بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمــــــة
الحمد لله الذي تجلت عظمته بالقرآن كتاباً نازلاًَ على من اختاره من شجرة الأنبياء الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ,وجعل كل آية من آيات القرآن نوراً يستضاء به في الظلمات، وإماماً الى سبل الرشاد.
وهبة سماوية في متناول كل انسان وفاز باقتناء كنوزها والإنتفاع منها المسلمون.
الحمد لله الذي [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ) وتفضل وأنزل القرآن جامعاً للأحكام الشرعية ، ليكون إماماً في الصالحات .
الحمد لله الذي صان وحفظ القرآن من التحريف والزيادة والنقصان ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) وهذا الحفظ فرع ملكية الله المطلقة للسموات والأرض، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..] ( ).
الحمد لله على عطائه وإحسانه وعظيم فضله علينا وعلى الناس جميعاً .
الحمد لله على وفرة الرزق ، وجعله أكثر أضعافاً مضاعفة عن الحاجة والكفاية ، وتفضل ليكون من نهي الله عز وجل عن ربح الأضعاف في الربا ، إذ قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وقد صدرت لي والحمد لله الأجزاء (89-90-91-92 ) خاصة بتفسير الآية أعلاه .
الحمد لله الكريم الوهاب الذي جعل الدنيا دار البركة والزيادة والنماء في الخير وإنحسار للشر .
والله تعالى واهب العطايا ، رازق البرايا (عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
قلت : يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟!
قال : نعم .
ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فإن شاء الله أقامه ، وإن شاء أزاغه .
فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب .
قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي.
قال : بلى .
قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني) ( ).
الحمد لله الذي لا تنفد خزائنه بل تزداد مع كثرة السؤال ، قال تعالى [أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ] ( ) .
وكان الجزء السابق وهو الخامس والخمسون من معالم الإيمان في تفسير القرآن يتضمن تفسير الآيات( 1-12 ) من سورة آل عمران ، وتم بفضل الله عز وجل شطره بعد سبع عشرة سنة من تأليفه ليختص بتفسير الآيات (1-6) من سورة آل عمران .
وهذا هو الجزء السادس والخمسون من معالم الإيمان ويتضمن تفسيراً للآيات (13-20) من سورة آل عمران، وكل آية منها مدرسة متكاملة في المعارف الإلهية وتشمل العقائد والأخلاق ومفاهيم الجهاد والإقرار بالتوحيد وقواعد الإحتجاج لتثبيت مبادئ الإسلام [وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ].
النجف الاشرف 1426
قوله تعالى[قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافـِرَةٌ يَــرَوْنَهُـمْ مِثْــلَيْهِـمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُــؤَيِّــدُ بِنَصْــرِهِ مَنْ يَشَــاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِــبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَــارِ] الآية 13
الإعراب واللغة
قرأ نافع وابان عن عاصم (ترونهم)، والباقون بالياء، والذي قرأ بالتاء يعتبر الآية خطاباً لليهود، أي يرون المسلمين ضعف عددهم، او ضعفي المشركين من قريش، ولكن المرسوم في المصاحف وهو بالياء هو الأنسب لغة ودلالة وموضوعاً.
[قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا] قد: حرف تحقيق، كان: فعل ماض ناقص. لكم: جار ومجرر متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم. آية: اسم كان المؤخر. التقتا: فعل ماض، والتاء: تاء التأنيث الساكنة، والف الإثنين فاعل.
[فِئَةٌ تُقَاتِلُ] فئة: خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير احداهما فئة، ومن قرآها بالجر تكون بدلاً عن فئتين. تقاتل: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هي، وجملة تقاتل صفة لفئة.
[فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ] في ســبيل الله: جــار ومجــرور، وســبيل مضـاف واسم الجلالة مضاف اليه. يرونهم: فعل وفاعل ومفعول به. مثليهم: حال، والضمير مضاف اليه.
[وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ] الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، جملة يؤيد: خبر. بنصره: جار ومجرور متعلقان بيؤيد، والضمير الهاء مضاف اليه. من يشاء: من: اسم موصول مفعول به، جملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول.
[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً] ان: حرف مشبه بالفعل.
في ذلك: جار ومجرور متلعقان بمحذوف خبر مقدم، اللام المزحلقة،عبرة: اسم ان المؤخر.
الفئة: الطائفة وأصله فيء ونقصت الياء من وسطه فأبدلته بالهاء، ويجمع على فئون وفئات، والعبرة – بكسر العين – العجب والإتعاظ والتدبر، وفي حديث أبي ذر: فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً كلها.
في سياق الآيات
بعد الإنذار والوعيد للكافرين بالخزي في الدنيا وسوء العاقبة في الآخرة، جاءت هذه الآية شاهداً على صدق الوعيد وإمكان انتصار المسلمين وهزيمة الكافرين بمثل قريب واقع.
لقد أخبرت آية البحث عن تضاد بين المسلمين والمشركين بلغ حدّ القتال ولمعان السيوف ، ولكن هل من معتدي وغاز ، الجواب نعم ، فقد أخبرت آيات القرآن عن كون مشركي قريش هم الغزاة والذين أصروا على القتال ، فلاقوا الخسارة والهزيمة ، إذ ورد الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإصحابه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )،
اعجاز الآية الذاتي
تظهر الآية ان انتصار المسلمين في بدر كان آية ومعجزة وعلامة على قوة الإسلام وان الله عز وجل يظهر دينه وينصر المؤمنين بآية منه وهذه الآية توثيق قرآني لمعركة بدر لتكون عبرة وموعظة وشاهد صدق ودليلاً على تحقيق مضامين الآية السابقة ومنها هزيمة الكفار، وهذا من اللطف الإلهي في الإتيان بالمثل القريب الحاضر للإتعاظ والإعتبار وليكون مناسبة للتدارك.
فهذه الآية من الآيات العقلية الحسية التي يستطيع كل انسان ادراك معانيها وفهم ما لها من المقاصد السامية وتبين أهمية قصد القربة في القتال.
والمتعارف ان الأمثال تضرب لوقائع وأمور ضاربة في القدم، وأصبح موضوعها متعارفاً عند الناس، ولكن الآية جاءت بمثل قريب وشاهد حاضر ليكون باقياً بالوجود الذهني ويجعل المسلمون والكفار له الإعتبار كل بحسبه، فالمسلمون يتخذونه نبراساً وعوناً، والكافرون يضعونه أمام أعينهم فيكفوا عن قتال المسلمين.
ولم يرد لفظ [الْتَقَتَا][ كَافِرَةٌ][ يَرَوْنَهُمْ][ مِثْلَيْهِمْ][ رَأْيَ] إلا في آية البحث .
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (قَدْ كَانَ لَكُمْ )
ولم يرد لفظ (قَدْ كَانَ لَكُمْ) في القرآن إلا في هذه الآية , نعم , ورد قوله تعالى (لقد كان لكم) مرتين , في قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) وقوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
إعجاز الآية الغيري
أختتمت الآية الكريمة للبيان والتحدي بقانون معجزة المثلية البصرية بين طرفين ، يرى القليل الكثير مثله ، ويرى الطرف الكثير أن القليل مثله ، إذ كان عدد الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر (313) بينما كان عدد المشركين (950) رجلاً.
أي أنهم أكثر من ثلاثة أضعاف الصحابة ، لبيان قانون بقاء المعجزة الحسية القرآنية إلى يوم القيامة ، وهو من مقدمات ومصاديق قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
فلا يأتي العلم الحديث والذكاء الأصطناعي مثلاً بالرؤية البصرية العامة لأفراد الجيشين خلاف الواقع .
وأكدت الآية (رأي العين) لبيان أنها رؤية في اليقظة وليس في المنام أو حال النعاس التي أصابت المسلمين يوم بدر ، قال تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت الشجرة حتى أصبح)( ).
ومن تفسير العبرة [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ]( )، أيام النبوة وفي كل زمان ، وفيه دعوة للناس لعدم نصرة مشركي قريش في حربهم على النبوة والتنزيل .
وسيأتي مزيد كلام في الجزء السابع والخمسين بعد المائتين من هذا السِفر ، وفيه تعدد معاني (ذلك) في الآية ليشمل وجوهاً متعددة ، منها نصر الله لمن يشاء ، وتجلي مصداقه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
والنسبة بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( )، العموم والخصوص المطلق ، فنصر المؤمنين أعم.
ويشمل نصر الأنبياء والمؤمنين في الأمم السالفة ، ومنه نصر موسى عليه السلام على فرعون ، وداود على جالوت ، ولا يختص النصر في الآية بالقتال بل يشمل النصر بالمعجزة والحجة الظاهرة وهلاك عدو الأنبياء والتنزيل ، وفي التنزيل [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا]( ).
الآية سلاح
ما في الآية من المثال مدد وعون للمسلمين، لقد جعل لله عز وجل معركة بدر انتصاراً للمسلمين ومناسبة لتقوية الصفوف وعزاً دائماً كما ان استحضارها يبعث الخوف واليأس في قلوب الكافرين.
إفاضات الآية
الآية حرز من القنوط واليأس وملاك للصبر وتحمل الأذى في سبيل الله لأنها تعد بالنصر، وتذكر بمثال كريم حاضر، والى الآن ترى المسلمين يعيشون واقعة بدر غضة متجددة كأنها حدثت بالأمس، ومن الآيات انها بين المسلمين وبين ملة منقرضة من المشركين، واستحضار ذكراها مناسبة لإلتماس الدروس والعبر منها، وفي الآية اصلاح للنفوس بجعل قصد القربة معتبراً في السعي في مرضاة الله.
مفهوم الآية
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس بواسطة المسلمين بآيات القرآن وما فيها من الإعجاز والمضامين القدسية والمعارف الربانية وتفضل سبحانه بآيات حسية ذات نفع عظيم، ومنها معركة بدر فمن مفاهيم الآية ان كل نصر للمسلمين هو آية من عنده تعالى لذا كان الملائكة يقاتلون مع المسلمين لتحقيق النصر.
وتحث الآية على الجهاد في سبيل الله واجتناب القتال حمية وجاهلية وعصبية وبقصد الغلبة والإستعلاء، ولم تجعل الآية واسطة بين الفئتين للتباين والتنافي بين الإيمان والكفر، واذ اشارت الآية الى نية المسلمين في القتال في سبيله تعالى، فانها لم تذكر نية اعدائهم وأكتفت بوصفهم بالكفر مما يدل على غياب القصد والعلة الغائية لمحاربتهم للمسلمين، ومع قلة عدد المسلمين ازاء الكافرين فان الله عز وجل جعل الكافرين يرون عدد المسلمين كعدوهم، وهذا من نتائج الفزع والرعب الذي يبعثه الله في قلوب الكافرين.
والآية انذار للكافرين ووعيد بالحاق الهزيمة بهم، لما فيها من الإخبار عن تفضله بتأييد من يشاء وليكون هذا التأييد مقدمة وسبباً لثبات معالم التوحيد في الأرض.
التفسير
قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ]
بدأت الآية بلغة الخطاب وفيه دعوة للإنتباه والإلتفات، فكل من يعلم ان الكلام يعنيه فانه يصغي ويستمع اليه، وفي جهة الخطاب في الآية وجوه:
الأول: الاية موجهة لأهل الكتاب لإجتناب إعانة المشركين ضد النبوة والتنزيل .
الثاني: الخطاب للكفار مطلقاً خصوصاً، وان الآية السابقة موجهة للكفار [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا] وسيأتي مزيد كلام في الجزء السابع والخمسين بعد المائتين من هذا السِفر المبارك.
الثالث: المقصود في الآية المسلمون، لتكون الآية موضوعاً للتذكرة والإعتبار وجميع أفراد هذه الوجوه يشملها الخطاب في الاية ولا تعارض بينها، بالإضـافة الى اصالة الإطلاق وعموم الخطاب القرآني خصوصاً مع قرينة ورود الآية عبرة وموعظة، والعبرة عامة ولا تنحصر بفئة أو أمة دون أخرى وان كانت ليست حيثية تعليلية يترشح عنها ثبوت الحكم للموضوع لأن الآيات التي تدعو الناس للإيمان اكثر من أن تحصى، والعلل الغائية للنصــر في بدر متعــددة ومتصلة الى يومنا هذا، نعم العبرة والموعظــة جامع بين الناس، فاعتبار المسلم زيادة في ايمانه، واعتــبار غيره استحضار خطئه ولزوم تخلصه من جحوده.
وجاء الفعل الماضي الناقص (كان) بصيغة المذكر، ولم تقل الآية كانت لكم آية، وفيه مسائل:
الأولى: المراد المعنى وفيه حــذف وتقــديره قد كـان لكــم برهــان وهو آية.
الثانية: جاء كان بصيغة المذكر للفصل الواقع بين كان وأسمها، وتقدم خبرها (لكم)
الثالثة: تفخيم آية واقعة بدر وذكر الوقائع بصيغة المذكر.
وتدعو الاية الى التفات الجميع الى معركة بدر كآية وعلامة على كيفية المواجهة بين الإيمان والكفر وما تنتهي اليه واستخلاص الدروس منها وعدم التفريط بها، وتدل بالدلالة الإلتزامية على ان نصر المسلمين في معركة بدر، لم يكن اتفاقاً وصدفة، او كان بأسباب مادية ظاهرية بل كان آية عظيمة من بديع صنعه ولطفه تعالى، وما دام الإنتصار آية فانه رحمة للناس جميعاً، كل بحسبه.
وقد غيرت معركة بدر وجه التأريخ وجعلت الأمور تأخذ اتجاهاً مباركاً نحو تثبيت دعائم الإسلام، وتبدلت منازل الجماعات والملل وارتقى المسلمون في الميادين العسكرية والإجتماعية لإجتماع الحق والنصر عندهم، بالإضافة الى توالي نزول الآيات ووجود النبوة بين ظهرانيهم، فمعركة بدر لم تكن آية منفردة بل كانت جزء من عدد من الآيات الباهرات، متصلة ومتجددة.
وكذا بالنسبة لمعركة بدر ذاتها تتضمن آيات متعددة، وهي وان انتهت في يوم واحد، فان آثارها المباركة متصلة دائمة الى الآن، لذا يصدق عليها اسم آية وبذا تختلف الآية الحسية التي يرزقها الله عز وجل المسلمين اذ تكون منافعها دائمة متصلة، وتكون متممة للآية العقلية وهي القرآن.
لقد كانت معركة بدر آية حسية ظاهرة كي يعيها الناس جميعاً، لعدم إمكان تأويلها وتفسيرها خلاف الظاهر والواقع فانتصار المسلمين كان سريعاً وحاسماً لا لبس فيه، ومن البراهين يوم بدر التباين في العدد والعدة وكثرة المشركين ازاء قلة المسلمين.
فقد كان عدد المســلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً على عدد أصــحاب طالوت، وكان عدد المهاجـرين سبعة وسبعين رجلاً، والأنصار مائتين وســتة وثلاثين رجــلاً، وكان معــهم ثمانية ســـيوف وستة أدرع، اما عدد المشركين فكان بين تسعمائة الى ألف، وللعدة والعدد أثر كبير في سير مجريات الأمور وكيفية القتال، بالإضافة الى الهالة من التفخيم التي تحيط بقريش وسطوتها، وحداثة عهد المسلمين بالقتال.
فالحسابات البسيطة تظهر لك تفوق المشركين من جميع الجهات العسكرية والتعبوية والنفسية، الا الإيمان وحب الشهادة الذي لا ينفك عنه، فجاء العون والنصر من عنده تعالى ومن الآيات ان يأتي القرآن بذكر معركة بدر على انها آية حسية لينتبه المسلمون الى شكره تعالى على هذه النعمة لأن بركاتها متصلة فقوله تعالى [لَكُمْ آيَةٌ] خطاب حاضر لكل أجيال المسلمين وللناس جميعاً والى يوم القيامة وفيه بيان لأهمية وعظم الآية الحسية وواقعة في يوم واحد تبقى بركاتها وافاضاتها الى يوم القيامة.
والآية دعوة لإجراء الدراسات والبحوث وعقد الندوات واستنباط الدروس والحكم من واقعة بدر واتخاذها مثالاً وأسوة ومدرسة ووسيلة للهداية وسلاحاً وعزاً وحجة وبرهاناً ومادة للإنذار وشاهداً على المدد الإلهي للمسلمين.
لقد وثق القرآن قصص الأمم السالفة ولم يترك وقائع الإسلام فوثق واقعة بدر بما يمنع من تسرب الشك الى النفوس فيما يخص تفاصيلها ونتائجها مما يؤكد ان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن من عنده او باستشارة أصحابه، بل كان بوحي من عنده الله تعالى والا فان مستلزمات مواجهة قريش لم تجتمع عند المسلمين بعد فلا زالوا في طور الإعداد والتهيء.
ولكن المدد الإلهي ساعة المعركة هو الذي رجح كفة المسلمين، والوثوق بهذا المدد يحتاج درجة عالية من الإيمان والتقوى والتسليم بأمره تعالى، فحينما امر الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالخروج ووعدهم بالنصر صدقوا به وبادروا الى الخروج واستشهد منهم يومئذ اثنان وعشرون، اربعة عشر رجلاً من المهاجرين وثمانية من الأنصار فكانوا مصابيح الدجى وأناروا للأجيال مسالك الهداية والرشاد.
بحث بلاغي
[قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ] الآية 13
ينقسم التأنيث الى قسمين حقيقي وغير حقيقي، والحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله الا نادراً، وعند وقوع فصل بين الفعل وبينه، وغير الحقيقي يجوز حذف تاء التأنيث او عدم حذفها عند الفصل، ولكن الحذف أحسن كما في قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ] فلم تقل الآية قد كانت لكم آية، لأن الفصل جاء بالجار والمجرور.
ومن أقسام البديع المطابقة ويسمى الطباق ايضاً وهو الجمع بين متضادين مع ظهور التضاد بينهما سواء كان على نحو الحقيقة أوالمجاز، وبصيغة الإيجاب او السلب كما في قوله تعالى [جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً] ( ) فجاء وصف الأرض بالفراش مقابل وصف السماء بالبناء، ومن أمثلة المجاز [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ] ( )،فجعل الهداية حياة والضلالة موتاً، ومن الطباق ما يسمى المقابلة، وهو ان يذكر في كل طرف من طرفي الطباق لفظين او اكثر، كما في قوله تعالى [فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا]( )، وبين الطباق والمقابلة عموم وخصوص مطلق، فالطباق يكون بين ضدين فقط، أما المقابلة فهي أعم وتكون بما زاد عن العشرة، والطباق لا يكون الا بالأضداد، اما المقابلة فأعم وتشمل ألأضداد وغيرها.
وقد ترد المطابقة بثلاثة ثلاثة، او اربعة اربعة، وقد ورد في هذه الآية بستة ستة، فقد ذكرت آية البحث في طرف الذم والقبح حب الشهوات من:
الأول : النساء.
الثاني : البنين.
الثالث : القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
الرابع : الخيل المسومة.
الخامس : الأنعام.
السادس : الحرث.
وقد قابلتها هذه الآية بستة من مصاديق البشارة ضمن مدح المتقين وهي :
الأولى : حسن المآب.
الثانية : الإقامة في جنات.3
الثالثة : جريان الأنهار من تحتها.
الرابعة : الخلود فيها.
الخامسة : ازواج مطهرة.
السادسة : رضوان من الله.
ومن الإعجاز ان حسن المآب جاء في ذيل الآية السابقة التي تتضمن ذم الشهوات وأهلها لتكون خاتمة الآية زاجرة عنها ودعوة لتتمة الموضوع في الآية التي تلتها.
قوله تعالى [فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا]
الفئة الطائفة من الناس، وظاهرها انها الفئة التي تجتمع على أمر يكون هوية لها، والإلتقاء له معان متعددة منها الإجتماع والوفاق ومنها المواجهة والقتال وهو المعنى المقصود في المقام، وجاء وصف الفئة للمسلمين وللكافرين مع المائز في الولاء والنية والقصد من التلاقي ولكنه لا يدل على التكافئ بين الفئتين لأن اتحاد الاسم لا يدل على اتحاد المسمى ويؤكد على عزم كل من الفريقين على القتال وان السبيل الى الهدنة والوفاق اصبح منقطعاً وهذا من الخلل الذي يسجل على الكفار خصوصاً وانهم خرجوا من مكة بسبب عير ابي سفيان مع انه كتب لهم بنجاته وسلامته وتوجهه الى مكة.
مما يعني ظهور امارات التعدي من الكافرين وكان بميسورهم الرجوع الى مكة بعد انتهاء الغرض من الخروج، وهذا التعدي من اسباب الهزيمة، وفيه تحذير للكافرين بعدم ابتداء المسلمين بالقتال، ودعوة للمسلمين بالذب عن الإسلام والإستعداد للقتال ان اختاره الكافرون، فالمدد الإلهي في بدر لم يكن منحصراً وخاصاً بها، لأن الله عز وجل واسع كريم بل انه من باب المثال وان اختلفت مقولة الكم والكيف لهذا المدد من حال الى اخرى، ولكنه يبقى موجوداً وبما يؤدي الى النصر.
ان ذكر التقاء المسلمين والكافرين دعوة قرآنية للبحث في اسباب هذا اللقاء ومقدماته وكيفية استعداد المسلمين له، ولو تعرض المسلمون للهزيمة يومها فماذا يحدث، لا أقل ان اللوم سيتوجه لهم بحجة عدم الإعداد للقتال والتعجل في المواجهة مع الكفر، لقد جعل الله من أهل بدر آية وموعظة ودلالة على صدق الإيمان ونواة لبناء الإسلام، والمراد من الفئتين في الآية هم:
الفئة الأولى: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا معه يوم بدر.
الفئة الثانية: المشركون من قريش ومن التحق بهم وكان فيهم كبار قريش مثل عتبة بن ربيعة، وابي جهل.
ومن الآيات ان اجماع علماء التفسير والفقه والسير والتراجم على هذا الحصر للفئتين، مما يدل على حصانة اخبار ووقائع القرآن من التشويه والتحريف، اذ ان التحريف يؤثر سلباً على الدروس المستنبطة من الواقعة والتوثيق القرآني لها، فاراد الله عز وجل الإنتفاع الأتم والأكمل منها وهو من أسرار تسميتها آية، فكيف تسمى آية لولا ظهورها ودلالتها وعدم تحريف اخبارها.
وكون الواقعة معلومة بتفاصيلها عند أجيال المسلمين وهو دليل وشاهد على ان الخطاب في قوله تعالى [كَانَ لَكُمْ] أي لمن يصل له الخطاب القرآني وتفاصيل تلك الواقعة ونتائجها التي ثبتها القرآن أو الخطاب وحده ليحقق ويتابع بنفسه وقائع معركة بدر، ولم تذكر الآية معركة بدر بالاسم مما يدل على موضوعية الإعتبار من الشواهد وسميت بدراً نسبة الى ماء في موضع المعركة بين مكة والمدينة.
وقوله تعالى [الْتَقَتَا] حجة ودلالة على حصول اللقاء باختيار كل من الفئتين وعزمهما على المواجهة، وهذا الإختيار يدل على توقع كل منهما تحقيق النصر والظفر بالأخرى المسلمون بسلاح الإيمان، والكفار بالعدة والعدد،
فمن مصاديق الآية ان الله عز وجل اراد ان يرى الكافرون موضوعية سلاح الإيمان وأثره الحاسم في سير المعركة وتعيين الفئة التي لها الغلبة، ومن الآيات التي يعيشها الناس ان سلاح الإيمان لم تعرف قوته وأثره الا بعد انتهاء المعركة وتقييم النتائج.
ولو يفطن الناس لهذه الحقيقة لما وقعت كثير من المعارك، وقد انتبه اليها وفد نصارى نجران الذين نزلت اوائل هذه السورة الى نيف وثمانين آية فيهم كما في حديث المباهلة فقد ابوا مباهلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ورضوا بالجزية وخافوا من دعائه وعرفوا انه الهلاك العام لهم.
بينما في بدر كان الدعــاء مع الجهــاد في سبيله تعالى وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشــغولاً بالدعــاء من غـير ان يتعارض الدعاء مع قيادة المعركة، كان بميســـور المشـركين العودة في أي ساعة حتى حين اللقاء، ولم يبدأهــم المســتلمون بالقـتال وهذا ايضاً من الآيات لتتم الحجة عليهم ويصدق عليهم عنوان التعدي والظلم للذات وللغير.
ولقد جاء اللوم والندم بين المشركين وفي منتدياتهم على ما بقي من عزيمتهم وزاد من بث الفرقة والخوف في صفوفهم، وكان بميسور المسلمين ان يواصلوا مطاردتهم ويهاجموهم في عقر دارهم ولا يتركهم يعدوا العدة من جديد للكر عليهم،
ولكن مقومات الآية تمت بتحقيق النصر ونتائجه وأعطيت فسحة من الوقت للكافرين ليتوبوا ويرجعوا الى رشدهم ولكنهم ابو الا الجحود والعناد واخذوا يعدون العدة للهجوم على المسلمين فمن وجوه آية معركة بدر لزوم اعتبار الكافرين واتعاظهم من واقعة بدر ونتائجها والكف عن المسلمين وعدم مهاجمتهم في المدينة خصوصاً وانهم أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته واقرباؤه، والى الآن يستعين القائد والسياسي والزعيم بقبيلته وأهل بلدته وهم أول انصاره ومؤازريه، بينما الذي حصل في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخلافه، نعــم مـن الأنبياء من اذاه قــومه وتعر ض واصــحابه لأشــد البلاء منهم.
ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم اختلف في هذه ايضاً عن الأنبياء اذ رزقه الله الهجرة وهيء له الأنصار المخلصين الذين يؤثرون المهاجرين على أنفسهم مما يدل على ارادته تعالى لتثبيت دعائم الإسلام وظهوره وديمومته، فالوظــيفة الشرعية لقريش تقتضي نصرة النبي ليس لأنه منهم فقط بل لوجود البشارات بينهم بنبوته، ورؤية المعجزات وآيات التنزيل ولكنهم أصروا على الجحود عناداً وحسداً فكان جــزاؤهم الهزيمة بآية مــنه تعالى وتوثيقها في القرآن الى يوم القيامة.
ولماذا سمي هذا اللقاء آية، فيه وجوه :
الأول : تأهل المســلمين لمواجهة الكفار، وهم أمر لا يتم لولا العناية الإلهية.
الثاني : دلالة المعركة على صـيرورة المسلمين فرقة واحدة، وأمة مجتمعة على الخير والهدى.
الثالث : عــزم المسلمين على الدفــاع عــن الإسـلام بأنفســهم، والنفس أغلى ما يملك الإنسان، فلا يضــعها عرضــة للزهوق الا بأغــلى شــيء.
الرابع : ذات اللقاء آية في موضوعه وحكمه، فالتقاء الإيمان والكفر آية من عنده تعالى تبين الصراع والتناقض الحاد بين الفريقين وانه لا واسطة بينهما.
الخامس : انها آية في دعوة المسلمين للإستفادة بضيائها والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
السادس : فيها عبرة لأولي القوة وذوي الشوكة بالإعتبار من اسلافهم في بدر، وما أصابهم من الهزيمة والخسارة.
السابع : الآية دعوة للتدبر في قصــة المعركة واسبابها ومقدماتها ونتائجها وما أدت اليه من التغيير والإصلاح في القيم والمفاهيم وموازين القوة.
الثامن : تعتبر معركة بدر شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد تحدى الكفار بفئة قليلة ليس لها من السلاح الى التوكل على الله وانتظار الوعد الإلهي والبشارات على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع :واقعة بدر دعــوة للمســلمين للإتحاد والتآخي ونبذ الفرقة والتشتت.
العاشر : لم يكن المسلمون خارجين للقتال ولم يأخذوا للحرب عدتها، فمثلاً مع المشركين مائة فرس، ومع المسلمين فرسين.
الحادي عشر : ظاهر الأمر ووفق حسابات النصر او الهزيمة فان المشركين اكثر في العدد والعدة والتعبئة والتأهب للقتال، وليس مع المسلمين الا الإيمان، وهذا وحده آية فحتى الإيمان يحتاج الى سلاح واسباب مادية لمقاتلة العدو، ولما تحقق النصر فلابد انه معجزة عقلية وحسية منه تعالى.
الثاني عشر : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع محض .
الثالث عشر : كفاية آيات القرآن كحجة وبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ان وصف واقعة بدر بانها آية فلسفة قرآنية خاصة تتجلى بها علوم ومباحث عديدة، فما هي افراد تلك الآية، فيه وجوه :
الأول : اللقاء وحده آية لأنه بين الإسلام والكفر.
الثاني : معركة بدر هي أول معارك المسلمين.
الثالث : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسـلم مع المســلمين في اللقاء، فمقتضى قواعد الحرب ان يكون القائد في الخطوط الخلفية احترازاً فكيف وانه خـاتم النبيين وســيد المرسلين، ولكنه كان وسط المعركة، وكان حضوره المبارك من أهم أفراد العلة المادية للنصر الإلهي.
الرابع : البون الشاسع والكبير في العدد والعدة، ورجحان كفة المشركين الأمر الذي جعلهم يصرون على الحرب والقتال، فكان هذا الإصرار حجة تأريخية عليهم ودرساً للأجيال.
الخامس : انه لقاء الفصل والحسم، فمع انه أول لقاء الا ان العلة الغائية للكفار كانت وأد الإسلام، لذا ورد عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وعليه رداؤه وازاره ثم قال: اللهم أين ما وعدتني اللهم انجز ما وعدتني اللهم انك ان تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تُعبد في الارض أبدا…) ( ) الحديث.
السادس : لقد كانت جماعــات وملل أخــرى تنتــظر نتيجة المعــركة وما يؤول اليه امرها، كاليهــود في المدينة والقبائل العربية المحيطة بالمدينة وبمكة المكرمة وجماعة المنافقين ومن ورائهم كل فئة وجماعة تتطلع الى هذا اللقاء فصــار آية من خلال أثره الإجتماعي والعقائدي.
السابع : شهدت المدينة بعد معركة بر حركة دؤوبة واسلاماً لأشخاص وجماعات وقبائل مما يدل على ان بدر كانت علامة صدق النبوة وشاهداً على العون الإلهي.
الثامن : حب المسلمين للشهادة والتضحية وعدم ترددهم في مواجهة الكفار مع قوة العدو وشدة بطشه.
التاسع : ارادة قصد القربة الظاهرة عند المسلمين لقيد (في سبيل الله) وانهم لم يقاتلوا لدنيا وجاه ومصالح خاصة.
العاشر : رؤية العدو بخلاف الواقع، وهو جزء علة للنصر.
الحادي عشر : ظاهر قوله تعالى [آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ] ان الآية في الفئتين وفي اللقاء ، فقد أختار الكفار المواجهة بالسلاح فنزل بهم البلاء ليكون آية وعبرة.
الثاني عشر : مقدمات القتال درس وعبرة للمسلمين باتخاذ صيغ الموعظة والحكمة والدعوة الى الله بالتي هي أحسن وعدم المبادرة الى القتال الا عندما يصر العدو عليه ويسعى اليه.
الثالث عشر : نزول النصر من عنده تعالى آية ورحمة، وعلامة بينة بلحاظ عدم التكافؤ بين الطرفين، فلو كان تساو في عدد الرجال او العدة او ان الفارق بينهما ليس كبيراً لأدعى قوم ان انتصار المسلمين كان وفق قوانين الأسباب والمسببات، ولكن عدد المشركين ثلاثة اضعاف عدد المسلمين، اما الفرق في العدة فأكثر بكثير، فنزول النصر على المسلمين آية ظاهرة ومعجزة وأمر خارق لا يمكن ستره او الإعراض عنه.
الرابع عشر : لقد كانت معركة بدر آية في اقبال المسلمين على القتال وعدم تخلفهم عنه، وقد تقدم في سورة البقرة كيف ان أصحاب طالوت تخلفوا عن القتال مع أنهم رأوا الآيات وجاءهم التابوت فيه سكينة قال تعالى [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ]( ).
الخامس عشر : لقد اثبتت معركة بدر أهلية المسلمين لخلافة الأرض وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عنده تعالى الأمر الذي يترشح عنه التزامهم بما فيه من الأحكام، ومنها الجهاد في سبيله تعالى.
السادس عشر : لم يكن المسلمون في بدر في حال الهجوم بل انهم للدفاع أقرب، وتلك حجة تأريخية تبين ان الإسلام هو السلام، وان لم يشرعوا بالقتال الا لأغراض الدفاع وحفظ الذات.
وهل قصد (في سبيل الله) امر إضافي وعنوان اعتباري ثانوي الجواب: لا، بل هو أصل في موضوع القتال وتحمل ويلاته وحر السيف لذا جاء ذكره في الآية على نحو الإستقلال والحصر القصدي لجماعة المسلمين.
وتبين الآية اخلاص وصدق نية المسلمين فلم يكتفوا بالخروج بل كان قتالهم في سبيل الله، وتارة يجاهــد الإنســان بلسانه او بقلمه او بماله، أو انه يتظاهر بالعزم على القتال ولكنــه يقـف عند أول محطة للهدنة والتسوية او يرضى بالحد الأدنى، ولا يستمر في سعيه وعمله وعزيمته، اما المسلمون فانهم بلغوا أعلى مراتب الصدق والجهاد ودخلوا مرحلة القتال من غير تردد او تخاذل أو دعوة للتدارك خصوصاً وانهم كانوا محتاجين لدفع المواجهة وارجائها الى حين الإكتفاء بالمواجهة من دون قتال.
وعودة المسلمين سالمين نصر لهم في المدينة واقرار من المشركين بكياناتهم ووجودهم الديني والإجتماعي ويبدو ان المشركين ادركوا هذه الحقيقة وكانوا يعلمون بانتشار اخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم او الايات التي جاء بها بين القبائل وأصبحت تفاصيل الوحي حديث الركبان، فأصروا على القتال لوقف المد الإسلامي، وازاء هذه الحال اصبح قصد القربة ضرورة وحاجة.
والاية مدح لجميع المسلمين الذين حضروا معركة بدر لإستغراق المدح لهم جميعاً، نعم لو ورد دليل مخصص من القرآن اوالسنة النبوية يستثني بعضهم لخرج بالتخصص ولكن لم يرد مثل هذا الدليل فيبقى حكم الثناء ومدح المسلمين على عموماته، وهو لطف منه تعالى وعناية بالمسلمين ومنع من الريب والحسد.
والآية دعوة للمسلمين لإستحضار قصد القربة في الأعمال العبادية، وجعل سعيهم في دروب الجهاد في سبيل الله وفيه تهذيب للنفوس واجتناب للجــهالة والعصــبية لقد وقعــت معركـة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من الســنة الثانــية للهجــرة النبــوية الشــريفـة لتغير مجــرى التأريخ وترســخ الإســلام في الأرض ويتــدفق الناس أفواجاً على المدينــة لتحــقــق النصـــر وما فيــه مــن الدلالات والآيـات الباهرات.
فمن اعجاز القرآن ان يعد الكافرين بالهزيمة والخسارة في الآية السابقة، ويأتي بهذه الآية ليخبر عن حصول النصر والظفر للمسلمين وليس بين الآيتين فاصلة وكذا في الواقع ليس بين الوعيد وحدوثه واقعاً في فاصلة زمانية تذكر، لذا اشرنا في الآية السابقة الى دلالة السين في قوله تعالى [سَتُغْلَبُونَ] على المستقبل القريب.
ان الشواهد على تحقيق النصر بخلاف قاعدة الأسباب المادية ومسبباتها كثيرة في تأريخ الموحدين كما تقدم في قصة طالوت وقوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( )، ولكن الآية في بدر لم تنحصر بالقلة مقابل الكثرة بل ببداية انشاء جيش المسلمين، وعصر تأسيس قواعد البناء الإسلامي ومجيء القرآن والوحي مطلقاً بالوعد بالنصر والظفر ولإنفراد معركة بدر من بين معارك الموحدين في التأريخ بنتائج ذات صبغة عالمية عقائدية لم تسـتطع معركة أن تحقق ما حققته بدر من الغايات السامية وتوجه المسلمين الى سوح المعارك، وكانت سبباً بتجديد روح الإيمان وحب الجهاد في سبيله تعالى في نفوس المسلمين.
فلا غرابة ان يضفي عليها القرآن صفة (آية) لتبقى فخراً وعزاً للمسلمين ومناراً ينير دروبهم، لقد أعطت بدر والنصر فيها لأجيال المسلمين درساً بمواجهة الكفر، وأصبح المسلمون لا يعبأون بالعدو مهما كانت قوته، وهي ملائمة لزمان التباين وتفوق الكفار في العدة والعدد، لقد كان النصر في معركة بدر هبة ومنحة لكل مسلم ومسلمة الى يوم القيامة لا للإعتبار منها، بل هي في ذاتها منة الهية كريمة على المسلمين الموجود منهم والمعدوم.
استقبل أهل المدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالشكر لله والإستبشار وكذا المسلمون عند قراءة هذه الآية او عند استحضار واقعة بدر، ومن الإعجاز ان ترى القرآن، يولي عناية خاصة بمعركة بدر وينعتها بانها آية، وفيه توكيد على اعجاز القرآن، والإعجاز في المقام على وجوه :
الأول : جعل المسلمين قادرين على القتال.
الثاني : دخول المعركة بنية في سبيل الله وطلب مرضاته تعالى.
الثالث : مواجهة الكفار مع ما عندهم من القوة الظاهرة للعيان.
الرابع : تجاوز اعتبارات صلة الرحـم والقربى التي كانت تربط المسلمين مع الكفار، كما في المهاجرين مع عمومتهم من كفار قريش.
الخامس : انتهاء المعركة بانتصار المسلمين مع قلة عددهم.
السادس : ذكر القرآن لمعركة بدر بعد انتهائها لبيان عظيم فضله على المسلمين، وتوكيد موضوعيتها في تأريخ الإسلام لذا سمى القرآن يوم بدر بانه يوم الفرقان.
وعنوان (في سبيل الله) له مصاديق متعددة منها انه من مصارف الزكاة، ويشمل المساجد والقناطر ومساعدة الفقراء والمحتاجين ومطلق الإنفاق قربة الى الله وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودرء الفتن وسد الخلة، واصلاح ذات البين، والصدقة المندوبة، والكلمة الطيبة، والموعظة وتعظيم شعائر الله، الا ان الآية ذكرت القتال على نحو الخصوص وهو أسمى وأعلى مراتب الفعل في سبيل الله فلذا استحقوا المدح والثناء والخلود بالذكر الحسن في الدنيا مقدمة وعلامة عن حسن الجزاء في الآخرة.
ومن الآيات في القرآن ورود الخبر وارادة مقاصد سامية ومضامين قدسية متجددة منه، والآية دعوة للمسلمين لإكرام أهل بدر مطلقاً وشهداء بدر خاصة الذين أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يدفنوا بدمائهم ليلاقوا ربهم وأوداجهم تشخب دماً، وتبين الآية موضــوعية قصــد القربـة في ترجيــح كفة النصــر والــفــوز، فالفئــة القليــلــة تصــبح قــوية قـادرة على تحقيــق النصــر اذا كان قتــالها في سبيل الله.
وصفت الآية المسلمين بانهم فئة تقاتل في سبيل الله ويشتركون مع الكفار بعنوان (فئة) ومجال الإقتتال لأنه نوع مفاعلة بين الإثنين، فأنفرد المسلمون في المقام بان قتالهم (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهذا الإختصاص نوع مدح لهم وتوكيد على اعتباره عند الشروع بالقتال، وتحذير من القتال لغير سبب او علة وهل يجوز جعل السبب مشتركاً ليكون في سبيل الله مع سبب دنيوي، وحمية وعصبية، الجواب لا.
فالآية تبين خلوص السبب وان يكون في مرضــاة الله وعـشقاً وحباً له وشوقاً الى لقائه، فان أفضل وجوه الحشر ما كان عن لقاء العدو والقتال في ســبيله تعالى، وهــو حــرز وأمان في النشأتين، لقد أراد الله عز وجــل للمســـلمين أخلاص النية وصدق العزيمة والإنقطاع اليه تعالى.
ومن ينوي العزم على القتال في سبيله تعالى، ولم يقاتل فانه يصدق في عمله ويحسن الإمتثال لأوامره تعالى ويتجنب معاصيه ولا يفعل الا ما يوجب مرضاته تعالى.
ان مدح المقاتلين في سبيله تعالى دليل على وجود المصلحة والملاك فيه وبما انه عبارة عن تضحية بالنفس وتعريضها للتلف فيعتبر ضرورة وحاجة لابد منها، وعليها تتوقف سلامة المجتمعات والنفوس، أما دخول معركة وخسارة أفراد قليلين فتح الآفاق امام المسلمين وابقاهم أعزة الى يوم القيامة.
قوله تعالى [وَأُخْرَى كَافِرَةٌ]
المقارنة بين ذكر الفئتين فيه دلالات اعجازية منها :
الأولى : جاء وصف المسلمين بالقصد من القتال وفيه تشريف لهم، وذكر المشركين بصفة الكفر، وفيه ذم وتقبيح لهم.
الثانية : تدل الآية على تأصل الكفر وعدم تخلي المشركين عنه حتى ساعة القتال.
الثالثة : تبين الآية التضاد والتعارض بين الفريقين وعدم امكان الوفاق والوئام بينهما.
الرابعة : تبعث الآية البغض والنفرة في القلوب من الكفر خصوصاً مع اقتــرانه بالجــحــود ثم الهزيمــة والخسارة فالكافرون أنفسهم يلعنون الكفر وما وصلوا اليه بسببه مع عدم وجود موضوع للقتال.
الخامسة : في الآية تأديب وتعليم للمسلمين وجعل لقاء العدو امراً محتملاً ومتوقعاً، ليكونوا على استعداد لهذا اللقاء وعدم المباغتة فيه، فقد يعتقد المؤمن بان الكافرين لا يجرأون على مواجهة والإسلام والتنزيل والنبوة.
السادسة : تنقل الآية الذهــن الى ســاحة المعركــة وتجعل الإنسان يتابع بحرص وقائع المعركة ونفسه تميل الى الحق وترجو النصر للمسـلمين ، فلم تبق الآية للكفار اعواناً أو أنصاراً، لأن الكفر قبيح ذاتاً.
السابعة : تتضمن الآية في مفهومها تساؤلاً وهو اذا كان المسلمون يقاتلون في سبيل الله، فعلى أي شيء يقاتل الكفار وما هي نيتهم وقصدهم فيه وجوه :
الأول : البقاء على الكفر، ولكنه امر لا يسبب خروجهم للقتال وابتداءهم به.
الثاني : انهم لا يقدرون على البقاء على الكفر مع اتساع رقعة الإسلام، ارادوا التعجيل لوأد الإسلام.
الثالث : حمل المسلمين على الإرتداد.
الرابع : التحدي والعناد والمحافظة على منازل الرياسة والزعامة والشأن بين القبائل.
فتظهر الآية اصرار الكافرين على الضلالة وعدم اختيار التوبة، وانهم اســتحقوا القتال والهزيمة لبقــائهم علــى الكــفر، ومن آداب القتال ان ينصح ويعظ المسلمون الكافرين قبل المعركة كفرصة للتدارك وحقن الدماء واقامة الحجة عليهم، وليكون عذراً وقوة اضافية للمسلمين.
قوله تعالى [يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ]
بينما جاء الوصف بذكر الفئتين على نحو التثنية، جاء هذا الشطر بصيغة جمع المذكر السالم وفيه آية اعجازية بلاغية الى جانب الدلالات العقائدية ومنها :
الأولى : المراد من (مِثْلَيْهِمْ) هو الضعف، حــذفت النــون مـن مثلين للإضافة.
الثانية : يرى الكفار المسلمين ضعف عدد المشركين، بينما لا يبلغ عدد المسلمين الا ثلث عدد الكفار تقريباً، فتكون المضاعفة أكثر من ستة أضعاف عدد المسلمين الحقيقي، فيظن الكفار ان عدد المسلمين يبلغ نحو الفي رجل.
الثالثة : يرى الكفار عدد المسلمين ضعف عددهم الحقيقي، والأصل هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيظنهم الكفار ستمائة وستة وعشرين رجلاً.
الرابعة : يقلل الله عدد الكفار في أعين المسلمين، فيظنوا ان عدد المشركين ضعف عدد المسـلمين، فعدد جيش الكفار الحقيقي هو ألف ، بينما يظنهم المسلمون ســتمائة ونيفاً وعشرين، ليكون من عمومات قوله تعالى [أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]( )، ولكن القدر المتيقن من الآية هو العدد الواقعي، ولا يعني حصر نصر المسلمين بما اذا كان الكفار ضعفهم دونما زاد على الضعف، فاثبات شيء لشيء لا يدل عن نفيه عن غيره بل فيه اخبار عن الإطراد مع اتساع الفارق لإعتبار الإيمان في المواجهة.
الخامسة : يرى المسلمون الكافرين ضعف عددهم الأصلي، فاذا كان عدد الكفار الف رجل، فان المسلمين يرونهم الفين، ولم يقل أحد بهذا القول.
السادسة : الرؤية أعم من موضــوع العــدد، وتتعـلق بالمعتقد والرأي، فالكفار لم يلتفتــوا الى خصــائص الإيمان، ويظــنون ان اللقاء مبني على الخلاف فقط، ولكنه خلاف منطوق الآية لأنها تقول (مِثْلَيْهِمْ) وهو عنوان الضعف والكثرة، والكم وليس المعتقد والرأي.
والأقوى هو الجهة الثانية والثالثة والرابعة بالتعدد في المعنى، فكل من الفريقين يرى خلاف الواقع فضلاً منه تعالى، فالمسلمون لا يرون الكفار إلا ضعف عدد المسلمين تخفيفاً عن المسلمين، والكفار يظنون المسلمين ضعف عددهم الحقيقي.
وسبب هذا التباين ان الإيمان يعطي للإنسان قوة اضافية ويجعله يتحدى الكــافر ويــراه امامه ضعيفاً، اما الكافر فان عينه تمتلأ رعباً وخوفاً من المسلمين الذين يقبلون على القتال بشوق حباً بالشهادة ويستبســلون في القتال فيظــنهم الكافــر ضـعف ما هم عليه من العدد لقوة اندفــاعهم وتفانيهــم في ســاحة المعركــة وشــد بعضهم لعضد الآخر.
فيأتي النفع للمســلمين في المقــام من جهتين التقليل والتكثير وتضعف شــوكة الكافــرين من الجهــتين ايضاً، وهــل فيه غـبن للكافرين، الجواب لا، فمع انهم يســتحــقون البــلاء فـان هذه الرؤية تأتي من خلال أسباب ظاهــرية فهــي نتيجة لحال المسلمين في ايمانهم وقوة بأسهم واخلاصهم وعزمهم على مواصلة القتال وسرعة اجهازهم على العدو.
والمراد من الرؤية في الآية هو الظن الذي هو أحد طرفي التصديق وان لم يرق الى اليقين، وللظن والحسبان اعتبار في باب الإعتقاد والرؤية خصوصاً عند الشدة والعسر وتعذر النظر الى الأمور بمنظارها الحقيقي، ويبدو ان معركة بدر كانت سريعة وحاسمة، ولإثارة الغبار وكثرة الأصوات اثر في الظن فالتكبير مثلاً امر غير معهود عند الكفار فيسمعونه جماعياً مدوياً يقذف الرعب والفزع في قلوبهم بحيث ارتبك العدو لذا عجلوا بالإنهزام والإنسحاب من المعركة تاركين قتلاهم كما أسر المسلمون عدداً من وجهائهم.
وتبين الآية سراً من أسرار النصر الإلهي، وكيفية مباركة لتغلب المسلمين على غيرهم، وسلاحاً لظفر يتجلى بتقليل قوة العدو وتفخيم القوة الذاتية عندما يكون الكفار أكثر عدداً، وقد تكون المسألة مختلفة لو كان عدد المسلمين هو الأكثر لكي لا يصاب المسلمون بالغرور ويدخلون المعركة من غير استعداد وتعبئة كافية كما حصل في حنين [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ]( ).
وربما فطن المشركون الى هذه المسألة وفضله تعالى على المسلمين في مسألة الرؤية والظن وبذلوا الوسع وسخروا أجهزة الإعلام لإظهار القوة والإعداد على حقيقتها بل بما يريدون من التوجيه والتصوير، والجواب ان النصر الإلهي لا ينحصر بطريقة واحدة، وان القلة والكثرة كعنوانين اضافيين انتزعها المسلمون بفضله تعالى واعانتهم على القتال بصدق وعزيمة ولوجود خصوصية ينفرد بها المسلمون وهي حب الشهادة واليقين في المبدأ.
وقوله تعالى [رَأْيَ الْعَيْنِ] آية اعجــازية وتوكيد لا يقدر عليه الا الله عز وجل لما فيــه من التحــدي واثبات ان الرؤيــة لم تكــن وهماً او وهناً بل ان حاسة البصر ظلت سليمة عند الكفار لتصبح سلاحاً ضدهم، وهو مقــدمة ومثــال دنيوي حاضر ليوم الحشر الذي اخبرت عنه الآية السـابقة وشــهادة الحواس عليهــم يومئذ [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ] ( ) فكما تخذلهم جوارحهم وحواسهم يوم القيامة، كذا تخذلهم ابصارهم عند مقاتلتهم للمسلمين، فيظنون الاعداد والجمع بخلاف الواقع، لتكون هذه الرؤية مقدمة لخسارتهم وهزيمتهم.
فخسارة الكافر تبدأ من ذاته ومن جوارحه وحواسه فكما ان الجواد يكبو والسيف ينبو، فان جوارح وحواس الكافر تقوده الى الهزيمة، وليس من نصر أعظم من نصــر يشارك في صنعه اعضاء العدو التي ترجع الى فطرتها وأصل خلقتها عند المواجهة وهو جزء من الآثار المباركة لنفخ الروح في آدم منه تعالى، وليكون هذا النفخ حاضراً في ميادين الحياة المختلفة ولم يكن مجرد نفخ ابتدائي لبعث الروح في آدم، خصوصاً وانه تعالى اذا أنعم نعمة على اهل الأرض ظلت جارية تترشح افاضاتها هنا وهناك.
لقد اراد الكفار مقاومة الإسلام في الخارج التي يتمثل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولم يكفوا عنهم حينما غادروا الى المدينة وتحملوا اعباء الغربة ومشاق الهجرة والسفر، بل جاءوا من مكة خلفهم وقطعوا أكثر من أربعمائة كيلو متراً آنذاك وكان أكثرهم يسير مشياً على الأقدام فلما جرى القتال قامت الأبصار مطلقاً بوظائفها وأظهرت ابصار المسلمين والكافرين ميلاً الى المسلمين وساهمت في تحقيق النصر على الكفار، ولم يلتفت احد منهم الى لزوم معاقبة بصره وكيف يعاقبه وهو أعز شيء عنده، بل لم يتهموا ابصارهم في شيء من الخذلان، وهذا من الحصانة التي يجعلها الله عز وجل على الجوارح التي تعمل في طاعته ومرضاته تعالى.
ولقد أمد الله عز وجل رسوله والمسلمين في يوم بدر بالملائكة كما في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( )، وكانت العلامة صوفاً أبيض على نواصي وأذناب خيولهم، فهل تكون الزيادة بلحاظ وجود الملائكة خصوصاً وانها رؤية عين، الأقــوى بخــلافه وان الزيـادة او النقيصة متعلقة بالفئتين.
وعودة الضمير في (يرونهم) و(مثليهم) الى المسلمين والكافرين، لبيان الإعجاز ساعة المعركة وانه لا ينحصر بالنصر فقط، ونزول الملائكة كان فيضاً الهياً يوم بدر، ولم يكن مستديماً في كل معركة من معارك المسلمين.
قاعدة جديدة (الظن العددي)
لله عز وجل نعم لا تحصى على الناس عامة وعلى المسلمين خاصة، وما كان الظفر يتحقق في معركة بدر لولا المدد والفضل الإلهي ومنه التصور الذهني للجماعة المقاتلة.
رؤية الزيادة والنقيصة دائمة متصلة ويمكن ان نطلق عليها اسم قاعدة (الظن العددي)، أي ان المسلمين يظنون عدد الكفار اقل مما هو بالأصل، والكفار يرون عدد المسلمين أكثر مما هو بالأصل وان كان هذا الظن يحصل باســباب طبيعيــة ظاهــرية كما لو تـرشح عن لمعان السيوف، وصهيل الخيل وجعجعت الجمال أي أصواتها اذا اجتمعت والغبار المتصاعد من اندفاع المسلمين وقوة بأس المسلمين وتهليلهم وتكبيرهم ونحوها.
لقد ذكرت هذه الآية اللقاء بين المسلمين والكافرين بعنوان الآية وهذه الآية متعددة المصاديق، وكل قسم منها يتفرع الى أقسام اعجازية تتداخل بينها ولا ينحصر موضوعها بالنصر والغلبة في المعركة، وهل قاعدة (الظن العددي) خاصة بالمعركة ام تشمل ما هو خارجها ومتفرع عنها الأصح هو الثاني، لوجوه :
الأول : اصالة الإطلاق وعدم وجود مخصص.
الثاني : تعلق الرؤية والظن والعددي بالفئة والجماعة، وعنوان الفئة غير منحصر بأوان المعركة واللقاء.
الثالث : هذا الظن سابق للمعركة وان الأخبار تصل الى الكفار بكثرة الذين يدخلون الإسلام من ابناء القبائل ومن أهل المدينة، وكيف ان المدينة ضاقت بعدد المسلمين وبنى لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصُفة في باب المسجد، ولكن الأمر لا ينحصر في الأخبار فقط لأن الآية قيدت الكثرة برؤيا العين.
وهذا القيد جاء لمنع اللبس والتأويل واتباع المتشابه ابتغاء الفتنة بمعنى ان قيام الكفار باتباع المتشابه امر مستديم ويتعلق بالوقائع والحوادث ايضاً وليس بالآيات المحكمة والمتشابهة، فلذا يعتبر قوله تعالى [رَأْيَ الْعَيْنِ] من المحكم اللفظي والفعلي.
وتبعث الآية الخوف والفزع في قلوب الكفار وفيها اخبار عن مدد اضافي خلاف الحسابات العسكرية ولغة الأرقام، ويفوق الحرب الإعلامية، لأنه يظهر على نحو دفعي ساعة المعركة ويسبب غشاوة على أبصار أصحاب القرار عند الكفار، وان هذه الآية جاءت خاصة لأهل بدر تصديقاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتشريفاً له ولأصحابه جزاء عاجلاً على مبادرتهم لدخول الإسلام ومبادرتهم للخروج الى أول معارك الإسلام الا انها نعمة باقية عند المسلمين، لأن الله عز وجل جواد كريم اذا أنعم نعمة على أهل الأرض او على المسلمين خاصة فانه لا يرفعها، ومع وجود المقتضي وفقد المانع فان الآية باقية مستديمة.
لقد اراد الله عز وجل للمسلمين العز والرفعة والمنعة ومن أسبابها قاعدة (الظن العددي) التي لا يقتطف ثمارها الا المسلمون وهذه القاعدة لا تنحصر برؤية العدو بل تشمل رؤية حال الذات، فالله عزوجل يجعل المسلمين يرون أنفسهم أكثر من عددهم الواقعي، لقوة بأسهم وحسن توكلهم على الله وعدم خشيتهم من الموت ولرؤية النصر قريباً وتآزرهم ورص صفوفهم، وتقدمهم وزحفهم في المعركة كرجل واحد واجتماعهم على التوحيد، والتصديق بالنبوة.
اما الكفار فانهم فانهم يرون انفسهم أقل من عددهم الأصلي لما يبعثه الله عز وجل في نفوسهم من الخوف والفزع ولعدم وجود موضوع يستحق ان يقاتلوا عليه، ولإدراكهم قبح الكفر عقلاً، والآية لم تذكر هذا القسم من الظن العددي، وفيه وجهان:
الأول: ان مفهوم الآية يدل عليه وان رؤية العدو أقل أو اكثر مما هو عليه فرع رؤية الذات، فالمسلمون يرون الكافرين أقل من عددهم الأصلي لأن الإيمان جعلهم يرون انفسهم أمة كثيرة، بالإضافة الى المدد الإلهي في تقليل عدد الكفار في أعينهم والكفار يرون أنفسهم أمة كثيرة، والكفار يرون المسلمين ضعف ما هم عليه بسبب شعورهم بالضعف والعجز.
الثاني: ان الآية جاءت بذكر وجه واحد من (الظن العددي) وهو أعم مما ذكر لذا وصفت اللقاء بانه آية، فهذا الوصف عنوان جامع مانع، جامع لأفراد الإعجاز، ومانع من حصرها وتقييدها من غير دليل معتبر.
قوله تعالى [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]
اخبار عن القدرة والمشيئة المطلقة لله تعالى، وان مقاليد الأمور بيده سبحانه وكلها مستجيبة له، وفي الآية وجوه :
الأول : تحقيــق النصر للمسلمين على نحو الإطلاق والعموم الإستغراقي.
الثاني : لا يتم النصر الا بمشيئته واذنه تعالى، وهو القادر على تحقيق النصر والغلبة لمن يشاء.
الثالث : كل معركة لها شأن وخصوصية، والآية دعوة للتوجه بالدعاء والتضرع لتحقيق النصر مع حسن التوكل عليه سبحانه.
الرابع : وران المشيئة مع الإيمان.
الخامس : جاءت الآية على نحــو الإطــلاق من غير تقيــيد وبـيان جهة النصر، فيمكن ان يكون النصر لغير المسلمين، ولكنه بعيد ومخالف لمنطوق الآيات الأخرى قال تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتبين الآية ان النصر الإلهي تأييد ومدد متصل، ومنافعه أعم من ان تنحصر بذات المعركة، والتأييد هنا يحتمل أمور:
الأول: خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثاني: التأييد عام ويشمل المسلمين الذين حضروا معركة بدر قال تعالى [فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( ).
الثالث: النصر للإسلام والمسلمين مطلقاً.
وهذه الوجــوه الثلاثة جميعــها من مصــاديق الآية ولا تعارض بينها، وكل واحد منها في طول الآخر ومرتبط معه، وتدل الآية على وجود تأييد ونصر منه تعالى، وبين التأييد والنصر عموم وخصوص مطلق، فكل نصر هو تأييد والتأييد أعم وأوسع قال تعالى [وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ]( ).
وفي الآية اخبار عن حضور فضله تعالى ساعة المعركة وعدم تركه للمسلمين خصوصاً في ساعة الشدة والقتال وهي أكثر حالات الحاجة والفقر الى عونه ومدده تعالى وهذا الفقر ذاتي وغيري فالإنسان يخشى من مداهمة الضعف والتراخي والنكوص والفرار، والغيري يتعلق بنصر المسلمين وهزيمة الكافرين.
والإنسان ممكن الموجود، والإحتياج ملازم للإمكان، وسد الخلة والنقص يكون تارة من عنده تعالى، واخرى بالأسباب والعلل والإستعانة بالمقدمات، وهذه الآية جاءت صريحة بان النصر لم يأت بجهد محض من المسلمين، بل بفضله ورحمته تعالى، واضافت الآية النصر اليه تعالى (نصره) وفيه وجهان:
الأول: كل نصر لا يكون الا من عنده تعالى.
الثاني: ان النصر على شعبتين:
الأولى: من عنده تعالى بالمدد والتأييد الإلهي.
الثانية: النصر بالأسباب المادية من غير تأييد منه تعالى لإحدى الطائفتين.
ولا تعارض بين الوجهين لعمومات المشيئة الإلهية ولكن مجيء النصر منه تعالى اكرام وتشريف وتأييد خاص.
ولو كان القتال بين طـائفتين من الكفار، او انه لأسباب عصبية وقبلية ومحلية فهل يكــون من الشــعبة الثانية اعلاه مطلقاً، الجواب لا، فقد تكون منفعة الدين والناس في انتصار طائفة منهما على نحو الخصوص ويكون هذا النصر مقدمة لظهور كلمة التوحيد ولو باضعاف الفريقين واعتبارهم.
والآية حجة في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتارة تتغلب الفئة القليلة على الكثيرة بالأسباب ايضاً، كما لو اعتمدت عنصر المباغتة والخدعة، بالإضافة الى شدة البأس والتأهيل للقتال والشجاعة واعانة الظواهر الطبيعية كالجبل والسهل، وجريان وتوفر الماء، وهبوب الرياح والعواصف والأمطار ونحوها.
فجاء هذا الشطر من الاية للتأكيد على حصول النصر بفضله وتأييده تعالى، وليقطع الطريق امام أهل الريب والشك ومن يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة كما تقدم قبل خمس آيات، لا يتردد في الإجتهاد في البحث عن أسباب طبيعية كبئر ماء بدر وطبيعة تضاريس الأرض واندفاع المسلمين وتخاذل الكفار، وخلجات النفس خصوصا مع الإرتقاء العلمي في ميدان علم التحليل النفسي.
فبينت الآية على نحو محكم ونص صريح وقاطع بان النصر والتأييد جاءا من عنده تعالى، وفيه جزاء حسن للمسلمين، وعذاب عاجل للكافرين ووعد ووعيد، وعد للمسلمين بامكان احراز تأييده تعالى ووعيد للكافرين بالخسارة والخزي في النشأتين، لقد فتحت الآية للمسلمين باباً من رحمته وأخبرت عن وجود نصر وتأييد من عنده تعالى وفيها دعوة لهم لإستثمار هذه النعمة المركبة، نعمة النصر الإلهي الملازمة، لمضامين التوحيد في الأرض، ومصداقها في معركة بدر هذا المصداق الذي تتجلى فيه الآيات بما لا يقبل اللبس او الجهالة.
وتملي الآية على العلماء دراسة واقعة بدر باستنباط البراهين والدلائــل التي تؤكد حصــول النصر مــن عنده تعــالى، فالآية قاعدة كلية تمنــع من تردد المســلمين من خــوض القتــال عــند اجـتماع شرائطه، وتنهى عن التردد فيه والوقوف عند اسباب الإعتذار وذكر الموانــع ونحــوهــا، قال تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( )، والوعد الإلهي بالنصر مطلقاً قال تعالى [وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ]( ).
والنصر أعم من ان يكون في القتال فيأتي بالحجة والبرهان واقامة الدليل، وتصديق النبوة فمن مصاديق النصر الإلهي دخول الناس في الإسلام أفواجاً، واعلاء كلمة التوحيد واقامة الصلاة وايتاء الزكاة وصيام شهر رمضان، ومن النصر المتجدد ان تسمع الأذان خمس مرات في اليوم في انحاء المعمورة وهو شاهد على النصر الإلهي وتثبيت دعائم الدين في الأرض.
والآية لا تمنع من الإستعداد للقتال بكثرة العدد والشوكة والعدة وبما يناسب الحال والزمان والإنتفاع من الإرتقاء العلمي قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، وهذه الإستطاعة لا تنحصر بساعة المعركة ومقدماتها القريبة بل تشمل المقدمات البعيدة والتأهيل المتصل وتوظيف العلوم والأموال.
قوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]
العبرة: الإتعاظ ومناسبة التدبر والنظر واستخلاص الدروس والإعتبار بما وقع وحدث، سواء تعلق الحدث بالذات او الغير وخاتمة الآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها تتضمن معنى الإنشاء والدعوة الى الإتعاظ من واقعة بدر وما فيها من الآيات.
والإعتبار مطلق سواء حصل الحدث للذات او الغير، فالإنسان يعتبر مما أصابه وحصل له من خير او شر، ويتعظ ويعتبر من غيره، وبالنسبة للبلاء والشدائد فان الإعتبار مما حصل للغير أفضل من الإعتبار من الذات لإتخاذ ما جرى للغير درساً وموعظة ومناسبة للتدارك واجتناب أسباب البلاء والأذى.
و(ذلك) اسم اشارة للبعيد والمراد منه موضوعات هذه الآية الكريمة والآيات في انتصار المسلمين في واقعة بدر ابتداء من اللقاء وأسبابه ومقدماته، وقوانين قاعدة (الظن العددي) وتفضله تعالى بنصر المسلمين وخزي الكافرين.
ومن الآيات ان جماعة من الكفار وقعوا في الأسر ولم يقع عدد من المسلمين أسرى في ايدي الكافرين، ولم يشترط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأسرى الا تعليم عدد من المسلمين القراءة والكتابة في آية اعجازية لم تحدث في التأريخ القديم والحديث، بمعنى ان الآيات سابقة لواقعة بدر ومصاحبة لها، ومتأخرة ومتفرعة عنها.
لقد أنعم على الناس جميعاً بواقعة بدر وجعلها موعظة ودعوة لدخول الإسلام ومدرسة جهادية وحصانة للمسلمين من اعتداء الكافرين ومحاولات الهجوم على الإسلام في بدايات نشأته، لقد كان النصر في أول معارك الإسلام حاجة عقائدية ورحمة للناس جميعاً والمسلمين بصورة خاصة.
ولا تتعلق هذه الرحمة بأهل زمان التنزيل بل تشمل الأجيال المتعاقبة الى يوم القيامة، وفيه ايضاً حفــظ لحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلة لتمام نزول آيات وسور القرآن، فمعركة بدر وقعــت في الســنة الثانية للهجرة ولم ينتقل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وســلم الى الرفيــق الأعــلى الا في السـنة الحادية عشرة للهجرة.
وان لم تكن هناك ملازمة بين النصر في معركة بدر وحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن حفــظه ودوام حـياته الى حين الأجل أعم وقد تعرض جيش المسلمين للإنكسار في احد التي جرت في السنة الثالثة للهجرة، ونجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه قياس مع الفارق فقوة المسلمين في أحد أكثر كثيراً من قوتهم في بدر.
لقد واجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكافرين ببدر بنفسه وكانت امتحاناً واختباراً لنبوته وصدق رسالته، خصوصاً مع حداثة الدعوة الإسلامية وكون المسلمين في دار هجرة وأهل رسول الله وقادة بلدته مكة هم الذين جاءوا لقتاله مما يبعث الشك في النفوس ويكون مناسبة للريب والإفتراء داخل المدينة وخارجها، من اليهود وغيرهم، فيثيرون الشبهات ويقولون لو كان صادقاً لآمن به أهل بلدته مكة ولما جاءوا وراءه لقتاله.
ولو ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتالهم لقالوا هجم على أهله وقومه، فكانت بدر استدراجاً للكافرين وسبباً في كسر شوكتهم الى يوم القيامة لذا قالت الآية انها عبرة لأولي الأبصار.
وقال الرازي: وقوله [لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] أي لأولي العقول، كما يقال: لفلان بصر بها الأمر أي علم ومعرفة( ).
وقال الطبرسي: أي (لذوي العقول).
ولكن الكلام يحمل على ظاهره الا مع القرينة الصارفة، ولا قرينة في المقام، بالإضافة الى مناســبة حمل لفظ الأبصــار على معناه الحقيقي يفيد الإطلاق والشمول فالآية عبرة لكل من له عينان، أي للناس جميعاً، فهي آية حسية قريبة، وهذا من اعجاز القرآن الغيري، ودليل على ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالآيات الحسية مثلما جاء بالآيات العقلية.
والآيات الحسية التي جاء بها تتصف بانها حجة وعبرة لكل انسان مسلماً كان او كتابياً أو مشركاً، وكان الناس ولا زالوا بحاجة الى مثل هذه الآية، فكانت معركة بدر انتصاراً على مشركي قريش ولكنها ايضاً برزخ وحاجب دون تعــدي يهود المدينة على المســلمين، وقـذفت الرعب في قلوب المنافقين وصدت الناس وأهل القبائل عن الإنقياد الى قريش مع مالها من سطوة وشأن بحكم منزلتها ووجودها عند بيت الله الحرام، وهذه الآية لطف نوعي عام بالناس لأنها جاءت ملائمة لجميع المدارك والأفهام.
علم المناسبة
من الدلائل على اطلاق مضمون الآية وحمل الأبصار على المعنى الحقيــقي انه جــاء في آيتــين اخــريين مــن القـرآن، قال تعالى [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( )، وآيــــــة اللــيــل والنهار عامة للناس جميعاً وفي كل زمان ومكان لتلتقي آية النصر في معركة بدر مع آية كونية مستديمة الى يوم القيامة في دعوة الناس الى التوحيد.
كما ورد قوله تعالى [فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ] ( )، وجاء في اجلاء بني النضير ونسبت الآية اخراجهم اليه تعالى [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ]( ).
وهل تقف الموعظة والعبرة عند هذه الآيات ام هي أعم، الجواب هو الثاني فالحياة الدنيا كلها عبر ومواعظ ولكنها على مراتب تشكيكية متفاوتة، وهذه الآية ظاهرة بينة، ولم تقل الآية [فَاعْتَبِرُوا] كما في سورة الحشر اعلاه، بل قالت [لَعِبْرَةً] على نحو الإطلاق، والخبر الذي يفيد الإمضاء والعموم، أي انها عبرة لكل انسان.
لذا فان الآية حث لعلماء المسلمين ووسائل الإعلام لبيان المضامين القدسية لمعركة بدر وما فيها من الدلالات العقائدية واتخاذها ضياء ونبراساً وسبيلاً للهداية والرشاد وحفظ بيضة الإسلام ومناسبة لتحذير الآخرين من التعدي على البلاد والثغور الإسلامية، وفيها اخبار بان آية بدر بسيطة غير معقدة يستطيع الناس ادراك ما فيها من الإعجاز والدروس والمواعظ.
قوله تعالى[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ]الآية 14
الاعراب واللغة
[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ] زين: فعل ماض مبني للمجهول، للناس: جار ومجرور. حب الشهوات: نائب فاعل مرفوع، الشهوات: مضاف اليه.
[مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ] من النســاء، جار ومجرور، والبنين: الــواو: عاطفــة، البنين: معطــوف على النســاء، ومجــرور، علامة جره الياء لانه ملحق بجميع المذكر السالم، المقنطرة: صفة للقناطير.
[ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ذلك: اسم اشارة مبتدأ، متاع الحياة: متاع: خبر مرفوع وهو مضاف، الحياة: مضاف اليه مجرور وعلامة جره الكسرة، والدنيا: صفة للحياة.
[وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، عنده: ظرف مكان والضمير مضاف اليه، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم لحسن. حسن: مبتدأ مؤخر ، وهو مضاف، المآب: مضاف اليه، والجملة الاسمية خبر اسم الجلالة.
والزين خلاف الشين، يقال زانه وازانه وتزين وازوان بمعنى، والزين: الحسن وما يبعث على البهجة، وزين الشئ، أي بدا أمراً مرغوباً فيه.
والشهوات بالتحريك جمع شهوة وهي اشتياق النفس الى الشئ من غير رجحان عقلي ظاهر.
والقناطير: جمع قنطار بكسر القاف، وهو معيار ووزن، واختلف في مقداره اختلافاً كثيراً وذكرت فيه اقوال :
الأول : اربعون اوقية( ) من الذهب.
الثاني : الف ومائة دينار.
الثالث : مائة وعشرون رطلاً.
الرابع : الف ومائتا أوقية.
الخامس : سبعون الف دينار.
السادس : عن ابن عباس ثمانون الف درهم.
السابع : قال ابن منظور: وهو بلغة بربر الف مثقال من ذهب او فضة( ).
الثامن : جملة كثيرة مجهولة من المال.
التاسع : قال السدي: مائة رطل من ذهب أو فضة.
العاشر : هو بالسريانية ملأ مسك ثور ذهباً، والمسك بفتح الميم، الجلد، والجمع مسوك، ومنه حديث علي عليه السلام: (ما كان فراشي الا مسك كبش).
الحادي عشر : مسك ثور فضة.
الثاني عشر : ليس له وزن عند العرب، وربما يراد بهذا المعنى انه لم يكن معروفاً عند العرب واخذوه من غيرهم.
الثالث عشر : عن تغلب: المعمول عند العرب الاكثر انه اربعة ألاف دينار، وقال ابو عبيدة، القناطير واحدها قنطار، ولا نجد العرب تعرف وزنه، ولا واحد له من لفظه.
ومن إعجاز الآية الجمع بين قناطير بصيغة الجمع وعددها ثلاثة ، والمقنطرة أي المضاعفة ، وتضيف معنى مستحدثاً، وهو المراد القناطير المتراكمة والثابتة التي لا يشملها التبادل التجاري في البيع والشراء والإقتراض .
الرابع عشر : خمسة عشر الف مثقال من الذهب، والمثقال اربعة وعشرون قيراطاً اصغرها مثل جبل اُحد واكبرها بين السماء والارض، والظاهر انه يتعلق بالثواب والجزاء الحسن.
الخامس عشر : القنطار من الحسنات الف ومائتا اوقية، والاوقية اعظم من جبل احد، والمقنطرة: المضعفة، كما لوكانت القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة.
السادس عشر : روي ابن عباس: (عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: من قرأ اربعمائة آية كتب له قنطار) القنطار مائة مثقال، المثقال عشرون قيراطاً ( ).
السابع عشر : مائة اوقية من الذهب.
الثامن عشر : مائة اوقية من الفضة.
التاسع عشر : الف اوقية من الذهب.
العشرون : الف اوقية من الفضة.
الواحد والعشرون : اربعة ألاف درهم، وقال ثعلب: وهو المعمول عليه عند العرب الاكثر، وفي الحديث: (ان صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية، وقنطر ابوه أي صار له قنِطار من المال) ( )، أي صار لكل منهما مال كثير بوزن قنطاراً .
الثاني والعشرون : وردت روايات عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القنطار، عن ابي بن كعب عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (ان القنطار الف أوقية ومائتا اوقية) ( ).
الثالث والعشرون : عن ابي هريرة: عن النبي انه: اثنا عشر الف اوقية.
الرابع والعشرون : عن انس يرفعه: ان القنطار ألف دينار.
الخامس والعشرون : مقدار الدية، والدية ألف دينار ذهب، والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشــرة حبة، ويكــون مقدارها أيام التنزيل عشـرة آلاف درهم فضة ، ولم يرد كل من لفظ [الْقَنَاطِيرِ]و[الْمُقَنْطَرَةِ] و[الْمُسَوَّمَةِ] في القرآن إلا في آية البحث لبيان أنها من زينة الدنيا ، وأن المؤمن ترنو عينه ويبذل جهده للأخرة لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] ( ).
معنى مسومة
الخيل: جماعة الافراس، لا واحد له من لفظه، مثل القوم والنساء والرهط (قال ابو عبيدة: واحدها خائل لانه يختال بمشيته)( ) ولم يثبت هذا الاشتقاق، والجمع أخيال وخيول.
والخيل المسومة: فيها وجوه :
الأول : المعلمة( ) التي عليها علامة .
الثاني : المرسلة وعليها ركبانها، والسومة العلامة.
الثالث : الراعية ، ومنه قوله تعالى [شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ] ( ).
الرابع : المسومة أي الحسان .
الخامس : المسومة الحسنة( )وفي وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبعد الله بن مسعود (يا ابن مسعود من اشتاق إلى الجنة سارع في الخيرات، ومن خاف النار ترك الشهوات، ومن ترقب الموت أعرض عن اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. يا ابن مسعود قوله تعالى ” زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة – الآية “. يا ابن مسعود إن الله اصطفى موسى بالكلام والمناجاة حين ترى خضرة البقل من بطنه من هزاله وما سأل موسى حين تولى إلى الظل إلا طعاما يأكله من جوع) ( ).
وهل في الآية بشارة مجئ الأموال ، وفتح خزائن الأرض للمسلمين كما في نعمة النفط والغاز ، الجواب نعم ، لقانون ما زين للناس يتفضل به الله عز وجل للمؤمنين لأنهم أولى به مع لزوم التقيد بالشكر لله عز وجل على هذه النعمة بالشكر .
و(عن قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شكر النعمة إفشاؤها) ( ).
وهل يزيد في النعم إفشاؤها ، والحديث بها ، ونسبتها إلى فضل الله ، الجواب نعم .
معنى الحرث
والحرث: الفلاحة والعمل في الارض للزراعة والغرس او يقال حرث يحرث حرثاً .
وقال الازهري: الحرث قذفك الحب في الارض لازدراع( )، يقال حرث يحرث حرثاً ، والحرث والحراثة بمعنى واحد، وهو مباشرة الأرض بالبذور أو الزرع أو الغرس ، وقد يطلق الحرث على ذات الزرع كما في قوله تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
(والحَرَّاثُ : الزَّرّاعُ وقد حَرَثَ واحْتَرَثَ مثل : زَرَعَ وَازْدَرَعَ) ( ).
وفي الزوجات قال تعالى [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..] ( ) وعبد الله بن مسعود (احْرثوا هذا القرآن) ( ) أي اجتهدوا في التدبر في معانيه استقراءً واستنباطاً .
والحرث: الزرع: ويأتي بمعنى الكسب، والعمل للدنيا والآخرة.
وفي الحديث: (وفي الحديث احْرُثْ لدُنْياك كأَنك تَعيش أَبداً واعْمل لآخرتك كأَنك تَموتُ غَداً) ( ) في حث على السعي في تحصيل اسباب الدنيا، وثواب الآخرة، لان الانسان اذا ظن طول العمر فانه يبذل الوسع في عمارة الارض والكسب وجمع الاموال، واذا اعتقد قرب مهاجمة الموت له فانه يتجنب الحرام ويحترز من اكل اموال الاخرين والتعدي على حرماتهم .
ويحرص على الاخلاص في النية والعمل ويلتزم باداء العبادات في اوقاتها، ولا تعارض بينهما في الوجود الذهني.
والمتاع: ما ينتفع به قل او كثر ويسمى الطعام والبر والاثاث والراحلة متاعاً.
والمآب: الرجــوع، يقال آب الى الشئ يؤوب أوباً وإياباً: رجع وعاد، ومنه القول: ليهنئــك أوبــة الغائب أي إيــابه وعـودته، وفي حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (انه كان إذا أقبل من سفر قال: أيبون تائبون، لربنا حامدون)، وقيل: كل شئ رجع الى مكانه فقد آب وعاد.
في سياق الآيات
بعد مجئ الآية السابقة بذكر القتال واقتران الظفر وانتصار المسلمين به في اول معركة للمسلمين، جاءت هذه الآية بذكر النعم العظيمة في الدنيا التي تفضل الله بها سبحانه على بني آدم، ولابد من دلالات لهذا النظم القرآني، منها انها من مصاديق الاتعاظ والعبرة التي جاءت بها خاتمة الآية السابقة ولبيان منافع الدفاع في سبيل الله في النصر العاجل ومن مصاديق قتال المسلمين اضطراراً ودفاعاً قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، من الثابت تأريخياً وفي كتب السنة والسيرة أن مشركي قريش هم الذين أصروا على القتال في معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة ، واختيار الخلود في النعيم في الآخرة، بل وحتى نعم الدنيا الزائلة تكون اقرب اليهم في حال الثبات في الميدان دون القعود وترك القتال وما فيه من الذل والهوان، سواء تأتي تلك النعم بالغنائم في الحروب او بالعز والإستقرار وسيادة احكام ودولة الإسلام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
لقد أظهرت الآية السابقة اصرار المشركين على القتال حاجة المسلمين للدفاع ودخول المعارك فجاءت هذه الآية بالترغيب بالنعيم الأخروي.
وابتدأت الآية التالية بالأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل] وورد هذا اللفظ (332) مرة في القرآن ، منها (228) مرة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتأكيد قانون انتشار الإسلام بالكلمة والحجة والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..] ( ) .
وتقدير الآية (قل يا محمد) وهل هو من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، فكل مسلم مأمور بهذا القول ، والتدبر فيه ، والتسليم به موضوعاً وحكماً ، ومن إعجاز نظم الآيات قانون خاتمة الآية مقدمة لمضمون الآية التالية فلما ، أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] ( ) .
والمرجع والمنقلب ذكرت الآية التالية مصاديق من نعم الآخرة والخلود في النعيم .
ومن الإعجاز في الجمع بين آية البحث والآية التالية ذكر آية البحث لحب الشهوات من النساء ، وهو مناسبة للفظ (الناس) بصيغة اللوم الإستغراقي للمسلمين وأهل الكتاب والكفار ، ويشمل حب الشهوات الكيفية النفسانية، والميل إلى النساء ، وعن عبد الله (عن ابن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ) ( ).
بينما أختصت الآية التالية بذكر الأزواج مع إتصافهن بالطهارة في الأخلاق والأبدان والسلامة والتنزه من الإقتران ، ومن الحيض والولادة والنفاس ، والبول والغائط ، وقد ورد لفظ [أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ] ثلاث مرات في القرآن كلها بخصوص نساء الجنة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً] ( ).
و (عن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول اللَّه {صلى الله عليه وسلم} قال : يقول اللَّه عزَّ وجل لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربَّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟
فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا مالم تعط أحد من خلقك.
فيقول : ألا أعطكم أفضل من ذلك فيقولون : وأيُّ شيءٌ أفضل من ذلك؟
قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً ) ( ).
اعجاز الآية
في الآية تعداد لنعم ظاهرة في الدنيا ، وجاء ذكرها بعنوان الحب والميل النفسي والاقتناء، وبعد ان عرضت تلك النعم ولذات الدنيا على نحو التفصيل والترغيب المناسب والميل لها، ذكرت الآية أمرين:
الأول: الدنيا متاع قليل وعرض زائل.
الثاني: العودة الى الآخرة أمر حتمي وقطعي، فلابد من الاستعداد واتخاذ المتاع المناسب لها ،قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
وبلحاظ آية معركة بدر السابقة فان هذه الآية تتضمن البشارة بالكنوز والخزائن والنعم.
وتسبر الآية اغوار النفس الإنسانية وفيها تحد لأن مضمونها جاء بصيغة العموم الإستغراقي الذي تدل عليه الألف واللام في (الناس)لبيان الملازمة بين الدنيا والرغائب والنعم فيها ، وتأكيد قانون نعم الله على أي إنسان أكثر من أن تحصى .
والآية حرب على الركون للدنيا وعون على التلخص من تعلقها بالإنسان وتعلقه بها.
وجاءت الآية التالية بصرف الناس عن الدنيا [قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ] ( ) ومن الإعجاز ان يأتي الفعل (زين) مبنياً للمجهول ، وهناك مسألة ، هل تدل آية البحث على سلامة آيات السلم والصلح والموادعة من النسخ ، أم أنها تدعو إلى القتال لإقتناء نعم الدنيا ، الجواب هو الأول ، فآية البحث من آيات السلم ، وستأتي أجزاء من هذا السِفر خاصة بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهي :
الأول :الجزء الثاني بعد المأئتين .
الثاني : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثالث : الجزء الرابع بعد المائتين .
الرابع : الجزء العاشر بعد المائتين .
الخامس : الجزء الحادي عشر بعد المائتين .
السادس : الجزء الواحد والثلاثون بعد المائتين .
السابع : الجزء الأربعون بعد المائتين .
الثامن : الجزء الواحد والأربعون بعد المائتين( ) .
وإذ ذكرت آية البحث مصاديق وأصنافاً من متاع الدنيا ، فقد ذكرت آية أخرى أن الدنيا ذاتها متاع بالنسبة للأخرة ، قال تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ] ( ) لبيان وجوب تسخير متاع ونعم الدنيا في طاعة الله ، وحب النفس عن الكسب الحرام ، كما تضمن القرآن الإنذار للذين كفروا بأن أيامهم في الدنيا قصيرة وأن غرورهم وطغيانهم سرعان ما ينقطع بالموت والهلاك أو بزوال دولة الباطل ، قال تعالى[لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ) وفيه إنذار لكفار قريش ، وأن تجارتهم ألى الشام واليمن لن تستمر مع الكفر والشرك ، خاصة وأن السور المكية أخبرت بأن هذه التجارة دعوة سماوية للإيمان وتصديق قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
ومن إعجاز الآية أنها حرب على الإرهاب إذ تدل بالدلالة التضمنية على التنعم في الدنيا ، وحق الناس جميعاً في الرزق لحلال ، وعدم نشر الخوف والفزع بين الناس بخصوص سلامتهم وأمنهم وأرزاقهم ومعايشهم وأملاكهم .
ويمكن تسمية هذه الآية بــ(زين للناس) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث .
الآية سلاح
هذه الآية من آيات بيان نعم في الدنيا ومباهجها ، وتدعو المسلمين للعبادات والفرائض والتنزه عن زخرف الدنيا وعدم الإنشغال بها وجعلها تحجب الوظائف العقائدية، وكأن هذه النعم العظيمة عرضت على المسلم في هذه الآية وأصبحت في متناول يده ولكنه استغنى وأعرض عنها عشقاً للقائه تعالى.
وتبين الآية لفضل الله عز وجل على الناس عموماً بسعة الرزق وتعدد أصنافه ، وحق الملكية الخاصة والسلم المجتمعي والأمن في حفظ هذه الملكية ، فمن نعم الله عز وجل أن يملك الإنسان الذهب والفضة قليلاً أو كثيرة ، والخيل والأنعام والأرض والعقار ، فلا يعتدي عليه سواء لوجود سلطان وحاكم ودولة ، أو بالوف والضوابط القبلية ، والنفرة العامة من الإستيلاء على ملك الغير فصحيح أن مورد الآية هو الميل والكيفية .
وتنمي آية البحث ملكة الصبر عند السلم بأن مباهج الدنيا إلى زوال ، وأن الله عز وجل أعدّ للمؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وفي التنزيل [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
وتبين الآية موضوعية الميل النفسي والرغبة والشهوة وترجلها في عالم الأفعال ، فجاءت خاتمة الآية للزجر عن تسخير هذا الميل والشهوة في المعصية ، فمن إعجاز الآية بيانها لعدد من النعم العظيمة على الإنسان ، ثم أختتامها بوجوب التقوى والخشية من الله عز وجل ، وهذه الخاتمة دعوة للمسلمين للأمر بالمعروف والتحلي بالصبر والرضا بالقليل الحلال ، والعصمة عن الكثير الحرام ، وتبين مادة وموضوعاً لهذه الدعوة ، وهو استحضار الآخرة ، والخلود في النعيم يوم القيامة ، والإستعداد له بالإنابة والتوبة والعمل الصالح ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
فالله عز وجل الذي حقق النصر للمسلمين بآية منه سبحانه، وهو قادر على ان يوفر لكل مسلم هذه النعم ويجعل الرغبة والأمنية عند الكافر حقيقة عند المسلم، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا] ( ).
وتساعد الآية في خلق حالة ارتقاء علمي عند المسلمين بمعرفة سر من أسرار الخلق والتكوين واثر الطبائع.
مفهوم الآية
لقد جعل الله عز وجل الإنسـان ضعيفاً محتاجاً تدعوه النفس الشهوية الى الجمع والإدخار من أموال ومباهج الدنيا، وجاء التزيين بصيغة البناء للمجهول أي ان المزين هو غير الإنسان الذي تتوهج في نفسه الرغبة للتملك والاستحواذ على عدد من أفراد تلك النعم او جميعها ، قال تعالى [خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
ومن مفاهيم الآية عدم الإنخداع بالدنيا وذكر تلك النعم على نحو التعدد والتفصيل في القرآن وتلاوة الآية من المسلمين يفقد اللذات بريقها، ويحذر المسلمين من الآمال العريضة في مباهج وزينة الدنيا، كي يتفرغ الذهن في تصوراته الى جنات الآخرة وما فيها من النعم الدائمة .
ليكون هذا التصور وسيلة لفعل الصالحات والأخلاص في العبادة وحب الشهادة، فالآية دعوة للذب عن الإسلام وعدم جعل منافع الدنيا مانعاً وحاجباً دون اللقاء مع الغزاة من مشركي قريش ، والدفاع في سبيل الله تعالى.
والآية تربيـة وتأديب للمســلمين وإعــداد للقيادات والأمراء والفقهاء منهم، بالإرتقاء العقائدي عند عامة المســلمين بالزهـد في اللذات الدنيوية، فاذا مال لها الملوك والقادة والفقهاء فان عموم المسلمين سيحسبون هذا الميل نقصاً وخلاف المأمور به.
والى اليوم ترى الناس يتحدثون باستنكار وعدم رضا عن الملوك الذين ذكرهم التأريخ بالإفراط في اللذات الجسمانية وبناء القصور واكتناز الذهب والفضة وكثرة الجواري والإماء كما تنفر النفوس من الفقيه والعالم الذي يميل الى الدنيا ويكثر من جمع حطامها.
كما وثّق القرآن غرور وطغيان فرعون ، كما ورد في التنزيل [قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ] ( ) كما ذكر أموال غير الملوك ، كما في قارون وهو عدو موسى عليه السلام وابن عمه لمنع الناس من الإفتتان بمحاربة أبي لهل وأبي جهل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا] ( ) (عن المسيّب أنّ قارون كان من قوم موسى {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} قال : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم .
قال ابن عباس : كان فرعون قد ملّكه على بني إسرائيل حين كان بمصر) ( ).
وفي كثرة أموال قارون والتي هي فضل من الله ، قال سبحانه [إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] ( ) ولم يرد لفظ [الْعُصْبَةِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
(قال ابن عباس : ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الزكاة على موسى (عليه السلام)) ).
لقد ذكرت الآية أفراداً نعم الدنيا على نحو التفصيل وما يناسب مختلف الأحوال والأزمنة والحضر والريف والبدو لتكون خطاباً لجميع الناس، وحجة عليهم ومناسبة لتهذيب حديث النفس وجعله في مرضاة الله فتكون تلك النعم وسيلة وعلة مادية للنعيم الأخروي وليس علة غائية للإنسان في أيام حياته.
والحب هنا لا ينحصر بالآمال وأحلام اليقظة بل يشمل السعي لتحقيقه في الواقع واللهث وراء مباهج الدنيا والتفاخر بها واختيار الوسائل المختلفة لجمعها، فجعلها هدفاً وغاية قد يقود الإنسان الى اتباع طرق غير شرعية لكسبها بالإضافة الى الإنشغال عنها والإنصراف عن الوظائف الشرعية.
فجاءت خاتمة الآية زاجراً عن الحرام ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين ، ودعوة لهم للمناجاة بالخير والصلاح ، والبعث على الدعاء ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
وكم من انسان اجتهد في طلب الدنيا وفاتته الصلاة في وقتها، وما هو أكبر فان حياة الترف قد تجعل الإنسان يزهد في الصبر وليس هذا فقط بل انه يلح باختيار ما فيه القعود واجتناب الصحابي الدفاع مع القتال باختيار الكفار ويفرض على المسلمين انه ملحق بالمفروض كما ظهر في واقعة بدر.
إفاضات الآية
تعرض الآية مباهج الدنيا على المسلم وتجعلها قريبة منه مع كبرى كلية حاضرة في المقام تتكون من مسألتين:
الأولى: ان الله عز وجل هو الرزاق القادر على كل شيء.
الثانية: المسلمون هم أولياء الله وأحق الناس بالنعم الدنيوية والأخروية، وتجعل الآية الانسان يسيح في مصاديقها بروح الإيمان وليس بالنفس الشهوية.
فالآية تملأ النفس الإنسانية بالرضا بالقليل والقناعة والتطلع الى النعيم الخالد في الآخرة، ولم تحرم الآية نعم الدنيا او تمنع من الحصول عليها، ولكنها تجعل الأهمية والأولوية في الحب والسعي لنعيم الآخرة والخلود فيها.
لقد ذكرت آية البحث مصاديق من فضل الله عز وجل والمباحثات في الدنيا لتختتم بالتذكير بالآخرة ، وهذا التذكير للغني والفقير ، والمسلم والكتابي ، والكافر ، وهذا العموم من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم ، لتتضمن خاتمة آية البحث البشارة والإنذار في آن واحد ، والبشارة للذي يسخر أمواله في طاعة الله ويخرج الزكاة والخمس والحقوق الشرعية ، والبشارة للصابر المحتسب الذي يطمع في الآخرة ويسعى إليه .
والإنذار إلى الذين كفروا ، ومن جمع ماله بالباطل والحرام وحبس الزكاة ، وهل تختص البشارة في الآية بعالم لآخرة ، الجواب لا ، إنما تشمل الحياة الدنيا ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( )
والآية أعلاه بشارة صيرورة المسلمين في حال غنى ، ومن معاني الجمع بين أول ووسط وآخر آية البحث ، وجوب إتخاذ متاع وزينة الدنيا بلغة ووسيلة لنعيم الآخرة .
موضوع الآية
في الآية مسائل:
الأولى: ان ابا حارثة ابن علقمة اعترف لأخيه بانه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله الا انه لا يقر بذلك خوفاً من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه.
الثانية: لما دعا النبي محمد صـلى الله عليه وآله وســلم طائفة الى الإسلام بعد كتيبة بدر ردوا بتحد وقالوا انهم ذوو قوة وعدد ومال وسلاح، فاخبرت هذه الآية ان ما استظهروا به عرض زائل واشــياء فانيــة لأن وعـاءها وهو الحياة الدنيا منقض وزائل.
الثالثة : بيان مصاديق من قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وأن الله عز وجل جعل في الأرض خزائن ظاهرة وباطنة ، قال تعالى [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا]( ) .
الرابعة : عدم حرمة جمع المال والسعي في كسبه بالحلال مع إخراج الحقوق الشرعية منه .
الخامسة : دعوة المسلمين لقهر النفس الشهوية بضوابط التقوى والخشية من الله .
السادسة : تدعو الآية إلى الصبر على قضاء الله وقدرة والرضا بالقليل من الرزق ، والصبر عن المعاصي وما حرم الله عز وجل .
ولا يختص هذا الصبر بعالم الأفعال بل يشمل الأقوال ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ).
التفسير
قوله تعالى [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ]
كما تنقسم الأحكام التكليفية الى واجبات ومستحبات ومباحات ومحرمات ومكروهات فان الأشياء تنقسم الى ما تحبه وتهواه وتميل اليه النفس ومنها ما تبغضه وتنفر منه وتكرهه، والميل والكره من الكليات المشككة التي تكون افرادها على مصاديق متفاوتة من القوة والضعف، وتزيين الأشياء على وجهين:
الأول : ما يتعلق بالنفس الإنسانية وميلها وحال التصور سواء التقى معه التصديق والواقع او لا.
الثاني : ذات الشيء وحسنه اوقبحه الذاتي.
والظاهــر ان موضــوع الآية هــو الأول لأنها لم تشــر الى حسـن ذاتي في هذه الأشــياء ولكنها تخبر عن ميل النفس الإنسانية لها وهذا الميل ليس متأصــلاً بالنفس بل هو أمــر عرضــي ســواء كان عــرضاً دائماً او زائلاً، أي انه عرض ذاتي متــعلق بأشياء هي ذاتها عرض زائل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
وورود لفظ (زين) على البنــاء للمجــهول وفيه وجوه :
الأول: الذي زين للناس حب الشهوات هو الله عز وجل، وبه قال الأشاعرة وجماعة من المعتزلة، لعظيم قدرته تعالى، وللتباين الموضوعي في التزيين فالشيطان زين للإنسان الكفر والضلالة والبدعة، وتزينه تعالى للدنيا على شعبتين:
الأولى: ما جعله من الطبائع والقرائح عند الإنسان بحيث يهوى مباهج الدنيا.
الثانية: بديع صنعه في الحياة الدنيا وما فيها من الجمال وأسباب الإنجذاب واللذة والشهوة، ولأن الأصل في الأشياء الإباحة، وهو سبحانه الذي خلق الشهوة، وهذه المشتهيات وسائل للآخرة كما في تسخيرها للصدقة واصلاح ذات البين وتسخيرها لتقوى الله وجعلها مناسبة للشكر له تعالى.
وكان الصاحب بن عباد يقول: (شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب)، فكيف بالنعم العظيمة في هذا الزمان، وعدم الإنشغال بتلك النعم والتوجه الى الله تعالى بالعبادة وما فيها من المشقة فرصة للثواب والأجر.
الثاني: الشــيطان زين لهم، وبه قــال الحســن البصري( ) لأن الله ذم الدنيا فلا يزينها للنــاس. ولأن الآية اطــلقت حــب الشــهــوات فيدخل فيه الشـهوات المحرمة، وهذا القسم من الشهوات يزينها الشيطان، ولكن حينما يكون الشيطان هو الذي يزين فيذكره الله عز وجل ويبين أن تزيينه للذين كفروا ، وقال تعالى بخصوص قريش يوم بدر [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ]( ) أو يعرف بالقرينة كما في قوله تعالى [َذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ) .
ترى لماذا وردت الآية أعلاه بصيغة المبني للمجهول ، الجواب لأن التزيين يصدر من الشيطان ومن أهل المعاصي ، وأقران السوء ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
الثالث: التفصيل، فما كان واجباً او مندوباً منه فهو من الله عز وجل، وما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان، وبه قال الجبائي والقاضي، وأشكل عليه الرازي بقوله: وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب، والقاضي ما ذكر هذا القسم، وكان من حقه ان يذكره ويبين ان التزيين فيه من الله تعالى، او من الشيطان( ).
ولكن يمكن الإجابة على هذا الإشكال بوجهين:
الأول: ان التزيين أمر اضافي زائد، اما الإباحة فهي تساوي الطرفين مما لا يكون في فعله ثواب ولا في تركه عقاب.
الثاني: ادعاء رجوع المباح الى الاحكــام الاخــرى كمــا في شــبهة الكعبي وهو من كبار المعتزلة اذ قال بنفي المباح، لأن المباح هو واجب في الحــقيقــة لأنه يلــزم فيه تــرك محـرم واحد من المحرمات على الأقل، فاذا كان المباح موجوداً يكون الحرام معدوماً على مسلك التلازم، وهو ان حرمة احد المتلازمين تستدعي وتستلزم حرمة ملازمه الآخر، ويجاب بعدم ارادة المكلف للحرام لعدم المقتضي وهو الإرادة ولا تصل النوبة الى المانع وهو الضد.
ويمكن ان نضيف ثلاث أقسام اخرى :
الأول: ان الناس يزين بعضــهم لبعضهم الآخر حب الشهوات سواء يقوم الواحد بالتزيين لجمــاعة، او تقـوم جماعة بالتزيين الواحد أو الفرد لفرد آخر على نحو القضية الشخصية .
الثاني: الإنسان يزين لنفسه بحديث النفس، والنفس الشهوية والغضبية والمحاكاة مع الآخرين والحسد والغبطة.
الثالث: ان ذات الشهوات تجعل الإنسان ينجذب ويميل لها لأنها موافقة لغرائز وحاجات الإنسان وهو مخلوق ممكن محتاج.
وردت مادة (زين) على البناء للمجهول في القرآن عشر مرات، وهو عدد كثير يمكن استقراء مسائل متعددة منه، منها :
الأولى : تتعلق هذه الآيات بالقبيح والمنكر، مثل [زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ]( )، [ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، [زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ] ( ).
الثانية : لقد جاءت هذه الآيات بتزيين الأفعال السيئة وليس حبها، نعم ورد قوله تعالى [ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا]( )، ويحمل على الركون اليها والى مباهجها.
الثالثة : ورد قوله تعالى [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ..]( ) فهل يمكن حمل التزيين من الله، الجواب لا، فقد يراد من الضلالة ما يتعقب التزيين وتلبس العبد بالذنب.
الرابعة : ليس في القرآن تزيين لحب شيء الا في هذه الآية التي جاءت بتزيين حب الشهوات وليس الشهوات ذاتها.
والشهوة ميل النفس الى المحبوب، يقال أشـتهى يشتهي شهوة واشتهاء، وهي من فعل الله عز وجل وعظيم قدرته، وقد يختارها الإنسان بطبعه وقريحته وطينته وأسباب تربيته وشأنه وحاله وآدابه، وما ذكر في الآية ليس من المحرم لإمكان اقتنائها بالحلال.
ثم ان الآية لم تتحدث عن التملك والإستحواذ بل تحدثت عن حب تلك النعم، وبلحاظ وجودها يكون حبها على ثلاثة وجوه :
الأول : تكون موجودة عنده ويحبها ويتعلق بها.
الثاني : غير موجودة عنده وهويحبها ويعشقها.
الثالث : سالبة بانتفاء الموضـوع ومعدومة، وهو ايضاً لا يحبها ولا يميل اليها.
وذكر حب الشهوات هنا مطلقاً أي ان الآية لم تؤكد تعارضه مع حب العبادات وأدائها ولزوم الإتيان بالطاعات فيمكن الجمع بين حب الشهوات وبين أداء الفرائض، ويمكن ان تكون آلة ومادة لإكتناز الحسنات، ولو كان تعارض بينه وبين العبادات لأصبح حبها قبيحاً ومكروهاً، والله عز وجل منزه عن القبيح فينحصر التزيين بالشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وتدل على بديع صنعه تعالى بخلق الإنسان وعظيم الإبتلاء الذي يواجهه في الحياة الدنيا وانها حقاً دار امتحان واختبار.
قانون التزيين
والتزيين أعم من حب الشهوات، وفعلها أعم من حبها فليس كل تزيين للشيء يؤدي الى حبه، والميل له يؤدي الى فعله، فقد يميل الإنسان الى فعل نوع من الحرام ولكنه حينما تتـهيأ مقدماته تنفر نفسه منه لتصدي ملكة التقوى ورجحان حب الله، والخشية من العقاب، فاستحضار العقاب الشــديد يجعل النفس تنفر من تلك الشهوة وان كانت تحبها وتميل اليها وتــراها حــلوة، فكيف وان الآية ذكرت الشهوات ومصاديقها بالإطلاق المجرد من العناوين الإعتبارية الزائدة كالحلال أو الحرام.
وبينما وردت مادة (زين) في القرآن، وفي أفراد العمل القبيح للكافرين والمسرفين [كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( )، ولفرعون في سوء عمله .
فان هذه الآية جاءت بلفظ (الناس) وان التزيين يكون للناس، وهو عنوان جامع بعنوان الخلق، ويشمل المسلمين، وأهل الكتاب والكفار، ولم ينحصر بزمان دون آخر، ملة او شخص دون آخر، نعم هذا التزيين من الكلي المشكك فمنهم من يكون عنده ظاهراً يبرز على الجوارح واللسان وهذا الظهور ايضاً على مراتب، منها ما يدفع الإنسان لإرتكاب الحرام، ومنها ما يجعل سعيه حثيثاً لطلبها ولكن غير التعدي على الحرمات.
وبخلاف الظهور يكون التــزيين عند شــطر من النــاس خفياً غير ظاهــر بسبب الإنشــغال بالأهم او العجز واليأس عن نيلها او ضعف الهــمة والفقر، او لإمــتلاء النفس بالتقــوى وحــب الله.
وهذا الخــفـاء لا يمنع من صــدق عنــوان التــزيين عندهــم لكفاية المسمى وصرف الطبيعة في صــدق العــنوان ويتجــلى الإعجـــاز في ذكــر هـذا التزيين على نحو يجعل علماء الإجتــماع والنفــس وأطــباء الأبــدان عاجـزين عن درك كنهــه والتوصــل الى المقاصـد الســـامية في الآيــة الكــريمــة فضلاً عن موضــوعها، وذكــرها بهــذا التركيــب وتعدد الماهية من وجوه:
الأول : ذكرت الآية التزيين على نحو البناء للمجهول من غير بيان للفاعل مع احتمال تعدده كما تقدم ذكره على ثلاثة وجوه واضفنا لها وجهين كما تقدم.
الثاني : تعــدد وتوالــي مراحــل الموضــوع اذ انه يتكــون مــن خمس مراتب:
الأولى : التزيين: وهو حالة من التصور والوجود الذهني، إن نسبة التزيين الى الله عز وجل لا تخلو من وجه وتقدير الآية حينئذ : زين للناس حب الشهوات بالحلال ، فتزيينها مناسبة لبقاء العبادة في الأرض قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية : حب الشيء والميل له والرغبة فيه.
الثالثة : الأمر المحبوب الذي تتوق له النفس هو حب الشهوات.
الرابعة : قانون تعدد أفراد الشهوات والأمور المحبوبة.
الخامسة : نعت تلك الشهوات بانها متاع ونفع محدود لأن اللازم وهو الدنيا عرض زائل، فالملزوم مثله.
لقد بينت الآية حالة نفسانية وجزء من تركيب الإنسان وكيانه الأخلاقي والإجتماعي وكيفية تكوينه وفيها أعظم النفع للمسلمين من وجوه:
الأول : قانون التحذير من حب الشهوات.
الثاني : قانون عدم الإندفاع وراء زينة الدنيا.
الثالث : اكتساب حصانة من الإفتتان بالدنيا.
الرابع : ادراك مســؤولية زعــامة للناس جميـعاً، فان تعفف المسلمين وعدم لهثهم وراء زينة الدنيا ارشاد لناس ودعوة عملية للإقتداء بهم.
الخامس : قانون تنزه الملوك والعلماء المسلمين عن مباهج الدنيا ينشر الصلاح، وعدم اندفاع المسلمين في شهوات الدنيا تهذيب للنفوس ودعوة للناس لدخول الإسلام وحائل دون اشاعة الفساد والضلالة، ومن أكثر أسباب الفساد في الأرض اتخاذ التعدي وسيلة للإستحواذ والتملك والسلطنة .
قانون الشهوات
ان موضوع الشهوات مردد بين:
الأول : الحب والميل.
الثاني : البغض والكره.
الثالث : برزخ بينهما فلا حب ولا كره، والآية تدل على الأول اعلاه وهذا الحب على أقسام :
الأولى : ان يكون مجرداً من غير ضميمة او مقدمة.
الثانية : يبدو حسناً وزيناً وليس فيه ضير.
الثالثة : يتضمن الشر والأذى، وقد يحب الإنسان شيئاً وهو يعلم ان فيه ضرراً.
والأصح هو القسم الأول فان حب الشهوات جاء مجرداً من الضمائم والعناوين الأخرى المترشحة من الحلية وعدمها، والوجوب والحرمة ونحوها.
لذا فان مجرد تزيينه لا يدل على الحرمة او انه مقدمة للوقوع في الحرام كي يتبادر للذهن انه من عند الشيطان،نعم هو من الإبتلاء والإمتحان في الدنيا، وهــو ســلاح ذو حــدين فقد يكــون الإمتــحان سبباً للفــوز في الآخــرة بتوظيـف هذا التزيين في مرضاة الله بجمع الأموال والشــهوات من طــرق الحلال وتســخـيرها وانفاقها في سبيل الله.
ولولا ان هذه الآية القرآنية تسمي هذه الأعيان والمقتنيات بالشهوات لما أطلق عليها أحد هذه التسمية لأن بها قوام الحياة ومنها ما هو ضروري للإنسان في غذائه وسكنه وتناسله وأمنه.
وتزيين الشهوات بالحلال المباح موضوع للكسب والسعي في الحياة الدنيا، فاذا لم يرغب المؤمن بالولد وقل النسل بين المسـلمين فان الشــوكـة والعدد تكون للكافرين، وتتعرض كلمة التوحيد في الأرض للخطر، لقد جاءت الآية الســابقة بموضــوع معــركة بدر، التي أكدت حاجة المسلمين للرجال والكثرة.
وهذه الكثرة ترد عن طرق من أهمها الزواج والتناسل لذا فان الولد يتبع اباه في الإسلام ولا يجوز له اختيار ملة أخرى، ومن الشهوات المذكورة في الآية والتي يحتاج لها المسلم هو:
النساء للزواج وطلب الولد.
الأولاد ليكونوا عضــداً وعــوناً وجــنوداً مــن جنود الرحمن وترى الآية ذكرتهم بعنوان (البنين) حصراً ولم تقل الأولاد او الأبناء.
ومنها الأموال من النقدين الدينار الذهبي والدرهم الفضي للإستعانة بهما على شؤون الدنيا وحاجاتها،
الخيل رواحل للركوب وآلة في الحرب وعون على تحقيق النصر.
الأنعام والزراعات للكسب وحسن المعيشة وطرد الفقر لأن الغنى من مصاديق العز.
اسم الشهوات
وفي اطلاق الآية اسم الشهوات على هذه الأعيان مسائل:
الأولى : المبالغة في شأنها أو الإنقطاع إليها ، وفي سليمان عليه السلام [أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ] ( ) فقد أشتغل بعرض الخيل عليه حتى فات وقت صلاة العصر من غير أن يتركها عمداً.
الثانية : تخليص النفــس من الإندفاع نحو الشهوات واستحواذها على فعل الإنسان.
الثالثة : التحذير من جعلها علة غائية للأعمال.
الرابعة : ايجاد النفرة في النفس من حبها والإنشغال بها، والمرتكز في الأذهان بمبغوضية اتباع الشهوات.
عند الرجوع لماهية هذه الأعيان يجد انها لذات وتشتهي النفس اقتناءها.
ورد ذكر الشهوات ثــلاث مـرات في القرآن، مرة في هذه الآية ومرتين بصيغة الذم لإتباع الشهوات، قال تعالى [وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا] ( )، وتزيين حب الشهوات أعم من اتباعها، فقد يحبها الإنسان لكنه لا يتبعها، بل يتبع الطرق الشرعية لإقتنائها ومنهم من تتبعه الشــهوات وتطلــبه ولا يطلبــها، والله ذو الفضل العظيم.
لقد اراد الله عز وجل للناس التنعم بالحياة الدنيا وهذا النعيم منه ماله وجود خارجي ومنه ماله وجود ذهني و منه ما هو جامع لهما، كما في أعيان النعم المذكورة في هذه الآية، ومن الإبتلاء ان يحاول الشيطان الوسوسة والأغواء لجعل هذا التزيين مقدمة للإنقياد للشهوات وفعل ما يؤدي الى جمعها من غير التفات الى الوظيفة الشرعية، واذا جعل الإنسان هذه المقتنيات غاية أمامه قادته الى الضلالة وجعلت على بصره غشاوة وان جلعها خلفه ومادة ووسيلة صارت عضداً له ونظر من خلالها وأصلح أموره.
وتدل الآية على بديع صنع الإنســان وما فيه من الآيات وكيفية انفعاله بما حوله من الأشياء وأسباب الجذب والنفرة منها وضرورة حضور الإيمان لتنقيح الرغائب وسلامة القرائح وجلب المنفعة ودفع الضرر الدنيوي والأخروي.
وفيها دعوة للإلتجاء الى ســلاح الدعاء للإحتراز من أستحواذ النفس الشــهوانية التي هــي جملة مـزاج الكبر وبها طلب الغذاء والشــوق الى اللذات الحســـية، فالحيطـة والحــذر تكـون من الذات والغير من انداع النفس نحو الشهوات، ومن إقبالها واغواء الشيطان وتزيينها ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل حسن صورة مباهج الدنيا في النفس موضــوعاً للإبتــلاء، فاما ان يكون سبـــباً لنيل الكمال الإنساني والإرتقاء في مقامات الإيمان ومــادة للرفعة والشأن والجاه، ووسيلة للنعيم الأخـــروي بتســخيرها في سبيل الله، واما ان يكــون ســبباً للإفتـتان واختلال النظام وسنن الأحكام ولو على نحو القضية الشخصية.
قانون أصالة المثال
لقد ذكرت الآية أغلب وأهم الأعيان والمنافع في الدنيا للتباين في رغائب الناس والإختلاف في أمزجتهم وميلهم وبيئتهم، كما لو كان من أهل الحضر والتجارة فيميل لجمع الأموال والذهب والفضة او كان من أهل القرى فيحب امتلاك الأراضي والزراعات، أو من أهل البادية فيكثر من الأنعام وذكرت الآية وجوهاً سبعة من الشهوات هي:
الأولى : النساء.
الثانية : البنون.
الثالثة : القناطير المقنطرة من الذهب.
الرابعة : الأموال المتكثرة من الفضة.
الخامسة : الخيل المرعية.
السادسة : الأنعام.
السابعة : الحرث والزروع والأشجار والنخيل.
ولو كان المذكور في القرآن في باب الأعيان والأصناف من باب الحصــر او المثال فهو اما لو لم يثبت انه من أحدهما ودار الأمر بين الحصــر والمثال فيمكــن ايجاد قانون (اصالة المثال) وليس الحصــر لعمومات اللفــظ القــرآني وموافقتــه لمختــلف الأزمــنة والأحوال ولأن ألفاظه المحدودة تحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث.
وما ذكر في القرآن من باب المثال الأمثل وان كانت مستوعبة للعروض والأعيان على نحو اعجازي جامع فذكر الشهوات في بداية الآية لإفادة الإطلاق ودخول الأفراد المستحدثة والقليلة النادرة فيها، ولم تذكر الآية حب الجاه لأنه يتفرع عنها، ولم تذكر السلطنة والحكم لوجوه محتملة هي:
الأول : أنه قليل نادر.
الثاني : أنه خارج موضوع الشهوات وأكبر منها.
الثالث : لأنه قليل عند الناس.
الرابع : أصل ومقدمة لهذه الشهوات اوفرع منها .
وجاءت الآية بلحاظ الأعم الأغلب خصوصا وان الألف واللام في الناس للإستغراق وافادة الجميع.
قوله تعالى [مِنْ النِّسَاءِ]
جاءت (من) بيانية وتفيد ذكر مصاديق الشهوات وأفرادها التي زين للناس حبها، وبدأت الآية بالنساء وهو نوع اعجاز لأن الله عز وجل جعل للمرأة وداً في قلب الرجل ويميل لها ويستأنس بوجودها ويتمتع بها مختلف انواع الإستمتاع.
وجاءت الآية بصيغة الجمع النساء، اما في مقابل الناس وهو جمع أو ان الرجل الواحد يميل الى حب أكثر من أمرأة، ولا تعارض بين الوجهين، فحتى في الملل التي لا تقول بتعدد الزوجات فان الرجل يميل احياناً الى امرأة اخرى ويتمنى ان تكون هي زوجته.
والآية لا تشمل النســاء مطـلقاً كالأم والبنت، بل انها خاصة بالزوجــة وموارد الإستمتاع من المرأة فهذا التزيين له حدان، اما ن يكون شرعياً ومنحصراً بالزواج أو يكون غير شرعي وشاملاً لغير الزوجة.
ان الإفتتان بالمــرأة هـــو أصــل لفروع عديدة من الإبتلاء والإمتحان، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تركت بعدي فتــنة أضــر على الرجـــال من النســـاء) ( )، واذ تتباين حاجة ورغبات الناس في المقتنيات والأعيان فان النساء امر جامع يلتقي به الرجـــال مطلقاً، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (أحببــت من دنياكــم ثـلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني الصلاة) ( ).
لقد جعل الله المرأة نعمة عظيمة وهي أول المنح الإلهية لآدم وجاءت هذه الآية للتوكيد على هذه النعمة وللتحذير من توظيفها بغير مرضاة الله، او الإنشغال بالميل اليهن والقعود عن الدفاع وصرف الهم بالإستئناس بهن و(عن مجاهد في قوله { سيقول لك المخلفون من الأعراب }( ) قال : أعراب المدينة جهينة ومزينة استنفرهم لخروجه إلى مكة ، فقالوا : نذهب معه إلى قوم جاؤوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم في ديارهم ، فاعتلوا له بالشغل ، فأقبل معتمراً فأخذ أصحابه أناساً من أهل الحرم غافلين فأرسلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فذلك الأظفار ببطن مكة ، ورجع محمد صلى الله عليه وآله وسلم فوعد مغانم كثيرة فجعلت له خيبر ، فقال المخلفون : { ذرونا نتبعكم } وهي المغانم التي قال الله { إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها }( ) وعرض عليهم قتال قوم أولي بأس شديد فهم فارس والمغانم الكثيرة التي وعدوا ما يأخذون حتى اليوم) ( ).
والخطاب في الآية للرجال الا ان النساء ايضاً مكلفات، والتكليف على المرأة مركب من أمور:
الأول: اجتناب الإنقطاع الى الرجل والإنشغال بعشقه ومحبته.
الثاني: جعل الرجل يفتتن بها ويصب كل اهتمامه لرضاها.
الثالث: الإشتراك مع الرجل في ترك ما يؤدي الى الفساد واجتناب مقدمات ارتكاب المحرمات.
فالمرأة ليست خارجة عن مضمون هذه الآية ولكن جاء ذكر الرجال كفرد أهم في هرم المجتمع والصلات الإجتماعية وينطبق على النساء للمشاكلة والإشتراك في التكليف.
وهل يمكن القول بخروج المرأة من هذا التكليف لغلبة عواطفها ورقة مزاجها او لضرب الستر عليها وعدم وجود ارادة تامة في الإختيار .
الجواب لا، لعمومات التكليف وأسباب الإفتتان بالدنيا، وتارة تكون مسؤولية المرأة أكبر لقيامها باعداد الأبناء وتولي شؤون المنزل.
لقد ورد قوله تعالى [نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] ( )، فاضافة النساء الى المخاطبين أي ارادة الزوجة، اما الآية محل البحث فجاءت بلفظ النساء مطلقاً من غير تقييد بالإضافة، وهذا من الإعجاز لأن موارد الإفتتان بالمرأة تشمل مضامين الحلال والحرام، والزواج وغيره، والصلات مطلقاً وان كان القدر المتيقن ارادة الزوجة خصوصاً وانه ورد ذكر البنين بعد النساء.
وتتجلى مفاهيم مستحدثة للآية بلحاظ الإختلاط بين الجنسين الذي أصبح ظاهرة عامة في أغلب المناطق والبلدان، وتداخل الحضارات واقتباس الناس بعضهم من بعض من غير اعتبار للحكم الشرعي أحياناً وان ظهرت ازاءها القيم والإسلامية قوية ثابتة متينة، ولكن توالي الأيام على حال معين يعطيه صبغة العادة والواقع، ويجعل الأجيال تعيشه جزء من كيانها.
فجاءت هذه الآية لطرد الغفلة ومنع الإنقياد وراء الشهوة واللذة، ان تنظيم الصلات بين الرجل والمرأة في البيت والدراسة والعمل حاجة عقائدية واجتماعية وأخلاقية، لذا جعلت الآية موضوع الإفتتان بالمرأة أول الوجوه السبعة له من اللذات.
قوله تعالى [وَالْبَنِينَ]
عطف الآية البنين على النســاء، وســواء أفـادت الواو الترتيب اولا تفيــده فان الواقع والوجـــدان ظاهــران في تقــديم المــرأة في موضـوع الإفتتان.
وفي قوله تعالى [بَنِينَ وَحَفَدَةً] ( ).
قال الحســن البصري : البنــون بنــوك وبنو بنيـــك، وذكــر البنين في الخطاب العام وارادة الناس جميعاً، فالابن أمر محبوب يميل له كل انسان في كل زمان ومكان،
وجاءت الآية بذكر حب الولد دون حب البنت، لأن الإستبشار بالولد أكثر وهو مصدر قوة وكثرة وحفظ للنسل، وعون في حال الكبر والهرم، الا ان الآية لا تدل على حصر الحب بالولد الذكر، واذ تتباين النظرة والإكرام للبنت بحسب البلاد والأحوال كما انتشر عند بعض القبائل قبل الإسلام وأد البنات، فان الولد الذكر أمر حسن في كل زمان، ولذا ذكرته الآية على نحو الخصوص ، وكذا في ولادة البنت البركة والخير والرزق الكريم .
وفيه إعجاز وهو خلو القرآن مما يكون مناسبة للطعن او الذم من أهل الشك والريب،فهم يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ويأبون رده الى المحكم، كما أمر الله عز وجل وأقام الحجة فيه، فكيف اذا وجدوا ما يصلح للإشكال بلحاظ بلد او زمان مخصوص فذكرت الآية الولد دون البنت، مع ان مجتمعات كثيرة تحب البنت بل ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حبــب البشــارة بولادة البنــت وبين منافعــها،وللبنت فوائد كبيرة على الأب والأم، ومن البنات ما تكون فوائدها للأبوين أكثر بكثير من الابن وهذا الأمر ظاهر بالوجدان، وفي كل مكان وزمان ، قال تعالى [أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ] ( ) وقال الشاعر :
(ان البنينَ شِرارُهم أمثاله … مَنْ عَقَّ والدَه وَبرَّ الأبْعَدا) ( ).
ولا يطلق لفظ (البنين ) لبني آدم فان لجمع ابن آوى قيل بنات آوى ، وابن عرس : بنات عرس .
ولكن الآية ناظرة الى تزيين حب الولد على نحو الإستغراق لحال وجوده أوعدمه، ان حب الولد سر من أسرار الخلق لأنه العلة المادية لحصول التوالد، وحفظ التناسل وبقاء كلمة التوحيد في الأرض، وجاء حب الولد مطلقاً ومن غير تقييد بعنوان اعتباري اضافي، فكل انسان يحب الولد وهو مطلوب بذاته وليس بصفة حسن زائدة كالإيمان والذكاء والغنى، وجاء ذكر الولد متعقباً لذكر النساء، مما يرجح كون المراد من النساء في الغالب الزوجات.
والاية تحذير من الإنقطاع الى الولد والإنشغال به عن الدفاع والمرابطة والسعي في سبيل الله، فالآية لا تنهى عن حب الولد ولكنها تمنع من الإفراط فيه بما يضر بوظائف الفرد أزاء الدين والأمة، وتذكر الآية بنعمة الولد وكيف انه آية من آيات الله تعالى في الخلق.
ان عظيم القدرة الإلهية وبديع صنعه في خلق الإنسان لا ينحصر بذات الإنســان بل يشــمل الحالة الزوجــية والتوافــق بين الرجــل والمــرأة والتناســل وايجـــاد الولد وحـرص الوالدين على العناية به ومحبته الى حين بلوغــه وادراكه لمســـؤولياته الشــرعية والأخلاقية، فتزيين حب الولد لا يقف عند الحمل والولادة بل يشمل جميع مراحل حياته.
وما هي النسبة بين عنوان الشهوات وبين الولد، انها تبدأ من الحالة الغريزية في الزوج والجماع والتكثر والقوة وشد العضد بالولد وحفظ الاسم وكأنه توارث اعتباري وتجديد نسبي في الحضور والبقاء في الدنيا من خلال الولد.
وتبين الآية التباين بين حب النســاء والولد، فحب النساء ليس مقدمة لحب الولد ووجوده، فكل منهما أمـــر مستقل وقائم بذاته في نفس الإنسان كما ان ميل المرأة الى الرجــل أمــر غريزي مستقل، وحب النساء لا ينحصـــر بالرجل المتزوج ولا الشاب، بل يشــمل الرجال مطلقاً الا مع ورود دليل على خــروج فئة او صــنف معين وهو معدوم في المقام، فكل رجل يميل للنســاء سواء كان حديث عهد بالبلوغ او شيخاً هرماً، لذا وردت الآية بصيغة العموم الإستغراقي في لفظ الناس [زُيِّنَ لِلنَّاسِ] ( ).
قوله تعالى [وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]
آية اعجازية تفيد كثرة الأموال وحب الناس لجمعها واقتنائها، وقد تقدم اثنان وعشرون وجهاً لمقدار القنطار وكلها تؤكد كثرته، ولم تذكر الآية القنطار بصورة المفرد بل ذكرته بوجهين :
الأول : لغة الجمع وانها قناطير، وأقل الجمع ثلاثة ولكن مفهوم التزيين والحب يجعل العدد كثيراً لأن الوجود الذهني واسع.
الثاني : القناطير مقنطرة أي مضاعفة ومتكثرة.
وهذا الأمر لا يتحصل الا للقليل النادر من الناس فتكون عنده الأموال الكثيرة والكنوز المدخرة ولكن التزيين عام يشمل الغني والفقير، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والصحيح والمريض ليكون مناسبة للتذكير بالجنة وما فيها من النعيم فيختار الإنسان طريق الوصول اليها بالعمل الصالح، فلابد من سيطرة الإنسان على هواه وعدم ترك النفس الشهوية تستحوذ على تفكيره وسلوكه.
فمتى ما كانت ملكة الإيمان هي الحاكم في اختياره ونوع فعله فان هذا التزيين لن يضره ويستطيع التغلب عليه ويجعله مصدر هداية ورشاد، فليس في ذات الإنسان ما يكون ضاراً على نحوالسالبة الكلية بل هو للنفع أقرب، ولم تذكر الآية الذهب وحده بل جاءت بذكرهما معاً لما لكل منهما من خصوصية وصحيح ان الذهب أغلى من الفضة الا ان الفضة معدن له مالية واعتبار وقيمة لا سيما اذا اخذت على نحو مستقل عن الذهب، ويراد من الذهب والفضة هنا المعنى الأعم وهو :
الأول : معدن ثمين.
الثاني : مادة للزينة في الآلات والأثاث واللباس والحاجات.
الثالث : النقدان والمال، ويراد من الذهب الدينار الذهبي ومن الفضة الدرهم الفضي، واذا انتفى اســتعمال الذهــب والفضــة كنقدين في هذه الأزمنة، فان العملة الورقية تقــوم مقامــهمـا في مفهوم الآية الكريمة.
وتدخل العملات على اختلافها في معنى القناطير المقنطرة ويراد منها الملايين من الدنانير والجنيهات وغيرها، كما ان عدم استعمال الذهب والفضة كعملة ليس مطلقاً من جهة الزمان، فقد يرجع استعمالهما في يوم ما، والآية لم تذكرهما كعملة فقط.
ومن الإعجاز ان تجد بقاء القــيمةالنقــدية والمــالية للذهب والفضة في كل زمــان ومكــان، فلم يذكــر القرآن أحــدهمــا، والأرجـح في طول البقاء بل ذكرهما معاً مع قرينة البدلية في العملات الورقية أو غيرها في قادم السنين والأحقاب .
وكان بمكة أيام البعثة النبوية مائة رجل قد قنطروا، مما يعني وجود أثرياء واحصاء عرفي عام لأحوال الناس المالية وهو دليل على استقرار المجتمعات آنذاك.
وظاهر الآية ان الميل الى الذهب والفضة لا ينحصر بالنساء دون الرجال بل يشمل الجميع فالذهب والفضة، عنوان للأموال الطائلة التي يحلم بها الإنسان، والحب لهما بالذات ووسيلة للأغراض والمصالح والإدخار والإنتفاع الأعم منهما.
ولم يرد ذكر الذهب والفضة معاً الا في آيتين من القرآن، فقد وردا في صيغة ذم وتحذير، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
وحب الذهب والفضة أعم من اقتنائهما، والإقتناء من الإكتناز، والإكتناز على وجــوه، فمن يخرج الحــق الشــرعي ويـــدفع زكـــاتهـما فلا ضـــير عليه، ومــع ان القرآن يبين تزيين حب المال الى النفس الإنســانية جاء بالتحذير من كنزه وادخاره وعدم تسخيره في تعظيم شعائر الله.
وقد مدحت الآية السابقة الذين يقاتلون دفاعاً في سبيل الله وهم أعلى رتبة من الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، وقد ذكر الذهب عدة مرات في القــرآن كحلية لأهــل الجنة قال تعالى [يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ]( )، ليكــون تــزيين وحــب الذهـب لإقتنائه في الآخرة، فقــد يعجز الإنسان عن جمعه وشرائه ولو بذل الوسع في السعي والكســب، ولكن الحــواجــب مـعدومــة بيـنه وبــين نيله وامتلاكه.
قوله تعالى [ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ]
بعد ذكر الذهــب والفضــة والأمــوال ورغبــة الإنسان مطلقاً بحيازتها وجمعها التفاخر والتباهي بها واستعمالها فيما يحب ويشتهي جاء ذكر الخيل كثروة وجمال وحرز وآلة في القتال والسفر، ومطلق الركوب.
وردت كلمات في هذه الآية لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
الأول : القناطير.
الثاني : المقنطرة .
الثالث : المسومة .
الرابع : المأب .
ومن الآيات أن الناس إلى الأن يعتنون بالخيل وإقتنائها ، وتحسين أنواعها وركوبها ، والمسابقة فيها ، وقال تعالى [وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
و(عن أبي كبشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الخيل معقود في نواصيها الخير ، وأهلها معانون عليها ، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة) ( ).
و(عن أبي وهب الحسيني، وكانت له صحبة قال : قال رسول اللَّه : صلى الله عليه وآله وسلم : وارتبطوا الخيل، وامسحوا نواصيها وأكفالها، وقلدوها ولا تقلدوها الاوتار، وعليكم بكل كميت أغرَّ محجَّل أو أشقر محجل، أو أدهم أغرَّ محجَّل) ( ).
وهل المراد حصر الموضوع بالخيل ، الجواب لا ، فالمراد آلة الدفاع والنقل والزينة كالسيارة في هذا الزمان .
الشمول الزماني للفظ القرآني
لقد جاء اللفظ القرآني ليستوعب الأزمنة المختلفة ويكون مناسباً لمختلف الأمصار والأعراف والأمزجة، فلا تنفر منه النفوس ولا يبدي الإنسان جهله بما فيه من الأسماء والأمثلة.
ولم تنحصر مواضيعه وعناوينها بزمان النبوة والأعراف والمفاهيم السائدة فيها، بل جاء بالأسماء والمضامين التي تصلح لكل الأزمنة والأمكنة، ومنها الخيل التي هي عنوان القوة والشجاعة والفروسية والراحلة المريحة قال تعالى [وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا]( ).
فذكر الخيل يشمل وســائل الركوب ومنه افتتان الناس في هذا الزمان بمختلف السيارات، ولكن الخيل تبقى لها خصوصية مع ان الحروب والمعارك تجري بآلات متطــورة وغــاية في الدقـة والسعة، والتنقل والسفر يكون بالطائرات والقطارات والسيارات فهذه الخصوصية للخيل من اعجاز القرآن، وذكره لأسماء ومسميات معروفة عند الأمم المختلفة.
فالحاجة في هذا الزمان شبه منتفية للخيل بالإستعمال الشخصي والعام، ولكن ميادين خاصة تنفرد بها الخيل ولا يناسبها الا الخيل كما في تمارين الفروسية وما له من المعاني العسكرية وغيرها والقتال في أماكن وتضاريس لا يلائمها الا الخيل، وقد تصدر دراسات طبية وعلمية تبين المنافع الخاصة لركوب الخيل ومزاولة التمرين به واثرها في الأعداد والتربية ويعود الإهتمام بها ولكن بصبغة عالمية ليكون مصداقاً مستحدثاً لهذه الآية وما فيها من الإعجاز.
وقيدت الآية الخيل بانها مسومة، وهذا القيد اعجازي تجلى ايام التنزيل وبــعدهــا بوضــوح فقد كانــوا يسـتعــملون الخــيل مطـلقاً للحاجة اليها في المعارك والركــوب، فاذا كان عدد الخيل مع المسلمين فرسين فقط في معــركــة بدر، أمكن معرفة الحاجــة لأنـواع الخيول مطلقاً، ولما كثــرت الخيــول أخــذ ينظر الى فصــيلتها ولـونـها ونحــوه من المــزايــا.
كما ان الآية بصدد حب الإقتناء والميل بالشهوة، ولابد ان تكون موجودات عالم التصور أجمل وأحسن الأشياء، وأبهى المقتنيات لسعة عالم الخيال والأماني.
معنى المسومة
اختلف في المسومة على وجوه هي :
الأول : المرعية: كما تقدم في باب الإعـراب واللغة، والسوم هو الرعي، ويقال السائمة أي المال والماشية الراعية التي ترسل في المرعى ولا تعلف.
الثاني : السومة: والسيماء: العلامة، يقال سوّم الفرس: جعل عليه السيمة، فالخيل المسومة أي المعلمة بعلامة معينة.
الثالث : الخيل المسومة: المرسلة وعليها ركبانها، قاله ابو زيد( )، ولا دليل عليه.
الرابع : قال ابو مسلم المراد الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل.
الخامس : الشية: قاله قتادة.
السادس : الكي: قال المؤرج.
السابع : انما هي البلق عن الأصم.
الثامن : ان تكون الأفراس غراً محجلة( ).
التاسع : انها الخيل المطهمة الحسان، عن مجاهد وعكرمة، والمطهمة الجميلة، وهذا القول يحتاج الى دليل الا ان يكون حسنها فرعاً لما فيها من علامات وسيماء.
والأقوى ارادة المعنيين اللغويين للمسومة وهما المرعية والمسومة، لأن الوجوه الأخرى فروع العلامة والسمة.
واجتماع المعنيين من اعجاز القرآن لأن المقام مقام التزيين النظري والحــب النفسي، فالمرعية توفر على صاحبها نفقتها وثمن رعيها وخدمتها، والمعلمة تكون جمــيلة وذات هيــئة حســنة تسر الناظر، وتكون تلك العلامات عنواناً للإختصاص والملكية ومانعاً من تعدي الغير عليها.
وورد ذكر الخــيل من باب المثــال والمــراد الراحـلة وآلة النقل ووسيلة من وسائل القتال والعــز والرفعة وهو عالم رحب لسرعة التطور والتحديث فيه، فيكون المراد في زمان الثورة الصناعية من الخيل معنيين:
الأول: الخيل ذاتها لبقاء ما لها من الشأن والخصوصية في عالم الأموال والأثمان الغالية والحسن الذاتي.
الثاني: الآلات التي تؤدي وظــائف الخيــل ما يكــثر الإفــتـتان به ويتسابق الناس في اقتناء حسنها وأجملها وابهاها كالمركبات الحديثة، وجاءت الآية بصيغة الجمع لإفادة التعدد والكثرة والتكاثر.
وانتقلت الآية من الذهب والفضة الى الخيل لوجــود نــوع تشابه بينها والجامع المالي بينها ولأنها من مصــاديق الثروة وليكون موضوع الآية شـــاملاً وجامعـاً لمختلف الأهواء والأماني التي غالباً ما تتعلق بالبيئة والمحيط القريب من الإنسان في تصوره وما يستحضره من صور الخيال.
لقد ذكرت الآية الأنعام وهــو عنوان تشــترك فيه الإبل والبقر والغنم، ومع هذا فانها ذكرت الخيل على نحو مستقل مما يدل على اعتبارها وان لها وظائف مســتقلة تجعــل نفس الإنسـان تميل اليها وتشتاق لحيازتها وتملكها ســواء بذاتهــا واستعمالها في المعارك والركوب، أو بدائلها كالمركبات الحديثة والتي يبدد فيها اعجاز الآية بالذكر المستقل للخيل ومغايرتها للأنعام، فان ذكر الخيل جاء مثالاً للإرتقاء العلمي المستقل وجعل البديل الصناعي ذا خصــوصية تتنافى مع ما للأنعام من المنافع.
قوله تعالى [وَالأَنْعَامِ]
وهي جمــع نعم، وجمــع الجمــع اناعيــم، والأنــعام هي الإبل والبقر والغنم، وتنفــرد الإبـــل بان تطــلق عليها الأنعام، ومنهم من خص النعم بالإبل والــشـــاء، ولعــله لقلة اقتناء العرب للبقر والنعم يذكر ويؤنـــث، ويحرص أهـل الريف والبادية على اقتناء الأنعام والإكثار منها والإنتفاع من نمائها المتصل كالصوف والمنفصل كالحليب والولد.
وتعتبر الأنعام مادة عــز وثــروة وغــنى في كل زمان ومكان، وهذا من إعجاز القرآن في ذكــرها في المقام، ولا تنحصـر الرغبة بامتلاكها بأهل الريف بل تشمــل الناس جميـعاً، وحتى في الأمصار والأماكن التي يتعـذر فيها امتـــلاك الأنعـــام لإنعدام أســباب الرعــي او للقوانين او لأحكام العـرف والسكن فان الإنسان يتمنى امتلاكها وجعلها في أمكنة مناســبة خصــوصاً وان الآيــة جــاءت بارادة التزيين وحب التملك وهو عام وشـامل ودليل على سبر القرآن لأغوار النفس الإنسانية وكشــف الجامع المشترك الذي يتخيله كل انسان، وتارة يأتي هذا التخيل وحــب التملــك على نحــو التفصـيل والتعدد والظاهر بالقول والفعل، وأخرى يأتي مجملاً وعلى نحو صرف الطبيعة والرغبة الخفية.
والله عز وجـل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( )، وهــو الرؤوف الرحيم الذي يرزق من يشاء بغير حساب، ولم ترد هذه الآية لوصف الحال النفسية للإنسان فحســب بل جاءت بأمر ظاهر وهو حسن العاقبة للمتقين كما في خاتمة الآية، بالإضافة الى عظيم فضله واحسانه تعالى في الدنيا.
فالتزيين وحب هذه الأنعام والأعيان عنوان الشوق لهذه الأعيان، وليس الحاجة بمفهومها المادي المتعارف لأن ما يحبــه الإنسـان يتعدى كثيراً حدود الحاجة، ومن رحمته تعالى ان يأتي الرزق واسعاً كثيراً متصلاً.
فالآية بشــارة زيادة النعم والأنعام في الدنيا وكثرة الخيرات عند الناس مطلقاً وهي مناسبة للشكر والثناء عليه تعالى، ان حب امتلاك الأنعام يدل على تفضيل الإنسان وتسخير عالم الدواب له، ليقضي حاجته ويشبع جوعته ويكسي عورته منها، ويتلذذ بالزائد منها كجزء من زينة الحياة الدنيا، وليدرك الإنسان المائز الذي خصه الله به وهو العقل ولزوم شكره تعالى على هذه النعمة بحسن الثناء وأداء الفرائض والعبادات قال تعالى [وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا]( ).
لقد جعل الله عز وجل كل كائن ومخلوق موعظة وعبرة وهو من عمومات تسخير الأشياء للإنسان، لأن الموعظة مقدمة للهداية والرشاد فالأنعام عون على الصلاح وسبب لمعرفة الصانع سواء بخلقها او بالمنافع التي يحصل عليها الإنسان منها،
قوله تعالى [ وَالْحَرْثِ ]
وهذا هو الفرد الســابع والأخير من الأعيان التي ذكرت الآية أنه يحبها الإنسان ويميل اليها لما فيها من حسن وما عليه الإنسان من ضعف لأنه مخلوق وممكن يلازمه الإحتياج والعوز، والحرث له معنيان خاص وعام، اما الخاص فهو العمل في الزراعة والحرث، واما العام فهو الكسب والسعي وجمع المال ومتاع الدنيا، والمراد في الآية الكريمة ذات الزرع ويشمل الحبوب والنخيل والأشجار كما في قوله تعالى [أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] ( ).
ونعمة الزرع والحرث يتمناها كل انسان حتى ابناء المدن الذين يسكنون في غرف صغيرة ضمن عمارات سكنية داخل المدن ويخالط تملكها ذهن الإنســان عند رؤية الزرع والأشجار او عند الأكل والمرور في الأسواق أو في حال عرضــها بالإعلام المرئي او المقــروء، فينجذب الى بهجتها ويحـب حيازتها، وهــو نعمة اضـــافية على الإنســان، والزروع والحرث طعام للإنسان بالذات والواسطة، أي تكون طعاماً للأنعام التي سخرها الله له ايضاً بما يجعله يميل الى تملك الحروث والزرع ويلحق بها الأراضي الواسعة والعقارات،لأن الزروع لا تكون الا في الأرض تملكاً او أجارة.
وجاء ذكــر الحرث والــزرع في المرتبــة الأخــيرة مـن الأعيان المرغوب فيها مما يدل على أهمية الأصناف الأخرى المتقدمة خصوصاً مع التمني العام لتملك البساتين والحدائق والزروع، ولعل تأخرها لوجوه منها:
التعب والمشقة والحاجة الى العناية الخاصة بها.
طول المدة للحصول عليها وتعدد مراحل نموها، اذ تبدأ ببذر الأرض ثم السقي المتكرر ثم الحصاد والقطف.
المشقة في جمعها وبيعها.
امكان الحصول على الحبوب والثمار الجيدة بالأموال والذهب والفضة.
يتعلق الأمر بالتمني والرغائب، والنفس تميل الى ما هو أقرب وأسهل وأشهى.
وتدل الاية على ميل الإنسان لجمع الأموال أكثر منه لحب الحرث، لذا ترى الفلاح يتمنى ان يعمل بالتجـارة وتحقيق الأرباح بالبيع والشراء، ولا يتمنى التاجر سكن القرية والعمل بالأرض.
من الإعجاز ان الآية سياحة ايمانية عقلية في عالم الخيال والأماني الرحب المتسع، ويظن الإنسان عدم اطلاع غير الله على ما نفسه وما يعيشه من خلجات وأحلام تصورية، فتأتي هذه الآية لتفضحه وتبني جامعاً مشتركاً بين الناس في باب الأماني وان اختلفت المقاصد والنوايا، فمن الناس من يريد الغنى للتطاول على الآخرين، أويطلبها لفعل السيئات واطلاق العنان للنفس الشهوية ومنهم من يري جعلها في مرضاة الله واصلاح المجتمعات.
وجاءت الآية لتهذيب عالم الأماني واقامة الحجة على أهل الغواية والجحود، فتعيين الرغائب النفسية للإنسان يدل بالدلالة الإلتزامية على انه سبحانه يعلم ما في قرارة نفسه مما يبعث الحياء عنده ويجعله يخاف الله عز وجل في الخفاء بالأولوية،
فعندما يعلم الإنسان ان الله يعلم ميله الشديد لمباهج الدنيا فانه يتجنب ارتكاب المعاصي ولو بالخفاء لأن الله عزوجل يعلمها بالأولوية القطعية، بل انه يجتهد لتهذيب أمانيه وتوجيهها في مرضاة الله، ويقول في نفسه او أمام الآخرين مثلاً ان رزقني الله ولداً لأعلمه الفرائض وأحفظه القرآن او ان أمتلكت الأموال لأخرج زكاتها وأنفق منها في سبيل الله، فتكون هذه الأماني :
الأولى : مقدمة لنماء ملكة التقوى والصلاح في النفس.
الثانية : شاهداً عليه فيما قطعه من عهود او أعلنه من النوايا الحسنة.
الثالثة : مناسبة لإستحضار الآخرة وأسباب السعي اليها.
الرابعة : دليلاً على حسن الخلق وتهذيب النفس وعدم طلب الأماني والمكاسب لذاتها.
علم جديد في البلاغة
يعتبر علم البديع من خصائص اللغة العربية لما فيه من السعة وما يؤدي اليه من طلاوة وحسن لفظي، وافاضة المعنى الجمال والبهاء على المقصود وملائمته لمعنى الشيء في الذهن او لتنبيهه على معنى له لم يتضح الا من خلال وجوه وفنون البديع.
ويختلف علم البديع عن علم المعاني والبيان فهما تحسين ذاتي للكلام لأنهما يتضمنان مطابقة اللفظ للمعنى وبيان العلاقة والمناسبة بينهما، اما البديع فهو عرضي ويستلزم اختياراً حسناً للألفاظ وارادة المعنى ولو بالواسطة وبالوصف الإجمالي، والبديع على قسمين منه ما هو بديع معنوي، ومنه بديع لفظي، وقد جاءا معاً في هذه الآية اذ ان الآية وصفت النعم بانها شهوات لأن موضوعها ليس الوجود الخارجي بل هو رغبة وأماني النفس الشهوية وتبين نقص الإنسان، ومعنوي بلحاظ المعنى وتعدد المصاديق.
والقرآن مصدر البديع وليس من قسم من أقسام البديع الا وتجده ظاهراً جلياً فيه وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( )، بل ان ما ذكر من وجوه البديع لا تستوف مصاديقه في من القرآن، فمثلاً يمكن ان نؤسس وجهاً جديداً من وجوه البديع اذا جاء اللفظ بلحاظ الآمال والتخيلات والرغائب دون الأمر الواقعي الفعلي ونسميه “السراب” ويتعلق بحديث النفس وما تشتهيه وتتمناه فيتغير المعنون والمقصود،
فالنعم العظيمة التي وردت في الآية جاءت بلفظ الشهوات لأنها حديث النفس وأماني وبذا يكون لعلم البديع اعتبار في تغيير تعريف الشيء المقصود، اما أطلاق اسم السراب فله دلالة عرفانية ويفيد زجر النفس عن السياحة البعيدة في الأماني الشهوانية، ويمكن اعتباره من علم البيان لأنه أداء لمعنى باساليب وطرائق متعددة من التشبيه والمجاز.
قوله تعالى [ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]
ذلك اسم اشارة للبعيد، والمراد منه وجوه:
تزيين هذه الأعيان في النفس.
ميل وحب النفس الإنسانية لها.
ذات الأعيان من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل والأنعام والزرع.
والأصح هو الأخير لأن المراد بالمتاع هو ما ينتفع منه، ومن صيغ الإعلام الحربي الحديث ان يصور العدو بأقوى حال متوقعة ويبالغ في قوته وشــدته وضــبطه وكــثرة عــدد جنوده وعدته وقدراته، كي يستعد له استـعداداً تاماً ويتوقع الجنود والضباط أسوء الإحتمالات، حتى اذا ما بدأت الحرب تم دحره بسهولة لأنه أقل كثيراً من المتوقع وفق الحسابات.
وهذه الآية تتناول موضوعاً أهم وهو المعركة المستديمة للإنسان كجنس مع الدنيا وزينتها، وجاء تصويرها بأبهى وأبهج صورة تتعدى الخيال والسياحة فيه، خصوصاً بالنظر لحب تلك الأعيان على نحو الجمع والإتحاد والتعدد لكل فرد من الأفراد السبعة.
فقد يتمنى الإنسان الذهب والفضة ولكن ليس على سبيل القناطير المقنطرة والأرقام المفتوحة التي يدل عليها لفظ القنطار، ولكن الآية جاءت باجتماع القناطير من الذهب ومن الفضة مع الأنعام والزرع والبساتين وغيرها لتصوير هذه المنافع والأعيان بأبهى وأجمل صورة، وفي مناسبة استقراء الآيات القرآنية يدل على ان هذه الأشياء متاع في متاع، فكأنها متاع فرعي، والمتاع الأصل هو الحياة الدنيا نفسها، قال تعالى [إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ]( ).
وكما وصــفها القرآن بانهــا متاع زائل وعرض فان جاء بالتحذير منها بان متاعها زائف وخــادع لا حقيــقة ثابتة له، قال تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( )، واذا كانت الدنيا نفســها عــرض غير مســتقر، فعلى الإنسان ان لا يميل اليها وينقــطع اليها بل يأخــذ زاده منــهـا، ليكون تزيين هــذه الأشياء وحبها نوع افتتان، وقهر النفس على الأعراض عنها والإعـراض عنها الا بالمقدار الذي يجعــله عــزيزاً ويغــنيــه عن الحاجة الى الغير ويكون عوناً له على العبادات وأداء الفرائض.
والآية علاج أخلاقي للنفوس وتأديب لعموم المسلمين ودعوة لكبح جماع التصورات والتخيلات، فاذا كانت مادة وموضوع التخيل متاعاً زائفاً ونفعاً قليلاً محدوداً فيجب ان لا ينشغل الذهن بها لأن العقل تشريف للإنسان وآية في بديع صنعه وخلقه وصحيح ان الثواب والعقاب يتعلقان بالأعمال وان الله عز وجل لا يؤاخذ الإنسان على ما يدور في خلده – بفتح الخاء واللام.
ولكن هذا التصور له آثار على السلوك ويشغل حيزاً من تفكير الإنسان يؤثر في أفعاله وقد يمتد هذا الحب والخيال الى وقت أداء الصلاة وينشغل قلبه عن أفعالها، ويسرف في التفكير فيميل الى أفعال منافية للشرع او تؤدي به الى الوقوع في السفه اوالإرباك وتحمل أعباء الديون والفشل في التجارة والكسب.
فجاءت الآية لإصلاح البال والفعل، وتوجيه الإنسان بروعه وقلبه وعقله نحو الطاعات والفرائض فيجعل الآخرة هي الهدف بعد بيان تلك الأعيان بصورة بهية تجذب النفوس اليها.
وجــاءت خــاتمة الآية ببيــان حقيقتها وانها زخــرف ومـتاع قليل، وقد يتستر الرائد والزعيم والتاجــر وصاحب الصناعة على ما عند منافسه من الحسن والمرجحات ويحاول التعتيم عليها والتأكيد على مساوئه، اما القــرآن فجــاء ببيان الدنــيا ومتاعهـا بأجمل صورة في النفس، ولكنه ذكر حقيقتها ووضــعها بما يزيل اللبس ويقطع الإفتتان بها لبعث الناس على الإجتهاد في الصالحات ، للفوز باللبث الدائم في النعيم ، والزحف الحقيقي المتصل الذي ليس له إنقطاع .
و(عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السموات والأرض ، ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا أساوره لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم) ( ).
فخاتمة الآية رحمة الهية ملازمة لخطور هذه الأشياء على البال، ومع ان كل فرد منها نعمة مستقلة فالزوج نعمة عظيمة والابن نعمة ونفع في النشأتين، والرزق الكريم من الذهــب والفضــة والخيل والأنعام والغلات نعم عظيمة متصــلة، يعجز الإنسان عن الشكر عليها الا ان الآية نعتتها بانها شهوات، وهذا من اعجاز القرآن واسراره التي تؤكد نزوله من عنده تعالى، ليكون هناك تمييز بلحاظ الجهة والحيثية ان حب اللذات والإنقطاع اليها يجعلها شهوة ولذة خالية من الراجح العقلي والشرعي.
و(عن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : حُفَّت الجنَّة بالمكاره وحُفَّت النَّار بالشهوات) ( ).
وفي الحديث: (جهنم محفوفة باللذات والشهوات)، أي ان الإنقياد للذات والشهوات يكون مقدمة لدخول جهنم .
وذكرت الآية تلك النعم باسم الشهوات وهو عنوان ذم لها وتحذير من الإنشغال الذهني بها واستحواذها على طموحات وآمال الإنسان.
ومن اعجاز الآية ايضاً جعل الأسماء سلاحاًَ في المدح والذم، وانبعاث النفس نحو المسمى أو النفرة منه، فنفس المؤمن العارف بالله تبتعد عن الشهوات ولا تحوم حولها اجتناباً للوقوع في حبائلها، واذا قيل كيف تسمى النعم شهوات قلت: بحسب اللحاظ والقصد، فان حبها والرغبة في اقتناء المتعدد والمتكثر منها يكون من الشهوات بلحاظ الميل والرغبة واشتياق النفس لها، اما بلحاظ استثمارها كرزق كريم ونعمة والتزود منها لصلاح الذات والمعيشة الكريمة وللآخرة فان كل فرد منها نعمة مستقلة تنحل الى عدة نعم.
ان استحضار الشكر لله تعالى على النعم واقية من السياحة في الخيال، وجاءت قراءة سورة الفاتحة على نحو الوجوب المتكرر في كل صلاة يومية لما فيها من مضامين الرق والعبودية لله والشكر والثناء عليه سبحانه لتكون الصلاة حرزاً من استحواذ حب الدنيا على النفس الإنسانية ليس على المسلم وحده بل على غيره ايضاً، فحينما يرى أهل الكتاب والناس المسلمين ملتزمين بأحكام العبادة مبتعدين برفعة عن متاع الدنيا واللهث وراء زينتها فانهم يعتبرون ويتعظون منهم ولو تباينت درجة الإتعاظ.
والبلاغة وأقسامها في القرآن مدرسة علمية لا ينحصر موضوعها بمطابقته لمقتضى الحال فحسب، بل انه يتضمن علوماً في الفقه والعقائد والأخلاق، فبعد ان ذكرت الآية أصناف النعم ونعتتها بانها شهوات بالذات لا لأنها فعلاً شهوات بل لأن موضوعها الحب والميل النفسي وبعد ان ذكرت الآية أنواع تلك الرغائب جاءت عليها بالذم والوصف بأنها كواقع خارجي متاع قليل، لعدم تعلق النفس بحبها، والشوق اليها وتصورها بحال بهاء ورونق خصوصاً وانها لن تدفع الأجل ولا تكون سبباً لطول العمر.
فالذم وكشف حقيقة الشيء وما فيه من القبح بعد ذكره ومدحه علم مستقل في البلاغة يمكن أن نسميه “الإيضاح” فهل من تعارض بين المدح والذم في المقام، الجواب: لا، فكل منهما يأتي بحسب الجهة والحيثية وقد يكون أحدهما مجازاً والآخر حقيقة، فوصف هذه المصاديق بانها متاع الحياة الدنيا جاء على نحو الحقيقة ووصفها بالشهوات بلحاظ وجودها الذهني والميل النفسي لها.
قوله تعالى [وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ]
لما بدأت الآية بأمــر عام يشــمل الناس جـاءت خاتمة الآية قاعدة كلية في أصل من أصــول الدين وهو المعاد، اذ يقر ويعترف المليون جميعاً بحتمــية وقوعــه، ومع ان ما تقــدم وهــو الاخـبار بان هذه الأعيان مــتاع الحياة الدنــيا وهو ضد موضوع الخاتمة، فانها جاءت لتوكيد حقيقته وماهــيته وســرعة زواله وهــذا من إعجـاز القرآن بان يأتي فيه الضـــد ليثبت ويؤكـد حقيقة ضده، ويمنع من تعديه حتى في عالم التصور مع الفارق الكبير بين المتاع في الدنيا والنعيم الدائم في الآخرة.
وعن عبد الله بن عمر قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن أول ثلة الجنة الفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره . إذا أُمِروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وأن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وقُتِلوا وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي؟!
أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب ، ويأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟
فيقول : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي .
فتدخل الملائكة عليهم من كل باب { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }( ) ( ).
وما في الدنيا ليس خارجاً عن ملكيته وسلطانه تعالى ولكن الآية جاءت بلحاظ الإعتبار الزماني، والمؤقت والدائم، والعرضي والذاتي، والزائل والثابت، فما في الدنيا من النعم عرض زائل فكيف بموضوع حبها وتزيينها بالنفس، وليس كل من حبها ومال اليها أقبلت عليه وقد يكون العكس فمن فتنتها ومكرها انها تتجافى عمن يريدها وتجعل امانيه كالسراب.
فجاءت خاتمةالآية للتخفيف والإعانة والهداية ومتى ما عرف الإنسان حقيقة الشيء وزالت عنه أسباب الغشاوة فانه يتصرف معه بما يناسبه ويلائمه، لقد اراد الله عز وجل تخليص الناس من الجهالة ومواطن الغرر، فجعل هذه الآية رقيباً على عالم التخيلات والأماني والرغائب وهذه صغرى اما الكبرى فتتكون من مسألتين:
الأولى: علمه تعالى بخلجات النفس.
الثانية: رافته تعالى بالعباد وبلوغ مضامين الرحمة الى نوع الأوهام التي تطرأ على النفس وتمر عليها فان الله عزوجل يعلمها ويريد لها ان تكون سليمة نافعة ومقدمة للصلاح.
لذا فان الأخبار عن العــودة اليه دعوة للإســتعداد لهذه العودة ونبذ للإنشغال بحب العرض الزائل وترك النعيم الدائم والآية ترغيب بالجنة ومن الآيات في المقام ان لفظ (النساء) ورد في القرآن خمس وخمسين مرة، وكلها تتعلق بالحياة الدنيا مع ان الآخرة فيها النساء وقد ورد بلفظ الأزواج والحور العين في دلالة على عدم كراهة حب الزواج في الآخرة والتنعم بنعمة الحور العين، قال تعالى [وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ]( ).
حينما يخبر الناس ان هذه الأعيان منافع زائلة لأن وعاءها العام وهو الدنيا عرض زائل، وزمان منقض فربما لا يتعظ شطر منهم ولا يتوقف عن السياحة في عالم الشهوات التصوري، فجاءت الآية لنقض هذا التصور واثبات بطلانه ببيان عالم الخلود والنعيــم الحقيقي واضافت الآية المآب اليه تعالى وانه عنده في اشارة الى الآخرة بقرينة المآب الذي يعني الرجوع.
ومع ان المراد من المآب في القرآن هــو الآخــرة، فهـل يمكن اضافة قسم دنيوي حاضر للمآب يتعلق بموضوع هذه الآية، وهو ان اشغال الذهن بذكره تعالى والتفكير بنعم الآخرة من المآب الحسن وهو رجوع اليه تعالى عن حب الشهوات وزينتها، الجواب ان القدر المتيقن من الآية هو عالم الآخرة، وقد ورد في آيات كثيرة وعداً وبشارة للأنبياء والصالحين وفي كل من داود وسليمان عليهما السلام قال تعالى [وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ]( ).
والقرآن يفســر بعضه بعضاً وقد بين صفة الذين ينالون الدرجة العالية عند رجــوعهم الى الله عــز وجـــل، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ]( ).
والرجــوع الكــريــم لا يـناله كل انسان لذا يرد المآب والرجوع الى عالم الآخرة بقيد الحسن دائماً.
فقد ورد بصيغة الوعيد والإنذار والتحذير قال تعالى [هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ]( )، ما يعني وجــود برزخ فـليس كــل انشـــغال ذهني بالشهوات يقود الى النار، لأن المدار على الأعمال، والله عز وجل لا يؤاخذ على حديث النفس والنوايا ما لم تترجل الى الخارج بفعل وسلوك، نعم ذكر الطاغوت في الآية من باب المثال للمجرمين والظالمين.
وتبعــث الآية السكينة في النفس بانتقال الذهن الى عالم الآخرة، فهي اذن عــلاج نفسـي لم تبلغه مدارس التحليل النفسي تقوم بذم الفعل القبيح، ثم تنقل الإنســان الى الأمــر الحسن بصــيغ ملكـوتية لتعرج الروح والذهن في النعيم الدائم مما لا يصــدق عليه شــهوات وليس هــو عرض زائل، فمن صفات الشهوة ان تكون قريبة زائلة ملائمة للهــوى والمزاج، اما النعم الأخروية فهي دائمة تأتي جزاء وثواباً.
وخاتمة الآية تتضمن مقدمات ووجوهاً ثلاث وهي :
الأول : الإخبار عن مآب وعودة ، والمآب : المرجع مفعل من آب والمراد الجنة .
الثاني : ان المآب حسن لمن يستحقه وسعى اليه ، و(عن محمد بن عبد الله بن عَتِيك، عن أبيه عبد الله بن عَتِيك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله-ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث: الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن وقال: وأين المجاهدون-؟
فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله أو مات حَتْف أنفه، فقد وقع أجره على الله -والله! إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-ومن قتل قَعْصًا فقد استوجب المآب) ( ).
الثالث : ان الرجوع الى الله عز وجل داره المثوى الحسن عنده تعالى.
مما يعني ان الآية وعــد كــريم واخــبار عــن نعيم دائم يقدر عليه غــيره تعالى ولا يكــون الا عــنده، وعــدم ظــهوره للعيان لا يضر بحقيقته.
والآية حث على الإيمان بعالم الآخرة، ومتى ما أيقن الإنسان بالعودة اليه تعالى فانه يزهد في منافع الدنيا ويجعلها مقدمة لنيل النعيم الدائم.
والمآب: مصدر على وزن مفعل – بفتح العين- وقيل أصله مأوب، فنقلت حركة الــواو الى الهمزة الســاكنة قــبلها، فقلبـت الواو الفاً، ويجوز ان يكون اسماً للمكان، او للزمان وكلها تصلح للمعنى في المقام، وهذا من اعجاز الفاظ القرآن بان يكون اللفظ مشتركاً وينطبق على عدة معان ولكن القرائن لا تصرفه الى أحدها، بل ان كل واحد منها تدل عليه عدة قرائن وأمارات فالعودة والرجوع لله تعالى، والمكان هو الجنة بالنسبة للمؤمنين، والنار للكافرين، والزمان هو الآخرة بعد انقضاء أيام الدنيا.
قوله تعالى [قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] الآية 15
الإعراب واللغة
قرأ عبد الله بن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (أؤنبئكم) بهمزتين، وأختلفت الرواية من نافع وأبي عمرو، وقرأ ابو بكر عن عاصم (ورضوان) بضم الراء كل القرآن، والباقون بكسر الراء.
[قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ] قل: فعل أمــر، والفاعل ضـمير تقديره أنت ويعود للنبي اصــالة، أونبئكم: الهمــزة للإســتفهام التــقريــري، انبــئ: فعل مضــارع مرفــوع، الفاعــل ضــمير مســتتر تـقـديره انا، الكاف: مفعول به.
[لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ] للذين: جار ومجرور متلعقان بمحذوف خبر مقدم، اتقوا: فعل ماض، والواو فاعل، عند: ظرف مكان متعلق بمحذوف حال، وهو مضاف، رب: مضاف اليه وهو مضاف والضمير هم مضاف اليه.
[جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] جنات: مبتدأ مؤخر، وقيل يجوز اعراب جنات خبر لمبتدأ محذوف اما (للذين) فيكون صفة للخير، والأول أصح. تجري: فعل مضارع مرفوع، من تحتها: جار ومجرور، والضمير الهاء مضاف اليه، الأنهار: فاعل يجري مرفوع.
[خَالِدِينَ فِيهَا] خالدين: حال من الذين أتقوا منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم. فيها: جار ومجرور.
[وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ] الواو حرف عطف، ازواج: معطوف على جنات، مطهرة: صفة لأزواج مرفوعة.
[وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ مرفوع، بصير: خبر مرفوع، بالعباد: جار ومجرور، متعلقان ببصير.
والنبأ: الخبر، والجمع انباء ويقال: أنبأه ونبأه: أي أخبره، وأستنبأ النبأ: بحث عنه، وأنبأ فعل يتعدى الى فعلين لأنه جاء بمعنى الإخبار واذا جاء بمعنى العلم فانه قد يتعدى الى ثلاثة مفاعيل.
والرضا: القبول النفسي وهو ضد السخط، وفي حديث الدعاء (اللهم اني أعوذ برضــاك من ســخطك، وبمعافاتك من عقوبتك)، ويقال رضي يرضى رضا ورضواناً- بكسر الراء – وأضاف سيبويه رضــوانا بضـم الراء، ولعل قراءة ابي بكر عن عاصم اخذها عن سيبويه.
في سياق الآيات
بعد ذكر نعم الدنيا التي يتصور الإنسان جمعها وحيازتها وانشغال للنفس بزينتها ، جاءت هذه الآية لتخبر عما هو أفضل وأكمل وأحسن منها، انها حكمة تتضمن المقارنة وتبين عظيم فضله تعالى فيما أعده لأهل الإيمان من النعيم الخالد في مقابل العرض الدنيوي الزائل، لقد جاءت الآية بياناً لخاتمة الآية السابقة وتفسيراً لحسن المآب.
اعجاز الآية
في الآية أمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتولى بنفسه الإخبار بنفسه عن مرجوحية الدنيا وما فيها من المتاع والعرض الزائل، مما يعني أهمية الأمر وضرورة معرفة الناس جميعاً للنسبة والمقارنة بين عالم الدنيا والآخرة، والمسألة من علم الكلام الا ان الخطاب فيها للناس جميعاً ويدل على أهلية كل واحد من بني آدم للإرتقاء الى هذه المعرفة بالكسب والتدبر بالآيات خصوصاً وانها بسيطة ليست مركبة.
ونعم الآخرة لا تنحصر بالحب والهوى والميل النفسي بل لها طريقها الواضح الذي جعله الله في ميسور كل انسان، الا وهو الإيمان وعمل الصالحات، انها دعوة الى الله بلحاظ ادراك وفهم حقيقة الدنيا، فمع ان الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتــحان فان الله عــز وجل جعل التبصر بحقيقتها سبيلاً لنيل الدرجات العلى في الآخرة.
الآية سلاح
لقد تفضل الله عز وجل بآيات تجعل الإنسان يتخلص من استحواذ الدنيا على مسار تفكيره وكيفية عمله وأفراد العلة الغائية لسعيه في الدنيا، وهذه الآية تبين كنه السعادة الأخروية التي تتصف بالدوام في مقابل الزوال في الدنيا، وتنمي الآية ملكة الإحتراز من الغرور وأسبابه فاذا استطاع الإنسان فهم ماهية الدنيا وأنها متاع قليل في ذاته ومدته وأجله فانه لا يندفع في متاهات أحلامه وزينتها.
مفهوم الآية
في الآية اشارة الى جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذله الوسع في تفقه الناس وجعلهم يتبصرون فيما حولهم من المسائل الإبتلائية، ليكونوا مؤهلين لإعطاء الأشــياء منزلتها الحقيقية، وفيها كشف لما يرسمه الهوى من الحجب على الأبصار التي تجعلها لا ترى الا القريب ذي الألوان البهيجة الزاهية التي تتلاشى عند طلوع شمس الحقيقة المتمثلة باستحضار عالم الآخرة، وما فيه من السعادة الأبدية والنعيم الذي لا يزول.
وليس من عاقــل يبقى عــلى اختــياره للعــرض الفاني بعد ان يعــرض عليه النعيم الدائم، لقــد ارادت الآيــة الزجـر عن الإنكباب على الشــهوات، والتشبــيه بالبهائم والإنتقال الى عالم البصائر والشهود.
لقد ذكرت الآية اربعة من النعم التي تتصف بها الآخرة على نحو الحصر وهي :
الأولى : جنات تجري من تحتها الأنهار.
الثانية : الخلود في الجنان في مقابل دار الفناء وهي الدنيا.
الثالثة : أزواج مطهرة من الدنس والخبث.
الرابعة : مرضاة الله عز وجل.
وهذه النعم مقيدة وخاصة بالذين يخشون الله عز وجل ومن خشيته سبحانه عدم الإنشــغال الذهني بحب الدنيا والتفكير في مباهجها بما يشغل الإنسان عن عبادته وذكره لله تعالى واستحضاره للموت وعالم الآخرة وما في هذا الإستحضار من الإعتبار والإتعاظ والحرص على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، فكأن حب الدنيا من الطواف حول الشبهات، لما فيه من العمى عن المقومات الشرعية للحصول على الرغائب والمنافع التي تلائم الهدى.
ومن مفاهيم الآية انها انذار ووعــيد للكــافرين للتناقــض والتنافي بين الإيمان والكفر في الإعتقاد والمبنى والفعل وتجلي هذا التناقض في عالم الآخــرة بعــدم اللــقاء في الآخرة والتباين التام في السكن ونوعه وما فيه.
والوعيد وان كان مفهوماً للآية الا انه من الأسباب التي تجعل الأنسان يلجأ الى التقوى لإحراز الإقامة في الجنة ولإجتناب الوقوع في الهلكة والنار الحامية، وتجعل الآية الإنسان بين أمرين أما الأماني في العرض الزائل.
واما الإقامة الواقعية في النعيم الدائم، فليس من عاقل الا ويختار الثاني لذا تفضل سبحانه وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يقوم بنفسه بالتبليغ وبيان هذه الحقيقة، ليبقى القرآن والمسلمون يتولون هذه المسؤولية العظيمة.
وهذه الآية تدل على وجوب اظهار هذه المقارنة وبيان الصلاح والتوفيق والرشاد والدعوة الى التخلي عن الدنيا وعدم الإنقطاع اليها، لقد اراد الله للإنسان مغادرة منازل الوهم والخيال والإنتقال الى أنوار عالم المعرفة القرآنية والأخروية.
إفاضات الآية
تبعث الآية على السعادة والغبطة لما فيها من أسباب الكمال والغايات التي تتناسب والحد الأعلى لموارد الحسن في عالم التصور، لأن الجنة فيها ما تشتهي الأنفس، فبدل الشهوات الدنيوية الزائلة التي وضعت دونها حواجز عديدة ويموت الإنسان وهو لا يقدر على تحقيق أمانيه ولا ينال الشهوات التي أحبها، وان كان ملكاً او غنياً، فالملك يتمنى ان يوسع دائرة حكمه وان يتخلص من أعدائه ويسكت عنه الثائرون، والغني يريد ان يضيف ثروة الى ثروة وكنوزاً الى أمواله وهكذا.
فالناس ينظرون الى الملي بانه غير محتاج وعنده من الأموال ما يكفيه للعيش بنعيم مدة حياته، ولتنتقل الثروة الى أولاده بعده، ولكن نفس هذا الغني تواقة هي الأخرى الى الشهوات وحيازة أموال جديدة اكثر من التي عنده.
وزوال نعم الدنيا أعم من أن ينحصر بالموت وانتقال الأموال الى الورثة، بل قد تعرض الأموال الى التلف والتجارة الى الكساد والملك الى الزوال، وفيه شواهد تأريخية عديدة ومنها ما يدركه الإنسان بالوجدان لوجود الأمثلة والشواهد القريبة والتي تحصل في كل بلد وزمان.
وقد جاءت الآية السابقة بافادة شمول حب الشهوات للناس جميعاً، وهذه الآية تنقل شطراً منهم الى رحاب الآخرة، ليكونوا على حذر من الدنيا وفي الآية زجر للذهن من السياحة في عالم الخيال والتصور بخصوص الدنيا، وابداله بالتدبر في عالم الآخرة وكيفية الوصول الى سبل النجاة ونيل السعادة.
التفسير
قوله تعالى [قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ]
الآية خطاب وأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويحمل على الوجوب ولزوم القيام بالأخبار ويمكن تشريع علم جديد يسمى “الأوامر الشخصية” تجمع فيه الأوامر الموجهة الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، ثم تقسيمها الى قسمين:
الأول: الأوامر الخاصة: وهي من خصــوصيات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومتعلقه به دون غيره من المسلمين، كما في تخيير نسائه على البقاء في الزوجية او المفارقة [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً] ( ).
ووقوع عقد النكاح بلفظ الهبة مع عدم المهر كما في الأنصارية التي دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووهبت نفسها له، فجزاها خيراً، وبشرها بالجنة، وأمرها بالرجوع الى بيتها، ولم يتزوجها، ونزل قوله تعالى [وَامرأة مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وقوله تعالى [قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ]( ).
الثاني: الأوامر العامة: وهي التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكون في لفظها موجهة اليه الا ان المقصود هو الأمة بأجيالها المتعاقبة وهو الأغلب والأكثر في الأوامر القرآنية، كما في قوله تعالى [فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا] ( ).
ولو شككنا هل الأمر في الآية خاص ام عام، فالأصل في الأوامر القرآنية هو العموم وانه موجه الى المسلمين كافة بواسطة النبي وظيفة ولفظاً ولمقام النبوة والوحي.
ومن الإعجاز ان يقترن الأمــر بالبشــارة والإخــبار بالأمــل والسعادة فهذا الأمــر ليس فيه وعــيد وتخـويف بل هو وعد كريم وارشاد ودعوة للصلاح والنجــاة، وهــو من مصــاديق العلة الغائية لبعثته صلى الله عليه وآله وسلــم وانها رحــمة للعــالمين، فتتجلى مضامين هذه الرحمة بتعليم الناس الهداية الى التقوى، وحثهم على العزوف عن الدنيا وان طلبتهم، فكيف وانهم يحبونها على نحو الإطلاق ويسعون اليها.
وفي عائدية الضمير الكاف في (أونبئكم) وجوه :
الأول : صــحابة النبي صلى الله عليه وآله وســلم والمسلمون ايام التنزيل.
الثاني : المسلمون جميعاً ذكوراً واناثاً في فترة النبوة والى يوم القيامة.
الثالث : أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
الرابع : الناس جميعاً، الموجود أيام التنزيل والمعدوم.
والأصح هو الوجه الأخير لإصالة الإطلاق ولنظم الآيات وقرينة قوله تعالى [بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ] التي تدل على الملازمة الموضوعية بين هذه الآية والآية السابقة وتقدير الآية: “انبؤكم ايها الناس بما اعتدت للذين اتقوا الله منكم”.
وفي الآية رد على اولئك الفلاسفة الذين قالوا ان الله عز وجل خلق الإنســان وتركــه وشــأنه، فبالإضــافة الى عنــاوين الربوبية التي يدل عليها اتصــال الرزق وحســن المعيشــة وتعاهد الناس بالرحمة الإلهية في الدنيا وانقســام هذه الرحمــة الى قســمين عام وخاص، وكل انســـان ينال من القسمين في آن واحد من غير تعارض او تزاحم بين الناس في ارزاقهم ومعايشهم وما ينزل عليهم من البركات.
ومضمون هذه الآية عام وخاص ولكن بلحاظ آخر، الخطاب عام للناس جميعا اما الذين ينتفعون منها فهم الخاصة أي المسلمون لأنهم يواظبون على العبادات وهي عنوان وروح التقوى.
والآية تبين عظيم فضــله تعالى على الإنسان ونسبة الدنيا والآخرة الى الله واحـــدة ودلالة كل منهما على وجود الصانع وبديع خلقه كدلالة الآخــر، والتباين الزمــاني الظــاهر بينهما انما هــو بلحاظ حياة كل واحـــد منهما، والا فانهما أي عــالم الدنيا والآخرة مخلوقان قبل خلق الإنسان كما يدل عليه نفخ الروح في آدم في الجنة.
ولما ختمت الآية السابقة بالوعد الكريم بان الرجوع الحسن يكون اليه تعالى جاءت هذه الآية بالبيان والتفــصيل لماهية الرجوع الحسن وانه أفضــل من متاع الدنيا، وبما ان الناس أفتتنوا في حــب الدنيا، جاءت هذه الآية لتكون دعوة لحب نعم الآخرة، وما في جنانها من البهجة والزينة، ومن أسباب تسمية النبي انه ينبأ عن الله أي يخبر عنه، من غير واسطة بشر.
وهذه الآية تتضمن النبأ والخبر عما أعد الله عز وجل للمتقين من النعم الباقية غير المنقطعة، وتحمل الآية اولي الأمر والعلماء والصالحين مسؤولية عظيمة بالتبليغ الى الناس جميعاً عما أعد الله للمتقين لما فيه من ارشاد الى الخيرات وحجة على أهل المعصية.
علم المناسبة
(خير) أفعل تفضيل وورد في الــقرآن مائة وســت وســبعين مــرة وهو عدد كثير تتــفرع عنه مســـائل عديدة لتنــوع المواضيع التي ورد فيها:
الأولى : مجيء خير في الثناء عليه تعالى وبيان عظيم فضله واحسانه كما ورد في التنزيل [وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ]( )، [حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( )، [وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ]( )، واستعمال خير هنا من مصاديق الوحدانية والإقرار بالربوبية كما انه دعوة للتفكر بعظــيم فضــله تعالى وبديع صنعه، وهو برزخ دون الإفتتان بما في الدنيا من المتاع او أسباب القوة والملك الظاهري.
الثانية : الخير عنوان المال والنعم والصلاح، قال تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ]( ).
الثالثة : التفضيل في فعل الصالحات ومصاديق البر وتقديم ما فيه الثواب والجزاء قال تعالى [قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى]( ).
الرابعة : الوعد الكريم بالنعيم الأخروي وانه أفضل وأحسن مما في الدنيا من المتاع الزائل، وفيه ترغيب بفعل الخيرات واكتناز الصالحات وتجد أحيانا ًتداخلاً بين هذا القسم والقسم الثالث أعلاه الذي يعتبر طريقاً ومقدمة للنعم الأخروية.
ومن الآيات ان تجد مادة (خير) في القرآن لا يترشح عنها الا الخير المحض ليوافق اللفظ المعنى وتبعث رؤيته وسماعه على الخير والأمل والغبطة وجاءت الآية السابقة بذكر أمور :
الأول : تزيين حب الدنيا.
الثاني : متاع الدنيا.
الثالث : حسن المآب عنده تعالى، والأخير خارج بالتخصص من دلالة اسم الإشارة (ذَلِكُمْ) والقدر المتيقن منه متاع الحياة الدنيا والإنشغال الذهني بها، وهذه الآية لا تمتنع من تزيين حب الآخرة وما فيها من النعيم.
قوله تعالى [لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ]
لما ختمت الآية السابقة بالبشارة بحسن الرجوع اليه تعالى وبشرت بالنعيم على نحو الإجمال، جاءت هذه الآية بأمرين:
الأول: ذكر التفصيل لمصاديق النعم الأخروية.
الثاني: الإخبار عن حصــر النعم الأخــروية بالمتقــين، وبــذا فان هذه الآية بيان وتفســير لخاتمة الآية السابقة وعلى نحو يدفع الوهم وفي علم الأصول قسمت المقدمة الى مقدمة عقلية وشرعية، والأولى ما كان ادراكها بالعقل، اما الثانية فما كانت نتيجة لحكم الشرع.
ومن الآيات ان تجتمع المقدمات في موضوع واحد وتتحدان معاً في لزوم الإستعداد للآخرة بالإيمان والعمل الصالح والتقوى عنوان جامع للمجاهدة في طاعة الله، واجتناب معاصيه، ويأتي الإتقاء بمعنى الإحتراز مما يدعو اليه الهوى ومنه الإنقطاع الى زينة الدنيا.
وجاءت الآية بصيغة الجمع [لِلَّذِينَ اتَّقَوْا] في اخبار وبشارة عن الكثرة والتعدد في أهل التقوى، وهل ينحصر الحكم بالمسلمين منذ أيام تنزيل القرآن ام هو عام وشامل لأفرادهم منذ نزول آدم الى الأرض، الصحيح هو الأخير فالآية حكم ثابت وقاعدة كلية ومحكم لا يقبل النسخ.
والآية دعوة للصلاح وتحصيل المعارف الإلهية والتلبس بمفاهيم التقوى والتعاون في تثبيتها في النفوس وعالم الأعمال، ومتى ما كانت التقوى ملكة عند الإنسان فانه يتخلص من سلطان حب الدنيا واللهث وراء زينتها، ولتبقى التقوى سارية في أركان الإنسان والكيانات الإجتماعية مجرى الشمس والقمر ويكون كل عمل من الصالحات منطلقاً من الجزئي الى الكلي وخروجاً من الضلالة الى الهدى، وبصيرة في الدين والدنيا.
وقالت الآية [عِنْدَ رَبِّهِمْ]باضافة المكان لله عز وجل في اشارة الى عالم الآخرة، وأحوال الجزاء يوم القيامة، وتبعث الآية الأمن والسكينة في قلوب المسلمين، لأن الآية قالت (عِنْدَ رَبِّهِمْ) باضافة اسم الرب اليهم ويدل بالدلالة التضمنية على الثناء عليهم لإلتزامهم بمواثيق العبودية لله في الدنيا، وحرصهم على الإنقطاع الى مقام الربوبية، وهذه الإضافة دعوة للتقيد بأحكام التقوى.
وجاء اسم الجنات بصيغة الجمع وفيه مسألتان:
الأولى : انه عنوان تعدد النعم الإلهية يوم القيامة.
الثانية : كثرة المتقين، نع،،م يمكن ان تك،،ون الجنات عنوان تعدد الفضل مع اتحاد المستحق والمقيم في الجنة ولكنه خلاف ظاهر ومضمون الآية.
والجنة البستان من النخيل والأشجار وأصلها من الستر لتكاثف والتفاف أغصانها، والجنة في الإصطلاح هي دار النعيم الأخروي الذي أعده الله للمؤمنين الذين يعلمون الصالحات.
وما هي النسبة بين المتقين والذين أتقــوا هــل هي التســاوي ام العموم والخصوص المطلق، الأقوى هو الثاني فالذين أتقوا اعم من المتقــين، لأن المتقــين اسم يدل على اســتقرار التقوى في نفوسهم والذين أتقوا اسم لمن سعى في منازل التقوى وان لم يصل الى أعلى مراتبها.
قوله تعالى [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]
وصف اضافي للجنة أصبح مألوفاً للأسماع يراه المؤمنون ببصائرهم وكأنه حاضر عندهم، يرد على الذهن فيطرد ما سواه من الآمال ويمنع الإنسان من الإنشغال بهموم الدنيا وزينتها فهولا يطرد حب الدنيا من القلب فحسب، بل ويدفع عنها الهموم والتحديات التي ترد عليها من الإبتلاءات والفتن العاجلة التي تطل على الإنسان في الليل والنهار، ومنه ما يرد دفعة ومنه ما يأتي تدريجياً.
لذا ورد الإسترجاع عند حلول المصيبة وهو قوله تعالى [ا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( )، لينصرف الذهن من البلاء والأذى الى حتمية الرجوع الى الله عز وجل، والنعيم الخالد.
ولما كان عنوان الجنات اجمالي تقع تحته عناوين كثيرة وجاء في مقام الوعد والترغيب جاء ذكر جريان الأنهار لأنه عنوان اضافي للجنات وأمر زائد في الحسن، فسقي الأشجار يكون بصيغ وطرق متعددة، ومنها الأنهار، جاء ذكر الأنهار ليس لموضوع السقي بل لما هو أعم، والإجماع على اعتبار جريان الأنهار في الآية من المجاز العقلي والإسناد الى المكان( ).
وان المراد هو جريان الماء في الأنهار، ولكن معنى الاية يحمل على جريان الأنهار ذاتها لوجوه:
الأول : حمل الكلام على ظاهره الا مع القرينة الصارفة الى خلاف الظاهر.
الثاني : اصالة الحقيقة وعدم نصب قرينة على استعماله في المجاز، والقياس بحال الدنيا وجريان الماء في أنهارها ليس كافياً، نعم ورد هذا المعنى في فرعون [تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]( )، ولكنه لا يصلح دليلاً للمساواة بين أنهار الآخرة وأنهار الدنيا، لأن فرعون نفسه أدعى الربوبية وربما اراد التضليل واستخدام معاني الجنة للتغرير بالناس.
وان لفظ [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] موجود عند المليين وفي الكتب السماوية النازلة قبل القرآن، والآية حجة علمية لأنه لم يستطع ادعاء اجراء الماء وتحريكه الى الجهة التي يريد وبالمقدار الذي يناسبه، فقال (تجري) ومن غروره وعتوه ان كان جريان الأنهار سبباً في غرقه وهلاكه هو وقومه، ليفقد معه ملك مصر الذي أدعاه وتباهى وتطاول وعتى به.
الثالث : عدم الملازمة بين نعم الدنيا والآخرة، بل ظهور المائز في نعيم الآخرة خصوصاً وان الله عز وجل قد وصف نعم الدنيا متاعاً ومتاع الغرور، وتؤكد هذه الآية المائز ولو على نحو الإجمال والتفصــيل بدليــل قــوله تعالى [بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ] والتفضيل متعدد الوجوه وبحسب الآيات والأخبار الواردة في السنة النبوية الشريفة.
الرابع : ان حمل الآية على معناها الظاهر اقرار بعظيم قدرته تعالى ولا يتعارض مع قانون الأسباب والمسببات او العلل والمعلولات، ولا يخالف منطق العقل لأنه فرع القدرة الإلهية.
الخامس : لو دار الأمر بين الأعلى والأدنى في فهم اللفظ القرآني في باب القدرة والفضل الإلهي فيحمل على المعنى الأعلى والأعم لعظيم فضله واحسانه تعالى، ولأنه يعطي بالأوفى والأتم.
السادس : تصاب انهار الدنيــا بالنقــص والجــفاف واحــياناً تسـبب الفيضانات وتؤدي في الحالتين الى الهلاك والضرر والأذى، اما انهار الآخرة فهي دائمة في جريانها لا تسبب الفيضان وهلاك الدواب والزروع، وهــذا من وجــوه التــباين والإخـتلاف بين انهار الجنة وأنهـار الدنيا ويدل على عدم الملازمة بينهما، بل تتجلى وجــوه الأفضــلية والحســن في أنهــار الآخرة التي تكون علة مادية او غائية للحروب على مياه الأنهار، وهي في طوع وخدمة المؤمنين من غير ان يظهر تعارض بين تلك الرغبات على جريان الأنهار مما يدل على كــثرتها ودقــة النـظام في الآخرة والذي يستوفي الرغائب كلها في الوقت الذي تكون فيه الرغائب في الدنيا وهماً.
السابع : الأصح ان الأنهار ذاتها تجري وتنتقل بين الجنان وفي أوعية أصلية ومستحدثة ارضية وغير أرضية، في آية اعجازية تتلائم ورغائب وسؤال أهل الجنان.
الثامن : من وجــوه الإخــتلاف ايضــاً عــدم حصـر انهار الجنة بالماء بل هي متعــددة ومتنــوعة، قــال تـعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى] ( )، فجــاءت الآية بتكــرار لفــظ الأنهــار وجعـل كل فرد منها على نحو المتعــدد لدفع وهم بان النهــر ذاته تجــري فــيــه الألوان المختلفة من الماء والشراب المتعدد، ولإرادة افادة الكثرة في كل صنف منها.
وعلى فرض حمل المعنى على انهار الدنيا وارادة المجاز العقلي، فانه لا يفقد صفة النعمة العظيمة والبشارة بالخير الكثير والهبات المتصلة وانعام البصر والتلذذ بالطيبات.
لقد جاءت الآية بصفة الجمع (الأنهار) وهو جمع نهر لبيان عظيم فضله واحسانه تعالى على المسلمين في الآخرة، بل ان الوعد بهذه النعم هو نعمة مستقلة وفضل عظيم نازل من السماء على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة الى الفضل الإلهي بالأمر بالأخبار عنه وعــدم تركه مســتوراً او غير معــروف الا من قبـل الخاصة والمتبحرين في العلم، لذا يحمل قوله تعالى [أَؤُنَبِّئُكُمْ] على الإطلاق والعموم وانحلال الخطاب وارادة جميع الناس.
والآية حث سماوي لإجتناب الشرك والإبتعاد عن المعاصي والإمتناع عن السياحة الذهنية في متاع الدنيا، فمن وظائف العقل انه يختار الأفضل والأحسن.
فأراد الله عز وجل مخاطبة الناس جميعاً، فكل انسان ومهما كانت مرتبة فهمه وادراكه يعلم بالبديهية المائز الكبير بين نعم الآخرة ونعم الدنيا، ومن الإبتلاء في الحياة الدنيا ان يكون متاعها ونعمها ظاهرة قريبة ونعم الآخرة مؤجلة ومستورة عن الأبصار، لذا جاء القرآن بوصفها على نحو التفصيل الذي يتضمن أعلى مراتب الترغيب والجذب، وبما يبعث في النفس الشوق اليها.
قوله تعالى [خَالِدِينَ فِيهَا]
يقال خلد يخلد خلداً وخلوداً بقى وأقام، ودار الخلد: الآخرة لإستمرار بقاء أهلها فيها، لقد وصفت الجنات في هذه الآية بثلاث أوصاف اضافية هي :
الأولى : انها عند رب العالمين سبحانه.
الثانية : جريان الأنهار من تحتها.
الثالثة : دوام اقامة المتقين فيها، بالإضافة الى ان الأزواج المطهرة في الجنة ايضاً، وسكن الجنة عنوان ومظهر لمرضاته تعالى، فالخيال الإنساني مع سعته فرع متاع الدنيا لأنه ينطلق من المحسوس ويبالغ فيه على نحو القضية الشخصية اما ما أعد الله عز وجل فانه يفوق كثيراً عالم التصور والخيال مع انه حقيقة وأمر واقع لذا جاءت الآية ببيانه واظهاره بوعد كريم وليس بين الإنسان وبينه الا التقوى وكل ما هو آت قريب.
وتدل الآية على خــلو نعيــم الآخــرة مــن الضــرر والإبتلاء وهذا من المائز بين الآخــرة والدنــيا، فالإنســان في أحــلامه وحبــه لمتـاع الدنيا يعاني من ويلاتـها وتكــرهه علــى اليقظــة والإلتفــات الى ما هــو عليه من البــلاء والأذى، ولا تتــركه ســابحــاً في أحــلامه وأوهــامه وشغفه بها.
وهذا من منافع الدنيا لأنها خلق لله تعالى مسخرة لخدمة الإنسان فكونها دار ابتلاء وامتحان من وجوه الرحمة الإلهية بالإنسان، لما في الإبتلاء من التذكير بحقيقة الدنيا وزوالها ولزوم عدم الركون اليها، والإنتقال القهري الى البديل عنها والذي تطل علينا هذه الآية ببيان وجوه السعادة فيه، وانتفاء أسباب الأذى الدنيوي في الآخرة، وهذا الأمر لا يخص صاحب الأحلام وعاشق الدنيا، بل يشمل كل انسان وهو جزء من فلسفة نفخ الروح في آدم عليه السلام.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان يشتاق الى الآخرة، ويدرك حتمية الرجوع اليه تعالى ولو على نحو الموجبة الجزئية ليكون هذا الإدراك مناسبة للتقوى، وتأتي المعرفة وتجديدها بذكر اوصاف الجنة بابهى صورة وأجمل بيان واعذب الإلفاظ لتكون منافساً للأحلام، وجاذباً للأوهام والتصورات لتسبح الروح في بحبوبة قصور الجنة وأشجارها المتداخلة ومياهها الجارية، ولكن ليس على نحو الخيال والوهم، بل الحقيقة القريبة المقيدة بالإيمان والعمل الصالح.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان يفتقر الى الكمال كباقي الممكنات، وهذا النقص رحمة ورأفة منه تعالى لأنه سبب لعدم الغرور، ووسيلة للجوء اليه تعالى والتبصر في حقيقة الذات والإفتقار المتصل الى الرحمة الإلهية، ومن رحمته تعالى ان النقص ليس ازلياً بل هناك كمال انساني وخلود في العالم الآخر يمكن ان يصل اليه الإنسان بالإجتهاد والسعي في مرضاته تعالى.
وتتطلع الملائكة والمخلوقات كلها الى الإنســان في ســعيه لبلوغ مراتب الرفعة والســعادة الأبدية، لــذا كان نزول القرآن عيداً في السماوات لأنه الطريق الوحيد لبلوغ منازل النعيم والخلـود فيها، فلم يدع القرآن الى الخــلود وحــده او الى النعيم وحــده، بل جاء بالوعد بهما معاً على نحو الإتحاد والإشتراك والتداخل وتلك الأمنية تفوق تصور الإنسان.
فان كانت الدنيا وما فيها من النعم تبدو جــميلة وذات لذة فانها تفتقر الى الدوام وهو أمر يدركه الإنسان.بوجدانه وعقله ومغادرة الأحبة بالموت وعدم عودتهم الى الأبد، فمن يقع تحت سلطان او أمير أو ولي ويغادر في سفر فانه يحرص على التقيد بأوامره في حال غيابه لعلمه بانه يعود ويحاسبه على التقصير والتخلف عن أوامره، اما لو علم بموته انه يدرك يقيناً عدم عــودته وترتفــع فجأة الخشــية منه بتمامها، ولكن هذا الأدراك حجة عليه في لزوم الإستعداد للآخرة والخشية منه تعالى لأنه حي لا يموت.
ووجوب تعاهد هذه الخشية جاء بهذه الآية بالترغيب والوعد الكريم وذكر ما ينتظر الإنسان من السعادة نعم ذكر الخلود في الجنة يدل في مفهومه على الشقاء الذي ينتظر الكافرين كما تدل عليه آيات أخرى محكمة وصريحة لا تحتاج الى واسطة او بذل الوسع في التوصل الى تلك النتيجة، وذكرت الجنة على نحو الخصوص وبما يبعث الشوق في النفوس لها، وهذا الشوق يظهر طوعاً وجرياً على السلوك الإنساني ويجعله يحمل سمات الصلاح والاخلاص.
ومن أراد شيئاً سعى اليه ولو على نحو الموجبة الجزئية، وما من انسان الا ويتمنى الخلود، واذ يتمنى متاع الدنيا فانه يتوقع ولو من بعيد احتمال حصوله ونيله، لأنه يرى غيره من الناس ينال مـتاعها والثراء والغنى فيها، فيستصحب الأمر بالنسبة اليه بلحاظ الإتحاد في الإنسانية مع جهل منه للأسباب والعلل والقدرة الإلهية في موارد الرزق، اما بالنسبة للخلود فان ذهنه قاصر عن تصوره لإنعدام صورته وأسبابه واقعا ًوذهنياً، الا ان هذه الآية جاءت لتخبر عن حصوله واقعاً، وتنمي وجوده الذهني وتجعله حقيقة عقلية وشرعية.
وجاء الخلود شاملاً مستوعباً للجميع من غير استثناء بلحاظ صيغة الجمع (خالدين) التي تتعلق بالذين اتقوا على نحو العموم وهو جزء من رحمته تعالى، لدفع وهم بأن الخلود امر خاص بالأنبياء والأولياء ومن كانت افعالهم صلاحاً محضاً بل جاءت الآية لتشمل كل من اتقى الله واجتنب المحرمات، وخاف منه تعالى بالغيب.
وخلود الحال لا يدل على خلود المحل، وكذا العكس، ولكن الآية جاءت بتوكيد الملازمة بينهما في الخلود للإخبار عن عدم رجوع الإنسان الى الدنيا او الى دار زوال وفناء مطلقاً والإتصال النعم الأخروية بدليل الجار والمجرور (فيها) المتعلقين بخالدين.
ومع ان الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية الا انها تحمل معاني الشرط، أي ان المتقين هم الذين يستحقون الخلود في النعيم ومن أراد الجنان فعليه بالخشية من الله في السر والعلانية والسعي في مرضاته تعالى وتنمي الآية هيئة نفسانية تتقوم بالإمتثال للأوامر الإلهية والإحتراز بطاعة الله تعالى من عقوبته.
قوله تعالى [وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ]
آية من فضله تعالى ووعد كريم ناقض للأحلام وطارد لحب الدنيا والتحاسد فيها ومانع من اتباع الشهوات وحصانة من الزنا والفسوق وملائم لسعي الإنسان لنيل الأفضل، وبلوغ مراتب الكمال الإنساني، وإخبار عن اتصاف عالم الآخرة بتدارك نواقص قهرية وتكوينية وطبعية في ذات الإنسان وانتفاء قانون الأسباب والمسببات وخضوع الأشياء لقدرة الله تعالى واستجابتها لعظيم فضله تعالى.
ومن الإعجاز ان نعت (مطهرة) من الكليات التي تقع تحتها مصاديق متعددة يعجز الإنسان عن احصائها، لوجود وجوه من النقص في الحياة الدنيا لا يعلم الإنسان وجود مراتب كمال لها، ولكنه يراها في لآخرة، ان نعمة الأزواج من أعظم النعم.
بحث لغوي
الأزواج جمع زوج، والزوج خلاف الفرد يقال زوج اوفرد كما يقال: شفــع او وتر، ويأتـــي الزوج بمعــنى الفــرد الذي له قرين، قال تعالى [وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى]( )، وزوج المــرأة: بعلها، وزوج الرجــل: أمرأته، ويقال للرجــل زوج المرأة، وهي زوجه وزوجته، وليس في القرآن لفــظ زوجته، بل جـاء بالتذكير مطلقاً وفي قصــة آدم عليه الســلام، قــال تعــالى [اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ]( ).
وقال الأصمعي: زوج لا غير، واحتج بالآية اعلاه، ولكن اللغة أعم، واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره خصوصاً في باب الأسماء واطلاق اكثر من اسم على مسمى واحد كثير في اللغة، كما ان زوجته يأتي أحياناً للبيان والإفهام وعدم الحاجة الى اللجوء الى قرينة تبين ان المراد هو الزوجة وليس الزوج، بالإضافة الى السعة في اختيار الأسماء.
وقد تجد اسماً يطلق على المذكر والمؤنــث، وكأنه من الأضداد، فيأتي نعت الزوجة بالتأنيث للبيان، نعم يقول الرجل: هذه زوجي، وتقول المرأة: هذا زوجــي، ونســب ابن منظور الى بعض النحويين القول (اما الزوج، فأهل الحجاز يضعونه للمذكر والمؤنث وضعاً واحداً)( ).
واحتج الجوهري بجواز قول هي زوجته ببيت الفرزدق.
وان الذي يسعى يُحرش زوجتي
كساعٍ الى أسد الشرى يستبيلها
ولكنه لا يصلح للإستدلال من وجهين:
الأول: تأخــره زماناً وحصــول تســامح في الألفــاظ مع دخــول أفواج من غير العرب في الإسلام واختــلاطهــم في الحياة اليومية العامة.
الثاني: احتمال الضرورة الشعرية ونظم البيت الشعري، وللتمييز، ورفع الظن بالترديد في ارادة الزوج أم الزوجة، نعم ورد ان بني تميم يقولون: هي زوجته.
وورد لفظ (زوجك) أربع مرات في القرآن، و(زوجه) مرتين، ويأتي فيها جميعاً وصف المرأة بانها زوج، ولكن مع قرينة لغة الخطاب وتوجهه الى الرجل يدل على ارادة المرأة من لفظ زوج.
من أول النعم التي رزق الله عز وجل آدم عند خلقه ان خلق له زوجاً وجعلها معه في الجنة، فلم يسكن معه في الجنة أحد من أولاده او أحفاده، والله يعلم هبوط آدم الى الأرض، ولم يجعله ينزل الى الأرض ثم يرزقه زوجة، بل جعلها معه في الجنة لتشارك المرأة الرجل في النعيم الإبتدائي ويكون بشارة دخولها الجنة بقيد التقوى والصلاح خصوصاً وان مضمون هذه الآية شامل للرجال والنساء.
والنعت الإضافي [وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ] يدل على دخول النساء الجنة بصفة الكمال الإنساني، والزوجية وهي أصل وظيفة المرأة منذ حين خلقها قال تعالى [وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا]( ).
ومن فضله تعالى ان ذكر الأزواج لم يرد مطلقاً، ولو جاء مطلقاً بذكر الأزواج فقط لأتبع أكثرهم القياس على الأزواج في الدنيا وخشي ذات العناء الذي يلاقيه في الدنيا ويغيب عنه ان الدنيا دار ابتلاء ومنه الأذى الذي يحصل في الزواج وهمومها وأثر الوقائع وألأحداث الشخصية وأسباب الكسب والرزق والصحة والمرض وغيرها على الحياة الزوجية فجاء القيد الكريم بان الأزواج مطهرات.
وهذا الطهر انحلالي ينبسط على كل زوجة منهن، فينتفي الشؤم والقياس بالدنيا، ومما تمتاز به الآخرة عن الدنيا التباين في القواعد الكلية، فمن القواعد في الدنيا ما من عام الا وقد خص، ولكل قاعدة شواذ، اما في الآخرة فيأتي العام المبارك على عمومه وشموله لجميع أفراده، وليس من شواذ للقاعدة القرآنية، ومن الآيات ان الناس جميعاً يدركون هذه الحقائق بالفطرة والبديهية.
ولو كانت زوجة المؤمن في الدنيا هــي زوجــته في الآخرة وكان يشكو منها في الدنيا، فان الله عز وجل يصلحها له خالية من النقص وأسباب الأذى في الدنيا، وهذا من اطلاقات الطهر في الأزواج في الآخرة وتشمله عمومات قوله تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ]( ).
وقيد الطهر هنا نوع تشريف واكرام مركب للمؤمنين والأزواج وفيه وجوه :
الأول : الطهر من الحيض والنفاس.
الثاني : التنزه من جميع الأقذار والأدناس.
الثالث : البراءة والنقاء من الطبائع والأخلاق الذميمة.
الرابع : انعدام النفس الغضبية وسوء العشرة.
الخامس : انتفاء صفات القبح عند المرأة في الحياة الدنيا من الغيرة ولتجرأ في الكلام ونحوه.
والمراد من الطهر في الآية أعم من هذه الوجوه لأنه وفق نواميس الآخرة ويتعدى أوهام البشر وواقع التصور بمعنى ان الطهر في الآخرة عنوان تدخل تحته مصاديق متعددة منها ما هو بلحاظ سنن الدنيا ومنها ما هو خاص بالآخرة، وفي الآية ترغيب بالآخرة ودعوة للإعراض عن الإنشغال بشهوات الدنيا وحب النساء فيها.
علم المناسبة
ورد لفظ (مطهرة) خمس مرات في القرآن جاءت كلها بعنوان الصفة، ثلاثة منها تتعــلق بالأزواج في الجــنة( )، ووردت في سورة البقــرة، آل عمران، النســاء على التوالي، واثنتــين وردتا في الجزء الأخير من القرآن ومتعلقتين بالصحف السماوية، قال تعالى [فِي صُــحُفٍ مُكَــرَّمَةٍ * مَــرْفُوعَــةٍ مُطَــهَّــرَةٍ]( )، [رَسُــولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُـطَهَّرَةً]( ).
وعلى المبنى الذي نذهب اليه وعليه تسالم المسلمين وهو عدم وجود الصدفة والإتفاق في ألفاظ القرآن ونسميه (قانون الإنسجام) فلعل الأزواج المطهرة جزاء لمن آمن بالصحف المطهرة.
ووصف الكتب بأنها مطهرة حــث وترغيــب بالإيمــان بها والإنجــذاب اليها، وكذا بالنســبة للأزواج في الجنة فان الآية تبعث الشــوق في النفـوس للفــوز باللائي جعلهن الله أزواجاً في الجنــة وألبسهن رداء الطهر والنزاهة ويمكن ان يكون الوضوء كطهارة مقدمة للظفر بهن خصوصاً وانه مقدمة للصلاة، فصفة الطهر سنخية سماوية ثابتة.
واذا كان المؤمنون مبشرين بالأزواج المطهرة فبماذا تبشر المؤمنات، الجواب ان المراد من الأزواج المطهرات ذات المؤمنات ولا تعارض مع وجود الحور العين فمن الطهر انتفاء الغيرة والتزاحم والأخلاق والمذمومة.
فتتضمن الآية منطوقاً ومفهوماً، فالمنطوق ارادة المؤمنين الذين يعملون الصالحات والبشارة بالأزواج المطهرة، اما المفهوم فهو ارادة المؤمنات وبشارتهن بالجنة والأزواج المطهرين للملازمة ووحدة الموضوع في تنقيح المناط ولقاعدة الإشتراك فصفة الطهر من خصائص عالم السماء وأهل الجنان.
قوله تعالى [وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ]
آية اعجازية في بيان نوع آخر من أنواع الثواب الأخروي، بعد ذكر النعم الحسية في الجنة من الإقامة الدائمة في الجنة والأزواج المنزهة من الدنس والنقص والعيب، جاء الفضل الإلهي على أهل الجنان وهو رضاه سبحانه عنهم، ولم تشر الآية الى ان هذه النعم من لوازم وآثار رضاه تعالى بل ذكرتها في عرض واحد مع رضاه سبحانه، وفيه اشارة الى نعم أخرى مستحدثة غير المذكورة، وافاضات تترشح وتتفرع عن رضاه سبحانه على المتقين.
وقد ورد لفظ (رضوان) في القرآن ثمان مرات كلها تتعلق برضاه تعالى، ولكنها تنقسم الى قسمين:
الأول: علة مادية للعمل الصالح وأمر ارشادي متبع من المسلمين قال تعالى [وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ]( )،
الثاني: علة غائية للعمل ووسيلة للجزاء الحسن قال تعالى [يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ] ( )،وظاهر الآية ان الرضوان غير الجنات لوجود حرف العطف (الواو) بينهما وهو يفيد المغايرة والتعدد، والمؤمن لا يدخل الجنة الا بعد احرازه رضاه تعالى ومع هذا تفضل سبحانه وقدم الجنة وما فيها من النعم في الذكر، ليكون رضوانه تعالى عنه سبباً في ارتقائه في منازل الجنة واستقراره في نعيم ليس عن استحقاق بل عن رضا منه تعالى، لأن النعم في الآخرة عظيمة لا تأتي الا رحمة وفضلاً منه تعالى [وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ]( )، وتفتح الاية أبواب الدراسة في عالم السعادة والغبطة في الآخرة.
وفيها دلالة بأن الله عز وجل أعد للمؤمنين ما لم يكن بالحسبان من النعم، والطريق اليها اعتماد رضوانه تعالى في الأفعال والأقوال واتباع رسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عنده تعالى وعدم الإنشغال بالدنيا والإنتقال بالحب من متاعها الى مرضاته تعالى، ليصبح العبد عاشقاً للفعل العبادي يستقبله بشوق ويؤديه بلهفة ورغبة، ومن الآيات في الهداية التكوينية ان يكون رضوانه تعالى ملازماً للمؤمن في دنياه وآخرته.
يختاره امتثالاً لأمره تعالى وحباً له سبحانه، ليصبح في الآخرة ثناء على العبد وملازماً لإقامته في نعيم الجنة ليمتلأ قلبه بالسعادة ولينقطع الى حبه تعالى ويفنى في ذكره وعشقه في بحبوبة النعيم المتصل.
قوله تعالى [وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]
الآية قاعدة كلية جاءت خاتمة لهذه الآية المباركة لتؤكد احاطته تعالى علماً بأفعال العباد ومصالحهم ومنافعهم وأسباب هدايتهم ومنها جعل الجنة مثوىً للصالحين، والنار دار عقاب للكافرين وأهل المعاصي ففلسفة الثواب والعقاب ملائمة لطبع الإنسان وخلقه وقدراته الفعلية في أدراك مزايا الحسن أو القبح في الفعل كما بينها القرآن وجاءت به الأنبياء،
ومن الآيات ان أمر المعاد والثواب والعقاب في الآخرة أمر يعرفه الناس جميعاً وان قابله شطر منهم بالجحود وآخرون ضلوا طريقه وسعوا اليه بسبل تؤدي بهم الى التيه، فجاء القرآن ليبين طرق الهداية والرشاد ومسالك النجاة والفوز الأخروي.
ومن أسمائه تعالى (البصير) وهو الذي تكون الأشياء جميعاً حاضرة عنده لا يغيب منها شيء قل أو كبر، سواء تقدم زمانه أو تأخر فهو في علم الله، وختم الآية بالإخبار عن علمه تعالى بالناس بشارة ورحمة لأن الآية جاءت في ذكر الجنة والجزاء الحسن.
وفيها اشارة الى لطفه تعالى في اصلاح الناس في تفكيرهم وأعمالهم ليتوجهوا الى المعاد ويزهدوا بالدنيا وما فيها من البهجة الزائلة، وان فضله تعالى لم يقف عند بعث الأنبياء وأنزال الكتب السماوية بل انه سبحانه يصلح حالهم لتلقي الأحكام وقبول الأوامر والنواهي، فبقاء الشرائع يستلزم طائفة من الناس يتعاهدونها ويتوارثونها جيلاً بعد جيل سواء كانت هذه الوراثة بالإيمان او بالنسب او هما معاً والأخير هو الأرجح لذا يحرم الإرتداد الفطري عن الإسلام، أي ارتداد من كان أبواه أو احدهما مسلماً ويحكم عليه بالقتل لأنه يتحمل مسؤولية حظ الشرائع التي جعلها الله عز وجل واجباً متوارثاً وأمانة وطريقاً الى رضوانه سبحانه فما من واجب او تكليف الا ويكون ثوابه أعظم وأكبر في الدنيا والآخرة وفي الآية اخبار ضمني عن ديمومة الإسلام لتأسيس قواعد حفظه وبقائه لعلمه تعالى بظواهر وخفايا الأمور،
وجاءت الآية بصيغة الجمع (بصير بالعباد) وموضوعها انحلالي أي انه سبحانه بصير وعالم بكل انسان على نحو الإطلاق وعلمه سبحانه لا ينحصر بفعل العبد، بل يشمل أقواله وما يهم به وما ينشغل في تصوره وتخيلاته وآماله لذا جعل الوعد بالجنة في مقابل الإنشغال بمتاع الحياة الدنيا لجذبه الى العمل الصالح من غير حاجة له ولفعله، وهو سبحانه عليم بأحوال الناس في الآخرة، أي ان عالم الآخرة خال من الظلم وما فيه قبح ذاتي، وتدعو الآية الى التوكل عليه سبحانه والإستحياء منه في السر والعلانية وجعل الأفعال والأقوال في مرضاته كما أنها تدعو للتعاون والتآخي للفوز بلقائه سبحانه ليكون الرضوان الإلهي علة مادية وغائية لفعل كل عبد ولأفعالهم جميعاً على نحو الإشتراك والتداخل.
قوله تعالى [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] الآية 16
الإعراب واللغة
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا)
الذين: اسم موصول مرفوع على انه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هم الذين، ويجوز اعرابه منصوباً بفعل محذوف لإرادة المدح أي امدح الذين، او الجر على انه بدل من الاسم الموصول في الآية السابقة.
يقولون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
ربنا: منادى محذوف منه حرف النداء.
(فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)
الفاء: حرف عطف يفيد الترتيب المعنوي.
اغفر: فعل سؤال ودعاء، لنا: جار ومجرور متعلقان باغفر،
ذنوبنا: مفعول به منصوب وهو مضاف، والضمير مضاف اليه.
(وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
الواو: حرف عطف، قِ:فعل سؤال ودعاء مبني على حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت و(نا) ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول.
عذاب النار: عذاب: مفعول به ثان، وهو مضاف،
النار: مضاف اليه
في سياق الآيات
بعد آية البشارة بالجنة والنعيم في الآخرة، جاءت هذه الآية لتخبر عن صفة من صفات المتقين القولية والتي تعكس حال الإيمان المتأصل في نفوسهم فالآية السابقة لوصف حالهم في الجنة، وهذه الآية لبيان حالهم في الدنيا.
اعجاز الآية
تبين الآية ضرورة الإقرار بالربوبية والإخبار عن صدق الإيمان كنوع عهد مع الله باعلان الإيمان والإقرار بالذنب وسؤال عفوه ومحوه، والنجاة من النار، فمع الوعد الإلهي بالجنة يبقى المسلم على حال الإستغفار، والإستغاثة من النار وتبين الآية خشية المؤمنين من عذاب النار وفيه زجر وتخويف للكافرين.
الآية سلاح
في الآية تأديب للمسلمين وتعليم لكيفية اعلان الإيمان والإقرار بالعبودية لله تعالى والتصديق بما جاء به الأنبياء من عنده تعالى، وجعل الشهادة بالتوحيد تستولي على الحياة على الأرض وفيها ارشاد لصيغ الهداية وتوارث الإيمان والآية عون للمسلمين على ولوج باب الإستغفار الذي يحتاجه كل انسان واستثمار الدعاء للنجاة من العذاب الأخروي.
مفهوم ألآية
في الآية حث على المناجاة، وتوثيق الإيمان بالجهر به مع الإمكان وادراك حقيقة عقائدية ثابتة وهي قدرته تعالى على محو الذنوب، ان معرفة فلسفة الإستغفار تفتح للمسلم ابواباً من المعرفة الإلهية وتجعل الحياة اكثر اشراقة واملاً، وتنفي عنه اليأس والقنوط، وتبعث السكينة في نفسه وتجعله يتطلع الى الغد بجد وسعي دؤوب في سبيله تعالى،
ان الإقامة على حال الحزن والندم تجعل الإنسان في قلق وعسر، فجاءت الآية لتنفي عنه الحزن وتدعوه الى التفاؤل والثقة بعظيم فضله واحسانه تعالى والتفقه في الدين واليقين بانه تعالى قادر على كل شيء،
وفي الآية تأديب للمسلمين والناس جميعاً من باب الأولوية فهي دعوة للخوف المطلق من النار والدخول فيها، فاذا كان المؤمنون الذين مدحهم القرآن بأرقى صيغ المدح والثناء يتوسلون بخوف ووجل سائلين الله النجاة من نار الآخرة ويعلنون الخوف والخشية من الوقوع فيها، فكيف حال الجاحدين والكافرين وأهل المعاصي، وسؤال العفو ومغفرة الذنوب طريق الى الجنة أي ان الآية تدل على الإستبصار بعالم الآخرة.
افاضات الآية
الآية مدرسة قرآنية تتغشى أهل الملل والنحل كافة، ينتفع منها المسلمون فلا تنضب بركاتها، بل تبقى معروضة للناس جميعاً للأخذ منها باختيار الإيمان، وفي الآية ومضامين الإيمان وجوه :
الأول : الإيمان بالجوانح والأركان.
الثاني : توكيد وتوثيق الإيمان بين العبد وبين الله عزو جل.
الثالث : سؤال محو الذنوب.
الرابع : الدعاء للوقاية والسلامة يوم القيامة،
وهل هذه الأمور بعرض واحد ام انها تختلف بالرتبة والأثر، الجواب هو الثاني لأن الإيمان أصل الوجوه الأخرى فلذا قدمته الآية، فمع الإيمان يأتي السؤال والدعاء والإستجابة التي تتجلى بالإنقطاع الى الله في القول والفعل واستحضار الآخرة ونعيم الجنة وعذاب النار.
التفسير
قوله تعالى [الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا]
يعتبر الإيمان أفضل وسيلة للتقرب الى الله عز وجل وطلب مرضاته فاعلان الطاعة واظهار حسن الإمتثال مقدمة واجبة لقضاء الحوائج، وفي طلب الحاجة من السلطان وارباب الحوائج في الدنيا يترشح هذا الإعلان من ذي المقدمة ونوع الحاجة وتكون العلة الغائية في قضاء الحوائج سبباً لهذا الإعلان لذا فان الإعلان ملازم للحاجة في ظاهره وهو متزلزل يزول بأدنى أمر، اما اعلان الإيمان فانه يصدر من القلب ويكون ثابتاً مستقراً وهو مقدمة واجبة مطلوبة بذاتها، ويكون ما يترشح عليها من غيرها عنواناً اضافياً فاعلان الإيمان بالله لا يتوقف على الحاجة بل هو واجب ذاتي وليس عرضي لتوجه الخطاب التكليفي لكل مكلف، رجلاً كان أو امرأة بلزوم الإيمان بالله عز وجل، فجاءت هذه الآية لنفي الشريك وتثبيت لواء التوحيد في النفوس وفي الأرض، وورد قول المتقين بصيغة الجمع (يقولون ربنا) وفيه مسائل:
الأولى: الإقرار بان الله عز وجل رب العالمين، وليس لهم من اله سواه.
الثانية: مجيء النداء والقول بصيغة الجمع، مما يعني الإجتماع على الهدى وضم كل قول للقول الآخر، وهو عنوان الأخوة الإيمانية.
الثالثة: يترشح عن الإيمان الإمتثال الحسن وأداء الفرائض والصالحات واجتناب السيئات.
الرابعة: مع الإيمان يأتي الوعد الإلهي بنزول شآبيب الرحمة لذا توجه المسلمون بالدعاء لقطع ثمار الإيمان.
الخامسة: من وجوه الإيمان التصديق بما أنزل الله وفي التنزيل [رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ]( ).
السادسة: لا ينحصر موضوع الآية بزمان دون زمان، ولا مكان دون آخر، وموضوعها وأحكامها باقية الى يوم القيامة، فيها سكينة لكل مؤمن بوجود أخوة له في الإيمان في زمانه والأزمنة الأخرى، وهي عنوان للشكر له تعالى على الهداية والتوفيق للإيمان الذي هو علم وحال وعمل، والعلم هو الأصل ويترشح عنه الحال والشأن ونوع العمل، لذا مدحهم الله عز وجل ووصفهم بالتقوى.
واعلان الإيمان جزء من التقوى وعبارة عن بيان للخشية منه تعالى، وتؤكد الآية حب المسلمين لمراتب الإيمان وغبطتهم بالهداية، وهذه الغبطة تنعكس بصورة اقبال على الطاعات ونبذ للمعاصي، ومن أول مراتب الإيمان التقديس لمقام الربوبية واعلان الإيمان مظهر من مظاهر التقديس والخشوع لله عز وجل، واعتراف بانه لا مؤثر في الوجود الا الله تعالى، والمعرفة حرز من الشرك وواقية من الذنوب والمعاصي، لقد تقرب المسلمون الى الله باعلان الإيمان وهو توسل كريم، والأصل ان يبدأ الدعاء بالمدحة والثناء عليه تعالى، واعلان الإيمان وجه من وجوه الثناء على الله تعالى لأنه إقرار بالربوبية المطلقة له سبحانه والإيمان في المقام عبارة عن الإعتقاد الجازم بالربوبية وأداء الطاعات.
قوله تعالى [فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]
في الآية بيان لوظيفة من وظائف الإيمان، وهي اللجوء الى الله تعالى في طلب الحوائج ولم يبتدأ المسلمون بطلب الجنة مع أنها العلة الغائية والرجاء الأعظم، ولكنهم ابتدأوا بالمدح والثناء عليه تعالى باعلان الإيمان ثم سألوا محو الذنوب لإجتناب ضرره المركب من أمور :
الأول : الذنوب والمعاصي حاجب دون دخول الجنة.
الثاني : الذنوب مادة الدخول الى النار.
الثالث : الآثام والخطايا سبب للإبتلاء في الدنيا وامتلاء النفس بالحسرة والضيق.
فجاءت الآية لإزالة الحواجب دون دخول الجنة وتلك الإزالة لا تتم الا بفضله تعالى وعقيدة بالإيمان فكما ان الإستغفار فرع الإيمان، فان الإيمان ضرورة وشرط في قبول الإستغفار، وسؤال محو الذنوب تثبيت لنعمة الإيمان في النفوس، واتصال ودوام الخشية منه تعالى وحصانة من العودة الى عالم الخطايا والذنوب، فلا يسأل انسان التخلص من أمر وتبعاته وهو يزاوله ويقيم عليه،
ومن افاضات الإيمان معرفة لزوم محو الذنوب والخطايا، وهذا المحو لا يقدر عليه الا الله عز وجل اذ لا استصحاب قهقري للطاعات بحيث تمحو ما تقدم من الذنوب ولكنه فضل ولطف منه تعالى، وتجد في تراجم الرجال استعراض لحياة بعض الرجال المشهورين، فيذكرون مثلاً اعماله في حال الشرك ثم انتقاله الى صفوف المؤمنين وحسن اسلامه او شهادته في سبيل الله، اما عند الله عز وجل فان الأمر يختلف فليس من ذكر له الا في باب الإيمان وفعل الصالحات وهو المعتبر يوم القيامة فلا تجد في صحيفة أعمال المؤمن مما ذكروه في ترجمته في زمان الشرك والكفر وان كان هذا الذكر لا يضر في منزلته عند الله وعند الناس وهو دليل على صدق ما جاء به الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات والبراهين القاطعة التي أنتزعت الصالحين من منازل الضلالة ليعلنوا ايمانهم.
وتدل الآية على التوبة والندم والصلاح ولكن التوبة ملازمة لأول الآية واعلان الإيمان اما للفرع وهو سؤال مغفرة الذنوب، الجواب هو الأول، فمع الإيمان حصلت التوبة سواء مقارنة له او متقدمة عليه رتبة وزماناً.
وبالإيمان يستطيع العبد التمييز بين الطاعة والمعصية وبين الصالحات والذنوب، فهذا التمييز يلقي على نفسه وعقله اعباء اضافية، للحمل الثقيل، الذي تمثله الذنوب التي ذهبت لذاتها.
وكيف يتخلص من الذنوب وقد اقترفها ودونها الملائكة، فيدرك انعدام السبيل باللجوء اليه تعالى في المسألة، وهذا اللجوء دعوة لدراسة (فلسفة المحو) والدروس المستنبطة منها في عالم الدنيا والبرزخ ويوم القيامة والمثوى الأخير في الجنة او النار، وسؤال مغفرة الذنوب شاهد على صدق الإيمان.
وجاءت الآية بصيغة الجمع وهي انحلالية وفيها مسائل :
الأولى : كل مسلم يدعو لنفسه بالغفران.
الثانية : المسلمون جميعاً يدعون لأنفسهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
الثالثة : المسلمون كافة يدعون لكل فرد منهم على نحو العموم البدلي، فكل مسلم يناله دعاء المسلمين وينتفع منه.
الرابعة : كل مسلم يدعو للمسلمين جميعاُ بالمغفرة فاذا دعا المسلم بالمغفرة وبصيغة الجمع انتفع المسلمون كافة من دعائه سواء بذات النفع الذي يناله هو، او بدرجة أدنى ومراتب متفاوتة.
ولا ينحصر النفع بأفراد الجماعة او أهل البلد او الزمان بل هو شامل يدعو المؤمن فينتفع منه المعدوم ممن لم يولد بعد، وممن غادر الحياة الدنيا وهذا من بركات الأخوة الإيمانية وشمولها للأحياء والأموات بلحاظ الإيمان من غير تقييد بالأثر الشخصي أي لا ينتفع من استغفار الفرد أبوه ومن علمه وهداه لسبل الرشاد فحسب، بل ينتفع كل مؤمن عرفه او لم يعرفه، وهذا الشمول في الثواب لا يقدر عليه ولا يتفضل به الا الله سبحانه.
ومن افاضات القرآن ان يتلو المسلم هذه الآية فتحسب عند الله استغفاراً له ولغيره من المسلمين، ممن تقدم زمانه الى أيام البعثة النبوية المباركة وما قبلها والى ايام ابينا آدم وتلك خصوصية للقرآن تؤهله للسيادة والإرتقاء على الكتب السماوية المنزلة الأخرى، لأن رشحات آياته تعود بالنفع العظيم على الأولياء والصالحين من الملل السماوية السابقة، ووفق القياس الإقتراني يمكن القول بان سؤال مغفرة الذنوب حاجة، والقرآن فيه سؤال المغفرة والنتيجة ان القرآن حاجة.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [َاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ثلاث مرات كلها في سورة آل عمران( )، وقد وردت الآية الثانية في أصحاب الأنبياء الذين جاهدوا في سبيل الله وتحملوا شتى صنوف الأخرى ومع هذا فانهم لا يشكون حالهم، ويتلقون البلاء بصبر وليس لهم هم الا سؤال العفو قال تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا] ( )، كما وردت الآية الأخرى في الذين يجتعهدون في ذكره تعالى في سائر الأحوال عن قيام وجلوس وإضطجاع، وفي حال الصحة والمرض،
اما الآية محل البحث فقد جاءت في وصف المسلمين وانهم اظهروا في مناجاتهم الإيمان، في خطاب ونداء لله تعالى، وظاهر الآية انهم لم يعلنوا الى الملأ ايمانهم وحسن اسلامهم وهو تخفيف ورحمة واجتناب أذى وكيد الكفار، لقد رضي الله من المسلمين مناجاتهم بالإيمان وبشرهم عليه بالجنة نعم جاءت آيات بالحث على الجهاد في سبيله تعالى بالنفس والمال واللسان مما يدل على مضاعفة الأجر والثواب لذا وردت الآية السابقة بالبشارة بالفوز برضوانه تعالى وهو غير نعم الجنة من القصور والأنهار والأزواج المطهرة ونحوها، ويأتي الإستغفار ليكون باباً لزيادة الحسنات بمعنى ان للإستغفار نفعاً مباركاً مركباً.
قوله تعالى [وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
لابد لكل مؤمن من الإيمان بالنشور والرجوع الى عالم الآخرة للحساب والوقوف بين يدي الله، ومن الآيات ان مثوى الإنسان في الآخرة احد اثنين لا ثالث لهما، وهو أما في النعيم، واما في العذاب، وليس من برزخ ووسط بينهما، وهذا القول والمقام يتوقف على عمل الإنسان في الدنيا، وقد تجلى في الآية أمران:
الأول: سؤال مغفرة الذنوب.
الثاني: الوقاية من عذاب النار، وسؤال مغفرة الذنوب من أجل النجاة في الآخرة، كما هو الثاني ام انه مطلق، الأقوى انه مطلق ويتعلق بحب الله والإستحياء منه والحاجة الى مغفرة الذنوب في الحياة الدنيا وفي الآخرة، سواء لأن ثقل الذنوب يؤثر سلباً على النفس او انه مادة وسبب للإبتلاء والأذى، وان العفو ومحو الذنوب يفتح على الإنسان ابواباً من المعرفة وسبلا من الأمن والسلامة، كما انه مقدمة وضرورة لدخول الآخرة ابتداء من عالم القبر وما فيه من الأهوال، وكأن الإنتقال من غفران الذنوب الى الوقاية من عذاب النار من العام والخاص، فالمراد من النار في هذه الآية هي نار جهنم في الآخرة وشدة العذاب فيها،
وورد السؤال بصيغة الجمع لينفع دعاء المؤمن المسلمين جميعاً، فدعاء الواحد منهم ينبسط وكأنه صادر من الجميع وفيه اظهار لحاجة المسلمين للتعاون فيما بينهم في الآخرة، ومن وجوه هذا التعاون الشفاعة، واتصال الدعاء في الآخرة للذات وللغير، ومن يتلو هذه الآية لا يحرم من نفعها وترديدها في الآخرة وتلاوة الآية وسؤال وقاية الذنوب بصيغة الجمع ادخار ليوم الفاقة والعوز، يوم تكون النار قريبة من الإنسان بما كسبت يداه،
فالمسلم يريد نجاته ونجاة أخيه في الإسلام من النار وفيه دعوة للتآخي ومنع الخلاف والشقاق في أمور الدنيا من باب الأولوية ولأن نبذ الفرقة طريق للوقاية من النار، ان دفع عذاب النار أمنية كل انسان فليس من شخص الا ويرجو نجاته من العذاب المتوقع والمحتمل وان كانت درجة احتماله قليلة ولكن غير المسلم يغفل عن الآخرة وحتمية الحساب، فيأتي هذا السؤال ليكون دليلاً على اقرار المسلم بالتوحيد وصدق اعلانه الإيمان، والتسليم بالربوبية، أي ان خاتمة الآية اثبات لأولها فاذا قيل كيف يكون قول المسلمين بانهم مؤمنون حقاً وصدقاً يكون سؤالهم الوقاية من النار دليل الإيمان بعالم الآخرة وان المشيئة المطلقة فيه لله تعالى، وهو الحاكم يومئذ ويعجز الإنسان فيه عن اختيار المقام بل لا يستطيع اخفاء ذنب، او فعل فعله في حياته ويتخلى منه الناس ويبقى عمله ودعاؤه فيكون سؤال النجاة من النار حاجزاً دون دخولها ودليلاً على ألإيمان، كما يدل هذا السؤال على دوام الحاجة اليه وان الإيمان ليس علة تامة للنجاة من النار الا ان يشاء الله عز وجل، وعلى فرض وجود انسان لم يرتكب ذنباً ابداً صغيراً او كبيراً فهل يحتاج هذه الآية وسؤال الوقاية من النار الجواب نعم من وجوه:
الأولى : عموم قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
الثانية : الدعاء احتراز واحتياط وواقية.
الثالثة : حاجة المسلمين الى دعائه لذا جاء الدعاء بصيغة الجمع، لينتفع من دعائه المسلمون الآخرون.
الرابعة : في الآية مصداق للتقوى بمعناها الأعم ومنها الخشية من العقاب.
الخامسة : الآية التجاء الى الله عزوجل للسلامة والنجاة من اسباب ومقدمات عذاب النار، وهذا من وجوه (فلسفة الدعاء) فيسأل العبد غفران الذنوب والسلامة من عذاب بجهنم، فيمن عليه الله عز وجل فيغفر له ذنوبه ويصلح حاله ويجعله في حرز من الذنوب والمعاصي، فيستحق في الآخرة النجاة من عذاب النار لأنه توقى منها في الدنيا، فالنجاة من النار لا يكون في الآخرة فحسب بل يكون في الدنيا ايضاً بالإحتراز من مقدماتها وأسبابها التي جعلها الله معروفة لكل انسان، فليس من عمل يشتبه فيه العقلاء هل هو سبب لدخول الجنة او النار، لذا قسمت الأحكام التكليفية الى واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم، ولا يتردد فعل بين اعتباره واجباً او محرماً.
وبما ان المقام في الآخرة يكون اما في الجنة او في النار فان الآية تدل في مفهومها على سؤال دخول الجنة وهو سعي لبلوغ نعمها فحينما جاءت الآية السابقة بذكر نعم الجنة، جاء الدعاء بعدم الحرمان منها، ومما يدل على لزوم الإجتهاد في دفع عذاب النار قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا]( ). مما يعني ان التوقي من النار يكون في الدنيا واعانة الأهل والأولاد في النجاة منها بالعمل الصالح واداء العبادات واجتناب المعاصي والسيئات، ومع هذا فان الدعاء يظهر الإقرار بواسع رحمته تعالى وانه هو الغفور الرحيم، فهو وجه من وجوه العمل الشخصي والسعي في الصالحات، وتوجه اليه سبحانه في دفع عذاب النار وعلى نحو الموجبة الكلية، ومن تجليات الآية ان السؤال عام ومطلق وصادر من جميع المسلمين فمع ما فيهم من الأئمة والعلماء والصالحين فانهم مجتمعون على اعلان الخشية عن عذاب النار ومظهرون للحاجة الى رحمته للنجاة من عذابها، وقد يتوسل الإنسان بالسلطان والملك لطلب مسألة مع انه مستحقها وفق القواعد والقوانين والعقل والعرف، ولكن المقام مختلف، فمجيء سؤال النجاة من عذاب النار متعقباً للتوسل بمغفرة الذنوب دليل على العجز عن دفع العذاب يومئذ الا بفضله ورحمته تعالى.
قوله تعالى [الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ] الآية 17
الإعراب واللغة
الصابرين: منصوب على المدح بفعل محذوف بتقدير: أعني الصابرين، ويجوز اعرابها اسماً مجروراً على البدل من الذين.
والقانتين: وما بعدها معطوف عليه.
بالأسحار: جار ومجرور متعلقان بالمستغفرين.
من أسمائه تعالى (الصبور) وهو الذي يمهل الكافرين والجاحدين، ولا يعجل لهم العقوبة، والصابرون: جمع صابر، يقال: صبر يصبر صبراً، فهو صابر وصبار وصبور، والأنثى صبور ايضاً، والصبر: حبس النفس عن الجزع، وملكة في النفس لتلقي المصيبة والأذى بتحمل وحلم.
ومن مصاديقه الصبر على الطاعة والتكاليف [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] أي بالصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية.
والقانتون: جمع قانت، وأصل القنوت الإمساك عن الكلام، وفي الإصطلاح الدعاء اثناء الصلاة: والقنوت: الخشوع والإقرار لله عز وجل بالعبودية.
وفي قوله تعالى [وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( )، قال زيد بن أرقم: “كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت [وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]”، فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، فأمسكنا عن الكلام وروي عن أنس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قنت شهراً يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه( ).
في سياق الآيات
بعد الإخبار عما أعد الله للمتقين، تفضل سبحانه ببيان صفاتهم في الآية السابقة وهذه الآية، ولماذا لم تجعل صفاتهم في آية واحدة مع قصر كل منهما، فيه وجوه:
الأولى : الإجماع على ان قسمة سور القرآن الى آيات والفصل بين رؤوسها على نحو التعيين هو أمر نازل من عنده تعالى، فهذا التقسيم بين الآيتين جزء من التنزيل وتوابعه، ولابد فيه من دلالات عقائدية واعجاز قرآني.
الثانية : في الآية تنظيم وترتيب للأقوال والأفعال، فقد بدأت الآيتان بتثبيت الإيمان، والله عز وجل يعلمه.
الثالثة : جاءت الآية الأولى بسؤال أسباب النجاة من عذاب النار والإستغفار باللسان، اما هذه الآية فجاءت ببيان الأفعال والأعمال العبادية.
الرابعة : الفصل بين الآيتين من عمومات تعضيد آيات القرآن بعضها لبعض.
الخامسة : في استقلال موضوع كل آية تأديب للمسلمين وارشاد للإرتقاء في منازل العبادة.
السادسة : موضوع الآية السابقة سؤال العفو ومحو الذنوب ورفع عذاب النار، اما هذه الآية فجاءت بالأعمال التي تدخل الإنسان بالجنة وكأن الآية تخبر عن التعدد الموضوعي وان المؤمن يحتاج سؤال النجاة من النار والسعي لدخول الجنة، ولا يقف عند طلب محو الذنوب بل عليه ان يسترها بالصالحات، والعبادات التي تكون استغفاراً عملياً، وهل تترشح مضامين هذه الآية على الآية السابقة أم العكس، بمعنى هل الصبر والصدق والقنوت يؤثر في درجة الإيمان، ام الإيمان سبب في ايجاد هذه الصفات، الجواب هو التداخل وتبادل التأثير والأثر مع ظهور الملازمة.
اعجاز الآية
لقد ذكرت الآية خمس صفات لأهل التقوى كل صفة مدرسة في الفقه والكلام والأخلاق، وتبدو للوهلة الأولى مشقة الإرتقاء اليه، ولكن التقوى أصل هذه الصفات ومدخل ملكة الهداية التي تنبعث منها معاني الصلاح.
وجاء دخول الواو على الصفات آية اعجازية، وفسر على انه تفخيم للموصوف لأن كل صفة تستحق بذاتها المدح على الموصوف، ولكن الآية أعم فتشمل التعدد برحمته وفضله تعالى مع اتحاد ما في الآية الأولى وشرطية الإيمان الذي يترشح عنه قصد القربة في الأفعال.
وفي الآية إرشاد لهذه الصفات ودعوة لإنتهاج مسالكها وظهورها في القول والفعل، وتنفي الآية الجهالة والغرر، فمن شاء دخول الجنة لا يبقى متحيراً في اختيار الطرق اليها، اذ منعت الآية من التحريف والتغيير فيها.
الآية سلاح
ذكر هذه الصفات بلغة المدح والثناء ترغيب ودعوة للتلبس بها، وبيان لمكارم الأخلاق وما يجب ان يتحلى به المسلمون من الكمالات الإنسانية.
وهو حث على الإنابة والرجوع الى الله، والتوبة وهي الرجوع عن المعصية والإخلاص في العمل وهو أداء الأفعال قربة الى الله وحده، واتخاذ الصق في القول والفعل رداء وملكة ثابتة والزهد في الدنيا بالإنقطاع الى الله.
مفهوم الآية
في الآية زجر عن ذمائم الأخلاق، واخبار عن ضررها بصاحبها وانها لا تؤدي الى النفع في الآخرة، وفيها منع من الجزع والسخط وارتكاب الحماقات، كما تبين الآية قبح الكذب وانه يتنافى مع التقوى، فان ذكر الصدق بلغة المدح والثناء يعني بالضرورة ذم الكذب الذي يعتبر مبغوضاً عقلاً، كما انها تمنع من الكسل والخمول في العبادة وتبين ان طريق الجنة يستلزم بذل الوسع والجهد، وان التقوى منهاج وطريقة عمل يومية مبنية على خشيته تعالى في السر والعلانية، ومع ان الآية جاءت بصيغة الخبر فانها انشائية اذ انها تدعو الى:
الأول : الصبر واظهار التحمل وعدم الجزع.
الثاني : قول الحق والصدق واجتناب الكذب والزور.
الثالث : جعل النفس تحب حال الخشوع والخضوع الى الله وتمنع من الكبرياء والغرور والزهو والغي.
الرابع : تبعث الآية على الرغبة في الإنفاق والبذل في سبيله تعالى واعانة الفقراء والمحتاجين وتنهى عن الشح والبخل.
الخامس : في الآية ترغيب بالإستغفار واظهار للندم على اقتراف الذنوب، وعدم الإستحياء من الإستغفار.
السادس : استحباب الإستغفار والعبادة وقت السحر، لطرد الغفلة والإعلان الشخصي عن الشوق الى نعيم الآخرة، وعدم الركون الى الدنيا، وما في الآية من اطلاق الأمر بالإستغفاردعوة للمبادرة اليه في كبائر وصغائر الذنوب، بل مطلقاً واتخاذه واقية ووسيلة للتقرب الى رحمته تعالى.
افاضات الآية
تتجلى في هذه الآية حقيقة الإرادة التكوينية والتشريعية معاً وهي ان القرآن مصدر الهداية والصلاح، وفيه مضامين التعليم القدسي تأتي كلمة واحدة فيه فتؤدي الى هداية ورشاد الأجيال وتنزيه المجتمعات، وتدفع عن الناس الضلالة والغواية، فكيف وقد جاءت في هذه الآية خمس كلمات كل واحدة منها مدرسة وعالم مستقل من القيم والأخلاق القرآنية والسنن الأخروية،
فلفظ (الصابرين) عنوان للتوفيق في النشأتين ولا يستطيع الإنسان النجاح والظفر في حياته وآخرته الا بالصبر، ولو أجتمع الوالدان والأقارب والأصدقاء ومدارس التعليم المتعارفة على تعليم الصبي في سني حياته الصبر وصيغه لعجزوا عن جعله سجية ثابتة عنده، ولخرج عن أصوله وقواعده عند مداهمة المصائب، او شدة الشوق الى زينة ومباهج الدنيا، ولكن هذه الآية وبكلمة واحدة جعلت المسلمين يتنافسون في منازل الصبر سعياً للوصول الى مراتب الكمال الإنساني ونيل البغية والأمل والسعادة الأخروية.
وكل مسلم أصبح معلماً ومرشداً لغيره ممن حوله دون الملل الأخرى، لتكون الأخلاق الحميدة التي يتصف بها دعوة للآخرين لدخول الإسلام وترغيباً بعقائده وسبباً لبعث الهيبة من الإسلام في النفوس، مع ان الصبر لم يطلب كسلاح ضد قوى الشرك والضلالة، بل هو سلاح ايجابي للنجاة والفوز في الآخرة، ولكن هذه النتائج الجانبية مناسبة لكسب الحسنات الإضافية من حيث لا يعلم العبد،
لقد أمر الله عز وجل بالصبر كي يكون سبباً مركباً لنيل الثواب بالذات والعرض، بالذات من خلال الفعل الشخصي والتحلي بمضامين الصبر، وبالعرض لكونه أسوة للغير ومرآة للقيم القرآنية والسنن التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من الإعجاز الغيري للقرآن في الظهور العملي لآياته على السلوك والأقوال، وقد تبدو سننه على فعل غير المسلم بمحاكاته للمسلم عن علم او بغير علم وفيه توكيد لحقيقة ثابتة وهي ان القرآن رحمة للعالمين،
ومع ان كل وصف ورد في الآية شمس مضيئة في سماء العلوم والأخلاق فان الآية ذكرت خمساً من مصاديق الكمال التي تقود الى الرفعة والعلو وتكون عوناً للإنسان في النشأتين وتخفف عنه وتمنعه من الإفتتان بالدنيا والإنشغال بلذاتها وتخبر الآية عن وجود رسالة عظيمة للإنسان في الحياة الدنيا، وانه يعيش في جهاد متصل مع نفسه، ليكون انتصاره فيه دعوة عامة للآخرة وحثاًُ للناس على اللجوء الى المعارف القرآنية.
التفسير
قوله تعالى [الصَّابِرِينَ]
بدأت الآية بذكر الصبر كصفة للمتقين، وتدل على ان الصبر أصبح عندهم ملكة وسجية وليس على نحو صرف الطبيعة، بل هي مطردة ثابتة سواء في حال الشدة او الرخاء فمن الناس من تراه يصبر عند البلاء القليل ولكنه عندما تحل به رزية ومصيبة تراه يفقد أتزانه ويستولي عليه الجزع او الغضب ويقول ما لايرضي الرب، أو انه يصبر عن الشهوات البسيطة اما اذا جاءت لذة جامحة فانه لا يستطيع مقاومتها وينظر الى الصبر بعنوانه السلبي وارادة التحمل والمجاهدة وقهر النفس،
ولابد من دراسات مستحدثة عن المضامين الإيجابية في فلسفة الصبر ومنها عرض الفعل على موازين الحلال والحرام قبل الشروع به، والرجوع الى الشريعة عند مداهمة افتتان او ابتلاء وهذا الوجه من وجوه التقوى فيكون ملائماً لذكر الصبر في صفات المتقين.
ومن وجوه الصبر عدم الجزع من أداء العبادات والفرائض ابتداء واستدامة، فقد يتردد انسان في دخول الإسلام لأنه يفرض الصلاة اليومية والإمتناع عن الأكل والشرب ساعات نهار شهر رمضان واخراج حق الفقراء من الأموال الخاصة، فبينت الآية المنافع العظيمة للصبر القليل في جنب الله لأنه جزاءه الجنة،
والصبر أفضل الوسائل للنجاة من حب الشهوات الذي ورد في ذمه قبل ثلاثة آيات خصوصاً وان نظم الآية متصل مع ذات الموضوع لأن هذه الآية جاءت بأمرين نبذ الشهوات ولزوم التخلص من الإنشغال النظري والعملي بها والسعي الدائم لنيل المراتب العالية في الجنة، وهذان الأمران يجتمعان معاً بالصبر، فهو السلاح القاطع والوسيلة الملكوتية للفلاح والصلاح الذاتي والتنزه عن القبائح، والإرتقاء الى عالم الملائكة والنظر الى الأمور بعين البصيرة لأن الصبر جزء علة مادية لملاقاة الوقائع والحوادث وتعيين موضوع الإختيار، فمع فقد الصبر يكون الأمر المختار مختلفاً عما يكون مع الصبر، ومن وجوه الصبر الإيجابية طلب مرضاة الله في الفعل والقول، فمتى ما كانت مرضاته تعالى غاية حاضرة عند العبد فان الصبر ملازم لها ومترشح عنها، لذا استحق الصابرون صفة التقوى.
ولقد وصف الله عز وجل الحياة الدنيا متاعاً، ومادة هذا المتاع الصبر وهو الزاد الذي يصطحبه الإنسان في سفره الى الآخرة، وقد أكد الإسلام والأديان السابقة على الصبر لأنه سلاح النصر على الأعداء وأهم وسائل تثبيت دعائم الدين في الأرض.
علم المناسبة
تعتبر الآيات التي ورد فيها ذكر الصبر جامعة مستقلة للخير والصلاح، وكل آية لها موضوع وحيثية من حيثيات الصبر منها:
الأول : الصبر موضوع للإستعانة للنجاة مما في الدنيا من البلاء، وقد أمر الله عز وجل بالصبر وندب اليه قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
الثاني : الصبر وسيلة النجاة والغلبة على الأعداء وهو قوة اضافية تزيد في العدد وقوة الجيش، والجماعة قال تعالى [فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] ( )
الثالث : الصبر شرط كمال أخلاقي، مستديم وفي حال الرخاء والشدة، قال تعالى [وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ]( ).
الرابع : للعبد ثلاث حالات:
أولا ً : الصبر.
ثانياً : الجزع .
ثالثاً : برزخ بينها.
وقد جاء القرآن بحصر الخير والرجحان بالصبر دون غيره قال تعالى [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( ).
والصبر الشخصي يترشح على الجماعة وصبر جماعة على غيرها، والجيل على الأجيال الأخرى باعتباره تأسيسه لصرح عقائدي.
ان الصبر أمانة في عنق كل مسلم وهو مسؤولية كل جيل على نحو الإشتراك، لأنه جزء من وظيفتهم في تعاهد شعائر الله وحفظ العبادات والفرائض ولا يتم هذا الحفظ الا بالصبر، لذا سميت العبادات بالتكاليف لما فيها من المشقة ومستلزمات التحمل، فلابد من الصبر على العبادة وعدم الجزع او التهاون في أدائها، والعبادة نفسها وسيلة ومادة للصبر، فأداء الصيام ينمي عند الإنسان ملكة الصبر، لذا ورد في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( )، ان الصبر هو الصيام، لقد بدأت الآية بالصبر لأنه الأصل الذي يستعان به على الوجوه الأخرى المذكورة في الآية، فالصدق يحتاج الصبر والتنزه عن الدنيا والإبتعاد عن الكذب الذي له قبح ذاتي، والقنوت يستلزم ، رياضة النفس على الدعاء والتوجه الى الله في الحاجات والرغائب والتفصي عن مشاغل الدنيا ، والإنفاق يتطلب قهر النفس الشهوية والتخلص من التعلق التام بالمال، والإستغفار بالأسحار يستدعي الصبر عن النوم والراحة ساعة السحر وما فيها من السكون الكوني والإنساني.
وصيغة الجمع دعوة ليتعلم المسلمون بعضهم من بعض معاني الصبر وافراده سواء في الشهوات أو في المصائب، وترى شواهد كثيرة في الصبر يشار لها بالبنان جاءت بالتربية والإعداد القرآني وبالأمر باللجوء عند المصيبة الى الإسترجاع وهو قول [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
قوله تعالى [وَالصَّادِقِينَ]
تأتي الواو لإفادة العطف والتعدد والمغايرة وتحتمل في المقام وجوهاً:
الأول : التعدد في الموصوف، فالصادقون غير الصابرين، والمنفقون غير القانتين وهكذا.
الثانية : التغاير في الصفة مع اتحاد الموصوف، فالآية جاءت لبيان تعدد الصفات بلحاظ تعدد الفعل.
ولابد من مائز وفارق بلحاظ المعنى اللغوي وتركيب الكلام، فعلى المعنى الأول فان المسلم لو كان صابراً لصدق عليه انه متق وان لم يكن صادقاً وقانتاً، وكذا بالنسبة للصادق في قوله وفعله فانه يصدق عليه بانه متق وممن تشمله البشارة بالجنة كما جاء قبل آيتين، اما على المعنى الثاني فانه لا يصدق عليه انه متق ومؤمن الا باحراز الصفات الخمسة مجتمعة لأن الموصوف واحد والصفات متعددة.
والصحيح هو الأخير، والمراد من الصبر في المقام شامل لشؤون الحياة، والصبر على الأذى والبلاء، والإعراض عن الشهوات والرغائب والإقامة على العبادات ويتجلى الصبر بحسن الإمتثال للأوامر الإلهية.
والصدق نقيض الكذب والذي ينقل الخبر والأمر كما هو يقال له صادق، ويقال صدق صادق، مثل شعر شاعر، كما في قوله تعالى [لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ] ( )، قال ابن منظور “ليسأل المبلغين من الرسل عن صدقهم في تبليغهم” ( ).
وألآية تتضمن مدح المسلمين لأنهم أختاروا الصدق وهو يتجلى بوجوه:
الأول : صدق القول فيما يقولون ويدعون الى الله عز وجل، ومجانبة الكذب والضلالة.
الثاني : الصدق في الفعل وان أداء الصلاة والصيام والحج حق وصدق.
الثالث : اخلاص النية وانتفاء الرياء والغش في مقاصدهم.
الرابع : تشمل الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء كافة والمراد من الصدق بخصوص النبوة صدق الوحي والإخبار عن الله عز وجل وعدم الزيادة او النقيصة في الوحي.
الخامس : الصدق في الإسلام والنطق بالشهادة ومجانبة النفاق والشك والريب.
السادس : الصدق في القتال والجهاد في سبيل الله.
السابع : استدامة الصدق في نياتهم وأفعالهم واقامتهم على التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين حياة الصدق وأخبر عن كونه طريق الجنة والسعادة الأبدية، والصدق عنوان الهداية وأفضل وسائلها، وقد خفف الله عن الناس ويسر لهم طريق الصدق بان جعل الصادق ممدوحاً ويميل له الناس والكاذب مبغوضاً وتنفر منه النفوس، فهي دعوة لتزيين الدنيا بالصدق، وهو من أسباب النجاة من الإنشغال الذهني بالشهوات ومانع من ارتكاب الفواحش والمعاصي، وهذا من الآيات في عالم الخلق وهو سبحانه يهيئ ما يفتضح به الكاذب احياناً، ومن يعرف عنه الناس انه كاذب، فانهم لا يصدقون حتى في الحق والصدق الذي يخبر عنه ومنه ادعاء الوحي النبوة، والآية شهادة على صدق الدعوة الإسلامية وطرد للشك من النفوس ومنع من التردد في قبول الإسلام، وفيها حث على حسن المعاملة واظهار الصدق في البيع والشراء وان يكون المسلم صادقاً في معاملاته،
وقد فرض الله الله عز وجل الصلاة خمس مرات في اليوم ليضع العبد أقواله وأفعاله في باحة الصلاة وينظر ملائمتها لحال التقوى الذي يتجلى بالصلاة والإنقطاع الى الله.
وتبين الآية موضوعية المسلمين في الحياة الإنسانية لأن الصدق ركن تتقوم به الحياة وترتقي به المجتمعات الى مراتب السعادة، وفي الصدق قهر للنفس الشهوية واصلاح لها ومنع للذات من التعدي على حقوق الآخرين، وليس أكثر ضرراً في الإخلاق الذميمة من الكذب، ويدخل في الكذب تكذيب الأنبياء والرسل لعدم الواسطة بين الصدق والكذب.
والصدق جهاد يومي متصل لا تتقوم العبادة والفرائض الا به سواء على نحو القضية الشخصية او النوعية، كما ان آثار الكذب لا تنحصر بحال او واقعة بل تستمر وتبقى، وكذا بالنسبة للصدق فان منافعه وبركاته باقية، وهل الصدق واجب ام مندوب الجواب انه واجب وحق، نعم قد يضطر الإنسان الى التورية وان لم يقدر على التورية او انها لاتنفع فانه يتجه الى الكذب لوجود الراجح ولغرض السلامة والنجاة، لأن الذي يكذب عليه هو كاذب في مقامه وادعائه كما لو كان سلطان جور، وكافر وغاصب لملك الغير، فهذا القسم لا يدخل في أمر الصدق والكذب بل تشمله أحكام تعاهد الإسلام، وهو وجه من وجوه الصبر ودفع الأذى والبلاء بالأدنى من القول الذي لا يغير من الحقائق وعندما سئل ابراهيم هل هو الذي كسر الأصنام قال كما ورد في التنزيل [بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ] ( ).
قانون التداخل
من ينشغل بأوهام الدنيا ويجعل ذهنه فارغاً الا منها لا يجد لذة او متعة، لحال العدم الواقعي الذي يقترن به، اما من يعيش في بحبوبة الصدق فان نفسه تمتلأ سعادة غبطة لأن قوله لم يخرج عن الحق والواقع، والإيمان بالنبوة والتنزيل أحد آثار الصدق، وهو أصل له، وبذا تظهر ما نطلق عليه (نظرية التداخل) بين الإيمان واتيان العبادات وفعل الصالحات وكل واحدة منها تترشح على الثانية وتقتبس من انوارها حتى تكون كلاً متحداً يصعب التفكيك بينها لتصبح ملكة ثابتة عند المؤمن وتكون الصفات الخمس الواردة في الآية صفة واحدة ولا اختلاف بينها الا في اللحاظ وتجد فعلاً واحداً يقوم به المسلم يصدق عليه انه:
أولاً : ايمان وشاهد عملي على الإقرار بالتوحيد.
ثانياً : صبر وتحمل وحبس للنفس سواء في الطاعة او عن المعصية.
ثالثاً : صدق ومطابقة للواقع.
رابعاً : قنوت ولجوء واستجارة بالله عز وجل.
خامساً : انفاق وبذل للمال او تعريض للنفس الى الخطر،
كما في الجهاد في سبيله تعالى وأداء فريضة الصيام وعدم تناول المفطر نهار الصيام مع ان العبد يخلو مع نفسه ساعات من النهار لا يراه فيها الا الله تعالى ، ونوم الصائم عبادة.
ان التكاليف الإلهية تستلزم مقدمات تتعلق بتهذيب النفس وتنقيح الطبائع وولاية العقل على الجوارح.
وينحصر النصر والظفر في سوح المعارك بالصدق، بصدق العزيمة والقول والفعل، لذا فانه ضرورة لدوام الإيمان في الأرض لمواجهة قوى الكفر والضلالة فيتداخل الجهاد مع الصدق لتثبيت الإيمان في النفس وفي الأرض ويكون الإنسان عالماً مصغراً وأمة من الخير.
أتحسب انك جرم صغير وفيك أنطوى العالم الأكبر
لقد اراد الله عز وجل بنعت المسلمين بالصادقين تنزيه الإسلام عن الرذائل الخلقية والنفسية وتهيئة الناس لما يقوم به المسلمون من التبليغ ونقل أحكام الشريعة، فصدق المسلم ينفعه وينفع أخاه المسلم، والإسلام والناس جميعاً، وان كان هذا النفع على مراتب متعدد، فكيف اذا كان الصدق نوعياً عاماً وصفة ثابتة لعموم المسلمين، والصدق صبغة جهادية ضد النفس الأمارة وفي مواجهة أهل الشهوات والضلالة والكفر، وهو سبيل للكمال وقطع لطريق العودة الى الجاهلية الأولى والعادة الذميمة، وقد يكون غير المسلم صادقاً في معاملاته ويتجنب الكفر والغش فهل يصدق عليه انه من الصادقين الجواب لا، لأن الصدق موضوع عقائدي يشمل الأخلاص في النية والصدق مع الله عز وجل في السر والعلانية.
قوله تعالى [وَالْقَانِتِينَ]
مدح اضافي للمسلمين يأتي بعنوان الخبر لبيان حالهم ولجعلهم يرتقون ويستمرون عليه، وقد يظهر الصبر حال وقوع المصيبة عند غير المسلم، ويكون أميناً فيما يستودع عليه، ولكنه لا يكون ثابتاً لله تعالى منقطعاً الى الدعاء وبيان المسألة والحاجة منه تعالى، فجاء وصف القنوت صفة خاصة للمسلمين وتوكيداً لإرتقائهم وسمو أخلاقهم وعاداتهم وسجاياهم، والتباين بين انشغال شخص بالشهوات وانقطاعه الى زينة الدنيا ومحبة مباهجها وبين عموم المسلمين الذين يواظبون على الدعاء ويتعاهدون اداء الصلاة وهي بذاتها دعاء وقنوت فصحيح ان القنوت في الصلاة هو الدعاء في الركعة الثانية بعد القراءة و بعد الركوع الا ان هيئة المصلي كلها قنوت ودعاء، والقنوت عنوان الخشوع والخضوع لله تعالى ووسلة اصلاح النفس وفيه سلامة وأمن، سلامة للناس لأن القانت ينشغل بذكره تعالى عن ايذاء الناس، كما ان الذكر نفسه واقية من التعدي على الآخرين، وسلامة للقانت نفسه من الناس لأن حال الإيمان والتقوى تبعث في قلوب الناس الخشية والفزع منه او الشفقة عليه، والقنوت بجعل الإنسان قريباً من حضرة القدس سابحاً في فيوضات الرحمن، مبتعداً عن الشهوات وزينة الدنيا والقنوت كاشف لماهية الدنيا وسلاح للتغلب على فتنتها ومانع من الإنقياد لها.
علم المناسبة
وردت مادة (قنت) اثنتي عشرة مرة في القرآن وفيها مدح وثناء على المؤمنين، ومنها ما جاء بصيغة الأمر بالقنوت للثواب العظيم والجزاء الحسن الذي فيه.
وقد ورد قوله تعالى في مريم [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( )، وفي آية أخرى [وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ]( )، وقد وردت الآية بمدح المؤمنين لتلبسهم بصفة القنوت فقوله تعالى [الْقَانِتِينَ]، شهادة على ان المسلمين مواظبون على القنوت استجابة لأمره تعالى المتوجه اليهم بخطابات القرآن الكريم قال تعالى [وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( )، ولقد مدح الله عز وجل ابراهيم [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا]( ).
فالمسلمون تحلوا بأخلاق الأنبياء واقتدوا بالرسل أولي العزم، وجمعوا أمهات صفات التقوى ومنها القنوت.
لقد حافظ المسلمون على الفطرة وأصل الخلق وكانوا أئمة للخلائق الأخرى وأقراناً للملائكة في القنوت قال تعالى [وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ] ( ),
ووصف القانتين في الآية شامل للرجال والنساء من المسلمين منذ آدم والى يوم القيامة وجاء اللفظ بالتذكير للتغليب ولفظ القنوت من أكثر الألفاظ في القرآن التي ورد ذكر النساء والتأنيث فيه بالقياس الى مجموعه اذ جاء في ست مرات من أصل المجموع فقد ورد:
الأول : في مريم ابنة عمران مرتين كما تقدم.
الثاني : في أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ]( ).
الثالث : الثناء على المؤمنات اللائي يعملن الخير قال تعالى [فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ] ( ).
الرابع : جاء القنوت بعرض واحد مع الإيمان ومعطوفاً وبالتفصيل بذكر الرجال والنساء مما يعني ان ذكر المرأة هنا ليس في طول ذكر الرجل، كما في حواء في الجنة، وتوجه الخطاب الى آدم عليه السلام: [يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ( )، بل جاء ذكر المسلمات بعرض ذكر المسلمين، وهو تشريف لهن وعنوان ارتقاء في سلم الكمالات عليه قال تعالى [وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ] ( ).
الخامس : في خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف عن أزواجه قال تعالى [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ]( ).
وهذا التكرار في ذكر المسلمات بصفة القنوت آية اعجازية تستحق الدراسة، وهي رسالة الى كل امرأة والى المسلمات خاصة بلزوم الحرص على سيماء الخشوع والخضوع لله تعالى.
وقنوت المرأة وصلاحها عليه قوام المجتمع وحفظ الشريعة والمبادئ والإنساب والذراري، وهذا التعدد اللفظي على قنوت المسلمة وأفرادها بالذكر تأكيد على موضوعية قنوتها في ايمانها وصلاحها، وحاجة الأمة لخشوعها لله عز وجل، وقد ورد في موضوع هذه الآيات وقبل آيتين قوله تعالى [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ]،
ومتى ما كانت المرأة قانتة خاشعة لله عزوجل فانها تكون عوناً على الإيمان والفلاح للابن والزوج والأخ والوالدين ايضاً ومدرسة في الفضيلة وسبباً للإرتقاء والرفعة فاصلاح الرجال ونجاتهم من الشهوات يكون عن طريق المرأة بالذات او بالواسطة، اما بالذات فان المؤمنة تذكر بالله عزوجل وتكون اسوة حسنة، واما بالواسطة فلأنها تقوم بالتدبير ولا تطلب الحرام ولا تسأل غير حاجتها أوترهق زوجها، بل تساعده على أمور الحياة الدنيا والآخرة، ومع أفراد المؤمنات بذكر قنوتهن فان الآيات التي ورد فيها ذكر القنوت بصيغة المفرد والجمع تشمل النساء ايضاً فلفظ القنوت في القرآن يتضمن تشريف المسلمين عامة، والمسلمات خاصة، وهو دعوة لإكرام المرأة المسلمة وجعل مندوحة في وقتها للإستمتاع بالمناجاة والخشوع لله تعالى والمواظبة على العبادة، وعدم اشغالها بشؤون المنزل والأولاد،
والقنوت من الكلي المشكك وتقع تحته مصاديق عديدة ولا يتقيد بحال او عمر مخصوص فكل أنسان بميسوره ان يقنت لله في أي وقت وبأي طريقة تتضمن الخضوع والخشوع لله.
قوله تعالى [وَالْمُنْفِقِينَ]
بعد القنوت والخشوع لله عز وجل جاء وصف الإنفاق كعلامة من علامات التقوى وقدم القنوت لأن كل مسلم ومسلمة يقدران عليه في السر والعلانية والليل والنهار اما الإنفاق فهو خاص بمن عنده زائد على مؤونته هذا اذا حصرنا موضوع الإنفاق بالمال وهو ظاهر الآية الكريمة،
قال الرازي “ويدخل فيه انفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد”( ).
ولكن القدر المتيقن هو الإنفاق في سبيل الله وعدم تعلق الآية بانفاق المكلف على نفسه وأهله ممن تحب نفقتهم عليه، قال تعالى [لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ] ( )، وكل انسان ينفق على أهله ونفسه على نحو مستديم فلابد من خصوصية لصدق موضوع الإنفاق قبل الفتح وهي انه في سبيل الله كما يشترط في الإنفاق ان يكون بقصد القربة ليترتب عليه الأجر والثواب الإنبعاث من منازل الإيمان لأن إنفاق الكافر لا يثاب عليه للشرك المانع من الثواب ولعدم اهليته لقصد القربة.
قوله تعالى [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ]
هذه الصفة الخامسة والأخيرة من أمهات صفات المتقين التي ذكرتها الآية وان كانت صفاتهم أعم لأنها موافقة لمكارم الأخلاق وشرائط الإيمان ووظائف العبودية المطلقة لله تعالى، وهذه الصفة عامة للرجال والنساء المسلمين وفي مقدور كل انسان، والسحر – بفتح السين وسكون الحاء او فتحها- وقت مخصوص من الليل، وفيه أقوال :
الأول : الثلث الأخير من الليل الى طلوع الفجر.
الثاني : قطعة من الليل، وبه قال الأزهري( ).
الثالث : السدس الأخير من الليل، أي نصف مدة الأول أعلاه وهو الثلث وجاءت الآية في طرفيها بصيغة الجمع، وتدل على تكرار الإستغفار في الليالي لكل مسلم ومسلمة، وصيغة الجمع هذه تترشح على الصفات السابقة كالإنفاق والقنوت وعدم الإكتفاء باخراج الزكاة مرة واحدة لأنها متجددة كل سنة، وباتصال القنوت والدعاء والخشوع لله عزوجل كسجية ثابتة.
والآية لا تفيد حصر الإستغفار بوقت السحر بل انه قيد احترازي وبيان لمنع التفريط بوقت السحر والا فأن الإستغفار محبوب وأمر مندوب اليه في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، وفي موضوع الآية وماهية الإستغفار المذكور وجوه :
الأول : قول استغفر الله.
الثاني : صلاة الليل.
الثالث : يريد المصلين صلاة الصبح، عن ابن عباس( ).
الرابع : الندب الى الإستغفار، من استغفر سبعين مرة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن الصلاة أعم من الإستغفار وكله ذكر لله تعالى عن أنس عن النبي قال: ان الله عزوجل يقول : إني لأهم بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي ، وإلى المتهجدين ، والى المتحابين في ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفته عنهم “( ) . والإستغفار أخف على النفس من أداء الصلاة الا انه ايضا ًمدرسة في الإعتبار وعنوان الرجوع الى الله تعالى والندم والحسرة، على التفريط وفعل السيئات، والإستغفار لا ينحصر بأعمال اليوم بل يشمل أيام العمل كله فاذا قال المسلم استغفر الله فالمراد طلب العفو ومحو كل ذنب أرتكبه في حياته، الا ان يكون الإستغفار مقيداً بذنب مخصوص كما لو قال استغفر الله من الذنب الفلاني وهو ايضاً حسن، لما فيه من الندم والشعور بقبح الفعل وتبعات الذنب وآثامه، لقد اراد الله عز وجل للمسلمين السعي في ازالة الحواجز الظلمانية التي تحول دون بلوغ الجنة والذنوب والمعاصي من أغلظها وأكثر قبحاً، ان الإستغفار باب فتحه الله لخاصة أوليائه وسهل لهم ولوجه، وهو خال من المشقة والعسر ولكنه مناسبة للتدبر والإعتبار، فهو وان كان قولاً باللسان الا انه استحضار لأمور عديدة منها :
الأولى : ذكر الذنوب التي فعلها الشخص عنه الإستغفار.
الثانية : معرفة قبح الذنب والإثم.
الثالثة : ادراك الحاجة الى الإستغفار والندم، في الدنيا والآخرة.
الرابعة : فيه امتثال لأمره تعالى.
الخامسة : بالإستغفار ازاحة لأعباء وتركة ثقيلة من الذنب على النفس.
السادسة : فيه ترويض للنفس على العبادات والإقبال على الطاعات بشوق، فعند الإستغفار يتذكر الإنسان ذنوبه ويشعر بالحاجة الى التقرب الى الله بالطاعات.
السابعة : الإستغفار مدرسة للصلاح الذاتي والغيري، فالآخرون يتعلمون الدروس ممن يقوم بالإستغفار خصوصاً المؤمن، لأنهم يدركون لزوم مبادرتهم الى الإستغفار بالأولوية بمعنى ان المؤمن الذي يعمل الصالحات يقوم بالإستغفار فلابد انهم أكثر حاجة منه للإستغفار.
وقد وردت الآية بقيد الأسحار فلماذا هذا التقييد فيه وجوه :
الأول : ان النهار أوان العمل والجد، والله يريد للإستغفار مناسبة للتدارك وساعة للندم.
الثاني : تبديد سكون الليل بالإستغفار.
الثالث : اتصال ذكره تعالى بالليل والنهار كي تدرك الملائكة أهلية الإنسان للخلافة في الأرض بحيث لا ينعدم ذكره تعالى في الأرض حتى في الليل البهيم.
الرابع : ينشط الشيطان في الليل واثناء قلة الحركة فيأتي الإستغفار ليطرده ويمنعه من الوسوسة والتأثير الضار.
الخامس : لقد حذرت هذه الآيات من تزيين الشهوات، ولظلمة الليل مناسبة لإستحواذ النفس الشهوية فيأتي الإستغفار لوأد حب الدنيا في النفس ومنع الذهن من السياحة في زينة ومباهج الدنيا، لما فيها من التذكير بالآخرة وتقسيم الأفعال بلحاظ الخير والشر، والثواب والعقاب.
السادس : الإستغفار ميزان الأعمال، فالمراد منه سؤال محو الذنوب ولكنه من أفضل الوسائل لإختيار نوع الفعل الذي يقدم عليه الإنسان، لإن الإستغفار ينمي ملكة التمييز بين الأفعال فيستحضره العبد عند الإقدام على اختيار فعل معين، فما يراه يستحق الإستغفار من الآثام يتجنبه ويبتعد منه لقبحه الذاتي والعرضي، وما يراه صالحاً لا يتعارض مع الأوامر الإلهية يأتي به شاكراً لأنعمه تعالى.
السابع : الإستغفار مدرسة للشكر والثناء عليه تعالى بان لم يغلق باب التوبة والندم، وانه سبحانه يعطي الكثير بالقليل، فالكبائر والآثام يأتي عليها قول استغفر الله فيمحوها ويزيلها.
الثامن : في السحر يستسلم الإنسان لسلطان النوم، ويخلد الى الراحة، فتأتي الدعوة الى الإستغفار للتذكير بالوظائف العبادية وقهر الميل الى الغفلة في حالة اليقظة.
التاسع : السحر أفضل الأوقات للإستغفار لما فيه من صفاء الذهن ونقاء السريرة وتعلق الروح بما عند الله، وحال الفزع والخشية منه تعالى كفرع للوحدة.
العاشر : القيام بالإستغفار وقت السحر وفي حال السكينة بجعل الإنسان يحرص على الإستغفار في الأوقات الأخرى من اليوم والليلة من باب الأولوية والإستصحاب.
الحادي عشر : ايهما أحلى وأهنئ للمسلم وقت السحر النوم أم الإستغفار، الجواب من وجوه :
الأول : ان الإستغفار لا يستوعب ساعات السحر كلها، فيمكن الجمع بين النوم والإستغفار في الليل وفي السحر خاصة.
الثاني : اللذة الروحية أعظم وأحسن من اللذة البدنية، والأولى تتحقق بالإستغفار، والثانية بالنوم، الا ترى الذي يصلي صلاة الليل يصبح سعيداًَ وترى الإشراقة على وجهه، ومن قضى ليله بالنوم يشعر بفوات شيء وتضييع لفرصة من العمر.
الثالث : يمكن صياغة الإستفهام هكذا هل استيعاب النوم لليل كله أفضل ام النوم مع الإستغفار في جزء من الليل، الأفضل والأحسن هو الأخير، وهو الذي الذي تدعو اليه هذه الآية.
الرابع : الإستغفار في السحر مقدمة لإستقبال النهار بالعبادة وأسباب الرزق والفلاح، ليقترن الإستغفار مع صلاة الصبح التي يفتتح بها يوم العمل لتكون بدايته عبادة ويختتم بالعبادة.
الخامس : الإستغفار بالسحر عهد واعلان للثبات على العبودية لله تعالى والتفاني في طاعته والخشية منه تعالى.
السادس : ان الله عز وجل يحب ان يرى العبد وقت السحر مستغفراً وان ذكره لم ينقطع في كل موضع من بقاع الأرض حتى في ساعة السكينة وانعدام الحركة، فتنعدم الأصوات ويعم الأرض السكون ولكن ذكره تعالى باق متجدد.
السابع : الإستغفار باب لدفع العذاب عن الناس وعن الإمام علي ان الله اذا اراد ان يصيب أهل الأرض بعذاب قال: لولا الذي يتحابون في ويعمرون مساجدي ويستغفرون بالأسحار، لولاهم لانزلت عذابي.
والإستغفار عبادة وتعظيم لله تعالى وطلب المغفرة لا يتعلق بمحو الذنوب وحدهوهو مناسبة لنزول الرحمة الإلهية على الناس قال تعالى [لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
ومن اسمائه تعالى الغفور والغافر والغفار، وهو سبحانه يغفر الذنب ابتداء، ومن فضله واحسانه تعالى ان يبين في هذه الآية أهم الصفات التي تقود الإنسان الى بحبوبة الجنة وتجعل السعادة والغبطة تغمره في الدنيا والآخرة، وتدفع هذه الآية الحيرة والتردد والجهل عن المؤمن في معرفة طرق الوصول الى الجنة، وتمنع من وضع الحجب الغليظة دون بيانها وكشفها، وفيها زجر وردع من تشويه المعارف القرآنية وتحريف سبل الفلاح والظفر في النشأتين، فجاءت الآية محكمة غير متشابهة، ولم تضع شرائط وقيوداً مشددة للوصول الى الجنة بل ان الصبر والصدق والقنوت والعطاء في سبيل الله والإستغفار أمور تحتاج اليها الروح في ارتقائها في مراتب اليقين.
بحث بلاغي عقائدي
[وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ] الآية 17
من وجوه البديع حسن النسق وهو ان يأتي المتكلم بكلمات معطوف بعضها على بعض بنسق ونظيم بديع تتعقب كل واحدة من الأخرى من غير فاصلة ذهنية او لفظية في دلالة على ضبط الكلام ووزنه وموضوعه ويأتي حسن النسق بجمل متتالية، اما في هذه الآية فجاء بكلمات ومفردات متتالية وكل واحدة منها عالم مستقل في الحكمة والعقيدة وهي موضوع لرسوخ الإيمان وطرد الشك والريب.
فقد بدأت الآية بذكر الصابرين لأن الصبر أساس الفهم والقدرة على التحمل ومتى ما استطاع الإنسان التغلب على الجزع عند المصيبة والشدة، وقهر النفس الشهوية عند المعصية وأجتنبها، وامتلك القدرة على الإقامة على العبادة والتكليف فانه يستطيع ان يرتقي في مراتب الإيمان ، ثم تعقب الصبر النعت بالصدق وان المؤمنين الذين يسألون المغفرة يتصفون بالصدق والإخبار المطابق للواقع، ويقولون بالتوحيد بصدق نبوة محمد ونزول القرآن لأن هذا التصديق اثبات لما هو موجود فعلاً وتوكيد لثبوته وموافق لما هو في الخارج فعلاً من غير تحريف او تغيير، ومع ان اللفظ جاء مجرداً ومطلقاً فانه ينحل الى عدة اقسام:
الأولى : الصدق في القول.
الثانية : الصدق في العمل.
الثالثة : تصديق النبوة، فالقرآن مصدق للكتب السماوية السابقة وجعل الله المسلمين مصدقين للقرآن بقلوبهم وعقولهم وأفعالهم ورقابهم بمعنى انهم يضحون ويستشهدون في دروب تصديق القرآن.
الرابعة : صحة اداء التكاليف واتيان الفعل العبادي موافقاً للمأمور به.
لقد أحتاج الصدق الى الصبر لأنه يستلزم الصبر في مواطن الصدق ومجاهدة النفس الأمارة، وصد أهل الجدل والشبهات والريب، كما يستلزم صدق العبادة تحمل أعباء التكاليف وما فيها من المشقة والجهد، فتقديم الصابرين على الصادقين ليس عفوياً بل فيه دروس وعبر، تستلزم الوقوف عندها، بمعنى ان حسن النسق البلاغي يحمل في القرآن مضامين قدسية ودلالات عقائدية.
ان القرآن ينمي ملكة التقوى عند المسلمين ويبني صرح المبادئ الإسلامية وتدل كلماته ومفرداته على صدق نزوله من عند الله.
ولابد من تجلي الصبر والصدق على الفعل الخارجي بما ينتفع منه العبد بالمبادرة اليه ويكون أسوة لغيره وداعية الى الله فبعد ثبوت ملكة الصبر والصدق ترشح عنها اللجوء الى الله تعالى بالقنوت والخشوع والخضوع.
وتأثير كل خصلة وصفة لا ينحصر بأثر المتقدم على المتأخر، بمعنى ليس الصبر وحده يؤثر في موضوع وماهية الصدق في الآية بل ان الصدق يؤثر على ذات الصبر ويجعله صبراً في جنب الله، وصبراً على الحق وليس على الباطل وكذا بالنسبة للقنوت فانه يهذب النفس ويجعل الصبر والصدق عبادة يؤجر عليها العبد، وتميل النفوس اليه والصبر والصدق مقدمتان لمرتبة القنوت والخشوع وأجتمعت صفة الصبر وهي ملكة نفسانية مع الصدق وهو نفسي وخارجي فتجلت عن اجتماعهما خصلة القنوت.
فالآية تظهر المسلمين بمراتب من السمو بلحاظ صفات التقوى من غير ان يكون تقسيماً لهم، ولكنها عناوين تشريفية تنبسط عليهم والآية انحلالية تصدق على كل مسلم فيكون صابراً صادقاً قانتاً.
ومع اعلان المتقين الإيمان بالله وسؤال مغفرة الذنوب كما في الآية السابقة فانهم منقطعون الى الله متضرعون اليه بالدعاء والمسكنة وطلب الرغائب، فالصبر والصدق لا يمنعان من سؤال الحاجات منه تعالى، وهذا السؤال عنوان للصبر والصدق فهو من أفراد الصبر لأن الإنسان لم يطلب من الناس والأسباب الخارجية وما به الوجود، والدعاء من الصدق لأنه اقرار بان الله عز وجل هو الرزاق وبيده مقاليد الأمور.
وبعد الخضوع واظهار الخضوع لله والإنقياد لأوامره والإمتثال لما جاء به رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأتي صفة الإنفاق والبذل والعطاء في سبيله تعالى، لأن القنوت يجعل التقوى تملأ الجوارح وتحث الإنسان على الإستعداد للآخرة واعانة الفقراء ومساعدة المحتاجين بما يحرز رضاه تعالى ويفتح أبواب السماء لقبول الدعاء.
وجاءت النعوت بصيغة الجمع مما يدل على تحلي المسلمين بهذه الصفات القدسية التي تجعلهم يرتقون الى مراتب الملائكة.
والإنفاق يحتاج الصبر وقهر النفس الشهوية وحب الأنا وغريزة التملك لأنه اخراج حصة من المال الشخصي من غير عوض مادي الا مرضاته تعالى وهي أعظم عوض في الدنيا والآخرة لما له من الثواب الجزيل، ولا يدرك ماهية ومنافع هذا العوض الا القانتون.
لقد جاء الإنفاق متعقباً للقنوت، واختتمت الآية بالإستغفار وبالذات في وقت السحر وكأن الإستغفار خاتمة اليوم الإيماني والسعي الجهادي في جنب الله فالصبر يكون مع الذات، وفيه نوع مفاعلة فاحياناً يكون صبراً مع الغير بالتحمل او الجهاد ونحوه والصدق ايضاً مع الذات والغير لأنه طريق النجاة وسبيل الهداية.
ومن لم يكن صادقاً في كلامه فان الناس لا تتبعه ولا تصدق بما يقول لذا فالعدالة سلاح للدعوة، والقنوت انقطاع اليه تعالى، والإنفاق معاملة وايقاع من طرف واحد تدل عى صدق الإيمان وحصول البذل، اما الإستغفار في الأسحار، فهو الخاتمة والخلاصة والزبدة وسنام أعمال اليوم لذا جعله الله في مقدور كل انسان غنياً او فقيراًً، حاكماً او محكوماً سيداً او عبدًا، رجلاً او امرأة، شاباً او شيخاً صحيحاً او سقيماً، وكأن الإستغفار يأتي على ذنوب اليوم ليمحوها ويكون فيه تمام وكمال الصفات الواردة في الآية ويكتب المستغفر من أهل هذه الآية.
قوله تعالى [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] الآية 18
الإعراب واللغة
قرأ ابن عباس (إنه) بكسر الهمزة.
شهد الله: فعل وفاعل.
(انه لا اله الا الله) انه: ان وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض.
أي: بانه.
لا: نافية للجنس، اله: اسمها مبني على الفتح في محل نصب، الا: أداة حصر.
هو: بدل محل لا، او من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وعن الزمخشري الأصل: الله اله: مبتدأ وخبر، كما تقول: زيد منطلق، ثم جيء باداة حصر، وقدم الخبر على الاسم، ففي الآية يكون الضمير (هو) مبتدأ مؤخراً، وإله خبراً مقدماً، قال: وعلى هذا تخريج نظائره نحو: “لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي”.
(والملائكة وأولوا العلم) الواو: حرف عطف، الملائكة: عطف على اسم الجلالة.
اولوا العلم: الواو حرف عطف، اولوا: معطوف مرفوع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وهو مضاف، والعلم: مضاف اليه.
(قائماً بالقسط) قائماً: حال من اسم الجلالة، او من الضمير المنفصل الواقع بعد الا، وتأخر الحال بعد مجيء الملائكة واولي العلم وليس من لبس لإنحصار القيام بالقسط به تعالى، ولأن ما بعده جاء بصيغة الجمع، وقائماً مفرد، بالقسط: جار ومجرور متعلقان بقائماً،
العزيز الحكيم: خبر ان مبتدأ محذوف تقديره هو، ويجوز اعرابهما بدلين من (هو).
والمراد من (قائماً) هنا التدبير وتولي شؤون الخلائق والغفلة مطلقاً منفية عنه تعالى، وليس من مانع يحول دون سلطانه على جميع الأشياء، فهو سبحانه لم يترك الخلائق سدى، بل يتولى تنظيم شؤونها ويمنع من البغي والتعدي.
ومن أسمائه تعالى المقسط وهو العادل، يقال أقسط يقسط فهو مقسط اذا عدل، يأتي القسط بمعنى الميزان اقتباساً من العدل، والقسط: الحصة والنصيب.
في سياق الآيات
بعد ان جاءت الآيات السابقة بوصف زينة الدنيا وحب الشهوات ونقضته بوصف كريم لنعيم الآخرة وذكر جملة من خصائص المتقين المؤهلين لدخول الجنة ويعيشون سعداء في الجنان، انتقلت هذه الآية لبيان استحقاقه تعالى للعبادة ووجوب التقوى منه وخشيته في السر والعلانية فهذه الآية عون اضافي على التقوى، فمن أسباب الترغيب بالجنة في هذه الآيات :
الأولى : ذكر زينة الدنيا على نحو التحذير من الإغترار بها.
الثانية : مقارنة بين متاع الدنيا الزائل ونعيم الآخرة الدائم.
الثالثة : الترغيب بالجنة.
الرابعة : ذكر أحوال الذين يستحقون دخول الجنة وهم المسلمون الذي يخشون الله في السر والعلانية.
الخامسة : بيان صفات المتقين تعليماً وتأديباً للمسلمين وارشاداً لهم لدخول الجنة وجاءت هذه الآية لتثبيت مواضيع الآيات السابقة والأخبار عن تفرده تعالى بالألوهية والتوكيد بان شهادة التوحيد هي الأصل الذي تبتنى عليه أعمال التقوى.
اعجاز الآية
يتفضل سبحانه بظهور عظمته وربوبيته بذاته، ويدعو الناس للتصديق بشهادته، وينفي عنه الأنداد باعلان انفراده بربوبيته، ويطرد عن نفوس المسلمين الخوف والوجل من أعداء الدين وأهل الريب والشك، وفي الآية توكيد لنعم الجنة لأنها وعد من رب السماوات والأرض، وليس من اله غيره يحاول تعطيل أمره أو التصرف بما يزاحم سلطانه، فليس في الوجود الا الله ومخلوقاته المنقادة له المستجيبة لأمره، وتبين الآية مراتب الشهادة بالالوهية وأهمية كلمة التوحيد ودوامها في الأرض ولزوم النطق بها واستحباب ترديدها ليشترك الإنسان مع الملائكة في اعلان التوحيد، ويكون هذا الإعلان مقدمة لدخول الجنة،
ومن خصائص الوحدانية العدل وعدم الظلم لبيان ثبوت التوحيد في مرتبة الصفات والفعل وبعث السكينة في النفوس بالتوكيد على خصائص الوحدانية ومنها العدل وعدم الظلم لبيان ثبوت التوحيد في مرتبة الصفات والفعل وانه من صفات الألوهية الحكم وان يكون الحكم بالعدل، وفي الآية توكيد للزوم عبادته والقنوت والخشوع له وتسمى الآية آية (شهد الله).
الآية سلاح
تنمي الآية في النفس معاني التوحيد وتطرد عنها أسباب الشرك، والضلالة والريب، وتساعد في أداء العبادات والفرائض والإقبال على الطاعات بشوق وهي حرز من الكدورات الظلمانية، وفي الآية تخفيف عن الإنسان في باب الإيمان والإنقياد لمقام الربوبية والإمتثال للأمر الإلهي، وتبعث الآية السكينة في النفس لما فيها من الأخبار القاطع بعدله تعالى وانعدام الظلم في حكمه وأمره ومشيئته.
وان كان الإنسان يرجو عفوه ورحمته ولا يقدر على عدله لكثرة ذنوب الإنسان وتقصيره فلذا جاءت خاتمة الآية بشارة ولطفاً بقوله تعالى [هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ].
مفهوم الآية
الشهادة بالربوبية والتوحيد له سبحانه حقيقة ثابتة تستحق ان يتفضل بها سبحانه ويشهد لذاته بذاته، وهو تأديب للناس جميعاً بالأولوية القطعية فاذا كان سبحانه يشهد لنفسه بالربوبية والوحدانية فيجب ان يشهد الناس بذات الشهادة،
والآية زجر عن ادعاء الربوبية كما في جحود فرعون ونمرود، وتمنع من اتخاذ الأنداد والشركاء والأصنام، وتخبر بان الناس جميعاً بعرض واحد في مقامات العبودية والرق وان العناوين الإضافية لبعض من رزقهم الله وابتلاهم بالحياة الدنيا لا تخرجهم من مفاهيم العبودية والرق لله تعالى، ولا تجعل لهم درجة على غيرهم، فالمالك والمملوك والآمر والمأمور، والسلطان ورعيته كلهم عبيد داخرون لله تعالى،
ان طريق الجنة لا يمر الا من خلال كلمة التوحيد، ولو تملى الإنسان بصفات الصبر والصدق ونحوها من مكارم الأخلاق وقام بالإنفاق في أعمال البر والصلاح فانها لا تقبل منه الا بالإقرار بالوحدانية لله تعالى، والآيات الكونية كلها تشهد على الوحدانية وهي مسخرة للإنسان وخدمته ولكنها تلح عليه بلزوم عبادته سبحانه فهي حجة له وعليه،
ومع الآيات الكونية جاءت هذه الآية لتخبر عن تفضله تعالى بالشهادة بالربوبية لنفسه لتكون برهاناً قطعياً على التوحيد، وتبين حبه تعالى لترديد الناس لكلمات التوحيد فالإنسان مأمور بمحاكاة الأنبياء والإقتداء بهم واتخاذهم أسوة حسنة له في قوله وعمله، فكيف وقد جاءت هذه الآية لتدعو الناس للإقتداء بقوله وشهادته تعالى لنفسه بالتوحيد انه غاية الفضل والإحسان والرأفة،
ومن يردد ما قاله الله تعالى بحق نفسه وشهد بالتوحيد فهل يعذبه الله بالنار ام يتفضل ويجعله من أهل الجنة ويصلحه لها ويجعله جامعاً للخصائص التي ذكرتها الآية السابقة الجواب هو الأخير ولا ينالها بالعدل والإنصاف والإستحقاق انما بالرحمة والرأفة الإلهية، ومن مفاهيم الآية انها بشارة لنيل النعيم الأخروي، وترديد كلمة التوحيد تنزيه لذهن الإنسان من الإنشغال بمباهج الدنيا.
افاضات الآية
لله عز وجل نعم ظاهرة وباطنة على الإنسان ونعمة العقيدة من الجامع بين النعمتين، فالله عز وجل يهدي الإنسان الى الإسلام ليصلح باله ويجعل نفسه تسبح في عالم الملكوت، تتطلع الى الإنتقال الى الآخرة، جسمه يكون في الدنيا ولكن روحه متصلة بالباري عزوجل وكأن نسيج نفخ الروح لا زال متصلاً بحبل كريم غير منقطع تراه الملائكة ويحسه الإنسان لشوقه الى لقاء الله، وعشقه لكلمة التوحيد.
لقد شرف الله الإنسان وجعل شهادته في طول شهادته تعالى وباباً لحبه ومناجاته ورضوانه، وفي الآية ثناء على المسلم لأنه ينطق بكلمة التوحيد اذ وصفته بانه من أهل العلم والمعرفة، وفيها مدح وثناء على الملائكة ودعوة للإيمان والتصديق بالملائكة والتسليم بانهم لا ينقلون من الوحي الا ما أمر الله به تعالى،
واذا كانت شهادة الناس بالتوحيد لرؤية الآيات الكونية والذاتية، فان شهادة الملائكة أعظم وأكبر لأن سبحات قده تتجلى لهم، وهم قريبون من حضيرة القدس، وتتجلى لهم آيات السماوات فتكون شهادتهم حجة لأنها تأتي عن قطع ويقين فاذا رأيت الجحود من شطر من الناس والجن، فان الملائكة جميعاً عباد داخرون له لا يعصون له امراً غذاؤهم التسبيح، منقطعون اليه سبحانه.
التفسير
قوله تعالى [ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ]
من أسمائه تعالى “الشهيد” وهو الذي لا يغيب عن علمه شيء، فشهادته تعالى علمه بالأمور الظاهرة والباطنة وهو الذي يشهد على الخلائق يوم القيامة ويرى أفعالهم، وشهادته سبحانه مطلقة على كل شيء فلابد ان يشهد على نفسه بنفسه، ولولا هذه الآية لإحتج الكفار بان القرآن تبيان لكل شيء فاين شهادة الله على نفسه بالوحدانية، فجاءت هذه الآية لتكون دليلاً وعيناً وهداية للمسلمين وزجراً للكافرين من التجرأ على القرآن وفيها تخفيف عن المسلمين في موضوع الحجة فالآية حجة لهم، وحصانة من احتجاج الكافرين، وهي وحدها رسالة سماوية ودعوة للناس للإيمان، وتدعوا المسلم الى التباهي والتفاخر باختياره الإسلام ونطقه بكلمة التوحيد.
والشهيد هو الحاضر والله عز وجل واجب الوجود وهو الأول والآخر، وسياق الآية لا يتعلق بهذا المعنى وحده والمراد من الشهادة هنا وجوه:
الأول: شهادته تعالى بيانه واظهاره كلمة التوحيد، بان بينه في الآيات الكونية وكتبه والمخلوقات كافة، ومنها الإنسان وشهادته تظهر بذات الآيات وتكون دليلاً قاطعاً على الربوبية والتوحيد.
الثاني: ان الله عز وجل شهد على توحيده وهذه الشهادة تتلمسها الخلائق وجاءت بآية سمعية في القرآن وتبين الآية جانباً من علم معرفته تعالى، فصحيح ان الآثار والآيات وبديع النظام والترابط والتناسب بين الظواهر الكونية دليل على الوحدانية الا ان رأفته ولطفه تعالى بالناس متصل ومستمر فبين شهادته على الوحدانية في القرآن، لتكون هذه الشهادة ذاتها شاهداً على الناس يوم القيامة.
الثالث: ان الشهادة الحقيقية تنحصر به تعالى، وشهادته تكفي عن الشهادات الأخرى، وهو سبحانه الغني عن الخلائق فشهادته تعالى بالوحدانية تدل على غناه وعدم حاجته لشهادة الملائكة والناس أجمعين كما قطعت الطريق بوجه من يقول ان الله احتاج شهادتنا له بالربوبية والتوحيد، وقد ورد توثيق قرآني لقول بعض اليهود: “ان الله فقير اذ سألنا القرض، فنزل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )،
ومن سمعه تعالى لقولهم وتفضله بكتابته ان وضع الموانع دون احتجاجهم بالباطل وإدعاء ان الله عز وجل محتاج لشهادة الناس على التوحيد، فأخبر بانه سبحانه هو الشهيد، وشهادته لم تكن لهذا الغرض والإحتجاج بالإصالة، بل انها موجودة قبل ان يخلق الملائكة والجن والإنس، فهذه الآية تثبت غناه تعالى وان شهادة الملائكة واولي العلم تنفعهم في النشأتين، والله غني عنها.
ورد قوله تعالى [أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( )، والتوحيد من أصل الأشياء فلذا جاءت الآية بالشهادة الإلهية عليه.
الرابع: هل يمكن القول بان الشهادة هنا بمعنى العلم ايضاً بدليل قوله تعالى [لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ]( )، وقوله تعالى [أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )،
الجواب نعم ولكن هذا المعنى لا يتعارض مع حمل الآية على الشهادة والإخبار والإعلان عن الحق والصدق، والضمير (هو) عائد لله تعالى وهو المتبادر عقلاً ولغة لأن الضمير يعود للاسم الأقرب، وبقرينة للآيات الأخرى، ولورود آيتين في القرآن بقوله تعالى [لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ]،
ولأن القرآن كله قائم على التوحيد، كما ان ذكر الضمير (هو) دليل على عدم تجرأ احد من الخلائق بادعاء الربوبية ولا عبرة ببعض الطواغيت الذين سرعان ما يزول حكمهم ليخلفوا من بعدهم حديثاً سيئاً، ويكون سبباً لهداية الناس للإيمان والإقرار النوعي بالوحدانية.
بحث روائي
عن الزبير بن العوام قال : قلت لأدنون هذه العشية من رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” ، وهي عشية عرفة ، حتى أسمع ما يقوله . فحبست ناقتي بين ناقة رسول الله ، وناقة رجل كان إلى جنبه ، فسمعته يقال :[ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ] الآية . فما زال يرددها حتى رفع( ).
(وعن الأعمش عن ابي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله ان لعبدي هذا عهداً عندي وان احق من وفى بالعهد ادخلوا عبدي هذا الجنة).
“وعن أنس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأ شهد الله الآية عند منامه خلق الله منها سبعين ألف خلق يستغفرون له الى يوم القيامة”.
قوله تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ ]
الملائكة اجسام لطيفة تسكن السماء مواظبة على الطاعة والعبادة، لا تفعل الا الخير والصلاح، ويقومون بوظائف كونية شاقة ووثيقة، وهم رسل الله الى الأنبياء، واقرارهم بالتوحيد يتعلق بصحة التنزيل والأخبار عن الله عز وجل، فلابد في باب الرسل والوسائط التأكد من الرسول وصدق رسالته، والملائكة لا يكذبون ولا يقولون الا الحق والصدق، فمن فضله تعالى ان جعل الملائكة حملة للقرآن في نزوله وفيه اكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والمسلمين وحجة على الناس ودلالة على اشتراك اهل السماء في هداية الناس وارشادهم الى طرق الحق، وهذا الشطر اخبار اضافي وشهادة اخرى منه تعالى فبعد ان شهد سبحانه على نفسه بالتوحيد وشهد على الملائكة أعلنوا شهادة التوحيد وأقروا بالعبودية لله عز وجل، وعلى الإنسان ان يقتدي بهم من وجوه :
الأول : لا يفعل الملائكة الا الخير واعلان التوحيد خير محض وباب تتفرع منه أحكام ووسائل عديدة للخير.
الثاني : السماوات مسكن الملائكة وهم أقرب للعرش وتظهر لهم الآيات جلية، وعالم السماوات ليس فيه من الشرك اوالمعصية شيء قليلاً كان او كثيراً كما ان الأولى والأهم لا يترك فيه ولا يختار أهل السماوات المرجوح دون الراجح، والمهم ويتركون الأهم، لذا فعندما أكل آدم وحواء من الشجرة أخرجا من الجنة وهذه الخصوصية عبرة وموعظة لكل انسان، ودعوة للإرتقاء الى عالم الملائكة والعيش في الجنة والنعيم الدائم جزاء لعمل الصالحات في الدنيا.
وفي الآية فضل منه تعالى بان جعل الملائكة أسوة للمسلمين وقادة لهم في النطق بشهادة التوحيد والتقيد بأحكامها، لأن شهادة الملائكة لا تنحصر بالتلفظ بالشهادة بل بالعمل بمضمونها لذا فان الملل السماوية جميعها تعلم ان الملائكة لا يفترون عن الطاعة والتسبيح وكل مؤمن يسعى جاهداً لمحاكاتهم والإقتداء بهم ويغبطهم على ما هم عليه من الإنقياد التام لأوامره تعالى، وهم يغبطون المؤمن على نطقه بشهادة التوحيد وحسن امتثاله للأوامر الإلهية وتغليبه منطق العقل على الشهوة.
وفي الآية تحد وخزي للكافرين والمشركين فاذا كان الملائكة الذين هم عقل بلا شهوة يقرون بالتوحيد صاغرين طائعين فمن باب الأولوية ان يؤمن الناس جميعاً، وان كفر شطر من الناس ضلالة وغواية ولن تضر في عقيدة التوحيد، كما ان كفرهم محدود زماناً ومكاناً وسيضطرون في الآخرة للإقرار بالتوحيد ولكن بعد فوات الأوان وتضييع زمان الإختيار ودار الإمتحان.
فالإخبار عن شهادة الملائكة جزء من تسهيل اختبار الحياة الدنيا ودعوة للتدارك والرجوع الى الله عز وجل ايماناً وعقيدة وهو واجب بالذات ومقدمة واجبة للرجوع الحتمي لله تعالى في الآخرة والذي يبدأ بالدخول الى القبر، وتقدم ذكر الملائكة على اولي العلم له دلالات منها:
الأولى : ان الملائكة خلقوا قبل الإنسان وكانوا حاضرين خلق آدم، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ]( ).
الثانية : في الآية زجر عن اتخاذ الناس للملائكة ارباباً من دون الله، فالآية أخبرت بانهم عبيد له تعالى، وتلك مقدمة سلبية وتهيئة لحصر الإيمان بالله عز وجل.
الثالثة : توكيد وجود الملائكة وانهم يقومون بوظائف عبادية.
الرابعة : منع الإنسان من الغرور والزهو والظن بانه رائد الإيمان او ان الشهادة بالتوحيد تتوقف عليه او ان الخلائق لا تقتدي الا به، فقد أخبرت الآية بان شهادة التوحيد سبقت خلقه.
الخامسة : الآية دعوة لأهل الإيمان والتقوى لإكرام الملائكة والإقرار بشرف منزلتهم، ورفعة شأنهم، والثناء عليهم لأنهم رواد الإيمان والقادة في عالم التوحيد.
السادسة : تدل الآية على بقاء كلمة التوحيد في السماوات وبين الخلائق لطول أعمار الملائكة وبقائهم، وفيه اشارة الى دوام السماوات العلا بالذكر والتسبيح من سكانها وهم الملائكة، ودعوة لأهل الأرض لتعاهد الحياة والمعايش فيها بكلمة التوحيد وطاعة الله.
وجاءت الآية بصيغة العموم الإستغراقي الذي تدل عليه لام الجنس في (َالْمَلاَئِكَةُ) فالملائكة كلهم موحدون يشهدون لله بالربوبية المطلقة.
قوله تعالى [وَأُوْلُوا الْعِلْمِ]
بعد ذكر شهادة الملائكة جاءت شهادة الإنسان بالتوحيد وهذه الشهادة بلحاظ سعتها وشمولها تحتمل :
الأولى : الإقرار بالتوحيد من عموم المسلمين.
الثانية : أختص بالشهادة بالتوحيد.
الثالثة : العلماء من المسلمين وأهل الكتاب.
الرابعة : الأنبياء والرسل.
الخامسة : أتباع الأنبياء.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها مصاديق للآية ولم يرد [َأُوْلُوا الْعِلْمِ] الا في هذه الآية الكريمة، وهو نوع اعجاز، اذ اقترن هذا اللفظ الذي يتضمن المدح والثناء بشهادة التوحيد، فهو نوع تشريف وشهادة سماوية لمن ينطق بالتوحيد، أي من يشهد بكلمة التوحيد فان القرآن يمنحه شهادة خاصة وهي انه من (اولي العلم) وهذه الشهادة تنفعه في دنياه وآخرته، وتعرفه الملائكة بهذا الوصف، يشهد بالتوحيد فيشهد له القرآن، بانه عالم ومتعلم على سبيل النجاة،
وهذه الآية حجة على الناس بلزوم اتباع أهل المعرفة ومحاكاتهم، كما انها تدعو الناس للجوء اليهم وسؤالهم وأخذ العلم منهم، لأن العلم ليس خاصاً بهم بل هو نور مكتسب قابل للإنتقال للغير وقد يتسع عند المنتقل اليه اكثر فيكون مصدر ضياء وداعية الى الله، فاولوا العلم ليس موضوعاً ثابتاً منحصراً بعدد من الناس بل هو متحرك وفي اتساع، وفي الآية بشارة الإرتقاء والرفعة في المنزلة ثواباً وجزاء على الإيمان قال تعالى [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] ( ).
وما هي النسبة بين الراسخين في العلم و(اولي العلم) هل هي التساوي ام غيرها، الجواب هي العموم والخصوص المطلق، فكل فرد من الراسخين هو من اولي العلم وليس العكس، والراسخون أعلى درجة ورتبة، لكي لا يكون عند الناس حرج في الإنصات لأهل المعرفة او يجدون مشقة في تعيين الراسخين ويقولون لهم انهم فرد نادر وان التوحيد والإقرار بالالوهية امر متعذر وشاق لا يناله الا الأنبياء والأولياء.
فجاءت الآية بالمعنى الأعم الشامل لإتباع الأنبياء والمسلمين عامة الناطقين بالشهادتين والمعترفين بالربوبية والنبوة التي جاءت بكلمة التوحيد.
وما هي النسبة بين العلم الذي أوتوه وبين الشهادة بالتوحيد، الجواب هي العموم والخصوص المطلق فكل شهادة من العلم، والعلم أعم وان كانت رأسه وسنامه، ومنه الإيمان بالملائكة والكتب المنزلة والنبوة، وحسن الإيمان وأداء الفرائض والعبادات ومن العلم اجتناب المعاصي لما فيها من الأذى والضرر.
وجاء اللفظ بصيغة الجمع لبيان الكثرة والتعدد في أهل العلم ان لفظ اولي العلم ينطبق على المسلمين ويشمل كل مسلم ومسلمة بدليل هذه الآية لأن كل واحد منهم مصداق عملي للنطق بكلمة التوحيد.
فهذه الآية تعرف المسلمين بانهم أولوا العلم مما يعني انها شاهد ووثيقة ودليل قرآني على ايمان المسلمين ولزوم رجوع الناس اليهم لأنهم أهل العلم والمعرفة، وقد أكرمهم الله عز وجل وجعل شهادتهم مع شهادته وان لم تكن بعرض ومعنى واحد، للتباين في الإظهار والبيان بين الرب والمربوب، والخالق المخلوق.
فشهادة الملائكة وأولي العلم فيض من فيوضات الباري ورشحة من رشحات رحمته تعالى، واقتباس وفرع من شهادته تعالى واستجابة لأمره سبحانه سواء كان المراد بالشهادة القول ام البيان والإظهار.
والشهادة في المعاملات قول لبيان الحقيقة وكشف الواقع واثبات او نفي واقعة، ويشترط بالشاهد العدالة التي تتجلى بالسمت العام، وحضور صلاة الجماعة، وان لايكون الشاهد معروفاً بالكذب، وهل هذه الصفات جزء من العلم عند اهله أم انها صفة اضافية زائدة، الجواب انها من العلم فأولوا العلم يتحلون بالعدالة لأنها فرع العلم فمن أوتي العلم يحرص على الإستقامة والإمتثال للأوامر الإلهية، لذا فان النطق بكلمة التوحيد اخبار عن سنخية العلم وارتقاء قائلها الى مراتب العلماء.
فالآية ترغيب وحث على النطق بكلمة التوحيد لأنها مقارنة للعلم ودليل عليه، ومن يشهد على التوحيد فانه لايشهد الا بالحق والصدق، لأن هذه الشهادة حصن وتأديب وارشاد له لمفاهيم الشهادة واتقانها، وشهادة المسلمين هل هي النطق بالشهادتين ام تتجلى بالعمل، الجواب هو الأخير لأن الإيمان بالألوهية المطلقة له تعالى يعني التقيد بما يأمر به من الأحكام والسنن والتصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [قَائِمًا بِالْقِسْطِ]
ثناء وتعظيم لله تعالى وبيان لمنافع الشهادة المطلقة له تعالى بالوحدانية وانها واجب عبادي واخلاقي وعقلي، وفي الآية وجوه:
الأول : انه تعالى يحكم بالعدل وحكمه دائم متصل بقرينة قوله تعالى (قائماً).
الثاني : عموم حكمه تعالى وشمول للخلائق كلها فلا ينحصر حكمه بالناس دون غيرهم.
الثالث : الإخبار عن حكمه تعالى دعوة للتوحيد، وبعث للخشية منه تعالى، ونهي عن الكفر والجحود.
الرابع : في الآية وعد ووعيد، وعد كريم لأولي العلم والمسلمين كافة بحسن الجزاء، ووعيد للكافرين على كفرهم.
الخامس : في الآية تنبيه لحضور حكمه وعظم قدرته، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
السادس : يمنح الله عز وجل العدل ويصلح أحوال الناس لظهور العدل، كما جعل النفوس تميل الى العدل وتنجذب اليه وتراه حسناً، لأنه حكم من أحكامه تعالى، ومترشح عن اسم من أسمائه تعالى وهو (العدل).
ولم يرد [قَائِمًا بِالْقِسْطِ] في القرآن الا في هذه الآية مع ان لفظ (الْقِسْطِ) ورد فيه خمس عشرة مرة نعم جاءت الآيات بالحث على العدل والقسط وبيان حقيقة ثابتة وهي [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
وهل تشمل هذه الآية أمره تعالى للنبي والأنبياء واولي الأمر بالحكم بالقسط والعدل كما في قوله تعالى [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ]( )، الجواب نعم، لذا ورد اللفظ بعنوان (قائماً) أي ان القسط صفة ثابتة له وهو تعالى يأمر دائماً بالقسط وجميع الأشياء حاضرة عنده بجزئياتها، وتبعث الآية الطمأنينة في النفوس المنكسرة والجماعات المستضعفة لأنها تتوخى العدل.
وتحتاج اليه في بقائها، ولا تنحصر الحاجة الى العدل بهم لأن كل انسان يحتاج العدل حتى الطغاة والظالمين فان الحكم بالعدل في الدنيا مانع من الطغيان والظلم، وبرزخ دون تعرضهم للعذاب الشديد في الآخرة، ولا يكون الظلم عرضاً دائماً بل هو عرض زائل فمن يكون ظالماً قد يصبح مظلوماً او بالعكس، وهذا التغير والتبدل جزء ووجه من وجوه العدل الإلهي في الجزاء العاجل او تهيئة مقدمات العبادة بعدم استحواذ الظلم على النفوس فهو سبحان قائم بالعدل في كل زمان ومكان.
قوله تعالى [لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ]
هذه الآية هي الوحيدة التي تتكرر فيها كلمة التوحيد مع شرفها وما لها من اشراقات لتوكيد انفراده تعالى بالألوهية، ولإمضاء شهادة الملائكة والأنبياء والمسلمين، فبعد ان بدأت الشهادة منه تعالى، ليبدأ عالم الأمر والخلق معاً، بكلمة التوحيد والشهادة بها وأظهر الملائكة وأولوا العلم استحقاقهم للخلق والحياة بتلقيها من عند تعالى، وحينما نطقوا بها وأعلنوا التسليم بربوبيته تعالى جاء تكرار كلمة التوحيد في الآية للإخبار عن ثباتها في السماوات والأرض، اذ ان ذكر الملائكة وأولي العلم كل واحد منهما على نحو الإستقلال يراد منه الإخبار عن تثبيت كلمة التوحيد في السماوات والأرض.
فجاءت الآية لتأكيد هذه الحقيقة وانها باقية ودائمة، تدعو من فرط وقصر وتخلف عن واجباته العبادية، وهذا التكرار توكيد على كلمة التوحيد ولزوم تجديد العهد بها والمواظبة على النطق بها، وعدم الملل منها لأن الله عز وجل ذكرها في آية واحدة مرتين، وفيه بيان لموضوعيتها في العبادة والذكر، وشرطية صدق النية في الأعمال وأداء الصالحات بقصد القربة الى الله تعالى، وهذا التكرار يطرد أسباب الشرك من النفس ويجعلها متعلقة بحضرة القدس وتدرك ان العبادة لا تصلح الا له تعالى، وجاء تكرار كلمة التوحيد بعد قوله تعالى [قَائِمًا بِالْقِسْطِ]، للإخبار عن استغراق وشمول حكمه وعدله لجميع الخلائق فلا أحد يخرج عن حكمه وملكه وعدله سبحانه، وفي تكرار كلمة التوحيد تعظيم لله عز وجل واخبار عن قدرته الواسعة، وان العدل مظهر من مظاهر التوحيد، ودليل عليه والمناجاة بكلمة التوحيد سبيل لنيل الحق ودفع الظلم وقهر البغاة، لأنها عنوان انحصار القوة به تعالى، وهذه القوة مقرونة بالعدل فتكون غاية كل مستضعف وملاذ كل مؤمن.
قوله تعالى [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]
من أسمائه تعالى العزيز وهو الغالب الذي لا يقهره شيء، والعزة له تعالى ومن أسمائه المعز لأنه يهب العز لمن يشاء من عباده، ومن أسمائه تعالى الحكيم وهو القاضي العادل والذي أحكم الأشياء وأتقنها، وهو بديع السماوات والأرض يخلق ما يشاء.
وقد ورد قوله تعالى [الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] تسع وعشرين مرة في القرآن وجاءت الآية لتوكيد قدرته تعالى وحكمه بالعدل وعدم الظلم وان العدل حاجة للخلائق جميعها – في الدنيا والآخرة- وبدون العدل تضطرب معايش الناس ويعلو على النفوس الإنقباض والأسى ويقل المعروف والإحسان ولقد تغشت رحمته تعالى الخلائق، والعدل من أهم مصاديق الرحمة لذا ترى الظلم لا يدوم.
والشواهد التأريخية عديدة ومعروفة، وتكون نهاية الظالم فضحاً له وتبعث على الشماتة به، وفيها عبرة وموعظة للناس جميعاً لتكون مناسبة للرجوع الى الله والإقرار بالتوحيد والتسليم لمشيئته تعالى والشكر له تعالى على عدله، ويتجلى عدله تعالى في الآخرة لأنها دار الحساب والثواب والعقاب، فخاتمة الآية جاءت لتثبيت الوحدانية وانه سبحانه أمر بعبادته لما في العبادة من الصلاح والهداية، وفيها مدح وثناء لمقام الربوبية ودعوة لعمل بأحكام الآية السابقة، والتحلي بالصبر عند الأذى وهجوم البلاء والتعدي من الآخرين، فمتى ما علم الإنسان ان الله يحكم بالعدل فانه لا يبالي بما يقع عليه من ظلم لعلمه بان الجزاء حاضر، والعقاب الشديد للظالم والمعتدي أمر حتمي، ففيها دعوة لتفويض الأمور الى الله عز وجل والتوجه اليه سبحانه لطلب الإنصاف والحكم بالعدل والإقتصاص من الظالم.
وفي الآية تحذير من الظلم والتعدي ومن لوازم النطق بالتوحيد والإسلام عدم ظلم الآخرين لا لأن الظلم مبغوض ومنهي عنه فقط، بل لأن الله هو القائم بالقسط فمن آمن بالوهيته فعليه ان يخشى عدله وبطشه بالظالمين، وهو من الحكمة واتقان الأمور، وبه تتقوم الاشياء وتعمر الأرض وتدوم العبادة واداء الفرائض، لذا جاءت الشرائع السماوية بالعدل والحث عليه سواء في الحكم أو عدم التعدي في البيوع والتجارات وغيرها.
ان شهادة الملائكة وأولي العلم ضرورية وحتمية وقطعية الحدوث والوقوع وانها جزء من حكمته واتقانه للأمور بان هدى أشرف الخلائق من الملائكة وخاصة الناس للإيمان والنطق بالشهادتين، وهل تشمل الشهادة بالتوحيد المخلوقات الأخرى الجواب نعم فالجن والأشجار والكواكب وغيرها كلها تؤمن بالوحدانية وتسبح بحمده تعالى.
وقدم اسم العزيز على الحكيم في آياته تعالى لبيان قوته وسلطانه، فتأتي الحكمة بعد توكيد العزة والجبروت والسلطان له تعالى، وفيه بيان لعدم التعارض بين العدل والإمهال، فمن الظالمين من يتوب ويندم ويصلح حاله ويتدارك ظلمه واساءته ومنهم من يؤجل الى ألآخرة.
بحث بلاغي
اخرج عن أبي بن كعب قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابي فقال : يا نبي الله إن لي أخا وبه وجع ، قال : وما وجعه ؟ قال به ألم ، قال : فأتني به فوضعه بين يديه ، فعوذه النبي صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أول سورة البقرة وهاتين الآيتين ، [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من آل عمران [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] وآية من الاعراف [إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ] وآخر سورة المؤمنين [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ] وآية من سورة الجن [وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا] وعشر آيات من أول الصافات ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] والمعوذتين ، فقام الرجل كأنه لم يشك قط ( ).
ويدل الحديث على الشفاء بآيات القرآن واتخاذها علاجاً وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عظيم مسؤوليات النبوة وامامة الأمة فانه قرأ سورة الفاتحة مع آيات من سور متعددة، مما يدل على اعتبار كل آية منها، ولزوم عدم الضجر او الإختصار في طلب التماس الشفاء بآيات القرآن، والتلاوة خير محض وتترشح منها افاضات وبركات.
وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها أما من في السماوات فالملائكة وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام، وأما كرها فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون( ).
ويبين الحديث الإطلاق في التسليم والإذعان لربوبيته تعالى وان تعاهد المسلمين للعبادة والإنقياد لأوامره تعالى ويعتبر عنده تعالى عبادة من اهل الأرض ويكون برزخاً دون نزول العذاب بالكافرين.
قوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] الآية 19
الإعراب واللغة
لتمام الكلام في الآية السابقة، فان جميع القراء قرأوا (الدين) بكسر الهمزة، الا الكسائي فانه قرأها بالفتح.
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ)
ان الدين: ان واسمها، عند: ظرف مكان متعلق بمحذوف حال، وهو مضاف، اسم الجلالة: مضاف اليه، الإسلام: خبر ان.
(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)
الواو: استئنافية، ما: نافية، أختلف: فعل ماض، الذين: اسم موصول فاعل، اوتوا: جملة اوتوا صلة الموصول واوتوا: فعل ماض مبني لمجهول، الواو: نائب فاعل، وهو المفعول الأول، الكتاب: مفعول به ثان، منصوب بالفتحة.
(إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ)
الا: اداة حصر، من بعد: جار ومجرور متعلقان باختلف، ما: مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة أي بعد مجيء العلم لهم، جاءهم: والضمير فعل ماض، والهاء مفعول به، العلم: فاعل مرفوع.
(بَغْيًا بَيْنَهُمْ)
بغياً: مفعول لأجله، بينهم: بين ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة، والضمير مضاف اليه،
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ)
الواو: استئنافية، من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ – يكفر: فعل الشرط، بآيات: جار ومجرور، وآيات مضاف، واسم الجلالة مضاف اليه،
(فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
الفاء: رابطة لجواب الشرط، ان الله: ان واسمها، سريع: خبرها، والجملة الإسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر (من).
وبغى عليه يبغي بغياً: علا عليه وظلمه، وكل مجاوزة على المقدار الذي هو حد الشيء بغي (وقال ابن منظور: البغي أصله الحسد، ثم سمي الظلم بغياً، لأن الحاسد يظلم المحسود جهده، اراغة زوال نعمة الله عليه عنه) ( ).
بحث نحوي
ان حرف مشبه بالفعل في الصورة والمعنى، لذا اصبح عاملاً ويدخل على المبتدأ والخبر، وأصلهما مرفوعان، وأختلف فيها على قولين :
الأول : تنصب الأول ويسمى اسمها، وترفع الثاني ويسمى خبرها، وبه قال البصريون، والحجة انها تشبه الفعل فتؤثر في الرفع والنصب.
الثاني : لا تؤثر في رفع الخبر، لأنه مرفوع أصلاً حسب موضوعه في الجملة، ولكنها فقط تنصب المبتدأ فاذا قلنا برفعه فيكون من تحصيل ما هو حاصل.
والخلاف صغروي لأنه خاص بتعليل وتفسير حالة اعرابية ثابتة- لغة وقرآناً- بمعنى ثبوت قاعدة نصب اسم ان، وارتفاع خبرها في الرسم واللفظ.
في سياق الآيات
بعد آية التوحيد والإخبار عن شهادته تعالى والخلائق بالألوهية له تعالى، وانعدام الشريك جاءت هذه الآية لتبين ان الدين محصور بالإسلام والإنقياد له تعالى باتباع ما جاء به الأنبياء والرسل من عنده تعالى من الآيات والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
اعجاز الآية
في الآية قطع للتردد ومنع من التشكيك والريب، واخبار عن انحصار العقيدة الصحيح بالإسلام وذم للذين أختلفوا وتخاصموا وصدوا عن القرآن وما فيه من الآيات الباهرات، وفيها اشارة الى النسخ في الشرائع مع ضرورة التسليم والإنقياد لله تعالى بالتصديق بما جاء به الأنبياء من عنده تعالى، والآية دعوة للتقيد بالفرائض والعبادات والأوامر والنواهي التي جاء بها الإسلام.
والجمع بين هذه الآية والآية السابقة يؤكد حقيقة عقائدية وهي ان أولي العلم الذين يتلقون التنزيل ويؤمنون به ولا يختلفون به على نحو التعدي والبغي، والمسلمون هم الذين تلقوه من غير بغي.
الآية سلاح
في الآية مدح وثناء على المسلمين، لموافقة اعتقادهم الفطرة والأمر الإلهي، وهي توكيد اضافي لكلمة التوحيد، وان الإسلام هو الذي يحفظ لواء التوحيد في الأرض، وتعطي الآية للمسلمين عزاً اضافياً وقوة، وتمنع من التعدي عليهم وتجعل عند المسلمين قدرة على الإحتجاج ومعرفة لأحوال الأمم السابقة لما فيها من بيان للإختلاف بينهم.
مفهوم الآية
في الآية نهي عن اتباع غير الحق، وزجر عن الكفر والشرك وتقبيح وذم لأفعال الكافرين وصدودهم عن الإسلام وتجعل الآية غير المسلمين في حيرة وارباك وندم، لما يدل عليه مفهومها من عدم قبول غير الإسلام والإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عنده تعالى.
لقد أكد القرآن حقيقة عقائدية ثابتة وهي صحة نزول التوراة والإنجيل من عنده تعالى، وصدق نبوة موسى وعيسى عليهما السلام، الا انه لم ينس توكيد حقيقة أخرى وهي انحصار الدين القويم بالإسلام في دعوة للناس لدخول الإسلام وأداء الفرائض والعبادات، ولم ينزل القرآن ليؤكد نزول الكتب الأخرى من دون ان يبين العلة الغائية لنزوله ويمنع من التحريف والتبديل فجاءت هذه الآية لتمنع من ترتب الأثر على الإختلاف وتدعو الى تلقي العلم وارتقاء المسلمين لأنهم أولوا العلم الذين ذكرتهم الآية السابقة، لعدم وجود البغي بينهم والمتفرع عن الإختلاف والتعدد.
وفي الآية تحذير للمسلمين من الإختلاف الذي يكون عن بغي وتعد وظلم، ودعوة لهم للإتحاد في تلقي الآيات وعلوم الشريعة وأسرار التنزيل كشرط لأهلية الخلافة في الأرض، وفيها تعظيم وتشريف للقرآن وانه هو العلم وما ورد في خاتمة الآية من الوعيد والتهديد ظفر للمسلمين واخبار عن لزومهم جادة العلم والحق، واخبار عن اضرار الإختلاف وانه يؤدي الى الكفر بالآيات اذا بغى صاحبه وتعدى وظلم.
افاضات الآية
تعتبر الآية حصناً عقائدياً وواقية للمسلمين تطرد الشك وتمنع من الريب، وتؤكد الدلائل والبراهين التي جاء بها القرآن، وتبعث السكينة في نفوس المسلمين لأنهم أختاروا الحق والسلامة والنجاة، انها مدرسة القرآن التي تدعو الى الهدى ثم تثبته في النفوس وتبعث نوراً في البصر والبصيرة يستطيع المسلم من خلاله ان يرى الإختلاف الحاصل بين اليهود والنصارى، ثم جحودهم بنزول القرآن الذي هو العلم موضوعاً وحكماً واثراً.
وتدعو الآية الى تعاهد آيات القرآن وحفظه من التحريف والتبديل والتغيير، ومن الإعجاز ان ترى اجماع المسلمين في كل جيل على ان القرآن الذي بين ايدينا هو الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير نقيصة او زيادة، ليس هذا فقط بل انه بذاته يؤكد هذه الحقيقة ويدرأ عن نفسه ادعاء التعارض بين آياته او سقوط بعضها.
ومع كثرة الأعداء وأهل الريب فلم تجد احداً يقول ان الآية الفلانية مخالفة للنظم القرآني او ان ما فيها يتعارض مع غيرها من الآيات، وان وجد هذا القول فانه يكون مناسبة لنقض الإشكال وتوكيداً على عدم وجود أدنى تعارض او اختلاف في آياته، لذا جاء التحذير والوعيد من الكفر بالآيات.
وذكر سرعة الحساب يؤكد موضوعية التسليم بالقرآن ونزوله من عند الله تعالى.
اسباب النزول
لما ظهر رسول الله صلى الله وآله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له : أنت محمد ؟ قال : نعم ، قالا : وأنت أحمد ؟ قال : نعم ، قالا إنا نسألك عن شهادة ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلاني ، فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله تعالى على نبيه – شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم – فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
التفسير
قوله تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]
الدين لغة هو الجزاء والإخلاص، وفي الإصطلاح هو الطريقة الشرعية، وما يدان به من الطاعات مع اجتناب المحرمات، والإسلام له عدة معان هي :
الأولى : الإنقياد والإذعان وترك الجحود والتمرد.
الثانية : النطق بالشهادتين ويعرف بانه الإسلام باللسان في مقابل الإيمان الذي هو تصديق بالقلب.
الثالثة : اظهار الخضوع والقبول لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنزول القرآن من عنده تعالى.
الرابعة : الإسلام هو السلم والأمن.
الخامسة : هو الإيمان أي ان النسبة بين الإسلام والإيمان هي التساوي ولا يتعارض مع نسبة العموم والخصوص المطلق، وان كل مؤمن هو مسلم وليس العكس قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا] ( ).
السادسة : الشهادتان مع طمأنينة القلب.
السابعة : ذكر ان جبرئيل سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسلام؟ فقال: بان تشهد ان لا اله الا الله، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت( ).
الثامنة : هو التسليم بالتوحيد وكونه تعالى خالقاً وما عداه مخلوقاً له، وانه سبحانه مستوجباً للعبادة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن الإنقياد يؤدي الى الإسلام وأحكامه، والنطق بالشهادتين يدل على الإنقياد.
والآية تأسيس وبيان لحقيقة عقائدية ثابتة تملأ آفاق الأرض، وموضوعها تتمة للآية السابقة ودلالة على انه تعالى [عَزِيزٌ حَكِيمٌ] فبعد الإقرار بالتوحيد من أشرف الخلائق واخذ الميثاق عليهم بتكرار كلمة التوحيد في الآية السابقة، وفيه دعوة للناس للإقتداء بالملائكة وأولي العلم جاءت هذه الآية لتبين المضامين العملية لكلمة التوحيد وانها قول وفعل ولا يمكن فصل القول عن الفعل، كما ان النطق بكلمة التوحيد يستلزم التصديق بما جاء به الملائكة للأنبياء وهم أهل العلم فلابد من التسليم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله والإقرار بأن القرآن نازل من عنده تعالى، وما فيه من الأوامر واجبات ومستحبات، وما فيه من النواهي محرمات ومكروهات بحسب الحكم الشرعي الذي تبينه الآيات المحكمات والسنة النبوية الشريفة القولية والفعلية والتدوينية وتدل الآية على تعدد الأديان في الأرض وهو أمر ظاهر بالوجدان وبمنطوق القرآن، فقد ذكر القرآن اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وهذا الذكر ليس من باب الحصر بل هو من الفرد الأهم ومع هذا التعدد فانه سبحانه يحصر الدين الذي عنده بالإسلام، وهذا أمر معجز تتضمنه هذه الآية، اذ ان القرآن يقر بالأديان الأخرى، واطلق لفظ الدين على الملل الوثنية الكافرة بلحاظ المعنى اللغوي والمشاكلة ولإقامة الحجة كما في سورة الكافرين وقصة قريش ومحاولتهم صد النبي عن عموم الرسالة وشموها لجميع الناس وعلى نحو الإتمام في تبليغ الأحكام، فورد قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
وقال الزمخشري (فاذا أردفه قوله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ) فقد أذن ان الإسلام هو العدل والتوحيد وهو الدين عند الله وما عداه ليس عنده في شيء من الدين، وفيه ان من ذهب الى تشبيه او ما يؤدي اليه كاجازة الرؤية، او ذهب الى الجبر الذي هو محض الجور لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، وهذا بين جلي كما ترى) ( )، وقد رد عليه بشدة وغلظة.
ولم ترد الاية لطعن المسلمين بعضهم ببعض بسبب مسائل كلامية، بل العكس فالآية جاءت لمدح المسلمين ولا صلة لها بالجبرية والقدرية ومسألة جواز الرؤية او عدمها، فلما جاءت الآية السابقة بكلمة التوحيد، فكأن هذه الآية جاءت بالشهادتين والإقرار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة والرسالة، فهي تتمة للآية السابقة ليقول الناس لا اله الا الله، محمد رسول الله.
القراءة المستقلة
بما ان القرآن هو الكتاب السماوي الباقي الى يوم القيامة وفيه تبيان كل شيء، فان الآية تخبر عن نسخ الإسلام للشرائع الأخرى، وعدم تعرضه للنسخ لتقطع الشك والريب، وتمنع من التردد في دخول الإسلام بظن احتمال طرو دين جديد، كما انها تخفف عن المسلمين والناس جميعاً لأنها واقية وحرز للإسلام والنبوة، اذ انها تفضح كل مدع للنبوة بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا من اعجاز القرآن الذي لا يقدر على تحقيقه احد من الخلفاء او الملوك والقوانين الوضعية ولكن هذه الآية جاءت مانعة للطواغيت والكذابين من ادعاء النبوة او اختراع دين جديد ومن يأتي بنظريات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية فانه لا يدعي انه جاء بدين جديد، لأن هذه الآية حصرت الدين بالإسلام وقد تقدم ذكر ثمانية وجوه للإسلام والمراد في الآية هنا من الإسلام هو التصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، بالإضافة الى اسلام الأمم السابقة كل حسب نبي زمانه والكتاب النازل، فاتباع نوح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام على الإسلام ثم أصبح أصحاب محمد هم أهل الأسلام.
ان الإخبار عن ان الدين هو الإسلام دعوة سماوية لحفظه وعدم التفريط بأحكامه، وفيها اخبار عن بقائه بقوته وهو (العزيز الحكيم) وانه تعالى غني عن العالمين، فالإسلام لا يتقوم بالناس والعباد فالمدار على ما عند الله عز وجل، وليس عنده سبحانه الا الإسلام، ومن فيوضاته تعالى ان يكون شطر من الناس مسلمين.
والقراءة المستقلة للآية تؤكد انها قاعدة ثابتة في الإرادة التكوينية والتشريعية لن تنسخ او تبدل، والآية من المحكم وليس من المتشابه.
ووردت كلمة الإسلام ست مرات في القرآن وكلها تدل على المعنى ألإصطلاحي وانه الدين الذي أختاره الله عز وجل لعباده، وهو اسم خاص بالمسلمين والشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
وفي الآية بيان للإتحاد والتداخل بين العقيدة والعلم وان كلمة التوحيد تعني العبادة وحسن الإمتثال وانحصار العمل المقبول من العباد بأحكام الشريعة الإسلامية فلا غرابة اذن ان تكون أحكامها بينة واضحة في القرآن والسنة وخالية من اللبس والترديد، كما انها ممتنعة على النقض والنسخ والإفراط والتفريط وليس فيها تشديد على النفس.
وفي مفهوم الآية ذم للإختلاف وتعدد المذاهب عندهم، واخبار عن الحاجة الإنسانية العامة للإسلام، وانه السبيل الوحيد لحفظ كلمة التوحيد في الأرض، فان قلت ان المسلمين على مذاهب متعددة ايضاً فلماذا باؤكم تجر وباؤنا لا تجر، قلت: انه قياس مع الفارق من وجوه:
الأول : ان الإختلاف المذموم الوارد في الآية بغي وحسد، واضراره عامة على العقيدة والناس وتظهر بتحريف الكتاب وابطال الفرائض.
الثاني : ليس من اختلاف عند المسلمين في أصل التشريع، فلا أحد يختلف على الكتاب وهو خال من التحريف، لم تتعدد عندهم القرائين ليس عندهم الا قرآن واحد وقبلة واحدة.
الثالث : الخلاف عند المسلمين صغروي ومبني على الإجتهاد في المسائل الفرعية مع الإتفاق على ذات الأحكام.
الرابع : بلحاظ المعنى الأعم للإختلاف عند أهل الكتاب فان الديانة عندهم متعددة اذ ينقسمون الى يهود على شريعة موسى عليه السلام، ونصارى على شريعة عيسى عليه السلام، أما المسلمون فالنبوة واحدة ولا يتبعون الا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله عز وجل.
الخامس : المدار على الإختلاف او عدمه فمن كان على الإسلام فهو على دين الله ولا يصدق عليه انه من الذين اختلفوا للتنافي بين الإسلام وموضوع الإختلاف والمسلمون جميعاً على الإسلام، وما حصل عند المسلمين فهو تعدد في المسائل الفقهية الفرعية لذا فان هذا التعدد لا يعني بطلان عمل بعضهم، او خروجه عن الجماعة ووحدة المسلمين.
السادس : الإختلاف المذموم هو ما كان عن بغي وظلم وحسد، وليس في الإجتهاد والإستنباط والإستدلال، وتظهر الملازمة بين كلمة التوحيد وانحصار الدين بالإسلام والتسليم والإنقياد للأوامر الإلهية وعدم الإختلاف جلية واضحة في هذه الآية، قال تعالى [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ] ( )، والله عز وجل يقول ان الدين هو الإسلام أي ان الخلاف لا موضوع له.
فالآية محل البحث حرب على الإختلاف وسلاح سماوي للتخلص منه، واخبار عن ضرورة عدم حصوله لأن الحق منحصر بطريق واحد، وذكر اليهود والنصارى بانهم أهل كتاب بيان لعظيم فضله تعالى وحجة عليهم وتذكير بلزوم الرجوع الى التوراة والإنجيل والقرآن لإتحاد موضوعها واستحقاق كل منها اسم الكتاب وبشارة السابق منها باللاحق واعتراف اللاحق بالسابق.
فكأن الآية تقول ما دام موضوع الكتب السماوية وأحد وكلها نازلة من عنده تعالى فلماذا هذا الإختلاف ، وحينما حصل الخلاف فان الله عزوجل لم يترك الناس والأرض على الإختلاف او يجعله يسود الصلات والمعاملات بينهم، بل جاء بدين يمنع من الإختلاف بين أهله فانزل القرآن وحفظه من التحريف وجعل الإسلام ديانة باقية الى يوم القيامة خالية من الإختلاف، ومن أراد الشقاق والبدعة فسرعان ما ينكشف أمره وينطفئ سراجه وينمحي ذكره.
ومن وجوه الإختلاف المذكور في الآية :
الأول : عندما قربت وفاة موسى عليه السلام، سلّم التوراة الى سبعين حبراً، واستأمنهم عليها وجعل يوشع وصياً له، ولكن ابناء السبعين أختلفوا فيما بينهم طمعاً في الدنيا وحسداً فيما بينهم.
الثاني : اختلاف النصارى في أمر عيسى جاءهم العلم وهو ان عيسى عبد الله ورسوله وانه ولد من غير أب.
الثالث : قول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله.
الرابع : جحود اليهود والنصارى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظنهم بالأولوية في نزول القرآن عليهم، لأنهم أهل كتاب وقريش أميون.
بحث بلاغي
من وجوه التأكيد في القرآن ارادة العموم باللفظ القرآني وهو كثير في القرآن منه قوله تعالى [وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] للدلالة على استغراق الاختلاف للجميع وللتحذير من حصول الاختلاف عند المسلمين وشموله لهم على نحو الفرق والطوائف والجماعات سواء في باب الفقه أو الكلام او القبلية وانظمة الحكم والسلطان خاصة مع طرو مستحدثات الامور السياسية والتقسيمات الجغرافية، فيجب ان تكون مصلحة الاسلام هي العليا مع اعتبار قاعدة لاضرر ولاضرار ونحوها.
لقد جاءت الآية بتوكيد العموم وحصول الاختلاف عند اهل الكتاب، وقد جمعت الآية اليهود والنصارى بعنوان أهل الكتاب، للاخبار بان المراد ليس شخص الكتاب وفرد واحد منه بل المراد هو الجنس وهو الكتاب السماوي المنزل، ولكن القرآن كتاب سماوي فهل يدخل المسلمون تحت عنوان اهل الكتاب.
الجواب صحيح ان القرآن من الكتب السماوية الا ان الاسلام يعطي عناوين اضافية وعقائدية للمسلمين بلحاظ اتباعهم للقرآن والنبوة معاً، فنالوا الارتقاء واستحقوا اسم المسلمين الذين يدخل فيه الانتماء للكتاب، وجاء وصف اليهود والنصارى بأهل الكتاب تمييزاً لهم ولما يترشح من الشرف والفضل من الكتاب السماوي على اتباعه وان كان تمام الشرف بالاسلام والانقياد لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرجوع للقرآن لانه الجامع للكتب السماوية.
قوله تعالى [إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ]
جاءت (الا) هنا أداة حصر في الإستثناء المفرغ، ولم يحصل الإختلاف الا من بعد مجيء العلم ونزول الآيات وهذا القيد يساعد في تعيين ماهية الإختلاف وزمانه وموضوعه، فظاهر الآيةعدم وجود إختلاف قبل مجيء العلم والمراد من العلم هنا وجوه:
الأول : نزول القرآن من عنده تعالى.
الثاني : الدلائل والبراهين التي تدل على التوحيد.
الثالث : نزول التوراة والإنجيل.
الرابع : الكتب السماوية المنزلة والوحي مطلقاً.
الخامس : العلم بان الدين عند الله الإسلام فاختلفوا في اتباعه او عدمه، والذين جحدوا وأبوا الإنقياد اختلفوا مرة اخرى فيما بينهم.
السادس : الإختلاف في ذات الكتاب، وحصول النزاع بنبوة بعض الأنبياء مع ان كل نبي جاء بالآيات التي تدل على صدق نبوته، ولا تعارض بين هذه الوجوه فكلها من العلم.
وتبين الآية اقامة الحجة على أهل الكتاب بان الله عزوجل لم يجعل الناس في تيه، ولم يتركهم في ضلالة وعمى بل رزقهم العلم وجاءتهم البينات وبعث الأنبياء مبشرين مبشرين ومنذرين، ومع هذا اختلفوا، ولم تذكر الآية الذين لم يؤرتوا الكتاب من المشركين والكافرين والوثنيين وعبدة الأصنام بل جاءت بذم وتوبيخ اهل الكتاب مع ان الكفار ادنى مرتبة واكثر استحقاقاً للذم، وفيه وجوه:
الأول : ان الذم في الآية متوجه الى الكفار ايضاً من باب الأولوية القطعية.
الثاني : في الآية لوم لأهل الكتاب بعد تفضيلهم وتشريفهم بارسال الأنبياء لهم ونزول الكتب عليهم وايمانهم وتصديقهم ببعض الأنبياء، وهذا الإيمان ارتقاء علمي وعقلي وهو حجة عليهم.
الثالث : لابد من شكر المنعم على النعم الظاهرة والباطنة والكتاب من أعظم النعم، ونزوله يستلزم الشكر بالتقيد بأحكامه وأمها عدم الإختلاف ونبذ الشقاق، بل ان العمل بمضامين الكتاب السماوي يمنع من الإختلاف ويقضي عليه.
الرابع : الأصل هو اعتبار اهل الكتاب مسلمي زمانهم فيما قبل البعثة النبوية، والإختلاف يدل على الشقاق والخصومة وتعدد المذاهب، والإسلام دين واحد خال من أسباب الخلاف لأنه هو العلم.
الخامس : تظهر الآية المائز العظيم بين المليين من أهل الكتاب وغيرهم من الناس الا وهو العلم، فالآية وان كانت تتضمن الذم لهم لعدم اتباع العلم الذي يمنع من الإختلاف الا انها تؤكد حقيقة وهي مجيء العلم لأهل الكتاب وهو مادة للدعوة الى الإسلام وتوكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لموافقتها للعلم والعقل بالإضافة الى ما فيها من الدلالات والآيات الباهرات.
وورد مجيء العلم بصيغة الماضي (جاءهم) وانه وصل اليهم واحاطوا بكنهه ووعوه، وهذا من فضله تعالى ان ينعم على الناس بالعلم لمنع الإختلاف والشقاق، وتدل الآية على الإتحاد بين الكتب السماوية وعدم وجود تعارض بينها وانها لا تسبب اختلافاً ولا فتنة، كما ان الإختلاف لم يحصل بسبب القصور في النظر في مضامين ومصاديق العلم، لأن العلم هو الذي ورد عليهم، ولم تستلزم معرفة افراده البحث والتحقيق والإستقصاء وبذل الوسع للفصل والتمييز والإنتقاء والإختيار، وحصول الإختلاف جحود وخلاف الشكر له تعالى على نعمة العلم، وفيه حث للمسلمين بالإنتفاع من العلم الذي جاءهم بالقرآن والعلوم التي جاءت بها الكتب المنزلة.
ان وحدة واتحاد المسلمين حجة على أهل الكتاب ودعوة لهم لنبذ الإختلاف والذي انحصر التخلص منه بالرجوع الى القرآن اماماً وقائداً.
قوله تعالى[بَغْيًا بَيْنَهُمْ]
البغي هو التعدي وتجاوز الحد وجاء لفظ (بينهم) آية اعجازية وفيه دلالة على حصول التعدي والظلم من كل طرف على الآخر وفيه وجوه:
الأول : التعدي والتجاوز بين اليهود والنصارى، وكل منهما يبغي على الآخر، كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] ( ).
الثاني : التعدي بين ابناء الفرقة الواحدة كما في رهبانهم وكبرائهم وموضوع تحريف الكتاب.
الثالث : طغيان النفس الشهوية والغضبية، والبغي سبب للإختلاف.
الرابع : ظهور التحاسد والنفرة الشخصية بسبب تعدد الإنتماء.
والأصل ان العلم وعاء يجمع المليين من المسلمين وأهل الكتاب لأن السور الجامع لهم هو التشريف العظيم بنزول القرآن من عنده تعالى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه لعموم الإختلاف وعدم انحصاره بين اليهود والنصارى على أساس الملة وحدها، وفي الآية تنزيه للعلم ووظائفه وانه رحمة للناس ولا يؤدي الا للفوز والظفر والنجاح والإتحاد ولكن طرو أسباب عرضية مبغوضة من ذات الإنسان هي التي أدت للفرقة والإختلاف، ليكون حائلاً دون الإنتفاع من العلم ويجعل حجباً ظلمانية تمنع من رؤية الآيات والبراهين التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن هذا الإختلاف لم يؤثر سلباً بالحقيقة الثابتة وهي ان الإسلام هو الدين عند الله عز وجل وهو السبيل الوحيد لمنع الإختلاف،
والآية حجة ومناسبة للإحتجاج ودعوة للرجوع الى العلم ونبذ البغي والحسد وحب الدنيا والميل الى الشهوات ولا ينفصل موضوع الآيات السابقة عن هذه الآية وان تعلقت بالإعتقاد والضروريات، فمتى ما تخلى الإنسان عن حب الشهوات وأعرض عن زينة الدنيا واشتاق الى الجنة وما فيها من النعيم الخالد، فانه ينبذ الخلاف ويتلقى العلم بالقبول ويجعله سلاحاً ونوراً يبصر به، فالعلم يمنع الخلاف والفرقة والتشتت.
ومن الآيات ان لفظ العلم جاء مطلقاً وان الألف واللام تفيد العهد، وكأن العلم محصور بما نزل من السماء وما جاء به الأنبياء من عند الله، وفي الآية مدح للمسلمين لأنهم اتخذوا القرآن اماماً وقائداً وملاذاً ودليلاً وحرزاً من التفرق والإختلاف.
والاية دعوة للإنتفاع من قصص الأمم السابقة والإعتبار منهم وأخذ الدروس والعبر من تأريخهم وسننهم وأسباب تخلفهم عن الإقرار بالآيات والبراهين التي جاء بها القرآن، وتبين الإضرار التي يسببها الظلم والإضطهاد العقائدي، والتعدي على الآخرين فيما عندهم من الكتاب والآيات، فجاء الإسلام لتكون أمة مؤمنة ينعدم فيها البغي، فلا يحصل البغي بين أفرادها وفرقها فالظلم والحسد سبب للإختلاف ويكون نتيجة له، يبدأ صغيراً وشخصياً ويتسع بسبب غلبة النفس الشهوية والعناد والحمية ويتعدى الى التحريف والتبديل والإدعاء الباطل، ويصبح الإختلاف صراعاً ثم نزاعاً فجاء الإسلام ليمنع من البغي.
نعم ورد قوله تعالى [فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ] ( )، فان البغي هنا يحصل على نحو القضية الشخصية المؤقتة، وموضوعها غالباً في الأمور الخاصة والملكية والأمرة والسلطنة ونحوها مع حرص الجميع على أداء الفرائض والتوجه الى ذات القبلة كما ان القرآن او كافة المسلمين بارجاع الفئة الباغية الى أمر الله مما يدل على ثبوت العلم وعدم طرو تغيير عليه وفيه دليل على عدم حصول تحريف في القرآن وان البغاة يتعذر عليهم اقناع الآخرين بفعلهم لأن حكم القرآن واحد، وفيه العلم الذي يفضح البغي ويمنع من الباسه لباساً شرعياً، وهذا من اعجاز القرآن الذاتي والغيري وتكامل الأحكام الشرعية فيه، فبعكس أهل الكتاب الذين كان البغي سبباً ونتيجة للإختلاف عندهم، فان القرآن سبب ونتيجة للقضاء على الإختلاف والبغي.
وظاهر الآية ان أهل الكتاب لم يكونوا مختلفين قبل مجيء العلم ويحتمل وجوهاً:
الأول: لم يكن بينهم اختلاف اصلاً وهو على شعبتين:
الأولى: عدم الخلاف قبل ان يكونوا أهل كتاب ويتعدد عندهم التنزيل.
الثانية: انهم متفقون بصفة وعنوان أهل الكتاب قبل أن يرد عليهم العلم، وهو خلاف الآيات القرآنية والشواهد.
الثاني: انهم كانوا أمة واحدة، كما لو كانوا اتباع ملة ابراهيم، ولما جاءهم العلم بالتوراة والإنجيل بعد نزولهما، ظهر الظلم والتجاوز والحسد بينهم، مما أدى الى الإختلاف، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( )،
الثالث: كانوا على حال من الجهل والغفلة فأنعم الله عليهم بالعلم ولكنهم لم ينتفعوا.
الرابع: تضع الآية اللوم على أهل الكتاب لأنهم أختاروا الإختلاف، وهذا ليس له أسباب شرعية أو عقلية لأن الأصل في العلم ان يكون رحمة ونعمة، ووسيلة مباركة للإتحاد والوئام ونبذ الفرقة.
وما هي النسبة بين الكتاب والعلم وهل العلم هو الكتاب نفسه، وقد تقدم ذكر وجوه العلم وعدم التعارض بينها، وظاهر الآية ان الكتاب الذي نزل عليهم هو أصل العلم، وان انتزاعهم لاسم أهل الكتاب حصل بالعلم الذي جاء به الأنبياء فالكتب السماوية هي مصاديق العلم، ولكن لماذا لم تقل الآية اهل العلم، الجواب: ان اهل العلم هم الذين يتعاهدونه ويعملون بمضامينه.
ومجيء العلم غير أخذه وقبوله، ففي الآية تعريض بأهل الكتاب بأنهم لم يعملوا به وقد وردت آيات عديدة تمدح الذين [أُوتُوا الْعِلْمَ] ومجيء العلم اعم من اتيانه، لأن اتيانه يعني تحصيله وكسبه والعمل به قال تعالى [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( )، وورد ذات النص من الآية في ذم بني اسرائيل قال تعالى [وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ]( ).
أي ان الإختلاف حصل بين بني اسرائيل أنفسهم كما في عبادتهم العجل، وقتلهم الأنبياء، وترددهم في قبول ملك طالوت، ونكوصهم وعدم محاربتهم للطواغيت مع توجه الأمر اليهم بالقتال اما الآية محل البحث فانها أكدت حصول الإختلاف بين أهل الكتاب وهو أعم ويشمل النصارى كما في القول بالتثليث وخلافهم مع اليهود وتكفير بعضهم بعضاً ان قيد (البغي) الوارد في الآية يجعلها من المحكمات وهو حصن من سوء التأويل وفيه تحذير وتخويف من البغي والتعدي وبيان للأخطار التي يسببها والأضرار التي تلحق بالأمة بسببه وهو مقدمة للفتنة.
قوله تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]
الاية قاعدة كلية ثابتة في الإرادة التكوينية وتتضمن الوعد والوعيد، الوعد للمسلمين الذين يؤمنون بالآيات ويصدقون بالتنزيل، ووعيد للكافرين الذين يجحدون بالآيات.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على وجود آيات الله تعالى يراها أو يسمعها الناس، او يدركونها بفطرتهم وعقولهم، فما هي هذه الآيات، فيه وجوه :
الأول : الكتب السماوية المنزلة، فكل كتاب آية ويتضمن الآيات التي تخبر عن نزوله من عند الله عز وجل.
الثاني : الأنبياء والمرسلون، فكل نبي آية عظمى لأنه مبعوث من عنده تعالى بشيراَ ونذيراً.
الثالث : الدلالات والبراهين التي جاء بها الأنبياء من عنده تعالى.
الرابع : الآيات الكونية وعالم الخلق والتدبير، ومنه خلق الإنسان والوقائع التي تعتبر شواهد وآيات تدل على بديع صنعه وعظيم قدرته تعالى وهذ الوجوه كلها من آياته تعالى، وكل فرد ومصداق من مصاديقها داعية الى الله ويحث على الإيمان بربوبيته تعالى واجتناب الإختلاف والإمتناع عن الفرقة، ونبذ البغي والعدوان،
ومن رحمة الله الواسعة ان تفضل وجعل الحياة الدنيا مملوءة بالآيات، اذ تطل على الإنسان بكرة وعشياً وتملأ الوجود الذهني وتشغله عن حب الشهوات وزينة الدنيا، وتلح عليه بلزوم طاعته تعالى لأن التدبر في الخلق مقدمة لعمل الصالحات والإبتعاد عن المعاصي، فالآية تحذر من الجحود والإعراض عن الآيات وعالم التنزيل وتدعو للإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها الجامع النبوي للآيات والبرهان القاطع الذي يمنع من الإختلاف والفرقة، والمليون محتاجون القرآن والإجتماع عنده والصدور عنه والتوجه الى الناس جميعاً لدعوتهم للنطق بكلمة التوحيد الذي أكدت عليه الآية السابقة.
وجاءت الآية على نحو الجملة الشرطية لبيان العذاب الشديد الذي يلقاه الجاحدون والكافرون، وورد لفظ (سريع) في القرآن عشر مرات كلها في سرعة الحساب والعقاب الذي ينتظر الكافرين، في انذار ووعيد لهم وسرعة الحساب تشمل الدنيا والآخرة، وحتى على فرض انحصار ما في الآية من الوعيد بالدار الآخرة فانها ايضاً قريبة ليس بين الإنسان وبينها الا دخول القبر والإنتقال الى عالم البرزخ، وهل تدل الآية على سرعة حساب الناس يوم القيامة الجواب نعم الا ان المعنى من المراد منها العقاب العاجل الذي ينتظر الكافرين والجاحدين.
لقد قسمت الآية الناس الى قسمين بلحاظ الإنتماء الى الإسلام فالإيمان بآيات الله يتحقق بدخول الإسلام لأنه الدين الذي بشر به الأنبياء السابقون وأخبرت به صراحة هذه الآية التي لم تجعل وسطا ًوبرزخاً بين الإيمان والكفر، وما فيها من الوعيد عز للمسلمين وبشارة الزمن والسلامة من العقاب الأخروي، فمن مفاهيم الوعيد فيها ان كلمة التوحيد حصن وأمن وملاذ من العقاب الأخروي، والله عز وجل هو الذي أراد للناس الإسلام ديناً وعقيدة وعبادة ومنسكاً فجاء جامعاً للأحكام، وطريقاً الى المغفرة والجنة وعاصماً من والمعاصي.
وفي تفسير القمي عن الإمام علي ”لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها احد قبلي ولا ينسبها احد بعدي الاسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، فالتصديق هو الاقرار ، والاقرار هو الاداء ، والاداء هو العمل والمؤمن من اخذ دينه عن ربه إن المؤمن يعرف ايمانه في عمله وان الكافر يعرف كفره بانكاره ، يا ايها الناس دينكم دينكم فان السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، وان السيئة فيه تغفر ، وان الحسنة في غيره لا تقبل”.
فهذه الآية تبدأ بالوعد وتختتم بالوعيد، فحينما تفضل سبحانه وأخبر بأن الدين عنده هو الإسلام فانها بشارة زكاة الأعمال مع الإسلام، ومغفرة الذنوب معه لأن اختيار الإسلام ديناً وعقيدة طاعة وتسليم وانقياد لأمره تعالى والله هو العفو الكريم.
قوله تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] الآية 20
الإعراب واللغة
قرأ حمزة والكسائي وعاصم (اتبعن) بحذف الياء والإجتزاء بالكسر، والقراء الآخرون قرأوه على الأصل.
( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ )
الفاء: استئنافية، ان: حرف شرط جازم، حاجوك: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، الواو: فاعل، الكاف: مفعول به، فقل: الفاء رابطة لجواب الشرط، قل: فعل أمر، فاعله ضمير مستتر تقديره أنت، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط.
( أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ )
الجملة في محل نصب مقول القول، اسلمت: فعل ماض، والتاء: فاعل، وجهي: وجه مفعول به وهو مضاف، والياء: مضاف اليه، ومن اتبعن: الواو: للعطف، من: اسم موصول معطوف على التاء في أسلمت، وجملة اتبعن صلة الموصول، النون: للوقاية.
( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)
الواو: عاطفة واستئنافية، قل: فعل أمر، للذين: جار ومجرور متعلقان بقل، جملة اوتوا الكتاب: صلة الموصول، اوتوا: فعل ماض
مبني للمجهول، والواو: نائب فاعل، الكتاب: مفعول به ثان.
والأميين: عطف على الذين اوتوا الكتاب، مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.
أأسلمتم: الجملة الإستفهامية في محل نصب مقول القول.
(فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا)
الفاء استئنافية، ان: شرطية اسلموا: فعل ماض في محل جزم فعل الشرط.
فقد: الفاء رابطة لجواب الشرط، قد: حرف تحقيق.
أهتدوا: فعل ماض مبني على الضم المقدر، الواو: فاعل، والجملة المقترنة في محل جزم جواب الشرط.
( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ )
الفاء: حرف عطف لبيان السببية انما: كافة ومكفوفة، عليك: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر مقدم، البلاغ: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
( وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)
الواو: استئنافية، الله: مبتدأ، بصير: خبر، بالعباد: جار ومجرور متعلقان ببصير.
والبلاغ: اسم من التبليغ، أي ايصال الرسالة، ويقال بلغ الشيء يبلغ بلوغاً وبلاغاً أي وصل وأنتهى، والبلاغ: الكفاية، ويقال فيه بلغة وبلاغ أي كفاية.
في سياق الآيات
بعد مجيء الآية السابقة بتثبيت حقيقة عقائدية في الإرادة التكوينية والتشريعية وهي حصر الدين والأعمال العبادية بالإسلام، وذم الذين اختلفوا فيما بينهم من أهل الكتاب، مع اقامة الحجة عليهم باتيانهم الكتاب وما فيه من العلم والبراهين القاطعة، جاءت هذه الآية لتبين كيفية العلاج النظري والعملي لرد الفعل الذي يظهره أهل الكتاب على تثبيت هذه الحقيقة ودعوتهم الى الإسلام بحصر الديانة الحقة به دون غيره.
إعجاز الآية
هذه الآية من آيات الجهاد العلمي والنظري فهي توكيد على التوحيد وتثبيت لقوانينه في الأرض وبيان لإيمان الرسول والمسلمين بما أنزل عليه من ربه ومع هذا البيان تأتي دعوة الناس الى الإسلام وعدم الإكتفاء باعلان الإيمان، مع الغنى عن الكافرين والجاحدين وعدم اللهث ورائهم والإنشغال بهم وهم مقيمون على العناد والجحود،
ومن الإعجاز ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم عن نفسه وعن المسلمين وفيه امضاء لإيمانهم وتزكية لأعمالهم وشهادة نبوية وقرآنية لهم، فهذه الآية تبين مفاخر المسلمين وتؤكد على صدق ايمانهم واخلاصهم في ذات الله وقصدهم القربة الى الله في أعمالهم أو ما فيها من الثناء يبعث الشوق في نفوس الآخرين للإلتحاق بهم.
وتبين الآية الحاجة الى تثبيت الحقائق القرآنية بالسنة النبوية الشريفة، فمما هوثابت ان السنة بيان وتفسير للقرآن، اما هذه الآية فأخبرت عن تعضيد السنة لتوكد هذا الحكم وتظهره وتجعله قائماً بذاته دائم التحدي سالماً من المعارضة وطرو النقض والإشكال، وهذا التعضيد باق الى يوم القيامة بالسنة النبوية القولية والفعلية والتدوينية، وبسعي المسلمين في ميادين الفرائض والإحتجاج ويمكن تسمية هذه الآية بآية (عموم المباهلة).
الآية سلاح
تمنح الآية المسلمين قوة للإحتجاج وتجعلهم مؤهلين للثبات على الإسلام باعتباره الطريق الى الجنة، وفي الآية خطاب تكليفي الى الناس جميعاً، ورسالة يحملها المسلمون الى مشارق الأرض ومغاربها بالدعوة الى الإيمان والهدى من غير اكراه، فالبرهان سلاح أقوى من السيف، لأنه يخاطب العقول ويؤدي الى اسلام اولي النهى وأرباب العقول وينقلهم الى مراتب اهل العلم الذين مدحتهم الآية قبل السابقة وأقترنت شهادتهم بشهادته تعالى وشهادة الملائكة على كلمة التوحيد.
مفهوم الآية
تدعو الآية المسلمين للإرتقاء الفكري والتسلح بالإيمان وتنمية ملكة الجدل والإحتجاج مع الثقة بالنفس والإستبشار بالرزق الإلهي ومنع المشركين والكفار من بث روح الشك والريب في النفوس، وتخبر عن حصول احتجاج وجدل بسبب كلمة التوحيد والدعوة الى الإسلام دون غيره عن الأديان،
وتبعث الآية في نفوس المسلمين الإستعداد للجدال وتبين لهم كيفية الرد والإحتجاج، بل انها تأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالمبادرة الى دعوة الناس بقوة الى الإسلام وتلك وظيفة شرعية عقائدية لأن أخبار القرآن عن حصر الديانة الحقة بالإسلام لابد وان تصل الى الناس جميعاًُ رحمة بهم واصلاحاً لأحوالهم وسبيلاً لنجاتهم في الآخرة، مما يدل على ان جهاد المسلمين ودعوتهم الى الله تعالى بالناس.
وتعطي الآية قوة ومنعة للمسلمين وتحذر من القنوط والسكوت وترك الكافرين، يردون على الأوامر القرآنية بل لابد من التصدي لهم لمنعهم من حجب الناس عن الإسلام، وهذا التصدي يتجلى بوجوه متعددة، منها الإحتجاج والصبر الذي تخبر به هذه الآية، اذ انها تخبر عن اعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين التسليم لأمره تعالى والإنقياد لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه احتراز من اهل الكتاب والكفار، خصوصاً وان اهل الكتاب يظنون انهم يدخلون الجنة لأنهم باقون على أحكام التوراة والإنجيل وانهم يختلفون عن المشركين والكفار، فكيف يكونون على درجة واحدة هم والكفار والوثنيين، فجاءت الآية لدعوتهم الى الإيمان وتوكيد حقيقة النسخ في الشرائع.
وفي الآية بشارة واكرام للمسلمين يظهر بنيابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإخبار عن حالتهم العقائدية وصدق ايمانهم، ولقد جاءت آية المباهلة [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] ( ) في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين مع وفد نصارى نجران، ان هذه الآية في آية المباهلة العامة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة وبين اهل الكتاب والناس جميعاً من جهة أخرى.
وتنهى الآية المسلمين عن السكوت واليأس من الناس، وتأمرهم بالتبليغ واقامة الحجة والإتيان بالشواهد التي تجذب الناس للإسلام، والإخبار عن ضرورة تلمس طرق النجاة بدخول الإسلام وابطال غيره بالحجة والبرهان والحكمة ووفق المنطوق القرآني، كما في التفريق بين أهل الكتاب وبين المشركين.
افاضات الآية
تبين الآية مشقة الطريق في مجاهدة القوى الظلمانية ولزوم التسلح بالإيمان والإنقطاع الى الله كوسيلة للإحتراز من الجدال والإحتجاج، وزوال تلك المشقة بالإنقطاع الى الله تعالى والتسليم بحكمه، وهذا التسليم تأهيل للمسلمين للتبليغ والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ان اقتران الهداية بالإسلام فيض الهي يتغشى أهل الأرض وحاجب دون التيه والضلالة وتعدد الأديان ومانع من الفتن والحروب، فهذه الدعوة اصلاح للمجتمعات وارشاد للعقول وغنى وعز للمسلمين.
لقد اراد الله بهذه الآية أحد أمرين اما هداية اهل الكتاب وأهل مكة وغيرهم الى الإسلام او قطع المجادلة والمخاصمة وتفويض الأمر الى الله والثبات على الإيمان، وهذا الثبات وحده دعوة مستديمة أو الأمرين معاً لتعدد الأغراض والمقاصد السامية للآية القرآنية.
التفسير
قوله تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ]
لقد بدأت الحياة على الأرض بهبوط آدم وحواء من الجنة، وأسباب هذا الهبوط معروفة عند المليين وجاءت عن عدم التقيد التام بالأمر الإلهي والنهي الإرشادي عن الأكل من الشجرة،
ثم جاء قتل قابيل لأخيه هابيل ابن آدم ليخبر عن حصول النزاع بين الأخوين ومن باب الأولوية القطعية ان يحصل النزاع والخصومة مع الأجنبي والرحم البعيد، واذا كان القتل حصل بسبب تقبل القربان والتباين في موضوعه، فان الإختلاف في الملة والعقيدة باب للخلاف والصراع النوعي بين الناس وليس بين شخصين فقط لينقسم الناس الى طائفتين او أكثر كل طائفة تناصر ملة او مبدأ وتذب عنه، ويقابلها من يحاول نقض ما تدعيه والإستدلال على بطلان ما تذهب اليه،
وتتقوم المناظرة بينهما بوجوه:
الأول : كل طائفة تستدل بالبرهان لتحصيل المطلوب، فالفريق المدعي يأتي بالحجة والدليل لتثبيت دعواه، والخصم يأتي بالحجة، ايضاً لنفي تلك الدعوى، ويحصل التعارض بين الأدلة.
الثاني : التجاء كل من الفريقين الى الجدل بسبب انعدام الحجة او العجز عن اقامة البرهان او غلبة النفس الشهوية والغضبية وتقديم ارادة غلبة الخصم وافحامه.
الثالث : قيام أحد الطرفين بتأييد قوله بالبرهان والحجة، ويعجز الآخر عن ابطاله او تفنيده فيلجأ الى الجدل لتأييد مطلوبه.
وجاءت الآية مطلقة بصيغة الإحتجاج والمحاجة في بيان للسعة في الحكم والموضوع، ومنع النفرة والخصومة والإحتجاج أعم من الجدل، مما يعني الإستشهاد بآيات ووقائع وحوادث تأريخية،
والآية وان جاءت بصيغة الشرط الا انها تخبر عن حصول الإحتجاج والجدل من أهل الكتاب لأن الشرط أعم من ان ينحصر بحال الإحتجاج او عدمه، وقد يكون المراد منه الإستمرار على الجهاد وأداء العبادات وعندما يحصل الإحتجاج يأتي الرد.
بمعنى ان الآية تدعو لعدم الإنشغال بهم وتوجيه الإهتمام لهم ولكنها تأمر بالإستعداد للرد عليهم ومواجهتهم وتحديهم، وجاءت الآية بلغة الخطاب استصحاباً واستمرار للغة الواردة قبل خمس آيات (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ) والمراد بالخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يعني ان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشمل الإحتجاج والذب عن الإسلام، وانه لا ينحصر بالتبليغ والإنذار والبشارات بل يتضمن الإحتجاج واقامة البرهان والدلائل على لزوم دخول الإسلام والإنقياد لما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من عنده تعالى، وهذا اللزوم لابد وان يكون مؤيداً ببراهين عقلية وسمعية تجعل الناس يقبلون الدعوة ويدركون صدقها.
لذا جاءت هذه الآية بالإخبار عن شهادته تعالى على كلمة التوحيد واخبار القرآن بان الدين عند الله هو الإسلام، ويحتاج الأمر توكيد حقيقة وهي ان القرآن نازل من عنده تعالى بالحجة والبرهان سواء الحجة من القرآن نفسه ام من خارجه، والإعجاز الذاتي للقرآن ظاهر، والبراهين التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عديدة، منها ما كان في مكة ومنها ما كان في المدينة، والآية مدنية الا انه لا يمنع من الإستشهاد بالآيات الحسية المكية لتناقلها من قبل الناس القريب والبعيد، المؤمن والكافر،
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على ظهور الآيات عند الآخرين وادراك أهل الكتاب والناس لها وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تحصر موضوع الإحتجاج بأمرين:
الأول: كلمة التوحيد.
الثاني: ليس من دين عند الله غير الإسلام، والأمران معاً مادة الإحتجاج مع المشركين والوثنيين والملل الكافرة، اما أهل الكتاب فمادة الإحتجاج معهم الأمر الثاني دون الأول، فجاءت الآية بصيغة الجمع في طرف الإحتجاج [حَاجُّوكَ] من غير تعيين للتهم او جماعتهم كما تدعو الآية لمنعهم الى عدم اهمال احتجاجهم او الإستخفاف به او التغاضي عنه، لأن ترك الإحتجاج من غير رد يسبب تناميه ووجود المستمعين له، وازدياد عدد الأتباع للقول وصاحبه، وحصر الديانة الحقة بالإسلام يستلزم زحزحة المشركين عن مواقعهم ودعوتهم الى الإسلام ومنعهم من زيادة الأتباع والأعوان.
فكأن الآية تأمر بالجهاد على أربع جهات متداخلة :
الأولى : اعلان كلمة التوحيد.
الثانية : النطق بالشهادتين والإخبار عن قبول الأعمال بها.
الثالثة : اقامة البرهان.
الرابعة : رد الإحتجاج والجدل والجدل صناعة علمية يتمكن الإنسان معها من استحضار البرهان والمقدمات السليمة لإفادة المطلوب والمحافظة على الوضع المراد والإحتراز من حصول المناقضة.
والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق الا عن الوحي والإخبار الملكوتي، وهذه الآية من الوحي والتنزيل، ولكن الإنتفاع منها لا ينحصر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يشمل المسلمين جميعاً، لأن الخطاب في الآية والأمر بالرد على الإحتجاج وكيفيته موجه الى المسلمين جميعاً من خلال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فتساعد الآية الكريمة على رياضة الأذهان في تحصيل المقدمات واكتساب العلوم، ومعرفة الآيات والدلالات التي تؤكد مضمون هذه الآية وعظمة الإسلام والحث على الإنتماء اليه واقامة الحجة والمطالب العقائدية المؤيدة للمضامين القدسية وهذا من اعجاز القرآن الغيري، وتأمر الآية النبي صلى الله وآله وسلم بمواجهة الإحتجاج بصيغ كريمة ولكنها تؤدي الى ارتقاء المسلمين في صناعة الجدل، كما ان الكسب والتحصيل في هذا الباب ينمي ملكة الإيمان ويرسخه في النفوس.
ومع ان الدين عند الله هو الإسلام كما في الآية السابقة فان هذه الآية تبين ان المسلمين في حال الدفاع والمحافظة على وضع الإيمان والثبات على الشهادتين وانهم يبذلون الوسع لرد نقض الآخرين، ويجيبون على الإشكال والسؤال وصيغ الشك والريب.
وهل ينحصر أوان الإحتجاج بفترة النبوة وما قبل انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى ام انه يستمر، الجواب انه يستمر لإستدامة الموضوع، مما يعني ان هذه الآية رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، وفيها نبذ للقتال ووسيلة لدفع الحروب والمعارك التي تنشب بسبب العقيدة والمبدأ، والشواهد في تأريخ البشرية تدل على حصول المعارك بسبب جدال وخلاف ثم يتطور الى ما هو أخطر،
جاءت هذه الآية لمنع غلبة النفس الشهوية والغضبية وهو العلة المادية الخفية الكامنة وراء ازدياد حدة الجدال وتحوله الى نزاع وقتال، لقد اراد الله عزو جل للمسلمين الإستقصاء العلمي والكسب الدلالي واقناع الغير بلزوم المبادرة الى دخول الإسلام، والغضب وصيغ الشتم والقذف او القتال امور تؤدي الى العناد والإصرار على الخطأ وتسبب اذى اضافياً فهدى الله عز وجل المسلمين للجمع بين الرد على الآخرين في احتجاجهم، وعدم التقصير بالوظائف الأساسية للأمة والأفراد في باب العقيدة والفرائض.
وتحتمل الآية في صيغ وتلقي الإحتجاج وجوهاً ثلاثة:
الأول: الإعراض عن احتجاجهم، والإكتفاء باعلان التسليم والإنقياد للأوامر الإلهية.
الثاني: الإحتجاج ورد الأسئلة ونقض الإشكالات واثبات الحجج والبراهين الدالة على الوهيته تعالى، وسلامة عقيدة الإسلام.
الثالث: التفصيل بحسب الحال والشأن والموضوع، فمرة يكون الرد والجواب بالحجة والبرهان، واخرى يكون بالصبر والسكوت والتوجه الى العبادة وهذا ايضاً رد ولكنه رد سلبي وهو دعوة صامتة الى الله عز وجل ودين الإسلام، وظاهر ونظم الآيات ان الضمير في (يحَاجُّوكَ) يعود لأهل الكتاب بقرينة مضمون الآية السابقة الا انه يفيد المعنى الأعم ايضاً.
وجاء لفظ الآية اعجازاً قرآنياً وسعة في القول والعمل بحسب الحال وفيه حفظ للمؤمن وسلامة لعقيدته ووقاية من الشرور والتعدي.
قوله تعالى [فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ]
الآية أمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الأمر يتعلق بالقول والفعل وان جاء ظاهره بخصوص القول وهو احتجاج ورد على اشكالهم ودفع لأذاهم وكيدهم لأن قوله تعالى فان حاجوك أعم من ان ينحصر بالإحتجاج والكلام فقد يكون مقدمة للنزاع والتعدي والقتال، والمراد من الوجه هو النفس جاء ذكر الوجه لأنه أشرف عضو وفيه دلالة على النية والقصد، والوجه عنوان الجوارح والحواس وفيه اشارة الى الإعراض عما سوى الله من الأنداد بل ومن حب الدنيا.
وتبين الآية الأمر الإلهي والإرشاد بكيفية الرد، وهذا الرد وأعلان التسليم والإنقياد لأمره تعالى لا يعني نفي وجوه الإحتجاج الأخرى ولكنه المحور والقدر المتيقن للرد.
كما انه خاص بالرد على احتجاجهم، ولا يمنع من ابتداء المسلمين بالإحتجاج بدليل ان الآية السابقة قالت [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] لفتح الباب للجهاد باللسان والجوارح وتوكيد هذه الحقيقة في عالم الأعمال والإجتماع، وفي الآية وجوه:
الأول: اظهار اليقين فيما نزل من عنده تعالى، فيكون العبد على بصيرة، وما وصل اليه من درجات القطع دليلاً وبرهاناً ذاتياً، لأن الشك والريب يطرد بالبرهان والحجة.
الثاني: الآية دعوة للإقتداء بالنبي فيما يؤمن.
الثالث: فيها حث على معرفة أسباب تحقق اليقين عند النبي والمسلمين لعدم اجتماعهم على خطأ او ضلالة.
الرابع: الإذعان والإنقياد لأمره تعالى له أسباب ومقدمات، فالآية تدعو الناس جميعاً الى معرفة تلك الأسباب والمقدمات ودراستها واتخاذها منهاجاً للوصول الى ذات النتيجة من الإيمان.
الخامس: يلتقي المسلمون وأهل الكتاب بالإقرار بشهادة التوحيد، فجاءت الآية لتؤكد هذه الحقيقة وتجعلها موضوعاً للإتحاد ونبذ الفرقة والخلاف ويؤيده قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ] ( )،
السادس: الآية حرب على الكفر، وحصانة للنفس من دبيب الشرك الخفي.
السابع: يؤمن أهل الكتاب بالله عز وجل، وانه الرب الذي يستحق العبادة، والإختلاف في الإسلام على وجهين:
الأول: انه الديانة الحقة التي تنحصر بها عبادة وطاعة الله.
الثاني: انه الدين عند الله وهو أحد الأديان السماوية بالإضافة الى اليهودية والنصرانية فجاءت الآية بالإخبار عن الإقرار بالله عزو جل الهاً ورباً ومالكاً، مما يعني صغروية الجدال وعدم موضوعيته، والدعوة الى هجرانه سار وتوجيه جهود المليين الى تثبيت كلمة التوحيد في الأرض، بدل ان ينشغل أهل الكتاب بمجادلة المسلمين ويشغلوهم معهم، وهذا لا يعني ان الإقرار برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر صغروي بل هو مسألة كبرى وضرورة عقائدية للمليين والناس جميعاً بدليل قوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ].
الثامن: الآية دعوة لنبذ عبادة الأوثان، وادعاء الوهية عيسى وانه ابن الله او عزير ابن الله،
التاسع: في الاية فناء في ذات الله ودعوة لإخلاص العبادة له تعالى.
العاشر: الآية حرز من التعدي والظلم والبغي، فان اعلان التسليم لله عز وجل امن وأمان، ففيها أمان للآخرين واعلان عن عدم التعدي، كما انها واقية من شرور وأذى الآخرين لأن الإنقياد لأمره تعالى يبعث الهيبة في النفوس ويكف الأيدي ويطفي نار الغضب.
الحادي عشر: انه اعلان للسلم مع الناس جميعاً من أهل الكتاب او غيرهم، وهو دعوة صامتة الى الله.
الثاني عشر: فيه حث على التدبر في مفاهيم الإسلام وما هي خصائصه ومزاياه، وبماذا فضله الله عز وجل بحيث جعله الديانة الباقية الى يوم القيامة.
الثالث عشر: ضرورة الإنقياد لأمره تعالى واتباع ملة ابراهيم بالحنيفية، والإسلام بمعناه اللغوي أي الإنقياد والتسليم لله تعالى.
الرابع عشر: الآية تفسير لقوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ومانع من بعث النفرة في نفوس أهل الكتاب بسبب حبهم للتمسك بما هم عليه من البقاء على التوراة والإنجيل، فكأنها تخيرهم بان الإسلام لا يتعارض مع التوراة والإنجيل وانما هو انقياد وانقطاع اليه تعالى وهو حكم جاءت به الكتب السماوية كافة.
الخامس عشر: في الآية توكيد لعبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله تعالى، ومنع للغلو بالأنبياء مطلقاً.
السادس عشر: ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث من عنده تعالى ولا يبغي نفعاً او جاهاً، ولا وظيفة له الا الإنقياد لأمره تعالى.
السابع عشر: ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رائد الخضوع والخشوع لله تعالى لأمره تعالى.
الثامن عشر: الآية اخبار عن تحصيل الفوز والظفر للمسلمين وعدم الخروج عن جادة الصواب قال تعالى [وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى]( ).
التاسع عشر: الإنقياد لأمره تعالى والتسليم لحكمه لم تنحصر بأوان وموضوع الإحتجاج بل هو حالة مستديمة وملكة يحافظ عليها المسلمون.
العشرون: تبعث الآية اليأس والقنوط في قلوب الكفار من المسلمين، فالنبي والمسلمون منقطعون الى أمر الله عزوجل مستجيبون لحكمه.
الحادي والعشرون: تدعو الآية أهل الكتاب للإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض، لأن كل الكتب السماوية تدعو للإنقياد لأمره تعالى وعدم الإلتفات الى ملذات ومباهج الدنيا.
علم المناسبة
ورد لفظ (وجهي) بالإضافة الى المتكلم مرتين في القرآن، وكلاهما حكاية عن نبي فقد جاءت الآية الثانية على لسان ابراهيم [إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا]( )،
مما يدل على ان المسلمين على سنن الأنبياء والمرسلين وهو غاية المدح والثناء لهم وفيها دلالة على أمور :
الأول : استحقاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأفضلية والتشريف منذ أخبر القرآن عن توجه ابراهيم بوجهه الى الله وبعد الآيات والإحتجاج واتباع لغة البرهان اللمي والإني وقوانين العلة والمعلول وجاء تسليم النبي وجهه لله عزوجل دفعة واحدة.
الثاني : ان ابراهيم أخبر عن توجهه بشخصه الكريم، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر عن نفسه وأمته، وفيه اعجاز يدل على الثقة بكثرة المسلمين وتعددهم خصوصاً مع لحاظ النصوص التي وردت بانتشار الإسلام واتساع رقعته وكثرته المسلمين.
الثالث : جاءت الآية بوصف ابراهيم انه وجه وجهه اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه أسلم وجهه، وبينهما عموم وخصوص مطلق فكل توجيه لوجه من التسليم وليس العكس لأن التسليم أرقى رتبة ودرجة.
الرابع : تدل الآية على رسوخ عقيدة التوحيد في الأرض واستمرار عبادته تعالى وعجز الشرك من التأثير بالمسلمين لأن التسليم يعني الإيمان المطلق وانعدام الشرك والضلالة.
والمراد من الوجه في الآية الكناية عن اتصاف العمل بالإنقياد التام الى الله عز وجل وعلى نحو الموجبة الكلية وتلقي الأوامر وحسن الإمتثال.
قوله تعالى [وَمَنْ اتَّبَعَنِي]
في الآية اكرام وتشريف للمسلمين، وثناء عليهم من وجوه:
الأول : اتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : اقرارهم بكلمة التوحيد.
الثالث : دخولهم الإسلام وهو الديانة الحقة.
الرابع : شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهم له، ومن الآيات ان هذا الإتباع مقيد ومعلوم، وهو انه اتباع وانقياد في التسليم لأمره تعالى.
الخامس : تعطي الآية اسماً اعتبارياً اضافياً للمسلمين وانهم أخلصوا سرائرهم وأنفسهم لله ولم يشركوا به شيئاً.
السادس : جعل أيمان المسلمين بعرض واحد مع ايمان النبي في موضوع اخلاص النية والقصد والعبادة لله تعالى وخلع الأنداد مع قيد وهو وجود تابع ومتبوع، وان المسلمين مع حسن اسلامهم وصدق ايمانهم انهم أتباع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام، وهذا تشريف ومدح للمسلمين، فوصفهم بانهم تابعون غاية الوصف بحسن الإختيار والسيرة لأنهم لم يتبعوا الا الحق.
السابع : الآية شهادة نبوية وقرآنية للمسلمين وحرز مدخر الى يوم القيامة، فقد أخبرت بان المسلمين يستحقون الخلافة في الأرض لتعاهدهم لكلمة التوحيد واخلاصهم العبادة لله عز وجل.
الثامن : في الآية مدح للمسلمين لأنهم يحترزون بالإسلام من كيد الكافرين وشرور الجدال.
التاسع : فيها اكرام لهم لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي تكلم ويخبر نيابة عنهم وهو لاينطق الا بالوحي، والقرآن يوثق هذه الحقيقة، لتكون ترغيباً للناس جميعاً بنيل هذا الشرف العظيم بدخول الإسلام.
في الآية دعوة لأهل الكتاب والمشركين بالكف عن مجادلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فلم يأت ببدعة في الدين، فما يدعو اليه قد قال به الأنبياء من قبل فلا حاجة للجدال في أمر ثابت عندنا وعندكم، ومن الضروريات والبديهيات عند المليين.
وفيها دعوة لأهل الجدل والإحتجاج لدخول الإسلام واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لا يفعل الا ما يعتبر علة غائية لجدلهم واحتجاجهم والسعي النوعي العام للوفاء بوظائف العبودية ولوازم الربوبية.
وتؤكد هذه الآية حقيقة دائمة وهي ثبات المسلمين على اخلاص العبادة لله تعالى وبقاؤهم منقادين لأمره تعالى تابعين ملتزمين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل، كما انها تسقط ما في ايدي أهل الجدل والإحتجاج وتخبرهم بعدم حصول ارتداد او شك او ريب عند المسلمين، لذا تجد الحرمة التكليفية عن الإسلام، وتشريع الحد والعقوبة على المرتد.
وتخبر الآية عن اتصال الإحتجاج وعدم انحصاره بفترة النبوة، ليكون الجواب النبوي حاضراً في كل زمان ومكان، فلو حدث الإحتجاج والجدل في هذا الزمان في أقصى الأرض، فان الرسول ألأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن هما اللذان يردان ويجيبان على المحتج ولن يكون المسلم وحيداً او مستضعفاً، وتعطي الآية للمسلم القوة والقدرة على الرد، وتطرد عنه الخوف والخشية من مواجهة الإحتجاج خصوصاً، وانها تأتي بحقيقة بسيطة ليست مركبة تقبلها العقول والأذهان ولا تتعارض مع القرائح والطبائع لأنها عبارة عن اخلاص العبادة لله وفيها صلاح واصلاح وتثبيت للإيمان في نفوس المسلمين وغلبة على المحتجين.
وهي أرقى في المواجهة من قوله تعالى [وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا]( )، لأن المقام ليس مقام جهل بل احتجاج واقامة البرهان، فالإعراض الدائم يجعل أهل الكفر والضلالة يتمادون في غيهم ويجهرون باشكالاتهم ويبحثون عن وجوه تعارض او تزاحم في العقيدة الإسلامية، فجاءت هذه الآية للجهاد في باب الإحتجاج على وجوه مختلفة بحسب الحال والشأن ولكن وفق قاعدة كلية وهي إظهار اخلاص العبادة لله تعالى ونبذ الشرك.
لقد صارت مجادلة الآخرين للمسلمين مناسبة لتبيت معالم التوحيد في الأرض وتوكيداً لإنفراد الإسلام بمضامين صدق العبودية واخلاص العبادة، واقراراً ضمنياً من أهل الكتاب بالإسلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبباً لإستماعهم لآيات القرآن واطلاعهم على أحكام الإسلام وما فيه من مسائل الحلال والحرام، فيكون فرصة لدخولهم الإسلام، ورؤية النجاة والفوز باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية دعوة للناس بالتخفيف عن المسلمين وعدم أيذائهم لأنهم أختاروا سنة الأنبياء بشهادة الكتاب السماوي المنزل وهي واقية نبوية متقدمة زماناً وحصن من البغي والنزاع.
لقد جاءت الآية في موضوع الإحتجاج ولكن جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن استعداده والمسلمين كافة للصبر والجهاد في سبيل الله وقبول الأذى الذي يرد عليهم بصبر مع مواظبة على الدعوة الى الله واخلاص العبودية له.
وتؤكد الآية بقاء المسلمين على اتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والى يوم القيامة وان النزاع والفرقة والتشتت ممتنع عليهم بشهادة القرآن والنبوة وهذا من العلوم الغيبية والإعجاز الغيري للقرآن، لذا نرى الفتنة اذا حصلت بين بعض المسلمين فسرعان ما تنطفئ وتزول آثارها، ويبقى اتحاد المسلمين تحت لواء النبوة وارادة الإخلاص لله تعالى.
وفي الآية تقسيم للناس بحسب الإنتماء العقائدي الى قسمين:
الأول: الذي يتبعون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، ويسلم وجهه لله.
الثاني: الذين لا يتبعون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجحدوا بنبوته.
علم المناسبة
لم يرد لفظ (اتبعن) في القرآن الا في هذه الآية مما يدل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتشريفه بانفراده بالكلام عن نفسه وعن أتباعه من المسلمين وأنهم مؤهلون لإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن حالهم وعبادتهم واخلاصهم وطاعتهم لله تعالى،
ولو تردد الأمر في الإتباع بين الكلي والجزئي، وهل يتبعونه بتمام الأحكام أم ببعضها، فالأصل هو الإتباع الكلي لإصالة الإطلاق، ولأن الآية جاءت بعنوان الشهادة ولأن الموضوع بسيط وهو التسليم لأمره تعالى وقد أخبرت الآيات القرآنية عن استحقاق المسلمين للإكرام، قال تعالى [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وهو عنوان شكر الهي ونبوي عاجل لحسن فعل المسلمين وصدق ايمانهم،
كما أكدت الآيات القرآنية تحقق القوة والمنعة بالمسلمين قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتدل مادة (تبع) في القرآن على تعاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لنهج ابراهيم مما يعني انتفاء موضوع مجادلة أهل الكتاب لأنهم متفقون على سلامة وصحة نهجه وانه على الحنيفية، قال تعالى [ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( ).
وجاء اتباع المسلمين للنبي انقياداً لأمره تعالى ولحصول اليقين بانه لم يفعل الا ما يأمره الله تعالى به، والكل تابعون منقادون لأوامر الله عزوجل، قال تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا] ( )، فالمسلمون يتبعون الشريعة والمنهاج الذي أمر الله تعالى به بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن.
قوله تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ]
تكرر فعل الأمر (قل) في الآية والخطاب موجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلاله الى المسلمين جميعاً مما يدل على اهمية موضوع الإحتجاج وعدم ترك الكافرين والجاحدين يتحدون المسلمين ويجادلونهم في مسائل التوحيد والنبوة، وباعتبار الواو في (وقل) للعطف.
وهو أمر ظاهر فان هذا القول متصل بالقول في أول الآية، وفيه دلالة على نقل كيفية إحتجاج المسلمين من الدفاع الى الهجوم.
وهذا الهجوم لساني وكلامي ويتمثل بالدعوة الى الله عزوجل، ويدل على ان القول الأول [أَسْلَمْتُ وَجْهِي]انما هو أحتجاج ورد على جدلهم واشكالهم لأنه جامع مانع، جامع للعقيدة والمبدأ، ومانع من النقض،
وعلى اعتبار (الواو) استئنافية فالآية جهاد في سبيله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وفيه اشارة الى ابتداء ومبادرة المسلمين لدعوة اهل الكتاب والكفار الى الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصاً وانه ليس عنده الا التسليم والإنقياد لأمره تعالى،
وهذا التسليم يدل بالدلالة الإلتزامية على عدم حبه للمال والأمرة والسلطنة وهو ظاهر في سنته المباركة وانفاقه كل ما يصله وعدم تركه لأرث وأملاك عند انتقاله للرفيق الأعلى، مع انه كانت له الأنفال وما يفتح من غير حرب ولا قتال لتكون حجة اضافية في تخليه عن الدنيا وصدق تسليم وجهه الى الله عزوجل وهو دعوة للمسلمين للإقتداء به وفق منطوق هذه الآية .
وقد يكون هذا القيد شبه الظاهري مانعاً من اسلام القوم على نحو السالبة الجزئية من بعض الأمراء والملأ والرهبان الذين يحبون السلطان والمال والجاه وما هم عليه من المنزلة والمقام، وان كان الإسلام ملتفتاً لهذا الأمر، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرم رؤساء القبائل الذين يسلمون ويرجعهم الى قبائلهم بمنازلهم ومقاماتهم ذاتها مع التقيد بأحكام الصلاة وسنن الشريعة.
ثم ان الأمر لا ينحصر بالدنيا بل بالأهم منها وهو دار الآخرة وما فيها من الحساب وموازين الثواب والعقاب، وظاهر نظم الآية يدل على مناسبة وكفاية اعلان النبي الإنقطاع الى الله وامتثاله والمسلمين للأوامر الإلهية للحجة على الكفار وفيه بيان للدليل لذا تعقبه قول [أَأَسْلَمْتُمْ].
وجاءت الآية بالتفصيل وذكر أهل الكتاب والأميين، والمراد من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، اما الأميون فهو لفظ عام يدخل فيه المشركون وعبدة الأوثان والأمم والجماعات التي لا ترجع الى كتاب سماوي سواء كانت تتخذ ديناً وشرعة وطريقة او لا تتخذ شيئاً، وهذا التفصيل فيه اكرام لأهل الكتاب وحجة واحتج عليهم، لأن الآية خصتهم بالذكر على نحو التعيين بعدة قيود هي :
الأولى : انهم أهل كتاب سماوي.
الثانية : المتبادر هم اليهود والنصارى، وأدعى المجوس انهم عندهم كتاب وقد الحقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل الكتاب في الجزية.
الثالثة : بدأ الخطاب بذكرهم وتقديمهم على الأميين لوجوه :
الأول : لشرف الكتاب السماوي.
الثاني : لما عندهم من وجوه العلم.
الثالث : لتلقيهم البشارة بالنبي محمد بالتوراة والإنجيل واخبار الأنبياء السابقين.
الرابع : لأنهم أهل جدال واحتجاج كما يظهر في تردد اليهود على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله عن نبوته، وكذا النصارى كما في وفد نجران الذي نزلت هذه الآية بخصوصه.
الخامس : اهل الكتاب أقرب للإسلام وأولى من غيرهم بدخوله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما انهم اذا اسلموا فان كثيراً من المشركين يتبعونهم في اسلامهم.
قوله تعالى [وَالْأُمِّيِّينَ]
ثم ذكرت الآية الأميين وهو عنوان جامع بلحاظ الأمية وفيه وجوه :
الأول : لعدم وجود كتاب سماوي عندهم فانهم لا يفقهون شيئاً، ولا زالوا في طور الأمية.
الثاني : الآية ذم وتوبيخ لهم لتخلفهم عن مراتب الكتاب السماوي التي يجب على كل انسان ان يرتقي لها.
الثالث : لبيان ان الأمية لا تنحصر بعدم القراءة والكتابة، بل تشمل الجهل في الملة والعقيدة.
الرابع : الآية تشريف للمسلمين الذين لا يقرأون ويكتبون لبيان ان المدار في المعرفة والأمية على الإسلام والإيمان ومن لم يكن كتابياً فهو أمي.
الخامس : الملازمة بين الكفر والأمية، فمن كان مشركاً بالله فهو أمي وان كان يقرأ ويكتب.
السادس : كانت القراءة والكتابة قليلة عندهم، وان الأكثرية الغالبة منهم اميون يجهلون القراءة فجاء وصفهم بلحاظ الأكثرية.
السابع : المراد بالأميين أهل مكة، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( ).
وقد ورد عن ابن عباس وغيره انهم مشركوا العرب، وهو صحيح الا انه لا يعني الحصر بل من باب الموضوع الأقرب والأولى والا فان الآية خطاب لكل المشركين والكفار، فالآية تدل على رأفة القرآن بالناس وعدم ترك فريق منهم، بل انه يتودد اليه بالحكمة والحجة والبرهان ويتوجه اليه بالدعوة ويجعله يفكر في ذات نفسه بتخلفه عن وظائفه العقائدية ويشعر أنه ليس شيئاً بسيطاً، بل كيان اجتماعي له خصوصية ومقام بحيث ان الكتاب السماوي لم يغفله انما ذكره وخاطبه بالذات وحثه على الإرتقاء الى مسؤولياته لا لحاجة اليه بل لنفعه ونجاته في النشأتين.
وتبين الآية اتحاد ملة الكفر وان أهل مكة يمثلون نموذجاً مصغراً للكافرين في العالم عبر الأجيال المتعاقبة، وفيه تحذير للمسلمين في زمن النبوة والصحابة والتابعين وتابعي التابعين والى يوم القيامة من الكفار، بلحاظ ما فعله اهل مكة مع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتصديهم بعناد للدعوة الإسلامية وتوجيه الجيوش لمقاتلة المسلمين فالآية تأمر بابطال احتجاجهم وارشادهم الا الإسلام واستباق مرحلة القتال بالدعوة الى الله ربنا وربهم فليس بينهم وبين الإسلام الى زوال الغشاوة الظلمانية عن بصائرهم وادراكهم لوظائفهم ازاء أنفسهم وذراريهم.
ونعت المشركين بالأميين يبين الحاجة الى بذل الوسع معهم، ومخاطبتهم بما يناسب حالهم وتخلفهم الفكري وتمسكهم بعادات جاهلية ووثنية وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: انا معاشر الأنبياء أمرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم،
وهذا التبليغ جهاد في سبيل الله وهل هو من التسليم والإنقياد له تعالى الذي جاء ذكره في أول الآية الجواب انه أمر اضافي وعمل عبادي اضافي لذا تكرر لفظ (قل) في الآية لكي يزداد الثواب وتتعدد أبوابه ومناسبته.
وتبين الآية لأجيال المسلمين الأذى الذي كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودأبه في الجهاد وتبليغ الرسالة، وأيهما أكثر عناء على المسلمين في باب الإحتجاج أهل الكتاب ام الأميون، قد وردت مادة (حج) في القرآن عدة مرات وتشمل احتجاج اهل الكتاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والكفار مع الأنبياء واحتجاج الكفار وهم في النار بين الضعفاء والمستكبرين منهم.
وموضوع هذه الآيات من سورة آل عمران جاء بخصوص وفد نجران، وكل من أهل الكتاب والمشركين يقوم بالإحتجاج والجدال بطريقته ولغته، فمع ما في الآية من التقبيح للأميين لتخلفهم عن الملل السماوية فان الآية تدعو الى عدم إهمالهم او الإستخفاف بهم او تجاهل مسائلهم واشكالاتهم، بل تأمر بالعناية بهم في صيغ التبليغ والإنذار والوعيد.
ومن اعجاز الآية انها تطرح نظام العولمة والقرية الكونية الصغيرة بلحاظ الفرد الأهم في الحياة الدنيا وهو التبليغ ونشر الإسلام، فليس العولمة لإعتبارات اقتصادية او سياسية ونحوها، ولا لأغراض ثقافية وعقائدية غير كلمة التوحيد خصوصاً وانها بسيطة تنفذ الى شغاف القلوب وتخامر العقول وتجري في الدم والعروق، ولكن الغواشي والكدورات الظلمانية حجزت طوائف من الناس عن السياحة في بحبوبة نعيمها وجنانها.
فجاءت هذه الآية لتدعو المسلمين لإزاحة هذه الغواشي والوصول الى الكفار والمشركين للجامع المشترك بالأخوة الإنسانية والوظيفة العقائدية العامة وهي الإسلام والتسليم والإنقياد ويأتي الخطاب متعدداً في صيغه وكيفيته، فهو على ثلاثة أقسام :
الأولى : الخطاب لأهل الكتاب وهذا ينقسم الى ثلاثة أقسام الى اليهود والى النصارى لهم معاً مجتمعين.
الثانية : الدعوة والخطاب للمشركين والكفار، وهذا متحد ومتعدد بحسب الشأن والرأي وموضوع وأسباب الضلالة وكيفية كشف وازاحة الغشاوة.
الثالثة : الخطابات المشتركة لغير المسلمين مجتمعين، بالدعوة الى الإسلام، فأهل الكتاب يقولون بالتوحيد ويجحدون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اما المشركون فلا يقولون بالتوحيد، فيتعدد موضوع الخطاب وان كانت الغايات السامية متحدة، ومن المشركين من يلجأ الى أهل الكتاب لمعرفة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ابتلاء للفريقين، وأذى آخر للمسلمين، فمن لا يؤمن بالإسلام كيف يكون مصدراً لتقييمه ومعرفة أسراره وما فيه من الآيات.
ومن الإعجاز ان تجمع الآية أهل الكتاب والكفار في موضوع الدعوة الى الله، وفيه بيان لعظم المسؤولية ولزوم تنظيم الحملات الإعلامية والنشاطات الفكرية والعقائدية وتوجيه مؤسسات التبليغ بأفضل وأحسن الصيغ، وملائمة الحال ولحاظ ما عند أهل الكتاب من البشارات والإنذارات وما هم عليه من الضلالة والجهل والغفلة، بالإضافة الى التباين بين أهل الكتاب وبين ملل الكفار.
قوله تعالى [أَأَسْلَمْتُمْ]
استفهام تقريري لبيان لزوم دخول الإسلام والتساوي والإلتقاء مع المسلمين في كلمة التوحيد وطرد الشك وآفات الضلالة، وبينما جاء التعدد في أهل الكتاب والمليين جاء الخطاب الإجمالي بالتسليم موجهاً للجميع وبصيغة بسيطة واضحة خالية من التعقيد واللبس والوهم والترديد، فهذه الآية لا تجعل الكفار يلجأون لأهل الكتاب في مدى صدق نبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأن أهل الكتاب أنفسهم مأمورون بذات الشيء والخطاب متوجه اليهم بعرض واحد مع المليين والمشركين، فليس لجماعة او طائفة ان تدعي عدم شمول الخطاب لها.
وموضوع الآية والتسليم على وجوه:
الأول : الإنقياد والخضوع لأمره تعالى.
الثاني : دخول الإسلام والنطق بالشهادتين.
الثالث : التسليم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله والتصديق بالقرآن كتاباً نازلاً من عنده تعالى، واظهار القبول لأحكام الحلال والحرام في الشريعة الإسلامية.
الرابع : كف الأذى والشر عن المسلمين، واجتناب الجدل وصيغ الشك والريب، وكف الأذى هذا مطلوب بذاته كما انه فرع الإسلام.
الخامس : الإستسلام وقيام أهل الكتاب بدفع الجزية وامتناع الجميع عن مقاتلة المسلمين، والمقصود في الآية الوجوه الثلاثة الأولى مجتمعة، لقد اراد الله عزوجل للناس الإسلام والهداية وان يرتقوا فيكونوا بدرجة المسلمين في الإيمان والتصديق، وفي بلقيس ملكة سبأ ورد في التنزيل حكاية عنها [وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وشطر الآية التالية يبين المراد وان المقصود هو الإسلام.
وبلحاظ موضوع الإحتجاج هناك آيات منها:
الأولى : ان الجدل والإحتجاج متعدد الوجوه والجوانب ولكن الجواب واحد وهو اعلان انقياد وتسليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والمسلمين لله عزوجل وما نزل من عنده من الأحكام.
الثانية : المحتجون قليل، ولكن الدعوة للإسلام جاءت مطلقة وعامة، فيجب ان لا يقف المسلمون عند حال الدفاع المحدود والمقيد بموضوع الإحتجاج، بل ان رسالتهم عالمية لأن الخطاب التكليفي بالإسلام والإنقياد والخضوع لأوامره تعالى موجه للناس جميعاً، وعلى المسلمين تقع مسؤولية البلاغ الذي يتجلى بهذه الآية بصيغة الترغيب والترهيب، والبيان واقامة الحجة ورب انسان يعتبر من أعتى الكافرين ينتفع من مضامين الدعوة والإنذار في هذه الآية فيدخل في صفوف المسلمين ويحسن اسلامه، ويبقى من هو يظن انه قريب من الإسلام يراوح في مكانه ومقيماً على شكه وريبه وتردده الى ان يحين أجله، ولم يرد لفظ (أَأَسْلَمْتُمْ) الا في هذه الآية لتوكيد اهميتها في الدعوة الى الله، ويحمل الإستفهام التقريري نوع تحد لغير المسلمين، واخبار عن عدم الحاجة لهم، بل هم الذين يحتاجون الإسلام ولم يأت الا لنفعهم ونجاتهم في النشأتين كما تبين الآية عدم وجود فواصل زمانية وامهال في اعلان اسلامهم، لذا لم ترد الآية بصيغة المضارع بل جاءت بصيغة الماضي [أسلموا] ولغة الجمع فيها تؤكد على امكان دخولهم الإسلام جماعات وأفواجاً وأمماً.
قوله تعالى [فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا]
في الآية دلالات اعجازية منها:
الأولى : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتحصيل الهداية والرشاد عند الناس ومن يجحد فليس لإنتفاء المقتضي، بل لوجود المانع الذاتي عند بعضهم من العناد والإصرار على الكفر والجهل.
الثانية : الآية حجة على الكفار وهل هي توطئة للقتال الجواب لا، لأنها تقف عند حدود البلاغ والإنذار.
الثالثة : تبين الآية قوة وعز الإسلام وقدرة المسلمين على ايصال الدعوة الى الكفار والمشركين من غير خوف او وجل لأن الآية حصرت النتيجة بأمرين هداية الكفار او اعراضهم عن التبليغ.
الرابعة : لم تجعل الآية وسطاً وبرزخاً بين الهداية والضلال، وكذا في الآخرة فان الهداية تقود الى الجنة، والكفر والجحود يسوق صاحبه الى النار.
الخامسة : كفاية التبليغ وخطاب (أَأَسْلَمْتُمْ) بالإضافة الى جواب الإحتجاج والإنقياد الى أوامره تعالى.
السادسة : تدل الآية على تعدد الآيات والحجج وان قول (أَأَسْلَمْتُمْ) جاء لمنع التردد وعدم الإختيار بين الجنة والنار.
السابعة : غنى المسلمين وعدم حاجتهم للكفار والإخبار بان الإحتجاج والجدل لن يضرهم، واسلام الكفار يعود عليهم وعلى ابنائهم بالنفع قال تعالى [فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ] ( ).
الثامنة : ان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم [أَأَسْلَمْتُمْ] وتوثيق القرآن وترديده له أثر عظيم في العقائد وواقع المجتمعات اذا انه يزحزح الملل الأخرى ويجعلها غير مستقرة ويفضح ما فيها من الخلل والضلالة.
التاسعة : تبين الآية الملازمة بين الإسلام والهداية وعدم التفريق بينهما، وهذه الملازمة رأفة بالناس لمنع الجهالة والغرر فليس من طريق ثالث سواء في الدنيا او الآخرة، فطريق الإسلام والهداية غايته الجنة، وطريق الضلالة والإعراض عن دعوة الحق نتيجة النار.
والمراد من الإسلام هنا هو الإيمان والنطق بالشهادتين قال تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا]( )، والإنقياد والتسليم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بداية الإيمان ورسوخه في النفس قال تعالى [وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى] ( ).
وفي الآية تأديب وارشاد للمسلمين في سبل الدعوة وحث على اجتناب الإكراه والغلظة والتشديد، والإكتفاء بالإنذار والتبليغ اقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وامتثالاً للأمر القرآني، ولأن هذه الآية فيها مقدمتان:
الأولى: الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو انحلالي يشمل الأمة بأجيالها المتعاقبة.
الثانية: تشريع قرآني في كيفية التصدي لإحتجاج الكفار وأهل الريب ثم الإنتقال من الإحتجاج بالحسنى الى دعوتهم للهداية والرشاد.
لقد جاء اهل الكتاب وغيرهم للإحتجاج والجدل والمنازعة وطلب الدليل في حصر الدين عند الله بالإسلام وعدم قبول العبادات بغيره من الملل، فاجيب على احتجاجهم باللجوء اليه تعالى والثبات على الإسلام ودعوتهم لدخوله وخرجوا بنتيجة واحدة وهي اقتران الهداية باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهل كان احتاجهم وجدلهم نفعاً لهم أم يتضمن الأضرار بهم، الجواب انه نفع محض لأنه مناسبة لإصلاحهم وازلة الغشاوة عن بصائرهم ودعوة لهم للتدبر بالآيات الباهرات التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عنده تعالى.
ومن الآيات موضوع الإحتجاج هذا، جاءوا لإيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في محاولة لإرباكهم وبعث الشك في نفوسهم، فتلقاهم النبي والمسلمون بالإخبار عن الثبات على ألإسلام والدعوة الى الإلتحاق بهم، وهذا الثبات وحده دعوة ابتدائية للإسلام وترغيب بدخوله.
وترسخ الآية الإيمان في صدور المسلمين وتبعث السرور في نفوسهم لأنهم استطاعوا تلمس دروب الهداية وسابقوا الى النطق بكلمة التوحيد واختيار الإسلام.
قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا]
لقد قدمت الاية الهداية على التولي والإعراض وفيه وجوه:
الأولى : ان الهداية هي الأصل والوظيفة الشرعية والعقلية لكل انسان.
الثانية: تبعث الآية على الأمل باسلام الكفار.
الثالثة : تقديم الأحسن والأفضل تفاؤلاً.
الرابعة : في الآية اخبار عن حصول الهداية عند شطر من أهل الكتاب والكفار والتصديق بنزول القرآن من عنده تعالى.
الخامسة : في الآية دعوة للمسلمين لعدم اليأس من الكفار.
السادسة : في الآية اخبار عن حصول الهداية لشطر منهم من غير احتجاج لأن الآية وردت بفعل الأمر (قل) والقرآن كله خطابات تكليفية وندب للإيمان.
قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا] يقال (ولى الشيء وتولى: اذا ذهب هارباً ومدبراً) ( )، وتولى عنه اذا أعرض.
أظهرت الآية الوجه الثاني لكيفية رد أهل الكتاب والكفار على الدعوة الى الإسلام، وهذا الوجه سلبي يضر بصاحبه والناس الآخرين، لأنه عنوان الجحود، نعم فيه اخبار على الأمن منهم وكأن التبليغ والإنذار ادى وظيفة مركبة من أمرين:
الأول: هداية شطر من الكفار.
الثاني: اجتناب شرور وأذى الكافرين لإنشغالهم بأنفسهم واكتفائهم بالإعراض عن الدعوة مع ما فيها من الآيات فلو كانت الدعوة خالية من الآيات فقد لا يكتفوا عند الإعراض والتولي بل يبذلون الوسع للتخلص منها باستهزاء وسخرية، اما دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاءت بالآيات والبراهين فمن لم يؤمن بها يبقى يلوم نفسه على تخلفه عن الإسلام مع رؤية الآيات وهذا اللوم واقترانه بتجلي الآيات واقبال الكثيرين على الإسلام يجعله ينشغل عن المسلمين وايذائهم، فتتسع دائرة الإسلام والكافر باق على كفره،
وتظهر الآية عز المؤمنين وصدق الدعوة الإسلامية لأن الكافر لم يبق على احتجاجه واثارته للشكوك، بل يختار الإدبار وهو نوع هزيمة وتراجع، وبذا فان المسلمين هم الذين تغلبوا على عدوهم بالإحتجاج، ومن مراتب الجدل ان ينتزع احد الطرفين من خصمه الإعتراف والإقرار بالمقدمات التي تنقض قوله.
والتولي هنا من الكافر اذعان وتسليم بحقيقة التوحيد وعجزه عن مواصلة التحدي واثارة الشبهات، وهل يمكن ان يدخل في التولي استمرار بقائه على الإحتجاج والتشكيك، الجواب نعم، لأن الآية حصرت الموضوع باحدى نتيجتين اما الهداية واما التولي ولكن جعل الإحتجاج ضمن افراد التولي يعتبر هزيمة له وعدم وجود تأثير له لأنه أصبح في حال الهروب والإعراض والذي يهرب لن يكون مهاجماً، فحتى لو بقى على احتجاجه فلا تأثير لهذا الإحتجاج كما انه يختلف في موضوعه ومنطلقه.
لقد اثبتت هذه الآية قدرة المسلمين على تأليف قياس جدلي من المشهورات والذي يتكون من:
الأول: كلمة التوحيد وهي حقيقة ثابتة في الوجود الخارجي والذهني وأمر معروف حتى عند الوثنيين والمشركين وهذا من أسرار الخلق.
الثاني: التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونبوته صلى الله عليه وآله وسلم أصبحت من البديهيات لأن الكتب السماوية السابقة بشرت بها وأخبرت عنها، وللآيات التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم علة التصديق لتخبر عن الدعوة الى النبوة وان نزول القرآن من عند الله حق، فشهرة النبوة ليست امراً قائماً بذاته بل هي امر عرضي مترشح عن صدق الرسالة وان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو نبي آخر الزمان الذي بشرت به التوراة والإنجيل.
فلم ينتصر المسلمون على الكافرين في الجدل الا بالحق والصدق والآيات التي تكون مقبولة عند العقلاء، وبذا تمكنوا من افحام الخصوم وانقسامهم الى قسمين مهتد يلتحق بالمسلمين ويدخل في الإسلام، وآخر يبقى على كفره ولكنه يهجر الإحتجاج واللجاج ويبقى مصراً على الكفر فيتخلص المسلمون من أذاه وعدائه.
لقد فضح هذا الإحتجاج ملل الكفر والضلالة وفق صيغ المقارنة والقياس بين الملل وما يسمى في علم المنطق (المشهورة بالقرائن)، فالمقارنة بين الإسلام وغيره وحصر الإحتجاج به بيان لتخلف الملل الأخرى عنه، ليبقى الإسلام هو موضوع الإحتجاج والجدل لأن المسألة العقائدية المطروحة هي حصر الديانة الحق، وقبول العمل العبادي بالإسلام وبقيت على حالها من دون معارض او مزاحم، وتشتت قوى الإحتجاج والجدال وتجلت قوة الإسلام فالقرائن والشواهد تدل على انفراد الإسلام بالآيات وظلت هذه الآيات مستديمة بالقرآن واعجازه وتوالي استظهار كنوزه واستخراج درره المناسبة لتقلبات الأحوال والتغيرات الحاصلة في المجتمعات.
وقوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا] ذم للكفار وتقبيح لإصرارهم على الكفر والضلالة يتضمن الإنذار والوعيد، وقرب ساعة هزيمتهم وخسارتهم، فهي حث للمسلمين على ملاحقة لكافرين ودعوتهم للإسلام لأن التولي عنوان التراجع والهروب والإنهزام ولكنه مقرون بالصدود والإعراض، وفي الآية بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام التنزيل بسيادة أحكام الإسلام وتأسيس قواعد تؤكد صدق نزوله من عند الله، وتساعد في ميادين الإحتجاج.
فهذه الآية من الآيات الإحترازية لحفظ القرآن والذب والدفاع عنه وهو من الإعجاز الغيري للقرآن وفيها بيان لإنتصار المسلمين في المنتديات العلمية وعدم خشيتهم من مواجهة الإشكالات والشكوك وبامكان ادناهم وأقلهم علماً ان يحتج بمقدمتين:
الأولى: الإنقياد والإنقطاع الى الله،
الثانية: ودعوة الطرف الآخر للهداية ودخول الإسلام،
وليس في الأمر من خسارة لأن النتيجة تكون على وجوه وهي :
الأول : بقاء المسلم على اسلامه وتجديده العهد للنطق بالشهادتين واعلان صدق الإيمان واتباع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : كف الأذى والتخلص من الجدل والمغالطة اللفظية والمعنوية ودفع اذى اهل الريب والشك.
الثالث : ازاحة الموانع دون اسلام فريق من الناس ممن يقع تحت سلطان اهل الجحد والجدل.
الرابع : هداية جماعات وطوائف ودخولهم الإسلام لإنحصار سبل الرشاد والنجاة في الآخرة به.
الخامس : هروب وانهزام اهل العناد والجحود وانحسار ضررهم وكفاية شرهم بعد تهيئة الفرصة لهم لبيان ما عندهم ورده بمسائل بسيطة ظاهرة كالشمس.
السادس : ازالة أسباب الخوف من صدور المسلمين من الجدل والإحتجاج وتسلحهم بالإيمان وانتقالهم بيسر الى منازل الهجوم والدعوة الى الإسلام وعدم بقائهم في حال الدفاع، وتولي الكفار أعم من انحصاره بموضوع الإحتجاج.
السابع : التولي والهرب من الجدل والإحتجاج على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثامن : الرضا والقبول بدفع الجزية بالنسبة لأهل الكتاب كما في وفد نصارى نجران فانهم رضوا بدفع الجزية بالإحتجاج وطلب المباهلة، واستعداد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والتحدي وتفويض الأمر الى الله عزو جل هو من أفضل مصاديق تسليم الوجه لله عزوجل والإنقياد لأمره سبحانه، وخروج علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام معه للمباهلة هو المصداق الأمثل لقوله تعالى [وَمَنْ اتَّبَعَنِي].
التاسع : التولي والهروب من فرقهم وأصحابهم ومن دفعهم وأرسلهم للإحتجاج ومواجهة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالإشكال والشك والريب.
العاشر : في الآية دلالة على ان من لم يهتد لا يبقى على حاله من الجحود بل يقدح الحق في نفسه ولو بقليل من النور يزحزح الشرك عن منازله ويمنع من استحواذه على القلب على نحو السالبة الكلية.
الحادي عشر : التولي والهروب عن منازل الرئاسة لقوى الضلالة والجدل، والعزوف عن الحياة العامة وهي نتيجة لإنشغاله بنفسه، ففي الآية اخبار بان من لم يختر الهداية ينشغل بنفسه ويحاول اصلاح حاله.
الثاني عشر : التولي والإعراض عن مفاهيم الكفر والجحود وهجران الجدل والشك والريب.
الثالث عشر : هذا التولي مقدمة للهروب والهزيمة عند حصول القتال والمواجهة مع المسلمين، لعدم وجود قضية عند الكافر يقاتل من أجلها، وتلك من مقدمات الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الرابع عشر : من وجوه التولي الإعراض عن ذكره تعالى واستحقاق العذاب والعقاب.
الخامس عشر : الآية بشارة بمجيء قوم يستجيبون لدعوة الإسلام ويكونون ممن مدحتهم هذه الآية لإختيارهم الهداية والرشاد.
قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]
في الآية تخفيف عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وانحصار السعي بايصال الحجة واقامة البرهان في اعلان كلمة التوحيد ودعوة الناس للإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيها اخبار عن اتخاذ الإحتجاج الذي اراده وسعى اليه الكفارمناسبة للتبليغ برسالة الإسلام وهداية الناس الى سبل الرشاد، وهو من الأدلة على صدق الدعوة ووجود الحجج الت تدل على سماوية القرآن والا كيف يأتي أهل الإحتجاج جماعات وأفراداً بعد الإستعداد الجماعي للإحتجاج وتهيئة مسائل النقض فيرجعون وقد تخلوا عن الإحتجاج وأسقط ما في ايديهم ولم يكن امامهم الا احد طريقين:
الأول: دخول الإسلام بعد اقامة الحجة عليهم.
الثاني: الهزيمة والإعراض عناداً واصراراً تخفيف ورحمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بان جعلت التكليف خاصاً بالبلاغ وهل هذه الخصوصية مطلقة بجميع وجوه الرسالة الجواب لا، فالقدر المتيقن منه هو الإحتجاج والدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى فرض اطلاقه فان البلاغ اعم من ان ينحصر بالكلام والإحتجاج كما انه صيغة للعمل ضمن مراحل الجهاد والسعي لإقامة الشعائر وتثبيت أركان الإسلام ويعتبر التبليغ من اهم وظائف الأنبياء، اذ يقومون بدعوة الناس الى التوحيد بصيغ البشارة والإنذار، ولغة الوعد والوعيد لحتمية اللقاء الأخروي ووقوف الناس للحساب وانقسامهم الى فريقين، فريق صدق الأنبياء فيأخذه الملائكة الى الجنة وفريق تولوا وعصوا فيسوقونهم الى النار، والبلاغ هو افضل الوسائل لنجاة الناس من عذاب النار واقامة الحجة على المشركين والكافرين، ومن نعمه تعالى ان رزق الإنسان عقلاً يتلقى خطابات التكليف، ويأتي البلاغ بعدة وجوه منها :
الأول : آيات القرآن وتلاوتها على الناس.
الثاني : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث : اداء الفرائض كالصلاة والزكاة والصوم والحج ودعوة الناس لأدائها، فلا يمكن ان ندعو الناس للإسلام واداء العبادات من غير تقيدنا والتزامنا بها.
الرابع : اعلان التسليم والإنقياد لأمره تعالى.
الخامس : لغة الإحتجاج واقامة البرهان على صدق نزول القرآن من عنده تعالى.
السادس : اعلان كلمة التوحيد وضرورة اخلاص العبادة لله، وعدم اتخاذ الشريك او الند له في الربوبية.
السابع : الآيات العقلية والحسية التي يأتي بها الأنبياء، لأنها حجة دائمة تلح على اولي الألباب وتدعوهم للإيمان.
الثامن : العبر والمواعظ والدروس العامة والخاصة.
التاسع : الآيات الكونية وساعات الإبتلاء والحرج التي يشعر فيها الإنسان بالوحدة والقربة مع كثرة الأنصار ووجود الأهل والأقارب، فانها بلاغ وتذكير بلزوم الرجوع الى مقام الربوبية ويمكن تقسيم البلاغ الى أقسام فمنه:
الأول : البلاغ العام وهو التوجه الى الناس جميعاً وهو القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ] ( ).
الثاني : البلاغ الخاص بالإنذارات والإبتلاءات الشخصية.
لقد أكدت الآية على وظيفة التبليغ وأنها الأصل في النبوة لذا سمي النبي رسولاً لأنه يأتي من عند الله وهذه الرسالة أرقى مضامين التبليغ والتبليغ منطلق لمصاديق متعددة اخرى من وجوه الدعوة الى الله عز وجل وهو وسيلة لإظهار الحجة واقامة الدليل ومعرفة الناس بالنبوة، وتبين الآية أهلية الإسلام لأن يكون هو الديانة الحقة لأن البلاغ عنوان الإرتقاء العقائدي ومن كان صادقاً في دعواه فانه يصل بالتبليغ الى الغايات السامية.
ومن مفاهيم الآية ان الإنقطاع الى الله والإخلاص في العبادة بلاغ ودعوة الى الله، وتمنع الآية من التشديد على النفس وتبين للمسلمين عدم الإلحاح وكثرة الإنشغال في دعوة الكفار الى الإسلام والإكتفاء بالبلاغ المقرون بصدق العبادة والإنقياد لأوامره تعالى، فقوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]( )، يعني في دلالته على التوجه للناس جميعاً في التبليغ وعدم الوقوف عند أهل الإحتجاج فمن الناس من يتلقى الدعوة الى الإسلام بالفطرة، والإسلام ملائم للفطر السليمة.
والمراد من البلاغ في الآية تبليغ الناس كافة والوصول الى الملل والنحل المختلفة والآية وان جاءت بلغة الخبر الا انها تتضمن الأمر بالتبليغ ودعوة الناس الى الإسلام لوجود المقتضي وفقد المانع وجاء البلاغ بصيغة الإطلاق من غير تقييد بفئة دون أخرى او ملة دون أخرى بالإضافة الى قرينة انحصار الدين الحق بالإسلام وان الله عزوجل يريد من الناس عبادته والتصديق بانبيائه.
(وانما) تفيد الحصر، وهذه الآية تدل على عدم اكراه الناس على الإسلام وفيه وجوه:
الأول : صدق النبوة واخلاص العمل لله تعالى.
الثاني : كفاية الآيات التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هداية الناس وارشادهم الى سبل النجاة.
الثالث : وهل يتعلق البلاغ باهل الجدل والإحتجاج ام انه مطلق، الجواب هو الأخير.
الرابع : البلاغ وظيفة الرسل جميعاً ومسؤولية كل نبي، قال تعالى [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
الخامس : تظهر ألآية دعوة المسلمين للإقتداء بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين في تبليغ الرسالة والأحكام وعدم الإفراط او التفريط، الإفراط بترك التبليغ والتفريط بصيغ الإكراه.
السادس : في الآية اخباربان البلاغ متعدد المضامين والوجوه ومنه صيغ الإحتجاج والجدل واقامة البرهان والبشارات والإنذارات ولغة الوعد والوعيد.
وبينما جاء ذكر الكفار بصيغة الجمع، جاء الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلغة المفرد مما يدل على انبساط الدعوة والبلاغ النبوي ليشمل الكفار كلهم فيكون البلاغ فيها مركباً من وجوه هي:
الأول: البلاغ من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الناس في زمانه، على نحو مباشر وشخصي كما في أهل مكة والمدينة.
الثاني: قيامه صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ الى أهل الكتاب في زمانه وهذا على شعب:
الأولى: البلاغ المباشر مع أهل الكتاب كما في يهود المدينة المنورة والجواب على اسئلتهم،
الثانية: البلاغ والإجتماع مع اهل الكتاب الذين يأتون الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في وفد نصارى نجران.
الثالثة: الرسائل والكتب والرسل الذين ببعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى أمراء وملوك اهل الكتاب، كما في ارساله دحية الكلبي الى ملك الروم.
الثالث: البلاغ الى القبائل والأمصار والناس جميعاً.
الرابع: بلاغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله الى الرفيق الأعلى بما جاء في القرآن، وبسنته المباركة وهذا من آيات النبوة، فوظائف النبي لا تنقطع بوفاته بل هي باقية باثاره ورسالته، فقوله تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ] في كل زمان ومكان، وتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستمر ومتصل.
الخامس: تبليغ المسلمين وجهادهم في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واقتداؤهم بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الفرد من التبليغ مستمر الى يوم القيامة.
بحث منطقي
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار صراع بين الحق والباطل، ونفرة بين الصدق والكذب وبينونة عزلة بين ألإيمان والكفر، لكل واحد من الطرفين خصائصه ومفاهيمه فلا تتداخل مفاهيم احدهما مع الآخر ولا تتجاذب مقومات كل منهما مع الثاني بل ان التضاد والتنافي قائم بينهما ليكون الإنسان على بينة فيما يختار، ويستطيع التمييز واتباع سبل النجاة، وتارة يكون للناس مشارب مختلفة متفاوتة في منازل الحق والباطل ويحصل جمع من كل من المتضادين، وتظهر لفريق منهما عيوب صاحبه ويغفل عن عيوم مبادئه،
ويحصل الجدال بينهم ويكون الناس فريقين احدهما على الحق والآخر على الباطل، ولكن صاحب الباطل لا يعترف بما هو عليه من الضلالة والخطأ، ويجادل صاحب الحق عن اصرار وعمد او عن جهالة وغفلة، فالجدل وجه من وجوه المنازعات بين الناس، كل فريق يؤلف قياساً ويسعى لجذب الناصر ويبذل وسعه للمحافظة عليه، ويحاول ابطال وهدم ما يقوله الطرف الآخر، ويأتي بالدليل والبرهان لبيان صحة قوله او لتأبيده وافحام خصمه.
والبرهان هو الوسيلة والحجة لتحصيل المطلوب وبلوغ الغاية واسكات الخصم، وقد يتعذر البرهان اوا نه لا يكون موجوداً من وجوه:
الأول : اتحاد البرهان عند الفريقين فكل منهما يستدل بذات الحجة والبرهان ويكون النزاع في الصغرى والفرع فيتجه الى الجدل.
الثاني : عدم بلوغ السامع مرتبة فهم البرهان، او ان مقدماته غائبة عن ادراكه كما لو لم تكن مشهورة او متواترة فيلتجأ الى الإستعانة بمقدمات مشهورة بصيغة الصناعة الجدلية كبديل وعوض عن البرهان.
الثالث : العجز عن الإتيان بالبرهان، مع انه أفضل سلاح ولكن عدم الأهلية للمناظرة وضبط قواعدها يحول دون استحضار وتوظيف البرهان، فينصرف الى الجدل.
الرابع : قلة التحصيل العلمي، وعدم الإرتقاء الى مراتب اقامة البرهان التي تحتاج الى ملكة وتمرين للذهن وسرعة بديهية وفطنة للإستدلال على المطالب فيلجأ الى صناعة الجدل.
والبرهان قياس مؤلف من اليقينيات وقضايا واجب قبولها ويوصل الى التصديق ويميز الصحيح من الفاسد، والحق من الباطل لأن نتيجته تفيد الجزم والقطع، اما الجدل فهو قياس مؤلف من المشهورات او المسلمات والغرض منه صرف الخصم عن مذهبه سواء بالحجة او الشبهة او الشغب ولا يكون الا في تنازع او خصومة، وينقسم القياس الى البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة وتسمى (الصناعات الخمس) فيقال مثلاً صناعة البرهان، أو صناعة الشعر.
وقد يكسب الجدلي تأييد السامعين او نفر منهم مع انه لم يأت الا بشبهة او ما يفيد الظن، بسبب قصور خصمه صاحب الحق عن ادراك مقدمات البرهان.
لذا جاءت هذه الآية الكريمة للإرتقاء بالمسلم الى درجة اقامة البرهان على ثبوت التوحيد وصدق نزول القرآن من عنده تعالى وعدم الإلتجاء الى الجدل والتصدي لأهل الباطل حينما يختارون الجدل واثارة الشبهة وأسباب الشك، وفي الآية تلقين للبرهان وتظهر صحته وصدق واقامة الحجة على الكفار لأنهم اما ان يؤمنوا او يسلموا او يتولوا، والتولي عنوان الإفحام والإنهزام.
قوله تعالى [وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]
وردت خاتمة الآية هذه ثلاث مرات في القرآن فقد جاء قبل خمس آيات في بشارة بالجنة وما فيها من النعم والأنهار والأزواج المطهرة، وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والترغيب [قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ] ( ).
وجاءت هنا بالوعيد لمن تخلف عن الإستجابة لدعوة الحق، في مؤمن آل فرعون [وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] ( )، وفيه لجوء الى الله تعالى والمقارنة تظهر عز الإسلام والإرتقاء في صيغ الدعوة الى الله ببعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم التي تمثل انعطاف في تأريخ الملل والعقائد في الأرض وكيفية الدعوة الى الله فبعد بعثته صلى الله عليه وآله وسلم لم يعد المسلمون يخافون القوم الظالمين في الإحتجاج والتبليغ، بل أصبح التبليغ علنيا ًوهو يدل على ظهور الإسلام ومنعته وقوته وهذه الصيغة من الدعوة والتبليغ أسسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء في آيات القرآن وصارت سنخية ثابتة في الأرض لا يحتاج أو يضطر المسلمون الى التراجع عنها.
وقيام المسلمين بالتبليغ دلالة على اعلان الإيمان وعدم اخفائه، لذا كان الإسلام هو الديانة الباقية الى يوم القيامة فمن وجوه التكامل في الشريعة اعلانها وعدم ابقائها خفية مستورة لأن الخفاء يعرض الشريعة للإنحسار او التحريف والتغيير ويجعلها بمستوى الجهاد الفردي كما في مؤمن آل فرعون، ويمنعها من الإتساع والإنتشار.
وفي الآية وعيد وتخويف وتحذير من الإعراض عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الإسلام، وفيها مواساة له وللمسلمين على جحود الكافرين، واخبار عن احاطته تعالى علماً بالأشياء وأفعال العباد حاضرة عنده تعالى، وان البلاغ وصيغ البشارة والإنذار كافية في تثبيت دعائم الإسلام واقامة الحجة على الناس وفيها ذم للكافرين واخبار ضمني بعدم اضرارهم بالإسلام وان الله تعالى يكفي المسلمين ويقيهم شرهم وأذاهم.
ونعت الناس بصفة (العباد) اكرام لهم وتذكير بصفة العبودية وبشارة هدايتهم ورشادهم، وفيه حث على التصديق بالتنزيل والنبوات واخبار بان التبليغ رحمة عامة بالناس قال تعالى [وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( )،
وخاتمة الآية لا تتعلق بالجاحدين والكافرين الذين يولون منهزمين من دعوة الحق، بل هي شاملة للجميع ففيها وعد كريم للذين يستجيبون لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعونه في الهداية والإنقطاع الى الله تعالى.
بحث بلاغي
من البديع خلو ألفاظ الهجاء من الفحش ويسمى (النزاهة) لأن الكلام لس فيه جرح وسوء مع ظهوره في الذم ومن منافعه انه خال من القبح الذاتي ولكنه يتضمن اللوم والذم لأهل القبح مما يدل على ارادة الإصلاح والرشاد منه، لذا تردده الألسن من غير تردد ولا تشعر بوجود ما يجعلها تنفر منه.
ومنه قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا] فالتولي عن الحق قبيح ويستحق الذم، ويدل على الفرار من دعوة السماء والإعراض عن آيات التنزيل بجحود وكفر بعد الإحتجاج، ولكن الآية لم ترتب آثاراً على أثر الإحتجاج والبرهان بزيادة الذم بل ذكرت التولي مجرداً خالياً من الشتم، والقرآن كله خال من الشتم والفاظ الفحش.
ومن البديع ايضاً (العنوان) وهو ان يتكلم في غرض وعلم مخصوص، ولكي يتم موضوعه يأتي بأمثلة تكون بياناً وتأكيداً، او قصة من اخبار الماضين او خبر أو واقعة لتكميل الكلام ويفيد تقريب الكليات المدركة بالأمثلة الحسية القريبة واستحضار المطالب في الوجود الذهني عند السامعين مع اختلاف المدارك والأوهام.
ومنه في باب العلوم مثلاً استدل بقوله تعالى [انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ] ( )، وانه عنوان علم الهندسة لذكره المثلث وهو شكل هندسي معروف عند الناس، وارادت الآية الإستخفاف بأهل النار والإخبار عن رؤية الآيات وانعدام الظل مع السعي اليه.
وجاء في هذه الآية عنوان لعلم الكلام والإحتجاج والجدل وفيه مسائل:
الأولى : أخبرت الآية بان أهل الكتاب وغيرهم يقومون بالإحتجاج وانهم يبادرون ويلجأون اليه.
الثانية : وهذا الإحتجاج منهم يأتي رداً على اعلان انحصار الدين بالإسلام ولكنه خلاف الأصل الذي هو الإستجابة للأمر الإلهي وأحكام الشريعة السماوية.
الثالثة : الآية من عمومات قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( )، فما داموا قد أحتجوا فلابد من رد احتجاجهم بالبرهان والحجة الناطقة.
الرابعة : لقد تمادوا في العناد فجاءوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمجادلته وهو يرى الملك يهبط عليه بالتنزيل، مما يدل بالأولوية القطعية انهم سيجادلون المسلمين من بعده حكاماً وفقهاء وعامة بحكم الإختلاط في التجارات والزراعات والصناعات والسفر والحضر والجواب ونحوها، فجاءت الآية دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتعليم المسلمين قواعد الجدل والإحتجاج وما عليهم من اظهار الإنقياد التام للأمر الإلهي، وهذا الأظهار يمكن ان يحسنه كل مسلم وان لم يعرف قواعد وفنون صناعة الجدل.
الخامسة : من الآيات انه أقترن بدعوة اهل الكتاب والمشركين الى الإسلام والإنقياد لحكم القرآن، مما يعني ان قوله تعالى [أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ليس امراً سلبياً واعراضاً عن الجدل واكتفاء بتثبيت حقيقة شرعية ذاتية فقد جاء في الآية بقوله تعالى [أَأَسْلَمْتُمْ] في استفهام تقريري وانكاري في وقت واحد، كما تبين الآية المذاهب السائدة، وتذكر التفصيل والفصل بين أهل الكتاب والمشركين الذي تصفهم بالأميين في تعريض وذم لهم ولأهل الكتاب في آن واحد، وهذا من الإعجاز ان يصف المشركين بالأميين ويكون تعريضاً وذماً لأهل الكتاب، فكأن الآية توجه اللوم لأهل الكتاب وتخاطبهم بانكم مع ما عندكم من العلم والكتاب تكون بعرض واحد مع المشركين في الإحتجاج المتفرع عن الشك والريب والضلالة.
السادسة : من الآيات ان تأتي الدعوة للإسلام عامة، لا تفرق بين كتابي وأمي، وقد يبادر الأمي الى الإسلام ويتخلف الكتابي، او يحصل العكس، ولم تقل الآية [ فان تسلموا] استمراراً لصيغة الخطاب، بل اتجهت نحو الإلتفات في الإصطلاح البلاغي وهو الإنتقال من لغة الخطاب الى الغائب والأمر لا يقف عند المفهوم البلاغي بل له دلالات عقائدية فان اختيارهم الإسلام نفع لهم، وان المسلمين في غنى عنهم ولا يحتاجون اليهم ولا يخشون كيدهم، لأن حصر الآية لفعلهم وعاقبة احتجاجهم وجدلهم بأمرين اما الإسلام والتسليم لأحكام التنزيل وان الدين عند الله هو الإسلام واما التولي والفرار مما يعني خزيهم وعجزهم وعدم الخشية منهم وبعد الخطاب والإنذار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين جاء الحكم الإلهي كقاعدة كلية.
وقد جاءت آيات بالإحتجاج وأخرى بالجدال، ولا يعني تأويلهما بالتعريف الإصطلاحي المستحدث لهما من معنى احتجاجهم انهم أقاموا البرهان والدليل، بل يكونان أحياناً بمعنى، ويعرف الإحتجاج بالبرهان او عدمه بالقرائن والأمارات وموضوع الإحتجاج، وتفيد الآية انهم لم يأتوا ببرهان او بينة واضحة بدليل اقامة الحجة عليهم وجذبهم للهداية او البقاء على العناد والجحود والضلالة.