراد هو أن هلاك أبرهة وجنوده مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنه ولد في عام الفيل , ولا مانع من غيره مع الدليل والقرينة .
ولم يفصل أبي بن كعب في مصحفه بين السورتين ، وتقرأ في ركعة واحدة بعد الفاتحة( ).
وقريش (أولاد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان) ( ).
ومنهم من حصر قريشاَ بأولاد (فهر بن مالك بن النضر بن كنانة) ( ) فقط , وعليه فمن كان من أولاد مالك بن النضر ليس قرشياَ , ولكن من كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي , مثل عوف بن كنانة , وعبد بن كنانة , على خلاف فيه .
(وأما قريش فهم بنو النضير بن كنانة ، وقيل بنو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، ومن لم تلده فهر فليس من قريش ، وعلى المشهور أن بني النضر بن كنانة ومن تلده : من قريش ، وإن لم يكونوا من بني فهر ، وقد كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكناً ، قال الشاعر :
أبونا قصيٌّ كان يُدْعى مجمّعاً … به جمع اللَه القبائلَ مِن فهر) ( ) ونسبته أعلاه إلى القيل بعد ذكر العموم تضعيف لهذا القول .
ولكن ورد المعنى الأعم وإرادة أولاد النضر بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا)( ) وهو المختار .
من غايات الآية
الأولى : بيان عظيم قدرة الله عز وجل بإحاطته علماَ بكل شئ في الأرض أو السموات , وفي التنزيل [لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ] ( ) .
الثانية : تقدم السموات على الأرض في القرآن , أما في آية البحث منه قدمت الأرض لبيان علم الله عز وجل بما يقع في مشارق ومغارب الأرض في آن واحد , وهو سبحانه يعلم ما يجري في المنتديات وأسباب المكر , وفي الآية ثناء على المؤمنين , وزجر للكافرين والمنافقين , وإنذار لهم من المكر الخبيث وفي التنزيل [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) فتبين الآية أعلاه سماع الله عز وجل للأقوال , وتفضله بأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بما يجعلهم في حيطة وحذر .
فهو سبحانه يخبر رسوله الكريم بمكر الأعداء , ويدعوهم إلى التوبة والإنابة , لتكون الآية أعلاه من المدد القرآني المستديم للنبوة وأهل الإيمان .
الثالثة : استحضار الناس لعلم الله عز وجل بكل شئ باعث على فعل الصالحات , وزاجر عن إرتكاب السيئات , ويحتمل هذا الإستحضار وجوهاَ :
الأول : إنه من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
الثاني : إنه من ذكر الله عز وجل عند المؤمنين دون غيرهم من الناس .
الثالث : هذا الإستحضار ليس من الذكر .
والمختار هو الأول , لبيان أن علم بكل شئ رحمة بالناس جميعاَ , وسبب لنفاذ الهداية إلى القلوب .
الخامسة : لما أخبرت الآية الثانية أعلاه من سورة آل عمران بأن الله عز وجل [هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) أخبرت آية البحث عن مصداق للاسمين أعلاه لأن علم الله عز وجل بكل شئ شاهد على أنه حي دائماَ وينفرد الله عز وجل بالبقاء الدائم , وإنصراف الموت والفناء عنه فهو سبحانه خالق الموت , قال تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( ) .
ويعلم الله عز وجل بطرو الموت على البشر حيث يشاء سبحانه , وهو القائم بتدبير شؤون الخلائق كلها , والنسبة بين كل من اسم الحي والقيوم من الأسماء الحسنى وبين قوله تعالى [لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ]( ) عموم وخصوص مطلق .
السادسة : البشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بان الله عز وجل يعلم باعمالهم , ويجازيهم عليها في الدنيا والآخرة , وقيل الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب وهذا صحيح ولكن من العمل الذي في الدنيا ما يكون بسبب الجزاء العاجل .
تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا , وليس من تقليد في الضروريات وسنن التوحيد لذا فآية البحث تخاطب كل إنسان ذكراَ أو أنثى وإلى يوم القيامة بأن الله عز وجل هو الإله في السموات والأرض وله الربوبية المطلقة , وهو وحده الذي لا يخفى عليه شئ في ملكه وسلطانه .
التفسير
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ]
أول الآية قاعدة كلية مطلقة في زمانها وعوالمها وكيفيتها، وهي بسيطة غير مركبة، مع أن موضوعها من اللامتناهي وظاهرة يدركها ويفهمها كل انسان مسلماً أو كتابياَ أو كافراَ .
فمن إعجاز القرآن ان قواعده عامة وبسيطة ومدركة من الجميع وكل واحدة منها يصدق بها العقل لذاتها من دون الإستعانة بمقدمات وأسباب خارجة عنها، فمجرد تصور الطرفين او الأطراف ولحظ النسبة بينها يكفي للحكم والقطع بصدق القاعدة وأفرادها الواقعية، كما لو قلت الأربعة ضعف الاثنين، والكل اعظم من الجزء، وتلك القواعد على وجوه محتملة:
الأول : ان تكون جميعها جلية ظاهرة عند الناس كافة.
الثاني : شطر منها ظاهر وحدوده متصورة عند الناس، والشطر الآخر خفي يستلزم واسطة لإدراك أفراده كالحس، والشطر الآخر وذكر المصاديق لإزالة الغشاوة الظلمانية وأسباب الغفلة.
الثالث : كل قواعد القرآن خفية ومستترة وتستلزم التحقيق لكشفها وازاحة الغطاء عنها.
الرابع : شطر من الناس تكون قواعد القرآن عندهم ظاهرة وجلية والشطر الآخر تكون عندهم خفية مستورة.
والأصح هو الوجه الأول، وهذا الإعجاز ينفرد به القرآن فقواعده وقوانينه ظاهرة يفهمها ويدرك مضامينها كل الناس، وهو عنوان الرحمة والرأفة وسبب في الصلاح والتقوى، ولتبقى كل قاعدة حجة على الناس قال تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
فمثلاَ تأتي آيتان متجاورتان لبيان وقوانين الخلق الكوني والملك المطلق لله عز وجل , إذ قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ).
وسيأتي في الجزء الرابع والعشرين بعد المائتين , والثاني والثلاثين بعد المائتين تفسير هاتين الآيتين وبيان ذخائر في المجاورة والجمع بينهما.
والشيء جاء اسم جنس وبصيغة التنكير ليشمل ما دق وكبر من الأشياء والوقائع والأمور.
والشيء في الإصطلاح هو الثابت الموجود، وذكر معنيان للشيء:
الأول: كل شيء موجود، وكل موجود شيء.
الثاني: حقيقة الشيء المعلوم.
والشيء المقصود في الآية اعم من الموجود لأنه سبحانه يعلم أفراد الوجود والعدم ، والخلائق كلها ملك لله عز وجل وفي التنزيل[أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ) إذ يعلم الله عز وجل كلاَ من :
الأول : الأشياء التي كانت موجودة , وأجيال الناس المتعاقبة من أيام آدم وبأفعالهم .
الثاني : الأشياء الموجودة في هذا الزمان , وأوان خلقها وكيفيتها وحركتها والتغيير الذي يطرأ عليها , وأوان فنائها .
وعن (أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه .
فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه وإنا لجلوس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلسه , إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهاً وأطيب الناس ريحا , كأن ثيابه لم يمسها دنس حتى سلم في طرف البساط .
فقال : السلام عليك يا محمد فرد عليه السلام .
قال أدنو يا محمد .
قال أدنه فما زال يقول أدنو مرارا ويقول له ادن حتى وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال يا محمد أخبرني ما الإسلام .
قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان قال إذا فعلت ذلك فقد أسلمت.
قال نعم .
قال صدقت فلما سمعنا قول الرجل صدقت أنكرناه .
قال يا محمد أخبرني ما الإيمان .
قال الإيمان بالله وملائكته والكتاب والنبيين وتؤمن بالقدر.
قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعم .
قال صدقت.
قال يا محمد أخبرني ما الإحسان.
قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
قال صدقت .
قال يا محمد أخبرني متى الساعة .
قال فنكس فلم يجبه شيئا ثم أعاد فلم يجبه شيئا ثم أعاد فلم يجبه شيئا ورفع رأسه , فقال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن لها علامات تعرف بها إذا رأيت الرعاء البهم يتطاولون في البنيان .
ورأيت الحفاة العراة ملوك الأرض .
ورأيت المرأة تلد ربها خمس لا يعلمها إلا الله { إن الله عنده علم الساعة } إلى قوله { إن الله عليم خبير }( ) .
ثم قال : لا والذي بعث محمدا بالحق هدى وبشيرا ما كنت بأعلم به من رجل منكم وإنه لجبريل عليه السلام نزل في صورة دحية الكلبي)( ).
الثالث : الأشياء التي سيخلقها الله عز وجل .
الرابع : منافع كل شئ خلقه الله عز وجل .
الخامس : المستحدث في الكون بالدعاء والسؤال من قبل الناس , وفي التنزيل [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ونسبت الآية عدم الخفاء للأشياء أي ان الشيء ذاته لا يستطيع ان يخفي نفسه على الله سواء كان جوهراً او عرضاً، او قولاً او فعلاً.
وهل ينحصــر عدم الخفاء بوقــت معــين كالإيـجاد والحدوث والوقوع ام يشمل الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل.
الجواب هو الأخير ان العلم الإلهي بالشــيء يشـمل أمور :
الأول : مدة عدمه قبل حدوثه .
الثاني : وزمان وقوعه وحــدوثه طــال او قصــر.
الثالث : ومــدة العــدم بـعد فنائه.
الرابع : المنافع العامة والخاصة من إيجاده وإضرار الكفار بأنفسهم , قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ) .
والشئ لا يمتلك القدرة على اخفاء نفســه عن الله مدة حدوثه، اما مدة العدم فان العلم الإلــهي يشمل ماهية الشـيء وانتقال واستحالة اجزائه الدقيقة.
لقد جاءت الآية لبيان قيمومة الله تعالى المطلقة وسعة علمه وحاجة الخلائق له سبحانه وورد ذكر اسم (القيوم) ثلاث مرات في القرآن :
الأولى : في قوله تعالى [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ).
الثانية : آية الكرسي [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا] ( ).
وتؤكد علم الله بالكفار والمجرمين والضالين.
قوله تعالى [فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ]
بدأت الآية بذكر الأرض مع شرف السماء وسعتها وما فيها من الملائكة والأفلاك لأن الآية تنبيه للإنسان واخبار عن علم الله تعالى بما يفعله ولزوم امتثاله للأوامر الإلهية.
وجاءت الآية بلفظ (ما) وليس (من)، لأن ما أعم ويراد منها العاقل وغير العاقل , ولإقترانهما معاً في الحكم على الإستتار عن الله تعالى، وتقديم الأرض يؤكد اهمية ما فيها.
وقد ورد ذكر الأرض قبل السماء في خمس آيات من القرآن وهي :
الأولى : آية البحث , الآية الخامسة من سورة آل عمران .
الثانية : قوله تعالى [وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلاَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ).
ومن دلالات تقديم الأرض في آية البحث التوكيد على عالم الإنسان وما يحتاج اليه في استدامة حياته وتهذيب اخلاقه واصــلاحه للعبادة والتقوى ومن الأشياء التي يعلمها الله ما يخفيه الإنسان في نفسه، قال تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
فما يصدق عليه عرفاً وعند الناس انه خفي يكون مــعلوماً عند الله غير مستتر عنه، فالخاطرة تطرأ على بال الإنسان وسرعان ما ينساها ولكنها تبقى في علم الله، فقد تكون رغبة لمؤمن او نية سوء لكافر، فيتفضل الله عز وجل باسباب ومقدمات الأمر الحسن، ويصرف الإنسان عن نية السوء ان شاء او يســتدرجه ويبتليه ومع علمه تعالى بالأشياء يأتي الثواب والأجر.
ومتى ما أدرك ان الله يعلم اعماله فانه يعلم ان الجزاء مترتب عليها، فيحــرص على اتيان الصــالحات واجتــناب الســيئات، والآية حجة وتنبيه كي لا يقول الإنســان يوم القيامة انه لا يعلم باحصاء الأعمال او لا اقل صــغائرها .
فجــاءت الآية باطــلاق انكشــاف الأشــياء والأمــور لله تعالى , قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
ومن علم الله تعالى بأحوال السماء مراحل تنزيل الكتاب السماوي وانه لا يكون الا من عند الله تعالى , ويصل بالأمانة التامة الى الرسول من غير تحريف او تغيير، ولا ينزل الا على من اختاره الله للنبوة والرسالة .
لتكون الآية دعوة سماوية للتصديق بالقرآن وانه مفرق بين الحلال والحرام نزل من عنده تعالى ليســود الإســلام وقيمه في الأرض ولتتداخل أعمال الإنسان العبادية مع أعمال الملائكة بالتسبيح والتهليل ومع ان الآية تبعث الخــوف والفــزع في قلوب الكـفــار وتبين لهم الإمهال المؤقت، فانها تشير الى باب التــوبة ولزوم المبــادرة الى الإستغفار واظهار الندم.
وكما بينت هذه الآية تعذر خفاء الأشياء بذاتها على الله، فقد ورد في سورة إبراهيم [وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ] ( ).
فمن قدرة الله عز وجل انه يعلم كل شيء وجميع الأشياء حاضرة عنده وتدل الآية على إلوهيته المطــلقة لجميع الكائنات وانه تعالى خلق الأشياء جميعاً ولم يتركها وشأنها ولم يغب عنه منها شيء، وان السماوات والأرض مع ســعتها وكثــرة ما فيها من الكــائنات والخـلائق المتباينة هي في علم الله، كما انه تعالى جعل اسراراً عجيبة في عالم الإنسان، وجعل العقل والشــهوة عنده في صــراع، وهو يحــاول قهـر الشيطان ودفع واغوائه.
قانون الدعاء في آية البحث
ورد لفظ (لا يخفى) مرتين في القرآن , احداهما في آية البحث وتتضمن الإخبار عن علم الله عز وجل بكل ما يفعله الناس , وأسبابه ومقدماته ونتائجه وأثره , وأحوال السماء , والتداخل بينها , ومنه نزول الخير والبركة مع الإيمان , وحبس السماء المطر عنه اشتداد المعاصي , والآية الأخرى [يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ) .
لبيان بعث الناس يوم القيامة وحضورهم وأعمالهم في الدنيا التي لم تخف على الله عز وجل أبداَ وتقدير الآية أعلاه (لا يخفى على الله منهم ومن أعمالهم شئ) .
وفيه دعوة للإيمان وعمل الصالحات , واللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء , للتوفيق والرشاد واجتنابه الفعل السئ والظلم والتعدي , قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) كما تحض الآية الناس على الإستغفار , وترغًب فيه والمبادرة إليه .
عن(ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا قال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام)( ).

قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] الآية 6

الإعراب واللغة
[هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ] هو: ضمير رفع منفصل مبتدأ، الذي: اسم موصول خبر.
يصوركم : يصـور : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضــمة الظــاهرة، والفاعل ضــمير مســتتر تقــديره هو يعود لله تعالى، والضــمير الكــاف مفــعول به.
في الأرحام : جار ومجرور.
[كَيْفَ يَشَاءُ] كيف : اداة شرط في محل نصب على الحال، يشاء فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر يعود لله تعالى ومفعول يشاء محذوف تقديره تصويركم.
[لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] لا: نافية للجنس ، إله: اسمها مبني على الفتح في محل نصب.
الا: أداة حصر، هو: بدل محل لا واسمها، وقد تقدم التفصيل في اعرابها.
يقال صوره الله صورة حسنة فتصور، والصورة تتعلق بالشكل والهيئــة والتأليــف، والصــور بالتحــريك: الميل (يقال صـار الشيء صوراً واصاره فانصــار: اماله فمال) ( )، فالولد في صورته مائل الى ابويه.
والأرحام :جمع رحم – بكسر الحاء- وهو وعاء تكون الجنين ومنبت الولد عند المرأة، ولفظ رحم مؤنث، قال عبيد:
أعاقِرٌ كَذاتِ رِحْمٍ * أم غانِمٌ كمنْ يَخيبُ( ).
ويأتي الرحم بمعنى صلة القرابة , وذوو الرحم هم الأقارب كعنوان للرحمة والرأفة المتبادلة بسبب ارتباط النسب.
في سياق الآيات
بعد الوعيد من الكفر وتحذير المشركين واخبار الآية السابقة عن إحاطة الله تعالى علماً بكل شيء ما ظهر وما بطن وما دق أو كبر، جاءت هذه الآية لتخبر عن قدرته تعالى في خلق الإنسان ابتداءً، وكيفية تكوينه في بطن امه، ولما بينت الآية السابقة علمه تعالى بكل شيء جاءت هذه الآية لتخبر عن الفعل الإلهي العظيم المقرون بالعلم.
وبعد أن جاءت آية البحث خطاباً للناس جميعاً وبياناً لعظيم فضله على الناس في نشأتهم في الأرحام وأختتمت بقوله تعالى [هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ].
توجهت الآية التالية بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
لبيان قانون وهو من سلطان الله القاهر ، وحكمته أنه أنزل القرآن وجعل نزوله على خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين أهل الأرض ، وفيه تشريف وإكرام له.
وقوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ] من الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تشمل الأمة إذ أن الأصل في خطاب القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيغة العموم إلا مع الدليل على إرادة الخصوص ، كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ]( )، وحتى هذا الخطاب فيمكن أن يكون تقديره بصيغة العموم : يا أيها الذين آمنوا قولوا إن محمداً رسول الله الينا وإليكم جميعاً.
إعجاز الآية الذاتي
تبين الآية عظيم قدرة الله تعالى في عالم التكــوين، ولابـد من ارادته ومشــيئته تعالى في خــلق كل انسان، وانه ســبحانه هــو الذي يتولى النشأة والخلق وانحصار القدرة في عالم التكوين بالله تعالى، ومن الإعجاز في الآية ان التكوين والتصوير يكون بلطف من الله عز وجل ومن غير استشارة او استعانة بأحد، فلا يجتمع في التصوير والخلق العالم والمعلوم ومنه قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ).
وتدل الآية على خصوصيات في الخلق لا يقدر عليها غير الله تعالى لأن التصوير على نحو القضية الشخصية يرتبط بعالم الإنسان والطبيعة والمجتمع بما لم يحط علماً به الا الله عز وجل ، ومنعت الآية من حصر تأويل الخلق بعالم الطب والعلة المادية ، وان كانت هناك موضوعية لقوانين الصفات الوراثية موضوعية في المقام.
بعد الحروف المقطعة في أول آية من السورة (الم) نزلت الآية الثانية من السورة وكلها أسماء حسنى لله ففيها مع قلة كلماتها أربعة أسماء لله وتبدأ باسم الجلالة [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) .
ثم جاءت الآية الثالثة من السورة وابتدأت بالإخبار عن نسبة تنزيل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ]( ) وأختتمت بقوله تعالى [وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( ).
وأخبرت آية البحث عن حضور إرادة الله عز وجل في الأرحام وليس من شريك أو ند يحول دون حضورها ، التي هي رحمة وخير محض وباب لإصلاح الإنسان.
ويمكن تسمية هذه الآية بــآية[ يُصَوِّرُكُمْ]ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث.
إعجاز الآية الغيري
بعد أن أخبرت الآية السابقة عن علم الله عز وجل بكل الأشياء صغيرها وكبيرها , جاءت هذه الآية لبيان علم الله تعالى بما في الأرحام وأنه تعالى هو الذي يعين هيئة الإنسان وهو في الرحم قبل الولادة , ولا يشركه أحد في هذه الهيئة والتصوير .
فإن قلت ينزل ملك لتعيين جنس الإنسان والجواب لا ينزل الملك إلا بأمر ومشيئة من الله عز وجل , وهو سبحانه يعلم ما يفعل الملك لبيان أن الأمر والإذن للملك ليس مطلق , إذ يدرك الملك أن الله عز وجل يراه ويحصي عليه فعله لذا ورد قوله تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
وفي الآية دعوة للناس للتدبر في التباين بينهم بالهيئات والقوام ونبذ للعنصرية لأن كل لون من ألوان البشرة هو نعمة عظمى من عند الله عز وجل , وأنه تعالى هو الذي اختارها لحكمة منه تعالى , وهل هي طريق إلى الهداية والخلود في النعيم الجواب نعم .
(عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور السموات من نور وجهه ، إن مقدار كل يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة.
فيعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار واليوم ، فينظر فيه ثلاث ساعات ، فيطلع منها على ما يكره.
فيغضبه ذلك ، وأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش ، وسرادقات العرش ، والملائكة المقربون ، وسائر الملائكة.
وينفخ جبريل في القرن ، فلا يبقى شيء إلا سمعه إلا الثقلين : الجن والإِنس ، فيسبحونه ثلاث ساعات ، حتى يمتلىء الرحمن رحمة ، فتلك ست ساعات.
ثم يؤتى بما في الأرحام ، فينظر فيها ثلاث ساعات ، {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم }( ) {يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور }( ) حتى بلغ (عليم) ، فتلك تسع ساعات.
ثم ينظر في أرزاق الخلق كله ثلاث ساعات ، { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم }( ) فتلك اثنتا عشرة ساعة ، ثم قال :{ كل يوم هو في شأن } ( ) فهذا شأن ربكم كل يوم) ( ).
ومن إعجاز آية البحث مخاطبتها لكل إنسان بأن صورتك وهيئتك إنما هي من الله عز وجل ليرضى ويشكر الله عز وجل على هذه النعمة العظمى ، وينشغل بطاعته.
ومن إعجاز الآية أنها تخاطب كل انسان بأن يرضى بهيئته وصورته وحاله ولا يسخط ، وهل هذا الرضا من الشكر لله عز وجل ، الجواب نعم ، سواء كان رضا قلبياً أو رضا لسانياً أو فعلياً.
الآية سلاح
الآية بشارة اســتدامة الإيمان في الأرض التي تبدأ معالمه من ساعة تكوين الإنســان في رحم أمه بلحاظ ان المراد من التصوير أعم من الخلقة بل يتعلق ايضــاً بعالم الأفعال ، وتسـتلزم الآية الشكر لله تعالى على نعمة الخلق وانه تم بعلمه وبأمره وبمشيئته وبما يبعث على الغبطة والأمل.
وهل من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ) الزيادة في الإنجاب وحفظ النسل والأفراد .
الجواب نعم قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ).
وإذ أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل هو الذي صور الناس فقد جاءت آية أخرى بالإخبار عن حسن صور الناس بقوله تعالى [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ]( ).
وفي الآية حرب على العنصرية , ومنع من السخرية بسبب الخلقة والهيئة , وفيه دعوة للناس للإتحاد والتعاون والتعاضد في عبادة الله عز وجل وهو من مصاديق الأمر بالمعرووف والنهي عن المنكر , فلا يستنكف أحد من تلقي الأمر والنهي ممن هو دونه بالشأن أو في الفارق العرفي والمجتمعي في المنزلة والحال , ولا يمتنع أحد من توجيه الأمر والنهي إلى غيره وإن كان أدنى أو أعلى منه رتبة.
وتبين الآية أعلاه التخصيص والدعوة إلى شكر الله عز وجل على نعمة الصورة الحسنة والهيئة لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ]( ).
وتبين الآية تعيين هيئة الإنسان من حال كونه جنيناً في الرحم ولا تكون هذه إلا بمشيئة ولطف من الله تعالى لقوله تعالى [كَيْفَ يَشَاءُ].
ثم أخبرت الآية عن قانون التوحيد لبيان أن هيئة وصورة ولون الإنسان دعوة للإيمان ولبيان أن الناس يلتقون وهم في الأرحام قبل الولادة بمظهر عام من مظاهر العبودية لله.
وهو تصوير الله عز وجل لهم ، مما يملي عليهم التآخي والتراحم.
وجاءت الآية بصيغة جمع المذكر [صَوِّرُكُمْ] والمقصود الرجال والنساء ، إنما ورد التذكير للتغليب.
وهل في الآية ثناء على النساء ودعوة للبر والرأفة بالأمهات لذكر الآية للأرحام ، الجواب نعم.
ترى ماذا بخصوص الولادة بواسطة الأنابيب والأوعية الصناعية المستحدثة في هذا الزمان.
الجواب جاءت الآية للأمر العام الواقعي سواء في زمان التنزيل أو ما قبله وما بعده ويكون نقل البويضة إلى الأنبوب ونحوه ملحقة بالولادة بالأرحام.
وهو من عمومات قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
ولا تتم نشأة الجنين في الأنابيب إلا باختيار وعمل جراحي لإستخراج البويضات والتحذير واحتمال حصول مضاعفات وقد تنجح أو لا.
وهي شاهد على النعمة العظمى على تكون الجنين في الرحم.
وهل يدل ذكر الأرحام على عناية الناس بالولادة الطبيعية ، وأن غيرها من الأمور الصناعية لا ترقى إليها وإلى سلامتها ، المختار نعم.
وأختتمت الآية بذكر اسمين من الأسماء الحسنى [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ). لبيان أن تعيين هيئة الإنسان وهو جنين في الرحم لا يقدر عليها إلا الله سبحانه.
وأن كل فرد منها لايتم إلا بأحسن كيفية وهي من الشواهد على حكمة الله عز وجل وحسن تعاهده لديمومة الحياة الإنسانية في الأرض وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة عن خلافة الإنسان في الأرض احتجوا على فساده وإسرافه في القتل ،
فأخبرهم الله عز وجل عن إحاطته علماً بما لم يدركوه من الأسباب والغايات الحميدة لخلق الإنسان ، وحينما علّمهم آدم أسماء المسميات[قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
ومن حكمة الله عز وجل التي ذكرها الملائكة إقرارهم بتصوير الناس في الأرحام لأن الملائكة لم يخلقوا في أرحام ، وكذا آدم الذي رآهم في الجنة ونفخ الله عز وجل فيه من روحه وحواء لم يكونا في رحم , وأمر الملائكة بالسجود له , قال تعالى[وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ]( )
والنسبة بين قوله تعالى (صَوَّرْنَاكُمْ) أعلاه بصيغة الماضي , و(يُصَوِّرُكُمْ) في آية البحث بصيغة المضارع عموم وخصوص مطلق فالمراد من الآية أعلاه تصوير هيئة الإنسان إجمالاَ , أما آية البحث فهي تفضل الله عز وجل بتعيين هيئة وصورة كل إنسان وهو في رحم أمه.
مفهوم الآية
ان خلق الإنسان لم يتم اتفاقاً او صدفة او وفق قوانين طبيعية تتعلق بالجينات والوراثة، او البيئة ومفاهيم الصحة والمرض، وتأثير الغذاء والعقاقير مما يعني ان هيئة الإنسان ولونه وسمته وتجانس اعضائه تتم بقدرة الله وارادته تعالى.
وتنفي الآية الشريك عن الله تعالى وتمنع من الكفر بلحاظ ان الخلق من أهم دلائل التوحيد، وشواهد دقة الخلق، ووجود الصانع , فلا إلا الله عز وجل وحده ولا شئ مثله .
ولا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء ولا خارجها , وتبين آيات القرآن أموراَ :
الأول : توحيد الربوبية .
الثاني : توحيد الخلق وأن الخالق هو الله عز وجل قال تعالى[اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ]( ) .
الثالث : توحيد العبادة , فليس من معبود إلا الله عز وجل , ولا عبرة بما قاله المشركون من قريش وعبادتهم الأصنام فقد أخزاهم الله عز وجل بهزيمتهم في معارك الإسلام الأولى إلى أن تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة والذي سمًاه الله عز وجل فتحاَ قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) .
فقد ورد بخصوص الآية اعلاه (عن أنس قال : لما رجعنا من الحديبية وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد خالطوا الحزن والكآبة حيث ذبحوا هديهم في أمكنتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنزلت عليَّ ضحى آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً ثلاثاً قلنا : ما هي يا رسول الله؟
فقرأ { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً }( ) الآيتين قلنا : هنيئاً لك يا رسول الله فما لنا؟ فقرأ { ليدخل المؤمنين والمؤمنات }( ))( ) .
الرابع : توحيد الأسماء والصفات الحسنى بما ورد في القرآن والسنة وحديث المعصوم , وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وجاء لفظ الأرحام مطلقاً من غير تقييد بالأم وبطنها ليكون شاملاً للأمهات , وان كان بنقل البويضة ويلحق به الوعاء والانبوبة لتكوين الولد ولإستيعاب الإرتقاء العلمي في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة , وورد في آية أخرى [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ]( ).
إفاضات الآية
الآية دعوة للإنجذاب والإنقياد لطاعة لله تعالى لتعلق خلق النفس وأسباب الحياة به تعالى وبمشيئته وقدرته، وموضوع الآية مناسبة للشكر على نعمة الخلق في الحياة الدنيا والوجود ومراحل التخفيف والرأفة فيه وعدم وجود معوقات ومشاق في التكوين ليكون مقدمة مباركة للتفكر بالآيات في خلق النفس ولاخلاص العبادة لله تعالى.
قد ينسى الإنسان حاله وهو جنين في الرحم وهو الغالب في الناس ، فجاءت آية البحث لتذكره بهذه الحال والنعمة ويتصور نفسه كيف كان حبيساً في الرحم تسعى أشهر يعجز عن التململ أو البكاء ، ولكنه ينمو بسرعة ، ويصوره الله عز وجل بالهيئة والكيفية التي يريدها الله سبحانه وبما ينفعه في أمور دينه ودنياه ،
ومن وجوه التفسير بالتقدير هو الذي يصوركم في الأرحام بما فيه نفعكم وصلاحكم وهدايتكم إلى سبل الرشاد , وفيه تذكير بوجوب البر بالوالدين في حياتهما وبعد مماتهما , واستحضار عناء الأم في الحمل والطلق والرضاعة والحضانة ,
واشتراك الأب والأم في طلب الرزق والتربية والإعداد , ووراثة سنن الإيمان.
و(عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي .
قال : أمك قال : ثم من .
قال : أمك قال : ثم من ؟ قال أمك
قال : ثم من .
قال : أبوك) ( ).
وهل تنفع الآية الآباء والأمهات في الدعاء لأبنائهم وأحفادهم بالتصوير بالكيفية والهيئة الحسنة ، الجواب نعم.
الآية لطف
من خصائص آية البحث كثرة ذكر الله عز وجل واسمائه فيها مع قلة كلماتها ، من وجوه :
الأول : ابتداء الآية بالضمير (هو) ويعود لله عز وجل ، والعطف الموضوعي على خاتمة الآية السابقة ووصف الله عز وجل بأنه (العزيز الحكيم) ليكون الجمع بين آخر الآية السابقة وأول آية البحث من مصاديق [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، وهل من صلة بين قوله تعالى [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وتصوير الله عز وجل للناس وهم في الأرحام ،
الجواب نعم ، فنعمة الخلافة حاضرة حتى هذا الأرحام.
الثاني : الاسم الموصول (الذي) والذي يدل على الله عز وجل وتقدير الآية : هو الله يصوركم ، وتجلت في العلوم الحديثة كيفية نشأة الجنين وخلقه في الرحم ، فليس غير الله عز وجل يستطيع لتبين هيئة الجنبن وهو ذكر أو انثى وعامة صفاته إلى الله عز وجل ، ولا تضر بهذا القانون الإكتشافات العلمية والعلاج للجنين في بطن أمه.
الثالث : كلمة (يصوركم) جملة تعبدية كاملة من فعل وفاعل ومفعول به كما تقدم في باب الإعراب واللغة ، والفاعل هو الله عز وجل وتقدير الآية : يصوركم الله ,
فلا يقدر حمل النفاذ إلى الأرحام والتصوير وتعيين جنس المولود إلا الله عز وجل وقد كان الملوك وغيرهم يرغبون بإنجاب الولد الذكر لوراثة عروشهم ,
وتدعو آية البحث الناس إلى الدعاء لشؤال الله عز وجل الكيفية الأحسن في جنس المولود وهيئته , وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الرابع : ذكر الآية لمشيئة الله ، وتقدير : كيف يشاء ، أي كيف يشاء الله.
الخامس : كلمة التوحيد (لا إله إلا هو) وتتتضمن ذكر الله عز وجل مرتين :
الأولى : إن الله عز وجل وحده الإله.
الثانية : الضمير المنفصل (هو).
كما ورد قوله تعالى [لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] مرتين في القرآن :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ]( ).
لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت كلمة التوحيد ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم بقاء كلمة التوحيد ثابتة في الأرض إلى يوم القيامة , وزوال الشرك عن الجزيرة إلى يوم القيامة فليس من عبادة للأوثان أو تزلف بالأوثان إلى الله عز وجل .
وما يرمي به بعضهم طوائف من المسلمين للتقرب بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته إلى الله عز وجل بالشرك مع توجههم خمس مرات في الصلاة اليومية إلى الله عز وجل وإقرارهم بالتوحيد , وحاجة الملائكة كلها لله عز وجل مجانبة للصواب وظلم , وبخس لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بناء صرح الإيمان .
السادس : (العزيز) الغالب الذي يقهر الخلائق والأشياء مجتمعة ومتفرقة ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا]( ).
السابع : الله هو (الحكيم) الذي ابدع الأشياء بحكمته , وبعث الأنبياء وأنزل الكتب لهداية الناس ، لتجمع الآية وجوب تعظيم مقام الربوبية ، والتسليم بحكمته تعالى.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالضمير المنفصل (هو) ثم الاسم الموصول (الذي) ويراد من كل منهما الله عز وجل مع بيان سبل هداية بعطف الآية على خاتمة الآية السابقة [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ]( ) .
ومن علم الله عز وجل أنه لا ينسى تصوير كل إنسان من الأجيال السابقة واللاحقة , ليكون من مصاديق آية البحث , الله عز وجل الذي يعلم بصوركم في الأرحام قبل الولادة وبعدها وبعد أن تفارقوا الدنيا وعند بعثكم وحضوركم بين يديه يوم القيامة .
وهل يسأل الله عز وجل الناس عن شكرهم له سبحانه عن حسن تصويرهم , وقوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) المختار نعم , لذا فإن من معاني بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعث الناس على شكره سبحانه على هيئتهم وصورهم , وتكوينهم في الأرحام .
لبيان قانون وهو عدم إنحصار الشكر لله عز وجل على أمور الحياة الدنيا بل يشمل التكون والنشأة في الرحم , ليترشح عنه الشكر للوالدين والبر بهما , وهو من معاني الجمع بين الشكر لله عز وجل والوالدين في قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]( ) ولم يرد في القرآن كل من لفظ (وَهْنًا) (وَهْنٍ) (عَامَيْنِ) (وَلِوَالِدَيْكَ) إلا في الآية أعلاه .
لقد بينت آية البحث قانوناَ من الإرادة التكوينية متجدداَ كل ساعة من ساعات الحياة الدنيا وبلحاظ تزايد ذرية آدم وأهل الأرض , فكل جنين في رحم أمه بعين الله عز وجل هيئته وجنسه وهل هو ذكر أو أنثى ولابد لهذا التصوير وكيفيته من غايات ومقاصد دنيوية وآخروية لا يحيط بعلمها إلا الله عز وجل , منها استدامة عبادة الناس لله عز وجل في الأرض , واجتناب سيادة الظلم ومفاهيم الكفر في الأرض , ومنها الإحسان من الله عز وجل للناس في هيئاتهم والتخفيف عنهم وقلة الأمراض بما يجعلهم مؤهلين للعبادة .
وتتجلى معاني صفة (أولي الألباب) الذين يثني الله عز وجل عليهم في آيات القرآن , ومنها الآية التالية بقوله تعالى [وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ) وقد ورد ذكرهم في ست عشرة آية من القرآن .
وتقدير الآية (يا أيها الناس الله الذي يصوركم في الأرحام) وليس إنسان إلا وينال من رحمة الله عز وجل وهو لا يزال في الرحم بتصويره بأحسن حال , وبما فيه نفعه في الدارين , يجعل الله عز وجل هيئته وجنسه بما يقربه إلى سبيل الطاعة , وبما يعينه في أمور دينه ودنياه , ويجعله باراَ بوالديه , نافعاَ للمجتمع , ولكن شطراَ من الناس لا ينتفعون من هذه الرحمة استكباراَ وعناداَ .
ولا يكون تعيين هيئة الإنسان إلا بمشيئة الله عز وجل ومنها الرحمة والرأفة بالإنسان في مراحل حياته كلها .
وبعد أن ذكرت آية البحث تصوير الله عز وجل للناس بمشيئته وحده أخبرت عن الوهيته المطلقة , وأنه العزيز الحكيم الذي تنفذ إرادته إلى كبائر وصغائر الأمور في الخلق والتكوين .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : لما أخبرت الآية السابقة عن عدم خفاء شئ في الأرض أو في السماء على الله عز وجل ذكرت هذه الآية التصرف والمشيئة المطلقة لله عز وجل لما في الإرحام , فعلم الله عز وجل علم مشيئة وإرادة وتصرف وليس هو استقصاء واطلاع وحده .
الثانية : لقد أحب الله عز وجل الناس فتفضل وتولى بنفسه العناية بهم وهم في الأرحام بتصويرهم بأحسن حال .
الثالثة : لزوم شكر الناس الله عز وجل على نعمة التصوير واصلاح هيئتهم وهم أجنة في بطون امهاتهم .
الرابعة : اجتهد العرب في علم الوراثة بالنسبة والصفات , واختصت بيوت بالقيافة وتعيين والد المولود بالعلامة المشتركة بينهما فجاءت آية البحث لتبين أن صفات علامات الإنسان تتعين وهو في الرحم بمشيئة وقدرة الله عز وجل , قال تعالى [فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ] ( ).
وهو لا يتعارض مع قوانين الوراثة والشبه والصفات الوراثية بين الابن ووالديه الذي جعله الله عز وجل قانوناَ في هيئة الإنسان إلا أنه ليس مطلقاَ .
وذكر (أن رَجُلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قال: “هل لك من إبل.
قال: نعم. قال: “فما ألوانها؟” قال: حُمر. قال: “فهل فيها من أورَق؟” قال: نعم. قال: “فأنى أتاها ذلك؟” قال: عسى أن يكون نزعة عِرْق.
قال : هذا عسى أن يكون نزعة عرق) ( ).
الخامسة : دعوة الناس إلى نبذ الشرك ومفاهيم الضلالة .
السادسة : شكر الناس لله عز وجل عن حالهم وهم في الأرحام وهو من الإستصحاب القهقري في موضوع الشكر لله عز وجل .
التفسير
قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ]
ضمير الرفع (هو) يعود إلى الله تعالى، وهو المتبادر والظاهر من سياق الآيات لأن الآية السابقة تتحدث عن علمه تعالى المطلق بجميع الأشياء بالإضافة الى الآيات الأخرى الدالة على حصر تصوير الخلق به تعالى ومنها [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ] ( ).
وهل يختص اسم (المصور) أعلاه بخصوص خلق الناس أم يشمل هيئة العرش والكرسي والسماء والأرض وغيرها , الجواب هو الثاني .
وفي الآية توكيد ودعوة للإلتفات الى آية التصــوير والخــلق، فالإنسان بطبعه يغلب عليه النسيان والسهو، واستحضار كيفية خلق الذات لا يقف عند النسيان فقط لأنه ليس من غياب الشيء عن الذاكرة والحافظة، بل انه يحتاج الى سبب ابتدائي للتنبيه وهذا السبب يطرأ احياناً على نحو الموجبة الجزئية بتذكير الأم بحملها لولدها وهو جنين، وبالإعتبار من الغير كما في حال صيرورة الولد اباً ورؤيته لزوجته كيف تحمل بابنه , وإحساس الإنسان بالفطرة بلزوم البر بالوالدين.
وهذا الأمر يتعلق بمعاناة الأم وبيان مراحل الولادة من غير معرفة الأسرار الملكوتية في التكوين، وجاء الطب الحديث ليجعل انشغاله بالعلة المادية للخلق والتكوين وكيفية وضع النطفة والتلقيح الحاصل للبويضة ونشوء ونمو الجنين لحين الولادة.
اما مسألة الهيئة والشكل واللون فوضعت فيها نظريات الوراثة كما في قوانين مندل في تفسير وراثة الخصائص البيولوجية في الكائنات الحية.
لقد نزل القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ليؤكد قانوناَ وحقيقة لا تقبل التثنية والتعدد وهي ان الله هو الذي يتولى بنفسه تصوير خلق وشكل الإنسان وهو في الرحم مباشرة وبواسطة ملكين قائمين بهذه الوظيفة العظيمة او بالعلل المادية والنمو.
و(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: يَكْتب رزقه، وعمره، وعمله، وشقي أو سعيد)( ).
ولا تعارض بين أصل التصوير هذا وبين وجود قوانين وقواعد للوراثة، بل ان قوانين ونظــريات الوراثة دليل وكاشــف عــن بديع صنع الله تعالى، وانه سبحانه لا يخلق الناس الا بكيفية منتظمة تستحضر حينئذ صــور وهيئات الآباء والأجداد من العمودين، عمود الأب وعموم الأم.
ولا تمنع الآية المسلمين من ايلاء العناية في الخلق الى الوسائل والأسباب بل تجعل الأولوية في تعيين كيفية الخلق الى مشيئة الله تعالى، اما الأسباب المادية من اختيار الزوجة في جمالها وقوامها، ونوع الغذاء مدة الحمل ونحوها فان لها تأثيراً ايضاً بحكم القوانين التي ارادها الله ان تكون سارية في الخلق، ولكن تلك القوانين هي المؤثرة، بل انها جزء من كيفية التصوير الإلهي للخلق، بمعنى انه سبحانه يصورالناس وفق مشيئته.
لذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باختيار المؤمنة ذات الدين في الزواج .
و(عن ابن عباس قال : خلق آدم من أديم الأرض ، فألقي على الأرض حتى صار طيناً لازباً ، وهو الطين الملتزق ، ثم ترك حتى صار حمأ مسنوناً وهو المنتن ،
ثم خلقه الله بيده فكان أربعين يوماً مصوراً ، حتى يبس فصار صلصالاً كالفخار إذا ضرب عليه صلصل .
فذلك الصلصال والفخار مثل ذلك والله أعلم)( ).
لبيان وجوب شكر الله عز وجل على نعمة حسن الهيئة , قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ]( ).
ومن مصاديق المشيئة تلك القوانين لما فيها من المنافع في حفظ الأنساب والقيم المتعارفة وصلة الإنسان بالحياة بعد موته، وسكونه الى ولده ورجوع الولد الى ابيه، وفيها منع للتعدي والظلم ودعوة للمرأة لحفظ فرجها في آية من الله تعالى،
فهو سبحانه يجعل عند البنت غشاء البكارة كرادع وزاجر خلقي تكويني لصيانة الفرج، وبعد الزواج تتحول هذه الصيانة الى مسألة تصوير الحمل وخلقته وآثار الشبه مع الوالدين لتكون شهادة علنية ظاهرة.
ولا يعلم موضوعية الشبه بين الابن وأبيه في حفظ الفروج واجتناب النساء الزنا في كل زمان إلا الله عز وجل قال تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( ), وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) في رد الله عز وجل على الملائكة في جعل الإنسان خليفة في الأرض , ولأن الزنا فساد محض , ويؤدي إلى الفساد وسفك الدماء وفي كل زمان وملة يحق للمرأة التفاخر عند ولادة الابن الذي يشبه أباه في خلقته .
وقد وردت أحاديث نبوية عديدة في وصف جزء يسير من الجنة منها أحاديث المعراج منها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ثمّ طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكاناً إلاّ رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والاستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا.
قال : ورأيت نهراً يخرج من أصله ماء أشد بياضاً من اللبن واحلى من العسل على رضراض دُرّ وياقوت ومسك أذفر.
فقال جبرئيل : هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزّ وجلّ وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيم( ) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عباد الله( )} الآية.
ثمّ انطلق بي يطوف في الجنة حتّى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها، فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئاً من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق اغصانها ووجدت فيها ريحاً طيبة لم أشم في الجنة ريحاً أطيب منها
فقلّبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرايف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى، فعجبت من تلك الشجرة ومارأيت من حسنها.
قلت : ياجبرئيل ما هذه الشجرة؟
قال : هذه التي ذكرها الله عزّ وجلّ {بشرى لهم وحسن مآب} ولكثير من أمتك ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل ورأيت في الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كل ذلك مفروغ عنه معدّ إنما ينتظر به صاحبه من أولياء الله عزّ وجلّ وما غمني الذي رأيت
قلت : [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( ).
ثمّ عرض عليَّ النار حتّى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحيّاتها وعقاربها وغساقها ويحمومها، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكلّ بهم من يأخذ بمشافرهم، ثمّ يجعل في أفواههم صخراً من نار تخرج من أسافلهم.
قلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟
قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً.
ثمّ انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرَّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غدواً وعشياً.
قلت : من هؤلاء ياجبرئيل؟
قال : هؤلاء أكلة الربا {ومثلهم كمثل( ) الذي يتخبطه الشيطان من المس( )} ثمّ إنطلقت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن منكسات أرجلهن. قلت : من هؤلاء ياجبرئيل؟
قال : هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن) ( ).
وترى ان أسرة الأب أول ما تتحدث حين ولادة الصبي عن مدى شبهه بابيه وعمه وعمته وجده وجدته لأبيه، وان كانت تلك الصفات ظاهرة بينة تتحدث بها أسرة الزوجة بزهو واعتزاز إشارة الى موضوع حفظ الفرج .
بلحاظ ان هذا الخلق امر توليدي غير مستغرب، ومن مفاهيم الآية في المقام اختيار الزوجة الملائمة، وحفظ الفروج، وفعل المقدمات المناسبة حين طلب الولد كالإتيان بالبسملة ليكون المولود صبوحاً بهياً مؤمناً ليس دميماً او قبيحاً.
ترى لماذا لم تقل الآية (صوركم) بصيغة الماضي خاصة وأن الخطاب للموجود من الناس الجواب من وجوه :
الأول : إرادة عامة أجيال الناس المتعاقبة , قال تعالى ( الا يعلم ما خلق.
الثاني : إن الله عز وجل حيً قيوم .
الثالث : مشيئة الله حاضرة في كل زمان حتى في الأجنة في بطون الأمهات.
الرابع : يعلم الله صورة وهيئة كل إنسان إلى يوم القيامة قبل أن يخلق آدم عليه السلام .
ويتفضل الله بمخاطبة كل طبقة وكل جيل من الناس مجتمعين ومتفرقين ويخاطب المرأة من جهتين :
الأولى : تذكيرها عندما كانت في رحم أمها .
الثانية : يخاطبها الله عز وجل في آية البحث كونها أماَ للمفرد والمتعدد من الأولاد , لتشكر الله عز وجل في الأولى والثانية .
وأن هيئة وشكل وصورة الإنسان لا تتم إلا من عند الله عز وجل , ولم يرد (لفظ الرحم) بصيغة المفرد في القرآن , إنما ورد سبع مرات في القرآن , وهي حسب نظم القرآن :
الأولى : قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
الثالثة : قوله تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ]( ).
السادسة : قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
السابعة : قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا]( ).
ويدل هذا التعدد على موضوعية الأرحام في الحياة الإنسانية , وهو جزء من صلات الرحم , وتملي على الناس وظائف شرعية وأخلاقية ، قال تعالى [إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ]( ).
والأمشاج اختلاط وتلقيح مني الرجل لبويضة المرأة ، وفيه أقوال أخرى ، وعن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا فمنه يكون الشبه)( ).
لقد قال جمع من الفلاسفة بأن الله عز وجل خلق الأكوان ثم تركها وشأنها تسير بنظام دقيق , ولكن آية البحث تبين أن مشيئة الله عز وجل حاضرة حتى في تصوير الإنسان وهو في الرحم .
وفي ذات الدقيقة في مشارق ومغارب الأرض من غير كل أو تعب منه وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة المضارع (يصوركم) , قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ]( ).
وقد ذكرت آية أخرى نشأة الناس في بطون الإمهات قال تعالى [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى]( ).
ولم يرد لفظ (اللَّمَمَ) و(أَجِنَّةٌ) إلا في الآية أعلاه والنسبة بين بطون الأمهات والأرحام عموم وخصوص مطلق مع إتحاد الموضوع .
ثم بينت آية أخرى لطف الله عز وجل بالإنسان حتى بعد ولادته قال تعالى [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ولو دار الأمر بين جعل الله عز وجل هذه الحواس بمشيئته في ذات الوقت أم بنظام جار في الخلق من حين خلق آدم , فالصحيح هو الأول .
لذا وردت آية البحث بصيغة المضارع (يصوركم) وكذا في قوله تعالى [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ]( ).
و(عن ابن عباس في قوله { خلقاً من بعد خلق }( ) قال : علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً { في ظلمات ثلاث }( ) قال : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة) ( ).
وقد أثبت الطب الحديث هذا التعدد في الظلمة بالأغشية المحيطة بالجنين وهي :
الأول : غشاء السلمي الذي يلاصق الجنين , ويسمى أيضاَ الغشاء الباطن .
الثاني : غشاء الكوريون ويسمى (الغشاء المشيمي).
الثالث : الغشاء الساقط .
من خصائص القرآن الإرتقاء بالناس في المعارف والعلوم وتنظيم حياة الأفراد والأسر والمجتمعات وبما يقطع الإقتتال والتنابز بالألقاب ونحوه .
وعن (موسى بنُ عُلَيِّ بن رَبَاح، حدثني أبي، عن جدي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : ما ولد لك.
قال : يا رسول الله، ما عسى أن يُولَد لي؟ إما غلام وإما جارية.
قال : فمن يشبه ، قال : يا رسول الله، من عسى أن يشبه؟ إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها :مه. لا تقولَنَّ هكذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله [فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ]( )، قال : سَلَكك)( ).
معجزة (الرحم)
تبين آية البحث أموراَ :
الأول : عظيم قدرة الله عز وجل بتحديد شكل وجنس الإنسان وهو في الرحم قبل الولادة .
الثاني : إصلاح الإنسان ذكراَ أو أنثى للتكليف من حين تكون الجنين , لبيان النسبة بين قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) وبين قوله تعالى [يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ]( ) عموم وخصوص مطلق , فهذا التصوير مقدمة للعبادة .
الثالث : بعث السكينة في نفس الإنسان , بأن صورته وهيئته من عند الله عز وجل وحده , ومن حين التكًون في الرحم .
الرابع : تذكير كل إنسان بأصل خلقه وتكونه , وأنه ضعيف محتاج , قال تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
لقد ذكرت آية البحث التصوير وتعيين هيئة الإنسان في الرحم , وذات الرحم معجزة كوعاء لتكًون الإنسان وإتمام خلقته , وخروجه على نحو تلقائي في الطلق يدفعه الرحم أوان الولادة بمشيئة الله عز وجل , وليس عن نظام خاص وحده ,
بل نظام وحضور المشيئة والامر من الله عز وجل بخروج الطفل ويدل عليه قوله تعالى [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
و(عن حبة وسواء ابنَيْ خالد أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وهو يعالج بناء .
فقال لهما : هلم ، فعالجا معه ، فعالجا فلما فرغ ، أمر لهما بشيء وقال لهما : لا تَيْأَسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما .
فإنه ليس من مولود يولد من أمة إلا أحمر ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله)( ).
وتترشح معجزة الرحم بتجلي آيات القرآن في ذكر تعدد المعجزات بخصوص تكون ونشأة الإنسان وهو في الرحم , ولعناية ولطف الله عز وجل به ,
وفيه دعوة للمسلمين لشكر الله عز وجل على التكون في الأرحام , وهو من الإستصحاب القهقري في الشكر .
ولم يقل أحد من الأصوليين بالإستصحاب القهري وفق الإصطلاح , فإذا علمنا أن زيداَ قد صام وعمره عشرون سنة , ثم شككنا هل كان يصوم قبلها أم لا , للقضاء عنه , فلا يجري الإستصحاب القهقري , ولكن بالنسبة للشكر لله عز وجل فإن هذا الإستصحاب صحيح وحاجة بالتوجه بالثناء والشكر لله عز وجل , وقال تعالى[خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
لتجمع الآية اعلاه خلق الأكوان والإنسان والمعاد .
وجاءت آية البحث بصيغة المضارع (يُصَوِّرُكُمْ) لبيان شكر الله عز وجل على نعمة الأبناء وتكونهم في الأرحام , قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ) .
ومن معاني (يُصَوِّرُكُمْ) في المقام أن نشأة الجنين في الرحم لا تكلف أهله أموالاَ , أو إنقطاعاَ عن العمل , وكثرة السفر ومراجعة الأطباء , كما يظهر في حالات عند البشر نادرة فيما يخص العقم وطلب الولد بالعلاج.
وتبين الآية أن تصوير الإنسان في الرحم لا يحتاج جهوداَ إضافية من الزوج والزوجة أو غيرهما لخروج المولود بصورة حسنة , إنما هو لطف من الله عز وجل بالناس جميعاَ , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وقوله تعالى [وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ).
وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين كل اثنين منهم , إلى أن نزلت الآية أعلاه , فصار الميراث بقوانين النسب , وهو لا يمنع من تعدد معاني الآية , وبيان الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاَ .
وتقدير الآية : ويصوركم في الأرحام من غير عناء وإنفاق كثير منكم.
المشيئة الحاضرة في تكوين الجنين
لقد أخبرت آية البحث عن بديع صنع الله عز وجل والإعجاز في خلق الإنسان بتصوير الناس في الأرحام , ويخرج من هذا التصوير آدم وحواء , فلم يتكونا في رحم .
وهل هو علامة على ولادة الإنسان في الأنابيب وما هو أرقى علمياَ في الحواضن الصناعية الجواب نعم , لبيان أن هذه الكيفية المستحدثة في الولادة هي من العلم الذي تفضل الله عز وجل به على الإنسان وأصل خلقهم ورزقهم العقل , ومصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
وهي من مصاديق خاتمة آية البحث نفسها التي تؤكد الوحدانية , وانحصار الإلوهية بالله عز وجل وحده وهو [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) لبيان أن خلق وتكوين وصورة ونشأة كل إنسان هو من عظيم قدرة الله عز وجل وحكمته وسلطانه , فلم يكن التباين بين الناس في الهيئة والخلق , وتأريخ الولادة وكيفيتها إلا آية من بديع صنع الله عز وجل مما يستلزم الشكر له سبحانه والرضا بما قسم .
وقال تعالى [فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ]( ).
وقد نادى يونس وهو في ظلمات ثلاث الله عز وجل مستغيثاَ ومستجيراَ , كما ورد في التنزيل [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) والظلمات هي :
الأولى : ظلمة بطن الحوت .
الثانية : ظلمة البحر .
الثالثة : ظلمة الليل .
(عن سعيد بن جبير : لما بعث الله يونس عليه السلام إلى قومه يدعوهم إلى الله وعبادته ، وأن يتركوا ما هم فيه ، أتاهم فدعاهم ، فأبوا عليه ، فرجع إلى ربه .
فقال : رب إن قومي قد أبوا عليَّ وكذبوني .
قال : فارجع إليهم فإن هم آمنوا وصدقوا ، وإلا فاخبرهم أن العذاب مصبحهم غدوة ، فأتاهم فدعاهم ، فأبوا عليه.
قال : فإن العذاب مصبحكم غدوة ، ثم تولى عنهم.
فقال القوم بعضهم لبعض ، والله ما جربنا عليه من كذب منذ كان فينا ، فانظروا صاحبكم ، فإن بات فيكم الليلة ، ولم يخرج من قريتكم ، ولم يبت فيها ، فاعلموا أن العذاب مصبحكم ، حتى إذا كان في جوف الليل ، أخذ مخلاة فجعل فيها طعيماً له .
ثم خرج فلما رأوه فرقوا بين كل والدة وولدها ، من بهيمة أو إنسان ، ثم عجوا إلى الله مؤمنين ومصدقين بيونس عليه السلام ، وبما جاء به ، فلما رأى الله ذلك منهم بعد ما كان قد غشيهم العذاب كما يغشى القبر بالثوب كشفه عنهم ، ومكث ينظر ما أصابهم من العذاب ، فلما أصبح رأى القوم يخرجون لم يصبهم شيء من العذاب.
قال : لا والله لا آتيهم وقد جربوا عليَّ كذبة ، فخرج فذهب مغاضباً لربه ، فوجد قوماً يركبون في سفينة ، فركب معهم ، فلما جنحت بهم السفينة ، تكفت ووقفت فقال القوم : إن فيكم لرجلاً عظيم الذنب ، فاستهموا لا تغرقوا جميعاً ، فاستهم القوم فسهمهم يونس عليه السلام.
قال القوم : لا نلقي فيه نبي الله ، اختلطت سهامكم ، فأعيدوها فاسهموا ، فسهمهم يونس فلما رأى يونس عليه السلام ذلك قال للقوم: فالقوني لا تغرقوا جميعاً ، فألقوه فوكل الله تعالى به حوتاً ، فالتقمه لا يكسر له عظماً ، ولا يأكل له لحماً ، فهبط به الحوت ، إلى أسفل البحر ، فلما جنه الليل ، نادى في ظلمات ثلاث : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، وظلمة البحر) ( ).
بحث كلامي
في أسماء الله تعالى (المصور) وهو الذي صــور الخـلائق جميعاً بهيئات خاصة بعدما اوجدها، وتصوير الخلائق آية حسية وعقلية حاضرة تدعو كل انسان للإيمان والهداية في ذاته وغيره.
اما الجانب الحسي فيها فبديع الهيئة وجمال الخلق وتناسق اعضاء الإنسان وبدن الحيوان وملائمة الصور لحاجات الإنسان ودفع مشقة التحصيل عنه، بل انها تساعد في تهيئة مقدمـات الصناعات المناســبة لهيئته، فلو كان الإنسان في خلقة وشكل آخر قد يتعذر عليه صناعة وسائل النقل السريعة في هذا الزمان وأسباب العلاج الحديث، ومن قبل زراعة الأرض، والصناعات البدائية.
وهل تتناسب هيئة الإنسان والحيوان مع هيئة خلق السموات والأرض أم أن كلاً منها مستقل عن الآخر ، المختار هو الأول .
وسيأتي مزيد بيان في الجزء الثاني والثلاثين بعد المائتين في تفسير قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
وقد ورد اسم (المصور) مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) واسم المصور من الأسماء التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديثه منها (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً ، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)( ).
ويمكن القول أن النسبة بين الأسماء الحسنى وبين أسماء الله عز وجل التي ذكرت في القرآن هي العموم والخصوص المطلق , فالأسماء الحسنى أعم .
نعم ورد عن الإمام الصادق عليه السلام , مايدل على نسبة التساوي بينهما (عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟
فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا ألله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مالك .
وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حي ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير .
وفي آل عمران : يا وهَّاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل .
وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا علي ، يا كبير .
وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان .
وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت .
وفي الأنفال : يا نعم المولى ، يا نعم النصير .
وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما يريد .
وفي الرعد : يا كبير ، يا متعال .
وفي إبراهيم : يا منَّان ، يا وارث .
وفي الحجر : يا خلاق .
وفي مريم : يا فرد .
وفي طه : يا غفّار . وفي قد أفلح : يا كريم .
وفي النور : يا حق ، يا مبين .
وفي الفرقان : يا هادي .
وفي سبأ : يا فتَّاح .
وفي الزمر : يا عالم .
وفي غافر : يا غافر ، يا قابل التوبة ، يا ذا الطول ، يا رفيع .
وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين .
وفي الطور : يا بر . وفي اقتربت : يا مليك ، يا مقتدر .
وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإِكرام ، يا رب المشرقين ، يا رب المغربين ، يا باقي ، يا مهيمن .
وفي الحديد : يا أول ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن .
وفي الحشر : يا ملك ، يا قدوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر.
وفي البروج : يا مبدىء ، يا معيد .
وفي الفجر : يا وتر .
وفي الإِخلاص : يا أحد ، يا صمد) ( ).
والصورة هي شكل الشيء وتخطيطه، وعرفت في علم الكلام بانها الجوهر اذا كان في المحل، وان الجسم مركب من حال ومحل، والحال هو الصورة، والمحل هو الهيولي ولكن الصورة اخص من الحال، وقيل انها عرض على طريقة المتكلمين وجوهر على طريقة الفلاسفة ، ومن الحقيقة العرفية في هذا الزمان مرآة وحاكية للجوهر.
الإستنساخ البشري
تتضمن الآية في مفهومها الوعد والوعيد بلحاظ شمول الصورة للصفات المؤثرة لطبيعة الفعل والشأن ولو ليس على نحو العلة التامة لمقام اختيار العبد في أفعاله وأسباب ومقدمات الإيمان ، وتثبت الآية قدرة الله تعالى على كل الممكنات وعلمه بجميع المعلومات، فمن يصور الشيء يكون عالماً به وبتفاصيله وتقلبات أحواله.
ولو قلت : ما هو حكم الإستنساخ البشري من رحم يكون منبتاً للإنسان بل يولد بطرق صناعية وان كان الأصل هو الرحم، وهل تعني الآية ان المصنوع بالإستنساخ لا يشمله الخطاب القرآني او انه ليس بانسان حقيقة بل انسان مجازاً، وبرزخ بين الإنسانية والآلية.
الجواب : ان الإستنساخ البشري لا يزال نظــرية ولم تتم معرفة آثاره وكيفيته وعلى فرض حصوله فان المصنوع بالإستنساخ البشري تشمله خطابات القرآن، وصــفة الإنسانية وعمومات هذه الآية من تصـــوير الخلقة وتأليف الهيئة اثناء مراحــل الحمل ســواء كـان في زجــاجــة او انبوب او غيره بلحاظ المعنى العام للرحم وهو الوعاء ومنبت الولد.
لذا فمن إعجاز الآية انها لم تقل في أرحام أمهاتهم، وليس في القرآن هذا اللفظ، او تقييد الرحم بالأم على نحو الإتحاد والتعدد، بل ورد التعدد والمغايرة بين ما تحمل الأنثى وبين الأرحام قال تعالى [اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ] ( ).
فجاء لفظ الأرحام عاماً غير مقيد بالأنثى ويشمل كل وعاء لتكوين الولد ، وكأن الآية ناظرة الى التطور العلمي والتقني والإرتقاء في البحوث العلمية والنتائج المختبرية وعالم الطب وتكنولوجيا الإستنساخ الحيواني والبشري كزمان دون زمان فكيفما تكون لنشأة الجنين يكون تصوير الهيئة وتعيين الجنس من عند الله ، فان قلت حتى لو كان في الكواكب الأخرى عند الإنتقال إليها ، ورغبة كثير من النساء باجتناب الحمل وأوجاع الوضع والطلق ، الجواب نعم.
ولا زال العلماء المختصون يؤكدون عدم القدرة على الحصول على نسخة مشابهة في الإنسان كما حدث في الشاة (دوللي)، وهي أول حيوان من ذات الثديات يستنسخ من حيوان بالغ , وولدت في 5 يوليو سنة 1995وأولدت أربع مرات في حياتها
وبعد مرور ست سنوات وفي 14 شباط سنة 2003 تم قتلها قتلاَ رحيماَ بعد ثبوت إصابتها بمرض صدري واعترف العلماء بوجود قصور في صيغ الإستنساخ ويلزم المزيد من التحديث والتطوير من استنساخ هذه النعجة قبل امكان الإستنساخ البشري , ولكنه قياس مع الفارق.
وذات الإستنساخ على فرض حصوله هو من خلق الله عز وجل , ومن عمومات قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ) عالم الإنسان يختلف كثيراً عن الحيوان، أي ان النجاح المحدود الذي حصل في الشاة لم ولن يحصل في الإنسان بالإضافة الى العناوين الشرعية والإجتماعية والأخلاقية في المقام .
وقد حاول بعض علماء النبات الخلط بين جينات البطاطس والطماطم فنتجت عنه ثمرة سامة.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن انزاء الحمير على الخيل، ويتعذر الجمع بين الشاة والبقرة مثلاً، ولعله من باب أولى ان يظهر الإفساد والضرر في عالم الإستنساخ البشري.
تأريخ الإستنساخ الحيواني
الإستنساخ هو صنع نسخة وصورة حية كاملة من كائن حي طبق الأصل بنقل نواة من خلايا الجسم إلى بيض أزيلت قشرته ، ثم توجد شحنة كهربائية إلى البويضة لتحفيزها ، ليتم بعدها زراعتها في رحم الأنثى ، والإستنساخ العلاجي فرع له.
والإستنساخ الحيواني ليس جديداً ففي سنة 1952 ظهرت تجربة ازالة النواة من بيضة الضفدع ، لتوضع بدلها نواة خلية جينية من الضفادع.
وفي عام 1963 ذكر أن علماء من الصين صنعوا أول سمكة مستنسخة بواسطة نقل الحامض النووي من ذكر الكروب بيضة اثنى.
وهناك دعوة من بعض العلماء في الاستنساخ ولم تثبت أو لم تفلح.
وكان الكشف عن النعجة دولي التي ولدت في شهر يوليو سنة 1995 أهم وأظهر إنجاز علمي في المقام .
وفي سنة 2000 ظهرت أنباء عن استنساخ خنازير وماعز من خلايا البالغين .
وفي سنة 2002 تم استنساخ الأرانب والقطط من خلايا بالغين
وفي سنة 2003 أدعت منظمة كلونير استنساخها لأول طفل بشري رضيع.
وتعدد استنساخ اضعاف من الحيوانات .
وفي عام 2021 أعلن عن استنساخ حيوان امريكي مهدد بالإنقراض ، وتدل الكلفة العالية للإستنساخ ولأموال الطائلة التي تنقض عليه دون الحصول على نتائج موافقة للحكمة والولادة الطبيعية على بديع صنع الله.
وسعة رحمة الله بالناس ، والتخفيف عنهم ولا يصح الإستنساخ البشري ، وأضراره كثيرة.
وقد ثبت علمياً وبواسطة منظمة الصحة العالمية أن الإستنساخ البشري يتناقض مع سلامة الإنسان البدنية والروحية ومع القيم والإخلاق الحميدة.
وقد منعته دول عديدة ، ومنها من أجاز الإستنساخ لأغراض البحث والعلاج.
ومنها من جعلته محظوراً لأي سبب من الأسباب.
ومن إعجاز القرآن بيان علة من علل خلق السموات والأرض وأنه أعظم وأكبر من خلق الإنسان كما في قوله تعالى [لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، لبيان قانون مصاحب للحياة الدنيا وهو حتى في إيجاد إنسان الإستنساخ فان الناس يعجزون عما هو أكبر وهو خلق السموات والأرض ، والآية اعلاه إنحلالية.
فكل كلمة في هذه الآية هي ذكر لله عز وجل وبيان لاسم من أسمائه ، إلا الجار والمجرور (في الارحام) وورد لبيان أن الله عز وجل هو الخالق المصور ، الرازق.
قوله تعالى [كَيْفَ يَشَاءُ]
تبين الآية ان كيفية خلق الإنسان وصورته لا تكون الا بمشيئة الله وارادته تعالى، والآية تفيد حصر كيفية تصــوير وتأليف الإنسان بالله تعالى ، لا يشاركه فيها أحد، مع موضوعية العلة المادية وهما الوالدان، وتلقيح الحيمن للبويضة وهي من الأســباب الضــرورية والمؤثرة، الا ان هذا التأثير لن يكون مباشراً وقطعياً كما في حالة الشبه في الخلقة والصورة، والطول والقصر، والبياض والسمرة والسواد ونحوها، بل انه لا يتم الا بمشــيئته تعالى.
لذا قــد ترى اخـــوين من أم وأب أحـدهما لونه أبيض والآخر يميل الى السواد او السمرة الشديدة، او تــرى احدهما طويلاً بهيئة أطول من أمه وابيه وآبائهما ، أو العكس، والآخر قصيراً، وهو من المشيئة الإلهية، وتوكيد لعدم حتمية تأثير الجينات وكذا لن يكون أثر تام للهندسة الوراثية على الإرادة الإلهية في تصوير الإنسان ,
وفي التنزيل[وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ]( ).
ان حضور المشيئة الإلهية في خلقة وصورة الإنسان وهو جنين دعوة للناس للإيمان , والتصديق بالنبوات , والتفكر في أنفسهم مثلما دعاهم الله عز وجل للتفكر في خلق السموات وأثنى على أولي الألباب بقوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وفي أصحاب الكهف قال الثعلبي ويقال : إنّ نبي الله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ عليكم السلام.
فقالوا : على محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض.
وعليكم بما بلّغتم. ثمّ جلسوا بأجمعهم يتحدثون، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبلوا دين الإسلام.
وقالوا : أقرئوا محمداً منّا السلام. فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي.
ويقال : إنّ المهدي يسلّم عليهم ، فيحييهم الله عزّ وجلّ ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة.
ثمّ جلس كل واحد منهم على مكانه ، وحملتهم الريح، وهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بما كان منهم.
فلما أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف وجدتموهم ، وما الذي أجابوا.
فقالوا : يا رسول الله، دخلنا عليهم فسلّمنا عليهم، فقاموا بأجمعهم ، فردّوا السّلام، وبلّغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنّك رسول الله حقاً، وحمدوا الله عزّ وجلّ على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم، وهم يقرئونك السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم لا تفرّق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني، واغفر لمن أحبّني وأحب أهل بيتي وحامّتي ، وأحبّ أصحابي)( ).
ونسبة الخبر إلى القيل أعلاه تضعيف له .
علم المناسبة
لقد وردت مادة (صور) في القرآن سبع مرات، ومن أسماء الله الحسنى المصور قال سبحانه [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] ( )، مما يعني ان التصوير دليل على عظمة قدرة الله وانفراده بالروبية وانه لايستطيع احد غيره تصوير الجنين في الرحم.
والتصوير لا ينحصر بعالم وايام الحمل بل هو شامل لأيام الحياة الدنيا، والإنسان يبعث بهيئته وصورته الأصلية يوم القيامة، لذا فان هذا التصوير له أهمية واعتبار وارتباط بالذات الإنسانية.
وقد أثنى الله عز وجل على خلقه للإنسان صورة وهيئة في تحد للكافرين والمشركين قال تعالى [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ] ( ).
والخطاب للناس كافة لبيان عظيم فضله ســبحانه، لذا لم تر احداً يعترض على قوام وهيئة الإنسان، ولم تقيد هيئة وصــورة الإنســان بقــوانين ثابتة محددة، بل تخضع للمشيئة الإلهية قال سبحانه [فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ]( ).
وهل هذه الآية اشارة الى تغييرات تطرأ على صورة الإنسان بمشــيئة تعالى ، لا يبعد هذا لذا ذكرت نصوص تدل على طول آدم بما يفوق كثيراً هيئة الانسان في هذه الأزمنة.
وتصوير الإنسان في الرحم بيان لعظيم قدرة ورحمة الله تعالى اذ خلق الإنسان من تراب ، ثم جعله نطفة لتصبح النطفة علقة ولا تناسب بينهما ، ويقر الحمل في الرحم الى أجل معين مدة تسعة أشهر او أقل او أكثر قليلاَ الى حين الولادة والخروج الى عالم ابتلاء بعد برزخ من الطفولة مما بين الولادة وسن البلوغ ،
كما أن الله سبحانه يعلم ما في الرحم وهل هو ذكر أم أنثى، صحيح أم سقيم، أبيض ام أسود، سيكون صالحاً ام لا، قال تعالى [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ]( )، أي ان هذه الآية أعم من حصرها بمسألة الذكر والأنثى.
قوله تعالى [لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]
جاءت خاتمة الآية لتوكد انفراد الله سبحانه بالربوبية والقدرة المطلقة والخلق وان الإنسان لا يستطيع التدخل في شــؤون خلقه وتكوينه بل أمره راجع الى الله على نحو الإطلاق، فالتصــوير في الأرحــام شاهد على الربوبية ودعوة الى الإيمان، والإعتراف بفضله تعالى اذ لم يجعل مدار نوع التصوير والتأليف على الإيمان .
فمن كان مؤمناً يحسن صورته، ومن يعلم انه سيكون كافراً يقبح صورته للتحذير منه وجعله يعرف حقيقته، بل ساوى بين الناس في بديع الخلق والهيئة لوجوه :
الأول : رحمة من الله تعالى .
الثاني : إكرام الله عز وجل لجنس الإنســان ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
الثالث : إن الله تــعالى نفــخ فيه من روحــه وهــو خليفته في الأرض, قال تعالى في آدم [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الرابع : جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
اما مسألة التمييز بين الإيمان والكفر فهو أمر متعلق بعالم الحساب، وهو تعالى محب للخير والكمال وموصل لخلائق المنافع العظيمة وجاعل الإنسان في أتم حال وفق النظام الأكمل، وعالم الوجود الأحسن وقوانين العلة والمعلول والسبب والمسبب، ليكون الإنسان فيضاً من فيوضاته تعالى، ورشحة من فضله ولطفه واحسانه، ومناسبة لرؤية الخلائق عبادته تتجدد في الأرض والإقرار له بالوحدانية يتصل عبر الأجيال.
وقد تكرر اسم (العزيز) في هذه الآيات مع التباين الموضوعي، فورد قبل آيتين بصيغة الإنذار للكافرين [وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ]( )، وجاء مقترناً باسم الحكيم لأن الإخبار عن تصوير الإنسان لطف اضافي وبيان لعظيم فضل الله على الناس جميعاً قبل سن التكليف.
والله سبحانه الممتنع الذي لا يغلب فلا أحد يستطيع تغيير صورة الخلق لأن مشيئته هي الغالبة ، وهو سبحانه الحكيم الذي يعلم تفاصيل الأمور ولا يفعل القبيح.
فتصوير الإنسان في الرحم احسان وجود وكرم يستلزم من العباد الشكر بالإستصحاب القهقري، وبحال الإنسان التي هو فيها.
لأن منافع التصوير في الرحم لا تنحصر بفعله وأوانه بل انها مستديمة ودائمة.
ومن الحكمة اتقان الأشياء وأحكام الصنع ، والتصوير في الأرحام حاجة بالنسبة لنمو الإنسان وخلقه , ولطف من الله .
ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل , و(عن عبدالله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ،
ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات ، بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد . فوالذي لا إله إلا غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها .
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)( ).
وشاهد على ضعف الإنسان , وحاجته إلى رحمة الله عز وجل من أول تكوينه وهو من عمومات قوله تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
بحث أصولي (المشترك اللفظي)
ينقسم المشترك في الإصطلاح الأصولي إلى قسمين:
الأول : مشترك لفظي.
الثاني : مشترك معنوي.
واذا ورد المشترك بصيغة الإطلاق فالمراد هو الأول.
والمشترك اللفظي: هو لفظ موضوع او مستعمل في معنيين أو أكثر كل واحد منها مغاير للآخر، فيكون اللفظ متحداً والمعنى متعدداً، كما في لفظ (العين) فانه يطلق على العين الباصرة والبئر والرابية والجاسوس وغيرها.
وتحتمل وجوه لنشأة هذا التعدد منها:
الأول : ان شخصاً واحداً يضع لفظاً واحداً لمعنيين أو أكثر.
الثاني : تعدد الواضع بمعنى ان واضعاً يضع اللفظ لمعنى، والآخر يضعه لمعنى آخر.
الثالث : قيام قبيلة أو أهل مصر بوضع اللفظ لمعنى، وقيام قبيلة أو أهل مصر آخر ممن يتكلم بذات اللغة بوضعه لمعنى آخر.
الرابع : استعارة اللفظ لمعنى آخر لوجود شبه وعلاقة والتقاء بينهما، ثم اتسع استعماله في المعنى الجديد مع المعنى الذي وضع له اللفظ بالأصالة والإستقلال فاصبح استعماله فيهما بعرض واحد، ولم يتضح اصل الفرق بينهما، وربما استعمل في معنى ثالث بذات الطريقة.
الخامس : ميل الناس الى المشترك لما فيه من اليسر والتخفيف في الفهم والتفهيم واعتياد الألسن والأسماع وكثرة الإستعمال ولوجود القرينة الصارفة عن المعنى الذي وضع له اللفظ اصلاً او الذي تدل على ارادة المعنى الجديد , كما في لفظ الصلاة وإرادة الفرض العبادي المعروف , وقال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ).
السادس : وجود اللفظ وجوداً ذهنياً دائماً مع قلة استعماله في الواقع الخارجي، فلا يفنى اللفظ في معنى معين وقل استعماله فيه في مقابل صورته الذهنية، بمعنى ان النفس ترى للفظ جمالاً وحلاوة لا يستوعبها معنى واحد مخصوص وان كان موضوعاً له، فكأن ادراكاً يحصل بان اللفظ ذاته مجمل له قابلية الجعل والتنزيل لمعنى آخر بلحاظ القرينة.
السابع : اختلاف البلاغة وتعدد الأمصار لأهل اللغة الواحدة، ثم تداخلها وتأثير بعضها بالبعض الآخر.
الثامن : وجود وجوه من الشبه والإلتقاء بين المعاني المتعددة تؤدي الى استئناس العقول لإنطباق لفظ معين.
التاسع : اســتحســان اســتعمال اللفــظ في مـعان أخرى غير التي وضع لها.
العاشر : كما يقال بوجود قرينة تدل على افادة المعنى المطلوب من المشترك كذلك كانت هناك قرينة بعد الوضع ادت الى استعمال المشترك في معان اخرى.
الحادي عشر : الأقرب ان المشترك لم يوضع لعدة معان بعرض واحد، بل انه بالأصل وضع لمعنى معين ثم استعمل في غيره لعلاقة وشبه حتى صار الإستعمال وكأنه مشترك.
والمشــهور شهرة عظيمة عند الأصوليين وقوع المشترك اللفظي كما هو حــال اهل البلاغة ، وهو المختار.
فهو وضــع طــبيــعي ولفــظ واحــد لمعنيين او اكــثر متغايــرين في الماهــيــة والجنس، واستدل بالنقل في لغة العرب واستعمالهم للفظ واحد لأكثر من معنى لا جامع بينهما.
والإشتراك واقع في اكثر لغات العالم، وهو ممكن لغة وعقلاً وموجــود فعــلاً الا ان الخــلاف هنا في الوضــع والإستعمال الذي هو اعم ولم تنحصــر أسبــاب المشترك في لغة التخاطب بوجه واحد مستغرق لكل المشتركات.
واستدل بالنقل والتبادر وعدم صحة السلب أي في كل معنى من المعاني التي يستعمل فيها المشترك، ولكن النوبة لا تصل الى هذا الإستدلال لأن الإستعمال اعم من الحقيقة والمجاز وهذا الإستدلال يرد لبيان المعنى الحقيقي الذي وضع له اللفظ وما يميزه عن المجاز.
وقال بعضهم باستحالة وقوع المشترك اللفظي بامتناع وجوده.
ففي المشترك اللفظي في اللغة اقوال اربعة :
الأولى : امتناع وجوده في اللغة، وبه قال جماعة.
الثانية : امكان حصول المشترك اللفظي.
الثالثة : وقوع المشترك اللفظي، وهو الصواب.
الرابعة : وجوب المشترك اللفظي لأن الألفاظ متناهية ، والمعاني والوقائع غير متناهية .
فهناك تناقض بين القول الأول والأخير، أما الثاني والثالث فبرزخ بينهما.
واستدل القائل بامتناعه بوجوه منها:
الأول : إخلال المشترك بالتفهيم والفهم المقصود من الوضع، لأن القرائن الدالة على ارادة فرد من المشترك دون غيره خفية في الغالب.
الثاني : المشترك اللفظي مخل بالحكمة، لأن الغرض لابد ان يتعلق بأمر معين مقصود وليس مجملاً يحتمل عدة معان.
ولكن القرائن على قسمين، منها ما هو خفي، ومنها ما هو ظاهر جلي وبالإمكان الإعتماد على القرائن الواضحة دون الخفية.
وبخصوص مسألة الإخلال بالحكمة فان حكمة الوضع والتفهيم أعم من ان تنحصر بالتفهيم الشخصي فقد يتعلق الغرض بالإجمال واحالة الفرز والتعيين والتشخيص إلى المخاطب لقرائن حالية أو مقالية يعرف المتكلم أن المخاطب يعلمها خصوصاً وأن المعنى المقصود لم يدخل فرداً في المشترك إلا بعد التفاهم العرفي والعقلي على ملائمته للدخول والإشتراك في اللفظ كواحد من معانيه.
والمشترك اللفظي يحتاج الى قرينة لتعيين بعض معانيه.
والمشترك المعنوي كقوله تعالى [ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ]( ) فهو لفظ موضــوع لمعنى واحد ويكون المعنى مشتركاً بين المتعدد وليس المتحد ، فيكون الإشتراك بمعنى واحد ، بخلاف المشترك اللفظي الذي يكون الإشتراك فيه بلفظ واحد .
ومن المشترك المعنوي السؤال لإفادة الإستفهام منه [َيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ]( ) أو الإنكار ،قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا]( ) ومنه الطلب الذي يحمل على الوجوب أو الإستحباب أو طلب الحاجة ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ومنه الصدقة إذ تحمل على الزكاة الواجبة والكفارة والصدقة المستحبة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ) نعم يبين آخر الآية الحض على الزكاة الواجبة.
ومن خصائص المشترك اللفظي والمعنوي في القرآن الدلالة على فقاهة المسلمين ، ومعرفتهم بعلوم التفسير والتأويل.
والمجمل هو اللفظ الذي ليس له ظهور بالفعل ولو كان بسبب عرضي وهو على أقسام منه المجمل بالذات مثل أوائل السور القرآنية الم، الر, واما المبين فهو اللفظ الذي له دلالة ظاهرة على المعنى المقصود.
وقيل بعدم استعمال المشترك اللفظي في القرآن دون غيره وانه محال للزوم حصول أحد محذورين:
الأول: التطويل بلا طائل لأن المشترك يحيلك على القرائن، وهذا يستلزم البحث والتحقيق والمشقة والجهد.
الثاني: الإجمال في المقال وعدم تعيين الفرد المطلوب وانقداح عدة معان من اللفظ القرآني وهو أمر غير لائق بكلامه تعالى.
وكلا المحذورين يمكن ردهما، والاحالة إلى القرائن من الموضوعات الاضافية للغة ولا تستلزم جهداً ومشقة وفيها حسن ذاتي، ومنع من تداخل المعاني.


مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn