بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي له القدرة المطلقة والتدبير والإرادة النافذة الذي جعل الأشياء جميعها مستجيبة لمشيئته وصل الله على محمد وآله وسلم،
لقد تفضل سبحانه وجعل العالم مظهراً لجلاله وجماله وأسمائه وصفاته ودليلاً على ربوبيته ولزوم عبادته، ووعاء مكانيا وزمانياً للتسليم بما جاء به الأنبياء من عنده، ولكن الناس على مشارب متباينة في كيفية تلقي الأوامر الإلهية وأحكام الحلال والحرام وأسرار التنزيل.
فجاءت الآيات ( 21- 31) من سورة آل عمران اللآئي تضمنها هذا الجزء من التفسير , وهو الثالث والخمسون لبيان اضرار الجحود بالقرآن وتفويت فرصة الإيمان به وسط التوكيد الإلهي على عائدية الملك له في الدنيا والآخرة , وتتفرع عن الملك القدرة على الحساب وادخال الصالحين الجنة، والكافرين النار جزاء وعقاباً، ونزل القرآن بالحث على حب الله تعالى , وتطهير القلوب وامتلائها بالفضائل والمقاصد الحميدة التي تتجلى بالضياء الذي تبعثه حروف وكلمات القرآن لما فيها من الهداية واصلاح النفوس والمجتمعات وهي عنوان العز والغنى والثروة قال تعالى [وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ].
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] الآية 21
الإعراب واللغة
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)
ان: حرف مشبه بالفعل، الذين: اسم ان، جملة يكفرون صلةالموصول.
بآيات: جار ومجرور، وهو مضاف، اسم الجلالة: مضاف اليه.
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)
الواو: حرف عطف، يقتلون: فعل مضارع معطوف على يكفرون، والواو فاعل، النبيين: مفعول به منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم، بغير حق: بغير: جار ومجرور، وهو مضاف، حق: مضاف اليه مجرور بالكسرة.
(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ)
ويقتلون: عطف على ما تقدم،
الذين: مفعول به، يأمرون: جملة فعلية متعلقة بالذين.
بالقسط: جار ومجرور.
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
الفاء: رابطة للجواب لأنها واقعة في جواب شبه شرط، وهي حرف عاطل لا عمل له.
بشرهم: بشر: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والضمير الهاء: مفعول به، والج ملة خبر ان، اليم: صفة لعذاب.
في سياق الآيات
بعد الأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعلان انقطاعه والمسلمين الى عبادة الله تعالى والتسليم لأمره تعالى، جاءت هذه الآية تذم الكافرين الذين لم يقفوا عند حدود الكفر بل تجرأوا على النبوة وفعلوا اشد الأعمال قبحاً اذ قاموا بقتل الأنبياء والمؤمنين الذين يدعون الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فجاء وصف القتل بانه بغير حق .
جاءت الآية السابقة بصيغة الإحتجاج والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه المسلمون إذ ورد فيها لفظ(قل) مرتين:
الأولى : تأكيد إنقطاع المسلمين لله عز وجل، وإتخاذ هذا التأكيد موضوعاً للاحتجاج، وفيه مدرسة في الجدال بأن يكون تأديباً وإصلاحاً ودعوة إلى الله عز وجل.
الثانية : الأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى الإيمان، ومجئ هذه الدعوة بصيغة الإستفهام والبيان.
وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية، ويتعلق موضوعها بالفائت من الأجيال والأشخاص الذين أصروا على الكفر وتعدوا على الأنبياء وقتلوا عدداً منهم وأنصارهم وأتباعهم وهم قائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما أختتمت هذه الآية بقوله تعالى[وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] أختتمت الآية التالية بالوعيد للكفار قال تعالى[فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] وهذا العذاب فرع علم الله تعالى بما يفعل الناس في الدنيا وشاهد على حقيقة وهي أنه بصير وعالم بأفعال العباد بمعنى إحصاء أفعالهم وجزائهم عليها في الآخرة.
إعجاز الآية
جاءت الآية بلغة الانذار والوعيد ولكنها تتضمن الاخبارعن التعدي والظلم الذي لاقاه الانبياء ويتعرض له المؤمنون الذين يعملون الصالحات، وفيها توثيق لما يفعله اعداء الاسلام وتعديهم على المسلمين وإتصافهم بالاخلاق الذميمة وصيغ محاربة كلمة التوحيد في الارض، وتقسم هذه الآيات الناس الى فريقين، مؤمنين وكافرين، ونوع الصراع بينهم وان الكافرين هم الذين يعتدون ويظلمون، ولايقف هذا التعدي عند حدود الاحتجاج بل يقومون بقتل اهل الحق والايمان، وفي الآية تحد مركب للكفار، بدوام الدعوة الى الله، وبالوعيد بالعذاب للجاحدين بالنبوة.
وفي الآية مسائل :
الأولى : حث المسلمين على الصبر على أذى الكفار، وقد قام مشركوا قريش بالزحف بجيوش عظيمة على المدينة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، ولكنهم خسروا وخابوا، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثانية : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والإغتيال، ونعمة توالي نزول آيات القرآن كلها.
الثالثة : بيان حاجة أهل الأرض لقيام دولة الإسلام، وأصابة الكفار بالوهن ومنعهم من الوصول إلى مقامات الحكم والإمارة، وعدم تعدي الأفراد من أهل الضلالة على مقام النبوة، ومع هذا فقد أراد المنافقون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة قال: رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قافلاً من تبوك إلى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق مَكَرَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق ، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خبرهم فقال : من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة .
وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه شيئاً ، فأمر عمار أن يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة بسوقها .
فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر حذيفة أن يردهم ، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه محجن ، فاستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضرباً بالمحجن ، وأبصر القوم وهم متلثمون لا يشعرون إنما ذلك فعل المسافر ، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه .
فأسرعوا حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أدركه قال : اضرب الراحلة يا حذيفة وامشِ أنت يا عمار ، فأسرعوا حتى استووا بأعلاها ، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة : هل عرفت يا حذيفة من هؤلاء الرهط أحداً؟ .
قال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان ، وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل علمتم ما كان شأنهم وما أرادوا؟ .
قالوا : لا والله يا رسول الله . . . ! قال : فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا طلعت في العقبة طرحوني منها . قالوا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم؟ قال : أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمد وضع يده في أصحابه فسماهم لهما ، وقال : اكتماهم( ).وتذكر الآية خصالاً مذمومة وهي :
الأولى : الكفر بآيات الله .
الثانية : قتل النبيين بغير حق .
الثالثة : قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس .
ويحتمل وجوهاً :
الأول : إتحاد الفاعل ، وأن ذات الكفار يقومون بهذه الأفعال مجتمعة ومتفرقة .
الثاني : كل فعل وخصلة من هذه الخصال تقوم بها طائفة من الكفار .
الثالث : من الكفار من يقوم بهذه الأفعال القبيحة مجتمعة ، ومنهم من يقوم ببعضها .
الرابع : ذكرت هذه الأفعال من باب المفرد الأهم والأشد قبحاً .
والصحيح هو الثالث والرابع لتدل الآية في مفهومها على حرمة المؤمن وزجر قريش عن قتال المسلمين والزحف عليهم بجيوش عظيمة ، وعلى تقدير أن العذاب الأليم لا يختص بالاخرة وانه يشمل الدنيا فان من مصاديق العذاب الأليم نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهزيمة الكفار شر هزيمة في معركة بدر وأحد والخندق ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ويمكن ان تسمية هذه الآية بآية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) وهذا اللفظ لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تبعث الآية اليقظة والإحتراز في نفوس المسلمين، وتدعوهم للحذر من الكفار والمشركين الذين لايترددون في محاربة الاسلام وصد المسلمين عن تبليغ الاحكام الشرعية، وفيها اخبار عن وجود من يكفر بالآيات، فمع ان البراهين الكونية والذاتية تدعو الى التصديق بالآيات والتسليم بالنبوات فان الكافرين يصرون على الجحود، ويتمادون في الغي، فاستحقوا العذاب الاليم ، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
ومع أن موضوع الآية قصص الأمم السابقة فقد جاءت بصيغة الفعل المضارع لقوله تعالى[وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ] والفترة بين آخر الأنبياء السابقين وهو عيسى عليه السلام وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة سنة، مع أن عيسى لم يقتل بل رفعه الله عز وجل إليه، نعم قتل يحيى وكان ابن خالته وفي زمانه وفي بشارة زكريا قال تعالى[يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ، وأنه كاد أن يبطىء بها .
فقال عيسى : إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ، فإما تأمرهم وإما أن آمرهم ، فقال يحيى : أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب ، فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ ، وقعد على الشرف فقال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وأمركم أن تعملوا بهن . أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق فقال : هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده ، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وأن الله أمركم بالصلاة ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت ، وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجبه ريحها ، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ ولفوا يده إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه .
فقال : أفدي نفسي منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم ، وأمركم أن تذكروا الله ، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى به على حصن حصين فاحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله( ).
وجاءت صيغة المضارع وفيه وجوه:
الأول : موضوعية نظم الآية وإبتدائها بالموضوع الأعم والمتجدد في كل زمان إلا أن يشاء الله ، وهو وجود طائفة من الكفار إذ إبتدأت بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] وبعد ذكر الآية لقتل الكفار للأنبياء ذكرت قتلهم للذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
الثاني : بيان الحكم والجزاء الذي ينتظر المجرمين والكفار والذين إعتدوا على الأنبياء.
الثالث : بيان مصداق الشهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، قال تعالى[وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء]( ).
مفهوم الآية
تبين هذه الآيات اختيار المسلمين للرد على الاحتجاج بالبرهان واعلان الايمان والتسليم بالآيات والدعوة الى الله ولكن الكافرين يصرون على الجحد والكفر، ولم يكتفوا بهذا الاصرار بل يعلنون الحرب على الاسلام.
وقد ورد في الآية السابقة قوله تعالى[فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ولكن هذه الآية تخبر عن امر آخر لاحق للتولي والاعراض والصدود واكثر ضرراً منه، فالتولي يضر الكفار انفسهم، اما هذه الآية فتخبر عن الاضرار العام للكفر بقيام المشركين بقتل الانبياء والذين يدعون الى الله ويعملون الصالحات، فهولاء الكفارلا يكفي معهم البلاغ , ولابد من التصدي لهم دفاعاً عن كلمة التوحيد وطلباً للنجاة من شرهم وكيدهم واذاهم.
لقد اراد الله عزوجل للاسلام والانقياد لاوامره تعالى البقاء في الارض وابى هؤلاء الا محاربة الدعوة الى الله فلابد اذن من حتمية المواجهة واللقاء دفاعاً عن الاسلام وعن النفس
حينما يرى المسلم الآيات يبادر الى التصديق بها ويحسن اتباعه للانبياء وان كان قبلها بمنازل الكفر والصدود، ويظن ان غيره لايختارالا ما اختاره ولا يقابل الآيات الا بالتصديق والايمان لانها موافقة لادراك العقل، ولقيام الحجة والبرهان، فيركن الى الامان ويحب للناس مايحب لنفسه من الهداية وسبل النجاة في الآخرة، فجاءت هذه الآية لتخبره عن حقيقة في ذات النفس الانسانية واثر نزغ الشيطان على طائفة من الناس وميلهم الى الصدود والتعدي على المسلمين.
وتدعو الآية المسلمين لاخذ الحيطة والحذر وعدم وضع السلاح، ولان وظيفتهم تقتضي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكافرون لايرضون الا بقتلهم، كما تبين ما لاقاه الانبياء من العناء والاذى والظلم والتعدي من قومهم واهل زمانهم، يأتون بالآيات فيقابلهم الناس بالكفر وعدم التصديق ولم يرضوا بهذه الحال،
والأصل في فلسفة الحياة الدنيا استئصال الكفر، وعرض الكافرين على السيف اما الاسلام واما القتل، ولكن الكافرين هم الذين يواجهون الانبياء بالصدود والقتل ثم يرجعون على من بقي من اتباعهم وانصارهم ممن صدق بالآيات ليقضوا عليه لالشئ الا لانهم يأمرون بالعدل والانصاف، ويحث على اجتناب الظلم والنجاة في الآخرة فلابد من قوة وجهاد لاعادة نواميس الحياة الدنيا الى الاصل وجعل كلمة الله هي العليا واحتراز المسلمين من كيد الكافرين فمتى ما عرف المسلم، ان اختياره التسليم لامره تعالى والتصديق بما جاء به الانبياء يعرض حياته للخطر، ويكون سبباً للتهديد.
وتلقي الاذى من اهل الضلالة وجنود الباطل فانه يستعد للقاء ويحترز من الاعداء، وهل تكون هذه المعرفة سبباً بالعزوف عن الاسلام وترك اتباع الانبياء والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب لا من وجوه:
الأول : رؤية الايات والتسليم بها يجعل الايمان سخية راسخة في النفس.
الثاني : الاقرار بالمعاد واليوم الآخر يجعل الجنة هدفاً وعلة غائية في الاختيارونوع الفعل.
الثالث : حرمة الارتداد بعد الاسلام.
الرابع : امكان التصدي للكفار ومحاربتهم خصوصاً مع رجحان كفة المسلمين برؤية الآيات الباهرات.
الخامس : المواظبة على العمل الصالح يزيد عدد المسلمين ويجعلهم الاكثر والاقوى.
السادس : تعدي الكافرين ليس مطلقاً، بمعنى انهم لايستطيعون قتل كل مؤمن يدعو الى الله , وتدل عليه خاتمة الآية [فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] لما فيها من الاخبار عن القدرة على تبليغهم رسائل الانذار والتخويف، وفيها ذم وذل وهوان لهم في الدنيا كمقدمة لعذاب الاخرة.
لقد اظهرت الآية خسارة الكافرين بالآيات النازلة، وان الجحود لا نفع او فائدة فيه بل هو شر محض، وفيه اضرار بالذات والغير وافساد في الأرض لذا يستحق صاحبه العذاب الشديد، وقد ذكرت الآية اجتماع الخصال القبيحة عند الكافر وهي :
الأول : الكفر والجحود بالآيات بمعنى انه لم يكفر لجهله او عدم علمه بل انه رأى الآيات وتيقن منها لانها في ذاتها برهان قاطع.
الثاني : الجحود بما جاء به الانبياء من عند الله مع ان قرائن التصديق تصاحب دعوتهم لان من خصائص النبي ان يأتي بالمعجز السالم عن المعارضة والذي يجعل الناس يدركون صدق الدعوة لما فيه من الامر الخارق للعادة.
الثالث : قتل الانبياء والرسل الذين بعثهم الله لاصلاح البشرية واعمار الارض بذكره تعالى.
الرابع : ليس لهذا القتل من سبب الا الاصرار على الكفر والضلالة لذا قيده الآية بانه (بغير حق).
الخامس : عدد الانبياء محدود في كل زمان كما ان النبوة اختمت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واهل الايمان اعم من الانبياء واكثر عدداً ومسكناً وزماناً، فاظهر الكفار مواصلة التعدي على أصل الايمان واتباع الانبياء.
السادس : لم يقف هذا التعدي عند حد معين من الاحتجاج والصدود والنقض والطرد والعكس بل بلغوا اقصى اسباب العتو فاستحقوا الغضب الالهي.
افاضات الآية
تدعو الآية الى الصبر، والاستعداد لتحمل اشق الاذى في جنب الله وتبين فضله تعالى على المسلمين في النجاة من بطش الكافرين اذ اصبح المسلمون امة قوية قادرة على حفظ ثغورها ورد الاعداء عن التعدي على الحرمات، فالانبياء قادة الامم واشرف الخلق ولم يأتوا الا للاصلاح والرشاد ومع هذا تعرضوا للقتل بغير حق، واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتنعمون بالاسلام واداء الفرائض وان كانوا معرضين للاذى والتعدي والقتال،
لقد جاء اول الآية ببيان ظلم الكافرين واضرارهم وجاءت خاتمتها بابلاغهم بما ينتظرهم من العذاب بمعنى انهم لن يستطيعوا وقف تنامي الايمان وانتشار الاسلام وتعاهد الناس للفرائض والاحكام.
فالآية وان اخبرت عن اذى وكيد يحيط بالاسلام الا انها تضمنت البشارة بالنصر ودوام العز ولم تختتم الا وقد بينت حال الآخرة وعليه المدار لان الامور بخواتيها،
وما في الآية من الوعيد للكافرين يدل في مفهومه على الوعد الكريم للمؤمنين بالجنة والغبطة والسعادة التي يبدو معها الاذى الذي يلاقونه من الكفار قليلاً وهيناً وتلقيه مناسبة للاجر والثواب العظيم مما يجعل المسلمين يواظبون على الدعوة الى الله عزوجل وتعاهد قيم الاسلام مع الحذر والحيطة التي تدل عليه هذه الآية.
موضوع الآية
روي عن أبي عبيدة ابن الجراح قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يامرون بالقسط من الناس إلى قوله ومالهم من ناصرين ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عبيدة قتلت بنو اسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحد فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بنى اسرائيل فامروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله( ).
والحديث يدل على ان موضوع الآية قضية في واقعة الا ان الحكم باقِ مع تجدد الموضوع وفيه اخبار عن حصول احداث هذه الآية على دفعة واحدة في اصرار على الكفر وبلوغ اقصى مراتبه باقترانه بالظلم والقتل محاولة لمنع تمكن الايمان وانتشاره في الارض، ولكن النتائج بخلاف ما فعله الكفار، فعدو اتباع الانبياء ازداد في الارض وانحسر الكفر والجحود، واصبحت تلك الواقعة قصة تبين جهاد الانبياء واولياء الله وصبرهم وعناءهم في جنب الله، وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ، خصوصاً مع وجود مصاديق الموضوع في افراد الزمان الطولية.
واخرج عن ابن عباس قال: بعث عيسى يحيى في اثنى عشر رجلا من الحواريين يعلمون الناس فكان ينهى عن نكاح بنت الاخ وكان ملك له بنت أخ تعجبه فارادها وجعل يقضى لها كل يوم حاجة فقالت لها أمها إذا سألك عن حاجتك فقولي حاجتى أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال الملك حاجتك قالت حاجتى أن تقتل يحيى بن زكريا فقال سلى غير هذا قالت لا أسألك غير هذا فلما أبت أمر به فذبح في طست فبدرت قطرة من دمه فلم تزل تغلى حتى بعث الله بختنصر فدلت عجوز عليه فالقى في نفسه ان لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفا فسكن( ).
التفسير
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ]
في الآية تقسيم للناس بلحاظ الإيمان بالآيات والكفر بها، والأصل في الإيمان هو الإيمان بالله تعالى والإقرار بالوحدانية، ولكن الآية جاءت بذكر آياته تعالى وعدم التصديق بها، لأن الكفر بالآيات جحود وتكذيب بها كما ورد قوله تعالى [كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ] ( )، وجاءت الآية بصيغة المضارع، وفيه وجوه :
الأول : يحمل الكلام على ظاهره وفيه اخبار عن حصول التكذيب على نحو مستمر بعد نزول القرآن، ووجود من يكذب بالقرآن والتنزيل.
الثاني : مجيء المضارع وارادة الزمن الماضي بلحاظ القرائن والآيات الأخرى، قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ] ( )
الثالث : دلالة الآيات على حصول الكفر بالآيات قبل الإسلام، ووجود طائفة من الناس يكفرون بالآيات بعد نزول القرآن، مع ان الحجة على القسم الأخير أكبر للشواهد والآيات والبراهين القاطعة بنزول القرآن من عنده تعالى واجتماع الآيات العقلية والحسية ايام الأنبياء السابقين وايام البعثة النبوية المباركة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاثة، والآية شاملة لها جميعاً، وفيها توثيق للجحود وجاء ذكر الآيات باعتبار انها قريبة من الناس، وذات صبغة عقلية وحسية، وان الإيمان بالله يستلزم الإقرار بالآيات، كما ان الإيمان بالآيات مقدمة للإيمان بالله تعالى فلا يمكن التفكيك في مضامين الإيمان.
والكفر بالآيات مع تعددها باب لذم الكافر وتقبيح فعله، وجاءت الآية بصيغة الجمع في الكافر (الذين) وفيه اخبار عن كثرة الكافرين وهذه الكثرة على شعبتين:
الأولى: الكثرة في العدد.
الثانية: التعدد في طوائف وجماعات الكافرين وانهم على مذاهب شتى يلتقون جميعا بسنخية وصفة الكفر.
وكلا الوجهين من مصاديق الآية في تحذير جماعي لهم، وتنبيه المسلمين من كيد الكافرين ولزوم اليقظة واخذ الحائطة من الكافرين وعدم الإستخفاف بأمرهم،
فقد يؤمن الإنسان ويفرح باختياره ويرى البراهين والآيات الدالة على صدق النبوة، فلا يبالي بما حوله لأنه يدرك الملازمة بين الكفر والجهل، ولكنه يغفل عما يدور حوله من الكيد والمكر فتأتي هذه الآية لتخبره عن كثرة الكافرين واستعدادهم للشر.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (آيات) ولم يرد اللفظ بصيغة المفرد والتعدد رحمة اضافية منه تعالى من وجوه :
الأول : قد يغفل الإنسان عن الآية الواحدة او ينشغل عنها.
الثاني : ربما يتسرب الى نفسه الشك والوهم بالآية الواحدة , فتترى الآيات لتدفع الشك.
الثالث : في التعدد علاج للنفس الإنسانية ورضا لها.
الرابع : الله عز وجل هو الواسع الكريم، يأتي بالآيات تباعاً.
الخامس : تعدد الآيات حجة دامغة على الكافرين.
السادس : كثرة الآيات تعدد في افراد الإعجاز.
السابع : كلما ازداد عدد الآيات، تهيأت للمسلمين فرص أخرى للإحتجاج واقامة البرهان.
وجاء لفظ الآيات بصيغة الجمع، مما يدل على الكثرة ومن الآيات :
الأولى : الآيات الكونية ونسبة خلقها الى الله تعالى.
الثانية : نزول القرآن وتعدد آياته البالغة (6236) آية، والقرآن آية في نزوله واعجازه وموضوعاته وأحكامه وسننه وامتناعه عن التغيير والتحريف، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( ).
الثالثة : فرائض العبادة كالصلاة والصوم والحج وأسرار وفلسفة كل واحدة منها قال تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ( )، أي من الآيات ما هي متجددة حاضرة تختص بعالم الإنسان وحياته اليومية والعبادية.
الرابعة : بعثة الأنبياء والمرسلين، وهذه الآية تنحل بعدد الأنبياء وهم مائة وأربعة وعشرون الف نبي.
الخامسة : توالي النعم منه تعالى كنعمة نزول المطر والنبات واتصال أسباب الرزق والمعيشة.
السادسة : آية الشمس والقمر والنظام البديع لتعاقب الليل والنهار.
السابعة : الآيات الذاتية الخاصة بخلق الإنسان وهيئته وسمته.
الثامنة : اقبال المؤمنين على الفرائض واقرارهم بالتوحيد والنبوة فهذا الإقرار آية من عنده تعالى ان جعل عباده يرون بصائر الهدى ويختارون الطاعة والإمتثال للأوامر الإلهية، وكل واحد منهم دعوة دائمة للناس للإقتداء به.
التاسعة : بديع الخلق في السماوات والأرض، وتعدد الآيات فيها وتوالي ظهور آيات مستحدثة غائبة عن مدارك الناس، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا] ( ).
العاشرة : المعجزات التي جاء بها كل نبي من الأنبياء لإثبات نبوته , قال تعالى [سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ] ( ).
وتظهر في الآية نسبة مجيء الآيات لبني اسرائيل لإكرامهم واعانتهم على الإيمان ولتكون كل آية حجة عليهم، لذا جاءت الآية السابقة بالإحتجاج على الكفار.
الحادية عشرة : انتصار المسلمين في المعارك مع قلة عددهم وعدتهم، وقوة شوكة عدوهم، كما في طالوت وأصحابه اذ نصرهم الله على القوم الظالمين، وفي معركة بدر انتصر المسلمون مع قلتهم وثبتت اركان الإسلام في الأرض الى يوم القيامة.
وهل المراد الإطلاق في الكفر ام كفاية الكفر ببعضها وصدق الكفر على من يكفر ببعضها، الجواب ان الوظيفة الشرعية تقتضي الإيمان بالآيات على نحو العموم الإستغراقي وعدم الكفر بأي آية من آيات الله، فلا يجوز مثلاً الإيمان بشطر من الأنبياء دون الشطر الآخر، بل لا يصح الكفر بنبوة نبي واحد من الأنبياء لذا فان الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة من ضروريات الإسلام وهو الدين عند الله عز وجل.
والآية خطاب قرآني عام لا يشمل الناس جميعاً فهو ذم للكافرين ولكنه ارشاد للمسلمين واخبار وثائقي خالد بوجود جاحدين بآيات الله وهؤلاء الجاحدون موجودون في كل عصر وزمان، فمن يولد على الإيمان عليه الإستعداد لمواجهتهم بالقول والفعل او الإحتراز منهم، وعدم الإغترار بهم او التأثر بما يبثونه من الشك والريب،
ومجيء الآية بصيغة المضارع (يكفرون) وصيغة الجمع تحذير ودعوة للوقاية من الكافرين واخبار عن اصرار فريق منهم على الجحود.
قوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ]
تعتبر الآية شاهداً سماوياً ثابتاً على اكبر تعد وظلم يشهده تأريخ الإنسانية على نحو القضية الشخصية بقتل رسل السماء، وقد جرت عادة الملوك والسلاطين والأمراء على اكرام الرسل وان كانوا اعداء والحرص على اعادتهم الى مأمنهم بعد تبليغ الرسالة وان كانت تهديداً ووعيداً، وتعتبر الإساءة الى الرسول أمراً مشيناً ونقصاً في المروءة، اما الأنبياء فهم رسل الله عز وجل الملك الجبار الذي تفضل بخلق الإنسان وبعث فيه الحياة ورزقه من الطيبات ثم دعاه الى عبادته وهي العلة الغائية لخلقه، وكان الناس ولا زالوا أزاء دعوة الأنبياء على أقسام وهي :
الأول : الإستجابة والإمتثال، وهو مقتضى الوظيفة الأخلاقية والشرعية.
الثاني : التحقيق في الإعجاز والآيات التي جاء بها الأنبياء ثم الإستجابة واظهار مضامين الطاعة ويلحق بالأول أعلاه.
الثالث : الجحود والكفر واظهار العناد.
الرابع : البقاء على الغفلة والجهل والقصور ويلحق بالجحود والعناد.
الخامس : اظهار التحدي والإصرار على الكفر والقيام بالتعدي هذا على أقسام منها:
الأولى : ما يتعلق ببذل الأموال لمنع دخول الناس في الإسلام والإستجابة للأنبياء.
الثانية : اظهار الكفر والفسوق باللسان والمواجهة الدعائية والإعلامية.
الثالثة : تحريض الناس على عدم الإستجابة للنبي سواء بالإصرار على البقاء على الكفر او بالإكتفاء بالشريعة السماوية المنسوخة.
الرابعة : محاربة الإسلام بالسلاح.
الخامسة : التعدي على المؤمنين والذين يتبعون النبي.
السادسة : الفتك بالمسلمين وتعذيبهم وقتلهم.
السابعة : قتل الأنبياء وعدم الوقوف عند تكذيبهم [فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ]( ).
وهذا القسم هو اشدها وأقساها على ملائكة السماء وأهل الأرض، وهو الذي تذكره هذه الآية، ومن الآيات في القرآن انه لم يسكت عن هذه المسألة او يذكر الأنبياء بصفة المؤمنين فحسب خشية اثارة أسباب الشك والتساؤل بان النبي مثلما جاء بمعجزة فلماذا لا تكون له واقية سماوية تحفظه من القتل والتعذيب بل أخبر عن الواقع والحوادث التي لاقاها الأنبياء لبيان ما لاقوه من الأذى والعذاب والإبتلاء في جنب الله، وليكونوا أسوة صالحة للمسلمين وسبباً مباركاً للجهاد في سبيله تعالى وتحمل المؤمنين أعباء مسؤولية الرسالة بعد انقطاع النبوة، فكل مسلم هو وريث للأنبياء ويحتمل مواجهة ذات المصير الذي لاقاه الأنبياء وأصحابهم، فالآية جملة خبرية ولكنها انشائية في مضمونها ومدرسة عقائدية في مفهومها.
وقد ورد شطر الآية أعلاه ثلاث مرات في القرآن اثنتين بذات اللفظ [يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ] ( ) وواحدة بلفظ الأنبياء وجميعها في سورة البقرة وآل عمران، كما ورد قوله تعالى [وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ] بصيغة الماضي في سورة آل عمران مما يدل على اعتبار موضوعها عقائدياً ولأن أكثر قتل الأنبياء كان عند بني اسرائيل كما تقدم في موضوع الآية.
وجاء الفعل (يقتلون) بصيغة المضارع وليس من نبي أوان نزول الآيات الا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، ومع هذا جاءت بصيغة المستقبل ,وفيه مسائل :
الأولى : مجيء الفعل المضارع وارادة الزمن الماضي.
الثانية : انصراف الخبر الى الماضي بحصر الموضوع به قهراً وانطباقاً.
الثالثة : حضور وقائع قتل الأنبياء لما فيه من الظلم والتعدي على المسلمين في كل زمان.
الرابعة : رضا الكفار ايام نزول القرآن بما فعله آباؤهم فصح نسبة الإضافة لهم.
الخامسة : ارادة الموضوع والدوافع النفسية والسجايا التي تبعث على هذا الجرم وانها موجودة عند الكفار في كل زمان، فلو كان الأنبياء موجودين في هذا الزمان لفعلوا بهم ما فعلوا بالأنبياء السابقين.
السادسة : في الآية اخبار ضمني عن ارادة قتل الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحذير للمسلمين منه، وهناك شواهد عديدة تؤكد حدوث محاولات اغتيال متعددة لشخص الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلك المحاولة مصداق للآية الكريمة وصيغة الفعل المضارع فيها لكفاية القصد والنية والعزم.
السابعة : فيها اخبار عن تفضله تعالى بعصمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه من تعدي الكفار عليه، ونجاته من عزمهم على قتله، خصوصاً وان ارادة قتله بدأت منذ ولادته والى حين اعلانه النبوة واثناءها ولم تنحصر بفريق دون آخر من الكفار، واستمرت تلك التعديات الى حين انتقاله الى الرفيق الأعلى في ابتلاء وأذى اضافي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جهاده وأيام نبوته.
الثامنة : تحذير المسلمين وبعث روح اليقظة والإنتباه فيهم، ودعوتهم للحرص الشديد على شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يمثل الأنبياء جميعاً، فكل الأنبياء تمثلوا بشخصه الكريم فهو خاتم الأنبياء , وبه أنقطعت النبوة والرسالة فلا غرابة ان يكون عنده كل ما عند الأنبياء واجتماع علوم النبوة عنده توكيد على تفضيله وحيازته للكمالات الإنسانية والمقام المحمود.
التاسعة : قد ورد موضوع قتل الأنبياء بصيغة الماضي , قال تعالى [وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ] ( ).
العاشرة : الدنيا ليست ملكاً للكفار او أنهم يعملون فيها ما يشاءون فلابد لتعديهم وطغيانهم لا يستطيعون تجاوزه، ولقد أراد الله عز وجل حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتمام رسالته وتبليغ آيات القرآن كاملة التي نزلت خلال ثلاث وعشرين سنة او نحوها، بل ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت لوقف عملية قتل الأنبياء وتثبيت حقيقة اعجازية كونية وهي ان الله عز وجل قادر على ان يخلص وينجي الأنبياء من الكفار، ولكن تعديهم بالقتل حجة عليهم في الدارين وعبرة وموعظة , وفيه اجر عظيم للأنبياء ودرس للمؤمنين لأخذ الحيطة والحذر وعدم التهاون مع الكفار.
الحادية عشرة : يعرض الإيمان الإنسان للقتل من باب الأولوية، فاذا كان الكفار يقتلون الأنبياء مع مجيئهم بالآيات التي هي نوع حصانة وحجة لهم، فمن باب أولى ان يقوموا بالتعدي وقتل المؤمنين سواء في حياة النبي وأيام التنزيل أم بعدها فجاء الفعل بصيغة المضارع للإخبار عن ارادة الكفار قتل المؤمنين في كل زمان ومكان.
الثانية عشرة : لقد كان للآية وموضوعها نفع عظيم، وأظهر المسلمون الحرص على حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومن غير أن يتعارض هذا الحرص مع الحصانة الذاتية لشخص النبي، وانه كان محروساً من الملائكة.
الثالثة عشرة : تبعث الآية الخوف والفزع في قلوب الكفار.
الرابعة عشرة : الآية ذم للكافرين لما فيها من الإخبار عن قبيح ما يفعل الكافرون.
الخامسة عشرة : تعتبر الآية من علوم الغيب وفيها اعجاز قرآني، خصوصاً وان الإنسان بطبعه يميل الى انكار قتله للنبي، بادعاء ما يلي :
الأول : انكار نبوته وانه ليس بنبي.
الثاني : ان النبي لم يقتل بل مات على الفراش.
الثالث : دعوى ان اصحابه واتباعه هم الذين قتلوه.
الرابع : قتل النبي جاء خطأ وسهواً وانه ليس المقصود بالقتل.
الخامس : لا يعرف قاتل النبي خصوصاً وان قتل الأنبياء تم بطرق مختلفة ومتعددة، ويأتي احياناً غيلة وخفية.
الأولى : الآية من آيات الوعيد ليس بخاتمتها فحسب، بل هذا الشطر وحده [وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ] وعيد وانذار.
الثانية : الآية دعوة للإصلاح وخطاب للكفار في أيام التنزيل وما بعده لنبذ التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثالثة : في الآية زجر عن الإشارة لأشخاص الأنبياء وسيرتهم الذاتية، ودعوة لإجتناب تشويه الحقائق عنهم او نفي نبوتهم، وارادة المعنى للأعم من الآية.
الرابعة : تخبر الآية عن الظلم الفادح في اختيار الكفر والعناد والجحود، وعدم الوقوف عند الكفر بل ان الإنسان يطغى ويتمادى في الكفر ويبلغ ذروته بالتعدي على الأنبياء.
الخامسة : هل يمكن النظر للقتل بمعناه المجازي وهو محاربة شرائع الأنبياء ومحاولة طمس آثارهم، الجواب ان الآية نص صريح بقتل الأنبياء وإزهاق أرواحهم والشواهد التأريخية تؤكد وقوع القتل فلا حاجة لصرف اللفظ الى المعنى المجازي وتعطيل ما فيه من المضامين والحقائق.
وورد الألف واللام في (النبيين) وظاهره الإستغراق ولكنه يدل على العهد، وارادة البعض، وفيه اشارة الى انهم قتلوهم بصفة النبوة، وتعدوا عليهم وهم يعلمون انهم مبعوثون من عنده تعالى، وفيه تشريف للأنبياء وثناء عليهم حتى في حال وقوع القتل وانهم لم يتخلوا عن مبادئ النبوة ولم يجزعوا، بل تلقوا القتل وهم معلنون لنبوتهم غير متخلين عنها، ولم يغادروها الا ساعة القتل صبراً او نحوه، فأستحقوا المدح وثبوت صفة النبوة في النشأتين، لقد قتل الكفار عدداً من الأنبياء بصفة النبوة فكأنهم قتلوا الأنبياء جميعاً، لأنهم قتلوا الأنبياء في زمانهم، وكما ان الوظيفة الشرعية تقتضي الإيمان بكل الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي , فكذا يعتبر قتل النبي وكأنه قتل لجميع الأنبياء لعظيم الذنب والجرم، فجاءت صيغة الجمع والإطلاق للوزر الكبير في التعدي على موضوع وأحكام النبوة، بالإضافة الى الإشارة الى عزمهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل يعتبر قتلهم بالمؤمنين هو المراد من قتلهم النبيين لأنهم أتباع الأنبياء، الجواب لا، فالآية ذكرت الأنبياء على نحو التعيين والخصوص، والشواهد تدل عليه والمؤمنون ذكروا في الشطر التالي من الآية، نعم تدعو الآية المؤمنين للصبر والتحمل والتأسي بالنبيين وعدم ترك منازل الإيمان عند ملاقاة صنوف التعذيب، والتعرض للقتل، فمن الإقتداء بالأنبياء الصبر حال تلقي الظلم والأذى بأقسى أنواعه في جنب الله.
قوله تعالى [بِغَيْرِ حَقٍّ]
قيد اعجازي يدل على دقة اللفظ القرآني وخلوه من الثغرة التي قد يستغلها الكفار , ومن الآيات ان هذا القيد ورد في المرات الثلاث التي تكرر فيها هذا الشطر من الآية , وهو اعجاز اضافي لمنع التأويل الخاطيء والشك والريب ولإتمام الحجة على الكافرين ومن هو على نهجهم من المتأخرين خصوصاً وان الآية باقية الى يوم القيامة، وحصول تحريف في بعض الكتب السماوية مما قد يسيء الى سمعة الأنبياء، فقد يستغل هذا التحريف لتشويه الحقائق.
وهذا التشويه اذى اضافي للأنبياء فمع اخلاصهم في الدعوة الى الله واعلان نبوتهم وجهادهم وقتلهم من قبل الكفار، يأتي من يضع اللوم عليهم ويصرف الأنظار عن موضوع قتلهم الى الإفتراء عليهم ليجعل الناس ينشغلون بمتابعة اخطاء الأنبياء المزعومة، وفيه انتقاص من مقامهم الأمر الذي يؤثر سلباً على تبليغ آيات القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته عند الناس فجاءت الآية للإخبار عن حقيقة تأريخية، وفيها حصانة للنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وواقية لنبوته وللمؤمنين، وتساعد الآية بالدلالة الإلتزامية على منع الإفتراء على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وان قتل الأنبياء لم يكن مجرداً وأمراً مستقلاً على نحو محض، بل له مقدمات منها :
الأول : التحريض على قتلهم.
الثاني : تكذيب الآيات التي جاءوا بها.
الثالث : الدخول في معارك مع النبي وأتباعه.
الرابع : الإئتمار والإفتراء وتهيئة الأذهان للتخلص من النبي.
الخامس : ان دعوة الأنبياء للإصلاح وظهور إماراته بانقياد المؤمنين له، يدفع من غلبت عنده النفس الشهوية والغضبية وحب للذات الى البطش والإنتقام.
وتقسم الآية القتل الى قسمين:
الأولى : القتل بغير حق، كما في قتل الأنبياء والمؤمنين.
الثانية : القتل بالحق كما في القصاص، وقتل الكافر المحارب، أي ان الكفار الذين قتلوا الأنبياء يستحقون القتل لمحاربتهم للإسلام فضلاً عن تعديهم على مقام النبوة، ومن يرضى بفعل الكافرين هل يستحق القتل ايضاً الجواب لا، لأن المدار على الإشتراك بالقتل مباشرة او تسبيباً، ولا اعتبار في الحكم الشرعي واقامة الحد للرضا القلبي او القولي، نعم يمكن ان يعزر ويؤدب على اظهاره الرضا بالقتل، كما ان العقوبة الأخروية أشد وأقسى بالنسبة للذي يرضى بقتل الأنبياء ومن الإعجاز ان قيد (بغير الحق) عنوان لكسب الأنبياء لود عامة الناس وانجذابهم اليهم فيما وقع عليهم من الظلم، وهو من فلسفة انتشار مبادئ النبوة وزيادة عدد الأنبياء، وفي التأريخ شواهد كثيرة منها ما هو حاضر كما في مسألة السيد المسيح عليه السلام.
ان هذا القيد القرآني شهادة سماوية على بلوغ الكفار أقصى درجات العتو والظلم والظلم والحاجة الى تأديبهم وردعهم، ووقف تعديهم لأنهم أصبحوا يهددون كيان الإسلام ودعائم الإيمان، وهو تنبيه للمسلمين في لزوم أخذ الكافرين بقوة وعدم التهاون معهم لأنهم لا يقفون عند حد من حدود الأذى للمسلمين، لقد أرادت الآية بيان حقيقة تأريخية وهي ان الكفار يحاولون قتل كل مسلم على هوية الإيمان ومن غير سبب شخصي كما انها واقية من الإفتراء على المسلمين، والتعدي عليهم مع ادعاء صدور الخطأ والزلل،
وتثبيت قيد [بِغَيْرِ حَقٍّ] دعوة لرجال القانون لبيان أدلة الجناية وفق الشريعة واي قانون وضعي من قوانين الأرض، لأن الآية وردت بمخالفة القتل للحق سواء الحق وفق موازين الشرع او العقل او الأعراف السائدة، وفي الآية اخبار عن حاجة الناس للضوابط القانونية والقضائية التي تحكم الصلات والمعاملات بين الناس بما يمنع من التعدي والظلم والقتل بغير الحق، وهذه الضوابط تجدها في القرآن وأحكامه ومنها القصاص والحدود الشرعية وتبين ضرورة سيادة أحكام الإسلام واكرام الأنبياء ومنع الإفتراء عليهم وتشويه سمعتهم مع انهم أفنوا أعمارهم لتخليص الناس من براثن الكفر والجحود.
وقيد [بِغَيْرِ حَقٍّ] تنزيه للأنبياء حتى في ساعة القتل، واخبار عن عصمة الأنبياء وعدم فعلهم ما يؤدي الى القتل وفق أي قانون او قواعد او حكم سماوي او وضعي وفيه دفاع عن الله عز وجل عن الأنبياء حتى في ساعة قتلهم واخبار بانه سبحانه لم يتخل عنهم لأنهم مبعوثون بالحق،
لقد ضيع الكفار عن أنفسهم فرصة للهداية ومنعوا عن الأرض بركة ملكوتية تتمثل بحضور النبوة والوحي وكانوا في سعة من أمرهم، ولم يكتفوا بالكفر والجحود وليس من حق لهم عند الأنبياء، وتدعو الآية الى التثبت في موضوع القتل والإحتياط في الدماء وعدم اللجوء الى القتل الفردي او النوعي بغير الحق وبسبب الإختلاف المذهبي والتباين في الرأي وتحذر من التعدي على المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن تجرأ على النبوة وقتل الأنبياء فليتدارك ويلتفت الى جرمه ويتجنب قتل أتباع الأنبياء.
قوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ]
قرأ حمزة (يقاتلون) بالألف، وقيل قرأها اتباعاً لمصحف عبدالله بن مسعود لأن فيه (وقاتلوا) الذين يأمرون، وقال الرازي “وهما سواء، لأنه قد يقاتلون فيقتلون بالقتال، وقد يقتلون ابتداء من غير قتال”( )،
ولكن المعنى مختلف، وبين القتل والقتال عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء حصول القتل، ومادة الإفتراق ان الإقتتال نوع مفاعلة ويحصل بقصد وعزم من الطرفين، وفيه خمس احتمالات :
الأول : حدوث القتل في طرف واحد من الفريقين المتقاتلين.
الثاني : سقوط القتلى من الفريقين، كل فريق يقتل منه جماعة، وهذا من الكلي المشكك , وفيه ثلاث شعب :
الأولى : ان يكون القتل في الطرف الأول أكثر.
الثانية : أكثر القتلى في الطرف الثاني
الثالثة : التساوي بينهما في عدد القتلى.
الثالث : عدم حصول القتل في أي من الفريقين وان حصل الإمتثال.
الرابع : حصول جرحى بين الفريقين.
الخامس : عدم حصول جرحى عند أي من الفريقين.
اما بالنسبة للقتل فهو فعل يقع من أحد الطرفين على الآخر اذا ورد على نحو الإستقلال وليس فرعاً للإمتثال، فهما ليسا سواء، وجاء قيد (بغير حق) بخصوص النبيين وفيه وجهين:
الأول : انه شامل للذين يأمرون بالقسط بالتبعية.
الثاني : خاص بالأنبياء ولا تعارض بين الأمرين، وهذا من اعجاز القرآن، فهو خاص بالأنبياء ولكنه يترشح على أتباعهم ويدل عليه قيد نوع الفعل الذي يقوم به أتباعهم وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل من يعتدي على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فهو ظالم لهم، ويكون فعله خلاف موازين الحق والعدل،
فصفة النبوة وحدها دليل على الأمر بالقسط واضافة بغير الحق لإظهار ظلم وتعدي الكافرين وعدم التزامهم باي ضوابط تمنعهم من التعدي فحق عليهم العذاب ولزم على المسلمين مقاتلتهم والجهاد لردعهم ومنعهم من الظلم والقتل ليس ثاراً للأنبياء والصالحين بل لوقف الهجوم على الإيمان في الأرض ومحاولات تضييعه ومنع مفاهيمه من الوصول الى الناس،
فالآية وردت بصيغة الخبر والتوثيق التأريخي، ولكنها انشاء ودعوة للمسلمين للجهاد دفاعاً عن الإسلام وحفظاً لأنفسهم ووقاية لأعراضهم ومنع تعرضهم للقتل لأن الكفار جعلوهم امام أحد الطرق الآتية:
الأول: الإكتفاء بالإيمان الشخصي واخفائه والتستر عليه وعدم اعلانه.
الثاني: اعلان الإيمان والإكتفاء بأداء الفرائض.
الثالث: دعوة الناس الى الإسلام ومبادئ العدل والإنصاف،
خصوصاً وان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات العبادية.
ومضمون الآية الكريمة حصول القتل في القسم الثالث والأخير أعلاه، ولكنه لا يمنع من تعديه الى الوجهين الآخرين باعتبار انهما من الدعوة الصامتة الى الله والأمر بالمعروف باتيانه وفعله، والنهي عن المنكر بالإمتناع عنه واجتنابه، فحينما يجتنب المنكر ويرفض أداء طقوس وعادات الكفر فانها دعوة الى نبذ تلك الطقوس وحث على لزوم التوجه الى الله عز وجل، فيندفع الكفار في إكراهه على ارتدياد منتدياتهم وعدم العزوف عنهم سبباً لإغراء الكفار بقتل المؤمن استضعافاً له، ويأتيه العداء والتعدي احياناً ممن هو قريب منه،
فيكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حاجة لذات المؤمن ولحفظ نفسه وحقن دمه وصيانة ماله وعرضه، وفيه سعي لتوارث الإيمان وبقائه في أسرته وعند ابنائه ومسألة توارث الإيمان ذات خصوصية في مراتب الإيمان وأداء الوظيفة الشرعية، فالآية تحريض على الجهاد واخبار عن الحاجة اليه ولزوم بذل المال في سبيل الله واعداد الجيوش والعدة والسلاح للجهاد الدفاعي، وصيانة أرواح المسلمين،
فالآية تنفي رمي الإسلام بالقتل واختيار السيف والغزو، بل أنه جاء بنظرية (الدفاع الإستباقي) وليس الهجوم الإستباقي، وقد يترك الكفار المسلمين يأمرون بالقسط لفترة محدودة او في مكان معين لحين الإنقضاض عليهم، كما في ترك النبي في المدينة واعداد قريش العدة لقتاله، وفي الوقت نفسه يعذبون بقسوة أفراد المسلمين في مكة، فجاءت نظرية الدفاع الإستباقي لتوسعة دائرة الإسلام والتبليغ بأحكامه وتضييق دائرة الكفر ومنع الكافرين من المبادرة الى قتل المسلمين،
فالإسلام دين الحق وقد أخبرت الآيات السابقة انه الدين الذي يريده الله للناس فلابد من السعي لإنقاذ الناس من الكفر، وهذا السعي يجعل من
يريد ايذاء المؤمنين يختار الإسلام ويحارب الكفر.
وفي تكرر قوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ] مسائل:
الأولى: الإسراف في القتل، وعدم الوقوف عند حد معين، والمدار على وجود الأنبياء في مجتمعات الكفار، وقيام المسلمين بالدعوة الى الله.
الثانية: الإخبار عن سجايا الكفار وتماديهم في الغي.
الثالثة: استمرار ظاهرة قتل المؤمنين فاذا كانت النبوة قد أختتمت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان المسلمين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر موجودون الى يوم القيامة ولم ينحصر وجودهم في مكان دون آخر، او في مصر من الأمصار والوجدان شاهد على انتشارهم في ربوع الأرض.
الرابعة: يمكن قراءة الواو في الآية بانها للإستئناف وللعطف من غير تعارض بينهما او تكون واواً للعطف فقط وأخرى للإستئناف، فيكون المعنى كالآتي:
الأول: وجود فريق يكفرون بآيات الله.
الثاني: طائفة منهم يقومون بقتل الأنبياء.
الثالث: فرقة أخرى منهم تقتل الذين يأمرون بالقسط والعدل، ويساعد على هذا التقسيم ان زمان الأنبياء أخص من زمان الآمرين بالقسط، وبين الزمانين عموم وخصوص مطلق، فكل زمان فيه الأنبياء يكون فيه آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، وهناك أزمنة ليس فيها أنبياء ولكن الآمرين بالقسط موجودون فيها كما هو حال هذه الأزمنة، وكذا بالنسبة للمكان بل هو أبين وأكثر جلاء، فقد يكون النبي في بلدة ولكن أتباعه منتشرون في مدن وقرى عديدة.
الرابع: فرقة تكفر بآيات الله وتقتل النبيين بغير حق، ولا تقتل الذين يأمرون بالقسط، فتكتفي بقتل الأنبياء لأنهم رأس الدعوة الى الله، وتنزه أتباعهم بترك الأمر بالقسط وتجعل قتل النبي درساً وعبرة ومناسبة لبعث الخفو في نفوسهم، او انه يرون عدم تأثير الأتباع بعد غياب النبي قيامهم بتشويه وتحريف ما جاء به من الآيات.
الخامس: فرقة تكفر بآيات الله وتقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، ولا تقتل الأنبياء سواء لإكرامهم او اجتناب التعرض لهم، لقوة قبيلتهم او لإمتناعهم، او لوجودهم في بلد آخر غير بلد الكافرين، او لأن الزمان خال من الأنبياء سواء في فترات انقطاع النبوة او بعد انتقال النبي الى الرفيق الأعلى،
السادس: فريق من الكفار لم يكتفوا بالجحود بآيات الله بل يقومون بقتل الأنبياء بغير حق وقتل الآمرين بالمعروف والداعين الى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تعارض بين هذه الوجوه فالآية تشملهم جميعاً وكل منهم يستحق العذاب الأليم
وجاء الخطاب التكليفي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بانذاره واخباره عما ينتظره من العذاب الشديد، وادنى مراتب الكفر والظلم والقتل الثلاثة عند اجتماعها هو الكفر والجحود المحض الذي لم يقترن بقتل الأنبياء والصالحين، وقد ورد قوله تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ) التوبة مما يدل على امكان قراءة الواو بانها استئنافية ايضاً.
وهل يمكن القول بوجود قسيم آخر وهو فرقة تقتل النبيين والآمرين بالقسط ولكنها لا تكفر بآيات الله الجواب لا، لأن هذا القتل فرع الكفر، وهو أشد انواع الكفر، والنبي ذاته آية من آيات الله العظمى، واتباع الأنبياء الذين يأمرون بالقسط من الناس آية دائمة مباركة.
وفي الآية تحذير للمسلمين ودعوة للإستعداد لتلقي الأذى والبلاء الذي قد يصل الى مرتبة القتل، واخبار عن الأخلاق الذميمة للكفار وغرورهم، وقتل المؤمنين لا ينحصر بحال وجود قوة وبطش عند الكفار بل هو شامل لحالات شخصية كالغيلة والغدر والمكر، فقد يقتل الآمر بالمعروف بالغدر والحيلة او بالإفتراء عليه او ببث روح الفرقة بين المسلمين وتمزيق وحدتهم، ليدخل التسبيب في القتل، كما ورد في بني اسرائيل عن الإمام الصادق انهم لم يقتلوا الأنبياء ولكن أذاعوا أخبارهم وأفشوا أمرهم الى السلطان فأمر بقتلهم فكان التسبيب قتلاً ولو بالواسطة خصوصاً وان الذي باشر القتل كافراً ايضاً،
فتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على لزوم تعاهد المسلمين للأخوة الإيمانية ونبذ الفرقة والتشتت، لمنع نفاذ الأعداء، وللتماسك وعدم تمكينهم من التعدي على بعض المؤمنين، فكما كانت القبائل تحمي أفرادها، ويصان النبي بقبيلته وعشيرته، فكذا يعتبر مجتمع الإيمان عشيرة المؤمن وعضده والواقية والحصن الذي يلتجأ اليه.
وتبين الآية ان هؤلاء الكافرين وصلتهم الدعوة الى الله وانصتوا اليها، وعوها وفهموا مضامينها، ولكنهم أختاروا الكفر والجحود، ومع ان الكفر وحده يستحق عليه الإنسان النار والعذاب الأليم الا انهم لم يقفوا عنده، كجحود وموقف سلبي مناوئ للإيمان ومجاف للعقل وسلامة الإختيار بل انهم تمادوا في الغي واتجهوا صوب الفعل والتعدي بأقبح صوره، ليكتبوا صفحة سوداء في تأريخ الإنسانية فلابد ان يكون العقاب شديداً، خصوصاً وان موضوع قتل الأنبياء والصالحين لا ينحصر باشخاصه واوانه، بل ان أضراره متشعبة تشمل الناس جميعاً، وتفزع أهل السماء وتحزن الأجيال من التعدي على الصالحين، وأخرج عبد بن حميد وابن حرير وابن المنذر عن معقل ابن أبى مسكين في الآية قال كان الوحى يأتي بنى اسرائيل فيذكرون قومهم ولم يكن يأتيهم كتاب فيقتلون فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكرون قومهم فيقتلون فهم الذين يامرون بالقسط من الناس( ).
ولكن الآية أعم بلحاظ معاني القسط، وورد لفظ (القسط) خمس عشرة مرة في القرآن وكلها تدل على العدل والتدبير والإستقامة والعمل الصالح، ويعتبر من مقومات اعمال الأنبياء والمؤمنين وقواعد الحكم ومفاهيم الإنصاف.
وهو مقدمة لأداء العبادات ودليل الخشية منه تعالى، بالإضافة الى ان العدل حسن ومحبوب لذاته، تميل له النفوس، وينحرف القلة من ذوي القوة والسلطان فيجوزون ويبتعدون عن موازين العدل، ولو كانوا في منازل الفقراء لأشتاقوا الى العدل وشعروا بالحاجة اليه، فلا يخالف موازين العدل الا القليل ممن تغلب عليهم النفس الشهوية والغضبية وتتهيأ لهم أسباب الرئاسة والسلطنة ويسخرونها لأغراضهم الخاصة وتوسعة دائرة حكمهم وزيادة أملاكهم وضم أموال الغير لها بالغصب والسرقة والحيلة والخداع والإكراه والقانون الوضعي وغيرها، ويجدون لهم رجالاً وأعواناً يسخرونهم لتنفيذ مآربهم لقاء منافع محدودة، وقليل من جاه الدنيا وملذاتها، ويبقى حينئذ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر عرضة للإبتلاء.
والأمر بالقسط في الآية يشمل ردع الظالم عن ظلمه، وهو أمر لا يرضاه الظالمون فيتجهون نحو البطش والإنتقام، وما هي الصلة ووجوه الإلتقاء بين قتل الأنبياء وقتل الآمرين بالقسط، فيه وجوه:
الأول: الدعوة الى الله عز وجل وبيان لزوم عبادته.
الثاني: الأمر بالإصلاح ونبذ الظلم ووجوب هجران منازل الكفر.
الثالث: الأمر بالعدل والسعي من أجل إنصاف المظلوم ورفع الحيف عن المستضعفين.
وقدم النبيون في الآية حتى في مفاهيم القتل والتعرض للأذى للدلالة على تحملهم العناء والبلاء وانهم أسوة في تلقي صنوف الأذى كما انهم أسوة في التبليغ ولدفع وهم قد يحصل عند بعض المسلمين ممن يلاقي الأذى والسجن والتشريد ويتعرض للقتل او الحكم بالإعداء بانه تحمل وعانى أكثر مما تحمله الأنبياء، وانه لو كان نبي في مكانه لما استطاع الصبر ونحوه من الظن المرجوح الذي لا أصل له.
فجاءت الآية لإخبار المسلمين والناس جميعاً ان الأنبياء أكثر الناس تعرضاً للأذى في جنب الله، وان الظلم الواقع عليهم ليس له وجه او سبب مشروع كما ان أسبقية الأنبياء في التعرض للقتل يجعل المسلمين مستعدين لتلقي الشهادة بشوق، وفيه واقية من الشك الذي يبثه الكفار وصيغ الإستخفاف وتوكيدهم على أولوية التمسك بالحياة الدنيا وزينتها،
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء ورزقهم المرتبة الرفيعة في النشأتين وجعلهم سادة الأمم ومنحهم الكمالات الإنسانية وأدبهم على التقوى وهيأهم لقيادة الناس في دروب الهداية والصلاح ومع هذا يخلي بينهم وبين القتل ليكونوا بموتهم ومغادرتهم الدنيا الى الرفيق الأعلى داعية الى الله تبين ضرورة الإصلاح واجتثاث الكفر وأصوله من الأرض، ولزوم عدم التهاون مع الظالمين والكافرين.
ولولا تعرض الأنبياء للقتل في سبيل الله لما قام اتباعهم من بعدهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدرجة الإستعداد او لتحمل القتل ولتعالت أصوات الدعوة بالممكن والإكتفاء بالتبليغ او الإجزاء باصلاح الذات وعدم التعرض للهلكة، ولقيل بالتأسي بالأنبياء بحرصهم على الحفاظ على حياتهم في القتل، فجاء مقتل الأنبياء لينير دروب الصبر للمؤمنين، ويجعل نفوسهم تتوق للإجتماع بالأنبياء في أعلى عليين ويساهم في معرفة غلبة النفس الغضبية عند الكفار، وليس من شيء عندهم أفضل من التأسي بالأنبياء، وهذا التأسي يصل الى درجة الكمال بالشهادة.
وجاء قيد [بِغَيْرِ حَقٍّ] في قتل الأنبياء ليتوقع المسلمون قتلهم بغير حق ايضاً وهو سلاح للآخرين من المسلمين ممن لم يتعرض للقتل بان لا يصدق ما يقوله الظالمون بصدد الشهيد من المسلمين من الإفتراء عليه ودعوى استحقاقه للقتل او انه هو الذي جنى على نفسه، بالإضافة الى قيد [الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ].
فالآية تبين العلة المادية للقتل وانهم لم يفعلوا شيئاً الا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه تعيين لوظائف المسلمين والتقيد بأحكام الشريعة وإخبار بان الأمر بالمعروف وطلب العدل هو جهاد كجهاد الأنبياء في التبليغ والبشارة والإنذار، نعم الأمر بالقسط والعدل يتضمن الوعد والوعيد والتذكير بالنار عقوبة للظالمين والكافرين الأمر الذي قد يثير حفيظة الظالمين الذين يرتكبون أقبح المعاصي ويظنون انهم على صواب كما في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
لقد جاءت الآية الكريمة في ذم وتوبيخ الكفار والإخبار عما سيلاقونه من العذاب الأليم ولكنها تتضمن عدة دروس وعبر للمسلمين وتقودهم نحو تحقيق النصر بالصبر والتحمل والإستعداد للتضحية من أجل قول كلمة الحق وايصالها الى الناس.
وعرض لرسول الله صلى الله عليه وآله رجل عند الجمرة الاولى، فقال: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة وضع رجله في الغرز ليركب، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر.
وجاءت الآية بالمعنى الأعم ولم تقيد الأمر بالقسط بحال مخصوص وهو على وجوه :
الأول : الأمر بالمعروف عند السلطان المسلم العادل ليس من تحصيل ما هو حاصل بل هو توكيد للقواعد والأحكام الشرعية، ويجب ان لا يسبب النفرة عند السلطان، وان قيل له (اتق الله) فلا يعني في مفهومه انه لم يتق الله بل هو تذكير بالله عز وجل ولزوم التقوى.
وهناك شواهد كثيرة تدل على انصات خلفاء المسلمين للموعظة والإنذار والتخويف من الأئمة وكبار الفقهاء والعلماء في زمانهم من غير ان يظهر عليهم الإمتعاض او عدم الرضا، بل يقابلونهم بالهدايا والعطاء الجزيل بعد الموعظة ومن الفقهاء من يتعفف ولا يقبل الهدية ويردها باعتذار مع شدة حاجته لها، او يأخذها ويقوم بتوزيعها في الحال على الفقراء والمحتاجين ليعطي درساً في الزهد وموعظة في التقوى.
الثاني : الأمر بالمعروف عند السلطان المسلم الجائر والمتجافي عن العدل والحق.
الثالث : قول العدل عند السلطان غير المسلم.
الرابع : الأمر بالعدل والقسط مطلقاً بين الناس وفي التنزيل [وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ] ( ).
الخامس : ان الإنصاف في صغائر الأمور مقدمة للصلاح واجتناب الظلم في كبائرها، وفيه رياضة لتنمية ملكة العدل عند الفرد وفي المجتمع فالأمر بالقسط لا ينحصر بالعبادات بل يشمل المعاملات والأحكام والسنن، ومنه الدعوة لإتباع الأنبياء فالقائمون بالقسط الذين ذكرتهم الآية هم اتباع الأنبياء الذين ورثوا منهم الدعوة الى كلمة التوحيد والسعي لإقامة حكم الله في الأرض ومنع الظلم والجور، ولو قام الكافرون بقتل الآمرين بالمعروف فماذا ينتج عنه؟ فيه وجوه :
الأول :انحسار الإيمان وخفوت الأصوات الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، فلا تسمع الا أبواق السلطان التي تزين له ظلمه.
الثاني : ضعف الإيمان عند الناس والتسليم بالظلم كواقع وعرف سائد.
الثالث : ظهور أجيال من المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
الرابع : كف الظالمين عن القتل بعد رؤية بقاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس : حصول تغيرات وتبدلات سياسية كأثر للإحتجاج على الظلم وبعد التمادي فيه، والوجهان الأولان بعيدان لأن الله عز وجل اراد لكلمة التوحيد البقاء في الأرض ومن لوازمها وجود جنود لها آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، فيتحصل بقاء الوجوه الثلاثة الأخيرة.
وقوله تعالى [مِنْ النَّاسِ] فيه مسائل :
الأولى : ان الأمرين بالعدل طائفة من الناس، وأخوان لهم في الإنسانية لا يرومون الا الإصلاح.
الثانية : يسعى المؤمنون لإنتزاع الحقوق العامة والخاصة ممن أخذها ,ويطالبون باعادتها فتكون (من) حيئنذ لإبتداء الغاية المكانية.
الثالثة : ان اتباع الأنبياء يكملون جهاد الأنبياء وسعيهم في سبيل الله ويعملون على تثبيت الشرائع والشعائر التي جاء بها الأنبياء من قبل، فيدعون الكافرين والمخادعين والمنافقين الى الرجوع الى سواء السبيل وتكون (من) هنا للتبعيض أي بعض الناس.
الرابعة : الأمر بالعدل هو دأب الصالحين والمؤمنين، فيرى الظالمون انهم يعوقون عملهم في اشاعة الفحشاء والمنكر فيسعون للتخلص منهم بالقتل.
الخامسة : يأتي (من) حرف جر زائداً، ومعناه توكيد العموم أي ان المؤمنين يأمرون الناس جميعاً بالقسط والعدل والإنصاف في تثبيت أركان جبهة الحق والصدق، ويحافظون على بقاء الشريعة ومنهاج الأنبياء بالدعوة الى العدل والقسط، ولكن الظالمين يريدون بث الجور ومواصلة التعدي فيحصل تعارض وتزاحم، فيقوم الظالمون بقتلهم.
السادسة : حصول صراع بين قيم الحق والشر، وهذا الصراع يكون بين المؤمنين والظالمين.
فالمؤمنون يريدون دعوتهم الى الهدى والصلاح، والظالمون يريدون لهم اتباع الباطل، فتحصل المواجهة ويقوم الظالمون احياناً بالتعدي على المؤمنين وقتلهم، ليتجدد عند الناس الإيمان ويرون الوجه الكالح والقبيح للظلم، وعدم مشروعيته، فهذا القتل لن يؤدي الا الى تثبيت الإيمان في الأرض ولكن ثمنه غال اذ يكون بدماء الأنبياء واتباعهم، ليأتي الجزاء بالجنة للمؤمنين والعقاب للكافرين.
وفي الآية ذم للكافرين على اصرارهم على الجحود وتماديهم في الغي، وعدم وقوفهم عند حد من حدود الكفر، لأن بعثة الأنبياء ووجود المؤمنين دعوة لهم للهداية والصلاح والإصلاح،
وتدعو الآية المؤمنين الى اليقظة والحذر والإلتفات الى الأخطار والتي تحيط بهم وبدعوتهم ولا يعني هذا امتناعهم عن الدعوة الى الله والعدل والإصلاح بل ان الآية في مفهومها تحث عليه لأنها تخبر عن وجود أمة وقوم يدعون للقسط والعدل.
قوله تعالى [فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]
تأتي البشارة في الخير والشر، واذا جاءت على نحو الإطلاق فالمراد منها الخير والسرور، يقال بشرته فأبشر وأستبشر وبشر أي فرح، مقتبس من البشرة وهي جلدة الوجه والجسد من الإنسان لما يظهر عليها من العلامات والأثر عند تلقي البشارة سواء كانت في الخير او الشر، او ان البشارة بالشر تأتي بارادة التوبيخ والإنذار والذم كما يقولون “تحيتك الضرب وعتابك السيف”.
وفي الآية اعجاز دائم بمجئ الأخبار عن العقاب الشديد للكفار متعقباً لذكر فعلهم القبيح واصرارهم على الكفر وقيامهم بقتل الأنبياء والمؤمنين ظلماً، والمعروف ان الحكم الشرعي في الدنيا للقتل بغير حق القصاص لمن قام بالقتل او اشترك فيه ان كان المباشر متعدداً، ولكن الآية جاءت بالأخبار عن العقاب الأخروي وهو أشد وأمر لأنه خلود في النار وذل وخزي مستديم ومع هذا فان الآية لا تنفي العقاب الدنيوي لأن البشارة بالعذاب وردت على نحو الإطلاق فتشمل الدنيا.
وهل العذاب من الكلي المتواطئ ام المشكك الجواب هو الأخير بحسب مراتب المعصية والفتك بالمؤمنين وقد تقدم ان الكفر بآيات الله وحده يستحق العذاب الأليم، ومما يدل على التباين في درجة العذاب تعدد طبقات النار، ولغة الخطاب في الآية موجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي انحلالية من وجوه:
الأول: ان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باق الى يوم القيامة فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يخبر وينذر الكافرين في كل زمان ومكان بما ينتظرهم من العذاب بصريح هذه الآية الكريمة، وقصر أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا لا يمنع من بقاء خطاباته وتعلقها بالأجيال اللاحقة، وهذا من إعجاز القرآن , وشاهد على حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة بلغة البشارة والإنذار.
الثاني: ارادة المسلمين ولزوم قيامهم بانذار الكفار، لأن الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإصالة وللمسلمين من بعده بالتبعية وقد تقدم في الآية السابقة [فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ( ) ومن الإتباع المحاكاة في الوظيفة الشرعية في التبليغ والإنذار وتجديد الوعيد والتخويف.
الثالث: قيام القرآن بالإنذار والتخويف ومنه هذه الآية الكريمة التي تنذر بالوعيد والتخويف فان قلت ان القرآن يتلوه المسلمون، والإنذار للكفار فكيف يكون القرآن نذيراً للكافرين، قلت: ان القرآن نازل رحمة للناس جميعاً، وخطاباته ومضامينه تصل لهم على نحو مباشر او بواسطة المؤمنين او بنشر مفاهيمه وأحكامه او بتمسك الناس بمبادئ الصلاح وما عندهم من ذخائر الكتب السماوية السابقة وكلها جاءت بالوعيد على الكفر.
ومن الناس من يأتيه الإنذار من جهة السنة النبوية ومنهم من يأتيه بواسطة المؤمنين والكتب والدراسات العقائدية والأخلاقية والقوانين الوضعية ومنهم من يصله بسماعه لتلاوة القرآن او قراءة المسلم لها في صلاته، او عبر القنوات الفضائية ونحوها، وقد تكون وسيلة للإعلام او التشريع القانوني وضعها الظالم لتثبيت دعائم حكمه ولكنها تنقل للناس انذارات القرآن طوعاً وقهراً وانطباقاً،
ومن رحمته تعالى ان تصل لغة الإنذار للكافرين، لإقامة الحجة عليهم، ولكي تدرك أسباب التوبة والإنابة شطراً منهم فيكونوا أسوة لأصحابهم ومناسبة للذكرى والإعتبار، وكما بدأت الآية بصيغة الجمع بالنسبة للكافرين فانها أختتمت بذات الصيغة مما يعني ان العذاب مستغرق وشامل لهم جميعاً بلحاظ الكفر وان الشفاعة لا تدركهم.
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] الآية 22
الإعراب واللغة
اولئك:اسم اشارة مبتدأ، الذين: اسم موصول خبر، حبطت: فعل ماض، والتاء تاء التأنيث الساكنة , اعمالهم : فاعل مرفوع، والضمير الهاء مضاف اليه، والجملة الفعلية صلة الموصول.
في الدنيا: جار ومجرور، الآخرة: عطف على الدنيا.
وما: الواو عاطفة، ما: نافية، لهم: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر مقدم، من: حرف جر زائد لفظاً، ويفيد التوكيد، ناصرين: اسم مجرور، وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.
وحبط حبطاً وحبوطاً: عمل عملاً ثم أفسده , او أصابه للفساد على نحو قهري او عرضي (قال ابن الأثير: حبطت الدابة حبطاً، بالتحريك اذا أصابت مرعى طيباً , فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت) ( ).
في سياق الآيات
بعد آية الإحتجاج وتولي الكافرين , ومجيء الآية السابقة بالإخبار عن العذاب الأليم الذي ينتظر الكافرين والمجرمين الذين أقدموا على أبشع انواع الظلم والتعدي بقتلهم الأنبياء واتباعهم ممن يأمر بالعدل، جاءت هذه الآية لتتعلق بذات الموضوع , وتتضمن التوكيد على ما يصيب هؤلاء الكفار من الخسران، وما يلاقيهم من الخزي.
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : ان الذين يكفرون بآيات الله أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة.
الثاني : إن الذين يقتلون النبيين بغير حق اولئك الذين حبطت أعمالهم.
الثالث : إن الذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس اولئك الذينن حبطت أعمالهم.
الرابع : الذين حبطت أعمالهم فبشرهم بعذاب أليم.
الخامس : إن الذين يكفرون بآيات الله مالهم من ناصرين.
السادس : إن الذين يقتلون النبيين بغير حق مالهم من ناصرين.
السابع : إن الذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ما لهم من ناصرين.
لقد تضمنت هذه الآية اسم وخبر( إن) مع تعدد مصاديق إسمها، ثم جاءت الآية التالية متصلة بها في موضوعها.
وتحتمل النسبة بين سوء عاقبتهم في خاتمة هذه الآية وفي الآية التالية وجوهاً:
الأول : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء بين(فبشرهم بعذاب الله) وبين قوله تعالى[أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ…] الآية.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : البشارة بالعذاب الأليم أعم وأشد من حبط وإبطال العمل في النشأتين وإنعدام الناصر.
الثانية : حبط وحط الأعمال وإنعدام الناصر هو الأعم والأشد.
الثالث : نسبة التباين والتضاد.
الرابع : نسبة التساوي فالعذاب الأليم هو ذاته حبط الأعمال في الدنيا والآخرة وإنعدام الناصر.
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني، لتكون مضامين الآية التالية مقدمة للعذاب الأليم، وإن قلت لماذا جاء حبط العمل بعد الوعيد بالعذاب الأليم .
الجواب لبيان قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
إعجاز الآية
افتتحت الآية باسم الإشارة (اولئك) الذي يفيد البعد كعنوان للإزدراء , وفيه اخبار عن عجز الكفار عن منع بقاء كلمة التوحيد في الأرض لقد جاءت الآية قصيرة في كلماتها، ولكنها من جوامع الكلم، كما ان القصر يفيد الحتم والقطع بما ينتظرهم من العذاب، ومن اعجاز الآية تضمن الوعيد لأيام الحياة الدنيا والآخرة وعدم حصره بالآخرة,
ويمكن ان نسمي الآية (حبطت أعمالهم ).
الآية سلاح
تحث الآية المسلمين على ألتقيد بأحكام الشريعة ومواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما فيها من الإخبار عن هزيمة عدوهم بما يلاقيه من الخزي والعذاب، وتجعل الآية كفة المؤمنين هي الأرجح والأقوى وتدعوهم للصبر والتحمل، وتجعلهم ينظرون الى الكفار باحتقار وان كان لهم سلطان لأنه عرض زائل ولا يكون الا وبالاً على أصحابه، كما تدعو الناس جميعاً الى الهداية والإنصات الى الآمرين بالعدل والإحسان والإنصاف،
مفهوم الآية
تدل الآية على الفقر والفاقة التي تصيب الظالمين وحاجتهم الى الناصر والمعين والشفيع وهو معدوم، وفيها بشارة للمسلمين وان الناصر والشفيع لهم موجود في النشأتين، ففي الدنيا يثبت القرآن أهليته للنصرة على نحو متعدد من وجوه:
الأول: بتوبيخ وتقبيح فعل الكافرين.
الثاني: ما تتضمنه آياته من النصرة للمسلمين.
الثالث: الإخبار عن انعدام النصير للكافرين، وتظهر الآية الملازمة بين الدنيا والآخرة في الأحكام والجزاء وان من الأفعال المذمومة تكون ايام الدنيا وساعات الآخرة وعاء زمانياً للجزاء عليها، ومنها عقاب الكافرين الذين يتمادون في الغي والكفر ويعتدون على الحرمات ويقتلون من أرسلهم الله عز وجل رحمة للناس، وفي الآية حث على تعاهد الصالحات وعدم تعريضها للفساد بالفعل القبيح، وفيها اخبار بانه لا يكفي فعل العمل الصالح بل لابد من صيانته.
افاضات الآية
الإنسان كائن ممكن تلازمه الحاجة والعوز، والمؤمن فرد من أفراد الممكن، ويشعر بالنقص وتأتي رحمته تعالى بالإخبار عن الخزي والعذاب الذي يلاقيه الكفار لتبعث اليقين في نفسه، وتحثه على الصبر وعدم القعود او النكوص، ان كلمة التوحيد تستلزم جنوداً يبثونها في الآفاق، ويساهمون في تخليص الناس من براثن الضلالة والكفر، وظاهر الآيات ان الذين يقومون بقتل الأنبياء والآمرين بالمعروف هم كبراء أهل الكفر والضلالة وليس عامة الكفار، فلذا يعتبر استمرار الدعوة الى الله عزلاً لهم ونجاة لأتباعهم، ونشراً للإيمان في صفوفهم وبين أصحابهم، واظهاراً للحق في منتديات الكافرين.
التفسير
قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ]
أولئك اسم اشارة عائد للكافرين الذين ذكروا في الآية السابقة وقبيح فعلهم في الآية السابقة، فهم لم يكتفوا بالإختيار السلبي للجحود والإعراض عن دعوة الأنبياء والصالحين الى الله بل قاموا بأبشع جريمة في التأريخ وهي قتل الأنبياء، فحق عليهم العذاب , وهذه الآية تتضمن نوع العذاب الذي يلاقيه هؤلاء الكفار ولكنها لم تأت شطراً من الآية السابقة مع وحدة الموضوع والمضمون بل جاءت آية قائمة بذاتها، للتوكيد على أهمية موضوع عقابهم واظهار شدته ولزوم بيانه على نحو مستقل للإعتبار والإتعاظ، واجتناب التمادي في الغي والغرور.
وتظهر الآية حاجة المسلمين الى المدد الإلهي في الإستمرار على الجهاد في الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة , وهذه الآية من المدد وتمنع من الإفتتان بالكفار والظن بانهم أقوياء وان قدرتهم على القتل ضعف للمسلمين، فالآية تخبر بان الله عز وجل مع المسلمين وتزيل الغشاوة عن الأبصار وتظهر هوان وضعف الكافرين وان اعتدوا على المسلمين ولأن المدار ليس بلحاظ ساعة الفعل بل على الحكم والجزاء في الآخرة، جاءت الآية لتخبر بان العذاب يطال الكافرين في الدنيا ايضاً.
ومن الإعجاز في تقسيم القرآن الى آيات ان تأتي آية بوصف الكافرين وذمهم وما ينتظرهم من العذاب، ثم تتعقبها آية أخرى تبين نوعاً آخر من العذاب الذي يلاقونه والخسارة العظيمة التي يصابون بها في النشأتين لتكون كل آية درساً وموعظة وحثاً على التوبة والندم، فالآية السابقة لم تأتِ بذكر قبيح فعلهم فقط، بل جاءت بانذارهم وتحذيرهم من العقاب الشديد الذي ينتظرهم على نحو الحتم والقطع.
وفي هذه الآية ايضاً بيان تفصيلي لنوع العذاب وماهيته وقد يقوم هؤلاء الكفار بأفعال حسنة كالتبرع بالمال، او اعانة الآخرين او القيام ببعض المشاريع الخيرية والمنافع العامة، او حتى اعانة مؤمنين آخرين غير الذين يقومون بقتلهم، كما لو كان شطر من المسلمين ملتزماً بمسلك الصبر والتقية من الكفار ويخفي إيمانه او انه يكتفي بأداء الفرائض وتحصين نفسه وأسرته، فيقدم له الكفار العون او يتركونه وشأنه، تغطية لجرمهم في التعدي على أخوانه ممن يجهر بالحق ويطالب بالإصلاح ويأمر بالمعروف، فجاءت هذه الآية لتخبر عن انعدام الثواب والجزاء للكافر عن كل فعل يكون بذاته حسناً لأن الثواب مشروط بقصد القربة الى الله، وهو مفقود في نية وعزم وارادة الكفار كما ان الآية جاءت صريحة في افساد عمل الكفار وهذا الإفساد يحتمل أمرين:
الأول: ان الله عز وجل هو الذي يفسد عملهم، ويبطل ثوابهم ويرد أعمالهم التي تتضمن الحسن.
الثاني: يبطل الكفار أنفسهم أعمالهم بما يقدمون عليه من القبيح والمنكر.
الثالث: هناك مرتبة من الكفر والجحود يبطل معها العمل مطلقاً، فلا يقبل منه شيئاً، ويخرج هذا الكفار من قواعد ميزان الآخرة ورجحان احدى كفتي الميزان من الصالحات او السيئات، بل لا يبقى عنده الا السيئات توضع في كفتها وليس هناك ما يقابلها من ضدها قليلاً او كثيراً.
الرابع: من الرحمة الإلهية مضاعفة الحسنة بعشر أضعافها، ونماء العمل الصالح عند الله عز وجل , فالعبد يعمل الصالحات ثم يغادر الدنيا ولكن الله عز وجل لا ينسى له أفعاله، فينميها ويتعاهدها الى يوم القيامة لتأتي الحسنة وكأنها جبل من الثواب تشرق نوراً، وهذه النعمة حرم الكفار أنفسهم منها فيخرجون بالتخصص، لأن السيئات التي فعلوها حجبت الحسنات وجعلتها تفقد حسنها وبريقها وتذهب هباء، فلا يبقى لهم من الأفعال الا ما يستحق العقاب، ومن يكون هكذا يوم القيامة فلابد ان يحرم من الشفعاء والناصرين لأن صحيفته سوداء قاتمة ليس فيها بصيص من نور يأمل في اتساع رقعته وغلبته على السواد، وهو فرد من أفراد التعدي بقتل الأنبياء والصالحين لما فيه من الأذى لعموم الناس والأجيال المتعاقبة.
علم مناسبة
ورد قوله تعالى [حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ] في آيات عديدة وجاء بصيغة المفرد ايضاً كما في قوله تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ] ( )،اما قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ]، فقد ورد في أربع آيات من القرآن، وفي ثلاث منها يأتي جزء وشطر من آية،
في ذم الكافرين من أرباب الفتن والذين يقاتلون المسلمين والكافرين الذين يصدون عن المسجد الحرام، وطوائف الكافرين من الأمم السالفة الذين أقبلت عليهم الدنيا فغرتهم وفتنوا بها وصدوا عن سبيل الله، اما هذه الآية فجاءت على نحو الإستقلال وبدأت باسم الإشارة.
(اولئك) في آية اعجازية تؤكد الإيغال في الكفر واقدام الكفار على أقبح فعل مما يستحق فساد واحباط العمل الشخصي.
وجاء اسم الإشارة (اولئك) لإفادة الذم لدلالته على البعد، وللحصر بلحاظ نوع الذنب وعظم الجرم وشدة العقوبة، وفيه تحذير من فعلهم ولزوم اجتنابه , ومن الآيات مجيء (أولئك) اول الآية للتنبيه والزيادة في الإحتراز منهم ومن فعلهم، وهو دعوة لعزلهم واجتنابهم سواء لثبوت اصرارهم على الكفر او لسقوط الأمر بالمعروف معهم لعدم اصغائهم واستماعهم او لثبوت جرمهم وتعديهم.
وتماديهم في الغي وبلوغهم أقصى مراتبه بقتل الأنبياء والصالحين، فان قلت ان قتل الأنبياء أشد رتبة وأذى من قتل الصالحين فلماذا اجتمعا في الحبط، قلت: ان الحبط شامل لما هو أدنى من القتل ويكفي فيه مقابلة التنزيل بالكراهة كما في قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ]( ).
كما ان المؤمنين الآمرين بالمعروف هم ورثة الأنبياء في زمانهم ولا يرقى الأمر الى القول بانه لو كان الأنبياء في زمانهم لقتلوهم ايضاً بالإضافة الى وجود فريق من الكافرين جمع بين قتل الأنبياء والآمرين بالمعروف في آن واحد , وكل منهما جاء قتله بغير حق.
وفي الآية بيان لنواميس الحساب الأخروي وقواعد الحساب وان العمل القبيح والجرم العظيم يأتي على العمل الصالح فيمحوه ويزيله.
قوله تعالى [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]
تبعث الآية الفزع في النفوس لما فيها من الإطلاق والشمول للإحباط، مما يعني غلق ابواب الأمل في وجوه هؤلاء الكفار، والتعجيل بظهور الحرمان العاجل لهم في الدنيا واثناء مزاولتهم لأعمالهم، وقد يلجأ بعضهم الى محاولة التدارك والتغطية ولو مراءاة للناس،بان يقوم بقتل الصالحين ولصق التهم بهم، ويقابله ببعض الإحسان والصدقة والإعانة في انشاء مسجد او محل لعبادة الله،
فتأتي هذه الآية لتخبره بحرمانه من الثواب في النشأتين وانه يخرج بالتخصص من النصوص التي وردت في ثواب من يبني المسجد او يقوم بالصدقة واعانة الفقراء لأن الظلم العظيم الذي يفعله يأتي على الصالحات، او ان تلك الصالحات لا يصدق عليها انها عمل صالح لإقترانه بالقبيح الذي يأتي عليه , وبذا يمكن تقسيم الصالحات بلحاظ الزوائد الى مسائل :
الأولى : العمل الصالح المحض الذي لا يشوبه القبيح.
الثانية : الفعل الصالح الذي يأتي متعقباً للقبيح وماحياً له لأنه يصدر عن توبة وانابة.
الثالثة : اتيان الصالحات بايمان متزلزل ثم يعقبها بفعل السيئات والذنوب.
الرابعة : خلط العلم الصالح بآخر سيء، وهذا الفعل على أقسام:
الأول: ما كان فيه العمل الصالح هو الأرجح.
الثاني: ما يكون فيه نوع تساو بين القسمين.
الثالث: ما يكون الفعل القبيح هو الأكثر والأشد، وهذا القسم ينقسم الى فروع منها:
أولاً: ما تشمله رحمته تعالى.
ثانياً : الذي تأتي عليه قواعد الشفاعة فضلاً منه تعالى.
ثالثاً : ما يكون عقابه أخروياً ويكون الإحباط في الآخرة دون الدنيا.
رابعاً : ما يؤدي الى حبط وافساد العمل وهذا القسم هو موضوع هذه الآية، أي انه فرع من فروع أحد أقسام العمل وهو أقسى الفروع وأشدها على الإنسان وهو مناسب لنوع الظلم والتعدي والأذى.
والآية غاية في التخويف والإنذار وتبعث اليأس في قلوب الكفار وتجعل المؤمنين أعزة حتى في حال تلقي الأذى والبطش من الكفار لأن عدوهم خاسر في النشأتين.
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب والزيادة البلاغية ان يؤتى بتتمة للكلام تدفع الوهم وتساهم في رفع الإلتباس الذي قد يسببه الشطر الأول من الكلام كما في قوله تعالى [وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ] ( ).
فلو أقتصرت الآية على قول (لا تخافي) فان الخوف يتعلق بوقوع المكروه وظن نزول ضرر في المستقبل، أمام الحزن فهو علة الواقع، والضرر الذي سبق حدوثه، ومن التكميل في الآية قوله تعالى [إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ]( )، كي لا يبقى قلب ام موسى فارغاً، فمن فضله تعالى انه لم يكتف بطرد الخوف والحزن عنها بل أخبرها بالبشارة التي تبعث الأمل في نفسها، وارجاع موسى لها معجزة وأمر واقع يقيناً فمن كرمه تعالى ان أخبرها به لتقر عينها.
ويسمى التكميل بالإحتراس، وهو كثير في القرآن ودليل على دقة اللفظ القرآني ومخاطبته للنفس الإنسانية بجوامع الكلم، وهو مانع من الريب والشك، ومنه الآية محل البحث فلو أقتصرت الآية على حصر الإحباط بالدنيا، لتوهم نجاة الذين يعرضون عن كتاب الله وسلامتهم في الآخرة، او انهم لا يمكثون في النار الا اياماً معدودة، فجاءت الآية بذكر الآخرة لتوكيد اطلاق الحبط والخسارة التي تلحق الكافرين في النشأتين.
قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]
جاءت خاتمة الآية لتثبيت قاعدة كلية مفادها غلق أبواب النفع الخارجي عن الكافرين، فبعد ان أخبرت الآية بفساد أعمال الكافرين وعدم الإستفادة منها، أخبرت الخاتمة بتعذر جلب المنفعة اليهم من الغير،
لقد جعل الله عز وجل الإنسان في حاجة متصلة ويلازمه النقص والعوز والفقر، وهذا القانون ثابت في عالم الممكنات، والإنسان يحتاج الى الناصر سواء كان الناصر أعلى منه رتبة او أدنى، ويحتاج اليه في الدنيا والآخرة، ويفتقر الإنسان للعون في الآخرة أكثر منه في الدنيا، فهو يحتاج الشفيع والحسنة والثواب اما في الدنيا فان الحاجة الى الناصر ملازمة له ايضاً ولكنها على وجوه، فالمؤمن يحتاج الناصر لتثبيت ايمانه واعانته على أداء العبادات والفرائض، والإحتراز من الكافرين ومكرهم , اما الكافر فانه يبحث عمن ينصره في فعله وتماديه وغيه ويكون عوناً له في ظلمه.
ولقد جعل الله عز وجل النفوس تنفر من الظلم والتعدي، فلذا تجد الظالمين في عزلة بينونة عن عامة الناس، ان حبط الأعمال وحده عذاب شديد، فليس أشد حسرة على الإنسان من ضياع عمله وانعدام نفعه، وهذا الضياع لم يأت فجأة او بعد التحصيل، بل ان الكافر يعلمه قبل واثناء الفعل، فالآية تقول له اعمل وكل ما عملت فسيذهب هباء لأن الذنب الذي فعلته من قتل الأنبياء او الصالحين لن يبقى معه فعل صالح او حسنة،
فهذا الإخبار وحده عذاب أليم في الدنيا وهو حسرة بالغة في الآخرة، خصوصاً بلحاظ رؤيته لحسنات غيره كيف تتنامى وتربو بفضله تعالى، وليس للكافرين من يدفع عنهم عذاب الله، وفي الآية تأديب للناس بلزوم التوقي في العمل والحذر من ارتكاب السيئات، والحرص على وجود الناصر والمعين، وعدم وضع الحواجز دونه، وتلك الحواجر لا يضعها الا الإنسان نفسه باختياره الكفر والجحود ومحاربته لحملة راية كلمة التوحيد.
وجاء حرف الجر (من ناصرين) للقطع بعدم وجود ناصر للكافرين مع عدم نفيهم عن غيرهم، ليكون الناصر لغيرهم حسرة اضافية عليهم، لأنهم يرون أبواب الشفاعة قد فتحت، وان الله عز وجل اذن لمن يشاء بالشفاعة، وليس هناك من يشفع لهم، يذهبون لأرباب الشفاعة من الأنبياء، فيعرضون عنهم لأنهم قاموا بقتلهم والصالحين، ويصيب الإنسان الألم حينما يرى الكافر يطغى ويتعدى على الحرمات، ويتوجه المؤمن الى الله عز وجل الذي له ملك السماوات والآخرة وهو اله في الدنيا واله في الآخرة، ويرجو منه ان يعجل الإنتقام من الكافر، ويستعين به للنجاة من بطشه وكيده.
فتأتي هذه الآية لتكون نوع بشارة وأمل واخبار عن ضعف ووهن الكافر وانه ليس قوياً كما قد يظن من ظاهر فعله بل هو ضعيف ليس له من ناصر، كما ان العقاب الإلهي قريب منه،
لذا ترى دولة وسلطنة الكفر والظلم اذا زالت لن ترجع ولا تعود وترى زوالها يتم سريعاً وعلى نحو يفاجئ الناس وكأنها لم تكن بالأمس تبعث الرعب والخوف في النفوس، وترى الأعوان يتسللون ويغادرون الى بيوتهم او يهربون في الفيافي والأمصار وقد ذهبت عنهم إمارات العز والهيبة، وتفرقوا اشتاتاً كل واحد منهم يبحث عن مأوى يختفي فيه، قد خسر ما جمعه من الأموال وما بناه من الجاه وترك خلفه الأملاك والزروع ونفسه فزعاً وخوفاً وحسرة لتكون هذه الحال مقدمة لما يلاقيه في الآخرة، ومصداقاً لعدم وجود الناصر في الدنيا وعبرة للناس جميعاً،وشفاء لصدور المؤمنين،
والناصر على قسمين :
الأول : الناصر في تأييد الباطل والشر.
الثاني : الناصر في الخير والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتخبر الآية عن عدم صدق اسم الناصر على الأول، لأنه يكون ظالماً ايضاً وسبباً للظلم والتعدي ويشمله العذاب الأليم الذي يلحق بالكفار، فالناصر الذي يأتي بالمدد والعون ويسعى في نقل صاحبه من طرف الخسارة والهلاك الى السلامة والنجاة، ومن أسمائه تعالى النصير وهو الذي ينصر انبياءه وعباده الصالحين،
وفي الآية تأديب للمسلمين واخبار عن لزوم الحرص على وجود الناصر في مرضاة الله للإستعانة به على أمور الدين والدنيا، وتدعو الآية الى اللجوء الى الله تعالى واخلاص العبادة له وعدم الخشية من الكفار والظالمين في أداء المناسك قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( ).
قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ] الآية 23
الإعراب واللغة
الم تر: الهمزة للإستفهام التعجبي، لم: حرف نفي يجزم الفعل المضارع، ويقلب زمنه الى الماضي،
تر: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت.
الى الذين:جار ومجرور، متعلقان بترَ،
أوتوا: فعل ماض، والواو: نائب فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول،
نصيباً: مفعول به ثان، يدعون: فعل مضارع مبني للمجهول، والواو: نائب فاعل، والجملة حالية، ليحكم: اللام: للتعليل، يحكم: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل.
بينهم: بين ظرف مكان متعلق بيحكم، والضمير الهاء مضاف اليه.
ثم يتولى: ثم: حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي.
يتولى: فعل مضارع مرفوع، فريق: فاعل مرفوع،
وهم معرضون الواو: حالية، هم: مبتدأ، معرضون خبر مرفوع بالواو،
والنصيب الحظ من كل شي، ويأتي النصيب بمعنى الجزاء، والإعراض عن الشيء: الصد عنه،يقال أعرضت عنه أي تركته مع انه يطلبني او بمقدوري الحصول عليه.
في سياق الآيات
بعد مجيء الآيات بذم الكافرين والظالمين والإخبار عن خسارتهم وخيبتهم في النشأتين , جاءت هذه الآية للإخبار عن حال اهل الكتاب الذين يدعون الى القرآن ليحكم بينهم وكيف انهم يقابلون الدعوة بالصدود والاعراض، كما بينت الآية التالية موضوع الدعوة الى الله لإبطال ما يدعون من عدم بقائهم في النار الا مدة قليلة واتخاذهم له عذراً للإستخفاف والإعراض.
توجه الخطاب قبل ثلاث آيات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[فَإِنْ حَاجُّوكَ]( )، ثم جاءت الآية السابقة بصيغة الجملة الخبرية، ثم جاءت هذه الآية بذات لغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(الم تر) وفيه وجهان:
الأول : هذا الخطاب مستحدث.
الثاني : إرادة وحدة الموضوع واتصال الخطاب في هذه الآية بالخطاب الوارد قبل ثلاث آيات.
والصحيح هو الأول،فكما أختتمت الآية قبل السابقة بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشارة وإنذار الكفار الذين يقتلون الأنبياء والصالحين بالعذاب الأليم.
إبتدأت الآية السابقة باسم الإشارة للبعيد (أولئك) لإرادة إتحاد لغة الخطاب، وبين موضوع هذه الآية والآية السابقة عموم وخصوص من وجه، إذ أن هذه الآية تخص الكفار وما ينتظرهم من العذاب، أما هذه الآية فتتضمن الإخبار عن الدعوة إلى التصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
إعجاز الآية
الخطاب في الآية موجه الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في توثيق وشهادة سماوية على الإعراض الذي يبديه شطر من أهل الكتاب ازاء الحكم السماوي المستحدث والناسخ مع انه يتضمن خير الدنيا والآخرة لهم،
وتبين الآية الأذى والعناء الذي يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت أحكام القرآن ودعوة الناس للإنتفاع منها وعدم التفريط بها, وجاءت الآية بقيد (كتاب الله) في توكيد على لزوم التقيد بأحكام القرآن خصوصاً وان اهل الكتاب لم يأتهم الا نصيب منه .
ومن اعجاز القرآن انه مصدق للتوراة والإنجيل وشاهد حاضر على نزولهما من عند الله عز وجل، اما هذه الآية فتدل على اعجاز آخر وهو دعوة أهل الكتاب للإتحاد ونبذ الفرقة ومواجهة الشرك والكفر تحت لواء كلمة التوحيد ومبادئ الإسلام.
وتدل الآية على انفراد القرآن بخصوصية وهي القضاء على الخلاف بين أهل الكتاب مما يدل بألأولوية ومفهوم الخطاب على منع الخلاف بين المسلمين، فالقرآن مادة الوحدة وسبب الإتحاد.
تتضمن الآية دعوة المسلمين للجوء الى القرآن واختياره فيصلاً وحكماً في الخلافات والخصومات والنزاعات وفيها اخبار عن أهلية القرآن للحكم بين الناس.
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إحتجت الملائكة بفساد بني آدم وسفكهم الدماء، فجاءت هذه الآية من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في دلالة على أن الله سبحانه، تفضل بأمور:
الأول : جعل حكم الله مصاحباً للإنسان في الأرض بالتنزيل والكتاب.
الثاني : بعث الأنبياء للدعوة إلى حكم الله والعمل به.
الثالث : الإنذار والوعيد للذين يعرضون عن حكم الله ويزهدون فيه.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ) وورد قوله تعالى[أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ] ثلاث مرات في القرآن( ).
الآية سلاح
وتدعو الآية المسلمين لإتخاذ آيات القرآن مادة وموضوعاً للإحتجاج، واللجوء إليه لطرد الشك والريب ولفك الخصومات.
وتبين الآية مسائل:
الأولى : الذين تولوا ليسوا كل أهل الكتاب وأصحاب المعرفة منهم لمجئ صيغة التبعيض[يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ].
الثانية : لم يأت التولي حال الدعوة لأهل الكتاب بل جاء بعد مهلة وإبطاء لقوله تعالى[ثُمَّ يَتَوَلَّى].
الثالثة : مع أن نظم الآية بلغة الماضي إلا أن التولي جاء بصيغة المضارع[ثُمَّ يَتَوَلَّى].
وفي الجمع بين هذه المسائل يتبين أنهم أنصتوا للقرآن، وتلقوا الدعوة إليه والصدور عنه في الحكم بالعناية والرضا، ولكن فريقاً منهم أعرضوا وهذا الإعراض على وجوه:
الأول : إعراض قد وقع في الماضي.
الثاني : الآية إخبار عن اعراض يحصل في المستقبل من جماعة آخرين.
الثالث : رجوع طائفة من الذين أعرضوا إلى حكم القرآن ثم إعراضهم مرة أخرى عنه.
لقد تفضل الله عز وجل وأنزل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وهداية للناس جميعاً، فتفضل الله ودعا الناس للرجوع إليه والصدور عن أحكامه .
وجاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برجوع الناس إليه وإلى القرآن خاصة أهل الكتاب لما يتصفون به من توارث نهج الرجوع إلى الكتاب المنزل، كالتوراة بالنسبة لليهود والإنجيل بالنسبة للنصارى، ترى لماذا وردت الآية بصيغة المبني للمجهول(يدعون) الجواب لإرادة تعدد الدعوة من جهات:
الأول : دعوة القرآن لأهل الكتاب قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
الثاني : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب إلى القرآن.
الثالث : دعوة المؤمنين وإحتجاجهم بالكتاب.
مفهوم الآية
تظهر الآية وحدة السنخية بين الملل السماوية واتباع الأنبياء الذين نزلت عليهم الكتب من عنده تعالى، وحكمه تعالى واحد سواء في التوراة والإنجيل والقرآن، وفي الآية مسائل :
الأولى : توجيه الخطاب الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان حال شطر من أهل الكتاب في الأحكام.
الثانية : انهم نالوا نصيباً وجزء من الكتاب وليس كل الكتاب، مما يقتضي رجوعهم الى الكتاب الجامع المتضمن للأحكام مطلقاً.
الثالثة : دعوتهم الى القرآن لفك الخصومة ومنع الفتنة، والتماس سبل النجاة.
الرابعة : في القرآن الحكم الفصل بين الناس، مما يعني انه حاجة لهم.
الخامسة : فرار شطر وطائفة من الناس من حكم التنزيل , قال تعالى [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ).
السادسة : اقترن بالفرار والتولي الإعراض عن حكم القرآن وعن الدعوة بالتوجه اليه.
افاضات الآية
تبعث الآية العز والفخر في نفوس المسلمين وتدعو الى حب القرآن والتمسك به واللجوء اليه واتخاذه حكماً واماماًً وقائداً، وتحذر من الإستكبار او الصدود عن حكم القرآن، فليس فيه الا الصلاح والهداية والرشاد.
والآية سبب للغبطة والسعادة لأنها تخبر عن وجود حكم الله بين ظهرانينا، وانه تعالى لم يترك الناس من دون نظام فانزل عليهم قوانين سماوية تتكفل حل الخصومات بينهم،
فدعوة اهل الكتاب الى القرآن جاءت مطلقة مما يعني وجود جميع الأحكام في القرآن، واهليته للفصل والقضاء بذاته من غير حاجة للجوء الى التفسير والتأويل، نعم التفسير يكون بياناً وتفصيلاً للحكم القرآني وليس متمماً له.
أسباب النزول
وفيها وجوه :
الأول : أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو و الحرث بن زيد على أي دين أنت يا محمد قال على ملة ابراهيم ودينه قالا فان ابراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلما إلى التوراة فهى بيننا وبينكم فابيا عليه فانزل الله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم إلى قوله وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون( ).
الثاني : اخرج عن قتادة في الآية قال: هم اليهود دعوا الى كتاب الله ليحكم بينهم والى نبيه وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ثم تولوا عنه وهم معرضون( ).
الثالث : عن ابن جريج في الآية قال كان أهل الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق وفى الحدود وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الاسلام فيتولون عن ذلك( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن اسم كتاب الله وان تعدد فانه يشمل ذات الأحكام التي تكون حجة عليهم في خلود الكافر في النار , ولقد جاءت التوراة والإنجيل بالوعد والوعيد والأخبار عن خلود الكافرين في النار وهو الذي جاء به القرآن،
وعلى فرض حصول تعارض فيما بين ايدي الناس عن التوراة والإنجيل والقرآن فان المرجع هو القرآن لأن يد التحريف لم تصل اليه، وهو الجامع للأحكام ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم الى التوراة لإقامة الحجة عليهم وللشهادة على تصديقه بالتوراة وعدم خشيته من وجود اختلاف او تباين بينها وبين القرآن خصوصاً في دلائل نبوته ومن الآيات ان هناك أحكاماً لم يصل اليها التحريف والتغيير في الكتب السماوية ومنها المعاد وحتمية اليوم الآخر والثواب بالجنة والعقاب بالنار.
التفسير
قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى]
خطاب تشريف واكرام الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في القرآن واحداً وثلاثين مرة في آية اعجازية تبين فضله تعالى على رسوله
الكريم وتأديبه للمسلمين وارشادهم الى سبل المعرفة والإحاطة بأحوال الأمم وأسرار الخلق والتكوين، وأكثرها ورد بخصوص الكفار وأهل الجحود لذا جاء بصيغة التعجب التي هي دعوة للتحقيق والإستقصاء واستنباط الدروس لتكون قصص القرآن مدرسة سماوية ينهل منها المسلمون العبر والمواعظ وتنمي عندهم ملكة الحكمة وتجعلهم أكثر تمسكاً بمفاهيم الورع والتقوى، وكل آية فيها (الم تر) جامعة من العلم ومنبع للتقوى وأسس العمل الإسلامي.
والخطاب موجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإصالة والمراد الأمة بعموم أفرادها، فالخطاب حاضر متجدد في كل زمان، يطل على الأجيال ويدعوها للتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي خطابات القرآن والإتعاظ من الأمم، والشكر له تعالى ان جعلهم آخر الأمم يتعظون من سننها ومناهجها، ويقودهم القرآن نحو الأحسن والأصلح وسبل النجاة في الدارين،
وتبين الآية منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء وأفضليته عليهم ان خاطبه الله عز وجل بعرض أحوال الأمم عليه، وجعل الوقائع والأحداث حاضرة أمام عينيه، يراها والمسلمون من بعده بلسان صدق ومن غير ان يطرأ عليها تغيير او تحريف، وهي سبب لتوثيق وتثبيت الحقائق التأريخية، ولتبقى موضوعاً للإحتجاج،د
بالإضافة الى تدبر الآيات الكونية وقصص الأنبياء واجتماعاه بقوله تعالى [أَلَمْ تَر] يدل على وجود جامع بينها سواء في أصل الخلق وان مقاليد الأمور جميعاً بيده تعالى، او العلة الغائية لها وان الله سخرها للإنسان سواء عالم الخلق او عالم الأمر او حياة وقصص الأمم السالفة، فانه سبحانه أراد للمسلمين الإنتفاع منها ويكونون شهوداً على الناس،
خصوصاً وجود تلك الصفات في بقايا الأمم والمجتمعات والملل المصاحبة لأيام الإسلام،
وهو أمر ظاهر بالوجدان وفيه آية اعجازية فكثير من خصائص الأمم التي ذكرت في القرآن سواء في المدح او الذم موجودة في أزمنة الإسلام، ولابد للمسلمين من المعاملة والإختلاط معهم وان تباينت درجة هذا الإختلاط من ملة الى أخرى، وبحسب الزمان والمكان والمواضيع،
فظاهر قصص القرآن بيان أحوال الأمم اما موضوعه ومناسبة الحكم والموضوع فهي ارشاد المسلمين لكيفية التعامل مع بقاياهم ومن يتصف بتلك الصفات ودعوته للإسلام واجتناب شره وكيده، والإحتراز منه، وعدم الميل الى الباطل والظلم ومنازل الشك والريب، لأن المسلمين هم قادة الأمم وهم ورثة الأنبياء والصالحين من اتباعهم، وعليهم تقع مسؤولية تعاهد كلمة التوحيد وتثبيت أركان الإسلام والإنقياد الى الله عز وجل.
قوله تعالى [إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ]
تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على تقسيم الناس بلحاظ نزول الكتاب والأخذ منه الى أقسام :
الأول : الذين لم يأتهم كتاب ولم يتبعوا رسولاً ذا شريعة سماوية وهم الكفار الوثنيون.
الثاني : الملل التي جاءها حظ وشطر من الكتاب وأحكام التنزيل وهم أهل الكتاب.
الثالث : الأمة التي جاءها الكتاب كاملاً.
ويمكن ان يكون المراد من النصيب هو أخذ تلك الطوائف والجماعات جزء ونصيباً من الكتاب الذي أنزل على نبيهم ويحتجون بهذا الجزء ويتركون الباقي الذي فيه تمام الحجة، خصوصاً وان التوراة سميت في عدد من آيات القرآن بالكتاب، وكذا بالنسبة للإنجيل فالآية توبيخ لهؤلاء لأنهم قاموا بتبعيض آيات الكتاب واختيار جزء من آياته، مثلما امنوا بشطر من الأنبياء دون الشطر الآخر،
فالآية دعوة للأخذ بأحكام الكتاب كاملاً وان التوراة او الإنجيل مثل القرآن، كل كتاب منهما بعضه يفسر بعضاً، كما انهما يبشران بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن لم يرجع من الملل السابقة الى التوراة او الإنجيل فعليه ان يرجع الى الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله،
فالآية وان كان موضوعها خاصاً الا ان أحكامها عامة وتدعو للرجوع الى القرآن في المسائل والأحكام مطلقاً، اذ انها تبين الخلل وظهور الخطأ في موضوع واحد جاء من باب المثال وليس الحصر، ليكون شاهداً على حاجة الناس للجوء الى القرآن والتزود مما فيه من العلوم التي تعتبر عناوين الرحمة الإلهية ومادة الصلاح وسبل النجاة،
وفي الآية تأكيد على لزوم الأهلية للإحتجاج ووجود مادة وموضوع له، وان الخلل في المقدمات، يؤلف قياس من المغالطة، وهناك من الكفار من ينكر المعاد ويقول ان الذي يموت فتتلاشى اجزاؤه وتستهلك في التراب، وتصبح عظاماً رميماً فلا يكون قابلاً للحياة من جديد,
اما الذين اوتوا نصيباً من الكتاب فانهم أقروا بالمعاد واعترفوا بالنشور والوقوف بين يدي الله للحساب لا أنهم نفوا خلودهم في الجحيم، واي الفريقين أشد ضرراً وأكثر فساداً من أنكر المعاد ام من آمن به ولكنه نفى خلوده في النار؟ الجواب هو الثاني، لذا جاءت الآية باكرامهم والإخبار عن اتيانهم نصيباً من الكتاب، وبيان عظيم فضله تعالى عليهم وتخليصهم بهذا الحظ والجزء من براثن الكفر والجحود وجعلهم يقرون بالمعاد والنشور، ويكونون عوناً على الكافر في اختياره الإسلام.
كما في موضوع الإجماع المركب في أصول الفقه، ومفاده انه يرد حكمان في مسألة واحدة وكل حكم يدعى عليه الإجماع، فيسمى بالإجماع المركب، وفائدته انه لا حكم ثالث في البين، فكذا بالنسبة للمعاد فحينما يرى الكافر والوثني ان المسلمين وأهل الكتاب يتفقون على المعاد ولكنهم يختلفون في مسألة فرعية وهي الخلود في الجحيم او عدمه، فانه يخرج بنتيجة وهي حتمية المعاد وعدم جواز انكار المعاد، وتساوي نسبة الأحياء الى جميع الناس من غير اختصاص بملة دون أخرى، وفي باب مبهمات الجموع الذين عرفت أسماء بعضهم ذكر في هذه الآية اسم النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد، كما في أسباب النزول.
وتحث الآية على الرجوع الى الكتاب وتلقي الأحكام منه واتخاذه الفيصل لفك الخصومات والنزاعات، ومن الشواهد انه لو رجع الناس الى القرآن لما وقعت معركة او حرب، وكذا لو رجعوا الى مضامين التوراة والإنجيل التي لم تصل اليها يد التحريف لعدم التعارض بين الكتب السماوية.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً قال تعالى [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] ( )، والنصيب هو الحظ من الكلي المشكك الذي تقع تحته مراتب عديدة ويكفي فيها صرف الطبيعة، فيكفي أدنى درجة من العلم بالكتاب السماوي المنزل واتباع الأنبياء، لذا جاءت الآية على نحو الإجمال من غير تقييد باليهود والنصارى.
وجاء ذكر الداعي الى كتاب الله على نحو المبني للمجهول وفيه سعة واشارة الى الكثرة والتعدد، وهذه الكثرة ظاهرة ايضاً بالاسم الموصول (الذين) مما يدل على عدم انحصار موضوع الآية بزمان النبوة او زمان دون آخر، نعم جاءت هذه الآيات في القرآن لتقلل من أعراضهم عن كتاب الله او انهم ينزون ويبتعدون عن الجدال والإحتجاج الذي يؤدي الى دعوتهم الى كتاب الله للفصل والحكم وفي الداعي الى كتاب الله وجوه :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الدعوة وتلاوة آيات القرآن والحكم بين الناس.
الثاني : أهل الكتاب فيما بينهم قال تعالى [وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ]( ).
الثالث : أهل الخصومات والمنازعات والجدال وطلب بعض الأطراف للجوء الى القرآن او التوراة والإنجيل للحكم.
الرابع : المشركون الذين يحاجون أهل الكتاب، كما لو قالوا لهم ان كتابكم يبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا لا تسلمون وتتبعونه.
الخامس : المسلمون في كل زمان في دعوتهم الى الإسلام، وعند طلب الرجوع الى الكتاب السماوي في حال الجدال.
قوله تعالى [يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ], لقد جاءت الآية صريحة بالإخبار عن موضوع الدعوة وهو كتاب الله، ونسبة الكتاب اليه تعالى تبعث في النفوس الشوق اليه وتمنع من الصدود والإعراض واستمرار الخلاف، واختلف فيه على اقوال :
الأول : انه التوراة دعا النبي اليهود اليها فأبوا لما فيها من الدلائل على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ونسب الى أكثر المفسرين، وأستدل عليه بأسباب النزول ولإقامة الحجة عليهم بما كانوا يؤمنون به، وانه المناسب لسياق الآيات.
الثاني : إنه القرآن، وهو المنسوب لابن عباس والحسن وقتادة، ورجحان هذا القول ظاهر، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ]( ).
ويمكن اضافة قول ثالث هو ارادة العنوان الجامع للتنزيل وان الدعوة سواء كانت للتوراة او الإنجيل او القرآن انما هي حجة عليهم وسبيل الى هداية الناس خصوصاً وان موضوع الدعوة هو الحكم بينهم.
لقد جاءت الآية بالإصلاح بين الناس ونبذ الفرقة والخلاف بين الملل والتعدي وعدم اتخاذ ما جاء للأمم الأخرى من التنزيل سبباً للجحود والشقاق.
فالتنزيل كله نعمة وفيض ورحمة الهية، وبعضه يهدي الى بعضه الآخر، وكل الكتب السماوية تنفي حصر عذاب الكافرين الأخروي بأيام معدودات، وفي الآية تأديب للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً بلزوم الحرص على الرجوع الى القرآن والكتب السماوية وعدم الإصرار والعناد.
لقد أرادت الآية الإخبار بوجود مفاهيم خاطئة ودعاوى غير تامة، ومقدمات وهمية وقضايا كاذبة يؤلف منها قياس مغالطي وتجعل مبنى لأقوال لا أصل لها، وارتكزوا الى تفضيلهم بالكتاب والتنزيل هذا التفضيل الذي يؤهلهم للإفتاء والإخبار عن الله عز وجل وعن الوقائع في عالم الآخرة، فجاءت الآية بالإعجاز المركب من وجوه :
الأول : الإقرار بانهم من أهل الكتاب ووجود كتاب سماوي عندهم.
الثاني : الذي عندهم هو شطر التنزيل والعلم، وليس العلم والتنزيل كله.
الثالث : عدم الملازمة بين ما عندهم من الكتاب وما يقولون به.
فليس كل الذي يقوله اتباع الأنبياء هو اخبار عما نزل عليهم فالمدار على كتاب الله المنزل، وهذه الحقيقة ثابتة في جميع الملل السماوية، فأرادت الآية التنبيه بانه قد يقوم جماعة او شخص ينتمي الى ديانة ويعمل بكتاب منزل الا انه يخبر عن أمور ليست في الكتاب الذي يقر به، ليكون موضوع الآية أعم ومناسبة للإرتقاء العلمي والجدلي عند المسلمين ومناسبة لتأهليهم لقيادة الأمم وتهذيب النفوس والإحتراز من الأقوال التي لا أصل لها، ولكن صدورها من أهل الكتاب يفيد الظن بأنها من الكتاب وأحكام التنزيل، للتبادر الذهني بان الكتابي لا يقول الا بما عنده من الكتاب والتنزيل، ولأن المسلمين يقيسون غيرهم عليهم، فهم ملتزمون بآيات القرآن وما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيظنون ان الآخرين مثلهم،
فجاءت هذه الآية لدفع هذا الظن المرجوح ولبيان التباين في السنخية وان الآخرين يأتون بأقوال مبنية على الظن وتؤدي الى نقص الإحتراز وقلة اليقظة وتبطل العلم وتدعو الى الإتكال على وهم لاوجود له، فهذه الآية رحمة بأهل الكتاب واخبار بان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أرادوا لهم النجاة في الآخرة بتخليصهم من الوهم بمحدودية العذاب وقلة أيامه ولمنع التمادي في الغي والحيلولة دون تثبيت امور لا أصل لها وجعلها كالقواعد العامة.
واذا قال أهل الكتاب بان بقاءهم في النار ايام معدودات فيأتي من يقول ان الفاسق والظالم لا يدخل النار او ان حاله كحال أهل الكتاب بعدم البقاء في النار الا أياماً قليلة، فجاءت الآية لنفي القول والمنع من اعتباره اصلاً تتفرع عنه المسائل وكبرى كلية في قياس جدلي لا موضوع له.
فهذه الآية جهاد قرآني واسلامي لمنع الفهم الخاطئ لنواميس الآخرة، ودعوة للإستعداد لها بالعمل الصالح وتدل في مفهومها على خلود الكافرين والظالمين في النار وان المدار على الأفعال والمسميات وليس الأسماء والإدعاء للإنتماء الى ملة او اعلان اتباع نبي من الأنبياء لأن أتباع أي نبي والإنقياد لأحكام أي كتاب سماوي يستلزم الإقرار بخلود الكافرين في النار وعدم انفراد أمة بمحدودية وقلة البقاء في النار،
لقد أرادوا اظهار تفضيلهم على الناس حتى في عالم الآخرة والغاية من ادعاء هذا التفضيل الخروج عن الدعوة الى الإسلام وانهم في معزل عن وجوب دخول الإسلام لقد عجزوا عن ابطال آيات الإنذار التي جاء بها القرآن واثباته لحقيقة كلامية وهي استحقاق الكافر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخلود في النار فلجأوا الى هذه الدعوى الباطلة، وحاولوا التأسي بأنفسهم عن صيغ الوعيد التي جاءت صريحة في القرآن ليبقوا في مأمن وحرز من الدعوة الإسلامية فكان الرد السماوي هو اللجوء الى كتاب الله الى القرآن او التوراة او الإنجيل فان هذه الكتب السماوية خالية من هذه الدعوى الباطلة مع تفضيل القرآن وحجته المطلقة والتفضيل في الآخرة لا يكون على الاسم بل على الفعل الإيماني، بالإضافة الى عدم وجود أمة تنفرد في الآخرة بالتفضيل والبقاء في النار أياماً قليلة فقط،
لقد أثبتت هذه الآية حاجة الناس والأمم والملل الى القرآن، وفيها اخبار بان التحريف في التوراة والإنجيل لم يكن في ذاتهما وكلماتهما فحسب بل في مفاهيمها، والإدعاء الباطل ومحاولة نسبته اليهما او الى عموم الشريعة، فكانت الدعوة الى كتاب الله للإخبار بلزوم الرجوع الى القرآن، والتصديق بالنبي محمد وعدم البقاء على الديانة السابقة، والبقاء المحدود في النار ليس هو موضوع هذه الآية على نحو الحصر بل هو مثال واحد من أفراده لأن الآية جاءت بالدعوة الى كتاب الله للحكم مطلقاً فيما يقع من خلاف وفرقة وشقاق من وجوه :
الأول : الخصومات بين اليهود أنفسهم كجماعات وأسباط وأفراد، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] ( ).
الثاني : الخلاف الذي يحصل بين فرق النصارى في الأحكام والسنن.
الثالث : النزاعات التي تحصل بين اليهود والنصارى، قال تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس بالقرآن حل الخلافات ومنع الفرقة، والرجوع الى حكم السماء باعتبار انه جامع للأحكام وخال من التحريف والتبديل، وفك الخصومات في الدنيا أفضل منه في الآخرة لأن الحكم في الآخرة يكون جزاء وعقوبة على المعاصي والكفر بالتنزيل، أما حكم القرآن فهو إصلاح ودعوة للإيمان وهداية،
ان الوظيفة الشرعية لأهل الكتاب تقتضي الإتحاد في مواجهة الشرك والمشاركة في استئصاله من الأرض، والإختلاف سبب للضعف والتشتت فأراد لهم الإسلام الإتحاد والإلتقاء وحسن الإجتماع، وهذا من الوجوه التي ترجح ارادة القرآن في قوله تعالى [إِلَى كِتَابِ اللَّهِ]، ويدل على انفراد القرآن بازالة الخلافات والضغائن والكدورات الظلمانية بين الموحدين واتباع الديانة السماوية، وهذا من أعظم النعم على الناس عامة وعلى المسلمين وأهل الكتاب خاصة، وعلى الفرد الواحد منهم، فهو الآلة السماوية المباركة للقضاء على الظلم.
والخلاف يكون في :
الأولى : العقائد والمذاهب الكلامية والفقهية.
الثانية : في النبوة والتنزيل.
الثالثة : في نبوة ابراهيم وان دينه الإسلام وليس اليهودية والنصرانية.
الرابعة : في الأمرة والسلطنة ومقومات الحكم وصفات والحاكم.
الخامسة : في الحكم والقضاء والقواعد الفقهية والضوابط التي يبني عليها القاضي أحكامه.
السادسة : في شؤون الدنيا والمنافع الخاصة.
السابعة : في درء المفاسد العامة والخاصة.
الثامنة : التقيد بأحكام وقواعد تقديم الأهم على المهم او عدمه.
التاسعة : الإختلافات بين المذاهب والفرق والجماعات في المعتقد والقول والفعل.
العاشرة : الخلافات في وجود بعض الآيات والنصوص في التوراة والإنجيل او عدم وجودها.
الحادية عشرة : القول في البشارات الواردة فيها بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية عشرة : الإختلاف في القرآن ونزوله من عند الله، فمن اعجاز القرآن انه يثبت بذاته نزوله من عند الله عز وجل، وهذه الآية آية أخرى، فمن يقول بصدق نزول القرآن من عند الله فان القرآن يوثق قوله بالدلائل القاطعة، ومن يشك في نزوله فانه يدعوه للرجوع اليه ليتأكد من تنزيله ومضامين اعجازه وما في آياته من الأسرار التي يعجز عن بعضها الناس جميعاً وان أجتمعوا وتعاونوا فيما بينهم.
وكما جاءت الدعوة بصيغة البناء للمجهول فانها جاءت بلغة الجمع لتبين تعدد وكثرة المختلفين وفيه دعوة للمسلمين للنجاة من آثار هذا الإختلاف والقاء الحجة على الآخرين، والوقوف عند القرآن لحصر الخلاف ومنعه من الإتساع.
وهل ينحصر موضوع الآية والدعوة الى كتاب الله باختلاف أهل الكتاب فيما بينهم، الجواب لا، انما ورد الإختلاف من باب المثال وتأكيد لزوم عدم حصول الخلاف بين أهل الكتاب لما فيه من التشتت والفرقة، وشماتة الوثنيين والكفار، ولعدم وجود أسباب للخلاف لأن الحكم في موضوعاته حاضر وقريب منهم، وان الله عز وجل أراد لهم الصلاح والوفاق فأنزل التوراة والإنجيل والقرآن وفيه دلالة على منافع الكتب السماوية عامة والحاجة الى القرآن خاصة ووجود المسلمين ليحولوا دون اختلاف اهل الكتاب بما يضر بهم وبمعتقداتهم،
وتدل على اعجاز القرآن وعز الإسلام وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يسع الى تفريق أهل الكتاب بل انه جاهد لمنع حصول الخلاف بينهم او اتساعه، وهذا ما لا يستطيع صاحب دعوة وزعامة ان يفعله الا النبي الذي يتلقى الوحي، فالآية شاهد على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم واخبار لمنتديات وجماعات اهل الكتاب بلزوم اتباعه.
والدعوة الى كتاب الله عامة تشمل البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتحذير من مقاتلة المسلمين ولزوم اقامة الصلاة وأداء الزكاة، والتسليم باليوم الآخر وخلود المجرمين في النار.
علم المناسبة
من أسمائه تعالى (الحاكم) وهو الذي يحكم بين عباده ويقضي بينهم بالحق، ويحكم على كل عبد بحسب اعماله من الخير والشر، وقد وردت آيات عديدة تؤكد الحاكمية لله تعالى، وتشمل الدنيا والآخرة الا ان اكثر ظهورها في عالم الآخرة، وقد ورد لفظ الحكم في آيات القرآن على وجوه متعددة من غير تعارض بينها وترجع كلها الى حكم الله وهي :
الأول :لحكم بكتاب الله، كما في الآية محل البحث ونعت الكتاب بانه يحكم بينهم تشريف عظيم واخبار عن أهلية الكتاب للفصل بين أطراف الإختلاف، وان قيل بان اضافة الحكم الى الكتاب من المجاز.
الثاني : حكم النبيين في التوراة قال تعالى [يحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا]( )، وفيها اخبار عن حكم النبيين قبل الإسلام، ولكنها لا تمنع من حكم النبي بالتوراة لليهود خاصة، وتوكيد للبشارة بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم وبيان حكم التوراة بالقصاص والقود واقامة الحدود كحجة عليهم ولفصل الخطاب واظهار العدل والإتحاد حكم التوراة مع القرآن في القصاص ونحوه.
الثالث : حكم الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبعية لحكمه تعالى قال تعالى [وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
الرابع : حكم أهل الكتاب بمضامين كتابهم، فاليهود يحكمون بما أنزل بالتوراة،
والنصارى بما أنزل بالإنجيل، قال تعالى [وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ]( ).
أما قوله تعالى [وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ]( )، فلإقامة الحجة عليهم وان لجوءهم الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوع إقرار بنبوته وان القرآن جامع للأحكام بقرينة الآية التي قبلها والتي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخيير بين الحكم بينهم او الإعراض عنهم.
الخامس : قيام الربانيين الذين أرتقوا في مراتب العلم، والأحبار بالحكم بينهم ولكن القرآن قيد حكمهم بما أستحفظوا وأستودعوا من التوراة والتنزيل.
وتدل الآيات مجتمعة على النهي للرجوع الى القوانين الوضعية المنافية لأحكام التنزيل ومبتكرات الإنسان في باب التشريع وان كان مرتكزها العقل، واجتهاد المشرعين في كل زمان لوضع الضوابط التي تحول دون الظلم والتعدي أمر حسن ومن لوازم الرجوع لأحكام السماء،
والحكم والقضاء أهم أمر لصلاح المجتمعات واقامة الشعائر والتوجه الى العبادات فجاءت الآية للإعانة على معرفة جهته ومصدره والنهي عن العزوف عن الكتاب السماوي في موازين الحكم سواء في العقائد او العبادات او المعاملات.
قوله تعالى [ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ]
تفيد (ثم) الترتيب والتراخي وفيه اشارة الى استماعهم الى الحكم اومعرفتهم بمضامينه وتفاصيله، فهناك من يتولى من رأى عند تلقي الأمر او سمع القول، كما في قوله تعالى [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ]( ).
اما في هذه الآية وموضوع الحكم فانهم لم يواجهوا الدعوة بالإعراض مباشرة بل جاء حرف العطف (ثم) ليدل على التراخي والتريث، وفيه بالدلالة الإلتزامية اشارة الى ظهور حكم الله ومعرفة أهل الكتاب به، ومجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأحكام التي تتعلق بالنبوات والعقائد والمذاهب وأصول وفروع الدين والمسائل والتجارات والصناعات والزراعات والحقوق الشخصية والصلات الأسرية،
وفي الآية تحد لإهل الكتاب ودعوة لهم لعدم التولي وحث على الرجوع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإستماع للحكم الإلهي، ومن الآيات ان التولي ليس عاماً وشاملاً بل حصل على نحو السالبة الجزئية، فالدعوة توجهت لجميع الذين حصل الإختلاف بينهم، ولكن الذين ينصرفون مدبرين فريق وشطر منهم، فأستحقوا الذم والتوبيخ والذي يدل عليه ذكر توليهم مع ان الدعوة لم تكن الا لكتاب الله وفك الخصومة وانهاء الخلاف بالحق وحكم السماء، اذ ان فك الخصومة على وجوه منها :
الأول : التصالح والتراضي.
الثاني : بوقوع الغبن على بعض الأطراف عمداً او جهلاً او لغياب البينة والدليل.
الثالث : العدل والإنصاف وأخذ كل ذي حق حقه اما كتاب الله فلا يحكم لا بالحق والعدل والصدق، فلماذا هذا التولي منهم، فيه مسائل :
الأولى : لمخالفته لهواهم.
الثانية : لإعرا ضهم عن الحق والعدل.
الثالثة : لأن فيه الأمر بالإسلام واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان المراد من كتاب الله القرآن، او التوراة والإنجيل باعتبارهما مبشرين بنبوته.
الرابعة : لإصرارهم على الجحود والعناد.
وفي الآية تأكيد بان الله عز وجل لم يجعل الناس في تيه او ضلال، وان الكتاب السماوي ملازم لوجودهم في الحياة الدنيا بلحاظ القرائن الموجودة في الآية وهي :
الأول : مجيء الآية بصيغة المضارع التي تدل على الإستمرار.
الثاني : الإستفهام التعجبي (الم تر).
الثالث : توجه الخطاب الى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وانحلاله الى المسلمين بلحاظ الزمان والمكان.
الرابع : قوله تعالى [ثُمَّ يَتَوَلَّى ] ولم تقل الآية (تولى).
ولو لم يتول فريق منهم، فماذا تكون النتيجة؟ الجواب الإنصات لحكم الله ورؤية الآيات والبراهين والإمتثال لأمره تعالى وزوال الخلاف والإختلاف بما يؤدي الى علو التوحيد، والإقرار بالحاجة الى كتاب الله واللجوء اليه عند حصول مقدمات الخلاف.
وقوله تعالى [فَرِيقٌ مِنْهُمْ] بشارة وامل مانع من القنوط ودعوة لمواصلة الدعوة الى القرآن وبيان أحكامه أو عدم اليأسٍ من أهل الكتاب والظن بانهم ينهزمون مدبرين من الحكم الإلهي، فلابد من توجيه الخطاب التكليفي بالرجوع الى القرآن وهذه الدعوة لا تكون مجردة وذات كيفية واحدة، بل هي متعددة الوجوه والصيغ والسبل وما يناسب الحال والشأن بالحكمة والموعظة الحسنة والإقناع، ولا يقف الأمر عند الدعوة فقط، بل يشمل بيان الحكم للموضوع والمسألة بحسب ما موجود في كتاب الله،
فدعوتهم الى كتاب الله أي عرض وبيان حكم الله لهم واقامة الحجة والدليل عليهم، وهو جزء من الرحمة والرأفة بهم، وتتجلى فيه مفاهيم الإعجاز في القرآن الكريم، ومنها ان التولي والفرار من الحكم الإلهي لم يحصل من الجميع، بل جاء من شطر منهم، ولابد له من مصداق خارجي والإمثلة عليه متعددة، وقد آمن جماعة من علماء بني اسرائيل عندما دعوا الى الرجوع الى حكم الله في آية الرجم،
وعمّن يكون التولي الجواب :
الأولى : عن القرآن والتوراة والإنجيل.
الثانية : عن الحكم الإلهي.
الثالثة : الداعي الى أمر الله.
الرابعة : عن كلمة الحق والصدق ومفاهيم التوحيد.
الخامسة : عن الدعوة الى نبذ الخلافات، والخصومات،
وظاهر الآية ان الذين يتولون فيهم من رؤسائهم، وفيها دعوة لأتباعهم بتركهم وعدم التولي والإعراض معهم.
وهذا التولي امر ضار بالذات والغير، وفيه استمرار للخصومة والخلاف، وبقاء مفاهيم الجحود والأخلاق المذمومة لأنه يدل على العناد والجفاء,
قوله تعالى [وَهُمْ مُعْرِضُونَ]
حال وتأكيد لفرارهم وهزيمتهم وهم يدعون الى كتاب الله، والإعراض فيه وجوه:
الأول : الإعراض عن الدعوة الى كتاب الله.
الثاني : الإعراض عن كتاب الله وعدم التسليم بالرجوع اليه.
الثالث : التجافي والإبتعاد عمن يدعوهم الى كتاب الله، فاذا كان النبي يدعوهم ابتعدوا وأعرضوا عنه، واذا كان منتدى معين أجتنبوا حضوره، واذا كان شخص او قريب لهم، امتنعوا عن دوام الصلة معه.
الرابع : اذا شعروا بان جهة او جماعة ستدعوهم الى كتاب الله للحكم بينهم فانهم يتجنبون تلك الجهة والجماعة، وهذا القسم يدل عليه مفهومها، او ان تلك الجهة تدعو بعضهم، لفك الخصومة باللجوء الى القرآن، فيحذر الآخرون منها والتولي والفرار وحده كاف لبيان عدم قبولهم لحكم الكتاب ولكن القرآن قرن توليهم بالإعراض.
وبين التولي والإعراض عموم وخصوص مطلق، كل تولي هو اعراض وليس كل اعراض هو تولي، فاخبرت الآية باعراضهم التام عن كتاب الله ليس بخصوص مسألة الإختلاف بل بما هو أعم منه، لأن كتاب الله يدعو الى التوحيد والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذا جعل القرآن هو الفيصل بينهم في مسألة يختلفون في حكمها فانه اقرار منهم بسماوية القرآن، الأمر الذي يكون حجة عليهم.
فيعرضون عن أخذ حكم من القرآن كي لا يؤمرون بأخذ أحكام الصلاة والزكاة والصيام منه، وعدم الإعراض من الفريق الذين تولوا ام من أهل الكتاب مطلقاً، الجواب انه من الذين تولوا عن الدعوة الى كتاب الله، وفي مفهومه مدح لشطر يمدح شطر من أهل الكتاب ممن أستمع الى الدعوة الى كتاب الله، ورضي بالحكم الإلهي، وهذا الإستماع من المقدمات للإسلام وتركة البشارة الواردة في التوراة والإنجيل، ليبقى الأمل والسعي وباب التبليغ مفتوحاً الى يوم القيامة.
وجاء ذكر الإعراض على نحو الإطلاق، للإخبار بان التولي ليس مؤقتاً او انه للتذاكر والدرس كما لو قالوا: ننظر في الدعوة ونرجع غداً او ثم نعلن قبولنا للدعوة او رفضها، او قبولها بقيود بل انهم ينهزمون مع الصدود مما يعني انهم يصرون على عدم التفقه في الدين وان الخلافات باقية على حالها بالنسبة لهم لم تجد حلاً،
واذا ذهبوا الى غير كتاب الله طلباً للحكم ففيه ثلاث وجوه :
الأولى : ان الحكم مطابق لما في كتاب الله.
الثانية : مخالف لحكم الكتاب وبعيد عنه.
الثالثة : تعذر وجود حكم للإختلاف.
اما الأول فهو بعيد لأنهم أعرضوا عما في كتاب الله من الحكم، اما الثاني فهو لا يختلف كثيراً عن الثالث لأنه لاينهي الخلاف بينهم ويبقيه على حاله او يزيد من درجته ويوسع دائرته، وهل يمكن القول ان الذين يتولون هم أحد الطرفين باعتبار ان الخلاف واقع بين طرفين، واحدهما يرضى بحكم كتاب الله، ويبقى الطرف الآخر، الظاهر بخلافه وان التولي يحصل من بين الأطراف المتنازعة، وهل هذا التولي على نحو القضية الشخصية ام النوعية، بمعنى هل الذين يتولون اشخاص كلاً على انفراد ام انهم جماعات وفرق ومذاهب، الجواب هو انطباق الآية على كلا المعنيين، والثاني هو الأكثر والأوفق لنظم لآية والموضوع، فالتولي المقترن بالإعراض يدل على الإختيار والإصرار والعناد.
وفي الآية تحذير من هؤلاء المعرضين لأن الأمر لا يقف عند الإعراض بقرينة انهم يبقون على حال الإختلاف والخصومة، وانكار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالآية تتضمن التحذير منهم لذا ورد اقتران التولي بالإعراض، كما انه يدل على اصرارهم على منازل الجحود، وفيه دعوة للمسلمين لعدم الإنشغال التام بدعوتهم وجدالهم والإحتجاج عليهم، من غير ان يتعارض هذا مع لزوم اليقظة والفطنة والحذر من المكر والكيد والمتفرع عن التولي والإعراض المجتمعين وعلى نحو التعدد في الأشخاص والجماعات.
والتعدد والعطف بالواو بين التولي والإعراض يدل على المغايرة بينهما، فالتولي عند الدعوة لحكم الكتاب وساعة الإحتجاج ويدل على مغادرة المكان وعدم الإنصات، وفيه دلالة على عجزهم عن الرد والبيان والجدل لأن التولي نوع هزيمة.
اما الإعراض فهو أعم وبينهما عموم وخصوص مطلقاً فكل تولِ هو اعراض وليس كل اعراض هو تولِ، فقد يتولى الإنسان عن الدعوة ولكنه يستدرك ويرجع، او يطلب الدليل، او يذهب ثم يراجع أمره وماهية الدعوة، ويعاود الكرة مرة أخرى وينصت الى الدعوة ويختار التولي من جديد او الإنصات، اما هؤلاء فقد فروا وأنهزموا من الدعوة ثم أقاموا على الإعراض فتمت عليهم الحجة وأستحقوا الذم والوصف بانهم معرضون عن حكم الكتاب والتنزيل.
قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ] الآية 24
الإعراب واللغة
ذلك: اسم اشارة مبتدأ (وقال النحاس: في موضع رفع على اضمار مبتدأ أي أمرهم ذلك) ( ).
بانهم: الباء، حرف جر، وان ومدخولها في محل جر بالباء، والجار والمجرور، متعلقان بمحذوف خبر.
وقالوا: فعل ماض وفاعل والجملة خبر ان.
لن: حرف نفي ونصب واستقبال، تمسنا: فعل مضارع منصوب بلن، الضمير المتصل (نا) في محل نصب مفعول به.
النار: فاعل مرفوع والجملة في محل نصب مقول القول قالوا،
الا: أداة حصر، اياماً: ظررف زمان منصوب، معدودات: صفة منصوب وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم.
ما: اسم موصول في محل رفع فاعل، جملة كانوا يفترون: صلة الموصول، كانوا: فعل ماض ناقص، والواو: اسمها، يفترون: فعل مضارع، مرفوع بثبوت النون، والواو: فاعل، والجملة الفعلية خبر كان.
في سياق الآيات
بعد الإخبار عن اعراض شطر من أهل الكتاب اذا طلب منهم الرجوع العام للقرآن او الكتب السماوية الأخرى لأنهاء الإختلاف والعثور على الحكم الذي يحسمه ويمنع من الشقاق والفرقة ويرفع الجهل والغفلة جاءت هذه الآية لبيان علة هذا الإعراض وهي انهم لا يكترثون للعذاب الأخروي ويظنون سهولته وتنذرهم الآية التالية بمواجهة الحقائق يوم القيامة وقواعد الحساب فيه.
إذ إبتدأت الآية بالإستفهام التقريري الذي يتضمن الإخبار القطعي عن جمع الناس ليوم القيامة
إبتدأت الآية بامس(ذلك بانهم) مما يدل على إتصال الآية السابقة في موضوعها، وإرادة الذين أعرضوا عن الدعوة إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وليس فيه إلا الحق والصدق وبيان وجوب الإيمان والتصديق بالنبوة قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( )، [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( )،[ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
مما يدل في مفهومه على أن حكم الكتاب هو العدل والحق، وتبين هذه الآية حجة الذين يعرضون عن حكم الكتاب بما يفيد تسليمهم بانحرافهم عن العمل به، وإدراكهم لما هم عليه من الخطأ والضلالة[وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً]( ).
فجاء الجواب والرد عليهم، وإبطال مغالطتهم ورميهم بالغرور والعفو.
إعجاز الآية
تبين الآية السبب الكامن وراء عدم استجابة شطر من أهل الكتاب للدعوة بالرجوع الى كتاب الله في ذم وفضح لهم، يطالبون بالرجوع الى الكتاب السماوي فيلوذون بعذر واهٍ لا اصل له اومقدمات وهمية وقضايا كاذبة، ومن الإعجاز ان تبين الآية خطأ المبنى الذي يرتكزون اليه، ولولا القرآن لما أنصرفت الأذهان الى هذا السبب وموضوعيته في اصرارهم على الإعراض، بالإضافة الى الوجه الثاني من السبب وهو الغرور المتفرع عن القول في الدين من غير علم وادعاؤهم غير الحق.
وتبين الآية ضروب جدال وأسباب الإمتناع عن حكم الكتاب وهي:
الأول : الإدعاء بأن النار تمسهم مساً ولأيام معدودة.
وقيل بين اللمس والمس عموم وخصوص مطلق،، فاللمس معه إحساس دون المس، ولكن القرآن ، جاء بلفظ المس مطلقاً.
والمس هو إلتقاء جسمين أو شيئين من غير برزخ أو فاصل بينهما، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، والمراد في الآية أدنى مراتب المسمى والأذى، وجاء في الوعيد[وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، في بيان مرتبة شديدة من العذاب لا تنحصر بما يلامس البدن وحده .
وعن ابن عباس: يزعمون أنهم ، وجدوا في التوراة مكتوباً ، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة ، وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم ، فإذا انقطع المسير انقضى العذاب ، وهلكت النار ، وهذا قول من قدر « المعدودة بالأربعين ( ).
الثاني : التعرض للهلكة بالتأويل غير الصحيح.
الثالث : الإفتراء والكذب.
ويمكن تسمية الآية آية (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ) وورد هذا اللفظ أربع مرات في القرآن.
الآية سلاح
في الآية دعوة لعلاج اسباب اعراض الآخرين عندما يدعون الى كتاب الله، ببيان علة هذا الإعراض وانها ظن مرجوح ولا أصل له في كتاب الله، وانهم يأبون الرجوع الى الكتاب غروراً وعتواً.
يتطلع المسلمون إلى أهل الكتاب لتصديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة للقرآن بأنه كتاب نازل من السماء لإعجازه الذاتي والبشارات التي جاءت بخصوصه في التوراة والإنجيل وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، وفيه مسائل الحلال والحرام، وأحكام القضاء والفرائض أي الميراث.
ولكن فريقاً من الناس أعرضوا عن حكم القرآن مع وجود المقتضي، فأخبرت هذه الآية بأن علة إعراضهم قصور ذاتي وإفتراء لا أصوله، وظن بأن النار لا تعيبهم إلا أياماً معدودة وعلى نحو الحس الخفيف.
مفهوم الآية
تنهى الاية عن القول في عالم الآخرة وأحكامه وأسراره من غير علم وتدعو الى الإقرار بما ورد بخصوص الثواب والعقاب يوم القيامة وعدم وجود واقية شخصية تدرأ العذاب عن المجرمين والمعاندين،
وتأكد الآية مفاهيم الخلود في عذاب النار وتحذر منه، وتدعو الى عدم الركون الى أقوال الغفلة والجهل التي تؤدي الى الهلكة وعدم اتخاذ الحيطة والحذر والإستعداد ليوم القيامة، وفي الآية تأديب وارشاد لعدم الغرور والزهو في العقائد وضرورة الإقرار بالأديان السماوية ومعرفة حقائق كل دين وقواعد النسخ في الشرائع وما تقدم في الآيات السابقة بان الدين عند الله هو الإسلام.
ان الدعوة الى كتاب الله حرب على الغرور في الدين وان كانت لكتاب تلك الديانة فالتوراة تمنع من الغرور في اليهودية لأنها تدعو الى التوحيد وتبشر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتمنع من الخلاف والشقاق وكذا الإنجيل وتبين الآية اضرار الإفتراء والكذب عن عمد على الله كما في قولهم [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ].
افاضات الآية
في الآية اخبار بلزوم الرجوع الى حكم الله عز وجل والإمتثال لأوامره وما ورد في التنزيل من أحكام وسنن وعدم الوقوف عند الحجج الواهية والإصرار على الإدعاء الزائف لأنه يؤدي الى المهالك ويمنع من الإستبصار في الدين، ويسبب الإختلاف والخصومة والشقاق،
وفي الآية ذم للذين يصدون عن الحق باعتمادهم أسباباً منافية له واعتمادهم الإفتراء والبهتان ونسبته الى الدين والتنزيل.
وتبعث الشوق في النفوس للجوء الى كتاب الله ومعرفة أحكامه والخشية من العذاب الأخروي، وفيها مدح للمسلمين لإجتنابهم الإفتراء او التحريف، وهم لم ينكروا الوعيد والعذاب بالنار وتراهم يخشون منها وكأنهم يحسون بلهيبها، وفي الآية مسائل:
الأولى : بيان حال الناس في الآخرة.
الثانية : وقوع النشر والحشر في الآخرة وبعث الأجساد من القبور واعادة الأرواح اليها.
الثالثة : ضرورة وحتمية يوم القيامة، والأخبار بان يوم القيامة أمر حتمي لا شك فيه.
الرابعة : حصول الجزاء بحسب عمل الإنسان من غير تفويت او تضييع لبعض الأعمال.
الخامسة : يكون الحساب على نحو القضية الشخصية فكل انسان مسؤول عن عمله ويأتيه الجزاء على أفعاله.
السادسة : انتفاء الظلم مطلقاً في الآخرة، فكما أخبرت الآية بان الظلم والتعدي لا يصل اليهم فانها تدل في مفهومها على عدم امكان ظلم الإنسان نفسه لغيره، وليس في الآخرة افتراء او أغواء للذات او الغير، ويتعذر على الإنسان ظلم نفسه، فالإعراض عن كتاب الله ظلم للنفس والغير اما في الآخرة فلا ظلم مطلقاً ولا يمكن الإعراض عن حكم الله.
التفسير
قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ]
من الآيات في القرآن انه يتناول بالتفصيل والبيان حال أهل الكتاب لأهميتها في تثبيت أركان التوحيد في الأرض، وهم الأساس والركيزة العقائدية التي جاء عليها الإسلام لما عندهم من الحنيفية والتنزيل والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأنهم أولى الناس بالمبادرة الى دخول الإسلام وكأنهم مدخرون للتصديق به حال بعثته، فالجفاء والإعراض منهم يسبب مشقة اضافية وعبأ ثقيلاً على المؤمنين،
والأصل ان لا يقع اختلاف بين أهل الكتاب في الإسلام وتنزيل القرآن، ولو نظرت الى الحروب التي خاضها الإسلام في أول أيامه لوجدت اكثر أسبابها من العناد والإصرار على الخلاف والشقاق، وحتى أهل مكة أعرض أكثرهم عن البعثة النبوية في بداياتها الا انهم ما لبثوا ان جهزوا الجيوش الى يثرب لمقاتلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع ان المسافة بين مكة ويثرب تبلغ أكثر من أربعمائة وخمسين كيلو متراً،
والمسلمون اصبحوا أكثر قوة وعزماً على القتال، ولعل من بين الأسباب ان المشركين كانوا يسألون اليهود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبارهم أهل كتاب فيخبرونهم بخلاف ما ورد فيه من البشارات، ومع هذا فان الإسلام لم يتخل عن أهل الكتاب بل حفظ لهم منزلتهم كما هو ظاهر الآيات القرآنية، وجعل لهم حكماً تشريفياً خاصاً الى يوم القيامة وهو انفرادهم بالدخول في ذمة الإسلام،
وهذه الآية من الآيات الإصلاحية لأهل الكتاب وفيها احتجاج عليهم وزجر عن القياس الجدلي المؤلف من مقدمات بعيدة عن الحق، وتبين ان اعراضهم عن الدعوة الى حكم الحق عرض ظاهر، والعرضي على قسمين:
الأول: ما هو لازم لا يمتنع انفكاكه عن موضوعه كما في برودة الثلج وحرارة الشمس، فالبرودة والحرارة عرض لازم لكل منهما،
الثاني: العرض المفارق، وهو الذي يمكن انفصاله ومغادرته للموضوع، كما في البرودة والسخونة للماء، والصحة والسقم للإنسان، والإنفكاك بين هذا الفريق من أهل الكتاب وبين الإعراض عن الدعوة الى حكم الله أمر غير ممتنع عقلاً، فلذا جاءت هذه الآية للإنذار والإصلاح والإحتجاج،
وجاءت الآية التالية للوعيد لمن يتخذ هذا القول عرضاً لازماً، كما انها تساعد على فهم السجايا وموضوع الملازمة بين الإعراض والإدعاء الباطل، فاذا رأينا الإعراض عن الدعوة الى الله تبادر الى الذهن تصور الملزوم والنسبة بينهما، فيزول العجب وينعدم الأثر السلبي على المؤمنين من هذا الصدود، ويلتفت الناس الى علة الصدود عن كتاب لله ويبقى اهل الجحود والإعراض قلة لا سلطان لهم على الناس ولا يحولون دون دخولهم الإسلام.
وجاءت الآية بصيغة الفعل الماضي للإخبار عن اصرارهم وجحودهم وان هذا القول ثابت عندهم كما انها جاءت بصيغة الجمع وانهم يشتركون في القول ولم يصدر عن بعض كبرائهم، بل هو شائع ومتعارف عندهم، فكان من الضروري ان يتصدى القرآن لإبطال هذا الوهم، وليكون في هذا التصدي دليل على صدق نزول القرآن من عنده تعالى من وجوه :
الأول : اخباره عن وجود هذا القول وشيوعه عند فريق من أهل الكتاب.
الثاني : بيان علة الإعراض، مع عدم ظهور الملازمة وقوانين العلة والمعلول، بينه وبين ادعاء اللبث القليل في النار.
الثالث : عدم انكارهم للإعراض او للملازمة بينه وبين الإعراض عن الدعوة الى كتاب الله.
وهل يمكن القول بان الضمير في (بانهم) هو نفسه في (منهم) من الآية السابقة أي ان الذين يقولون [لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ] انما هم جميع الذين أوتوا نصيباً من الكتاب وليس الذين تولوا فقط، هذا المعنى خلاف ظاهر الآية وحصر صيغة الذم فيها في الذين أعرضوا عن الدعوة الى كتاب الله وهم منهزمون فالضمير في [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ] راجع الى الذين تولوا منهم.
وقال الجبائي: وفيها دلالة على بطلان قول من يقول: ان اهل النار يخرجون من النار، لأنه لو صح ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً، ولما أستحق الذم، فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا ان القول بخروج اهل النار قول باطل( )،
ويمكن الرد عليه من وجوه :
الأول : لا تدل الآية على نفي خروج بعض اهل النار منها مطلقاً، انما وردت بخصوص هؤلاء الذين جعلوا الخروج خاصاً بهم بلحاظ كونهم من بني اسرائيل وابناء الأنبياء بغض النظر عما عملوا من الذنوب.
الثاني : لقد ارادوا القول بان الجحود بنبوة محمد لم يكلفهم الا البقاء في النار اياماً قليلة، وهذا ما ليس له دليل، واجماع المسلمين بخلافه.
الثالث : لا ملازمة بين المسلمين وغيرهم من الأمم في صيغ الحساب لأن المسلمين تدركهم الشفاعة وينالون ثواب التصديق بخاتم النبيين وهم على الدين الذي ارتضاه الله للناس.
الرابع : القدر المتيقن من الآية هو بطلان قول هؤلاء، والأخبار عن عدم صحة ادعائهم، وانعدام الدليل والبرهان عليه.
ان ادعائهم اللبث القليل في النار سبب لتمادي الأمم الأخرى في الضلالة والجحود، والإستخفاف من آيات الوعيد والتخويف بالنار الذي هو ركن من أركان الدعوة الى الله وتأكيد ضرورة عبادته تعالى فمن الناس من يعبد الله خوفاً من النار والخلود فيها،
وهذا الخوف يدل بالدلالة التضمنية على الإقرار بعظيم قدرته تعالى وحصول الجزاء والثواب والعقاب، وقد يكون الخوف والرهبة مقدمة للإنتقال الى الشوق الى الجنة والسعي اليها بالعمل الصالح، وهذا الخوف مترشح عن تفضله تعالى بالإخبار عن حتمية العذاب للكافرين وخلودهم في النار، اما هؤلاء فيريدون ان يضعفوا حال الخوف عند الناس من النار بما يؤدي الى صدهم عن دخول الإسلام وفعل الصالحات فلزم فضحهم وذمهم وتحذير الناس مما يدعون لمنع الإغترار والإفتتان بهم،
فموضوع الآية أعم من القضية في واقعة او الأضرار الخاصة لهذا القول على أصحابه، بل انه يشمل الناس جميعاً وينشر حالة من قلة الإكتراث بعالم الحساب خصوصاً وانهم أهل الكتاب سماوي، فيظن الناس ان ما يخبرون عنه حق فجاءت الآية لتبطل ما يزعمون وتجدد التحذير من الخلود في النار، وتجعل بينونة عزلة بين قولهم وبين التنزيل.
وفي مدة الأيام مسائل :
الأولى : مدة العذاب سبعة أيام، عن الحسن اذ جعلها مدة عبادتهم للعجل.
الثانية : انها بقدر الأيام التي خلق الله فيها آدم عليه السلام، عن مجاهد( ).
الثالثة: بعدد الأيام التي عبدوا فيها العجل وهي أربعون يوماً، عن الربيع وقتادة.
الرابعة : ايام منقطعة، عن الجبائي.
ومن الإعجاز ان يرد ذكر الأيام على نحو الإجمال، وليس الحصر والتقييد ويحمل الكلام على ظاهره، وفيه وجوه :
الأول : ذكر جماعة منهم عدد الأيام كما في الأقوال أعلاه.
الثاني : الإكتفاء بذكر اجمالي من غير تعيين او تحديد للمدة.
الثالث : ذكر لفظ “الأيام المعدودات” على نحو النص الصريح.
الرابع : الإخبار بان مكثهم في النار لن يدوم مدة طويلة، بل هو أيام قليلة.
الخامس : ارادة مخالفة ما جاء به الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأخبار عن خلود الكافرين والجاحدين في النار.
وقلة المكث في النار لخصوصية يزعمونها وهي انهم أهل كتاب، ولهم تفضيل على الأمم الأخرى، فاذا كان غيرهم يخلد في النار فان العمومات لا تشملهم وكأنهم يخرجون بالتخصيص مما جاء في القرآن من الوعيد وانه لا يتعلق بهم.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً]( )، في الذين يحرفون الكتاب لقاء ثمن قليل والمعنى واحد، وهو يدل على التباين الجزئي في عدد الأيام من غير ان يخرجها عن طرف القلة، فاذا كانت آيتان،احداهما تقول انها ايام معدودة، والأخرى معدودات، فانه يدل على عدم اقرارهم بطول مكثهم في النار.
وقد ورد لفظ [مَعْدُودَاتٍ] ثلاث مرات في القرآن، فقد ورد مرتين في مدح المسلمين وحثهم على العبادة احداهما في الصيام [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا] ( ).
والأخرى في أداء مناسك الحج [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ]( )، وتبين الآيات الثناء على المسلمين في موضوع الأيام المعدودات، وانهم يستثمرون ايام الدنيا للعبادة.
ان مبحث الأيام يجب ان يكون مناسبة للتقوى والصلاح، وان الإنشغال بالإدعاء عن أحوال الآخرة والتسامح فيها يبعث على التقصير في أمور العبادة ويجعل الإنسان لا يلتفت الى الإنذارات السماوية.
وفيه تأديب آخر للذين اوتوا نصيباً من الكتاب، فبالإضافة الى مضامين هذه الآية فان انقطاع المسلمين الى العبادة واجتنابهم الإفتراء والإدعاء بغير حق، وتسليمهم بما جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في المعاد وأحكامه وقوانينه العامة درس وموعظة وارشاد لأهل الكتاب، وهذا من الآيات العقائدية، فكما ان القرآن يعضد المسلمين ويكون لهم عوناً وناصراً، فان المسلمين بنهجهم وصلاحهم وأعمالهم العبادية يكونون عوناً للآية القرآنية في هداية الناس الى سبل الحق واقامة الحجة على أهل الغواية، فليس في القرآن بخصوص الأيام المعدودات الا العبادة والنسك فلذا لا يريدون الرجوع اليه.
قوله تعالى [وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ]
التغرير هو التعرض للهلكة وحمل النفس على الخداع والطمع بالباطل، وفي الآية اعجاز لفظي وبلاغي وعقائدي فهي من جوامع الكلم وفيها مسائل :
الأولى :اقامة الحجة عليهم بذكر الغرر.
الثانية : ذكر علة الغرر وهي الإفتراء والكذب.
الثالثة : الذم والتوبيخ للكذب في أمور الدين والتنزيل.
الرابعة : حصول تعد على الدين بنسبة أمور اليه ليست موجودة.
الخامسة : اللبس عليهم بسبب الغرر فصارت غشاوة على الأبصار تمنع من رؤية الحق.
السادسة : الآية دعوة للنظر الى دينهم وكتابهم بعين البصيرة والمنع من الغرور خصوصاً وان الكتب السابقة تضمنت الوعيد بالخلود في النار للكافرين.
السابعة : ان دين اليهودية والنصرانية خالِِ من الغرر وما يخالف الوعد والوعيد الواردين في القرآن الا ان الغرر جاء من جهة الإفتراء على الكتاب المنزل.
والواو في (وغرهم) للعطف وتفيد التغاير والتعدد فان علة توليهم واعراضهم عن الداعي الى كتاب الله امور هي :
الأول : قولهم باللبث القليل في النار.
الثاني : الإفتراء والكذب على الكتاب المنزل.
الثالث : الغرور وخداع النفس.
والإفتراء على اقسام بحسب موضوعه وأشده ما كان بهتاناًَ وكذباً في الدين والعقيدة لأن ضرره يكون عاماً فيشمل الذات والغير ويبقى أثره في المجتمع، فلذا تصدت الآية له ودعت الناس الى الإعراض عنه، وجاءت صيغة الذم لحث أصحابه على التخلي عنه واجتنابه، وتبين الآية عدم وجود التناقض والإختلاف بين الأديان السماوية، انما يطرأ الإختلاف مما يلحق هذه الأديان من الأفتراء.
وبما ان الإسلام هو الديانة الباقية الى يوم القيامة والجامع للشرائع فلابد ان لا يصل اليه الإفتراء ولا يطرأ عليه الكذب لذا ظل القرآن مصاناً محفوظاً من التحريف والتغيير، بل حتى السنة النبوية اجتهد العلماء في تنقيح أخبارها بنفي الموضوع من الأحاديث فيها ويبنوا ما هو ضعيف سنداً، ولم يكتف القرآن عند حدود سلامته بل انتقل الى الأديان والملل الأخرى وفضح الزوائد التي طرأت عليها كما في هذه الآية اذ يذم الإفتراء على الدين ومع الشك في حصول الإفتراء اوعدمه في موضوع من مواضيع الكتب السماوية الأخرى.
فالمرجع هو القرآن فهو الذي ينفي التهمة عنها ويفضح التحريف فيها، كما في هذه الآية فقد نسبت القول باللبث القليل في النار اليهم وليس الى التوراة او الإنجيل، وبينت الخلل والخطأ في المقدمات، وما حملهم عليه الإصرار على الجحود من الإفتراء والكذب على الدين غروراً وعناداً.
وظاهر الآية ان التغرير الذاتي جاء بعد الإفتراء في الدين، وهو من النتائج الضارة للإفتراء، فالآية تحذر من الإفتراء في الدين وتدعو الى محاربته من أصوله لأن الإفتراء يولد حالة من الظن الخاطئ والعادة الذميمة، ومع مرور الأيام يصبح الإفتراء وكأنه حقيقة وواقع، وتبتنى عليه المفاهيم وما استند الى باطل فهو باطل، وبذا فان هذه الآية تفضح فريق من أهل الكتاب باللبث القليل في النار وما أصابهم من الخداع واللبس، وعلته وهي الإفتراء والكذب في الدين، ومن وجوه الإفتراء :
الأولى : قولهم نحن ابناء الله واحباؤه، عن قتادة( ).
الثاني : لن تمسنا النار الا اياماً معدودات، عن مجاهد.
والآية أعم لذا جاءت بصفة الإفتراء والتظليل والزور.
لقد أختاروا الإعراض عن دعوة الحق، ففضحهم القرآن بما أدى الى اعراض الناس عنهم وقلة عددهم وانعدام تأثيرهم على النفوس، والإفتراء أخص من أن يصدر عن كبرائهم ويتبعهم الآخرون، فنسب الإفتراء اليهم جميعاً للتقليد الأعمى والإصرار على عدم الرجوع الى الحق الذي يبين صدق او كذب دعوى الكبراء والرهبان والأمراء منهم.
ومع ان الآية جاءت بصيغة الذم والتحذير فانها لم تجعل هؤلاء في حيرة من أمرهم، أعرضوا عن كتاب الله ولكن القرآن لم يعرض عنهم، وهذا من سنن اللطف الإلهي التي وردت في القرآن ومنها :
الأول : التنبيه الى اختيارهم التولي والإعراض، واحياناً يأتي الإنسان بالفعل وهو لا يعلم انه خطأ سواء للإصرار والعناد او للظن المرجوح والوهم او لعدم وجود الناصح، فتصدى القرآن لجميع هذه الوجوه بالمعالجة والتدارك، وأخبرهم بخطأ التولي والإعراض لأن كتاب الله لا يدعو الا الى الحق.
الثاني : جاءت الآية لمواجهة الغشاوات الظلمانية التي يسببها التحريف والتشويه في الملل والشرائع والإضافات التي تأتي من المصالح والمنافع الشخصية لمنازل الرياسة والأمرة والسلطنة، فالملأ من كل أمة يسعون لبقاء الاتباع منقادين اليهم بوسائل وطرق مختلفة، ومنهم من يلجأ الى الإفتراء او تصديق الإفتراء لأنه يناسب مصالحه وبقائه على سلطانه فذكرت الإعراض عن الحق والصدق وعلته الواهية.
الثالث : لقد أرادوا من دعوى اللبث القليل في النار الإعتذار عن عدم الإستماع لحكم الله في كتاب الله النازل من عنده، فجاءت هذه الآية لتخبر بان موضوع الإعتذار نفسه سبب للعقاب في الآخرة.
الرابع : لم تترك الإنسان في حيرة من أمره، بل رفعت عنه الشك وأخبرت عن حقيقة دعوى اللبث القليل في النار بانها افتراء وبامكان الإنسان ان يتأكد من كونه كذباً وزوراً وافتراء، وهذه الآية وحدها تأكيد على بطلان هذه الدعوى.
الخامس : في الآية مدرسة وتأسيس لعلم خاص في معرفة صحة الدعوى والقول ونسبته الى الدين والملة بعرضه على القرآن والعمومات التي جاءت بها الشرائع، فالقرآن يسمي دعوى اللبث القليل في النار وما شابهه من الأمور بانه افتراء وفيه دعوة للتحقيق من ذات الشرائع التي يؤمنون بها ومن التوراة والإنجيل ليثبت انه فعلاً افتراء ولا اصل له، وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصديق وتأكيد لما جاء به موسى وعيسى.
السادس : نعت قولهم ومرتكز أفعالهم بانه افتراء وبهتان تحد ظاهر لهم، واحتجاج خالد على ما يدعون، ويجعل النفوس تنفر من هذا القول والأسماع تعزف عنه ليحصل الإعراض عنهم كما اعرضوا عن كتاب الله.
قوله تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] الآية 25
الإعراب واللغة
الفاء استئنافية، كيف: اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم للسؤال عن الحال، والمبتدأ محذوف تقديره حالهم، وفيها اختصار وبلاغة وذكرت فيها أقوال أخرى.
اذا: ظرف زمان، وقيل انها تتضمن معنى الشرط.
جمعناهم: جمع فعل ماض، والضمير (نا) فاعل، والهاء مفعول به.
يوم: جار ومجرور، لا: نافية للجنس، ريب: اسمها مبني على الفتح في محل نصب، فيه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا).
ووفيت: الواو عاطفة، وفيت: فعل ماض مبني للمجهول، كل: نائب فاعل مضاف، نفس: مضاف اليه، ما: اسم موصول مفعول به.
كسبت: جملة فعلية صلة الموصول.
وهم: الواو حالية، هم: مبتدأ، لايظلمون: لا: نافية، يظلمون: فعل مضارع مبني للمجهول، الواو: نائب فاعل، وجملة لا يظلمون في محل رفع خبر هم.
في سياق الآيات
بعد فضح الذين يعرضون عن الدعوة الى الحق والكتاب، والأخبار عن الأسباب الوهمية الخاصة التي تجعلهم يختارون التولي والإعراض، جاءت هذه الآية بصيغة الإنذار والوعيد الذي يتضمن ابطال ادعائهم وذم فعلهم، وفي هذا السياق والنظم اعجاز خاص لما فيه من التكامل الموضوعي، والنهج القرآني لإصلاح المجتمعات وطرد المقالات الفاسدة.
كما إبتدأت الآية السابقة بالإشارة للبعيد (ذلك) ودلالته على اتصال مضامين الآية بالآية السابقة، فقد ابتدأت هذه الآية بأداة الإستئناف(الفاء) واسم الإستفهام التعجبي المتعلق بذات الطائفة الذين ذكرتهم الآية قبل السابقة بقوله تعالى[ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ]( ) .
وأخبرت الآية بأن الناس جميعاً مجموعون ليوم القيامة حيث الحساب والجزاء بالحق، ومن لا يرضى بحكم الله في الدنيا فأنه يكون في الآخرة من الخاسرين، وبينما ذكرت الآية السابقة أياماً معدودات ذكرت هذه الآية يوماً واحداً ولكنه مستغرق لكل آنات الآخرة وعن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال : ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار( ).
إعجاز الاية
لم يترك القرآن الجاحدين والمعاندين يقولون ما يشاؤون من الفرية والإدعاء الباطل، بل ذكر اقوالهم بصيغة الذم، وهذه الصيغة وحدها كافية لنفرة النفوس منهم، وجاءت الآية بالإنذار من أمر حتمي الوقوع يقرون به ولا ينكرونه وهو النشور والجمع يوم القيامة، وما بعده مترتب عليه وهو الحساب والثواب والعقاب وكما نفت الآية التحريف والغرور فانها أكدت انعدام الظلم يوم القيامة.
ومن إعجاز الآية أنها سمت يوم القيامة بأنه(يوم لا ريب فيه) لبيان المائز بينهم وبين أيام الدنيا، فكل يوم من أيام الدنيا يطل على الناس قد لا يتم ويستمر إلى حلول الليل، قال تعالى[وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ]( ).
أما يوم القيامة فهو حتم وأمر لابد منه في ذاته وأهواله لا يصل إليه الشك أو الريب( )، ويكون فيه الجزاء على الأعمال، وفيه تحذير من الإتكال على الشفاعة , وعلى البنوة للأنبياء والصالحين.
ويمكن تسمية الآية آية(فكيف إذا جمعناهم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
هذه الآية بذاتها موضوع للإحتجاج ووسيلة لتكذيب الإدعاءات الباطلة بخصوص عالم الآخرة، خصوصاً وان المعرضين والمعاندين ، ويدعون اموراً وكأنها مقتبسة من الكتب المنزلة ، مما يسبب الأذى والإرباك فيما يخص العقائد، لأن الإفتراء يصبح مع توالي الأيام وتعاقب الأجيال وكأنه حقيقة ويلبسونه لباس الصدق، وتساعد قرينة وجود كتاب عندهم على تلقي الناس الزيف والإفتراء وكأنه حقيقة، فجاء القرآن لكشفه، ولبيان الأمور كما هي ومدى منافاتها او موافقتها لأحكام عالم التنزيل.
وفي الآية بعث للسكينة في نفوس المسلمين لتجلي الحق يوم القيامة، ورجوع المغالطة على أصحابها , قال تعالى[وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
مفهوم الآية
في الآية تحد كبير للمعاندين والجاحدين فبعد الإخبار بصيغة الذم عن افترائهم واصرارهم على الكذب وتفرع مسائل وأقوال عنه جاءت الآية القرآنية لتكون سلاحاً عقائدياً يثبت احكام الآخرة وينفي عنها الإفتراء والكذب لأن التحريف لم يتوقف عند الكتب السماوية بل طال وشمل اصول الدين،
فأكدت هذه الآية موازين الحق والعدل في الآخرة، وان الناس جميعاً يحشرون يوم القيامة ويأتي كل واحد منهم كعبد داخر لله تعالى ليس عنده الا عمله، ولا تنفرد جماعة او ملة بخصوصية وحق قلة ونقص العقاب على المعاصي مثلما انه لايظلم أحد،
وخاتمة الآية تغلق الباب بوجههم يوم القيامة فحينما يخلد أحدهم في النار ليس له ان يقول اني ظلمت بالخلود في النار، وهو لا يريد ان الله يظلمه فكونه سبحانه عادل عليه اجماع المليين، ولكنه يدعي يومئذ الظلم من الكبراء والرهبان الذين افتروا في الدين واضافوا اكذوبة عدم اللبث الطويل في الجنة.
ومع ان الآية جاءت بصيغة الذم والتحذير فانها لم تجعل هؤلاء في حيرة من أمرهم، أعرضوا عن كتاب الله ولكن القرآن لم يعرض عنهم، وهذا من سنن الطف الإلهي التي وردت في القرآن ومنها :
الأول: التنبيه الى اختيارهم التولي والإعراض، واحياناً يأتي الإنسان بالفعل وهو لايعلم انه خطأ سواء للإصرار والعناد او للظن المرجوح والوهم، او لعدم وجود الناصح، فتصدى القرآن لجميع هذه الوجوه بالمعالجة والتدارك، واخبرهم بخطأ التولي والإعراض لأن الكتاب لا يدعو الا الى الحق.
الثاني : جاءت الآية لمواجهة الغشاوات الظلمانية التي يسببها التحريف والتشويه في الملل والشرائع والإضافات التي تأتي من المصالح والمنافع الشخصية لمنازل الرياسة والأمرة والسلطنة، فالملأ من كل أمة يسعون لبقاء الإتباع منقادين اليهم بوسائل وطرق مختلفة، ومنهم من يلجأ الى الإفتراء او تصديق الإفتراء لأنه يناسب مصالحه وبقائه على سلطانه فذكرت الإعراض عن الحق
والصدق وعلته الواهية.
الثالث : لقد أرادوا من دعوى اللبث القليل في النار الإعتذار عن عدم الإستماع لحكم الله في كتاب الله النازل من عنده، فجاءت هذه الآية لتخبر بان موضوع الإعتذار نفسه سبب للعقاب في الآخرة.
وفي الآية مسائل :
الأولى : حتمية المعاد.
الثانية : ذكر الميعاد جاء بصيغة الإنذار.
الثالثة : الجمع والحشر شامل لكل انسان ولا يتخلف عنه أحد.
الرابعة : في الآية ترغيب بالثواب والجزاء الحسن على فعل الصالحات، ومن صفات يوم القيامة ان الثواب يصل لصاحبه تاماً كاملاً من غير نقصان.
الخامسة : في الآية تخويف ووعيد على المعاصي والذنوب فيأتي العقاب عن استحقاق ومن غير ظلم أو تعد، وكل انسان لا يصله الظلم في الآخرة، الا ان مضمون الجملة الخبرية في خاتمة الآية متوجه الى الذين يعرضون عن الدعوة الى كتاب الله ويقولون انهم لن يلبثوا في النار الا اياماً قليلة، وان كان هذا القول حجة عليهم ايضاً، فلابد للمسلم من ابتغاء ما ينجيه من النار ويدخله الجنة.
افاضات الآية
لقد جعل الله عز وجل الدار الآخرة موطناً لكشف الأعمال والأقوال بعرضها على موازين عامة ثابتة لا يستثنى منها جماعة او فئة او أشخاص، والآية تحذير للمسلمين وتنبيه لضرورة اجتناب الإتكال على الظن بالتخفيف الخاص المستند الى دليل مرجوح لا أصل له، فالخطاب في الآية يتعلق بفريق من أهل الكتاب ولكنه مدرسة تأديبية وتعليمية للمسلمين، من وجوه :
الأول : تنمية ملكة الإحتجاج وتزويدهم بمادة وموضوع في الدعوة الى القرآن.
الثاني : الإخبار الإعجازي بان فريقاً من أهل الكتاب سيعرض عن دعوة الحق ومن منافع هذا الإخبار عدم حصول الإحباط او اليأس او الإرباك بين صفوف المسلمين.
الثالث : ارشاد المسلمين الى دعوة المليين الى كتاب الله للحكم بينهم فيما يختلفون فيه وما يدعونه من القول في الدين وسنن الشريعة، وأحكام الآخرة.
الرابع : دعوة المسلمين الى التفقه في علوم القرآن لأن فيه شفاء للصدور، وتبيان للأحكام.
الخامس : في الآية اخبار عن حقيقة وهي خلو الكتب السماوية من التناقض وأهليتها للقضاء على الإختلاف بين الملل والجماعات، وفيها دعوة لإكرام القرآن وتنزيهه واعتباره حكماً.
ومن وجوه تعليم المسلمين في الآية ادراكهم لحقيقة المعاد وان كل انسان لا ينال الا نصيبه وجزاء عمله، اذ ان قيام الشخص او الجماعة بتحذير الآخرين من الآخرة لابد ان يجعل القائم بالدعوة والتحذير نفسه على استعداد لذات الموضوع لذا جاءت الآية بصيغة الإطلاق “جمعناهم” الشامل للناس جميعاً وتدل عليه الآيات الأخرى.
وتحث الآية المسلمين على اكتناز الصالحات لليوم الموعود والإستعداد له ليصدق فعلهم قولهم، وليكونوا حجة على الناس يوم القيامة كما هم حجة في الدنيا فقد بادروا في الدنيا للإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمواظبة على العبادات ويأتون في الآخرة بسلاح الشهادتين وعمل الصالحات التي تكون وسيلة النجاة في الآخرة.
التفسير
قوله تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ]
أي كيف يكون حالهم يوم القيامة عندما يفاجئون بزيف قولهم، وعدم
امكان حصول التدارك، ففي الآية حذف وهو وجه من وجوه البلاغة كما تقول: “كنت أتعلم مما يصلني من أقواله، فكيف اذا صاحبته” ومضامين الآية القدسية أعم من الوجه البلاغي :
الأولى : تبث الآية الخوف والحذر في النفس لأن صيغتها جاءت على نحو الوعيد والإنذار، فصحيح ان موضوعها الذين يتولون معرضين ممن يدعون الى كتاب الله للفصل بينهم الا انها خطاب عام للناس جميعاً لأنهم مشمولون بالجمع، وقد تقدم قبل آيات معدودات قوله تعالى [رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ]( )، ففي الآية معنيان هما :
الأول : المعنى العام وهو حشر الناس جميعاً للحساب في الآخرة.
الثاني : المعنى الخاص وهو حشر الذين يدعون اللبث القليل في النار، والمتبادر هو دخول الخاص في العام ولكن يمكن استقراء مسألة من الآية وهي حشر هؤلاء في موطن واحد ولو لبرهة من الزمن، كما قول لو قال الملائكة ليجتمع في هذا الموطن كل من قال “لا نلبث في النار الا اياماً معدودات”، فيجتمعون ويراهم الخلائق بحالهم كما في قوله تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ]( )،
ولعله من أسرار ورود اللام في قوله تعالى [جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ] ولم تقل الآية جمعناهم في يوم، وكأنهم حشروا على نحو خاص بسبب ادعائهم وهذا الحشر الخاص على فرض حدوثه لا يتعارض مع الحشر العام ولكن يوم القيامة فيه مواطن عديدة وفي الآية عز للمؤمنين ومصداق لقوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
فالخوف والحزن يلحق بغيرهم، وهم يتلون القرآن ويخبرون عنه وعن وقوعه للغير واذا كانت علة هذا الوعيد الإعراض عن حكم القرآن، فان المسلمين منقادون للقرآن، وهم الذين يدعون لحكمه والصدور عنه، مما يعني عدم شموله بمضامين التخويف الوارد في الآية بل انهم يقولون باعلانه والنداء بمضمونه.
لقد جعلت الآية يوم القيامة قريباً من الحياة اليومية وموضوع الجدال ولم تبقِ ادعاءهم وحده، ولم تلاقِه بالإحتجاج والنفي فحسب، بل جاءت بالوعيد والتخويف وهو أفضل صيغ الإحتجاج ولكنها لم تقف عنده بل جاءت الآيات بنعتهم باتباع الإفتراء غروراً.
ونسبت الآية الجمع الى الله تعالى، فهو الذي يتولى جمع الناس بعد الموت ولا يستطيع احد جمع ألأجساد بعد فنائها واعادة الأرواح اليها كل الى ذات الجسد الذي فارقته الا الله عز وجل، لذا أخبر سبحانه انه هو الجامع للناس وفيه دعوة للخشية منه تعالى والخضوع والإنقياد له.
والحشر والجمع يوم القيامة شامل للناس جميعاً فلماذا ذكرت الآية هؤلاء على نحو الخصوص فيه وجوه :
الأول : بعث الخوف في نفوسهم.
الثاني : عندما أعرضوا مولين ولم يستجيبوا للدعوة الى كتاب الله، لم يتركوا وحالهم، بل جاءت هذه الآية لتلاحقهم في حال الإعراض والأنزواء فتدخل معهم في خلواتهم لتذكرهم باليوم الآخر وحشرهم للحساب.
الثالث : في الآية تخفيف عن المسلمين، فهم يعرضون سبل النجاة على الآخرين ولكن هؤلاء يعرضون عنها، فتأتي هذه الآية للمواساة والدعوة الى الصبر والأخبار بان اعراض هؤلاء ليس نهائياً فلابد من جمعهم وحشرهم.
الرابع : تخبر الآية عن مجيء يوم يتعذر فيه على هؤلاء الفرار والتلوي والإعراض، ولا يقف الأمر عند الدعوة الى كتاب الله، بل انهم يجمعون صاغرين داخرين يملأهم الخوف والرعب.
الخامس : الآية واقية من كيدهم ومكرهم فلقد تركوا الدعوة الى كتاب الله وهم معرضون، مما يعني بقاء الغل والخلاف في صدورهم، فجاء التذكير والتخويف بيوم القيامة لحثهم على اجتناب الكيد وعدم استحواذ النفس السبعية والشهوية على اختيارهم.
السادس : اذا كان الإعراض مع بقاء الخلاف سبباً في الوعيد والتخويف فكيف بمن يقرنه بالتعدي على المسلمين ويسعى في قتالهم.
السابع : تجعل الآية المعاندين والجاحدين منشغلين بأنفسهم، يواجههم الإحتجاج القرآني وينفذ الى بيوتهم وذاكرتهم فاذا تمكنوا من الأعراض عن الدعوة الى الحق، فانهم لا يستطيعون الإعراض عن صيغة الوعيد في الآية.
الثامن : الآية رحمة واصلاح لهم، فحينما عجز المسلمون عن دعوتهم والزامهم بالرجوع الى القرآن والحكم السماوي، جاءت هذه الآية لتؤكد تلك الدعوة وفيها تجديد لها وحث على الرجوع اليها والتدبر في مضامينها ولزوم عدم الإقامة على الإعراض لذا ترى بعضهم يعرض عن الدعوة الإسلامية ثم لم يلبث من عاد ودخل الإسلام طواعية، لم ينفع معه الإحتجاج والجدل والترغيب بالإسلام، ولكن آيات الوعد والوعيد، بالحشر ويوم القيامة يجعله يستخلص ضرورة دخول الإسلام والإستعداد ليوم الحشر بالنطق والشهادتين واتيان العبادات.
قوله تعالى [لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ]
اللام في الآية تفيد الصيرورة وتسمى لام العاقبة، ولام المآل، كما انها جاءت مرادفة لحرف الجر (في) نحو (مات لأجله) أي في أجله، والآية تخويف وتحذير من يوم القيامة وانه يوم الحشر والحساب والمجازاة على الأعمال، وفيها درس وموعظة للمسلمين بالإحتراز من أهل الإفتراء والحث على اجتناب الذين يقولون بغير علم لتنقيح الأفعال والأقوال والأسماع استعداداً ليوم القيامة.
ومع ان يوم القيامة ميقات حشر الناس جميعاً الا ان الآية جاءت بذكر الذين يبنون أقوالهم على الإفتراء والتحريف لأنها بصدد الوعيد والتخويف، وهل يضاف التذكير بيوم القيامة الى صيغ الإحتجاج والدعوة الى كتاب الله، الجواب نعم فانه سلاح ذو حدين، ففيه تخويف وتحذير واعجاز بالإخبار عن الحشر، وكأن الآية تقول لهم ان اعرضتم عن الدعوة الى الله فانكم غير معجزين، وانكم ستخضعون لحكم الله يوم القيامة بالإضافة الى اثم اضافي مستحدث الى جانب الإختلاف والجحود والإعراض عن دعوة الحق، والغرور واتباع الإفتراء، فالإعراض ذنب اضافي يتحملون وزره وتكون عقوبته يوم الحشر، فحالما يحشر هؤلاء يندمون على قولهم واعراضهم، وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على انعدام الشفيع في مسألة اعراضهم وما فيه من القبح والإنكار.
وقوله تعالى [لاَ رَيْبَ فِيهِ] أي لا شك بوقوع يوم القيامة فهو أمر حتم وجزم ولابد من بعث وحشر الناس جميعاً يوم القيامة، فالضمير الهاء في (فيه) عائد ليوم القيامة، ليكون فيه جزاء وعوض للتكاليف وما فيها من صيغ الطاعة والإمتثال لأمره تعالى.
واجماع المليين على وجوب المعاد واعادة الأبدان بعد تمزقها والإخبار عن حتمية المعاد يأتي وعيداً للكافرين والمشركين الذين لا يؤمنون بالله، ولكنه جاء هنا وعيداً لمن يؤمن به ويقر بحتمية وقوعه ولا يستعد له، ولم يؤمن بتفاصيل الأحكام والسنن الخاصة بيوم القيامة أولئك الذين لم يقروا بامكان خلودهم في النار، وان المدار على الأعمال وليس على الإنتماء والأسماء، فاستحقوا الوعيد والتخويف بالحشر والمعاد، وهذا الوعيد جاء خاصاً في موضوع عام، أي انه موجه لجماعة من أهل الكتاب الا انه عام يشمل الناس جميعاً.
قوله تعالى [وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]
لم تكتف الآية بالأخبار عن المعاد خصوصاً وانهم لا ينكرون وقوعه، فذكرت احكام يوم القيامة وفيه وجوه :
الأول : ما يتصف به من الخصائص وهي المساواة بين الناس في الحكم وعدم حصول تمايز بسبب انتماء او ولاء.
الثاني : ان التولي والإعراض لا يخلص الإنسان من الحساب ولا يعفيه من اقامة الحجة لأن الدعوة الى كتاب الله دليل اجمالي على حصول التبليغ بالإضافة الى الحجة عليه في اعتماده الإفتراء بالغرور والضلالة في الدين.
الثالث : من قواعد الحشر ان المدار على العمل وما فعله الإنسان في أيام الحياة الدنيا.
الرابع : التولي والإعراض عن كتاب الله موضوع من مواضيع الحساب، وفعل يحاسب عليه الإنسان، فالآية تحذير من التولي ودعوة للتخلي عنه والرجوع الى كتاب الله للحكم بين اهل الكتاب وتلقي الأحكام منه.
الخامس : الآية انذار لإستثمار الحياة الدنيا والإنتفاع منها لأنها مزرعة الآخرة.
السادس : ليس من استثناء يوم الحساب فكل انسان يقف بين يدي الله للحساب والجزاء مما يعني عدم وجود خصوصية لبعض الطوائف والفرق.
السابع : جاءت الآية بلفظ (الكسب) او التحصيل وفيه آيات اعجازية لأن الثواب والعقاب يجلبه الإنسان بعمله ويرد عليه بما قدمت يداه كما يكسب التاجر في المال والتجارة، والفلاح في الزراعة فقد لا يجد الإنسان عملاً في الدنيا او انه ليس من ارباب التجارة او الصناعة او الزراعة فلا كسب له، او انه له كسب ولكنه لا يشمل ايام حياته، اما بالنسبة لمضامين الكسب الأخروي، فتستوعب ايام الحياة الدنيا كلها ومن ايام التكليف الشرعي، فالخطاب التكليفي بالصلاة مثلاً يلازمه لأنها لا تترك بحال.
الثامن : جاءت الآية بلفظ النفس مع ان الأعمال يأتي بها الإنسان بجوارحه والأقوال ينطق بها بلسانه، في آية تدل على اتحاد كيان الإنسان وماهيته، وان الإنسان يبعث روحاً وجسداً وان النفس متعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصرف.
قوله تعالى [وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]
من مباحث الكلام انه تعالى منزه عن فعل القبيح، وفي الآية مسائل:
الأولى : الإخبار بان الناس لا ينقصون من ثوابهم شيئاً ولا ينالون الا ما يستحقون من غير زيادة في العقاب لبيان المائز بين عالم الدنيا والآخرة، فقد يحصل الظلم والتعدي في الدنيا بين الأشخاص او الجماعات او الملل، اما في الآخرة فالملك كله لله تعالى، وهو سبحانه لا يظلم مثقال ذرة.
الثانية : في الآية اشارة الى كتاب الله والدعوة اليه فهو خال من مفاهيم الظلم وقد أنزل الله سبحانه الكتب للنجاة من الظلم ومنع الإنسان من ظلم غيره او ظلم نفسه ولكنهم أختاروا الإعراض عن حكم الكتاب ولم ينتفعوا من وجوده بين ظهرانيهم.
اما في الآخرة فلا يمكن الإعراض الشخصي او النوعي عن حكمه تعالى كما ان اعمال كل انسان تكون حاضرة معه لا يغادر صحيفته منها شيئً دق او كبر الا ما يتعلق بالمحو من السيئات الذي يتفضل به سبحانه سواء كأثر مترتب على الإنابة والإستغفار، ام ابتداء وكرماً واحساناً منه تعالى.
الثالثة : في الآية بشارة للمسلمين، وانذار للكافرين، اما المسلم فانه يفرح لأن أعماله يوم القيامة تحضر كاملة غير ناقصة يشع منها نور الإيمان وتكسوه بهالة من الأمن يوم الفزع، اما الكافر فانه يفزع من هذه الآية لأنها تخبر عن عدم سقوط بعض ذنوبه فيود ان يكون جزء من الذنوب قد غاب عن صحيفته ولا يسئل عنه ولكن هذه الآية تقطع بحصول الجزاء على الأعمال.
الرابعة : وفي الآية دعوة للذين اوتوا نصيباً من الكتاب، بان يرجعوا الى كتاب الله لأنه طريق النجاة في الآخرة ولا يلتفتوا الى الزوائد التي اضافها كبراؤهم في الدين مما يتصف بصيغة الإفتراء.
الخامسة : في الآية بشارة الخلاص من ظلم الملأ والرهبان والذين يتجرأون ويتعدون على الشرائع بالتحريف والإفتراء والتشويه، واذا كانوا قد قادوا الإتباع الى الجحود والصدود فانهم لن يستطيعوا ان يضعوا عليهم شطراً من اوزارهم وآثار سوء ما أرتكبوه من المعاصي،
فالعقاب الذي يأتي للإنسان مترتب على ذنوبه وليس فيه شيء من العقاب الذي أستحقه غيره وهو نوع تخفيف وشاهد على العدل الإلهي في الآخرة فانت ترى العامل في الحياة الدنيا الذي يبتلى بعمل شاق يؤديه مع الكراهة والصبر والتحمل، اما اذا اضيفت له حصة غيره من العمل فانه
يجزع ويعلن استياءه ويشعر بالألم والظلم والإجحاف ويكثر من الشكوى.
وادنى عذاب الآخرة لا يمكن اطاقته وتحمله، لذا فان العدل في الآخرة ضرورة وحاجة ولا تسمع يومئذ من يشكو او يدعي وقوع ما يستحقه غيره عليه، ولا يفوت ثوابه ويذهب لغيره لأن الإنسان يومئذ بحاجة الى أدنى درجات الثواب لتثقل كفة الحسنات او تخفف عنه قسطاً من العذاب او تدفع عنه مرتبة من مراتب الألم والأذى من حيثيات العقاب الأخروي.
وقوله تعالى (هم) هل هو خاص باولئك الذين اوتوا نصيباً من الكتاب ام هو عام ويستوعب الناس جميعاً، الجواب هو الأخير، والآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها تفيد الإنشاء والبشارة وتأكيد اطلاق العدل في الآخرة.
وهي خطاب انحلالي ينقسم الى قسمين عام وخاص اما العام فالناس جميعاً، واما الخاص فاولئك الذين هم موضوع الآيات من الذين تولوا عن كتاب الله واختاروا اتباع الباطل والزيف والإفتراء على أحكام الشريعة.
قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] الآية 26
الإعراب واللغة
اللهم: منادى مفرد علم، وقال الخليل وسيبويه ان الأصل يا الله ثم جاءوا بحرفين عوضا عن حرفين وهما الميمان او الميم المشددة عوضاً عن يا، واستدل بعدم قول الفصحاء يا اللهم: لعدم الجمع بين الشيء وعوضه، والضمة التي في اللهم هي ضمة المنادى المرفوع، ومال اليه النحاس( )، اما الفراء فقال الأصل في (اللهم) “يا الله آمنا منك بخير” فلما كثر وأختلط حذفوا منه، والضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في آمنا لما حذفت أنتقلت( )، وهو بعيد وقال بعض البصريين: “هذا الحاد في اسم الله عز وجل”( )، ولا تصل النوبة الى الإلحاد لأن الحذف في اللغة أمر معروف وفيه دلالة على البلاغة.
مالك: منادى ثان، حذف منه حرف النداء، أي: يا مالك الملك، وقال محمد بن يزيد، وابراهيم بن السري: يجوز ان يكون صفة، الملك: مضاف اليه مجرور بالكسرة، تؤتي: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، الملك: مفعول به منصوب.
واختلف في الإعطاء والإيتاء وهل هما بمعنى واحد ام بينهما تباين، والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق فكل اعطاء هو ايتاء وليس العكس، فالإعطاء يتوقف على قبول المعطى له وأخذه كما انه يكون في الغالب بالأعيان والمال كما في قوله تعالى [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى] ( ).
اما الإيتاء فهو أعم ولا يتوقف على قبول المحل بل يقابله الأخذ والتلقي، لذا ورد الإيتاء بخصوص الكتاب السماوي وفضله تعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
وقد جاء ذكر رزقه ونعمه تعالى بصيغة الإيتاء ووردت بضع مرات بصيغة الإعطاء لبيان تعدد وجوه الرزق والفضل الإلهي، قال تعالى [وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى]( ).
من: اسم موصول مفعول به ثان، تشاء: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، يعود لله عز وجل، والجملة الفعلية صلة الموصول.
تنزع الملك ممن تشاء: عطف على ما سبق.
بيدك: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف خبر مقدم، الخير: مبتدأ مؤخر.
انك: ان: حرف مشبه بالفعل، والضمير في محل اسم ان،
على كل: جار ومجرور، شيء: مضاف اليه مجرور بالكسرة،
قدير: خبر ان مرفوع بالضمة.
نزع الشيء نزعه نزعاً فهو منزوع: أي اقتلعه فأقتلع، ويقال: نزع الأمير العامل عن عمله، أي أزاله ونحاه، وفي قوله تعالى [والنازعات غرقاً فالناشطات نشطاً] ( ) ذكر انها الملائكة تنزع روح الكافر وتنشطه ليعاني من ألم وشدة خروج الروح،
والعز: الرفعة والإمتناع ” وقال ابن منظور: العز في الأصل القوة والشدة والغلبة”( )، والذل نقيض العز، وهو عنوان الهوان والعجز عن المبادرة والفعل، قال الشاعر:
وشاعر قوم أولي بغضة قمعت، فصاروا لئاماً ذلالاً
ومن أسمائه تعالى “المذل” وهو الذي يصيب بالذل من يشاء من الناس، وينفي عنه اسباب العز والرفعة سواء في الدنيا او الآخرة.
في سياق الآيات
بعد تثبيت القرآن للحقيقة العقائدية الثابتة وهي انحصار الدين عند الله بالإسلام وضرورة انقياد الناس لأحكام التنزيل والتقيد التام باداء الفرائض واحكام الحلال والحرام، واقامة الحجة على الناس بالبرهان، ودعوة النبي للإحتجاج الجوابي وابطال اشكالات اهل الريب والشك وبعد بيان خصائص اهل الجحود وادعاء فريق منهم تفضيلهم في الآخرة كما هو الحال في الدنيا،
وهذا التفضيل يتجلى بعدم لبثهم في النار الا اياماً معدودات سواء آمنوا برسالة محمد ام لم يؤمنوا بها، رجعوا الى كتاب الله في اختلافهم ام لم يرجعوا مما يؤدي الى الإستخفاف في الأحكام والإفتراء في الدين، وتشويه الحقائق الشرعية والتحريف لسنن الآخرة القائمة على العدل والجزاء بالحق،
جاءت هذه الآية بالخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأمربدعائه تعالى بصيغ المدح والثناء، ومن الإعجاز في نظم الآيات ان الآية وردت بعد جهاد وعناء واحتجاج واقامة برهان وكأنها انتصار وظفر وبلوغ للمرام وثواب عاجل ونجاة من الشوائب التي قد تلحق من الإختلاط والتداخل مع أهل الزيغ والشك.
وجاءت الآية التالية في ذات النظم بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مناجاة الله عز وجل والثناء عليه ببيان عظيم صفاته ليكون موعظة للمسلمين وشاهداً على صلاحهم وتقواهم وتسليمهم بالربوبية المطلقة لله عز وجل إذ يتلون هذه الآيات في صلواتهم، وخارج الصلاة.
والإقرار بأن تداخل الليل والنهار، وإصابة أحدهما بالنقصان ليضاف إلى الآخر حسب فصول السنة من غير أن يذهب المدة التي تجمعهما باليوم والليلة هباءً وفيه آية في إكرام الله لبني آدم بحفظ الأوقات لهم للزوم الإنتفاع منها بالعبادة وعمل الصالحات وعدم تضييعها باللهو.
اعجاز الآية
في الآية انقطاع الى الله تعالى في طلب الدنيا والتسليم بقضائه، والإقرار بان الأرزاق ومقاليد الأمور بيده تعالى وله القيمومة المطلقة، فالدعاء هو وسيلة الكسب، ومن الإعجاز في الآية انها تمنع من الإفتتان بما في ايدي الكفار، وتخبر بانه ما من شيء بايدي الناس الا وهو من عنده تعالى وهو ملك متزلزل لابد من عودته ورجوعه اليه تعالى.
وتعلق الآية مراتب العز والذل على مشيئته وقدرته تعالى، وفيه دعوة لدخول الإسلام واختيار العز بالنطق بالشهادتين واداء العبادات.
وتذكر الآية وجوهاً من عظيم قدرة الله، وإخباراً بأن تعاقب الناس في الحكم لا يتم إلا بمشيئة من عند الله، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أنها سؤال لنفي الوسادة لدولة الإسلام وإعلاء شأنها وتولي المؤمنين الحكم في الأمصار جاء بصيغة الثناء على الله عز وجل والتسليم بقدرته على كل شيء، ومضامين الآية على وجوه:
الأول : الإطلاق في ملك الله، وأن كل شيء في الوجود هو ملك لله عز وجل في الدنيا والآخرة.
الثاني : إن الله عز وجل يعطي الملك لمن يشاء، وهل الملك الذي يهبه الله عز وجل للناس هو ذات الملك الذي يملكه الله عز وجل، الجواب لا، إنما الملك عند الناس متزلزل ومقيد موضوعاً وحكماً وزماناً، وما يهبه الله لا يخرج عن ملكه سبحانه وهو من أسرار قوله تعالى(مالك الملك) وما يدل عليه من الإطلاق.
الثالث : من أراد العزة والشأن والجاه فيلجأ إلى الله في سؤاله ودعائه، ليخلق في عبادته له سبحانه، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع : إن الله عز وجل هو الذي يبتلي الفرد والجماعة والطائفة بالإنكسار والهزيمة والخزي والهوان، لقوله تعالى[وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ]( )، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على إستجارة المسلمين بالله عز وجل من الذل والهوان، فإن قلت قد ورد نعت المؤمنين بأنهم أذلة بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، والجواب معنى هذا الذل هو قلة العدد والعدة وهذا الضعف إقترن بالنصر وهو أبهى مصداق لقوله تعالى[وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ]( )، ليشكر المسلمون الله عز وجل على نعمة النصر والسلامة والنجاة من الذل.
الخامس : أن الخير والفلاح والرزق الكريم بيد الله عز وجل سبحانه وفيه تأديب للمسلمين ودعوة لهم لسؤال الحاجات من عنده سبحانه.
السادس : إنفراد الله عز وجل بالقدرة المطلقة في الدنيا والآخرة.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (قل اللهم مالك الملك) ولم يرد لفظ ( مالك الملك ) إلا في هذه الآية .
بحث روائي
روى جعفر بن محمد “عليه السلام” ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” أنه قال : “لما أراد الله أن ينزل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي، وشهد الله، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله ( بغير حساب ) تعلقن بالعرش، وليس بينهن وبين الله حجاب، وقلن: يا رب تهبطنا إلى دار الذنوب، وإلى من يعصيك، ونحن معلقات بالطهور وبالعرش ؟ فقال : وعزتي وجلالي ما من عبد قرأ كن في دبر كل صلاة مكتوبة، إلا أسكنته حظيرة القدس، على ما كان فيه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة ، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة ، أدناها المغفرة ، وإلا أعذته من كل عدو، ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنة إلا أن يموت ” .
وقال معاذ بن جبل: احتبست عن رسول الله يوما، لم أصل معه الجمعة، فقال: يا معاذ ما يمنعك عن صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول الله كان ليوحنا اليهودي علي أوقية من تبر، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك. قال: أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك ؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: قل(اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) إلى قوله (بغير حساب ) يا رحمان الدنيا ورحيمهما، تعطي منهما ما تشاء، وتمنع منهما ما تشاء، إقض عني ديني فإن كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك( ).
الآية سلاح
في الآية تأديب للمسلمين بتعليمهم صيغ المدح والثناء له تعالى، وقهر للنفس الشهوية وزجر عن جعل المال والجاه علة غائية للأفعال الشخصية والنوعية، وفيها دعوة لإستحضار ذكره تعالى في كل مناسبة وادراك حقيقة وهي ان الخير والعز يطلبان منه تعالى، ومتى ما علم العبد انحصار موارد السعادة والعز به تعالى فانه ينقطع اليه وينشغل عما سواه، وهذا لا يتعارض مع الكسب والسعي في الدنيا واعتبار قواعد الأسباب والمسببات وقوانين العلل والمعلولات.
تبين الآية نعمة القرآن وتلاوته، وهذه التلاوة خير محض، تترشح عنها النعم بلحاظ الإجهاد بالعبودية لله عز وجل والإقرار بالربوبية له وأن مفاتيح الأمور كلها بيده سبحانه، ومن النعم رجاء الإستجابة وتبديل حال المؤمنين إلى أحسن حال بفضله عز وجل.
والخير عنوان جامع لكل حسن ومبارك، فأظهر المسلمون التسليم بأن كل ما عندهم من النعم من الله سبحانه، وأنهم يرجون بفضله مضاعفتها وهل البركة والنماء والعرض النافع من الخير أم أن القدر المتيقن إرادة الجواهر والأجناس دون العروض , الجواب هو الأول.
مفهوم الآية
الآية تلقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلاله يتوجه الخطاب للمسلمين جميعاً، وفيها فزع اليه تعالى من زينة الدنيا والأخلاق الذميمة، لقد انعم الله عز وجل على الإنسان وهيء له أسباباًَ للإحتراز من الدنيا واللهث وراء مباهجها لأن النظر اليها وجعلها هدفاً وغاية يفسد عمل الإنسان ويجعله يرتكب المعاصي من أجل تحصيلها،
فجاءت هذه الاية لتبين قوانين عالم الأمر والخلق التي تحكم الكون وتخبر عن حصر الملك بيده تعالى، مما يعني فقر الخلائق جميعاً وحاجتها اليه تعالى، فحتى الغني وصاحب السلطان والجاه، لم يحصل على شيء منها الا بمشيئة مما يدل على انها امتحان وابتلاء واختبار،
فمن مفاهيم ألآية الدعوة الأكيدة لتوظيف النعم النوعية والشخصية في مرضاته تعالى، وهذا التوظيف مقدمة وطريق لنيل مراتب العز والرفعة في الدنيا والآخرة.
انها مضامين القرآن القدسية التي تنمي السجايا الحميدة عند المسلم وتهديه للتي هي أقوم وتجعله يصارع الشهوة واللذات ويتغلب عليها ويكون اسوة حسنة لغيره وللأجيال من بعده، لأن وظيفته لا تنحصر بذاته بل انه يجاهد لإصلاح الذات والغير، وليبقي تركة كريمة لمن بعده تتقوم بالأخلاق الحميدة وحسن التوكل على الله، ومن مفاهيم الآية ان الخير والمال والصحة والجاه والسلطان كلها أمور بيده تعالى ولا يقدر عليها غيره.
فالآية تبعث الضياء في البصائر وتمنع من الغشاوات الظلمانية وتجعل الإنسان يرى الأشياء بهيئتها الحقيقية التي تتمثل بالإستجابة لأمره تعالى، فالملك امر معنوي يناله العبد بالأسباب والبذل والجهد، ولكنه لن يصل اليه الا ان يشاء الله، ومتى ما ادرك العبد هذا القيد فانه يمتنع عن البغي والتعدي وجعل الغاية علة للوسيلة، بل يتقيد بالأحكام الشرعية والطرق السليمة لنيل البغية، وعند تعذر نيلها وفقدان الأمل في احراز ما سعى اليه فانه لن يكفر او يجحد او ييأس لأنه يدرك بان الملك والخير والجاه امور بيده تعالى ويراجع نفسه وأفعاله ليرى الحاجب الذاتي الذي حال دون وصوله لما يريد، والبرزخ الذي منعه من غايته.
كما تبعث الآية على الصبر وعدم الجزع او اليأس وتدل على سبل العز والهيبة والوقار وتمنعه من الذل والضعف والهوان، لأن اللجوء الى الله عز بذاته فضلاً عن ترشح العز عنه، أي مجرد اللجوء اليه تعالى يعتبر عزاً، كما ان يدل على سبل العز ويهدي اليه ويجعل الإنسان يرتقي في مراتبه، ومن صيغ الإرتقاء هذا نزع رداء الدنيا وعدم اللهث وراء الناس طلباً لنوالهم، لأن القدرة المطلقة له تعالى، وهو القادر على الرزق الكريم، وجعل الإنسان سعيداً في الدنيا والآخرة.
والآية من جوامع الكلم، ومع قلة كلماتها، فقد وردت فيها ألفاظ لم ترد في آية أخرى غيرها وهي :
الأول : الله ما لك الملك.
الثاني : يعز من تشاء.
الثالث : يذل من يشاء.
الرابع : بيده الخير.
وفيه دلالة على تأسيس قواعد كلامية من مضامين هذه الآية وانها تفتح ابواباً للبحوث العقلية والدراسات العقائدية، خصوصاً وان موضوعها شامل للحياة الدنيا والآخرة، ويكون العز او الذل عرضاً لازماً لا ينفك عن موضوعه وآخر مفارق يمكن انفكاكه وكل بحسب مشيئته تعالى، وليس بمقدور العبد نيله الا بسعيه في مقدمات تحصيله.
افاضات الآية
في الآية جلاء للبصائر وارتقاء في سلم الكمالات الإنسانية ونزع للحسد والغل عن القلوب، وتعلق بمواهبه وعطاياه وأفضاله تعالى، وتطلع الى توثيقاته سبحانه والفناء في سبحات قدسه لنيل المعارف والعلوم والماديات والأموال منه تعالى.
وتجعل الآية العبد يفزع اليه تعالى بالحاجة الملحة وبالأمنية والرغبة، بل انها تجعل عالم التصور والوجود الذهني متحركاً ونشيطاً، وتقرب البعيد وتذلل الصعاب وتزيح الموانع عن الرغائب لأن رحمة الله قريبة من العبد المؤمن، وتدفع بالإنسان الى سلاح الدعاء ومعرفة شرائطه وأحكامه، وعالم الرجاء مع الإقرار بصفات الجمال والجلال له والربوبية المطلقة له تعالى، واخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء إلى آخره( )،
وروي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيه المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بخبره، فجاء فأخذ المعول منه ، فضربها ضربة صدعتها وبرق منها برق إضاء ما بين لابتيها ، لكأن بها مصباحا في جوف ليلة فكبر وكبر معه المسلمون، وقال: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبرائيل أن امتي ظاهرة على كلها، فأبشروا، فقال المنافقون: ألا تتعجبون ؟ ! يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق، فنزلت، ونبه على أن الشر أيضا بيده ، بقوله: [ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ].
وفي أسباب النزول للواحدي عن ابن عباس وانس بن مالك: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة ووعد امته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، ألم تكفه المدينة ومكة حتى طمع في الروم وفارس ؟ فنزلت هذه الآية.
التفسير
قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ]
الآية خطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب الا مع القرينة الصارفة الى الإستحباب وهي مفقودة في المقام، والخطاب يتوجه بالواسطة الى المسلمين كافة والى الناس جميعاً لأنه مصداق لعالم الأمر والخلق واخبار بان الأشياء جميعاً تعود في ملكيتها له تعالى، وبالإضافة الى الآيات الدالة على استجابة الخلائق لمشيئته تعالى، وهل الإستجابة فرع الملكية أم العكس، الجواب ان بينهما عموماً وخصوصاً من وجه، والتعدد يدل على عظيم قدرته تعالى، فليس كل مالك تستجيب له أفراد واجزاء ملكه ولكن كل استجابة تدل على الملكية، لذا جاء تثبيت ملكيته تعالى للخلائق على نحو الخصوص لدفع دخل ومنع اللبس.
وقال الرازي: الملك هو القدرة، والمالك هو القادر( )( )، ولكن الملك أعم ويدل على عائدية الذوات وجنس الملك وامتلاك الحق بالتصرف والتدبير في الملك، ان الله عز وجل أحب لعباده ان يدركوا حقيقة ملكه للأشياء جميعاً، ومن أسمائه تعالى المالك والملك.
والمراد من الملك في الآية السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى والملائكة والإنس والجن والأفلاك والدواب والطير والهوام والبحار والأنهار والسحاب والهواء والشجر والزرع والجبال والحديد وكل شيء هو مملوك لله تعالى، فليس في الوجود الا أمرين :
الأول : مالك له الملكية المطلقة وهو الله عز وجل.
الثاني : ملك مملوك لله تعالى، وليس من شيء ليس له مالك وما يسمى بمجهول المالك او لقطة، بل كل شيء يعود في ملكيته لله، وهذه العائدية غاية في التشريف والإكرام من وجوه :
الأول : جعل الشيء جزء من ملكه تعالى.
الثاني : تفضله تعالى بالإخبار عن ملكيته لذلك الشيء، بلحاظ انحلال ملكية الكل على الأجزاء.
الثالث : فيه نوع حصانة وحفظ لكل شيء، فما دام المالك هو الله فانه لا خشية على السماوات والأرض وما فيهن.
وفي الآية مسائل:
الأولى : من دلائل ملكيته تعالى النظام الكوني الدقيق، وعدم حصول اصطدام او تزاحم بين الكائنات، وكذا في الرزق فانه سبحانه يبسط الرزق للعباد ويجعل فيه فضلاً، ولو أنعمت النظر فيما يجري من معارك وحروب لرأيتهما تتعلق بالفضل والزائد من رزقه، وكل يطلب السعة والزيادة المفرطة عن الحاجة والملك والرياسة.
الثانية : نسبة مالكية الكائنات والخلائق له تعالى سر بقائها وديمومتها لأنها تدل على تعاهدها من قبله تعالى ولم يتركها وشأنها.
الثالثة : في الآية اشارة الى تقيد كل فرد من أفراد الخلائق، لأن المملوك محدود التصرف، غير مطلق الإرادة.
الرابعة : تدل الآية على ملازمة الحاجة والنقص للخلائق متحدة ومتفرقة، بمعنى لو أجتمعت السماوات والأرض وما فيهن لما استطاعت ان تصل الى درجة الغنى والإكتفاء الذاتي، بل تبقى محتاجة تفتقر الى رحمته وفضله تعالى في حفظها وبقائها بأسباب الحياة والإستدامة.
والملك هو جنس الأشياء التي تصلح للعائدية و بالمقدور التصرف بها وتدبير أمرها، وهو كالسلطان يذكر ويؤنث وقال ابن منظور: ملك الله تعالى وملكوته، سلطانه وعظمته( )، ولكن الملك هو الإستبداد بالشيء يقال: ملكه يملكه ملكاً – بفتح وكسر وضم الميم- ويقال: هذا ملك يدي أي عائد لي واتصرف فيه اصلاحاً وهبة وبيعاً ورهناً واجارة ونحوه، ونقلاً وانتقالاً، اما ملكه تعالى فغير قابل للنقل والإنتقال بعوض او بدون عوض، وملكية الناس للأعيان والدواب والذهب والفضة انما هي ملكية مجازية ومتزلزلة، ان لم تغادر صاحبها فانه يغادرها على نحو الحتم والقطع،
وملكه تعالى لا يغادره وملكية الإنسان لجمادات اسمي، لا يستطيع تدبيرها كيف يشاء، اما ملكه تعالى فانه مع سعته مستجيب لأمره تعالى، واذ يتباهى الإنسان بين الخلائق ان صار في مقدوره التملك، فانه يلتقي مع افراد ملكه في الملكية لله تعالى بعرض واحد من غير فرق بمراتب الملكية، لقد شرف الله الإنسان وسخر له ما في السماوات والأرض، ولكنه في ملكيته يعود لله تعالى كباقي الخلائق بعرض واحد من غير تمييز بينها، وكلها على خير في هذه الملكية.
لقد اراد الله سبحانه بيان عظيم قدرته وسلطانه وهذا البيان عز وشرف للمسلم وغيره، وتأديب للناس وتعليم لمفاهيم العبودية , فالمملوك يفنى في طاعة المالك ويعشقه ويهواه.
وجاء الألف و اللام في (الملك) لإفادة الجنس والإطلاق، فكل شيء في الوجود ينطبق عليه انه مملوك لله من غير استثناء ولا يريد احدها الخروج عن ملكه تعالى وان اراد الخروج فلا يستطيع التفصي والنأي عن ملكيته لله تعالى، والملك هنا عنوان الرجوع اليه تعالى وان كل شيء لابد من صيرورته الى الله، وفي الآية اشارة الى المعاد وحضور الأشياء جميعا ًعنده تعالى.
لقد جاءت فاتحة الكتاب قاعدة كلية واثباتاً لحقيقة دائمة لتكون مدخلاً للأخبار عن عظيم فضله وجزيل هباته سبحانه وبياناً لرجاء رحمته الواسعة وعطائه غير المجذوذ أي المتصل الذي لا ينقطع.
وتبين الآية انه تعالى فاعل مختار غير مكره او مجبور على العطاء ولا أحد يشاركه في ملكه فالآية توكيد للوحدانية ونفي للشريك، فاذا كانت الأشياء جميعها ملكاً له تعالى فلا يصلح ان يكون بعضها نداً او شريكاً لواجب الوجود، وتنفي الآية الزوال عن ملكه تعالى، فهو دائم باق الى يوم القيامة , والآية مدح وثناء لله تعالى واقرار بعظيم سلطانه وسعة ملكه وهذا المدح مطلوب بذاته، وهو مقدمة للسؤال وبيان الحاجة اليه تعالى.
ومن وجوه الملك ملكه تعالى للعوالم المتعددة والأزمنة الطولية المقدرة وغير المقدرة , فهو مالك للحياة الدنيا وعالم القبر والبرزخ، وللآخرة والجنة والنار، فيتفرع من هذه الملكية صدق الخلود في الجنة والنار لأنهما من أفراد ملكه تعالى , وقد وعد سبحانه بالخلود فيهما، والحال والمحل يعودان له في الملكية، والحال في الجنة والنار هو أفراد جنس الإنسان، وملكيته تعالى للإنسان لا تنحصر بزمان دون آخر او عالم دون غيره بل هي دائمة متصلة، وله المشيئة في بعثه وايقافه بين يديه للحساب.
وورد عن مجاهد وسعيد بن جبير ان المراد ملك النبوة، قال تعالى [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا] ( )، والنبوة ملك ورياسة عامة وتفضيل واختيار من عنده تعالى للنبي على سائر البشر، ولمناسبة الموضوع وهو قول فريق من مشركي مكة كيف ينال محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنصب الرفيع من بين الناس، وهو يتيم فقير، وقول اليهود بان النبوة في آبائنا، وقريش لم يكونوا اهل نبوة و لاكتاب فكيف يكون النبي من قريش، ولكن الآية أعم، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد جاءت آيات عديدة في تأكيد ملكيته تعالى للسموات والأرض وما بينهما , قال تعالى [ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ]( ).
قوله تعالى [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]
في الآية تسليم بعظيم قدرته وسلطانه من وجوه :
الأول : ان الملك بيده تعالى.
الثاني : انه سبحانه فاعل مختار.
الثالث : جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع مما يدل على اتصال عطائه وهباته.
الرابع : في الآية رجاء وأمل لنيل الرغائب منه تعالى.
الخامس : مقاليد الأمور بيده تعالى.
السادس : اتيان الملك فرع القدرة المطلقة , فلا يستطيع احد منع وصول فضله تعالى الى من يشاء من عباده.
السابع : جاءت الآية بلفظ (من) للإشارة الى العاقل وان اختصاص التملك لجنس الإنسان.
الثامن : لم تذكر الآية نوع وماهية ومقدار الملك، مما يدل على سعة فضله تعالى، والألف واللام في الملك للعهد، أي ملك معهود، اما الألف واللام في قوله تعالى [مَالِكَ الْمُلْكِ] فهي للجنس وافادة عموم الملك ومقادير الأشياء.
التاسع : ومن الإعجاز في الآية ان بدأت بالإخبار عن عائدية الملك له وانه المالك المطلق لكل ما يصدق عليه انه ملك ويستحق شرف العائدية في ملكيته لله تعالى، ثم جاءت بلفظ الإيتاء فهي لم تقل، وتملك من تشاء، بل قالت الآية (تؤتي) والإيتاء غير التملك فاذا اوتيت شيئاً فهو أعم من الملكية، فقد يكون للإعارة او للإجارة او امانة مالكية الى حين، وغيرها من وجوه الإيتاء، ولكن الإتيان منه سبحانه يختلف وهو نوع تخويل واستحقاق لتصرف بالأعيان والأشياء لأنه سبحانه كريم، وهو الوهاب فلا يعطي شيئاً ويمنع من التصرف والتمتع به والإنتفاع منه، لذا جاء لفظ الملك ونسبته الى الإنسان.
وقد جاء لفظ الملك في طالوت اذ بعثه ملكاً على بني اسرائيل فورد في التنزيل [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ] ( )، وورد في تحذير مؤمن آل فرعون لقومه [يَاقَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ]( ).
لقد أمرت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس للتوجه اليه تعالى في طلب الحاجات في النشأتين وعدم الإنشغال بالأسباب عن ذكره تعالى، ومتى ما علم العبد ان الرزق لا يأتي الا من عنده تعالى وان الأماني العريضة لا يقدر عليها غيره وهو الوهاب فانه يصلح سريرته وعلانيته،
وارادت الآية انقطاع الناس اليه وعدم توجههم الى الأمراء والكبراء الذين يأخذون منهم اكثر مما يعطونهم، والأخذ يكون احياناً بقيادتهم في
ظلمات الجحود والعناد، فأخبرت بان الملك كله بيده تعالى ولو كان بيد غيره لبخل به، قال تعالى [أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا]( )،
ولم تغلق الآية باب العطاء، وفتحت باب الملك والهبات وابقته يدعو الناس بدلالة صيغة المضارع (تؤتي)،
ومن الآيات ان جاء الموضوع بصفة (الملك) ولم يأت بصفة العطية او الهبة او المنحة، لأن الملك اكثر دواماً ويفيد القدرة على التصرف فيه، فمن كرمه واحسانه تعالى انه يعطي من ملكه ويحتسبه ملكاً لغيره من عباده، مع ان هذا الغير هو نفسه ملك لله تعالى، فيكون ملكاً لملك، مما يؤكد مجازية الملك وانه على نحو الإستعارة، الأمر الذي يدل عليه الوجدان.
وجاء (لفظ) الإيتاء ليؤكد عدم استحقاق أحد لنيل الملك منه تعالى، انما هو بفضل ورحمة منه تعالى فهو الذي يعطي ويهب وفيه حث على الإقرار بربوبيته تعالى، والتقيد بأحكام العبودية، ولتهذيب النفوس ومنع الغرور والزهو والخيلاء، فمتى ما أدرك الإنسان ان كل ما عنده هو من الله، وهو قادر على ان يسلبه منه متى ما شاء فان الإنسان يجتنب الكبر والعتو وهو سبحانه مالك الملك في النشأتين ولكن الإيتاء وتمليك العباد لا يكون الا في الحياة الدنيا، اما في الآخرة فان الملك بيده تعالى حصراً , قال تعالى [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ] ، وهذا لا يتعارض مع اختصاص المؤمنين بمساكن وقصور في الجنان، وتجعل الآية المسلم يتعلق بالدعاء والسؤال والرجاء منه تعالى أكثر من التوجه والإنشغال بأسباب حيازة الملك، لتكون نعم الدنيا وكسب الأموال فيها مناسبة للذكر وتعاهد الصلوات في أوقاتها، فمتى ما أدرك الإنسان ان ايتاء الملك لا يكون الا من عنده تعالى فانه يحرص على دخول الإسلام والتقيد بأحكامه.
واذاجاءت هذه الآية لتؤكد انه سبحانه مالك الملك، فان آية اخرى أخبرت بان الملك بيد الله، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ] ( )، في اشارة الى ترشح العطاء والفضل والإحسان عن ملكه تعالى وانه سبحانه كريم جعل ملكيته بيده كعنوان للعطاء والدفع واتيان النعم للعباد بمشيئته وارادته.
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على ارادة الإصلاح باتيان الملك ومنع تفشي الفساد وشيوع المنكر، لذا تراه سبحانه يبتلي العبد او الجماعة او الأمة بالفقر بعد الغنى، ليكون درساً وسبباً لمنع الإضرار والطغيان والعتو،
والآية حرب على آفة الحسد، فاذا كانت السعة والملك لبعض الناس من عنده تعالى وبمشيئته فيجب ان لايحسد لأن الله اختار له الملك، ولابد من التسليم بمشيئته لذا ورد ان المؤمن يغبط ولا يحسد، وانه يتمنى لنفسه مثل ما في ايدي الآخرين، وليس سلب النعمة منهم،
كما انها تدعو الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها فرع المشيئة الإلهية، ولا راد لأمره سبحانه، والإيمان بنبوته واتباعه فيما جاء به طاعة لله تعالى وانقياد لإرادته، وفيها اخبار عن ظهور نبوته وتعذر صدها من قبل المشركين، فهو سبحانه الذي أتى محمداً النبوة والملك ولا يمكن حجب عطائه سبحانه،
والآية دعوة للصلاح والتأهل لتلقي النعم الإلهية بالتقوى والرغبة فيما عنده سبحانه، وجاءت الآية بصيغة الخطاب (تؤتي) لبيان الإيمان والتسليم بعظيم قدرته واحسانه ولنفي الشك والريب عن المسلمين، فكل مسلم مطمئن لهذه الحقيقة ومتأكد بان ما في ايدي الناس من عنده تعالى، وعلى سبيل الفضل وليس الإستحقاق او الجبر والإكراه، بل بمشيئته وارادته تعالى، وهي دعوة للدعاء وسؤال ما عنده تعالى فاذا كان الله يؤتي ملكه من يشاء وهو سبحانه يقول [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) تكون النتيجة وفق القياس الإقٌتراني: بالدعاء ينال الملك.
وهذا من لطفه تعالى ان دل العباد على سبل الحصول على الملك والمال والجاه ولم يجعلها محجوبة عن العبد على نحو الحتم والقطع ومن رأفته تعالى ان منع اليأس والقنوط من الإستيلاء على قلبه فأرشده الى سلاح الدعاء وجعله ذخيرة عنده، وعن ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم “من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليثق بالله ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه “( ).
قوله تعالى [وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ]
آية اعجازية واخبار عن قدرته تعالى على فعل المتضادين مع التباين في الموضوع والمحل، فمرة يتفضل سبحانه بالباس الملك والشأن ودفع الثروة والمال لبعض عباده، واخرى يسلب النعمة والثروة من آخر،
وهذا العطاء والأخذ ليس اعتباطاً او اتفاقاً وصدفة بل يتم بمشيئته، مما يدل على انه يتم وفق ضوابط وقواعد دقيقة تتصف بالحكمة التامة والقوانين السماوية بما يتجاوز حدود قواعد الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات , وان جاءت في أحيان كثيرة بحسب هذه القواعد على الظاهر، اذ ان العلة والمعلول كلاهما من المشيئة الإلهية فيندك أحدهما بالآخر ولا تبقى موضوعية للعلية الا على نحو الظاهر للعيان والأبصار في امتحان وابتلاء في الحياة الدنيا والا فان علمه تعالى سابق للإتيان الفعلي للملك،
وكما يبعث الشطر الأول من الآية والبشارة والأمل في النفس فان هذا الشطر يبعث الفزع والحذر فيها ويدعو الإنسان الى السعي لمعرفة أسباب نزع الملك وكيفية تداركها واجتنابها خصوصاً وان هذا السلب لا يكون الا بالمشيئة الإلهية فلابد من بذل الوسع لنيل مرضاته تعالى، والشطر الأول وهو اتيان الملك يتعلق بموضوعين:
الأول : الفقير، الفاقد للشأن والملك والذي يرجوه ويغلبه او انه لا يرجوه لأنه لا يتوقعه , فتأتي هذه الآية لتبعث عنده الأمل في الحصول عليه.
الثاني : من نال الملك وحصل عليه، وهذه الآية تذكره بان الذي عنده انما هو من الله وليس بجهده وذكائه وعمله.
اما هذا الشطر من الآية وهو نزوع الملك فيتعلق بمن تلبس بالملك واخذ منه وطره وتمتع وأمتحن به، ثم يأتي النزع، والخلع ليقتلع الملك منه بعد حصوله وتحققه، وجاء قيد المشيئة مرة اخرى للتأكيد بان بقاء او اقتلاع الملك والجاه والسلطان لا يكون الا بارادته تعالى ووفق أحكام المشيئة مما يدل على لزوم تعاهد النعمة بالشكر لله واداء الفرائض اليومية واخراج الزكاة، وعدم جعل الملك وسيلة للظلم والتعدي.
وفي الآية اخبار عن تفضله تعالى باتيان الملك لشطر من الناس لبيان كرمه تعالى , وجاءت الآية على نحو الإطلاق فاتيان الملك او نزعه واقتلاعه لا ينحصر بقيود خاصة بالإنسان بل هو راجع الى مشيئته تعالى، نعم للعبد ان يسعى في معرفة كيفية دوام الملك والحيلولة دون ذهابه ومغادرته الى الغير، كما تخبر الآية عن عدم دوام تفضيل امة وان الملك والنبوة والتفضيل نعم منه تعالى يهبها لمن يشاء من عباده، وهل نزع الملك عقوبة ونقمة الجواب انه أعم فهو ليس عقوبة دائماً وقد يكون رحمة وسبباً لسلامة الدين او النجاة وحفظ النفس والعرض،
وهذا الإتيان والنزع جزء من التدبير العام لشؤون الكون وفرع الإرادة الإلهية ومن بين أسباب دوام اعلاء كلمة التوحيد ومنع تفشي مفاهيم الشرك والفساد، وهو عون للمسلمين في كل الأزمنة على أداء واجباتهم واصلاح حالهم، والمنع من الإجهاز عليهم على نحو السالبة الكلية، وهو مدرسة في حصول التبدل والتغير كسنة ثابتة من سنن الحياة الدنيا، كما تحمل الآية على المعنى الأعم في النزع وهو الحرمان من الملك وعدم وصوله الى العبد من رأس ليكون الناس على قسمين:
الأول: الذي آتاه الله الملك، وهو معر ض لنزع الملك ومغادرته له سواء على نحو العموم المجموعي للجماعة او الأفراد,
الثاني : الذي جاءه الملك ثم سلبه الله منه بمشيئته وارادته.
الثالث : الذي لم يأته الملك وبقي فقيراً ومعدوم الجاه قليل الشأن، والقسمان الأخيران ممن نزع عنه الله الملك، وهذا التقسيم لا يعني الثبات على حال من الأحوال فمن آتاه الله الملك، مهدد بالسلب والإقتلاع منه بمنطوق هذه الآية، والذي نزع عنه الملك او لم يأته اصلاً فانه مرشح لنيله وصدق عنوان الملك والمالك عليه ولو مجازاً بفضله ومشيئته وارادته تعالى، لكي تتعادل كفة الأمل والخوف في نفس الإنسان , ولا يغلب عليه اليأس او البطر،
وتمنع الآية من الغفلة والنسيان سواء عند الغني او الفقير، والملك والحاكم والمحكوم، والآمر والمأمور، لأن الملك والسلطان ليس ثابتاً لأحد، بل هو أمر متزلزل فلابد من تعاهده وحفظه، ومتى ما علم الفقير والمستضعف ان الملك لن يدوم عند أحد من الناس وانما هو متعلق بالمشيئة
فانه لا يفتتن بما عند غيره بل يصبر على حاله ويشكر الله عز وجل على ما رزقه ويتوجه الى الله تعالى بالدعاء،
فالآية تنفي وجود تفصيل ثابت لشطر من الناس وانهم يستحقون دون غيرهم الملك والنعمة، وهي من مصاديق العدل الإلهي الذي أشارت اليه الآية السابقة وان اتيان الملك او نزعه خال من الظلم لذات الفرد وللناس الآخرين فان قلت ان الله يؤتي بعضهم الملك والسلطان فيقوم بالقتل والظلم والتعدي، قلت: ان الظلم جاء بالعرض وبفعل الإنسان واختياره وسوء تصرفه بما أنعم الله عز وجل عليه، ومع هذا فان لحقه الظلم يثاب ويؤجر كما انه يدرك بان الملك عند الظلم غير ثابت، وان الظلم يعجل بزواله،
وهذه الحقيقة راسخة ومعروفة عند كل انسان مسلماً كان او كتابياً او وثنياً مشركاً، وهو من البديهيات التي جعلها الله عند الإنسان بالفطرة، كما ان الشواهد التأريخية تؤكد هذه الحقيقة لتكون موعظة وعبرة ودليلاً على صدق أحكام هذه الآية وشاهداً على نزول القرآن من عنده تعالى،
واتيان الملك وسلبه من أسرار الإمتحان في الحياة الدنيا والدروس الحاضرة التي تثبت فقر وحاجة الإنسان الى الله تعالى، فالفقير والغني يحتاجان رحمته بعرض واحد، واذا كان الفقير يريد الغنى، فان الغني يريد المحافظة على غناه وزيادة الغنى واجتناب الفقر وكذا بالنسبة لصاحب الملك والسلطان.
فالفقير لا يخشى الخسارة، لأنه لا شيء عند يفقده ويخشى ضياعه وشماتة الأعداء، اما الغني وصاحب الملك فانه يحذر الزوال وتفرق الأتباع وضياع الملك، وهذه الخشية يجب ان لا تؤدي به الى الظلم والتعدي، لأنه احتياط مخالف للإحتياط، ويريده سبباً لتعاهد ملكه ولكنه يكون سبباً لزواله ومحوه.
ومن وجوه نزع الملك :
الأول : كساد التجارات , وضياع المال الصامت كالدينار والدرهم.
الثاني : فقد الأملاك كالدور وهلاك المزروعات والضياع والحرث.
الثالث : انعدام الجاه بعد الشأن والمقام الرفيع بين الناس.
الرابع : فقدان المنصب وكرسي الحكم سواء كان مطلقاً كالملك، او فرعياً كالوزير والموظف الذي تحتاجه الناس في شؤونها.
الخامس : ذهاب الأمارة والشأن والقدرة على الأمر والنهي، كما لو كان تحت يده عدد من الأتباع والأعوان ويأتي ما يجعلهم يتفرقون عنه طوعاً واختياراً او قهراً وكرهاً ويتعذر عليه جمعهم او الإتيان ببديل لهم.
السادس : زوال الحكم والسلطان ومجيء دولة فئة او جماعة آخرين، وهذا القسم من أهم مصاديق الآية لصدق عنوان الملك عليه , وقيل المراد نزع ملك النبوة من بني اسرائيل الى العرب، والآية أعم موضوعا ودلالة وحكماً.
قوله تعالى [وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ]
بعد ذكر موضوع الملك اتيانا ًونزعاً، اقبالاً وادباراً، انتقلت الآية الكريمة في مقام آخر من مقامات قدرته ومشيئته وسلطانه المطلق، وهو العز والذل، والرفعة والخسة، والإرتقاء والهبوط لتبين نفاذ قدرته في كل شيء، وجميع الأشياء حاضرة عنده وانه سبحانه يتعاهد القضية النوعية والشخصية بمشيئته بمعنى انه يجعل الأمة بكاملها عزيزة او ذليلة وتارة يجعل الفرد عزيزاً او ذليلاً، وربما تكون ذلته في عز دولته او العكس هو الصحيح تكون عزته في دولة غيره، لأن المشيئة فوق قوانين العلة والمعلول، وفيه دعوة للجوء اليه تعالى وعدم الإنقطاع الى ألأسباب.
ومن وجوه الإنقطاع اليه تعالى واظهار الخشوع والخضوع الإقرار بان العز والذل بيده تعالى، وفيه توسل وتضرع لطلب العز منه سبحانه وليس من انسان الا و يرغب بالعز ويتمناه ويسعى اليه فجاءت الآية للإخبار بان الرغائب عنده تعالى وهو وحده القادر عليها، اذ ان الآية تنسب العز لمشيئته على نحو الحصر والتعيين، فلا يمكن حصول عز للأمم أوالجماعات او الأفراد من غير مشيئة وارادة الهية، والآية بشارة نيل المسلمين العز والرفعة، ولا ينحصر موضوع العز في الآية بالحياة الدنيا بل يشمل الآخرة من عالم القبر والنشور والحشر، وتتوج مراحل ومراتب العز بدخول الجنة والخلود فيها، فالآية سؤال للنشأتين،
وتنفي الآية عن المسلمين حب الملك والجاه والمال، فالإقرار بنسبة العز اليه تعالى يدل على العلم بانه ليس بمقدور العبد والجماعة ان يحققا العز الذاتي وان بذلا الوسع، ولكن على الإنسان ان يسعى في دروب الطاعة لأنها السبيل الوحيد لنيل مراتب العز، باعتبار ان مشيئته تعالى تقتضي نصر وليه وخذلان عدوه، ومن وجوه النصر العز والرفعة،
وقال الرازي: “ان كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لأنعزل عن الإلهية ولخرج عن كونه الهاً للخلق فهو تعالى باعطاء هذه التعظيمات يحفظ الهية نفسه عن الزوال”( ).
وهذا الكلام مخالف لقواعد الربوبية وان كان مبحثاً كلامياً وعقلياً، فهو سبحانه اله في السماوات والأرض سواء أعطى للعباد الثواب والجزاء او لم يعطهم، والثواب لطف وفضل منه تعالى وواجب على العباد الإقرار بالوهيته وربوبيته سواء أثابهم على الصالحات او لم يثبهم عليها.
ومصاديق العز متعددة وتنبعث منها في النفس الثقة والرضا والأمل سواء كان العز بأسباب الدين والإيمان، ام بأحوال الدنيا واقتناء الأموال الكثيرة والضياع وظهور حاجة الناس للعبد.
ومن أسمائه تعالى “العزيز” فهو الغالب الذي لا يقهر، ولا يعجزه شيء، ومن أسمائه “المعز” فهو الذي يمنح العزة لمن يشاء من عباده ويجعله عزيزاً قوياً لا يقهره أعداؤه من الناس، والعزة والذلة متضادتان لا يجتمعان في محل واحد، فالإنسان اما ان يكون عزيزاً او يكون ذليلاً، ولكنهما على مراتب تشكيكية متعددة ومتفاوتة في الدرجة والمرتبة, والله عز وجل يمنح العزة بأعلى درجاتها، ولا يستغرقان الناس جميعاً, فمن الناس من لم يكن عزيزاً ولا ذليلاً او انه بمنزلة بين المنزلتين ولو الى حين، ليبقى العز درجة ارتقاء لا ينالها الا الذي يحب الله ويرضى.
ولم يرد قوله تعالى [َتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ] الا في هذه الآية الكريمة لتخبر عن تفضله تعالى بمنح العزة لمن يشاء من عباده اشتقاقاً من عزته وهو العزيز، ولابد ان يكون هذا الإشتقاق وفق مرضاته تعالى ولمن أحسن الإمتثال لأوامره، فلا يمكن ان يكون هو العزيز سبحانه ويعطي العزة لأعدائه،
اما ما ورد بخصوص السحرة في التنزيل [وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ]( )، فانه قول ساحر ضال لا اعتبار له، وفعلاً فان السحرة لما رأوا الآيات التي جاء بها موسى أمنوا بالله وأنكشفت لهم مواطن العز واكتشفوا حقيقة ذل فرعون وزالت عن أبصارهم الغشاوة، بل انهم قاموا باذلال فرعون امام الملأ والناس، فعز المسلم ذل لغيره لأن الكافر يفتقر الى العلة المادية لهذا العز، ويشعر انه عاجز عن نيل هذه المرتبة،
وهل يستطيع احد ان يأخذ العزة من غيره، او ان يقوم هو ببناء عز له بذاته باعتبار ان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وان منحه تعالى العز لبعض عباده لا يمنع من نيل العز بالكسب والعمل المحض، الجواب لا، فان الآية تخبر عن حصر موضوع العز به تعالى، ولا ينال أحد من العز شيئاً الا باذنه ومشيئته تعالى، وما يظهر على الكافرين من جاه وشأن ظاهر فهو ليس بعز بل استدراج وامتحان لأنه في حقيقته ليس بعز، فالكافر يدرك بنفسه هوانه وضعفه والناس يعرفون هذه الحقيقة، وتراه حين يهوى او يهلك ينكشف ما كان فيه من ذل وفقر وعجز.
وتدعو الآية للتوجه اليه تعالى لإكتساب العزة، قال تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ]( )، وقال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )، ولا تعارض بين الآيتين لأن ما عند الرسول والمؤمنين من العز انما هو رشحة من رشحات فضله واحسانه تعالى، ومناسبة لإقامة شعائر الله، ووسيلة لبقاء كلمة التوحيد وترغيب بالإسلام وأداء الفرائض، واخبار سابق لزمانه عن العز والثواب الذي يناله المسلم يوم القيامة ونيل العز يحتمل أمرين:
الأول: ان العز يأتي للإنسان ابتداء وفضلاً منه سبحانه
الثاني: بالكسب والسعي يحصل الإنسان على العز.
الثالث: الجامع من الأمرين، فيأتي العز بالهبة والكسب معاً، من غير تعارض بينهما، وهو الأصح فالله عز وجل يصلح العبد لنيل مراتب العز، ومن وجوه الكسب كمقدمة لنيل مراتب العز الإيمان والدعاء والصلاح، فالإيمان وحده عز ومقدمة لنيل العز، والعز المذكور في الآية شامل لأيام الحياة الدنيا والآخرة ويحتاج اليه الإنسان في الآخرة أكثر منه في الدنيا، ويتمثل العز في الآخرة بنفي الخوف والحزن عن العبد ويبلغ ذورته وسنامه بدخول الجنة والنجاة من ذل العقاب وما في دخول النار من الخزي،
وما المقصود من العز، انه الرفعة والمنعة وعدم القهر والهوان، فهو ملكة في النفس تتمثل بالشمول وامتلاء النفس بالرضا وعدم الخشية من أحد الا من عنده تعالى وقد يتعرض المؤمن للإستضعاف ولكنه يبقى في عزه، فتراه يفتخر بما عنده من الإيمان ويتحمل ما يلاقيه بصبر فمن مصاديق العز الرضا بالحال وهو سلاح لبلوغ الكمالات الإنسانية ووسيلة لتثبيت الإيمان في الأرض وجعل النفس صورة مصغرة لها، فما دام الإيمان ثابتاً في نفس المؤمن فانه يثبت ويرسخ في الأرض.
والعز على قسمين:
الأول: شخصي، وهو الذي يتعلق بالأفراد.
الثاني: نوعي، وهو الشامل للملل والأمم والجماعات.
الثالث: الجمع لهما، فيكون عند العبد عزان احدهما شخصي، والآخر فرع من النوعي، لأن الأخير انحلالي ينبسط على أفراد الجماعة والله سبحانه اذا أعطى يعطي بالأتم والأوفى.
وقد جاءت الآية على نحو الإطلاق (تعز) فيهب المسلم أرقى درجات العز والمنعة والقوة، ومن أبواب نيل العز ترويض النفس على طاعة الله، وهو بذاته عز ولواذ بجنب الله، ومنها الدعاء والعمل الصالح وحسن التوكل على الله وتنمية ملكة اليقين في النفس وقهر النفس الشهوية والغضبية والإنقطاع عن الدنيا وعدم اللهث وراء زينتها.
قوله تعالى [وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ]
جاءت الآية بصيغة الدعاء والمناجاة مما يدل على الفزع اليه سبحانه خوفاً ووجلاً من التدني والهوان.
والذل بلحاظ افراد الزمان الطولية على أقسام :
الأول : الذل في الحياة الدنيا.
الثاني : الذل في الآخرة.
الثالث : الذل الجامع لهما أي في النشأتين.
قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ]( )، وقال تعالى في وصف حال الكافرين يوم القيامة [خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ]( ).
كما ان الذلة على درجات طولية متعددة فقد يكون الإنسان ذليلاً وينتقل الى مراتب العز، وكذا يحصل العكس وهو أشد شيء على الإنسان، فاذا كان الإنسان كافراً وأنتقل الى صفوف الإيمان فانه يخلع رداء الضعف، ويرتدي لباس العز والبهجة والسؤدد ويشعر بالعز والتخلص من عبأ الهوان والإنكسار اللازم للكفر والجحود،
فاذا اراد الله عز وجل ان يعز الإنسان وينجيه من حال الذل نقله الى منازل الإيمان والإقرار بالوحدانية والتصديق بالنبوات والكتب السماوية، واذا اراد سبحانه ان يعز قوماً أظهرهم على غيرهم وجعلهم أقوياء في منعة وحفظ للنفس والمال والعرض، ولكن هذه القوة والمنعة على قسمين:
الأولى: ظاهرية والتي تكون بالأسباب المادية والخالية من الإيمان وتكون مؤقتة وخاصة بايام الدنيا وبفترة منها فهي عرض زائل ويمكن تسميته بالعز المجازي.
الثاني: العز الثابت والمستقر وهو الذي يأتي عن ايمان ورسوخ ملكة التقوى في النفس ويسلم معه الصبر بالقدرة المطلقة لله تعالى، وان ما يصيبه من عنده تعالى، فيرجو فضله ورحمته ولا يخاف غيره،
ويأتي التخلص من الذل على طريقين:
الأول : تدريجي وعلى مراتب وبلحاظ الأسباب الظاهرة.
الثاني : دفعي ويحصل الإنتقال مرة واحدة، من غير ان يتعارض مع قوانين العلة والمعلول، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
فجاء يوم بدر ساعة من النهار لتغير مجرى التأريخ الى الأبد ولتنقل المسلمين الى مراتب العز والرفعة وتبعث في نفوس أعدائهم والناس عامة الهيبة منهم، ولا ينحصر موضوع العز الذي جاء يوم بدر بالنصر على الكفار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين حضروا واقعة بدر، بل يشمل جميع المسلمين آنذاك، وكل مسلم الى يوم القيامة لأن كل واحد منهم انتفع منها ومن النصر يومئذ، ولا يمر عليها في الذاكرة والذكر الا ويأخذ منها الدروس والعبر، وفوز المسلمين بالعز يوم بدر يعني بالدلالة الإلتزامية خسارة عدوهم وانتقاله الى منازل الذل والضعف والهوان وهو الأمر الذي ظهر على قريش بعد انكسارهم فكانوا محل استخفاف واستهزاء القبائل والناس، وضم التأريخ في جنباته لهم الخزي والعار ويظهر فيها كمثال كيف انه سبحانه يتدخل لينال المسلمون العز، اذ نزل الملائكة لمنعة المسلمين وغلبوا مع قلتهم الكافرين وجعلوهم ينهزمون مدبرين، لذا ذكر في الآية ان معناها تعز محمداً وأصحابه بالنصر وتذل أبا جهل وجماعته بقتلهم في قليب بدر،
وقد يصاب المؤمن بالفقر والعوز ويستضعف من الآخرين ويكون في ذل وعوز ظاهري، ولكنه لا يصدق عليه عنوان الذل الا على نحو المجاز لأنه في قرارة نفسه على بينة من أمره راضٍ بحاله وما هو عليه من الإيمان، يأتي وقت الصلاة فينقطع الى الله تعالى ويقف مع أخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في أداء مضامين العبودية لله فيكون الجامع بينهم هو العز بالطاعة، لذا ورد عن الإمام علي انه قال: “إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا ، وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما احب فاجعلني كما تحب”( ).
ويمكن استقراء قاعدة كلية من الآية الشريفة وهي: لا عز مع الكفر، ولا ذل مع الإيمان.
ومن أصدق مضامين العز هو الإسلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالمدار في العز والذل على التصديق بنبوته او عدمه، وعليه شواهد وجدانية وتأريخية عديدة، ففي الآية اخبار عن أنقسام الناس الى من هو عزيز ومن هو ذليل وهناك قسيم ثالث لهما وبرزخ بينهما، وهذا القسيم لا يبقى فرداً مستقلاً فلابد ان تشمله عمومات القسمة الثنائية وهي اما ان يكون عزيزاً او ذليلاً ان لم يكن في الدنيا ففي الآخرة لعدم وجود برزخ بين الجنة والنار، فاما ان يكون من أهل الجنة ويكسوه العز، واما ان يدخل النار بعمله فيلحقه الذل.
وتخبر الآية عن وجود أناس أعزة لأنه تعالى كريم يهب من رحمته ما يشاء، فالآية تحريض وتنبيه للمسلمين باغتنام فرصة الحياة الدنيا لإقتطاف ثمرات العز في الدارين، فالدنيا مناسبة لنيل مراتب العز الدنيوية والأخروية، وتحذر الآية من غضبه وبطشه تعالى والإنزال الى منازل الذل وما دام الذل بيده تعالى فلابد من اجتناب معصيته ومخالفة أوامره والإبتعاد عما نهى الله عنه من الذنوب والمعاصي،
وفي الآية تحذير من الكفر والجحود ووعيد بالعقاب الشديد، ولم تذكر الآية زماناً مخصصاً للذل بل جاءت مطلقة لتشمل أزمنة الحياة الدنيا وعوالم الآخرة، وتدعو الى الفرار الى الله تعالى وقد يأتي العز بمدح المؤمن بالثناء عليه ويكون ذل الكافر بالجزية والتعرض للسبي، وهو من فروع وآثار ومصاديق العز والذل والعز شاهدان على عظيم قدرته تعالى وان الله عز وجل بصير بالعباد، وقد يأتي الذل من حب الدنيا والإنشغال بها عن ذكره تعالى، فينسى الله العبد من رحمته ليلازمه الذل والهوان.
وقد يكون الإنسان غنياً عزيزاً في قومه، كما في فرعون واضرابه، بل ومن هو أدنى منه بمراتب ودرجات، ولكن هؤلاء أذلة في قرارة أنفسهم، وان الذل الظاهري ينتظرهم، وما هم فيه من النعم متزلزل، وأقصى ما يبلغه هو مدة الحياة الدنيا للشخص وليس للجنس او المبدأ فان مبادئ الكفر يصاحبها الخزي والذل وانعدام الحجة والبرهان لذا قد يترشح الذل من خلال اختيار الكفر والعناد والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع اقامة الحجة على صدق نبوته،
وقد يصيب المؤمن الفقر، ولكنه لا يصل الى ترتب فقدان العز بسببه، والفقر عرض مفارق لا يغير الموضوع وامتلاء النفس بالعز المصاحب للإيمان، وهل يذل الله المسلم الجواب لا، انما الذل والهوان لأعداء الله، واذا ظهر فقر ومرض ومسكنة على المسلم فهي طريق لنيل الثواب الأخروي ولأنه في ذاته يبقى عزيزاً بالإيمان والله واسع كريم.
قوله تعالى [ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ]
الآية دعاء ومناجاة من الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الباري عز وجل بأمر منه سبحانه، فهو الذي يريد من النبي ومن المسلمين والى يوم القيامة ان يقولوا [بِيَدِكَ الْخَيْرُ] مما يدل على وجود معاني قدسية بهذا اللفظ والثناء والتعظيم لمقام الربوبية.
واليد عنوان القدرة والملك والتصرف وبعد ان جاء اول الآية بثبوت الملك له سبحانه على نحو الإطلاق، جاء هذا الشطر من الآية ليؤكد بان مصاديق الخير والصلاح كلها بيده تعالى على نحو الحصر والتعيين.
والخير ضد الشر، وجمعه خيور، وهو عنوان جامع لموارد النفع والصلاح ويأتي بعنوان المال، ويقال: صار خيراً أي صار ذا خير، والخير – بكسر الخاء- الكرم والشرف، ونسبة الخير اليه تعالى بصيغة المناجاة نوع تضرع واستجارة ولجوء اليه سبحانه، فهو الملاذ والهادي والرب، وفيه اظهار للعبودية والخشوع لله تعالى وتوكيد للإيمان، واخبار بان هذه المناجاة والإقرار بانه سبحانه مالك الملك من مصاديق الخير.
لقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون العز باعتباره من وجوه الخير وطلبوا النجاة من الذل بمراتبه المختلفة، والنجاة والخلاص منه من أفضل وجوه الخير والفيض والبركة، لقد جعل الله الإنسان يميل الى الخير بفطرته , ويهتدي اليه بعقله وحسه لما فيه من النفع الذاتي وما يترشح عنه من المنافع الشخصية والنوعية، والخير فرع الملك، ففاقد الشيء لا يعطيه، فما دام الملك كله بيده تعالى فاذن لا يكون الخير الا عنده , ولا يصل للإنسان الا بمشيئته وأمره.
ومن المتكلمين من أنشغل بمسألة خلق الكفر والمعصية , فاذا كان الخير بيد الله فهل الكفر والذنوب التي يرتكبها العبد بيده وخلقه ام انهما من خلق العبد، واذا كان الخير بيد الله فهل ما يختاره العبد من الإيمان من فعل العبد على نحو الإستقلال.
لقد جاءت نسبة الخير الى الله على نحو الإطلاق فلابد من توجيه مباحث الكلام وفق منطوق هذه الآية وعدم الإنشغال بما يصرف النفس والأصحاب( ) عن المضامين القدسية للآية القرآنية، فالآية ذكرت الخير وبيده تعالى كل شيء , ولكن المقام مقام المدح والثناء والرجاء والأمل , فلذا جاءت بذكر وجوه الخير والأمر الحسن.
وجاء قوله تعالى [بِيَدِكَ الْخَيْرُ] متعقباً لقوله تعالى [تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ] لوجوه من الحسن والصلاح منها :
الأولى : الإلتجاء اليه تعالى بالنجاة من الذل، فصحيح ان العز يدور مدار الإيمان الا انك ترى من المسلمين من هو فقير محتاج يقف على ابواب الأغنياء ويلجأ احياناً الى شخص او مؤسسة غير اسلامية لمساعدته واعانته او للعمل تحت لوائها , وضمن أهدافها بشروط ظاهرة , او بغير شروط وهو يتمنى ان يرى رزقه بيد المسلمين ومن غير ذل ومسكنة وحاجة الى الغير وليجتمع له عز الدنيا والآخرة.
الثانية : جاءت هذه الآية لسؤال العز في الدنيا مثلما يرتجى في الآخرة ولرفع الحيف والعوز عن المسلم , ويتوجه اليه تعالى بالدعاء.
الثالثة : كأن الآية تقول: انك سبحانك تذل من تشاء ,ولأن الخير كله بيدك وانت مالك الملك ,فانك لا تجعل الذل يصل الينا , ولا تختار لنا الا العز والرفعة، فهذا الشطر من الآية جاء لنيل العز والرفعة وتحصيل الخير والمال والجاه والنجاة من الذل والشر والهوان.
والآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها تتضمن الإنشاء او السؤال والطلب أي طلب الخير والمال والجاه، وكل ما هو مقدمة وسبب للعز، ويكون نفياً للذل والهوان، فمن الخير رفع الذل ودفع مقدماته، ويرى الإنسان شواهد عديدة في حياته يكون الأذى والحرج والمشقة قريبة منه فيقيض الله اسباباً تؤدي الى طردها وانكشاف الغمة وصرف البلاء،
ومن الخير الصحة والعافية والسلامة في البدن من الدرن والمرض، ومنه كثرة النسل والأولاد، ونماء المال والأخلاق الحميدة والصيت الحسن، ومن الخير النوعي الوئام والوفاق بين المسلمين وعدم حصول الفتنة والشقاق بينهم، ومنه السلطان العادل الصادع بالعدل والإنصاف , ومن أفضل مصاديق الخير بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولذا فان الآية تحمل عنوان الشكر له تعالى، كما تحمل مضامين السؤال والدعاء والتوسل.
فالآية اقرار بفضله تعالى وانه سبحانه بيده الخير بوجوهه المختلفة العقائدية والعقلية والمادية، وأشرفها ما يكون من عالم الأمر وأسناها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وتلاوة هذه الآية الكريمة لما فيها من المضامين القدسية والأخبار عن موضع الخير وانه (بيده) تعالى له دلالات منها ان مقاليد الامور كلها بيده سبحانه , وانه تعالى هو الكربم الوهاب.
ومما هو معروف عند عامة المسلمين انه تعالى لا يوصف بكيف ,وليس له يد ومنزه عن التشبيه، ولكن اليد عنوان القدرة والقوة، وهذا المعنى المتعارف لليد لا يمنع من استقراء الدلالات العقائدية في المقام بلحاظ القرائن، فاليد هنا عنوان قرب الخير والعطاء من العباد , وانه تعالى جعله حاضراً في يده ليمنحه لمن يسأله ويطلبه , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع حسن النسق, وهو الإتيان بكلمات متعاقبات معطوفات متصلات اتصالاً حسناً ,احداها تنقل القارئ والسامع الى الأخرى مع ان كل واحدة منها قائمة بذاتها، وفي القرآن يأخذ حسن النسق دلالات اعجازية اضافية، الى جانب الإستقلال في اللفظ والمعنى، كما انها تعطي مجتمعة معان ومضامين قدسية اضافية،
ومنه هذه الآية فقد بدأت بالنداء الذي يتضمن التوسل والإقرار بالربوبية لله تعالى والتسليم بان الملك كله له، لينتزع الإنسان عن نفسه حب الدنيا والكبرياء والظن بالقدرة على الإستيلاء والتملك، وبدل انشغاله بحب الدنيا والملذات، فان قلب المسلم يصبح روضة من رياض الجنة وملكاً محضاً لله تعالى،
وما كان بذاته ملكاً فانه لا يطمع ان يكون مالكاً لغيره فيتفرغ الإنسان للعبادة والرشاد، ويدرك حقائق وأشياء , ومنها انه سبحانه يؤتي الملك من يشاء، فيكون هذا الإيتاء عنوان العرض الزائل , وعدم دوام الملك بيد الناس لأنه لابد وان يرجع للمالك الأصلي ويؤكده الوجدان، وابتلاء الإنسان بحصول الموت قهراً، ليكون النزع الحتمي للملك الذي حصل عليه في الدنيا،
ثم يأتي العطف بالواو بخصوص العز والذل مع ان موضوعهما مختلف، فبين الملك والعز عموم وخصوص من وجه , وقد يجتمعان في فرد وقد يفترقان، فربما يكون مالكاً ولكنه ذليل ليس بعزيز وقد يكون الإنسان عزيزاً وليس بمالك لشيء من حطام الدنيا، فالعز عنوان الإيمان، ويترشح على الأفراد من ايمان الجماعة والأمة وقوتها ومنعتها وقد لا ينفع الإنسان الملك مع الذل والضعف، ويكون عرضة للسلب او يتعذر الإنتفاع منه تحت سلطة الظالمين او القوانين الجائرة التي لا تضع اعتباراً لقاعدة السلطنة وان الناس مسلطون على أموالهم.
والعز نعمة وحاجة لا تنال الا من عنده تعالى وبفضله وبسلاح الدعاء لذا جاءت خاتمة الآية وقوله تعالى [بِيَدِكَ الْخَيْرُ] لإرادة طلب الملك والعز متحدين، والنجاة من الفقر والذل مجتمعين ومتفرقين.
بحث كلامي
الإرادة التكوينية والتشريعية بيده تعالى وحده من الأزل الى الأبد
تخبر الآية على ان الإرادة التكوينية بيده تعالى وليس بيد غيره ولم يخول بها ملكا او نبيا او اماما، اما ما ورد في معجزات الأنبياء فهي قضايا جاءت على نحو المعجزة والكرامةالشخصية لإثبات صدق النبوة , وكأنه باب يفتح لمرة واحدة او بضع مرات ثم يغلق ليوم القيامة ولا يصدق عليه انه منح للإرادة التكوينية ,سبحانه عما يقولون علوا ًكبيراً بل هو اذن في قضية شخصية وفق المشيئة الإلهية، فمثلاً ورد في التنزيل بخصوص قوله تعالى [قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي]( )،
وقد ورد في آصف بن برخيا وصي سليمان، وقيل (انه كاتبه وكان صديقاً عالماً) ( )،
وذكرت في الذي قال [أَنَا آتِيكَ بِهِ] وجوه أخرى وهي :
الأول : انه جبرئيل عليه السلام.
الثاني : هو ملك ايد الله به سليمان.
الثالث : القائل هو سليمان نفسه لما استبطأ العفريت.
الرابع : الخضر عليه السلام.
وقد ذكر في مجيء عرش بلقيس مسائل منها :
الأولى : ان الملائكة هي التي حملته اليه، مما يعني انه استجابة منه تعالى ولم يخرج الأمر عن المشيئة الإلهية.
الثانية : سخر الله الريح فحملته.
الثالثة : ان الله عز وجل جعل العرش يتحرك ويصل بذاته الى مجلس سليمان.
الرابعة : انخراق مكان العرش في الأرض وظهر في الحال عند مجلس سليمان، وغيره من الوجوه، فلا يخرج امر احضاره عن مشيئته تعالى.
وفي تفسير العياشي عن الإمام علي الهادي في الآية في جوابه لأخيه قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه: “قال الذي عنده علم من الكتاب” فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف , لكنه أحب أن تعرف أمته من الجن والانس أنه الحجة من بعده , وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان في حياة داود ليعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق.
وقد نعته الإمام بانه من المعرفة والمراد من المعرفة الجزئيات وفرع العلم وليس الكليات في توكيد بانه ليس من الإرادة او الولاية التكوينية، والأنبياء والرسل يتبرأون من نسبة الولاية التكوينية لهم.
ومجيء عرش بلقيس عند مجلس سليمان بالشام من اليمن قبل ان يرد طرفه لا يدل على الإرادة التكوينية وتفويضها للعباد لذا جاء القول هذا من فضل ربي.
وارادته تعالى انه مختار لا يقهر، والعلم بالنظام الأكمل وهي المشيئة والتي تتجلى بقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) ولا أحد يجرأ بالقول ان هذه المشيئة والإرادة عند ملك او رسول أو امام.
وعرفت الإرادة تعريفات عديدة كما تقدم منها :
الأول : انها صفة زائدة قائمةً بمحل، وبه قال الجبائي.
الثاني : صفة حادثة قائمة بالذات , وبه قال الكرامية.
الثالث : نفس الذات وبه قال ضرار.
الرابع : صفة قديمة زائدة على الذات قائمة به، عن الأشاعرة.
الخامس : صفة زائدة مغايرة للقدرة والعلم.
السادس : علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة الداعية الى ايجاده وبه قال علماء الإمامية، وأبو الحسين البصري من المعتزلة.
السابع : علمه تعالى بجميع الموجودات.
وفي زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش وكانت عند ربيبه الذي أعتقه وأنعم عليه بالإسلام زيد بن حارثة، ولم يأمره النبي ان يطلقها ولم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتطليقها من زوجها بالولاية التشريعية كما يقولون، بل أنتظر حتى طلقها زيد بن حارثة نفسه باختياره لأن الطلاق بيد من أخذ بالساق، ولما خرجت من عدتها خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بان أرسل زيدا نفسه ليخطبها له، وفيه نكتة فلعل زيداً يريد ان يرجع اليها ويتفق معها على الزواج من جديد وهي لا تعلم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطبته فبعث زيدا لها وقال له: ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك أخطب علي زينب.
ونزل قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ] ( ) خاصة بالأدعياء وليس مطلق المسلمين بنص القرآن.
وعلى فرض الإذن في معجزة أو تنزيل وأمر لتوكيد صدق نبوة فان ما يقوم به الملك او النبي من فضله تعالى واذنه الخاص، وتبقى مشيئته وارادته تعالى على حالها بيده وحده سبحانه، فيمكن اعتبارها من القضية في واقعة، وليس حالاً مستديمة وتفويضاً مطلقاً، ولو قام صاحب المال او رب الأسرة باعطاء مبلغ من المال الى أحدهم وقال له اشتر لنا كذا، فهل يعني هذا انه فرض له ألأمر في كل أمواله وملكه وسلطانه،
وهل يحق لورثة هذا الشخص ان يأتوا لصاحب المال وهي مختار ويقولون له فوضت لأبينا شراء شاة في يوم ما، اذن أصبحت اموالك كلها بيدنا ونحن نوابه وورثته، واذنك له بشراء شاة يدل على تفويض الإرادة والولاية العامة له وهو وكيلك المطلق ونحن نوابه وورثته، وما لأبينا فهو لنا، هذا ما لم يقل به احد من العقلاء،
وان ما يأذن به الله عز وجل لأنبيائه ولخاصة اوليائه من فضله ورحمته وعلى نحو القضية الشخصية التي تحتاج الى اذن جديد لو تكرر حدوثها، بمعنى ان آصف بن برخيا لا يستطيع ان يأتي مرة اخرى بعرش بلقيس الى الشام الا ان يأذن له الله عز وجل وهو مما علمه الله تعالى وليس من الإرادة او الولاية التكوينية , ولفظ الولاية التكوينية لم يرد على لسان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ولا الصحابة الكرام او الأئمة من أهل البيت عليهم السلام او الفقهاء المتقدمين وليس هو من الحقيقة الشرعية او المتشرعة.
قوله تعالى [إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
اظهار للتسليم لمقام الربوبية والإقرار بانه تعالى لا تستعصي عليه مسألة فجميع الأشياء مستجيبة لأمره، والآية الكريمة تتناول حصول المتناقضات كمواضيع وان لم تكن في محل واحد، والغنى والفقر، والحكم والخلع منه، والعز والذل وهي أمور لا يقدر عليها الا الله تعالى , فجاءت الآية لتحصر عظيم القدرة به سبحانه وتمنع من الشرك.
ومن الآيات انها جاءت بلغة الخطاب من غير التفات الى الغائب وفق الإصطلاح البلاغي، فبدأت بالأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقل ثم استمرت بذات الأمر والتلقين والمناجاة وهو من فضله تعالى ان يرتقي المسلمون في سلم المناجاة ويتعلموا منهم دروس العبودية والخشوع والإنقطاع لله تعالى في طلب الرغائب والغبطة حتى في حال الضيق والعوز لأن الأمل قريب وباب السعادة مفتوح، والخير بيده تعالى ولا يعلم العبد متى ينزل فضله تعالى،
فجاءت الآية بشارة واملاً وتثبيتاً للثقة والإيمان في نفوس المسلمين وتوكيداً لمضامين الآية وانه تعالى مالك الملك وبيده الخير ويعز من يشاء وهذا التوكيد لطرد الغفلة ودعوة للشكر له تعالى على النعم، وفيها ثناء على الباري عز وجل ووسيلة للتقرب اليه والإغتراف من الخير الذي عنده تعالى بالدعاء والصلاح، وفيها عزوف عن سواه فيما تشتهي وتحتاج النفس واشارة الى الإستعداد للآخرة، وان ما لايدركه المؤمن في الدنيا يناله في الآخرة لأنه سبحانه المالك للدارين , وقد وعد أهل الإيمان بالجنة والنعيم الدائم.
قوله تعالى [تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] الآية 27
الإعراب واللغة
تولج: فعل مضارع والفاعل ضمير مستتر تقديره انت.
النهار: مفعول به منصوب، في الليل: جار ومجرور متعلقان بتولج.
وتخرج الحي من الميت: عطف على ما سبق.
من تشاء من: اسم موصول في محل نصب مفعول به ، وجملة تشاء صلة الموصول.
والولوج: الدخول يقال ولج البيت ولوجاً ولجة.
والولج والولجة شيء يكون بين يدي فناء القوم، ووليجة الرجل بطانته وخاصته ودخلته، وفي الحديث: عرض علي كل شيء تولجونه أي تدخلونه وتصيرون اليه.
في سياق الآيات
بعد آية مالك الملك وحصر الخير والفيض والعطاء بيده تعالى ومشيئته وارادته جاءت هذه الآية في بيان عظيم قدرته في الخلائق والإرادة التكوينية القاهرة للموجودات , والتي تقترن بها اسباب الرزق واللطف منه تعالى ولما ختمت الآية السابقة ببيان عظيم قدرته تعالى جاءت هذه الآية لتخبر عن مصداق من مصاديقها وفرد حاضر متجدد من القدرة الإلهية.
اعجاز الآية
في الآية دعوة للإلتفات الى آية الليل والنهار وتداخلهما وتعاقبهما في أبهى كيفية وادق نظام ومن الإعجاز فيه توالي التعاقب ففي كل يوم تتكرر الآية مرتين لتكون حجة يشاهدها ويحس بها كل انسان بالإضافة للإقرار بسلطانه وقدرته تعالى في البعث والحياة والإماتة، وتكفله الرزق للعباد.
لقد جاءت الآية بالبرهان الحسي الذي تفتح منه أبواب في الإعجاز العقلي، ومن منافع البرهان الحسي انه ملائم لجميع الناس على اختلاف مشاربهم وتباين درجاتهم وعقولهم، ومن الأسرار في خلق الإنسان ان يلتقي الغني والفقير والذكي وغيره، والعالم والجاهل، والحاكم والمحكوم في تلقي هذه الآية والآيات الكونية بالإنصات والفهم والإعتبار ويدل على تساوي الناس في مضامين العبودية ووجود جامع مشترك بينهم خاص بقبول الخطابات الإلهية، فلم يقل العالم او الحاكم ان هذه الآيات الكونية للعامة وانا أريد برهاناً غيرها، وبدليل بهتان نمرود حينما أستدل ابراهيم بشروق الشمس من المشرق دون المغرب.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (تولج) ولم يرد هذا اللفظ بصيغة الخطاب الا في هذه الآية، وعلى نحو التكرار.
الآية سلاح
تحث الآية على الإلتفات الى الآيات الكونية وتمنع من الغفلة عنها فقد لا يولي الإنسان أهمية لما هو قريب منه مع ماله من الخصوصية بسبب القرب والتوالي والتعاقب، فجاءت هذه الآية لبيان عظمة كل من آية الليل وآية النهار، وقدرته تعالى على الإماتة والأحياء، وذكرهما درس وموعظة وتنبيه لمعرفة قصر ايام الحياة الدنيا وحتمية لقاء الآخرة،
والآية عون للمسلمين ودليل للإحتجاج على الكفار، وبرهان على التوحيد.
مفهوم الآية
تنسب الآية التعاقب بين الليل والنهار اليه تعالى من غير واسطة من الملائكة او البشر، وهو من مصاديق الإرادة التكوينية، ومن مختصاته تعالى، ولا يقدر عليه الا الله، وفيه آيات متعددة مستقلة ومتداخلة وهي:
الأولى : آية النهار.
الثانية : آية الليل.
الثالثة : الإيلاج الكوني والزماني.
الرابعة : ايلاج الليل في النهار.
الخامسة : ايلاج النهار في الليل.
وهذه الآية من بديع صنعه تعالى ومستجيبة له خوفاً وقهراً لأنه لا أحد يقدر على تعاقب الليل والنهار، وايلاج الليل في النهار والعكس على وجوه بلحاظ اتحاد او تعدد الأمر الإلهي وهي :
الأول : أمر واحد صدر لليل والنهار بالتعاقب، وهما جاريان ومستجيبان له الى يوم القيامة.
الثاني : كل يوم يأتي أمر الهي الى الليل والنهار بالتعاقب.
الثالث : كل يوم يأتي امران احدهما الى الليل بالولوج في النهار، والآخر الى النهار بالولوج الى الليل، بقرينة الأمر الإلهي في اخراج الحي من الميت والميت من الحي.
الرابع : صدور أمرين من المشيئة الإلهية في بداية الخليقة، أحدهما الى النهار، والآخر الى الليل.
الخامس : صدور أمر او أمرين في بداية الخليقة وتجدد الأمر او الأمرين كل يوم.
ان الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة وكل هذه الوجوه ممكنة، والأقوى هو صدور أمر ومشيئة الهية واحدة يجري بها الليل والنهار من بداية الخليقة مع تعاهده سبحانه لهما في تداخلهما،
لقد جاءت الآية بصيغة الخطاب والمناجاة التي جاءت بها الآية السابقة وتضمنت اموراً :
الأولى : تفضله تعالى بادخال الليل في النهار.
الثانية : ادخال النهار في الليل.
الثالثة : اخراج الحي من الميت.
الرابعة : بعث الحياة فيما يخرج من المعدوم , لأن الآية لا تنحصر بالإخراج بل تشمل اخراج الكائن حياً، فلا الميت يؤثر على الحي باماتته ولا الحي يؤثر على الميت باحيائه.
الخامسة : اخراج الميت من الحي وعدم استصحاب الحياة اليه.
السادسة : الجمع بين المتضادين , وقدرته تعالى على الإحياء والإماتة.
السابعة : تحديد ماهية الحي , وتعيين الميت يكون منه تعالى وبمشيئته وارادته.
الثامنة : قدرته وتفضله تعالى على الرزق الكريم للعباد.
التاسعة : عدم تدخل احد بشأن الرزق وكيفيته ونوعه وجنسه انما هو أمر مفوض اليه تعالى.
العاشرة : من كرمه ولطفه تعالى عدم تحديد مقدار الرزق.
ومع قلة عدد كلمات الآية فعدد الأفعال فيها خمسة، فعلان مكرران، تولج وتخرج، والخامس ترزق وكلها وردت بصيغة المضارع لتؤكد دوام ارادته وسلطانه ونفاذ مشيئته وعدم وجود مانع دونها، وللإخبار عن دقة النظام الكوني مع التعدد والكثرة في عدد الأيام والليالي لآلاف السنين, وكل سنة تتكون من اثني عشر شهراً، وكل شهر يتكون من ثلاثين ليلة وثلاثين نهاراً او تسعة وعشرين،
وهي جميعاً مستجيبة لذات الأمر الإلهي من غير ان يخرج أحدها عن مشيئته قيد أنملة مما يملي على الإنسان الإستجابة لأوامره تعالى والإنصياع لمشيئته والإقرار بالتوحيد والتسليم لأوامره ونبذ الكفر وقتل الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس، والإحتراز من الخلود في النار، ليبقى المسلمون قادة الأمم والهداة الى كلمة التوحيد يتلون آيات القرآن فيتعلمون الحكمة والموعظة ويصلحون أنفسهم ويمتلكون آلة الإحتجاج والبرهان على التوحيد بالآيات الحسية التي لا يمكن لأي انسان نكرانها وتجاهلها.
ومن مفاهيم الآية الحرب على الكفر ودعوة الناس للإيمان لقد انعم الله على ابراهيم بالإحتجاج على الملك مع احتمال الضرر, وجاءت هذه الآية لتكون عوناً للمسلمين في الإحتجاج على الكفر مع الفارق وهو السلامة من الأذى والضرر على النفس، وان لم يكن احتجاجاً فبرهاناً ذاتياً لتثبيت الإيمان وطرد الشك عن النفس.
افاضات الآية
تجعل الآية المؤمن يشعر بقرب رحمته تعالى منه، وانها مصاحبة له في ليله ونهاره، ينتظر تبدل الليل ومجيء النهار لا بذاته وانه حركة طبيعية بل ينتظره باعتباره من أفراد المشيئة الإلهية فيعشقه ويحب هذا الإيلاج، ويتدبر امره واسراره ويستظهر منه الدروس والعبر، وهذا التدبر شخصي ونوعي، ومن الآيات ان أوان اول الفرائض اليومية وآخرها مع هذا الولوج ,
فتأتي صلاة الصبح عند دخول النهار في الليل، وصلاة المغرب ثم العشاء لمصاحبة دخول الليل في النهار، وهو نوع شكر لبني آدم لله تعالى على هذه النعمة الكونية، كما تذكر الآية بالنشور، فصحيح انها أخبرت عن الحياة والموت الا ان الآيات الأخرى تذكر بالنشور مما يجعل نوع ملازمة وينعكس هذا الوجود الذهني على عالم الأعمال عند المسلم بين الموت والنشور والحساب باعتبار ان المعاد أصل من أصول الدين، فلا يذكر الموت الا ويستحضر الإنسان بالوجود الذهني عالم الحساب.
التفسير
قوله تعالى[تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ]
جاءت هذه الآية على نظم الآية السابقة بالمناجاة وامره تعالى الى نبيه (قل اللهم) وبواسطته الى المسلمين جميعاً وكأن افتتاحها (قل اللهم تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) والولوج الدخول وجاء هنا بمعنى اخص ويتعلق بالمضامين المعنوية والآيات الكونية، ويحمل اللفظ على ظاهره , فالوصف بدخول الليل في النهار آية بلاغية وحكمية ووصف دقيق يدعو اهل العلوم العقلية والدراسات الفلكية للبحث والتحقيق فكيف يكون هذا الدخول وهل هناك كيان مادي وجسم فيدخل فيه الليل او النهار.
ليس من جسم مادي، ولكن الوصف جاء بلحاظ التداخل الحسي، والنسبة بين الولوج والدخول هي العموم والخصوص من وجه , فمادة الالتقاء دخول شئ في شئ آخر، اما مادة الافتراق فان الدخول في الماديات وقد يكون دفعياً , اما الولوج فهو يشمل الحسي والمعنوي ويكون تدريجياً لذا ترى الليل لايدخل في النهار الا على مراتب ومراحل وآنات قصيرة، كل واحدة تكون اقرب للآتي، وتلك الانات يتداخل ويتعانق فيها الليل والنهار، فأخر أنات ساعة الغروب تكون اقرب لليل في ظلمته، وأخر أنات الفجر تكون اقرب الى النهار في ضيائه وبهائه، ليحصل التبدل ومغادرة الاول ومجئ الثاني بيسر لانهما مسخران للانسان.
ومن الآيات ان هذا التسخير يجري بلطف وعدم ايذاء او مفاجئة للانسان، ولو طرحنا سؤالاً وهو لوكان الليل يأتي فجأة وعلى نحو الدفعة الواحدة وكذا النهار في الصباح فماذا يكون الفرق والعوارض الاضافية على الانسان في عمله ومزاجه والنظم الاجتماعية والمعاشية العامة
الجواب انه ايضاً آية من عنده تعالى، تشهد على عظيم قدرته، الا ان الإيلاج التدريجي آية أعظم في القدرة وبديع الصنع والتدبر، وتقسم الآية اليوم والليلة الى اربعة اقسام :
الأولى : الليل البهيم.
الثانية : النهار المضيء.
الثالثة : ساعة دخول الليل في النهار وهي وقت الغروب وظهور الشفق.
الرابعة : اوان دخول النهار في الليل وهي ساعةالفجر.
وهذا من الآيات الاضافية فمع تفضله سبحانه بخلق الليل والنهار فانه جعل تعاقبهما آية اخرى تنشطر الى آيتين، آية الغروب وآية الفجر، وكل آية منهما من الكلي المشكك أي لها مراتب متفاوتة في الظلمة والاضاءة وظهور النجوم والكواكب او زوالها وافوالها.
وفي الإيلاج في ألآية معنيان:
الأول: ادخال احدهما في الاخر وحلوله بدله.
الثاني: رمي الليل بالنقض ليكون نقصانه زيادة في النهار، والنقص في النهار ليكون نقصه زيادة في الليل، وهو المروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وهو المشهور.
ولاتعارض بين القولين والآية تشملهما معاً، الا ان الاول هو الاظهر والأبين والانسب لنظم الآيات وتعدد ذكر ولوج كل منهما في الآخر في القرآن، والثاني اعلاه في طول الاول , وليس في عرضه فهو يصلح ان يكون قسماً وفرعاً منه كما يصلح قسيماً له .
وليس من دليل على ان الاصل في الليل او النهار هو طول وقت كل منهما وانه يطرأ عليه النقص فيولجه في الآخر، واذا كان كل منهما يصاب بالنقص فالاصل في الطول عند أي منهما مع ان الآية قالت بايلاج كل منهما بالآخر، وقد تعلق الايلاج بالليل كله والنهار كله، فهي لم تقل بايلاج بعض النهار او جزئه بالليل، بل جاءت بايلاجه بتمامه.
وان كان من البديع ان يرد الكل ويراد منه الجزء، الا ان حمل الكلام على ظاهره هو الاقرب والاولى ان لم تكن قرينة صارفة للمعنى الآخر مع القول بعدم وجود مانع من اجتماع المعنيين لانه لاتعارض بينهما.
لقد جاءت الآية بذكر الايلاج لتناوبهما في محل واحد من جهة الكون والمكان، اما من جهة الزمان فلكل منهما موضوعه ووعاؤه الخاص فلا تناقض بينهما، فمن شرائط تحقق التناقض بين قضيتين وحدة الزمان ولو كان مختلفا فلا تناقض، كما في قولك (القمر منير) و(القمر ليس بمنير) لان الاول في الليل والثاني في النهار.
وتبين الآية ان كلا من الليل والنهار كيان مستقل وامر وجودي , فالليل مع ظلمته قابل للايلاج ومستجيب لامره تعالى، وكما تدل الآية على عدم امكان سبق احدهما على الآخر وبقائه مستحوذاً على آنات الزمان، ولو ترك لكل منهما الامر فهل يبقى على نظامه ام انه يطغى على صاحبه ويأخذ من وقته، او بالعكس يقوم بالتخلف عن وطيفته ولايأتي الا متاخراً وقد يقال ليس في مقدور احدهما التقدم او المتأخر لانهما مرتبطان بسير الشمس والقمر، فالنهار والليل يتبعان شروق الشمس وغروبها .
وصحيح ان الملازمة بينهما ظاهرة الا انها لاتمنع من خصوصية وشأن لكل من الليل والنهار، لذا جاءت الآية بذكرهما وتوجه الارادة الالهية اليهما كآيتين دائبتين حاضرتين في واقع وحياة كل انسان، والآيات الكونية ثابتة ومتحركة اما الليل والنهار فحركتهما دؤوبة في كل يوم وتتحركان على مراحل تدريجية تبعث السعادة والبهجة في النفوس وتلح بالتدبر بعظيم خلقه تعالى وبديع صنعه، كمرآة لفضله العظيم فلا غرابة ان تختتم الآية بالبشارة بالرزق الكريم منه تعالى.
قوله تعالى[وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ]
ان النسبة بين النهار والليل هي التنافي في الظلمة والضياء , ومن الآيات ان جعل الله لكل من الليل والنهار سلطاناً على الكائنات والموجودات فالنهار يكسوها بضيائه قهراً عليها وليس لها ان تدفعه، اما الليل فيخيم فيه الظلام ولاتستطيع الخلائق دفعه ولا ابدال احدهما مكان الآخر فلذا نسبت الآية الايلاج لله تعالى، لقد اراد الله عز وجل ان يكون الليل والنهار برهاناً ودليلاً على وجوده تعالى ولزوم عبادته، قال تعالى[وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ] ( )
وقدمت الآية ولوج الليل في النهار وهو موافق لما ورد في الخبر بان الله خلق النهار قبل الليل، واختلف في ساعة الفجر هل هي من ساعات الليل ام النهار ام انها ساعة مستقلة لامن الليل ولا من النهار وسمي الفجر فجراً لان الله عزوجل شق عمود الصبح وفجره لعباده فجراً اذ اظهره وجعله ينتشر في جهة المشرق كامارة على اقبال النهار بضيائه واشراقته وادبار الليل بظلمته .
وما يكون شاذاً في الارض بخصوص نظام الليل والنهار كالمنطقة القطبية واستمرار كل واحد منهما بضعة شهور هل تشمله عمومات الآية ام انه خارج بالتخصيص منها، الجواب انه مشمول بالآية الكريمة وان تباينت المدة الزمنية بل هو آية اضافية ودليل على عظيم قدرته , وفيه دفع للريب والشك لان تعاقب الليل والنهار ليس بوتيرة واحدة، كما ان التباين في بقاع وامصار الارض آية اخرى، ففي نصف الارض يكون ليل، وفي النصف الآخر يكون نهار،
وهذا من اسرار لفظ (يولج) في الآية لان الادخال يعني التعدد وعدم فناء احدهما بالآخر، فالليل لايغيب مع وجود النهار بل يظهر وينتقل الى مكان آخر، كمن يدخل في كوخ ويخرج من الباب الآخر لينتقل الى غيره وهل يتكرر ذات النهار والليل أم ان كل فرد منهما جديد في ذاته، الجواب هو الاخير فان نهار يوم امس غير نهار اليوم ونهار قبل عام في مثل هذا اليوم هو غير اليوم وكذا بالنسبة لليل وهو من اسرار مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع.
وتبين الآية ان الليل أخذ قراره واستولى على المعمورة وكساها بالظلام والسكون، ليستوفي الاعتبار ويكون قد بلغ رسالته بالانذار والدعوة الى الله والانقطاع اليه بالعبادة والاستغفار خصوصاً وانه يبعث الخشية والفزع والخوف في النفوس، ويذكر بظلمة القبر ويدفع الاخرين عن الانسان ليبقيه وحيداً فريداً ,
لتكون هذه الوحدة دعوة للتفكر في آيات الله والانابة والاستغفار، ويأخذ الوقت المناسب من الانسان ويعطيه مدة لينام، ويسكن من غير ان يتعارض النوم مع التدبر بالآيات، وعندما يقضي وطره ويكون قد وافى اوان رحيله وحث الناس على الاتعاظ والتوبة يفاجئه النهار ويحل بديلاً له ليدعو الناس للعمل ,ويأذن بيوم جديد للسعي والمعاش ,وطلب الرزق ولا ياتي النهار الا ومعه آياته الافاقية، والشواهد الكونية الظاهرة الجلية.
وفي الآية دعوة لاداء الصلاة والتنبيه الى الالتفات الى اختيار اوقاتها وما فيه من الاعجاز والحث على التقيد بادائها في اوقاتها، لان ساعة ايلاج كل من الليل والنهار بالآخر ذات اعتبار في الارادة التكوينية ,فتستقبل بالعبادة ليظهر الانسان اهليته لخلافة الارض ومحافظته على النظام الملكوتي البديع، ومن الآيات ان لكل بلد نهاره وليله والارض على مدار اربع وعشرين ساعة فيها ولوج لاحدهما بالآخر، فكل ساعة ترى هناك ليلاً يدخل في نهار واواناً لغروب الشمس في بلد، ونهاراً يدخل على الليل وساعة للفجر في بلد آخر، وفي كل منها صلاة تؤدى فلاغرابة ان اصبح المسلمون منتشرين في اصقاع الارض , وهم يشكرون الله عزوجل على نعمة الولوج قال تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ] ( ).
وجاءت هذه الآية لتوكيدها كنعمة وآية لايقدر عليها الا هو سبحانه وهي من عمومات قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) فاراد الله لآية الليل والنهار ان تكون ظاهرة للجميع ووسيلة للتنبيه على بديع صنعه المقترن بعظم الآيات، ويظهر في الآية وكأن الكون يبدأ بالنهار وينتهي بالنهار ايضاً، وكما ان النهار مخلوق قبل الليل، فكذا النهار موجود بعد الليل لانه هو الذي يلج في الاخير في الليل .
لقد اراد الله عزوجل من تعاقب الليل والنهار رحمة العباد واعانتهم على العبادة وهما من تعادل طرفي الرجاء والخوف في قلب الانسان، يبعث ضياء النهار في نفس الانسان الامل , ويدعوه للكسب والعمل، ويملأ ظلام الليل نفسه خوفاً وفزعاً من المجهول , وكل منهما يهدي للصلاح والتقوى ويحث على تدارك ما مافاته في الفرد الذي سبقه.
قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ (يولج) عشر مرات في القرآن، اثنتين بصيغة الخطاب (تولج) وهما في هذه الآية وفيه مسائل :
الأول : من الفرائد في القرآن ان هذا العدد من الفعل لايتكرر الا في موضوع واحد وهو ولوج الليل في النهار وبالعكس , مع تعدد معاني اللفظ , وقد تقدم مبحث المشترك اللفظي ويعني تعدد معناه وانه وضع لمعنيين أو أكثر( ).
الثاني : من الاسرار التي ينفرد بها فعل الولوج في القرآن انه تكرر في خمس آيات هي :
الأولى : قوله تعالى [تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( ).
الرابعة : قوله تعالى [يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ] ( ).
الخامسة : قوله تعالى [يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
فلم يرد في آيات القرآن مرة واحدة، او ثلاث مرات، بل في كل آية مرتين موزعاً على اجزاء القرآن ليكون اضاءة وسكينة في أن واحد.
الساسة : مع تعدد المرات التي جاء بها هذا الفعل فانه لم يرد تقدم ولوج النهار في الليل بل في كل مرة تبدأ الآية بولوج الليل في النهار,مما يدل على سبق النهار.
وهل تخل آية كسوف الشمس في الولوج، بمعنى لو حصل كسوف تام يستولي على قرص الشمس وبدأ الافق بهيئة الليل وعم الظلام فهل يعتبر من الولوج الاضافي لليل، الجواب لا، فيبقى النهار على حاله مع استيلاء الكسوف كأية كونية تملأ الافق وتذكر بعظمة الله، وقد ورد في آيات من القرآن إقتران الولوج بتسخير الشمس والقمر , قال تعالى [وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ]( ).
ومع اتحاد الليل والنهار في الولوج، وان كلاً منهما يلج في الأخر، فقد بين القرآن ما للنهار من خصوصية , قال تعالى [فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً]( )، مما يدل على ان ظلمة الليل ليس امراً عدمياً بل جاءت بعنوان اضافي وهو المحو، والاصل في الكون الضياء والانارة.
قوله تعالى [وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ]
بعد ذكر الآية الافاقية التي تملأ الكون وتعم ارجاء المعمورة , جاء الشطر الثاني من الآية ويتصف بالتكرار الثنائي ايضاً، ففيه اخراج احد الضدين من الآخر، فالحي يخرج من الميت، وكذا العكس أي الميت يخرج من الحي , لقد بدأت الآية باخراج الحي من الميت وهو اعجاز وزجر لاهل الشك والريب، واخبار ببدء الحياة والخليقة بالاحداث بعد العدم، والايجاد بعد المحو، اذ أن لفظ الميت في الآية لايدل على العدم من رأس بل الموت يتعقب الحياة وبينه وبين العدم عموم وخصوص من وجه , فكل موت ليس عدماً محضاً بل هو أمر وجودي وانتقال الى عالم آخر فان الموت آية اخرى لاتقل عن آية الحياة، فاذا كان الكائن موجودا في الحياة، ولا يرغب بمغادرتها انساناً كان او حيواناً، فان رميه بالموت يحتاج الى قوة قاهرة فيتم بمشيئته تعالى.
وفي الآية اخبار عن دوام الحياة وانها تجري بمشيئته وقدرته، وخلق الافراد والاشخاص والاحياء مطلقاً لايتم بقوانين الاسباب والعلل والمعلولات، بل بالارادة الالهية، فتوقف ولادة كل مولود على المشيئة الالهية وليس بالعلة المادية و مابه الوجود وهما الوالدان واسباب الولادة, وصحيح ان الآية ذكرت اخراج الحي من الميت الا ان موضوعها لاينحصر بحال الاخراج، بل يشمل تعاهده وبقاءه حياً، لصدق اسم الحياة عليه،
وتدل الآية على حاجة الخلائق في بداية خلقها إليه تعالى , وانه سبحانه هو الذي افاض الوجود، وهي دعوة للشكر له تعالى على أشرف نعمة ينالها الانسان وهي خلقه، فالمال والجاه ونحوه نعم عرضية وعناوين اعتبارية تبعث في النفس البهجة والغبطة، ولكن الخلق نعمة ذاتية يبتنى عليها أصل وجود النفس.
وفي مصداق الآية ثلاثة أقوال .
الأول : اخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن لعمومات قوله تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ] ( )،فليس من ميت يخرجه الله من قبره ويبعثه في الحياة الدنيا على نحو متعارف، بل المراد ان الله يرزق الكافر الايمان ويكون حياة له،
وقد وردت نصوص مباركة منها ماورد عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما خلق الله آدم عليه أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال هؤلاء أهل الجنة ولا ابالى وقبض بالاخرى قبضة فجاء فيها كل ردئ فقال هؤلاء أهل النار ولا أبالى فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن ويخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى( )،
كما روي ان خالدة ابنة الاسود بن عبد يغوث دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذه قبل خالدة بنت الاسود قال سبحان الله الذى يخرج الحى من الميت وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا( )، واخرج عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله وهو مروي عن الامام الباقر والصادق عليهما السلام.
الثاني : تكون الجنين من النطفة وهي ميتة لاحركة فيها، واخراج النطفة من الانسان وهو حي.
الثالث : خروج الدجاجة من البيضة ,والبيضة من الدجاجة، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة والسدي، ولاتعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية، والوجه الاول مروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه لالات عقائدية، فلولا هذه الرواية لاخذ المعنى الظاهري وحده خصوصاً , وانك ترى مسألة خروج البيضة من الدجاجة وبالعكس امراً شائعاً بين المسلمين في كل جيل ومكان.
والآية في مقام بيان عظيم قدرته تعالى وشمولها الاحياء والاموات وعدم خروج بعض الكائنات والاشياء والجمادات من سلطانه بل كلها مستجيبة لمشيئته، وليس من شئ يبقى على حاله من الحياة او الموت، والحدوث والعدم بل هي في تغير وتبدل، فلا الميت يبقى على موته دائماً لا الحي بل ان الله عزوجل جعل الكائنات في اتحاد وتداخل وتفاعل متصل كل يمتثل للاوامر والخطابات الالهية.
كما تشمل الآية الصناعات والتقنيات الحديثة، ويدخل فيه الاستنساخ النباتي والحيواني في آية اعجازية واخبار متقدم على زمانه، انه سبحانه لم يخلق الاشياء ويتركها وشأنها او يجعلها في حال مستديمة بل خلقها وتعاهدها وجعلها حاضرة عنده تنتظر امره في شوق للامتثال والاستجابة، فينتقل الشئ من حال الى حال بما يديم الوجود في الأرض , ويصلح حال الانسان ويسخر له الاشياء، ويجعلها تقر وتعترف بربوبيته وسلطانه، وقدرته على قهرها متحدة ومتفرقة.
قوله تعالى [وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ]
لقد قدمت الآية خروج الحي على الميت الا ان خروج الميت من الحي لايقل عنه اهمية في باب الاعجاز وعظيم القدرة الالهية لانه مركب من امور.
الأول : وجودحي هو الأصل، وهذا الحي لم يوجد ابتداء , ولم تبعث فيه الحياة إلا بامره تعالى.
الثاني : عدم بقاء الحي على حاله أو انه لايخرج منه شبيهه، بل يخرج منه ضده وما يناقضه، فيلتقى المتضادان في الاصل والفرع ليكون احدهما فرعاً للآخر.
الثالث : منع تسرب حال الزهو والفخر الى الخلائق، فكل ما يخرج منه الميت ضعيف ومفتقر الى القدرة في اخراجه حياً بدل ان يخرج ميتاً.
الرابع : هذا الخروج تذكير بالموت والفناء , وشطرا الآية يذكران بالبعث.
الخامس : نسبت الآية الاخراج اليه تعالى، وليس بمقدور المخلوقات ان تخرج الميت منها، ولكنه تعالى هو القادر على الاخراج , ولاتتعارض احكام القدرة مع الاسباب وقوانين العلة والمعلول.
السادس : جاءت الآية بصيغة الدعاء والمناجاة في تسليم واقرار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالارادة التكوينية له تعالى وانه سبحانه لم يفوضها لاحد من خلقه ملكاً كان او نبياً أوولياً كما تقدم بيانه، والمراد من الحي اعم من الكائن الحي كما في ارادة المؤمن، فانه تعالى يبعث الحركة في الشيء ويهيء الذكر الحسن للخامل او العكس، يصيب السلطان بالانقراض والزوال، فالملك عنوان الحياة اذا اتاه الله احداً، ونزع الملك عنوان للموت سواء كان موت الملك نفسه او خفوت الشأن والذكر.
قوله تعالى[وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]
خاتمة كريمة للآية تتضمن البشارة والامن والأمل، فبعد المناجاة واللجوء الى الله والاقرار بان كل شئ مستجيب لمشيئته، ولايخرج عن قدرته وسلطانه.
جاءت خاتمة الآية لاظهار الثقة بعظيم عطائه تعالى , وانه سبحانه مع عظيم قدرته فانه كريم، وتؤكد الآية ان الرزق بيده تعالى وان عز الانسان مصداق من مصاديق الرزق وكذا اخراج الحي من الميت لان اخراجه رزق ويستلزم اخراجه تهيئة الرزق له من طعام وشراب ونحوه، وتؤكد الآية بان الله عزوجل لايخرج الحي من الميت ويتركه.
وجاءت مواضيع الآية بعطف بعضها على الآخر بالواو التي تكررت فيها أربع مرات، ولاينحصر موضوع الرزق في الآية بالحياة الدنيا بل يشمل الآخرة قال تعالى [فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( )،
فتبين الآية اقرار المسلمين بالمعاد، وسؤالهم الفوز يوم القيامة بالجنة، كما ان مضامين خاتمة الآية تنبسط على افرادها ومصاديقها،
ان الله يعز من يشاء بغير حساب أي من غير استحقاق للعبد ويتفضل بتهيئة اسباب العز ومواضيعه وان كانت معدومة لانه سبحانه يبعث الحياة في المعدوم فيجعله شيئاً ذا شأن واعتبار، فخاتمة الآية تتعلق بقوله تعالى [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ].
فاتيان الملك يكون بلا حساب ومن غير تقييد وتحديد بحد معين، وهو سبحانه يرزق من يشاء فيمحو عنه نزع الملك وذهاب العز , وان كان مؤدى الاسباب والعلل هو الفقر والعوز وزوال الملك،
فخاتمة الآية سؤال لزيادة مضامين الحسن والسعة والعز في الآية، وتضرع لاجتناب الفقر والذل والعوز، ودعاء لمحو اسباب الذلة والهلكة بمعنى حتى لو كان مكتوباً على الانسان اقتلاع الملك والغنى منه، واصابه الفقر والعوز فان خاتمة الآية تدل على دفعه ومحوه لذا فمن الاعجاز انها جاءت بذات الصيغة من الخطاب والتوسل.
وتتضمن الآية مسائل:
الأولى : ان الرزق بيده تعالى , وهو الذي يهب الخير والملك والمال والجاه.
الثانية : ليس بمقدور الناس رزق انفسهم، ولو اجتمعوا على رزق احدهم لما استطاعوا , وفي خاتمة الآية دلالة على ملازمة الحاجة للانسان متحداً أو متعدداً.
الثالثة : الرزق مصداق من مصاديق القدرة الالهية.
الرابعة : تؤكد الآية رحمته تعالى وانه الواسع الكريم، لان الرزق فرع الرحمة.
الخامسة : خضوع الرزق في مقداره وكمه وكيفيته ونوعه وجنسه وأوانه لمشيئته تعالى، فليس للانسان دخل وتأثير فيه سواء على نحو الموجبة الكلية او الجزئية والسالبة بشقيها ايضاً أي لوا اراد العبد ان يزيد في رزقه ويستحدث منه افراداً لما استطاع، ولو اراد سلب الرزق عن نفسه او غيره لتعذر عليه ولم يكن في مقدوره.
السادسة : ان الرزق من الكلي المشكك، وهو على مراتب متفاوتة , منها مايكون بقدر محدود وبمقدار المؤونة والحاجة او اكثر او اقل منها، ومنه مايكون بغير حساب، فجاء السؤال بالفرد الاحسن والافضل لانه واسع كريم.
السابعة : ولم تقل الآية وترزقنا بغير حساب، بل جاءت على سبيل البيان والاقرار وهذا من اسرار القرآن فانه سبحانه يرزق البر والفاجر،
وتبين خاتمة الآية قاعدة في الارادة التكوينية وهي في مفهومها تدل على سؤال المسلمين للرزق بغير حساب، وتحثهم على التماس اسباب الرزق الكريم خصوصاً وان الرزق الكثير غير المحدود جاء مقيداً بالمشيئة الالهية.
كما تمنع الآية من الإفتتان بالكافرين الذين انعم الله عليهم بالملك والمال والجاه، وان الرزق الذي بلاحساب يعني عجز الانسان عن احصائه وعده ولا يتعلق بالاسباب والمقادير، والرزق يأتي احياناً على نحو القضية الشخصية واحياناً يتعلق بالجماعة والملة والدين، لذا فخاتمة الآية سؤال لنصر الاسلام وسيادته في الآرض وتثبيت احكامه وسلامة المسلمين بما يفوق الحساب والاسباب والرزق الكريم لهم في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] الآية 28
قرأ يعقوب تقية، وهي قراءة الحسن ومجاهد , والباقون تقاة، وأمال الكسائي تقاة.
الاعراب واللغة
لاَ يَتَّخِذْ: لا: ناهية جاءت للنهي وطلب الترك، فاختصت بالمضارع، وجزمته وجعلته يفيد الاستقبال ، يَتَّخِذْ: فعل مضارع مجزوم بلا وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، وقال الزجاج: لو رفع على خبر لجاز،
ولكن القرآن يفسر بعضه بعضا وقد وردت الآيات بالنهي عن اتخاذ الكافرين اولياء , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ] ( )،
الْمُؤْمِنُونَ: فاعل مرفوع بالواو،
الْكَافِرِينَ: مفعول به اول منصوب بالياء،
أَوْلِيَاءَ: مفعول به ثان، مِنْ دُونِ: جار ومجرور، وهو مضاف، الْمُؤْمِنِينَ: مضاف اليه، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل أي حال كون المؤمنين متجاوزين موالاة المؤمنين، وقيل حال من المفعول، أي حال كون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ،
وَمَنْ يَفْعَلْ: الواو: حرف عطف، وقيل انها اعتراضية، مَنْ: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، يَفْعَلْ: فعل الشرط مجزوم،
ذَلِكَ: اسم اشارة في محل نصب مفعول به.
فَلَيْسَ: الفاء رابطة لجواب الشرط، لَيْسَ: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر يعود على من، مِنْ اللَّهِ: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، فِي شَيْءٍ: جار ومجرور متعلقان بمحذف خبر ليس.
إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا: الا: اداة حصر، أَنْ: حرف مصدري مؤولة مع ما بعدها بالمصدر، َتَّتقُوا: مفعول مطلق والمعنى تتقوا اتقاء.
وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ: الواو: استئنافية، يُحَذِّرُكُمْ: فعل مضارع، والكاف :مفعول به، واسم الجلالة فاعل، نَفْسَهُ: مفعول به ثان ليحذركم.
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ:الواو: استئنافية، إِلَى اللَّهِ: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، الْمَصِيرُ: مبتدأ مؤخر.
في سياق الآيات
بعد بيان عظيم سلطانه تعالى , واختصاص الملك به تعالى سواء ملك الدنيا ام الآخرة، وحصر العز والذل والغنى والفقر الذي يلحق بالناس به تعالى وانه الذي يرزق بغير حساب وما تدل عليه الآية السابقة من لزوم التوكل عليه تعالى وعدم التلطلع الى ما في ابدي الناس، جاءت هذه الآية لتنبيه المؤمنين بعدم الانقطاع الى الكفار واتخاذهم اولياء وانصاراً ومثالاً يحتذى، ولما اختتمت الآية السابقة بانه سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، جاءت هذه الآية لبيان وجه من وجوه الرزق الكريم في عز ونصر المسلمين.
اعجاز الآية
تعتبر الآية من الآيات التي تبين نوع الصلة مع الملل الاخرى، ولزوم عدم الميل للكفار، وفيها تثبيت لكيفية المعاملة والتصرف مع الناس بجعل المدار على العقيدة والمبدأ، ومن الاعجاز في الآية ورود الاستثناء بالتقية والحذر والمداراة، لقد قسمت الآية الناس في صلاتهم الى قسمين مؤمنين وكافرين، وحذرت المؤمنين من محبة الكافرين وصداقتهم والميل النفسي اليهم
ومن الآيات ان الإختيار باتحاذ الاولياء عائد الى المؤمنين، وهو لاينفي قدرة الكافرين على اتحاذ المؤمنين اولياء، فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، ولكن اتخاذ الكافرين المؤمنين اولياء مناسبة لهدايتهم واجتناب اذاهم.
وبالاستثناء نفت الآية الحرج عن المسلمين وساعدت في حفظهم وسلامتهم، ويمكن تسمية هذه الآية آية ( التقية) ولم يرد لفظ(تقاة) الا في هذه الآية .
وقال ابن منظور وقوله تعالى(إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) يجوز ان يكون مصدراً وان يكون جمعاً، والمصدر أجود لان في القراءة الاخرى: الا ان تتقوا منهم تقية، وقرأ حميد تقية، وهو وجه الا أن الاولى اشهر في العربية)( ).
الآية سلاح
الآية ارشاد وتأديب للمسلمين وتعليم لكيفية التعامل مع الناس والتحكم والسيطرة على النفس في ميلها وودها واخضاعها لمفاهيم الايمان، والآية حرز من الفتنة والإفتتان ومانع دون اطلاع الكافرين على العورات ومعرفتهم لنقاط الضعف والخلل وكيفية محاربة الاسلام.
مفاهيم الآية
تدعو الآية المسلمين للانقطاع اليه تعالى , واتخاذ اخوانهم في الدين اولياء وانصاراً واعواناً وقادة وأئمة واصدقاء , وتمنع من اعطاء الاولوية في الصلات والمحبة للكافرين , ومن مفاهيمها ان ود المسلم لاخيه المسلم حسنة ومناسبة للقربة الى الله تعالى، والولاية في المقام على ثلاثة اقسام:
الأول : ولاية المؤمن لاخيه المؤمن.
الثاني : ولاية المؤمن للكافر.
الثالث : ولاية الكافر للكافر.
الرابع : ولاية الكافر للمؤ من.
وتدعو الآية الى الاول، وتنهى عن الثاني، وجاءت بصيغة النهي والانشاء كما يمكن قراءتها بصيغة الخبر اذا اعتبرت اللام في لايتخذ نافية.
والآية قانون الهي لتنظيم الصلات وتعيين جنس البطانة والصداقة والاحتراز من الكافرين، فهي وان جاءت في خصوص الولاية الاانها تحذير في باب النكاح والمعاملة والامانة والوديعة وكشف الاسرار الشخصية والنوعية والوصية ونحوها.
لقد حددت الآية والى يوم القيامة ماهية صلات المسلم بما يساعد في قوة ومنعة الاسلام.
وجاءت الآية بالاستثناء في حال التقية، وجعلت تعيين موازين التقية راجعة الى لمنع الحرج ودفع المشقة، ولان الاولوية لحفظ المسلم ودينه وعرضه وماله , فمتى ما ادرك ان المقام يستلزم التقية فله ان يلجأ اليها وقد يجب , ثم تفضل سبحانه بالتحذير في خاتمة ألآية وألاخبار بانه سبحانه يتعاهد المسلمين فيأمرهم بالواجبات وينهاهم عن الحرمات ويصلح حالهم ويهيء المقدمات المناسبة لاتيان الوظيفة الشرعية،
وفي الآية ذم للكافرين لعدم اهليتهم لولاية المسلمين وما فيها من الخير والفضل واسباب نزول البركات، وتبين الآية في مفهومها مفاسد اختيار بطانة السوء واللجوء الى الكافرين والاستعانة بهم في قضاء الحوائج.
افاضات الآية
في الآية تعريف بالمؤمن وتمييز للمسلمين عمن سواهم ويتجلى هذا التمييز في المودة والنصرة ونحوها، واستحضاركلمة التوحيد في الصلات مع الآخرين، وهذا الاستحضار ترسيخ للايمان في الصدور ومانع من التفريط في سنن الشريعة وتذكير بالفرائض،
لقد اراد الله عزوجل للمسلمين السلامة والنجاة من كيد الكافرين، وتارة يأتي هذا الكيد على نحو مكشوف وظاهر باعلان القتال والحرب مثلاً وأخرى يأتي بالنفاق والمكر، اما هذه الآية فانها تمنع المسلمين من فتح ثغرة وفجوة على انفسهم ينفذ منها العدو،
فالآية تحصين ذاتي ومنع من اختراق الكافر لصفوف المسلمين، ومن دلالات الآية انها تؤدي الى تنظيم صفوف المسلمين وتمنع من تشتتهم وظهور الفتنة بينهم، لان العدو لايبغي لهم الا الشر، كما ان اتخاذه ولياً يسبب النفرة والضغينة في نفوس المسلمين الاخرين، ويؤدي الى تزلزل ايمان بعضهم لان صاحبه خذله وأخل باحكام الشريعة والاخوة الايمانية، وقدم عليه الكافر في معاملاته ومحبته وصلته.
اسباب النزول
ذكرت في نزول الآية اسباب هي:
الاول: ما اخرجه ابن جرير وابن اسحاق عن ابن عباس قال (كان الحجاج بن عمروحليف كعب بن الاشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد بطنوا بنفر من الانصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن منذر وعبد الله بن جبير وسهد بن خيثمة لاولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود واحذروا مباطنتهم لايفتنوكم عن دينكم , فأبى اولئك النفر , فانزل الله فيهم لايتخذ المؤمنون الكافرين الى قوله تعالى وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ( ).
وقال مقاتل: نزلت الآية في حاطب بن ابي بلتعة وغيره، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالاخبار، ويرجون ان يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية) ( ).
التفسير
قوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ].
في بيان فضله تعالى بمنح العز لمن يشاء، وولايته للمؤمنين، جاءت هذه الآية ارشاداً للمسلمين في تعيين مصادر العون وجهات المحبة والصداقة، لقد قسمت الآية الناس الى قسمين وهما:
الأول: المؤمنون الذين أمنوا بالله وصدقوا بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وماجاء به من عند الله.
الثاني: الكافرون الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركون بالله، وهل من قسيم ثالث لهما الجواب ليس من برزخ بينهما.
فلقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليكون صادعاً بالحق فينجو من يتبعه ويهلك من جحد بنبوته، ومن الاعجاز ان تأتي الآية في خصوص الولاية ولكنها تبين تقسيم الناس على اساس عقائدي , وفيه دروس وعبر منها.
الأول : ان التقسيم العقائدي هو الاساس وعليه المدار في معرفة الناس وسجاياهم.
الثاني : اهمية الولاية والنصرة والعون في بناء الاسلام والمجتمعات الاسلامية.
الثالث : ضرورة اخذ المسلم الحائطة لدينه في صلاته الاجتماعية.
الرابع : الاحتراز في تعيين هوية القريب والصديق والمحب.
الخامس : تبين الآية قدرة المسلمين على تحديد الولي والمعين واختيار من يشاءون في صلاتهم وودهم وبطانتهم.
السادس : تعلق هذا الاختيار بامره ومشيئته تعالى واستجابتهم له سبحانه.
السابع : تفضله تعالى بعدم ترك المسلمين يختارون اولياءهم بانفسهم، بل انه سبحانه يختارلهم ويبين له معالم وصفات الذين يختارونهم،، والآية لاتمنع من المعاملات التجارية والشركة ولكنها تحذر مما يكون طريقاً للفتنة والافتتان.
وتدعو الآية الى بيان اضرار اتخاذ الكافرين اولياء وذكر شواهد تأريخية وامثلة عليه، وجاء النهي عن موالاة الكفار والاستعانة بهم او اعانتهم على نحو السالبة الكلية والزجر التام وليس السالبة الجزئية، او انحصار متعلق الحكم بموضوع دون آخر، بل جاء مطلقاً مما يدل على الاضرار العامة والخاصة لمثل هذه الولاية، والتي لاتنحصر بالحياة الدنيا فتشمل الآخرة بالاولوية لحتمية الجزاء وترتبه على العمل في الحياة الدنيا، ويدخل فيه طاعة الله بالتقيد بأحكام هذه الآية.
لقد جاءت هذه الآية لنجاة المسلمين وسلامة دينهم وعزهم ورفعتهم، فالالتزام باحكامها لاينحصر بمضامين الامتثال للامر الالهي بل تدخل فيه عناوين الشكر له تعالى على الهداية وتهيئة اسباب الاحتراز وتعاهد الايمان، فكما انه سبحانه لم يترك الناس والخلائق سدى بعد خلقهم بل تولى العناية بهم وتغشاهم برحمته، فإن هذه الآية تبين انه سبحانه لما دعا الناس للاسلام واستجاب فريق منهم، تفضل وتعاهد هذه الاستجابة , وجعلها نواة لجذب الاخرين ففيها حفظ لبيضة الاسلام، ومنع من تفرق المسلمين وتشتتهم جماعات.
ان تولي الكافرين يضعف حال المسلمين , ويجعل الولاءات شخصية او عشائرية او مبنية على اسس مالية ومصالح تجارية ودنيوية عامة , ويكون بعضها على حساب القيم الاسلامية سواء لجعلها مرجوحة بتقديم غيرها، او لتعمد الكافرين الاساءة وتوجيه السهام اليها.
واذ تمنع الآية المسلمين من اتخاذ الكافرين انصاراً واعواناً فهل تتركهم من غير اولياء ام تأمرهم وتوجههم الى ولاية اخرى , الجواب هو الثاني , لان الاحتياج ملازم للامكان، والانسان حادث فهو محتاج، وهذا امر ظاهر بالوجدان فليس من انسان يستطيع الاستغناء عن الغير، وعدم الاستغناء هذا لاينحصر بما هو فوقه واعلى منه رتبة واكثر مالاَ وجاهاً بل يشمل من هو أدنى واقل في المنزلة والشأن والقوة والجاه , ليبين سبحانه للانسان ضعفه ويمنعه من الغرور والزهو ويذكره بحاجته الى الله وولايته ونصره.
ولم يترك الله المسلمين من غير ولاية بل ان هذه الآية نفسها جاءت بالولاية المطلوبة , وهي ولاية المؤمنين , بقوله تعالى [مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] في لزوم عدم الاستغناء عن ولايتهم بل والحاجة اليها.
والمراد من الولاية في الآية النصرة والمعونة , وهي على وجوه :
الأول :الاستعانة بالكفار في قضاء الحوائج ونيل الرغائب.
الثاني : طلب اعانتهم على المؤمنين، كما لوكان هناك نزاع بين طائفتين من المسلمين فتلجأ احداهما الى الكفار لطلب النصرة والعون والمدد.
الثالث : اتخاذهم أحبة واصدقاء.
الرابع : ائتمانهم على امور الدين والمال والمقتنيات الخاصة.
الخامس : اعتمادهم في الاستشارة , وقبول رأيهم , وجعلهم بطانة.
السادس : اتباع مناهجهم في القول والسيرة والفعل.
لقد وردت آيات كثيرة في الولاية نقضاً وابراماً وتوجيهاً وتحذيراً، وامراً وزجراً، ويمكن ان نطلق عليها( آيات الولاية) وفيها عبر ومواعظ وحكم وهي مدرسة للهداية والصلاح وتتوقف عليها احكام ومسائل عديدة، وتحدد عمل المسلم اليومي، وهذا التحديد لاينحصر بالقضية الشخصية بل يشمل الجماعة والامة , لذا جاءت الآية بصيغة الجمع التي هي صيغة انحلالية وتنقسم الى:
الأولى : نهي المسلمين عن اتخاذ الكافرين اولياء.
الثانية : تحذير وزجر المسلمين عن اتخاذ الكافر نصيراً.
الثالثة : منع المسلم من جعل الكافرين اولياء له.
الرابعة : نهي المسلم من اتخاذ الكافر عوناً وعضداً، وان كانت سالبة بانتفاء الموضوع، فالكافر ليس مؤهلاً لان يكون عضداً، وهذا الكثرة في الآيات تدل على موضوعية واهمية مسألة الولاية ولزوم العناية باشخاصها وموضوعها وحكمها.
علم المناسبة
حينما نهت الآية عن اتخاذ الكافرين اولياء , فان القرآن لم يترك المسلمين من غير ولاية لحاجتهم اليها , خصوصاً وان المسلم في جهاد متصل مع النفس ومع الكفار واهل الحسد والبغي، وجاءت الآيات القرآنية بالدعوة الى الولاية وتعيينها , وهذا من الاعجاز القرآني , وفي الولاية القرآنية وجوه.
الأول : ولايته تعالى المطلقة وهو ولي الذين آمنوا وولايته تعالى فرع الربوبية وعظيم قدرته سبحانه ووجوب توجه الناس له بالعبادة والالتجاء اليه في امورهم ما دق منها وماكبر، وبولايته النصر والعز , قال تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
الثاني : ولاية الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهي اشتقاق من ولايته تعالى وفرع منها وفيها النصر والصلة.
الثالث : ولاية المؤمنين بعضهم لبعض , قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( ). ومع ان ألفظ ورد بصيغة المذكر وهو شامل للاثنين معاًً , فان ذكر النساء جاء على نحو الخصوص والتعيين في حث للمؤمنات سواء كن امهات أو زوجات اواخوات اوذوات رحم اواجنبيات، ولان اخوة الايمان مقدمة , ولها موضوعية في الصلات والنصرة والعون.
ولقد حذرت الآيات القرآنية من اتخاذ الارحام اولياء اذا كانوا كفاراً قال تعالى[لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ]( ).
لقد جاءت الآيات القرآنية بمحاربة الكفار فاذا اتخذهم المسلمون اولياء فانه معصية مركبة ويسبب ارباكاً وخللاً، ان النهي عن اتخاذ الكفار اولياء يعني وجود وسط وبرزخ بين الولاية والمحاربة , وان الله عزوجل لايريد من المسلمين الا محاربة الكفار.
لقد بينت الآيات فلسفة الولاية , وان اللجوء اليه تعالى والاستعانة به وسيلة تحقيق النصر والظفر، كما انها عنوان التقوى وشاهد على الايمان و قال تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ).
قوله تعالى [مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] وهذا من الاعجاز الاضافي في الآية والحكم الشرعي وهو كالقيد في النهي والمنع من ولاية الكافرين، وتعيين لما يجب من صيغ الولاية، فكما تقدم فان الآية قسمت الناس الى مؤمنين وكافرين ثم خاطبت المؤمنين في موضوع اختيار اوليائهم، فصار المؤمنون في الآية قسمين قسم فاعل ومختار لاوليائه، وقسم يقع عليه الاختيار في الولاية، وكل مؤمن يكون فرداً من كلا القسمين، أي انه مخاطب بان يتخذ المؤمنين اولياء، ويكون مستعداً لان يكون ولياً وناصراً وعوناً للمؤمنين ولايصد او يعرض عنهم عند حاجتهم ولجوئهم اليه.
ان القرآن يهدي المسلمين الى سبل الرشاد والاستقامة، ويعلمهم كيفية النجاة في النشأتين ويمنع من وقوعهم في الغي او حصول الضرر، وهذه الآية رحمة للناس جميعاً من وجوه :
الأول : رحمة للمسلمين بحثهم على اتخاذ اولياء والتنبيه على عدم التشديد على النفس والاصرار على التحمل والمشقة وملاقاة العناء وبذل الجهد.
الثاني : الولاية تخفيف وعون وتيسير لقضاء الحوائج، فالآية مناسبة للتوجه لاداء الفرائض والعبادات.
الثالث : تمنع الآية من الضرر والاضرار بالمؤمن الذي يتخذ الكافرين اولياء وبغيره من اخوانه المسلمين وبالاسلام والعمل باحكامه.
الرابع : الآية رحمة بالكافرين لانها تحول دون تماديهم في الغي والضلالة والجحود، لان المؤمن حين يتخذهم اولياء فانهم لايأمرون بالمعروف ولاينهون عن المنكر، بل انهم يتخذون الشيطان ولياً ويدعوهم للسيئات[فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
وهل تكون ولاية المؤمنين للكافرين ولاية للشيطان بالواسطة بمعنى ان الكافرين يتخذون الشيطان ولياً، ومن المؤمنين من يتخذ الكافرين اولياء، اذن يكون المؤمن متخذاً للشيطان ولياً، الجواب لا، وهذا القياس باطل لعدم ثبوت الملازمة وللتباين الموضوعي، ولان الله عزوجل ولي الذين امنوا الذين نطلقوا بالشهادتين واعلنوا التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولايته تعالى ان لا يجعل الشيطان يشاركه في ولايته،
وقد جاءت الآيات بعدم وجود سلطان للشيطان على المؤمنين قال تعالى [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( )، ثم ان الآية خالية من اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء بل جاءت للنهي عنها والمنع من حصولها، ومن اللطف الالهي ان يأتي النهي القرآني عن فعل، ويقترن بمقدمات تحصيل هذا النهي وظهور منافعه جلية في الوجود الذهني والخارجي، وفي حال حصول مخالفة عن غفلة او تقصير فان الله عزوجل يجعل المسلمين يدركون بالوجدان والوقائع والارقام اضرار مخالفة الاوامر الالهية ويدركون جماعات وافراداً ضرورة التقيد بالحكم الشرعي
كأن الآية تقول:ان خالفتم وعصيتم واتخذتم الكافرين اولياء، فان قاعدة اللطف تردكم لتعلموا وجوب اللجوء الى ولاية المؤمنين وعدم الخروج عنها والتعدي الى غير المؤمنين.
وتبين الآية عز المؤمن في اللجوء الى اخوانه المؤمنين، فمن يلجأ الى اخيه المؤمن في النصره والاعانة والاستشارة ونحوها فكأنما يلجأ الى الله تعالى لانه التفت الى قيد الايمان في موضوع اللجوء، وهذا القيد يتجلى طوعاً وانطباقاً في نوع المساعدة والاعانة والتوجيه، فمثلاً لو اراد المؤمن اختيارطلب العلم وطلب العون من اخيه المؤمن ومن الكافر، فان الاول يمد له يد المساعدة وان تعذرت عليه المساعدة فانه يدعو له ويرغبه في طلب العلم، بل قد يدعوه اليه والى كل صلاح ورشاد ابتداء، وان رأى علامات العناء او المرض ظاهرة عليه خفف عنه وحثه على سبل السلامة ,ويسر له اسباب السعادة , لانه يرى في سلامته حفظاً للايمان واشخاص المؤمنين.
اما لو لجأ الى الكافر فانه لايهديه الى الصلاح، كما ان صحبة الكافر تنسي الانسان الآخرة ولزوم الاستعداد لها ويعتبر اللجوء الى المؤمن عزا في ذاته، فان عدم اللجوء الى الكافر عز اضافي، لان العز أعم من ان ينحصر بالإيجابي والاختيار في الأعمال بل يشمل الترك، فان ترك المسلم لولاية الكافر عز له ولاخوانه المؤمنين، لانه يظهر كفاية الاسلام والثقة برزقه وفضله تعالى وحسن التوكل عليه سبحانه، ويكون قدوة لغيره من اخوانه المسلمين في تثبيت نهج الاستقلال الاسلامي وبناء الولاية ومضامينها وفق نهج ايماني محض.
وتظهر ولاية المؤمنين فيما بينهم للكفار قوة شوكة الاسلام، فمتى مااظهر أفراده للغير انهم لايحتاجونه ويلجأون اليه فانه يشعر بغناهم ويخشاهم ويتجنب الاعتداء عليهم، بينما اللجوء الى الكافر يجعله يعتدي على الاسلام في الباطن والظاهر، اما في الباطن فبسوء الولاية والصحبة وعدم انجاح مسألة المسلم , واما في الظاهر فبالاجهاز على المسلمين بعد اضعافهم وتفريق صفوفهم.
ومن الاثار المعنوية والنفسية للولاية ان يكون الولي هو الأعلى رتبة، وتظهر الحاجة اليه، فتبدو علامات الاستضعاف على المسلم عند لجوئه اليه، وهذا الاستضعاف يؤثر سلباً على المؤمنين افراداً وجماعات، ويكون مانعاً من تحقيق اهداف الاسلام ونشر لواء التوحيد.
لقد اراد الله للمسلمين ان يكونوا هم الاعلون وان يستمر الارتقاء والرفعة لهم في الدنيا , وتكون الجنة هي المثوى والمأوى، وهذا لايتم الا باتخاذ المؤمنين اولياء واجتناب الركون للكافرين , واللجوء اليهم ومحبتهم ومظاهرتم، فما دام الكفر منهياً عنه , وهو ظلم للذات والغير فان وظيفة المؤمن اجتنابه والنفرة ممن يتخذه ديناً ويحارب به الاسلام.
لقد اظهرت هذه الآيات من سورة آل عمران ومن قبل سورة البقرة كيف ان اهل الكتاب والكفار يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويثيرون مسائل الشك والريب، مما يقتضي الاعراض عنهم واجتنابهم , ولم تقف هذه الآية عند هجرانهم والاعراض عنهم، بل تحث على عدم اللجوء اليهم، وهذه الدعوة لم تأت بصيغة النهي الارشادي التنزيهي، بل جاءت بصيغة النهي المولوي التحريمي لتقطع والى ألابد طمع الكافرين بالاسلام من خلال الصلات والمحبة واسباب المودة والاطلاع على عورات المسلمين ثم اختيار سبل المحاربة وصيغ اضعاف المسلمين من الداخل والخارج.
لقد اراد الله عزوجل للمسلمين في هذه الآية عزاً مركباً تاماً يبتنى على اركان ثابتة , وفيه مسائل:
الاولى: اختيار المؤمن لاخيه في أمورالولاية والاعانة والمحبة والمودة والصداقة والنصرة.
الثانية: الحرص على اجتناب الكافر وعدم اللجوء اليه وعدم اطلاعه على اسرار المسلمين، بل ان الحاجة نفسها سر، والنفع سر , بمعنى اذا اخبره ألمسلم بما عنده من الخير او علمه خفايا صنعته أو اودعه سراً من الاسرار فإن الكافر يتخذه سببا للتطاول عليه .
الثالثة: مبادرة الولي من المؤمنين الى النصرة والاعانة وشعوره بالود لاخوانه المسلمين، ولزوم قيامه بوظائفه الشرعية ازاء الاسلام والمسلمين.
الرابعة: انتشار مفاهيم المحبة بين المسلمين والثقة بالنفس والجماعة.
الخامسة: اصابة الكافرين بالفزع والخوف من المسلمين، لاستغنائهم وعدم حاجتهم للجوء للكافر.
السادسة: في تولى المسلمين بعضهم بعضا دعوة للكافرين لدخول الاسلام، لمظاهر العز التي يتمتع بها المسلمون، وما تدل عليه من مضامين الترغيب بالاسلام.
قوله تعالى[وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ]
ذلك اسم اشارة للبعيد، والآية تحذير وانذار من الركون للكافرين واتخاذهم اولياء، ان صيغ الانذار للمسلمين في القرآن ليست كثيرة، مما يدل على اهمية وخطورة الموضوع الذي ترد فيه ولزوم التقيد بالحكم الشرعي فظاهر الآية ان اتخاذ الكافرين اولياء معصية، والمعروف ان الفقهاء يهتمون بمسائل الحلال والحرام والافتاء فيها سواء في العبادات كالصلاة والصوم، او المعاملات كالبيع والاجارة والرهن،
ولكن هذه الآية جاءت في مسألة عقائدية كلامية، ويدل فيها النهي على الحرمة ولا قرينة لصرفه الى الكراهة بل ان الغلطة والتشديد في النهي ظاهر في منطوق هذا الشطر من الآية، فالقرآن أخبر بان من يجعل الكافرين اولياءه فليس من الله في شئ
وفي الآية حذف ومن الإعجاز والآيات ان الحذف في القرآن لاينحصر بصيغة بل يشمل صيغاً وقراءات متعددة ويعني في المقام.
الأولى : ليس هو من ولاية الله في شئ.
الثانية : ليس من رحمة الله في موضوع الولاية وغيره.
الثالثة : ليس من الايمان بالله، لان ولاية الكافرين تعني عدم الاستعانة بالله، والمسلم يقرأ في صلاته في كل يوم [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ].
الرابعة : ليس من امر الله في شئ من الامور التي تستلزم الولاية، أي ان ولاية الكافر سالبة بانتفاء الموضوع، فلم يجعل الله لها اعتباراً، وعندما يلجأ المسلم للكافر يكون قد فعل ما ليس له نفع، وفيه ضرر بلحاظ النهي الوارد في الآية بالاضافة الى الاضرار الخاصة بالموضوع الذي حصلت فيه الولاية والركون والنصرة.
فان قلت لو قام المسلم باللجوء الى الكافر فنصره فما المانع منه، وقد حصل المطلوب، قلت: ان النهي جاء مطلقاً كي لاتكون هذه الولاية سجية دائمة, فيلجأ الى الكافر فيما نصره به ثم يخذله وهو اشد حاجة اليه.
الخامسة : ليس من الثقة وطلب الخير من الله في شئ، فان الله عزوجل يحب لعباده ان يسألوه بحاجاتهم ويتضرعون اليه بمسكنة وذل لما فيه من الاقرار بان مقاليد الامور بيده تعالى، واللجوء للكافر ينسي الانسان ذكر الله وقدرته المطلقة واستجابة الاشياء جميعاً اليه، فليس المهم موضوع الولاية بل المهم الدروس والعبر والمواعظ التي ينتفع منها في باب الولاية.
فلذا امر الله تعالى بحصر التولي بالمؤمنين كما انها من مختصاته تعالى، فمن التجرأ والخطأ اختيار ولاية غيره تعالى، هو الذي جعل ولاية المسلمين اليه وأمرهم بها، والامر بولايته واللجوء اليه تعالى نوع عهد ووعد للمسلمين بان يحفظهم وينصرهم ويدفع عنهم الاذى والكيد والشر،
فلابد من الانتفاع من هذا العهد وهو ميثاق كريم مصاحب لوجود المسلمين , وكأنه جزاء عاجل ولطف ومنحة وهبة من الله لايجوز ردها، وان الصدود عنها يجعل المسلم يتعرض للبلاء والاذى وهو ظاهر بفساد ولاية الكافر وسوء فعله مطلقاً، والآية لاتنهي عن حسن العشرة الظاهر مع الكافر ، والمعاملات التجارية ونحوها ولكن مع استحضار أحكام هذه الآية كي لايكون حسن العشرة معهم مقدمة وسبباً للود واستحسان دينهم ونهجهم واعطاء الأولوية في المعاملات الى السعي في ارضائهم وجلب النفع منهم، ولهم واجتناب اغضابهم , فقد يكون المسلم شريكاً مع الكافر وتتفق ذروة العمل مع صلاة الظهر، وذهاب المسلم لادائها يغضب هذا الشريك، فيهادنه المسلم على ترك الجماعة وعدم اداء الصلاة الا في وقت متأخر ارضاء له، فهذا لايصح الا ان يدخل ضمن موارد الضرورة أو التقية.
قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]
انتقلت الآية من لغة الغائب الى صيغ الخطاب وارادة المسلمين به بصورة واضحة وجلية، مما يدل على لزوم الالتفات الى الوظيفة الشرعية في طرفي الاستثناء، المستثنى، والمستثنى منه، فقد جاء النهي عن ولاية الكفار مطلقاً واستثنت الآية موضوع التقية،
والخطاب انحلالي يشمل كل مسلم ومسلمة، فالآية تخاطب كل مسلم وتقول له الا ان تتقي من الكفار فينحل الخطاب الى خمس خطابات:
الأول : الى كل المسلمين للاتقاء من الكفار.
الثاني : الى كل مسلم للاتقاء من الكفار.
الثالث : الى المسلمين للاتقاء من الكافر الواحد، كما لو كان سلطاناً جائراً.
الرابع : الى كل مسلم ليتقي ويخشى من الكافر الواحد.
الخامس : الى المسلمين في بلد ما للتقية من القوانين الوضعية فيه، وكذا بالنسبة للاعراف السائدة في مجتمعات وقبائل تكون الغلبة والسطوة فيها لغير المسلمين.
ومن الاعجاز القرآني ان الآية لم تقل (اتقوا الكفار) ولم تجعل موضوع التقوى منهم الا استثناء من حكم شرعي عام , وهو عدم جواز ولايتهم مع ان المستثنى اقل في موضوعه وعدده وكمه من المستثنى منه , وقد ورد لفظ (اتقوا) تسعاً وستين مرة في القرآن، كلها في تقوى الله ولزوم الخشية من عقابه وما اعده للكافرين من العذاب في جهنم، كما ورد لفظ التقوى بقوله تعالى [اتَّقُونِي] بلغة الخطاب،
ولم يرد في القرآن لفظ بتقوى الكفار , فليس فيه واتقوا الكفار او قول (اتقوهم) بل ان التقية منهم جاءت فقط في هذه الآية وبعنوان الاستثناء والاستدراك والحالة النادرة والقليلة المتعلقة بطرو اسبابها ومقدماتها، ولفظ (تقاة) أي ان الفعل والعمل بولايتهم يحمل صيغة التقية مع الالتفات اليها وعدم جعله سجية ثابتة في المعاملة مع الكفار، فقد يتكرر ذات الموضوع ولكن التقية لاتصاحبه، مرة يظهر المسلم حبه واعانته للكافر او تصديقه فيما يدعيه، ومرة اخرى ليس من تقية فلا يظهر له حبه ولا يصدقه في دعواه، ومرة يخشى بطشه فيجتنب اظهار الايمان عنده وامامه، واخرى لايخشى منه فيتجاهر بالايمان ويدعوه للاسلام الا ان يكون عدم الخشية امراً معلقاً بعودة اسباب البطش واحتمال تجددها وتمكن الكافر من المؤمن فيستمر حكم التقية لانه مرهون باسبابه وشرائطه.
وصيغة الجمع في الآية الكريمة دعوة للمسلمين للحذر الجماعي العام وعدم الاغترار بالكثرة والاعجاب بالقوة الظاهرة والميل الى ترك التقية بسببها لان التقية عامة , وقد يظن المسلمون قوتهم في بلد ما وهم لايعلمون بما يمكن للكافر حشده من قوى البغي والضلالة، وقدرته على كسب واعانة وتأييد الكفار ولو من ملة اخرى ضد الاسلام، كما لو ظن المسلمون في بلد ان افراد الملة الفلانية قليل في البلد، ولكن الامر لاينحصر بعددهم وقلتهم، لتمكنهم من استنفار اخوانهم من امصار اخرى وجلب الاموال والرجال، او التحالف مع ملل كافرة مثلهم ، فلابد لموارد التقية من اخذ هذه الاسباب وملاحظة طبائع الناس ومدى تمسكهم بعقيدة الكفر واصرارهم عليه.
بحث من السنة
لقد بدأت الدعوة الاسلامية بالصبر والتحمل والدعوة شبه السرية ولكن من غير ركون او تولي للكافرين، بل بمواجهة شبه علنية مع اقطاب الشرك في مكة المكرمة.
ويقال: اتقيت الشئ وتقيته تقية وتقاء: حذرته، ولكن الآية الكريمة ذكرت التقية في مورد الولاية مما يدل على قوة الاسلام وفيها مسائل.
الأولى : ان المسلمين اصبحوا في حال لايخشون الكفار في اعلان اسلامهم واداء عباداتهم ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثانية : اكتفاء المسلمين الذاتي في موضوع الولاية، فالمسلم يكتفي بولاية اخيه المسلم.
الثالثة : استغناء المسلمين عن ولاية الكافرين، لان التقية عرض طارئ، ففي الآية اعجاز بالاخبار عن عدم حصول ولاية الكفار والركون اليهم الا في حال الخشية منهم، مما يدل على زوال الولاية والركون بمجرد زوال اسبابه والرجوع الى الاصل وهو عدم مظاهرتهم او اعانتهم.
الرابعة : تشريع وتعيين الصلات وكيفية وصيغ المعاملات اصبح بيد المسلمين، وهو نصر عقائدي واجتماعي.
الخامسة : تخبر الآية عن يأس الكفار من المسلمين وعدم امكان ارتداد بعضهم.
السادسة : في الآية ذم للكفار بانهم يمنحون الحق ويحاولون منع الناس من اختيار طرق الهداية بالقوة والبطش.
وتبين لغة الخطاب في الآية تعلقها بالذين آمنوا بصيغة النهي، مع ان الآيتين السابقتين جاءتا بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ] مما يعني ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ الكافرين اولياء،
وكانت دعوته حرباً عليهم من ايامها الاولى فلا موضوع لتوليهم او استحسان طريقتهم بل كان ينهاهم عن الشرك والمنكر ويعظهم وهو يتلقى منهم اشد انواع الاذى، نعم بدأ الدعوة بصيغ الخفاء والاستقطاب والجذب الشخصي للاسلام وهو وجه من وجوه التقية، ولكن الآية جاءت بخصوص التقية في الولاية، مما يدل على جهاد الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله، وما بلغه الاسلام من الرفعة والقوة والحجة بحيث اصبح المسلمون جهة مستقلة تختار صيغة التصرف مع الآخرين بما ينفع مصلحة الاسلام ويزيد من الاجر والثواب لكل مسلم،
وأحتاج المسلمون التقية حتى في ايام النبوة وكانت السنة القولية حجة في بيان صحة التقية واحكامها، وفي الخبر عن الامام الصادق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لادين لمن لاتقية له، ويقول: قال الله: الا ان تتقوا منهم تقاة) في توكيد على موضوعية هذه الآية واعتبار أحكامها في الدين فهي حرز ونجاة للمسلمين، ولمنع المسلم من التشديد على نفسه أو خشيته من عدم ملائمة التقية لاحكام الانتماء الصادق للايمان، فجاء حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستشهاده بالآية لرفع الحرج، ومنع المسلمين من التشديد على انفسهم، “.
روى الحسن ان مسيلمة الكذاب اخذ رجلين من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لاحدهما اتشهد ان محمدا رسول الله ؟ قال : نعم قال : افتشهد انى رسول الله ؟ ! قال نعم ! ثم دعا بالاخر فقال : اتشهد ان محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قال نعم ؟ قال له اتشهد انى رسول الله قال : انى اصم ! قالها ثلثا كل ذلك يجيبه بمثل الاول فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : اما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه ، واخذ بفضله ، فهنيئا له ، واما الاخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه”( ).
وظاهر الحديث ان التقية رخصة واعلان الايمان جهاد، وفيه اشارة لإنعدام التعارض بينهما ولكن التقية الواردة في الآية وبلحاظ نظمها اخص وتتعلق بولاية الكافرين وملاطفتهم والاحسان اليهم واتخاذهم وليجة الى حين، اذا كان الكفار ظاهرين مع التقيد باحكام الشريعة أي ان ولاية الكافرين لاتؤثر سلباً على اداء المسلم لواجباته الشرعية، فتكون هذه الولاية حصناً وحرزاً وامناً ومناسبة لدعوة الكافر للاسلام لانها تعكس الاتقاء الاخلاقي في معاملات المسلمين وتمنع من نفرة الكافر من الاسلام خصوصاً وانه لايزال مقيماً على عادات وقيم الكفر والشرك.
وهل تستلزم التقية ثبوت الحاجة اليها وظهور امارات الاذى والشر ام يكفي مسمى الخشية وصرف الطبيعة واحتمال وصول الضرر من الكافرين، الجواب هو الاخير، لقاعدة نفي الحرج والعسر، ولصدق اسم التقية على مسمى الخشية ولقاعدة تقديم الأهم على المهم، والاهم هو سلامة وحفظ المسلم واحكام الشريعة فتكون التقية نوع طريقية لتثبيت احكام الاسلام، أي ان الخشية من الكافر ذات نفع عظيم وهذا النفع مركب من وجوه:
الأول : منعة للاسلام .
الثاني : دفع الأذى عن المسلم.
الثالث : احتراز المسلمين من الكافرين.
وحكم التقية باق الى يوم القيامة لبقاء موضوعه ولان القرآن جاء به بالنص الجلي وهي عنوان السعة في الحنيفية السمحاء ولانها مقدمة لصون النفس وحفظ الدين وعن الامام الصادق عليه السلام: التقية دين الله عزوجل، قيل من دين الله: قال: فقال أي والله من دين الله، لقد قال يوسف: ايتها العير انكم لسارقون والله ماكانوا سرقوا شيئاً( ).، وروي عوف عن الحسن البصري انه قال: التقية جائزة للمؤمنين الى يوم القيامة، ومال اليه الرازي( )، وقال مجاهد: هذا الحكم كان ثابتاً في اول الاسلام لاجل ضعف المؤمنين فاما بعد قوة دولة الاسلام فلا) ولكن القوة والضعف من الكلي المشكك، كما انه متباين بحسب المكان والزمان.
والعلة الغائية من التقية حفظ الله والدين والنفس وهو امر متجدد في كل زمان، وقوله تعالى [يُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] دليل على استمرار حكم الخطاب لان الخطاب فيه موجه للمسلمين كافة، نعم التقية على مراتب متباينة فقد تكون لازمة في كثير من الوقائع والاحداث اليومية وفي المنتديات وميادين العمل والوظيفة والشارع والبيت وقد تتضيق وتنحصر في واحد منها.
بحث فقهي
من الفيوضات الالهية ان جعل الله عزوجل امر التقية واسعاً وفيه مندوحة، ويدل على اصل تشريعها الكتاب والسنة اما الكتاب فهذه الآية التي هي من المحكم ولاتحتمل تأويلاً آخر، ومن السنة ماورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التقية بالذات، وفي مفاهيم ومراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولاتنحصر منافع التقية بدفع الاذى بل انها تنفي المنافرة وتمنع من نفشي البغضاء والكراهية بين الناس، وماجاء الاسلام الى رحمة لهم جميعاً.
وتنقسم التقية بحسب الاحكام التكليفية فقد تكون واجبة عند الحاجة اليها لدفع الضرر والاذى مما لايحتمل سواء كان الضرر على النفس او العرض او المال، او على المؤمنين وقد تكون مستحبة كما لوكان اضماع الضرر مرجوحاً مما يمكن تحمله واطاقته وقام المسلم بالافصاح والاجهار والاعراض عن الكافر وولايته ورأى ان الاهم هو الصبر والمواجهة واظهار الاستغناء عن الكافر ومحبته ونصرته، وقد تكون التقية حراماً عند عدم اجتماع شرائطها ويكون ضررها اكثر من نفعها،
والتقية من الامور التي يندب اليها العقل، وهي ظاهرة في سيرة العقلاء، وجارية في كل الملل والازمنة، وتبدو الحاجة اليها منذ ان قتل قابيل اخاه هابيل، واعتمدها الانبياء كما في تقية ابراهيم من فرعون وقوله[بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ] ومن موارد الفقه الاسلامي حفظ الضروريات الخمس.
وهذه التقية لاتسقط الحكم الواقعي والخطاب التكليفي عن المكلف فليس له ان يمتنع بسبب التقية عن اداء فرض واحد من الصلاة كصلاة الظهر او ان يفطر يوماً من شهر رمضان نعم قد يقوم بـتأخير الصلاة عن وقتها بحسب موضوع الابتلاء.
ومورد التقية في الآية الكريمة هو مع الكفار في حال غلبتهم او ظهورهم وليست مطلقة بمعنى ان القدر المتيقن من التقية الموالاة الظاهرية ودفع الاذى والبلاء، وذهب الشافعي الى القول ان الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس، وهو مذهب اهل البيت عليهم السلام، وهذه التقية تختلف عن الاول، فهي تقية مدارتية الغرض منها حصول الائتلاف والامتنان على جميع الاطراف من المسلمين الذين يتقي والذي يتقى منه، وفيها قوة للاسلام واظهار عزه ووحدته لان الفرقة ضعف للاسلام لفرق وافراد المسلمين فقاعدة تقديم الاهم على المهم تقتضي تقديم وحدة المسلمين ولو بترك الاختلاف في القول والحكم المبني على الاجتهاد مع ان الخلافات بين فرق المسلمين أمر صغروي، ويمكن التقريب والجمع بينهما من غير تعارض، ان التقارب بين المذاهب الاسلامية حاجة في هذا الزمان زمان العولمة وتداخل الحضارات، وفيه مخالفة لما ذهب اليه المستشرقون فان الاحقاد سوف تأكل الامة قبل ان تجتمع قادتها تحت لواء واحد، فالاصل هو الاجتماع على كلمة التوحيد ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتمسك بسنته والاقرار بان القرآن نازل من عندالله وخال من التحريف والزيادة أو النقيصة.
قوله تعالى[وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] لم يرد لفظ (يحذركم) بصيغة المضارع وصيغة الخطاب الا مرتين في القرآن وبصيغة التحذير منه تعالى، والآية الثانية بعد آيتين، أي لم يرد هذا اللفظ [ يحذركم الله نفسه] الا في آيتين من سورة آل عمران بينهما آية واحدة، وهذا من الاعجاز وتوكيد التحذير والمنع من الغفلة عنه أوعدم الالتفات اليه، وفي الآية وماهية التحذير وجوه:
الأول : التحذير من عقابه تعالى المترتب على موالاة الكافرين ومظاهرتهم ومناصرتهم من غير تقية، أي ان الآية بعد ان ذكرت الاستثناء من الحكم بالتقية رجعت الى اصل التكليف وموضوع النهي وحذرت من المعصية واقتراف ما نهى الله عنه، وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير: ويحذركم الله عقاب نفسه.
الثاني : المراد من الهاء في نفسه أي نفس الاتخاذ، فان اتخاذ الكافرين اولياء من دون المسلمين سبب للابتلاء والاذى على الملة والذات.
الثالث : التقية تحذير وتنبيه، فهي فضل منه تعالى ومنع من التشديد على النفس، فتارة يتوكل العبد على الله ويأتي بالفعل من غير تهيئة للمقدمات او اضرار من الموانع والامور العرضية الطارئة، فتأتي هذه الآية لتدعو الى اعتبار قواعد الاسباب والمسببات.
الرابع : في الآية اشارة الى رفع الحرج والمنع من اعتبار التقية مورداً من موارد الضعف والذل والتراجع، وقد يستحي بعض المسلمين من الاتيان بما فيه التقية، فيفصح عن رأيه ويأتي بوظيفته العبادية علانية ويظهر نبذه لاهل الشرك وعداءه لهم ويمتنع عن ودهم ومحبتهم والتقرب اليهم ويبدي النفرة منهم كملّة وافراد، فتأتي هذه الآية لتعطي اولوية للتقية بان موضوعها ليس الخوف والحياء بل التحذير منه تعالى.
الخامس : في الآية اخبار عن حصول الثواب العظيم بالتقيد باحكام التقية وقد يظن المؤمن ان التقية باب سلب الثواب ويجعل الاهم هو الامتثال التام لاحكام الشريعة، فتأتي هذه الآية لتقول ان التقية تحذير منه تعالى، والعمل باحكامها التزام بالآمر الالهي، فلو قام بموالاة الكفار ماداموا ظاهرين مع حفاظه على دينه فله الثواب والاجر.
السادس : جاءت الآية بصيغة الجمع (وَيُحَذِّرُكُمْ) مما يدل على بقاء حكم التقية الى يوم القيامة، لان الخطاب فيه موجه للمسلمين كافة على قمت اجيالهم.
السابع : التحذير في الآية مركب، فالله عزوجل يحذر من ترك التقية ومن العمل بها من غير حاجة اليها صحيح انه يكفي ادنى واقل مراتب الخوف والخشية للعمل بالتقية وفيها سعة ومندوحة لانها من الاحكام الامتنانية التسهيلية في الشريعة ويكفي فيها المسمى،
وتعيين موارد التقية متروك للمكلف فهو اعلم بالمصلحة والنفع وصيغ الاحتراز والسلامة، ولا تشرع التقية في موارد عدم ظهور الحاجة اليها مطلقاً، كما لوكان المورد من موارد بيان الحكم الشرعي واظهار عز الاسلام وموالاة المؤمنين دون الكافرين، ولكنه اختار موالاة الكفار من غير ادنى حاجة لها، مع علمه بان هذه الموالاة تعود بالضرر على المسلمين في انفسهم وذراريهم واموالهم، فلا تجوز التقية حينئذ ويحذر الله عزوجل منها، بمعنى ان احكام المستثنى يجب ان لا تتعدى وتشمل للمستثنى منه.
وفي الآية اكرام وعز المسلمين، لانه سبحانه يتفضل بتحذيرهم ودعوتهم للخشية والخوف منه لان اصل التقوى منه تعالى والخوف من غضبه وعقابه وفيه آيات عديدة، فكأن الآية تقول بوجوب عدم جعل التقية سبباً للخروج عن خشيته والتقوى منه تعالى، وفيها ايضاً تأديب وارشاد لهم لكي لايأخذوا من الرخصة والضرورة الا بقدرها مع البقاء على الايمان، وان موالاة الكافرين يجب ان لاتجعل الانسان يقصر في وظائفه الشرعية بل هي نوع مصانعة ومخالفة الى ان يفتح الله، اويصرف اسباب التي تؤدي الى ذات التقية واذا تبدل الموضوع تغير الحكم، (واخرج عن ابن عباس في الآية قال: التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالايمان ولايبسط يده فيقتل ولا الى اثم فانه لاعذر له) ( ).
قوله تعالى [وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] خاتمة كريمة للآية وهي دعوة للتقيد باحكام الآية، وفيها مسائل:
الأولى : انها عون وتسهيل للامتثال، فمتى ماعلم الانسان ان مرجعه الى الله فانه يحرص على اجتناب ما يغضبه ويكون سبباً في نيل عقابه، ويسعى جاهداً لنيل رضاه تعالى.
الثانية : في الآية تخفيف عما يظنه المسلم من فوات مصالح بالتقية فان الله عزوجل يخلفها.
الثالثة : تمنع الآية من الإفتتان بالكفار ورؤية ماعندهم من القوة والمال بحيث يضطر المسلم الى مهادنتهم والتقية منهم فمتى ماكانت النتيجة هي الوقوف بين يدي الله فان الكفار خاسرون.
الرابعة : ماعند الكفار من القوة والشأن انما هو عرض زائل لان المدار في الامور على خواتيمها.
الخامسة : متى ماعلم العبد ان الخاتمة هي الآخرة ولابد من الحساب والثواب والعقاب فانه يجتهد في طاعته ويعمل باحكام التقية من غير تعد.
السادسة : ان تشريع التقية ليس عن ضعف او حاجة او عن رضا منه تعالى بما يفعله الكفار بل انه استدراج واملاء للكفار واستهزاء بهم، فالمسلم يثاب بالتقية، والكافر يؤثم لأن المسلم اضطر الى تقية والخشية منه، ويستحق العقاب لانه أدخل الخوف في قلب المسلم بحيث جعله يتصرف في الظاهر بخلاف ما يجب عليه.
السابعة : ليس في التقية تضييع لفرصة للايمان على الكافر، فقد يظن مع تقية المسلمين منه انه على حق، ولايعني هذا ان الله اكرمه على فعل المعصية، فالتقية عرض خارجي لايتعلق بفعل الكافر بل بفعل المسلم، وانما هي باختيار الكافر فهو الذي حمل المسلم على تقيته وأغلق، عن نفسه لغة الحوار والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة والدليل.
وقد ورد قوله تعالى [وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] في آيات عديدة تتضمن البشارة والانذار والاخبار عن عظيم سلطانه تعالى وان الملك والامر في الآخرة بيده تعالى والناس يؤمئذ لامحل لهم الا الوقوف بين يديه للحساب.
كما ورد لفظ المصير اشارة الى المثوى في جهنم مع القرينة على سواء العافية كما في قوله تعالى [نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( )، مما يدل على ان ولاية المسلم للكافرين تقية لايصدق عليها انها ولاية لان التولي سبب للثواب او العقاب بلحاظ موضوعه وحكمه، ففي الولاية وجوه.
الأول : ولاية المسلم للمسلمين.
الثاني : ولاية المسلم للكافرين.
الثالث : التقية من الكافرين واظهار قوليهم ومصانعتهم، والوجه الاول هو الولاية الواجبة، والثاني محرم على كل مسلم والثالث وهو موضوع الإستثناء ليس من الولاية بشئ انما هو تقية وامر عرضي زائل، ولم يرد لفظ المصير بالنسبة للجنة، لان المصير اليه تعالى عام وامل للناس جميعاً، فيدخل فيه الوعد بالجنة للمؤمنين.
والمصير الى النار انذار ووعيد فخاتمة الآية تذكير بان المرجع الى حكم الله تعالى في احكام الولاية والنصرة والتقية، ومن الآيات ان خاتمة الآية تتضمن الوعد والوعيد وفيها توكيد للنهي الوارد في الآية وللتحذير الذي جاء في آخرها.
بحث بلاغي
من أنواع البديع الطرد والعكس، وهو ان يؤتى بكلام يتكون من شطرين يختلف موضوعهما في المنطوق، ولكن مفهوم كل واحد منهما موافق لمنطوق الآخر ويصلح تقريراً له، وجاء في أول هذه الآية النهي عن اتخاذ الكافرين اولياء، ثم جاء الإستثناء والعكس بالتقية وأحكامها وهو مقرر للحرمة والنهي فيما عداها، وكذا فان استثناء التقية على نحو الخصوص مقرر لحرمة اتخاذ المؤمنين الكافرين اولياء فيما عدا حال التقية، بل انه يحصر التقية بقدرها والتولي الظاهري وليس مطلقاً، باعتبار ان السرائر والميل القلبي لا يطلع عليه الا الله تعالى.
ولا ينحصر موضوع الطرد والعكس القرآنيين بالجانب البلاغي بل يشمل العناوين العقائدية والتأديب والتعليم والإرشاد.
قوله تعالى [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] الآية 29
الاعراب واللغة
قل: فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت، يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
ان: حرف شرط جازم، تخفوا: فعل ألشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، الواو: فاعل، ما: اسم موصول في محل نصب مفعول به، في صدوركم: جار ومجرور والضمير الكاف: مضاف اليه.
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما.
او: حرف عطف، تبدوه: معطوف على تخفوا.
يعلمه: فعل مضارع جواب الشرط، والضمير الهاء: مفعول به، واسم الجلالة فاعل مؤخر،
ويعلم: الواو: حرف عطف واستئنافية، يعلم: فعل مضارع مرفوع فاعله يعود لله تعالى، ما: مفعول به، في السماوات: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة ما، ما في الأرض: عطف على ما في السماوات، والله على كل شيء قدير: الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، على كل: جار ومجرور متعلقان بقدير، كل: مضاف، شيء: مضاف اليه مجرور بالكسرة، قدير: خبر مرفوع بالضمة.
في سياق الآيات
بعد اللجوء الى الله والإقرار بربوبيته المطلقة، ومجيء الآية السابقة بالنهي عن ولاية الكافرين واستثناء موارد التقية، جاءت هذه الآية للإخبار عن علمه تعالى بأفعال بني آدم وما يخفون في نفوسهم، لتوكيد اطلاق علمه تعالى وللإعانة على تحديد الموضوع الذاتي للتقية
اعجاز الآية
تبين الآية احاطته تعالى علماً بكل شيء ما ظهر وما خفي، وان بواطن الإنسان مما يعلمه الله، وذكرت الآية ما يخفى في الصدر عن قصد وعمد للتحذير من الجمع بين الموالاة الظاهرية تقية، وبين الحاق الرضا النفسي بها والإستئناس بالكفار ومذاهبهم، والآية رقيب سماوي على عالم النوايا والعزائم سواء ترجلت الى الخارج بالفعل والقول او تبددت وأنصرفت منسوخة.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (تخفوا) ولم يرد هذا اللفظ الا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
تعتبر الآية مدرسة في جهاد النفس وافاضة سماوية للإرتقاء في سلم المعارف والقيم وتنقيح السرائر وتنمية الملكة للفصل والتمييز في أحكام الضرورة، وعدم التهاون في الشريعة فاذا كانت التقية قد شرعت للتخفيف والتسهيل وحفظ النفس والملة والمال فيجب ان لا يحصل افراط في مفاهيمها والتمادي في أفعالها، فالآية تحذير من اتخاذ التقية سجية ثابتة، ومرتكزاً في اختيار الأعمال.
مفهوم الآية
الخطاب موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد جاء قبل ثلاث آيات ذات الأمر بالقول ولكنه كان دعاء وثناء على الله عزوجل واقراراً بعظيم ملكة وسلطانه “قل اللهم مالك الملك” اما هذه الآية فجاءت متوجهاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والناس جميعاً، وهذا من الإعجاز فبذات الصيغة من الأمر ينتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السؤال والمسكنة ومخاطبة مقام الربوبية بخضوع ورجاء، الى مخاطبة العباد بصيغ التحذير والوعد والوعيد، ومضامين الآية لا تنحصر بالوعيد والتهديد بل تشمل الوعد الكريم لمن يخفي في صدره الإيمان ويصلح سريرته وعلانتيه، وجمعت الآية بين:
الأولى : علمه تعالى بما يضمره كل انسان في نفسه من النوايا والعزائم.
الثانية : ما يعلنه من القول او الفعل.
الثالثة : انه تعالى أحاط علماً بكل شيء وجاء لفظ السماوات والأرض كعنوان جامع، ولتثبيت حقيقة وهي علمه تعالى بكل شيء صغيراً كان او كبيراً.
الرابعة : ان الله لا تستعصي عليه مسألة وانه على كل شيء قدير.
الخامسة : ان أحكام التقية والترخيص بها ليس عن عجز بل للإمتحان والإختبار وان الله عزو جل يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه.
افاضات الآية
في الآية جذب لقلب المسلم وقيادة له للسياحة في عالم الملكوت، بالإستحضار الذهني لذكره تعالى وانه قريب من العبد مطلع على قلبه وما يخطر من الخواطر في قلبه وذهنه، ومتى ما ادرك العبد ان الله يعلم ما في نفسه فانه يحرص على تهذيبها ومنع طرو القبائح عليها، استحياء من الله ويتجنب نية السوء خوفاً منه تعالى، ويجتهد في اختيار نوايا الصلاح لأن فيها مرضاة الله، وفي الآية كسر لكبرياء الإنسان عندما يشعر بانه يفتقر الى المحافظة على سره وما ينويه بينه وبين نفسه.
التفسير
قوله تعالى [قُلْ]
في الآية خطاب مركب يتضمن الأمر المباشر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) بان يعلن بلسان الوحي مما يدل على ان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير قول البشر وانه لا ينطق عن الهوى، فموضوع هذا القول جاء صريحاً في القرآن الا ان أقواله الأخرى، من السنة النبوية الشريفة وهي فرع وجزء من الوحي والأمر الإلهي بمعناه الأعم، وتوجه الأمر الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول يعني الإجهار والإفصاح بما أمر به من غير تردد او خوف، وتعقب الأمر لآية التقية يدل على خروجه صلى الله عليه وآله وسلم بالتخصص من التقية لأنه البشير النذير، وكأن الآية تخبر المسلمين بان التقية والتقيد باحكامها لا يضر بالإسلام، فهذا النبي صادع بالحق ومبلغ للآيات وبصيغة الإنذار والوعيد فلا ينتفع الكفار من اتقاء المسلمين لهم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبرهم عن تخلفهم عن ادراك منافعهم ولزوم اصلاح حالهم، وكذا بالنسبة لجهاد وسعي وعبادة المسلمين في أماكن وأمصار أخرى خارج حصار التقية، فانها دعوة للكافر الذي يتقى منه في بلده او قريته او محله، والأمر بالقول الى النبي انحلالي ينقسم الى:
الأول : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ بالسنة القولية والتدوينية وتوجيه الصحابة للإخبار عن مضامين هذه الآية وان الله عزوجل يعلم ما تخفيه النفوس.
الثاني : قيام المسلمين من أيام الصحابة والى يومنا هذا وحتى يوم القيامة بتحذير الناس والتنبيه الى احاطته تعالى علماً، بخفايا النفس الإنسانية.
الثالث : من يتلقي التحذير والإنذار يقوم باخباره الى الآخرين لأنه حق وصدق، وموضوعه يستغرق الناس جميعاً.
الرابع : القرآن نفسه قائل ومبلغ على نحو مستقل، وهو الوثيقة السماوية التي تحفظ القول وتجعل المسلمين يرجعون اليه ويأخذون منه ما يحاكون به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في القول والتبليغ.
لقد نزل الأمر الإلهي بلفظ (قل) ليبقى الحكم ثابتاً الى يوم القيامة والخطاب غضاً طرياً يواجه كل مولود عندما يخرج للدنيا ويبلغ سن التكليف.
قوله تعالى [إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ]
بعد ان جاءت الآية السابقة بالنهي عن اتخاذ المسلمين للكافرين أولياء، وأستثنت موارد التقية، جاءت هذه الآية لتخبر عن علمه تعالى بخفايا النفوس والمراد في الخطاب وواو الجماعة في (تخفوا) وجوه محتملة هي:
الأول : المسلمون كافة في كل زمان.
الثاني : الصحابة الذين أمر الله النبي ان يخاطبهم بقوله تعالى (قل).
الثالث : اليهود والنصارى من أهل الكتاب لأن الآيات المتقدمة وردت بذمهم لقولهم [ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً] وأخبرت عن جمعه تعالى لهم يوم القيامة أولياء.
الرابع : الكفار مطلقاً الذين يضطر المسلمون الى اتخاذهم أولياء.
الخامس : المسلمون الذين يتخذون الكفار أولياء تقية.
السادس : الناس جميعاً لأن الآية تخبر عن صفة من صفاته تعالى وعظيم قدرته.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فكلها من مصاديق الآية وكل واحد منها له دلالات تتعلق بموضوع العلم فيه، والاية وان جاءت للإخبار عن العلم الإلهي بخفايا النفس الإنسانية الا ان منافعها عديدة منها:
الأولى : معرفة الإنسان بان الله محيط بما في نفسه ويعلم ما في صدره.
الثانية : من خصائص النفس الإنسانية انها تكثر السياحة في العوالم المختلفة سواء من الواقع او الخيال، الحلال او الحرام، الصدق او الكذب الخير أو الشر، وحينما يعلم الإنسان بعلمه تعالى بهذه السياحة تكون عنده ضابطة ذاتية لزجر النفس عن الأوهام التي تتعلق بما هو قبيح وحرام، وهذا الزجر يوفر للإنسان وقتاً وسعة في تفكيره ليكون في أحد أمرين اما ان ينتقل الى التفكير بالأحسن ومواضيع الحلال، او ينشغل بالعمل النافع.
الثالثة : اذا اجتنب الإنسان التفكير بالحرام فانه من باب أولى يجتنب فعل الحرام ويحذر من اتيانه.
الرابعة : تبعث الآية الفزع والخوف في نفوس الكافرين وتدعوهم الى الإبتعاد عن الكيد بالمسلمين.
الخامسة : لما جاءت الآية السابقة بالرخصة والإذن للمسلمين، جاءت هذه الآية بانذار الكفار للإخبار بان تقية المسلمين منهم سبب في إثمهم واستحقاقهم للعقاب، فالأصل ان يكونوا عوناً للمسلمين وان لا يخشاهم اهل الحق ويخافونهم على اختيارهم الإستجابة لأوامره تعالى، ولم يرد في القرآن الأمر بالتقية من الشيطان بينما جاء بالخوف والخشية من الكفار.
السادسة : في الآية سكينة ورحمة بالمسلمين لأن الله يعلم ما في صدورهم وحاجاتهم ورغائبهم الشخصية والنوعية فيتفضل عليهم بتحقيق تلك الرغائب وقضاء الحوائج، لذا يجد العبد نفسه قد تمنى تحقيق مسألة ولكنه ينصرف عنها لعدم وجود مقدماتها وأسبابها، ويفاجئ بحصولها او اجتماع اسبابها وشرائطها مع انه كان يدرك تعذر حصولها، فيكون علمه تعالى بما في الصدور لطفاً وعوناً وسبباً لنزول النعم والهبات.
السابعة : تبعث الآية أسباب العز في نفوس المسلمين وتجعلهم يستهزئون بالكافرين الذين أختاروا الجحود وهم لا يعلمون ان الله يحصي عليهم نواياهم ومحاولاتهم الكيد والإضرار بالمسلمين.
لقد جاءت الآية لتبين ان علمه تعالى بالأمور الباطنية والخفية كعلمه بالأمور والوقائع الظاهرية، وان التباين في الظهور والخفاء انما هو خاص بالإنسان، اما في علمه تعالى فهي أمور بعرض واحد من جهة العلم بها، فكلها معلومة عنده سبحانه بدرجة واحدة من غير تباين في رتبة العلم لأنه تعالى أحاط بكل شيء علماً.
لقد أخبرت الآية عن حقيقة وهي ان خفايا الإنسان شيء من الأشياء التي يعلمها الله، فلا يأتي اهل الشك والريب ليقولوا سلمنا بان الله يعلم كل شيء، ولكن بواطن الإنسان ليس بشيء انما هو عرض زائل ليس في محل، ولم يترجل الى قول او فعل كي يكون شيئاً.
فجاءت الآية للإخبار عن العلم به على نحو التعيين لدفع اللبس والريب ومنع الجدل والمغالطة، ولكي لا يترك سبب للإنسان يتيه فيه بدروب الغواية والضلالة، فالآية رحمة للمسلم وغير المسلم، وفيها صلاح لكل انسان ودعوة قهرية للشعور بان كل شيء من الإنسان في علمه تعالى ولا يخفى عليه سبحانه،
ان تفضله تعالى بالإحاطة علماً بما في الصدور حجة على الكافرين والناس جميعاً ومنع من الوقوع في الشبهات والمحرمات لأن كثرة مخالطة عقل الإنسان للأوهام والعزم على فعل السيئات يكون مقدمة وسبباً للوقوع فيها، فجاءت الآية للتصدي للفحشاء وإقتراف السيئات في بدايات زراعتها وبذرها بالمنع من وجود الأرض الخصبة لها ودعوة الإنسان لقطع ماء السقي عنها فترد خاطرة السوء على البال ويستحضر الإنسان علمه تعالى بخواطره فيبادر لصرف الذهن عنهما والفرار الى عالم الإيمان والحسنات والسعي للفوز في الثواب في الآخرة.
وتبين الآية ان الله تعالى يعلم كل مخلوقاته ووظائفها وأفعالها، وما تعمله في طاعته او معصيته ونفس وعقل الإنسان من صنع الله فلابد انه يعلم به، وما يكنه الإنسان في نفسه لا يحاسبه الله عليه لأنه من التكليف بما لا يطاق فالآية فيها وعيد ولكنه ليس على الإخفاء بل على ما يترشح عنه من الفعل فجاءت الآية رحمة واحترازاً لمنع الفعل القبيح بتهذيب الباطن.
وقد حذر الله عز وجل المؤمنين مما يكنه الكافرون في صدورهم من الكيد والحسد قال تعالى [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]( ).
فجاءت الآية للوعيد والتخويف والنهي عن المكر والكيد للإسلام والمسلمين، ولتكون التقية الظاهرية كافية لدفع شرورهم بمعنى ان المسلمين أظهروا الود دفعاً للفتنة ولم يواجهوا الكفار بما يجب عليهم من التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل صانعوهم وأظهروا لهم المودة ومدوا لهم يد العون، فيجب على الكفار ان يكفوا ويرضوا بهذا من المسلمين،
وجاءت الآية بذكر الصدور جمع صدر، والظاهر ان المراد من الصدر أعم من القلب وهو محل القلب، قال تعالى [وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( )، والصدر عنوان لمحل النية المستقرة فقد ترد الخاطرة على القلب ولكن الإنسان ينساها وينشغل عنها بما هو أهم وبالأمور الواقعية اما ما في الصدر فانه أمر وجودي مستقر وعبارة عن عزيمة لفعل شيء او مرتكز ومبنى يتخذه الإنسان في معاملاته، ومرحلة لاحقة على النية والعزيمة، ويدل عليه قوله تعالى [إِنْ تُخْفُوا] لأن الإخفاء فعل وارادة وسعي، ولا يعني هذا انه لا يعلم ما هو أدنى من الإخفاء من الخاطرة التي تمر على البال، بل انه سبحانه يعلم الخاطرة ايضاً،
ولكن الآية جاءت للإنذار والوعيد واقامة الحجة والإصلاح والمنع من التمادي في نوايا السوء وتخبر الآية عن وجود شيء في الصدر والنية وان الإنسان قد يخفيه عن الناس وهو يعلم ان الناس لا يصلون اليه، ولكن الله عز وجل أخبره بالعلم به وان تعمد ان يخفيه،
بحث علمي فقهي
صحيح ان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره الا ان اخباره تعالى عن علمه بما تخفيه النفوس لا يعني امكان علم غيره تعالى به، بل هو من مختصاته تعالى.
وما يقال عن وجود جهاز يكشف الكذب عند الإنسان هل يتعارض مع منطوق هذه الآية الجواب لا، من وجوه:
الأول : تعلق هذا الجهاز بموضوع الكذب وكشفه دون باقي النوايا والمقاصد.
الثاني : لم تثبت أهلية هذا الجهاز للكشف عن واقع حال الإنسان ولن يستطيع كشفه على نحو الموجبة الكلية.
الثالث : الله يعلم الخواطر التي تمر على الإنسان وينساها، فان الله عز وجل لا ينساها ولا تغيب عنه.
الرابع : علمه تعالى بذات الصدور يشمل السجايا والعزائم وهو أجنبي عن الصدق والكذب،
وهل هذا الجهاز جائز شرعاً، فيه تفصيل، لأن الأحكام تبتنى على الظاهر، مع احتمال مخالفة الواقع للمدعى، لذا شرعت قاعدة “البينة على من أدعى واليمين على من أنكر” لفك الخصومات، ومن يحلف كاذباً فان خسارته عظيمة ويلحقه الإثم ويستحق العقاب الأخروي، فيكذب في أمر دنيوي وعرض زائل ليخسر النشأتين، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ” انما اقضي بينكم بالبينات والايمان ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل قطعت له من مال اخيه شيئا فإنما قطعت له قطعة من النار “.
أي انه صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الحكم الواقعي ولكنه يكتفي بالحكم الظاهري سواء وافق الواقع ام لو يوافقه لتعليم الحكام والفقهاء قواعد الحكم وعدم التشديد على النفس وطلب البواطن الذي قد يخطأ الى جانب عدم أهليته للحجة، ولأن الحساب يكون في الآخرة، فالصدق والكذب من الإبتلاء في الدنيا، وقد يكون الكذب حجة لدفع ضرر أكبر.
وربما توقفت منافع للأمة على موضوع الصدق والكذب فيكون أستعمال هذه الجهاز له مصلحة شرعية، فالمدار في استعماله في كل قضية على النفع الشرعي، من الكشف واتباع القواعد الشرعية، ولكن هل يكون هذا الكشف حجة على الإنسان فيقال له ان هذا الجهاز كشف انك كاذب فيما تدعي ولابد ان تبين الحقيقة وتظهرها لنا الجواب لا، لأن هذا الجهاز ليس حجة شرعية، ويحتمل الصحة والخطأ فالجهاز نفسه قد يكون كاذباً واذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال نعم يمكن اتخاذ اجراء احترازي بصدد ذات الشخص كما في ابعاده عن منصبه، ووظيفته للشك في صدقه،
ان هذه الإكتشافات العلمية برهان على صدق نزول القرآن من عنده تعالى وما فيها من الموضوعات والأحكام والإطلاع الجزئي على جانب من جوانب ما يخفيه الإنسان في صدره يدل على بديع صنعه تعالى وعلمه بخفايا الإنسان فاذا كان هذا الجهاز يتوصل الى التمييز بين الكذب والصدق ويعرف الكاذب فان الله عز وجل يعلم ما يخفيه الإنسان وان لم يصل الى مرتبة الصدق والكذب.
فالآية تدل على حصر العلم به تعالى فيما يخفيه الإنسان في صدره مما لم يظهره لأنه لو أظهره لكان مما ذكرته الآية في قوله تعالى [أَوْتُبْدُوهُ] فالكذب فرع الإبداء والإفصاح، اما هذا الشطر من الآية الكريمة فتتعلق بما يخفيه الإنسان ولم يظهره.
قوله تعالى [أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ]
يقال بدا الشيء يبدو بدواً وبداء: ظهر وبان، والضمير (الهاء) في تبدوه يعود للذي في الصدور، وأخبرت الآية عن أمور:
الأول : وجود شيء في الصدور وحصول فكرة ونية وعزم، وان الأمر ليس بخاطرة طرأت على البال وان كانت الخاطرة يعلمها الله تعالى، ايضاً.
الثاني : انحصار هذا الشيء بين أمرين أما اخفاؤه او اظهاره.
الثالث : يعلم الله الإخفاء والإظهار معاً لأنه تعالى لا يخفى عليه أمر.
والإظهار يكون تارة باللسان واخرى بالفعل او بالتدوين والقلم، والقدر المتيقن منه هو الإظهار للغير ووجود السامع، فلو تكلم مع نفسه لا يسمعه احد او كتبه في ورقة ثم مزقها من غير ان يطلع أحد على ما كتب فهل يصدق عليه انه اظهار الجواب لا ، لدلالة الإظهار على معرفة الغير نعم يمكن ان يكون ترتب الأثر من الإظهار كما في اظهار العداوة والبغضاء باللسان والقول البذيء.
لقد أخبرت الآية عن علمه تعالى بعالم الأقوال والأفعال وانه سبحانه يعلم كل ما يصدر من الإنسان وجاءت الجملة بصيغة الشرط ولا يعني هذا ان علمه تعالى حادث لأن الجزاء مترتب على الشرط ومتأخر عنه، بل ان الآية جاءت للإخبار عن احاطته تعالى علماً بما في الصدور في جميع الحالات والإضافات ولتوكيد علمه تعالى بكل شيء، فعلمه بخفايا النفس الإنسانية هو آية من عظيم قدرته وسلطانه، وجاءت الآية بصيغة الجمع، والمعروف ان الإخفاء يتعلق بالشخص فهل ينصرف الجمع الى الفرد الواحد أي ان معنى الآية “قل ان تخفي ما في صدرك اوتبديه” الجواب نعم، بالإضافة المعنى الأعم للآية، فيحمل الكلام على ارادة الجمع والإنحلال الى الأفراد ويلحق بالإخفاء مايبيت في السر من الكيد والمكر في انذار للكافرين.
وتتعلق الآية بموضوع التقية ولزوم المحافظة على الإيمان كما في قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( )،
فالآية تخبر عن التعدد والتنافي بين ما يخفى في الصدر وبين ما يكون ظاهراً على اللسان والجوارح بان تكون المصانعة والود مع الكافرين امراً ظاهراً، اما ما يخفى في الصدر فهو الإيمان بالله ورسوله، والكره للكفر والكافرين.
فلم تشرع التقية للتفريط بأحكام الحلال والحرام وسنن الشريعة، وليست هي عرضاً ملازماً وحالة مستقرة بل هي عرض زائل ينحصر محله بالفعل الظاهري دون ما خفي في الصدر وما عقد عليه المؤمن العزم ليبقى متوثباً محافظاً على دينه.
ومن منافع صيغة الجمع المنع من اعتبار المسلمين للتقية كواقع مستديم وثابت حتى في حال زوال اسبابه وانعدام المقتضي له، كما لو كان المسلمون في حال قوة وعز، والكفار في حال ضعف ووهن فلا موضوعية للتقية حينئذ، وقد تكون من التهاون في الدين والتفريط بأحكامه، فجاءت الآية للتحذير والتنبيه والإخبار عن لزوم طلب مرضاته تعالى فيما يخفي في الصدر وما يعلن وان المسلمين يجب عليهم ان يتعاونوا على اصلاح البواطن وتهذيب النفوس ومنع صيغ التقية من الإقتراب من نوايا النفس والعزائم، وفيها حث لكل واحد منهم ان يساعد في اصلاح غيره وارشاده الى مفاهيم التقية والتمييز فيها بين ما يخفيه الإنسان من نية الإيمان وبغضه للكفر ودفع الأذى والضرر في التقية وبين ما يظهره من الود والنصرة والمعونة مع الكافر،
لقد اراد عز وجل من المسلمين الثناء على مقام الربوبية والإقرار بعلمه تعالى بما يخفون في صدورهم وهو عنوان العبودية لله والحاجة الى رحمته، وفي عيسى ورد قوله تعالى [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ]( )، فالصغرى في المقام هي علمه تعالى بخفايا الصدور اما الكبرى فهي انه سبحانه عالم بدقائق الأمور ولا يخفى عليه شيء ومنها مصدر البواعث ومنبت النوايا سواء كانت نوايا خير او نوايا شر، وهذه الآية تساهم في تهذيب النفوس والتخلص من نوايا السوء، وتثبت نوايا الخير وتساهم في ابرازها للخارج بالفعل.
قوله تعالى [وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]
بعد التوكيد على علمه تعالى بخفايا النفس الإنسانية وما يفعله كل انسان وطائفة وجماعة وملة من الأفعال أخبر سبحانه عن علمه بكل الموجودات والخلائق وفيه مسائل:
الأولى : لبيان أهمية واعتبار علمه تعالى بخفايا النفس وانه دليل الربوبية لأنه لا أحد يعلم خفايا النفس الا الذي خلقها وان العلم بما يدور في الخلد أمر لا يقدر عليه الا الله تعالى فتجب عبادته والخشية منه في السر والعلانية.
الثانية : اذا كان سبحانه يعلم كل ما في السماوات مع عظم المخلوقات وكثرتها وتعددها فمن باب أولى ان يعلم فعل الإنسان ونواياه وعزائمه.
الثالثة : قالوا ان الواو في (ويعلم) للإستئناف، ولكنها للعطف والإستئناف معاً، اذ ان تقسيم (الواو) الى عاطفة واستئنافية تقسيم استقرائي بلحاظ الموضوع، الا انه لا يمنع من اجتماع المعنيين في القرآن بلحاظ تعدد التأويل وعدم التعارض بين المعنيين
فجاءت الآية للإخبار عن صفة ثبوتية له تعالى وكونه عالماً، وجميع الأشياء مستجيبة وحاضرة عنده وما نظنه خفياً ومستعصياً فانه منكشف لديه، ولا يعني هذا ان الأشياء لم تكن ظاهرة ثم ظهرت واتضحت عنده، بل انه سبحانه يعلم بها قبل حدوثها.
الرابعة : لقد خلق الله عز وجل الإنسان ونفخ فيه من روحه وهو سبحانه مختار، وعالم الحساب دليل على علمه تعالى بأفعال العباد فالمعاد حق وأمر ثابت ومن مقوماته احضار افعال العباد معهم، مما يعني ان علمه تعالى لا ينحصر بساعة الفعل بل هو سابق له ومتأخر عنه، فلذا لزم الحذر من ارتكاب السيئة، والشوق والسعي لفعل الحسنة.
الخامسة : الجمع بين علمه تعالى بما في الصدور، وما في السماوات والأرض يجعل الإنسان يشعر بجزئيته من الخلائق، ويمنع من الغرور والطغيان، فالخلائق متحدة في المعلومية والإنكشاف له تعالى، وذكر كل ما في السماوات والأرض على نحو الإستقلال فصارت في الآية عوالم ثلاث هي:
الأول : ما في الصدور، وهذا العالم ينقسم الى عالمين أحدهما الخفي والآخر الظاهر والمعلن.
الثاني : ما في السماوات من الخلائق والموجودات.
الثالث : ما في الأرض من الكائنات.
وجاء اللفظ بـ(ما) ليشمل العاقل وغير العاقل ولتوكيد احاطته تعالى علماً بالأسرار والخفايا الموجودة في السماوات والأرض، فكأن الآية تقول للإنسان ما دام سبحانه يعلم كل ما في السماوات والأرض فمن باب اولى ان يعلم ما في نفسك وما تخفيه في صدرك، وما تظهره وتبديه، وعلمه تعالى بالخلائق يكون في آن واحد من غير تعارض او تدافع بينها.
وقدمت الآية السماوات لما فيها من بديع خلقه وكثرة الملائكة ولأن أحوالها وأنظمتها غائبة وخفية عن الإنسان، فانه لا يعلم عما فيها من العوالم ولكن الله عز وجل يعلم تفاصيلها وما يحدث فيها، وهو سبحانه الذي خلقها ويستحيل قصد شيء من دون العلم به،
لقد أرادت الآية بعث الثقة والأمل في نفوس المسلمين والفزع والخوف في قلوب الكافرين فيما يتعلق بموضوع التقية فهي تخبر المسلمين بان اتخاذكم التقية لن يضر الإسلام وانه سبحانه شرع التقية وهو يعلم المصالح والمفاسد وملاكات الأحكام وان التقية لن تكون سبباً لسيادة او انتصار الكفر وتحذر الكافرين وتقول لهم ان تشريع التقية وما يظهر من مصانعة المسلمين لكم ليس عن حاجة لكم او قوة ذاتية عندكم، بل ان أحكام التقية جزء من الإبتلاء في الدنيا، ومن يضطر المسلم لمصانعته للحفاظ على الإسلام فانه يكتسب اثماً ولن تغير التقية والحذر منه من أنظمة السموات والأرض ولزوم سيادة الإسلام، وحتمية العودة اليه تعالى.
بحث بلاغي
من بديع القرآن ذكر العام بعد الخاص، وقيل انه يفيد التأكيد ولكنه اعم من التأكيد وله دلالات عقائدية بحسب التفسير والتأويل، ويأتي هذا العطف لبيان فضل الخاص وماله من الشأن والاعتبار وهذا العطف يجعل الخاص يبدو وكأنه ليس من العام.
ومن دلالات هذا العطف تعلقه احياناً بما هو خارج موضوع العطف وخصوصيات المعطوف والمعطوف عليه من العام والخاص، ففيه بيان لحضور الاشياء جميعاً عنده تعالى مع علمه بكل منها على نحو الاستقلال , فعظمة المخلوقات وكثرتها لاتسبب تداخلاً بين الاشياء بل ان كل شئ منها يكون معلوماً على نحو الدقة والتفصيل، ولان موضوع الآية هو النفس الانسانية ولزوم عدم الخلط بين التقية الظاهرية والايمان الباطني ، فجاء الاخبار عن العلم وتوكيده بالامرين معاً للتفكيك بين مايخفى في النفس وما يمكن اعلانه، لنفي الحرج وللمنع من الاعتذار بانه لانستطيع ان نخفي الا الذي نظهره، ولكي لايأتي من يقول امرنا بالتقية وهي مطلقة تشمل الباطن والظاهر، فقدمت الآية الخاص، وجعلت لكل منهما استقلالاً وخصوصية وشأناً للاخبار بامكان الفصل بينهما، وهذا الفصل خاص بالتقية وليس بموالاة المؤمنين , فلابد من مودتهم ومحبتهم والغبطة والسعادة بما يلقون من اسباب الظفر والتوفيق.
قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
الآية قاعدة كلية ثابتة وكما انه سبحانه يعلم بكل شيء وخفايا الأمور، فقدرته المطلقة سبحانه يعلم بها كل انسان وان جحود الكفار بها انما هو عرض طارئ مبني على العناد والوهم والإنقياد للملأ والكبراء منهم، ومن الإعجاز ان يأتي ختم الآية ببيان عظيم قدرته تعالى واظهار الملازمة بين كل من:
الأولى : ما في الصدور سواء ظهر للخارج ام حرص الإنسان على اخفائه.
الثانية : عوالم السماوات والأرض وأفرادها وخصائصها وأسرارها وحركتها ومكوناتها وخفايا خلقها.
الثالثة : قدرته تعالى المطلقة من غير تقييد لها بشيء او عالم دون آخر.
ومن علمه تعالى انه يتقن ويحكم الأشياء ويأتي بها تامة غير ناقضة، فلقد اراد الله اصلاح النفوس والمجتمعات بهذه الآيات، اراد للمسلم تولي أخوانه المؤمنين واعانتهم ونصرتهم واظهار الود والمحبة لهم، وعدم اللجوء الى الكافرين الا على نحو التقية وصرف أذاهم وتعديهم،
ومن وجوه التحذير اخبارهم بانه على كل شيء قدير،
وفيه بشارة للمسلمين بان الله عز وجل ينتقم لهم من عدوهم الذي يتقون، ويزيل أسباب التقية بان يرميه بالضعف والوهن او يجعله يعلن اسلامه حينما يرى ود المسلمين ومصانعتهم له، فيتخلص من روح العناد والجحود وينصت للآيات ويتدبر في الحجج والبراهين التي جاء بها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
ان التقية من مصاديق الصبر واظهار لإرادة التحمل وتوكيد على ثبوت الإيمان في الصدور فلا غرابة ان تأتي خاتمة الآية بالوعد والبشارة، كما انها تنفي عن نفوس المسلمين الشك والريب، وتمنع من التساؤل لماذا لا يبطش الله بالكافرين ويمحقهم ويخلصنا من التقية لهم والخشية منهم فالآية اخبار عن عظيم سلطانه تعالى وقدرته على الإنتفاع منهم، وانه أمر حاصل وحتمي ان لم تدركهم التوبة والإنابة.
فالتقية من الكفار فرع امهالهم ومناسبة لإقامة الحجة عليهم ونزول البلاء بهم، وفي الآية اخبار للمسلمين باحتمال دخول الإسلام قلب الكافر لأن الله لاتستعصي عليه مسألة وهو العالم بخفايا الصدور.
والآية دعوة لتفويض الأمور اليه تعالى واظهار التولي للمسلمين والثقة بالله عز وجل وان كان المسلمون يفتقرون لأسباب النصرة والمعونة فان الله عز وجل ينجح المسألة ويهدي للتي هي أقوم، لقد ارادت هذه الآية والآية السابقة بناء مجتمع اسلامي متكامل يتصف بالتكافل بين أفراده ومؤسساته وطوائفه وفيه قوة وعز وهيبة لهم.
قوله تعالى
[] الآية 30
قوله تعالى [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]الآية 30
الإعراب واللغة
يوم: ظرف زمان متعلقه محذوف تقديره (اذكر)
تجد: فعل مضارع، كل: فاعل مرفوع وهو مضاف،
نفس: مضاف اليه مجرور، الجملة الفعلية في محل جر بالإضافة.
ما: اسم موصول بمعنى الذي مفعول به، عملت: فعل ماض والفاعل ضمير يعود للنفس، والجملة صلة الموصول.
من خير: جار ومجرور.
محضراً: حال، وما عملت: الواو للإستئناف، وقال ابو مسلم انها للعطف.
ما: اسم موصول مبتدأ، وجملة عملت صلة الموصول
تود: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير يعود للنفس والجملة الفعلية خبر ما، لو: حرف شرط غير جازم.
ان: حرف مشبه بالفعل، بينها: ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم لأن، وبينه: عطف على الظرف.
وجواب لو الشرطية محذوف تقديره لفرحت ورضت.
امداً: اسم ان متأخر، بعيداً: صفة له.
ويحذركم الله نفسه: قد تقدم اعرابها قبل آيتين.
والله رؤوف بالعباد: الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ مرفوع.
رؤوف: خبر مرفوع، بالعباد: جار ومجرور متعلقان برؤوف.
الأمد: الغاية كالمدى، يقال: ما أمدك؟ أي منتهى عمرك.
قال شمر للإنسان امدان أحدهما ابتداء خلقه الذي يظهر عند مولده والأمد الثاني الموت) ( )، واخرج ابن جرير وغيره عن السدي امداً بعيداً أي مكاناً بعيداً، ليكون معناه وعاء مكانياً، وعن ابن جريج قال اجلاً.
في سياق الآيات
بعد الإخبار عن علمه تعالى بخفايا النفس الإنسانية وما ينويه الإنسان ترجل الى الخارج بالفعل ام بقي رهن الوجود الذهني وعالم العزائم والنوايا المجردة، جاءت هذه الآية لتخبر عن اتباع الجزاء الأخروي للعلم الإلهي وان العلم بما في النفس مطلوب بذاته وهو مقدمة للحساب الذي لا يتم الا وفق صيغ العدل وعدم تضييع أي فعل سواء كان صالحاً اوسيئاً، وهو من رشحات علمه تعالى.
اعجاز الآية
جاء ذكر اليوم على نحو التمييز وينصرف الى يوم القيامة لمعرفة الأمم والملل به ولقرينة الحساب والجزاء المذكور في الآية، وجاءت الآية بصيغة العموم وارادة جميع الناس فكل انسان يجد عمله امامه من غير استثناء لأحد، وفيه تنبيه وتحذير ووعد ووعيد، ليكون العمل الصالح ادخاراً وواقية، اما صاحب الذنوب والمعاصي فانه يحاول الهرب من أفعاله ولا يراها امامه.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (محضراً) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الا في هذه الآية،
ومن وجوه الإعجاز في الآية البشارة والوعد بخصوص حضور الصالحات، والأمل والرجاء بعفو السيئات بالرغبة بابتعادها وغيابها يومئذ، في دعوة للإنابة وللإستغفار.
الآية سلاح
في الآية تقريب ليوم القيامة اذ تجعله هدفاً وغاية للمسلم في يومه وليلته، فكل غايته يتهيأ ويعمل لبلوغها الإنسان، وكلما قرب أوانها ازداد استعداده لها وانشغل باله بكيفية الإعداد لها، والإخبار عن وجود العمل يجعل نوع ملازمة ذهنية بين العمل وجزائه في الآخرة فاذا اراد ان يفعل امراً استحضر موازين الآخرة، وان لم يكن عنده ما يفعله فانه يفكر ابتداء بفعل الصالحات لتكون كنزاً وواقية من النار في الآخرة.
مفهوم الآية
ليس من انسان يفلت من الحساب ولا فعل من افعاله يسقط عن صحائف الأعمال، ولا ينسب عمله الى غيره، ولا يحصل العكس وهذه الدقة والنظام جزء من عدله تعالى، وعظيم قدرته وعلمه سبحانه، وحضور جميع الأشياء عنده قبل وساعة وبعد وقوعها لا يخفى عليه منها شيء، وذكرت الآية عمل الخير بعنوان الحضور وان الإنسان يجده امامه في بشارة وترغيب ووعد كريم وليكون هذا الإحضار مقدمة للجزاء الحسن وتأكيداً لما وعد الله به المؤمنين ام ما عمله الإنسان من السيئات فلم تخبر الآية عن حضوره ولكن أشارت اليه موضوعاً وحكماً.
وفيه لطف ورأفة بالمسلمين لأنهم يتلون القرآن فجاء الإخبار عن أهل السيئات بصيغة التمثيل وبيان حالهم، وكذا حال من يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فانه يرى امامه الخيرات والصالحات التي فعلها ويحاول ان لا يرى الذنوب التي أرتكبها لتكون الصالحات وحدها في ميزانه، وفي الآية مسائل:
الأولى : ذكر يوم القيامة وماله من الشأن العظيم.
الثانية : افتتاح الآية بذكره وعلى نحو التنكير وليس من يوم غيره تعرض فيه اعمال الناس كافة.
الثالثة : تمكن الإنسان من رؤية اعماله، وأكثرها نساها في الحياة الدنيا وغابت عن الحافظة سواء الحسنة او السيئة والآية دعوة لإستحضار الأفعال التي عملها الإنسان في حياته خصوصاً السيئات للإستغفار منها.
الرابعة : نفرة الإنسان من معرفة ذنوبه، وهذا الأمر ليس خاصاً في الآخرة، نعم هو عام لكل انسان في الآخرة اما في الدنيا فالناس فيه على مراتب متباينة.
الخامسة : من فضله تعالى ان يحذر المسلمين والناس جميعاً.
السادسة : جاء الإنذار بالحساب والوعيد والتحذير مقروناً بالرأفة الإلهية والوعد الكريم لمنع اليأسٍ والقنوط وفتح باب الأمل والدعوة الى السعي في دروب الخير، ورجاء رحمته تعالى في الدار الدنيا والاخرة، وكيف ان صاحب المعصية يستلذ بالذنب والفاحشة عند ارتكابها، اما في الآخرة فيتمنى الفرار منها.
افاضات الآية
من رأفته ورحمته تعالى انه لم يترك العباد سدى، ولم يفاجئهم يوم القيامة بالحساب وموازين الأعمال بل أخبرهم بحتمية المعاد وبعث الأنبياء لتبليغ الأحكام ويتلقوا اشد الأذى ويتعرضوا للقتل ممن جاءوا لإعانتهم وهدايتهم سبل الرشاد، وحرفت الكتب التي جاءوا بها ومن وجوه التحريف تركها نصوصاً من غير مصداق عملي نوعي عام وعدم العمل بها،
ليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن صادعاً بالحق مجاهداً في سبيل الله مع أصحابه لا يخافون في الله لومة لائم، ثبتوا على الإيمان وتحدوا الكفر والطغيان فتهيئت لهم فرص تثبيت احكام الشريعة فجاءت الآيات الكريمة بالتأكيد على المعاد مما يدل على انه أصل من أصول الدين وعلة غائية في الجهاد وهو ايضاً علة مادية لأن الإقرار بالمعاد لتهذيب الأعمال والسعي في مرضاة الله.
التفسير
قوله تعالى [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا]
بعد مجيء الآية السابقة بالإخبار عن علمه تعالى بالأشياء جميعاً واختتامها بانه سبحانه على كل شيء قدير، جاءت هذه الآية لبيان عظيم قدرته تعالى وانها لا تنحصر بالعلم وحده ولا بعالم الدنيا ولا بالمحسوسات والماديات وحدها بل تشمل عالم الآخرة واحضار الأعمال من عالم الدنيا الى عالم الآخرة الصالح منها والسيء سواء التي فعلتها الأجيال والأمم الأولى او التي تلتها او الوسطى او المتأخرة في أفراد الزمان الطولية، يتفضل سبحانه باحضارها جميعاً بذات الأمر الإلهي من غير ان يلحق فعل بغير صاحبه، وليس لأي انسان ان يتمسك بفعل معين من الصالحات ويدعي انه فعله وما أكثر الدعاوى الباطلة في الدنيا والظن المرجوح والوهم،
اما في الآخرة فلا دعوى الا بالحق، بل ان الدعوى في المقام سالبة بانتفاء الموضوع لأن أعمال العبد تحضر عنده من غير زيادة او نقيصة نعم قد تحصل نقيصة ولكنها في طرف الذنوب والسيئات لمحو ما يهجم عليها الإستغفار، مما يكون عيداً عند الذي ظفر بنعمة التوبة وانتفع من الندم والإنابة لتمتلأ نفسه غبطة وسعادة بهذا النقص.
وليس من أحد يوم القيامة يتبرع ويحمل عن غيره وزر ذنب واحد عنه وان كان صغيراً، فلولا ما فتحه الله من الشفاعة لكان يوم القيامة يوم التبرأ والنفرة، لكن عز وجل انعم على خاصة عباده بالشفاعة ليبقى الأمل مصاحباً للإنسان حتى في عالم الحساب والجزاء.
ومن الإعجاز المقرون باللطف الإلهي ان الآية لم تقل بحضور العمل مطلقاً، بل انها ذكرت حضور الصالحات وبدأت به مع انها لم تغفل عن ذكر الذنوب وحضورها ولكن الكيفية والصيغة تختلف بما يمنع من اليأس والقنوط ويبعث على الرجاء،
لقد اراد الله بهذه الآية للإنسان ان يشعر بالخوف والرجاء معاً ليسيران متوازيين من غير تعارض بينهما وكل واحد منهما يعضد الآخر في الحث على الصالحات واجتناب السيئات، فالآية وان جاءت بصيغة الجملة الخبرية الا انها بشارة وانذار، ووعد ووعيد، وباعث للغبطة في قلب المؤمن الذي يعمل الصالحات والخوف والحزن في قلب الكافر، وهي مناسبة لنشر احكام الإسلام، لتتجلى فلسفة البشارات والإنذارات القرآنية فالبشارة حافز لإقتناء الصالحات والتسابق في الخيرات، والإنذار زاجر عن السيئات، لقد جاءت الآية بالإخبار عن احضار العمل ويحتمل وجهين:
الأول: حمل الآية على الظاهر وان ذات الفعل المادي الخارجي يكون حاضراً.
الثاني: ذكره في صحائف الأعمال واحضار ما دونته الملائكة من أعمال بني آدم، والأول بعيد لأنه يستلزم اتيان أطراف للفعل بمعنى اعادة ذات الفعل وقيام الفاعل به على سبيل الإعادة والتمثيل وهذا ما لم يقل به احد، كما ان منطوق الآية ينفيه وهو ان الإنسان يجد فعله لا ان يعيد ذات الفعل، كما ان الآية جاءت بذكر النفس وليس الإنسان المركب من الروح والبدن،
وظاهر الآية ان الفعل يكون حاضراً امامه وكأن الملائكة تحضره الى المحشر قبل ان يصل الإنسان وهو من الدقة والأتقان في العمل ولتمام الحجة على الإنسان، وجاء الإخبار عنه لطرد الغفلة ولغايات الترغيب والترهيب.
وهل ينحصر موضوع الآية وحضور عمل الخير بالمسلمين الجواب لا، لأن الآية جاءت على نحو العموم والشمول الذي تدل عليه (كل) الإستغراقية وهو سور للموجبة الكلية ويدل على ثبوت المحمول لجميع أفراد الموضوع وهذا من الإنصاف الذي يحتاجه العبد وهو فرع العدل الإلهي، فكل عمل خير يحضر لصاحبه ولا يحجب عنه وان كان ظالماً او فاسقاً كما ان كثرة الذنوب لا تمنع من حضور عمل الخير، ومن اللطف الإلهي ان الآية بدأت بذكر الصالحات وبخصوص أوان احضار طرفي الأعمال الخير والسوء وجوه:
الأول : ان يحضرا معاً ويكونا أمام الإنسان.
الثاني : حضور عمل الخير قبل الذنوب والفواحش.
الثالث : سبق الذنوب في أوان الحضور.
ومن فضله ورحمته تعالى ان اعمال الخير هي التي تحضر اولاً وتدل الآية على التباين الموضوعي في كيفية الحضور، فأعمال الخير تحضر بالذات وبالتمام من غير نقصان وتكون ظاهرة للعيان، يراها العبد فتبعث الطمأنينة والسكينة في نفسه، وهو استقبال كريم من عالم الآخرة للإنسان من غير تضييع على الإنسان فحتى في يوم القيامة يحضر اللطف الإلهي ليبدأ عالم الحساب بالحسنات وحضورها، لتشع اشراقة الأمل في نفوس العباد.
وفيه ترغيب بالصالحات وحث على ملاقاة المزيد منها يوم القيامة، وهل تحضر الحسنات باشخاصها كمها ومقدارها من غير المضاعفة والتي وعد الله عز وجل بها والنماء والزيادة التي جاءت السنة النبوية بالإخبار عنها، ام ان أفعال الخير تحضر بالهيئة النهائية هي ومضاعفتها بفضله تعالى، الأقوى هو الأخير، والفرق بينهما أمر صغروي فحتى حضور ذات الأعمال من غير زيادة فان المضاعفة تكون معلومة ومعروفة نعم حضورها مع الزيادة أحسن وأفضل للعبد، وتلك الزيادة تجعل العبد يطمع في زيادة اضافية أخرى.
وجاءت الآية بصفة النفس وليس الإنسان او العبد او ابن آدم او الروح، لبيان تعلق الأفعال بالنفس التي توجهت اليها خطابات التكليف، ولبعثها على فعل الخيرات واجتناب السيئات والخير.
قوله تعالى [وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا]
بعد ذكر الصالحات واحضارها في الآخرة وكأنها عضيد أرسله الإنسان قبله ليكون في استقباله في عالم الحشر وما فيه من الوحشة والخوف والفزع، ويهيء له حالاً من السكينة والطمأنينة، جاء ذكر الشق الثاني من الأعمال وهو نقيض الأول بالذات وألأثر، والتناقض والتنافي في الأثر أكبر وأشد،
فالخير والسوء يلتقيان في جنس العمل ويختلفان في الماهية والموضوع والحكم، اما من جهة الأثر فبينهما تناف وتضاد مطلق ومن كل الجهات، فالصالحات تقود الى الجنة، والسيئات تسوق الى النار وليس في الصالحات الا العاقبة الحسنة والجزاء الجميل، اما بالنسبة للذنوب فانها تؤدي الى العذاب والخلود في النار.
وكما في عالم القبر وادخال الميت فيه فانه يستحب تقريب الميت الى القبر على نحو تدريجي كي يستعد له مع تلاوة القرآن والدعاء له بالمغفرة، وفي عالم الآخرة يتفضل الله عز وجل على العباد لجعل الخير والصالحات هي الحاضرة امام العبد، ثم جاء ذكر السيئات.
ومن الإعجاز والرأفة الإلهية انها لم تذكر بلغة الإحضار ولو على نحو الظاهر فضلاً عن النص، مع ان الأصل يقتضي المشاكلة والمماثلة بينها وبين الصالحات في عرضها كأعمال امام صاحبها، خصوصاً وان عرض السيئات مصداق للوعيد الذي جاء على لسان الأنبياء وفي الكتب السماوية المنزلة.
ونسبت الآية عمل السوء الى النفس باعتبار انها صاحبة القرار وان الجوارح مستجيبة لها فيما فعلته وعلى القول بان الواو للعطف فيكون المراد ان ما عمل الإنسان من سوء يكون حاضراً ايضاً مع الخير عنده، اما على القول بان الواو للإستئناف فيكون الموضوع مختلفاً وهو عموم المعنى، والثاني هو الأرجح بظاهر الآية.
والقدر المتيقن منه ان الإنسان يحاول الفرار مما فعله من السيئات ولا دليل على حضوره عنده مع ما فعله من الخير، والله عز وجل اكرم من ان يجمع فعل الخير والشر في موطن وحال واحدة وحينما تفضل على الإنسان بالرحمة والرأفة وأحضر له حسناته فانه سبحانه يرأف ويلطف به ولا يجعل السيئات تحضر معها، والآية تحتمل اموراً:
الأول: انها عامة للناس جميعاً.
الثاني: تتعلق الآية بمن يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وتكون كفتا الميزان متقاربتين.
الثالث: الآية خاصة بالمسلمين من ارتكب السيئات الى جانب الصالحات، فخصائص الإيمان تجعل الخير يحضر امامه، اما السيئات فان الله عز وجل يجعلها كالمعلقة، للتشريف والمائز بالإيمان.
والأصح هو الوجه الأول لعموم رأفته وسعة رحمته “وقد ورد في الحديث عن سلمان أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تبارك وتعالى خلق يوم خلق السموات والارض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والارض، فأنزل منها إلى الارض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، حتى أن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ، فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى هذه الرحمة إلى التسعة والتسعين ، فأكملها مائة رحمة فيرحم بها عباده” وبقرينة ما جاء في أول الآية من اطلاق الحكم فيكون المعنى وما عملت كل نفس من سوء.
والأمد هو الغاية والمدى والفاصلة، أي ان كل انسان يتمنى بينونة عزلة بينه وبين أفعاله السيئة وهذا الود والتمني متعلق بيوم القيامة وان كان لا ينفي حصوله في الدنيا ايضاً خصوصاً بالنسبة للتائبين والمستغفرين.
وتبين الآية بقاء حال التمني والود عند الإنسان، ولم تقل الآية بان الإنسان يدعو ويسأل ربه ان يكون هذا الأمد حاجزاً وبرزخاً بينه وبين ما اقترفه من السيئات،
فالود لم يرق الى مرتبة الدعاء وليس فيه منافعه , وهل يحتمل ان يكون الود يوم القيامة مختلفاً كيفية ومضموناً عن الود في الدنيا والإستجابة له تكون أقرب وأكبر، لا دليل على مثل هذا التباين، والدعاء عمل وان كان مركباً من ألفاظ وهو خطاب توسل وسؤال موجه الى الله تعالى، الا انه سعي وقصد ونية، ويوم القيامة ليس فيه عمل وسعي لأن الآخرة دار حساب بلا عمل، لذا لم يستطع الإنسان ان يدفع عنه عمل السوء الذي أقترفه، فينحصر الأمر بالود وهو حالة نفسانية ورغبة ذاتية لإرادة الشيء، وهذا الود له وجوه ومضامين منها:
الأول : ان الإنسان يندم على فعله السيئات.
الثاني : يتمنى انه لم يفعلها في الحياة الدنيا، ولم يرد تمني العكس بالنسبة للخيرات، أي ان الآية لم تخبر عن ود وتمني الإنسان بزيادة ما فعله من الخير وزيادته لأن مثل هذا الود مترشح انطباقاً عن عرض الخيرات ورؤية ما لكل فرد منها من عظيم النفع، ولأن المضاعفة والنماء في الحسنات موجود بما لايتوقعه من طرف الكثرة والزيادة.
الثالث : يأسف الإنسان لفوات الندم والإستغفار وعدم استثماره للحياة الدنيا للتوبة، فقوله تعالى [تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا] أي تداركها بالإستغفار وحجبت عنه بالتوبة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من خصائص يوم القيامة وان الكافر والفاسق يرى صاحبه المؤمن في الدنيا كيف حجبت عنه سيئاته، كما لو كانا يفعلان المعصية، ولكن احدهما أختار الإسلام وتقيد بأحكامه، والآخر ظل مقيماً على الجحود والمعصية فيرى صاحبه وقد جاء وليس عنده سيئات وهو يعلم انهما يقترفانها معاً، او يأتي بالمسلم ليشهد على هذا الكافر، بينما لا يحق للكافر ان يشهد على المسلم لعدم وجود مدع على المسلم ولإسقاط أصل الموضوع.
ولو ذكر الأمل مجرداً لكان كافياً لبيان الود والتعبير عن النفرة والبغض لحال السيئات وفعلها، ومع هذا فقد جاءت الآية بذكر قيد (بعيداً) لتأكيد رجاء البعد وليكون بينه وبين الذنوب بينونة عزلة، ويتصور هذا الأمد على وجوه:
الأول : عدم اقتراف الإنسان لفعل السيئات ايضاً لأن فعلها هو العلة والسبب في حضورها، والله عز وجل عادل لا يظلم أحداً شيئاً، فما لم يفعله الإنسان من السيئات لا ينسب اليه.
الثاني : حجبها عنه وعدم احضارها في الآخرة.
الثالث : يود لو لم يحاسب عليها اصلاً وان لاتحضر من أفعال الإنسان الا الصالحات.
الرابع : حضور الشفيع الذين يدفع السيئات ويمنع وجودها.
الخامس : اطالة أمد الإنتظار وتأخر حصول الحساب، رجاء الرحمة مدة التأخير خصوصاً مع العلم بواسع رحمته وما بشر به الناس من تغشي أهل الحشر بانواع الرحمة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكل واحد منها مصداق للود خصوصاً وان الود فرع التمني وهو عالم رحب عند الحاجات والرغائب والأمل والخوف والحزن، ومع ما في الآية من الذم والتقبيح للكفار والظالمين والفساق فان فيها اشارة الى عدم انقطاع الأمل والرجاء يوم القيامة عند كل انسان، والآية في مورد الوعيد والتخويف والإنذار ومضامين الرحمة والرأفة ظاهرة فيها لأنها تذكر حضور أعمال الصلاح عند العبد يوم القيامة لتكون له سلاحاً وواقية وملاذاً، اما ما أقترفه من الذنوب والمعاصي فجاءت الإشارة اليها والتلويح باحضارها،
وفي الآية نكتة وهي امكان قيام الملائكة والصالحين بالدعاء للمؤمنين بمغفرة ذنوبهم ليأتيهم الرزق والخير من حيت لا يحتسبون الا ان يرد مانع شرعي وهو مفقود في المقام لأن الله عز وجل اذن بالدعاء على نحو الإطلاق للذات والغير.
وفي الآية اشارة الى وجود حالة تمني عند الإنسان يوم القيامة، وان الرغائب لا تنقطع في نفسه ولكنها تنحصر بعالم الأعمال والحساب , وجاء الود في عمل السيئات، واما المؤمن فانه يرجو الله يوم القيامة لزيادة حسناته ومحو سيئاته ورفع درجته.
قوله تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]
لم يرد هذا اللفظ في القرآن الا مرتين في هذه الآية وقبل آيتين فيما يتعلق بالتحذير من تولي المؤمنين للكافرين، وفي الآية وعيد وتوكيد له وتخويف من بطشه تعالى يوم القيامة، والتحذير لطف الهي وفيه وجوه:
الأول : ان الله عز وجل يحذر الناس بنفسه من خلال الكتب السماوية المنزلة وبعثة الأنبياء.
الثاني : تفضله تعالى بالتحذير بنفسه يعني أهمية وخطورة الأمر ولزوم أخذ الحيطة والحذر واليقظة.
الثالث : جاء التحذير من مقام الربوبية الى العباد فهو رحمة اضافية بهم.
الرابع : من مضامين التحذير الإلهي قيام الأنبياء والأولياء بالتحذير والتنبيه على الإستعداد ليوم القيامة ولا مانع من ان يكون الإنسان متلقياً للتحذير منه تعالى ومحذراً لغيره.
الخامس : المراد من الآية ان الله يحذر الناس من عذابه وبطشه ونقمته لمن يرتكب السيئات.
السادس : في الآية اشارة الى انه تعالى على كل شيء قدير وان الملك يوم القيامة بيده سبحانه جاءت الآية في بدايتها بصيغة الخبر والبيان، ثم انتقلت الى صيغة الخطاب والتحذير مما يعني ارادة الناس جميعاً وتحذيرهم من أهوال يوم القيامة.
السابع : الآية أعم من أن تنحصر بارتكاب السيئات او حضور الأعمال، بل ان التخويف جاء كدعوة للتسليم بصدق النبوة ونزول القرآن، لأن هذا التسليم سبيل النجاة في النشأتين.
الثامن : هذه الآية نفسها من التحذير والتنبيه، أي ان الآية القرآنية ذاتها تحذير ووعيد، ثم يأتي الإخبار عن التحذير الإلهي لتأكيده لبيان ان أمر الآخرة وحضور الأعمال يومئذ يستحق التأكيد.
التاسع : لقد تفضل سبحانه بتحذير العباد ليكون هذا التحذير حجة وموعظة ودرساً.
قوله تعالى [وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]
من صفاته تعالى الرؤوف والرأفة أخص الرحمة، والله هو الذي يرأف بعباده فيمن عليهم بالفيوضات والألطاف فالتحذير وتقديم فعل الخير من الرأفة، والإشارة الى السيئات وضررها يوم القيامة من رأفته تعالى، والحساب والجزاء يدخلان في رأفته ورحمته تعالى بالناس، وتعتبر خاتمة الآية بشارة نزول الرحمة والعون الإلهي على اداء العبادات والهداية الى الإسلام، ومن رأفته تعالى نزول القرآن وتحذير الناس بآياته وبلحاظ مضامين هذه الآية فان الرأفة فيها على وجوه:
الأول : التوكيد على المعاد , وحتمية البعث , وحضو رالعباد بين يديه تعالى، فما من نبي بعثه الله الا ويبين للناس أحكام المعاد , وشطراً من دقائقه لبعث الخوف والأمل في النفوس.
الثاني : ابتداء الآية بقوله تعالى [يَوْمَ] وهو دعوة للإلتفات للأمر , والإٍستعداد لهذا اليوم.
الثالث : جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ] وتتضمن الإنشاء والإنحلال بعدد افراد جنس الإنسان، أي ان الآية تخاطب المكلف وتقول له، يوم تجد ما عملت من خير محضراً.
الرابع : ومن وجوه الرأفة الإخبار عن حضور الأعمال وهو على ثلاث شعب:
الأولى: حضور عمل الخير والصالحات.
الثانية: التذكير بعمل السوء والإخبار عن احصائه , وقربه من فاعله يوم القيامة.
الثالثة: حضور الصالحات والسيئات جميعاً عند الإنسان , ليكون الإنسان في الدنيا حكماً على نفسه وكأنه في عالم الآخرة باستحضاره لأعماله وفق موازين العقل، لتنمية ملكة الإستعداد ليوم الحساب.
الرابعة : رأفته تعالى أعم من ان تتضمنها هذه الآية، ولكن مواضيعها جزء من رأفته تعالى.
الخامسة : تعلق الرأفة بالعباد وليس بالمؤمنين والمسلمين على نحو الخصوص، وهي اشراقة قرآنية تبعث الأمل عند كل انسان.
بحث بلاغي
من أقسام البديع الإلتفات وهو نقل الكلام من صيغة الى اخرى بلحاظ جهات الخطاب:
الأولى : المتكلم وانه يخبر عن نفسه.
الثانية : المخاطب- بفتح الطاء- وان المتكلم يوجه خطابه لمن يسمعه، ويقصده في ماهية الكلام والأمر والنهي ونحوه من الإنشاء،او الخبر والواقعة.
الثالثة : لغة الغائب، وان المراد من الكلام هو الغائب فالإلتفات انتقال في جهة الخطاب والمراد جهته اثناء الكلام وتوالي الجمل، فينتقل المتكلم من الخطاب الى الغيبة وبالعكس، وفائدته طرد الملل عن السمع، وتطرية الكلام، ومراعاة ميل النفوس الى حب التنقل، وجذب الأذهان لموضوع الكلام، واثارة الحرص لمتابعته.
الرابعة : وقد تقدم ان المقاصد السامية للإلتفات في القرآن اعم من موضوع البلاغة، فهو مدرسة قرآنية تأديبية ترشد الناس الى سبل الصلاح والهداية.
ووردت في هذه الآية قواعد كلية كلامية وهي وان لم تكن من صيغة الغائب في الخطاب الا انها تهم الناس جميعاً وهي:
الأول : افتتاح الآية بذكر (يوم) على نحو التنكير وارادة يوم القيامة منه، ووروده بلغة التنكير شهادة قرآنية لإرتقاء المسلمين في عالم العقائد، ومعرفتهم لأصول الدين، اذ ان اذهانهم تبادر الى استحضار يوم القيامة، وفي علم الأصول يعتبر التبادر من علامات الحقيقة ومسقطاً لإحتمال المجاز وعليه المشهور الغالب بالإضافة الى قرينة ما يحصل يوم الحساب كما ذكرته الآية.
الثاني : عدم ضياع الحق او غيابه او خسارته.
الثالث : عموم النفع وعدم انحصاره بأهل الإيمان، وان كان حضور الأعمال أعم من الإنتفاع منها، فقد تحضر الصالحات التي تعلمها الإنسان، ولكنه يحرم من الإستفادة منها في موازين الأعمال، وما كان فاقداً لقصد القربة الى الله هل يكون من الخير الذي يحضر ام لا يكون منه باعتبار ان قصد القربة مقوم لمصداق الخير، الجواب ان لفظ الخير أعم من الصالحات وما لايتقوم الا بقصد القربة، بدليل منطوق الآية ذاتها، وهو اطلاق لفظ النفس بسور الموجبة الكلية (كل) بقوله تعالى [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا] وهو من رحمة الله يوم القيامة ان يؤتي كل ذي حق حقه، ثم تذهب أعمال الظالمين هباء بما كسبت ايديهم.
الرابع : التمني والرجاء بابعاد اعمال السوء , وعدم حضورها الى جانب اعمال الخير، وهذا الود هل هو طمع ذاتي ومتأصل في النفس الإنسانية , ام انه فرع الطمع برحمته تعالى، الجواب هو الأخير.
الخامس : ينشرالله عز وجل من واسع رحمته ما يجعل كل انسان يطمع بغياب سيئاته ومحوها وعدم حضورها معه للحساب وهذا الأمد البعيد الذي تتمنى النفس ان يكون فاصلاً وبرزخاً بينها وبين ما اقترفته من السيئات لا ينحصر بيوم القيامة بل يشمل ارتكاب الذنب وتمني عدم حصوله وعدم اجتماع شرائطه ومقدماته وأسبابه من رفقة السوء وغلبة النفس الشهوية والغضبية وأغواء الشيطان،
والود هنا مركب يتعلق بساعة احضار الأعمال في الآخرة، واوان أداء الفعل في الدنيا، بل ان هذا الود نفسه يصاحب النفس اللوامة، والتائب من ذنوبه في الحياة الدنيا فيبادر الى التوبة والإستغفار.
السادس : البعد الذي ورد صفة للأمد (أمداً بعيداً) يشمل الزمان والمكان معاً.
ثم انتقلت الآية الى لغة الخطاب وتوجهت الى المسلمين في صيغة انذار وتحذير وتنبيه، لأن صيغة الغائب والقواعد الكلية جاءت للناس جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فارادت الآية ذكر خصوصية للمسلمين في ساعة احضار الأعمال،
وفيه تأكيد على ان القرآن تبيان لكل شيء , وان الله فضل المسلمين في كل موطن، فمع تفضيلهم يوم القيامة فان ذكر موضوع احضار الأعمال، ورد فيه تفضيل وتشريف خاص بالمسلمين اذ انفردوا بالتحذير منه تعالى، فهذا التحذير رحمة ورأفة ودعوة الهية للإنتفاع من العلوم التي يتضمنها موضوع احضار الأعمال يوم القيامة من العلوم التي يتضمنها موضوع احضار الأعمال يوم القيامة.
وهو من خصائص الإلتفات في القرآن بان يتضمن العز والرفعة للمسلمين حتى في عرض وقائع يوم القيامة ليتزود المسلمون بالصالحات في الدنيا ويتجنبوا السيئات , ويبادروا الى الإنابة والإستغفار،
وبعد لغة الخطاب في التحذير المبارك، ترجع الآية الى بيان قاعدة كلية تتغشى الناس جميعاً وهي كونه تعالى رؤوف بالعباد، وتلك حقيقة ثابتة لابد من استحضارها في ابواب الرفعة والإرتقاء في منازل الثواب، وعند الوقوف بين يديه تعالى للحساب، بل وحتى في ايام الحياة الدنيا، فاذا قلت من رأفته تعالى المسلمين انه حذرهم , فما هي مصاديق رأفته في الدنيا بالنسبة للكافرين، الجواب فيه وجوه:
الأول: ان بيان هذه القواعد الكلية في الآية الكريمة خطاب وتحذير للناس كافة.
الثاني: ينتفع المسلمون من التحذير بالذات ولغة الخطاب، وينتفع منه شطر من الكافرين بالعرض ويكون دعوة لهم للإسلام،
الثالث: صحيح ان نظم الآيات يفيد ارادة المسلمين بلغة الخطاب في هذه الاية، الا ان لغة التحذير فيها آية تشمل غير المسلمين بالأولوية القطعية، فاذا كان التحذير موجهاً للمسلم فانه موجه للكافر بصيغة الإنذار والتخويف بلحاظ اصراره على المعصية وارتكابه للسيئات التي تشير اليها الآية الكريمة، وغياب الصالحات عن صحيفة اعماله.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (التقسيم) ويراد منه في الإصطلاح البلاغي ذكر أقسام الشيء الموجودة على نحو الحصر ومن غير ان تشمل الأفراد الممكنة عقلاً منها،
وذكر علماء البيان مثالاً للتقسيم قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا] ( )، وقال السيوطي: ليس في رؤية البرق الا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين( )،
ولكن الغايات الإلهية السامية من البرق أعم من الخوف من الصواعق او الطمع في المطر فانه تذكير بيوم القيامة وأهوال العقاب، وتوكيد لضعف الإنسان وعجزه عن درء الأخطار عن نفسه وما يحيط بالناس جميعاً،
وفيه قهر للأنظمة الكونية الثابتة، والطمع لا ينحصر بالمطر بل بنزول الرحمة الإلهية , والتغيير والإنتقال من حال راكدة الى حال احسن وأفضل باشعاع من نور رحمته، وهل الخوف والطمع المذكوران في الآية من باب الحصر ام من باب ذكر الفرد الأهم
الأقوى هو الأخير لأن المقاصد الإلهية من البرق متعددة فتشمل الرجاء والرضا بحكمه تعالى والقبول بعظيم صنعه والإقرار ببديع خلقه، والإقرار بآياته الكونية، وهو مدرسة لمراجعة الذات والأعمال، نعم يمكن ان يقال ان هذه الوجوه كلها تدخل ضمن قسمي الخوف والطمع بمعناهما الأعم،
وان وظيفة العلماء التفصيل والبيان وذكر أفراد كل قسم وما يخص كل فئة من الناس دون اخرى، فمنهم من يغلب عنده جانب الخوف ومنهم من يغلب جانب الطمع،ومن التقسيم ذكر الأعمال في هذه الآية، فالآية ذكرت قسمين للأعمال التي تستحضر يوم القيامة:
الأولى : اعمال الخير، والصالحات التي أكتنزها العبد في الدنيا وأتخذها زاداً لآخرته.
الثانية : اعمال السوء التي تجلب عليه الأذى والعقاب، وهناك أعمال من المباحات لم تذكرها الآية فهل تلحق بالمستحبات واعمال الخير فالأكل والشرب من المباحات وهل يحتسب من الخير اذا لم يكن من موارد الحرام، باعتبار انه ليست من السيئات، ويمكن معها ان نؤسس قاعدة وهي كل ما لم يكن من السوء فهو من الخير، لا دليل على هذه القاعدة لوجود مقومات لأفعال الخير والصلاح،
فالآية ذكرت قسمين بلحاظ حضور الأعمال يوم القيامة بشرط توفر قيدهما في الدنيا، فأعمال الخير التي تحضر في الآخرة لابد وان تكون بخصائص وصفات الخير في مفاهيم الدنيا، وكذا بالنسبة للسيئات، وهذه المفاهيم يتضمنها الكتاب والسنة، مما يلزم الرجوع الى القرآن والسنة النبوية لمعرفة ملاكات الأعمال ومدار التقسيم والتمييز، فلذا جاء التحذير بلغة الخطاب [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] وان التحذير جامع للتحذير منه تعالى الا ان يشاء الله الحاق المباحات بالصالحات، ومن عقابه لأنه بعث الأنبياء وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ومبينين لأعمال الخير والصلاح، وناهين عن اعمال السوء،
قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]الآية 31
الاعراب واللغة
قُلْ: فعل امر، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت.
إِنْ: حرف شرط جازم، كُنْتُمْ: فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها، تُحِبُّونَ: فعل مضارع، والواو فاعل، اسم الجلالة: مفعول به، وجملة تحيون خبركان، فَاتَّبِعُونِي: الفاء رابطة لجواب الشرط، َاتَّبِعُونِي: فعل امر، والواو: فاعل، والنون للوقاية، الياء: مفعول به، والجملة في محل جزم جواب الشرط وجملة ان كنتم مقول القول، يُحْبِبْكُمْ: جواب الطلب، والضمير مفعول به، اسم الجلالة: فاعل مرفوع.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ: عطف على يحبكم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: الواو: استئنافية، اسم الجلالة: مبتدأ، غَفُورٌ رَحِيمٌ: خبران للمبتدأ.
تبع الشيء تبعاً: يأتي في الأفعال بمعنى التعاقب والتوالي، وتبعت الشيء: سرت في أثره، والتابع : التالي، والجمع تبع، وتبّاع، وتبعت الشيء وأتبعته: ردفته وأردفته، وأتبعت القوم: لحقتهم،
والذنوب جمع ذنب، وجمع الجمع ذنوبات، والذنب: الإثم والجرم والمعصية، ومن الآيات في الآية انها ذكرت الذنوب ولكن بلحاظ مغفرتها ومحوها مع بيان عظيم فضله تعالى وتوكيد ربوبيته فلا يستطيع مغفرة الذنوب الا هو سبحانه.
في سياق الآيات
بعد الاخبار عن علمه تعالى بما تخفي الصدور وظهور الأعمال كلها عنده، جاءت هذه الآية للتحدي وكشف بواطن النفوس بالفعل الخارجي الدال على الايمان، ولتكون مقدمة للآية التالية بالدعوة للايمان بالله ورسوله.
اعجاز الآية
تبين الآية موضوعية حب الله وانقطاع العبد اليه وانشغاله بسبحات وجهه الكريم، والملازمة بين حب الله واتباع الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون الحب وسيلة للايمان وبرزخاً دون الكفر والجحود والضلال، والآية مدرسة في العرفان وفي معرفة الحب وآثاره المباركة على العبد وفي العقائد وعالم الحساب ويفتح باب المغفرة وما يترسخ عنه من محو الذنوب وستر الخطايا، والآية من صيغ الدعوة الى الاسلام، وهو من الإعجاز في نظم الآيات اذ تجعل الأذهان تنقاد الى مضامينها وهي تأخذها بلطف من حدائق الحب القلبية الى مباهج العمل السليم، وما يعقبه من البشارات , وعناوين السعادة الدائمة,
ومن الإعجاز في الآية بيان التداخل بين الميل النفسي ونوع الفعل , وهو مدرسة في آثار الملكات واصلاح النفوس في تقويم الأفعال، فمن الإعجاز في الآية بيان عظيم احسانه وتأكيد سعة رحمته تعالى، فتضمنت الشرط والرزق الجزيل بنيل محبته تعالى , والوعد الكريم بالعفو والمغفرة بقيد الإنقياد لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عنده تعالى واتباعه في سننه كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور “صلوا كما رأيتموني أصلي”، ويمكن تسمية هذه الآية بآية (تُحِبُّونَ اللَّهَ) ولم يرد هذا اللفظ وقوله تعالى (يُحْبِبْكُمْ) الا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية مدح وثناء على المسلمين لانهم يتبعون الرسول محمداً مما يدل على نيلهم لمحبة الله تعالى واحرازهم لرضاه، والآية بشارة المغفرة والتوبة، وتنمي ملكة الاحتجاج عند المسلمين بايراد مثل له وشاهد على صدق الدعوة من عدمه.
مفهوم الآية
تنهى الآية في مفهومها عن الجحود والصدود وادعاء محبته تعالى من غير مبرز خارجي، فحبه تعالى يتجلى باتباع الانبياء، وجاء هنا بالتسليم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص لانه خاتم الانبياء وسيد المرسلين، بمعنى ان حب الله لا يتم مصداقه باتباع الانبياء السابقين فقط دون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لان الاسلام هو الشريعة الناسخة، وما عند الانبياء السابقين عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولابد من الايمان بجميع الانبيـــــــــاء
والانقياد والتسليم بما جاء به النبي الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كانت نبوته امتحاناً واختباراً للناس جميعاً ولاهل الكتاب بالخصوص، فالوثنيون والمشركون يدعون الى الديانة السماوية، واهل الكتاب يدعون الى ترك دينهم السماوي والالتحاق بالاسلام، وتلك مسألة مركبة تحتاج الى الايمان، لذا خفف الله عنهم ورفع عنهم اللبس وأقام عليهم الحجة , فجعل انبياءهم يبشرون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتضمنت الكتب السماوية النازلة الاخبار عن نبوته، بل ان البشارات بنبوته مستمرة من ايام ابينا آدم عليه السلام،
وهل كل الانبياء منذ ايام آدم قد بشر بهم قبل بعثتهم أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده ولماذا هذه الخصوصية، الجواب ان القدر المتيقن من البشارات تعلقها بالرسل ومن ذكر في القرآن بالبشارة كيحيى ولا مانع من شمول غيرهم ,وأختص الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم باتصال البشارة به من آدم الى عيسى لأنه خاتم النبيين ولان شريعته ناسخة للشرائع وليس لها شريعة ناسخة، وموضوع الآية يتكون من أركان:
الأول: حب العبد لله تعالى، وصدقه واخلاصه في هذا الإدعاء،
الثاني: الملازمة بين حب العبد لله وبين اتباعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت الآية بصيغة الجمع [إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ] لشمول الآية للجماعات والمذاهب والملل بالإضافة الى الأفراد،
الثالث: حبه تعالى للعبد , وجاء مقيداً باتباعه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: مغفرته سبحانه للذنوب، وهي ثواب لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
كما ان الانبياء الذين يبعثون قبل كل رسول يبشرون به، وليس من شئ عند العباد والمؤمنين خاصة افضل واهم من حب الله سواء حب الله للعبد، أو امتلاء قلب العبد بحبه تعالى، والطرف الأهم الذي يغمر الانسان بالسعادة والغبطة في الدارين هو حب الله للعبد،
فيكون مضمون الآية بان من يحب الله يتبع الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , ومن يتبعه يحببه الله ويغفر له ذنوبه، ليكون من باب السبب والمسبب.
افاضات الآية
لقد جعل الله عزوجل قلب الانسان بستاناً لزراعة الحب، وهذه الزراعة قد تكون نبتاً طيباً كريماً يفوح منه عطر الايمان بان يزرع فيه سجايا
حبه تعالى، ليكون له ضياء ينير له دروب الهداية ويقوده للتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من الدلالات القاطعة والبراهين الساطعة.
وتنشر الآية معاني الحب بين الناس، لان حبه تعالى يؤدي الى حب عباده واكرام اوليائه، والمعروف ان المغفرة تدرك بالاستغفار والانابة والعمل الصالح، وهذه الآية تبين طريقاً وموضوعاً آخر للمغفرة وهو حبه تعالى،
لقد ارادت الآية لقلوب العباد التطهير والتنزه عن الرذائل، وما يشغل القلب عن طاعته تعالى.
اسباب النزول
الأول : اخرج ابن جرير عن الحسن قال: قال قوم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يامحمد انا نحب ربنا فانزل الله [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم علماً لحبه وعذاب من خالفه( ).
الثاني : وورد مثله بطرق اخرى فعن عباد بن منصور قال:ان اقواماً كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزعمون انهم يحبون الله فاراد الله أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل فقال إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية فكان اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصديقا لقولهم( ).
الثالث : روي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال: يا معشر قريش لقد خالفتم ملة ابراهيم، فقالت قريش: انما نعبد هذه حباً لله تعالى ليقربونا الى الله زلفى، فنزلت هذه الآية( ).
الرابع : في اسباب النزول عن ابن عباس: ان اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود ، فأبوا أن يقبلوها( ).
وفيه ايضاً عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله وتعظيما له، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم.
لما نزل قوله [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ] الآية قال عبد الله بن أبي: ان محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا ان نحبه كما أحبت النصارى عيسى، فنزلت هذه الآية”( ).
التفسير
قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي]
آية جهادية اخرى تطل علينا بأمر وخطاب تكليفي من الله عز وجل الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتمثل بقول ونداء موجه الى الناس بالدعوة الى اتباعه، والضمير الكاف في (إِنْ كُنْتُمْ) فيه وجوه:
الأول : الناس جميعاً.
الثاني : أهل الكتاب.
الثالث : اليهود خاصة.
الرابع : المسلمون.
الخامس : الصحابة.
السادس : قوم مخصوصون يدعون ان الله يحبهم.
السابع : المشركون.
الثامن : ولا تعارض بين هذه الوجوه , فهي دعوة عامة وخاصة فتكون خطاباً للناس جميعاً تنتفع منه كل طائفة وجماعة وفرد،
ونداء خاصاً لكل جماعة وفئة تدعي انها تحب الله , وتظن بان عملها يقربها الى الله تعالى زلفى , واجتماع الخطابات الخاصة يترشح منه خطاب عام يبقى خالداً وموجهاً لكل جيل من الناس،
وفي الآية بيان لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وابتدائه الناس بالخطاب والتحدي بما تظهره الآية من عناوين الشرط والفضح (إِنْ كُنْتُمْ) ولم تجعل الآية برزخاً وترديداً في الحب، وتنفي حصول حب الله بذاته , وعلى نحو مجرد خال من المبرز الخارجي، اما دليله الخارجي فهو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الملازمة شرعية وعقلية، فمن يحب الله يتبع اوامره وينقاد لما جاء به انبياؤه ورسله، فلا معنى للحب مع الجفاء والكفر والصدود،
والحب من المفاهيم القلبية، وقد يظهر أثره على الجوارح , وفي الأفعال وقد لا يظهر او انه يظهر بمراتب متباينة وقد يكون الحب للذات او الولد او الزوجة او الطعام والشراب، وما يشبع الشهوة في المال والجاه او الوطئ والنكاح فلا حصر لمتعلق الحب، والناس متباينون فيما يحبون فجاءت الآية لتبين موضوعية حب الله وانه جزء من عقيدة التوحيد، بواسطة صاحب الكمالات الإنسانية التي تجلت في سنته وجهاده مضامين الحب الإلهي، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في حب الله ومدرسة في تعليم المعارف الربوبية التي تجعل القلب طاهراً من دنس الشرك، لقد اراد الله ان يبدأ التوحيد من القلوب ليكون القلب منشأ الأخلاق الحميدة وقائداً للجوارح في ميادين الإيمان والتقوى.
لقد تفضل الله عز وجل في الآية بأمرين:
أولا: حب الناس له , والإعراض القلبي عما سواه،
ثانياً: ظهور هذا الحب بالإيمان والإنقياد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمر به،
والتحلي بالفضائل والسجايا الكريمة التي تظهر مضامين الإيمان في الأرض وتدعو الناس الى الهداية والرشاد وتمنع من طغيان النفس الشهوية والغضبية، ومع ارادته تعالى من الناس حبه فانه سبحانه غني عن هذا الحب، وهم الذين ينتفعون منه، ويأتي الحب من أحدهم فيستفيد منه هو وغيره ويكون نواة يتسع معها حبه تعالى، والانقطاع اليه، والإخلاص في عبادته،
وجاءت الآية بصيغة الجمع (إِنْ كُنْتُمْ) مما يدل على ان القول والإدعاء لم يصدر من شخص او اشخاص معدودين , بل انه رأي وعقيدة وملة، كما ان تصدي القرآن للمسألة يدل على أهميته وتعدد القائلين به عن قصد، فجاءت الآية لتبطل ادعائهم، وتكشف لهم زيفه، وانه ظن مرجوح، لإن اثبات حب العبد لله عز وجل ينحصر بطريق واحد هو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد لفظ اتبعوني مرتين في القرآن.
وورد حكاية على لسان هارون في قوله تعالى [وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي] ( )، مما يعني ان الإتباع هو اطاعة أمر النبي، وما يأمر به من الوحي والتنزيل، وأخرج الترمذي وابو داود وغيرهما عن ابي رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ” لا الفين احدكم متكئا على اريكته يأتيه الامر من امرى مما امرت به أو نهيت عنه فيقول ما ادرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه “( ).
لقد ارادت الآية تنزيه الواقع العقائدي وتهذيب النفوس، واذ جاءت الآية قبل الأخيرة بالأخبار عن علمه تعالى بما تخفي الصدور وتناولت هذه الآية اظهاره ان كان حباً لله وانقطاعاً اليه، وصحيح ان الحب من المعاني القلبية في بواطن الإنسان الا ان أمره مهم بالنسبة للولاء والإنتماء فمن كان يحب الله لا يخاف المسلمون غدره وكيده، ومن كان يدعي حب الله وهو كاذب فانه يستثمر أي فرصة للإنقضاض على المسلمين، ويغدر بهم من حيث لا يحتسبون .
فجاءت الآية لتعيين العدو من الصديق والحذر ممن يدعي حب الله وهو غير صادق، ويعرف صدق الدعوى باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واطاعة أوامره في العبادات والمعاملات وما جاء به من عند الله.
وتدل الآية على قوة المسلمين وان دولتهم بدأت في التأسيس وطور الإنشاء , لذا جاءت الآيات في معرفة الولاء والبغض ولزوم اظهاره على الجوارح، ومن مفاهيم الآية انها دعوة لترك معصية الله لأن المحب لا يفعل ما يغضب حبيبه بل انه يظهر الإنقياد له، وفيها تشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق لنبوته , وان الله عز وجل يأمر الناس باتباعه ولا يرضى لمن يحبه ان يعرض عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتجتمع الإشراقات الربوبية برسالته فلا غرابة ان يكون القرآن جامعاً للأحكام الشرعية.
وظاهر الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه مطلوب بمرتبة واحدة وان المراد هو التسليم والإنقياد التام لما جاء به من عند الله , لأن الأحكام الشرعية لا تقبل التجزئة والتخيير، فليس للإنسان ان يختار بين صلاة الظهر ونافلتها، او بين صلاة التمام والقصر في الحضر، وحب العبد لله عز وجل لا يعني الأخذ بشطر مما جاء به النبي وترك الباقي ويمكن تسميته (امتحان الحب) فاتباع النبي بكل ما جاء به من عند الله هو الإختبار والفيصل والشاهد على صدق حب العبد لله.
قوله تعالى [يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ]
تبين الآية التعدد والمغايرة بين حب الله للعبد وحب العبد لله , وان الوظيفة الشرعية للإنسان هي حبه لله تعالى والإنقلاع عن الدنيا وملذاتها، والسعي لأن يحب الله، فاذاكان الإنسان يدعي حبه لله وانه فعلاً يحب الله فان الله لا يرضى منه هذا الحب الا ان يكون ظاهراً على الجوانح باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كي يحصل الثواب وينال الجزاء الحسن،
بمعنى ان الذي يحب الله يطيع أمره ولا يعصيه، والطاعة منحصرة بالإمتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد فوض الله لرسوله الكريم ان يخبر عن هذه الحقيقة، وهي انه سبحانه يحب من يتبع رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهل يحصل حبه تعالى باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير ان يحبه العبد الجواب لا، لأن الحب عنوان الفناء الذاتي في الله , وامتلاء القلب بالإيمان كما ان اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى فيه معاني الحب والطاعة والإنقياد لأوامره تعالى، فمحبته تعالى للعبد نتيجة ومعلول لأمرين معاً:
الأول: محبة العبد لله،
الثاني: انقياده , واتباعه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
والآية شهادة سماوية بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان الله عز وجل يهيئ الأسباب لإنقياد الناس له، لقد تفضل سبحانه وانزل القرآن على قلبه , وهو المعجزة العقلية الخالدة، وايده بالآيات الحسية مثل إطعامه الطعام القليل واشباع الكثير به , وانشقاق القمر , ودعاء الشجرة وكلام الذئب الى جانب آيات النصر والظفر والسلامة من الأعداء التي وان ظهر للناس انها حصلت بأسبابها ولكن التحقيق والتدبر يبين ان تلك الأسباب المادية لن تكون كافية وفق موازين وقواعد الأسباب والمسببات لحصول تلك النتائج الباهرة وتحقيق الفتح لولا العناية الإلهية،
وجاءت هذه الآية لتضيف فرداً آخر من أفراد التأييد الإلهي لبعثته صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء الإنذار الإلهي بان نيل محبته تعالى لا تدرك الا باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واذا كان حب الإنسان عبارة عن ميل قلبي ورغبة نحو المطلوب ,وارادة حصول البغية , فان حبه تعالى مغاير لهذه المعاني لأنه سبحانه ليس بجسم وليس عنده ميل او شهوة وحبه يعني الفوز في الدنيا والآخرة والسلامة من الشرور والأذى.
ومن أحبه الله فقد بلغ مراتب العز والسعادة وحاز على الشرف العظيم وأحرز النجاة من عذاب النار، فلا يعذب الله حبيباً له، وأخرج في الدر المنثور عن ابن ابي حاتم، وابو نعيم في حلية الأولياء , والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه يحب على شئ من الجور، ويبغض على شئ من العدل، وهل الدين الا الحب والبغض في الله, قال الله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ]( ).
وعن ابي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قال على البر والتقوى والتواضع وذل النفس( ).
وقوله تعالى [يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] هل هو من عند النبي ام تتمة لأمر الله عز وجل في (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ) الجواب انه تتمة لأمر الله، فالآية عهد ووعد الهي وهو من القضية الشرطية وليس الحملية، والشرطية ما يحكم فيها بوجود نسبة بين قضية وأخرى او نفي وجودها مثل اذا طلعت الشمس فالنهار موجود، ففيها طرفان مع اداة شرط ونحوها، وقد يحصل فيها تعليق او اتصال او تعاند,
اما الحملية فهي تتكون من طرفين ايضاً , ولكن ليس فيها تعليق بل تدل على الثبوت والإتحاد بين الأول والثاني او عدمه.
والآية من القضية الشرطية فاذا احببتم الله فاتبعوا النبي، واذا اتبعتم النبي فان الله يحبكم.
وتبين الآية القاعدة الكلية في المعرفة الإلهية وهي ان العبد يعطي القليل فينعم الله عز وجل عليه بالعطاء الجزيل، فيعطي الحب والميل النفسي ويبرزه الى الخارج باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيرزق أعظم شيء في الوجود، وهو حب الله الذي هو غاية كل مؤمل، والمفتاح الذي يفتح أبواب السعادة الدنيوية والأخروية، فلا فقر أو جوع او حزن او خوف مع حب الله للعبد، لأن حبه تعالى هو اتصال رحمته والتوفيق الى طاعته والتخلص من حجب الشهوة والطمع والغضب ووسوسة الشيطان، فلا يصل الشيطان الى القلب الذي يحب الله، كما ان الذي يحبه الله يكون في مأمن من شروره وأذاه.
لقد أراد الله تنقية قلوب المسلمين من حب الكفار مطلقاً، وفي حال التقية خاصة، فحب الله وحب الطواغيت والكفار من المتناقضين ولا يجتمعان في محل واحد، ولابد من تأكيد الحب بالعمل ليراه الناس والملائكة، ويكون له تأثير واقعي على الذات والغير، لأن علة خلق الإنسان هي العبادة، وعبادة الإنسان ليس مطلوبة للذات فحسب، بل مطلوبة للشخص نفسه ولغيره في دويرته ومن الأجيال المتعاقبة لأنها نوع امانة تأريخية تسلمها ممن هو قبله ويجب ان يسلمها الى من يأتي من بعده.
وهذه القاعدة الكلية ثابتة في مختلف الأزمنة والأمكنة، مع التباين والتعدد في أفراد العبادة مثل كيفية الصلاة والصيام، والا فان الصلاة والصيام مفروضان على الأنبياء من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الحب في الآية ليكون مقدمة ووسيلة لتثبيت العبادة في الأرض، ومن يساهم في تثبيتها فلابد ان الله يحبه لموافقة عمله للغايات والمقاصد السماوية لخلقه.
وتندب الآية الإنسان الى مسألة قد يغفل عنها ولا يلتفت اليها على نحو التوجيه، فلولا (آيات الحب) لترك الإنسان لنفسه الخيار فيما تحب وتهوى ولكانت تتنقل في محل وموضوع الحب والهوى، فتراها في كل ساعة تنتقل الى موضع ومحل وان كان مناقضاً للأول ثم لا تلبث ان تنتقل منه الى غيره مخالف له،
فجاءت آيات الحب لضبط ميل النفس والتحكم الذاتي به، والإختيار وفق قواعد الهداية والإيمان، وفي الحديث القدسي “لا يسعني ارضي ولا سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن”
وكما ان اتباع النبي شاهد على صدق حب العبد لله تعالى ونتيجة حتمية له، فانه حافظ وواقية لهذا الحب، فالحب اذا بقي وحده في القلب من غير ان يؤيد بفعل خارجي، قد يتعرض للزوال والتبدل، فجاء اتباع النبي لتثبيته وجعله ملكة دائمة، وسجية ظاهرة فيترشح عنه حب الله للعبد جزاء وشكراً , وحب الله للعبد من الصفات العقلية وليس من صفات الذات، لمقابلتها بالغضب وعدم المحبة.
وهل محبته تعالى للعباد على مرتبة واحدة، ام انها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من القوة والضعف، الجواب هو الثاني للتباين في مراتب حب العباد لله تعالى ودرجة التزامهم بالأحكام الشرعية والإنقياد لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان جاء الأمر باتباع النبي مطلقاً وظاهره ان على مرتبة واحدة ولكن أي مرتبة من حبه تعالى هي رشحة من رشحات القدس واضاءة في دروب الدنيا والآخرة، وهي قابلة للإتساع والقوة دون العكس لأنه تعالى هو الواسع الكريم.
ولم يرد لفظ يحببكم الا في هذه الآية وفي حبه تعالى للناس واذا أحب الله العبد أحبته الخلائق والناس، لأنه يتحلى بالأخلاق الحميدة والفطرة المستقيمة ولا يعتدي او يظلم، فحب الله يستلزم اصلاح الذات وتنقية الأفعال ويمكن معرفة شرائط حب الله للعبد من الآيات القرآنية كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا]( )، [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا]( )،[ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( )، [إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )،
واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مصداق التقوى، فمن اراد ان يعرف منزلته من التقوى وقربه منها فلينظر الى اتباعه وانقياده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
وتتجلى من الآية نتيجة مباركة وهي وجود قوم وطائفة من الناس يحبون الله ويحبهم الله وهؤلاء هم قادة الامم وحفظة الشريعة والسنن السماوية قال تعالى [فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ]( )،
فوجود الحب المتبادل بين الله والعبد يوجد نظاماً عقائدياً يحفظ الدين والملة ويمنع من استضعاف المسلمين ويجعلهم أعزة أقوياء لا يخشون الا الله، وتقل معه الحاجة الى التقية الظاهرة من الكفار ولا يبتلى المسلمون باحتمال الميل النفسي للكافرين كفرع من التقية او طول التلبس بافعالها ومضامينها، لقد اراد الله عز وجل للمسلم ان يكون عارفاً بربه سالكاً مقامات الشكر والولاء له تعالى،
وفي الآية جذب لأهل الكتاب ودعوة صريحة لهم للإسلام بصيغ الود والمحبة وبتوجيه الواردات القلبية وخلجات النفس الإنسانية والإنتفاع الأمثل من بقايا الحنيفية الإبراهيمية وما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، وتدارك ما لحق البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التحريف والتغيير.
لأن اعادة مضامين البشارة وتثبيتها وازالة غبار التحريف عنها ييسر للعباد اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس أهل الكتاب وحدهم بل غيرهم ممن يحاكيهم في الفعل او يعطي اعتباراً لإختيارهم وتصرفهم ازاء دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فكثير من المشركين يختار الإسلام اذا رأى أهل الكتاب دخلوا فيه فلذا أولى القرآن عناية خاصة بأهل الكتاب واقامة الحجة عليهم والإتيان بالآيات والبراهين التي تؤكد لهم صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ]
من فضله تعالى انه يعطي بالأوفى والأتم , ويجازي بالأحسن ويكتب الحسنة بأضعافها، فالعبد يحب الله ليقابله الله عز وجل بحبه تعالى مع التباين الموضوعي في ماهية الحب، فحب العبد ميل نفسي وتتجلى بمحبة طاعته والإلتزام بأوامره سبحانه واجتناب نواهيه، وعشق جزائه وثوابه , والشوق الى لقائه في الآخرة، واذا أحب الله عبداً تغشته رحمته وعاش لائذاً بقربه من حضرة القدس، واحرز العبور على الصراط والنجاة من أشد مواطن يوم القيامة امتحاناً وشدة،
ان الله عز وجل هو الكافي الذي يكفي احباءه مؤونة الدنيا والآخرة، فالميل النفسي والشوق للقائه تعالى واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب للفوز بحب الله عز وجل، وقيل (محبة الله تعالى للعبد هي ارادة ثوابه)( )،
ولكن محبته تعالى أعم من ان تنحصر بموضوع واحد وهو الثواب او تتعلق بالآخرة وحدها مع عظيم اهميتها وان نيل محبته فيها هو غاية المطلوب الا ان محبته تعالى تشمل الدنيا والآخرة فاتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقروناً بمحبته تعالى يعني النصر والظفر على الأعداء وتخفيف اعباء الحياة والتكاليف والرزق الكريم، وترى نعمة وثروة النفط الهائلة في الدنيا تنفجر على المسلمين، ولا يمكن النظر اليها بلحاظ هذا الزمان واكتشافاته بل انها وليدة تعاهد المسلمين لمناهج اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو جزاء لهم ولآبائهم، وليكون مادة لبقاء الإسلام قوياً عزيزاً، بالإضافة الى كونه استجابة لدعوة ابراهيم [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
فان قلت ان الكفار والمشركين رزقوا النعم الدنيوية ايضاً قلت نعم فانها مصداق لرحمته في الحياة الدنيا الشاملة للبر والفاجر، ولتكون هذه النعم دعوة الى الله ومادة للإستدراج واختباراً.
مع التباين في عالم الآخرة فان الله عز وجل يجعل نعم الدنيا على المؤمنين مصدراً للثواب في الآخرة وليس سبباً للعقاب، ومن فضله تعالى ان عطاءه متصل دائم وهو مظهر من مظاهر تجلي ارادة المحبوب وفي الحديث “سال موسى ربه فقال: اين اجدك يا رب، فقال تعالى: اني عند القلوب المنكسرة” أي انها أنشغلت بذكر الله وكسرها حب الله عز وجل.
وجاءت المغفرة على نحو الإطلاق والعموم، فليس من تقييد لنوع الذنوب التي تغفر بل ان المغفرة شاملة لجميع الذنوب،
فلغة الجمع (ذُنُوبَكُمْ) تفيد العموم وما يأتي به الفرد او الجماعة والطائفة، فالآية دعوة للإنابة والتوبة واللجوء الى طاعة الله، وفي الآية ترغيب بالاسلام وحث عليه، وهذا من اللطف الإلهي ان يقرب العباد الى طاعته وييسر لهم دخول ابوابه , ويزيل عنهم الحجب الظلمانية التي تحول دونه.
علم المناسبة
ورد لفظ (تُحِبُّونَ) سبع مرات في القرآن وليس فيها ذكر لحب الله الا في هذه الآية، وجاءت بصيغة الخطاب والجملة الشرطية (إِنْ كُنْتُمْ) مما يدل على ان مقام حبه تعالى من أشرف المقامات، وتتعلق به أحكام عديدة تتضمن الجزاء الحسن في الدارين، ونيل مراتب الإرتقاء في عالم الملكوت، ومن يحب الله يخشاه ويتقيه، وقد وردت الآيات الأخرى بحب الخير، والناصحين ورجاء المغفرة وحب المال، كما في قوله تعالى [وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا]( ).
فالآية محل البحث آية تأسيسية تضع القواعد لحب الله , وتدعو الناس جميعاً لحبه سبحانه وتبين شرط تلك المحبة اللازم لها وهو التقيد باحكام الاسلام , وبه يعرف الحب من عدمه، لأن الله عز وجل وعد على هذا الحب الوعد الكريم , فليس لأحد ان يدعي حبه لله سواء في الدنيا فيقول انا أحب الله وهو في منازل العناد والصدود يسبب ارباكاً لعمل المسلمين وحينما يؤمرون بقتاله يقولون كيف نقاتل من يحب الله، وقد لا يلتفت بعضهم الى الإحتجاج بان هذا كافر , فجاءت الآية لتبطل الإدعاء الكاذب بحب الله وتجعل المدار على اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فالآية عون على معرفة معادن الناس،
كما ان الجمع بين آيات الحب هذه تتضمن الدعوة الى الإنقلاع عن حب الدنيا للإنقطاع الى حبه تعالى.
ولم يرد لفظ (يحببكم) الا في هذه الآية الكريمة، فقد وردت مادة الحب مرتين , وفيه درس وحث على مراجعة الإنسان لميله النفسي والجهة التي يتوجه اليها في حبه وعواطفه.
وفي غفران الذنوب وردت قصة الجن الذين استمعوا الى القرآن وقوله تعالى [قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]( )، مما يعني ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم داع الى الله عز وجل والدعوة الى الله عز وجل هي مضمون اتباعه وإلإنقياد لما جاء به من عند الله، وان الجن شهود على حصول المغفرة باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]
تعتبر خاتمة الآية قاعدة كلية من الإرادة التكوينية، ويتجلى فيها حبه تعالى لعباده , فمع ان اول الآية جاء شرطاً وتحدياً وفضحاً للأخلاق الذميمة والدعوة الزائفة فان خاتمتها جاءت بشارة وتبعث في النفس الإنسانية السكينة والطمأنينة وتطرد الفزع والخوف من النفوس بما تدلهم عليه من سبل النجاة والفوز، ومن خصائص التائب والراجع الى الله ان يرى ذنوبه عظيمة مهولة ويخشى من العقاب , كما جاء في الآية السابقة [تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا]( ).
فجاءت هذه الآية لتجعل هذا الود والتمني حقيقة واقعة، وحاجة مقضية , وفيها اخبار بان امر المغفرة لا ينحصر بعالم الآخرة، او ان اوانه والبت في موضوعه والإعلان الملكوتي عمن يستحق المغفرة ومن نالها من العباد يبدأ يوم القيامة، بل ان المغفرة تلحق بحب العبد لله واتباعه النبي مثلما لا يتخلف المعلول عن علته، وفي الآية اخبار عن عدم انحصار بالمغفرة باهل هذه الآية او انها متعلقة بهم، و من صفاته تعالى الثبوتية محو الذنوب وستر العيوب والتجاوز عن الخطايا، وافاضة الرحمة على الخلائق كافة.
ومن رحمته تعالى ان دعا الناس الى حبه والتصديق بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورغبهم باتباعه بالآيات التي جعلها ملازمة لدعوته ولبقاء شريعته وهي معجزة القرآن العقلية، ومنها هذه الآية بالإضافة الى الآيات الحسية والنصر والظفر وتهيئة الفرصة المناسبة للناس لسماع دعوته اذ ان البلاغ والإنذار والترغيب بالإسلام لابد وان ينبعث من قواعد عقائدية وكيانات اجتماعية ونظم سياسية , فمن رحمته تعالى ان جعل الإسلام قوياً والمؤمنين أعزة , وليس من حاجب او مانع يحول دون دخول الناس الإسلام والتنعم بخيراته وما فيه من البركات والإفاضات الظاهرة والباطنة،
ان الجمع بين اسم الغفور والرحيم في هذه الآية ترغيب بالإسلام واخبار بان اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لن يضر العبد ولا يأتيه منه الا الخير والجاه والسعة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، فيتفضل سبحانه ويزيل الحواجب الظلمانية التي تتفرع عن الذنوب بازالة ومحو الأصل وهو الذنوب، فلا غرابة ان تكون خاتمة الآية بشارة وعطاء ورزقا حاضرا ووعدا كريما.
***