المقدمــــــة
الحمد لله الذي خلق الأرض لتكون موطناً للإنسان، مسخرة لحاجاته ورغائبه , ويكون فيها ملكاً وسيداً لا تنافسه الخلائق الأخرى , ومن يعيش معه فيها يكون منقاداً ومسخراً له، وزاد عز وجل في شرف بني آدم ان كانت الحياة في الأرض متفرعة عن الحياة في السماء , وان الإنسان لم يخلق وتنفخ فيه الروح الا في السماء وأبى سبحانه الا ان يتعاهد الناس بالنبوة والأنبياء ومعهم الكتب المنزلة التي تبقى داعياً حاضراً الى ومناسبة للتذكير بالنبوة وقصص وسيرة الأنبياء، وليفوز بالنصيب الأوفر من النبوة والكتاب المنزل على الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء باحكام الشريعة الناسخة المتكاملة والكتاب الجامع للكتب السماوية الأخرى.
وهذا الجزء هو الخامس والخمسون من معالم الإيمان ويتضمن تفسير الآيات (40-47) من سورة آل عمران، وفيها شطر من علوم الغيب التي تفضل سبحانه وأظهر النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من قصص مريم وعيسى، وزكريا ويحيى، لتكون ثروة علمية وعقائدية عند المسلمين الى يوم القيامة، تؤكد حاجة الناس لهم وعدم حاجتهم الى الناس في تأريخ الأمم والملل وأحوال الصالحين وسنن المصطفين من آل ابراهيم وآل عمران باعتبارها مظهراً لرأفته ورحمته تعالى بالناس جميعاً وهي مدخل لكمال معرفة ودعوة للتحلي بالفضائل ومحاسن الأخلاق، وتطهير القلب عما يشغله عن ذكر ، والتخلي عن الرذائل والإبتعاد عن الكدورات، ولتكون العبادة جوهراً نورانياً يشع على ربوع الأرض ويضيء لأهل السماء.
لقد أكرم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين اذ جعلهم خزنة لعلوم الغيب الواردة في هذه الآيات وفيه دعوة لإستنباط الأحكام منها، فالآية القرآنية لم تنزل للتلاوة فحسب، بل للتدبر بمضامينها والعمل بأحكامها ويترشح عنه انطباقاً المنع من تحريفها.
والآيات التي تضمنها وتفسيرها هذا الجزء سياحة في عالم الإيمان والمدارس التأريخية للتقوى وبيان للفيوضات التي تتنزل كثواب عاجل للإخلاص في عبادة والإنجذاب الى رشحات حبه، وليعلم المسلمون عظيم منزلتهم لأنهم ورثة الصالحين والمصطفين الأخيار.
وهذا الكتاب جزء من أكبر وأفضل موسوعة علمية بفضله تعالى أقوم بكتابتها وتصحيحها وتحقيقها والإشراف على طبعها بنفسي , وكذا مؤلفاتي الاخرى والحمد لله, ولا يجوز لأي أحد والى الأبد كتابة أسمه كمحقق ونحوه على أغلفة كتبي من التفسير والعقائد والفقه والأصول وغيرها ، نعم للعلماء ان يكتبوا تحقيقات بخصوصها وطبعها منفصلة [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ].
قوله تعالى[قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ] الآية 40
الإعراب واللغة
قال: فعل ماض، والفاعل ضمير يعود لزكريا.
رب: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، أنى: اسم استفهام في محل نصب على الظرفية.
يكون: فعل مضارع ناقص، لي: خبر يكون، غلام: أسمها مرفوع، وقيل (يكون) تامة وغلام فاعل، وجملة النداء (رب) مقول القول.
وقد: الواو: حالية، قد حرف تحقيق، بلغني: فعل ماض والنون للوقاية، الياء: مفعول به، الكبر: فاعل مرفوع، والجملة في محل نصب حال.
وامرأتي عاقر: الواو: حالية، امرأتي: مبتدأ مضاف، والياء: مضاف اليه، عاقر: خبر مرفوع.
كذلك: جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب مفعول مطلق أي يفعل الآيات الباهرات الخارقة للعادة، وقيل في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف من يفعل.
: مبتدأ، يفعل: فعل مضارع , والفاعل هو .
وجملة يفعل خبر للمبتدأ.
وفي الكشاف قال (كذلك ): مبتدأ وخبر، أي تلك صفة في منح الآيات والمعجزات.
ما: اسم موصول في محل نصب مفعول به.
يشاء: فعل مضارع، والفاعل هو وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الاسم الموصول (ما).
والكبر مصدر الكبير في السن من الناس والدواب , يقال كبر-بكسر الباء- الرجل والدابة يكبر كبراً ومكبرا، فهو كبير أي طعن في السن وتقدم به العمر.
والعقر: العقم، وقصور الرحم عن الحمل، يقال عقرت المرأة عقاراً وهي عاقر ويقال للرجل الذي لا يولد له، فبينه وبين العنين عموم وخصوص مطلق، فكل عنين هو عاقر وليس كل عاقر هو عنين.
في سياق الآيات
بعد رؤية زكريا للمائدة السماوية والرزق الكريم عند مريم وتوجهه بالدعاء بطلب الولد مع اليأس من العلة المادية لبلوغه سن الشيخوخة وعقر زوجته، واللطف الإلهي بانزال الملائكة لنقل البشارة له بالولد الجامع لشرائط الصلاح وسبل الرشاد جاء النداء والمناجاة لزكريا بالسؤال عن كيفية حصول الولد مع تقدمه في السن وقصور امرأته عن الحمل لتكون هذه الآية سبباً في ظهور الآيات على زكريا، ومن اسرار نظم هذه الآيات تعدد المراتب وتعاقب الأحوال وكلها ضمن مفاهيم الإصطفاء المبارك ونزول الفيض الإلهي، وهي:
الأول :نزول الرزق السماوي على مريم، ورؤية زكريا له.
الثاني : دعاء زكريا بالولد الصالح.
الثالث : استجابته تعالى مع فضل منه، بأن تنقل الملائكة هذه الإستجابة.
الرابع : سؤال زكريا عن الكيفية لنشوء الولد.
الخامس : الإخبار بانه جزء من عظيم قدرته وسلطانه تعالى وان من شأنه تعالى ان يهب المعجزات والآيات الباهرات.
السادس : زيادة الفضل الإلهي بان جعل له سبحانه آية وبرهاناً يدل على صدق المعجزة وقرب حصولها.
لقد كان نداء الملائكة بذاته تشريفاً لزكريا قبل ان تصل النوبة لما في موضوعه من دلالات عقائدية واكرام اضافي، فمجرد مجيء الملائكة ومناداتها لزكريا هبة ولطف ولو لم يكن هذا النداء والعناية بشارة بالولد فان هذا النداء دليل على عظيم منزلة زكريا عند , وان الوحي للأنبياء يرد احياناً بالقضايا الشخصية والرغائب الخاصة وليس فقط في أحكام الحلال والحرام، وان كانت القضية الشخصية هذه امراً يهم الناس جميعاً وشرائع الإسلام بمعنى تأتي بشارة ومكرمة تتعلق بشخص النبي فتنتفع منها الأمم والأجيال.
لقد جاء جواب زكريا بعرض حالته الشخصية ليسكن الى البشارة ويؤكدها وللإطمئنان الى عظيم فضله تعالى، كما في قوله سبحانه في ابراهيم [أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( ).
لقد جاءت الملائكة بالآيات والبشارات التي يتناسب شأنها وعظيم منزلتها عند ، فموضوع النداء يدل على اكرامه تعالى للملائكة وانها لا تنزل الا بالأمر العظيم، ولقد جاء القرآن بضابطة كلية وهي ان الملائكة لا تفعل الا ما يأمرها عز وجل به.
إعجاز الآية
في الآية بيان وتفصيل لموضوع الآية والهبة الإعجازية التي تفضل بها سبحانه على زكريا في الولد عن كبر وعقم، ومن الآيات ان زكريا يسأل عز وجل عن تفاصيل وكيفية الهبة، و عز وجل يتفضل بالإجابة والبيان بما يرفع اللبس، ويزيد من لطفه بالإخبار من كونه مصداقاً لقاعدة كلية في احسانه وكرمه وجوده تعالى.
لقد تلقى زكريا البشارة بولادة يحيى بمعجزة وخلاف قانون السببية والموانع في الدنيا لبلوغ زوجته سن اليأس، سأل زكريا عن كيفية قهر تلك الموانع، وقد بادر إلى شكر الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، من جهات :
الأولى : تضرع زكريا بالدعاء لسؤال الولد وهو يعلم تعذره وفق الأسباب والموانع الذاتية .
الثانية : الحاح زكريا بسؤال المعجزة.
الثالثة : تسليم زكريا بآية الرزق الكريم الذي كان يأتي مريم بعد ولادة عيسى من غير أب إذ كانت تأتيها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
الرابعة : إبتدأت هذه الآية بسؤال زكريا لله عز وجل مع الإقرار بمقام الربوبية المطلقة له سبحانه(قال رب).
الخامسة : تقوم مرتبة النبوة بالشكر لله عز وجل.
السادسة : مجئ الآية التالية ببيان إنقطاع زكريا إلى شكر الله عز وجل وذكره وتسبيحه، [وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] ( ).
وسؤال زكريا ذاته ذكر لله عز وجل، إذ أن سؤاله(أنى يكون) لإرادة الكيفية في الإستجابة كما في إبراهيم عليه السلام، بقول الله تعالى[قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
وفيه نكتة إعجازية وهي أن الناس لا يحيطون بعظيم هبات الله عز وجل وحضور رحمته.
ويمكن تسمية الآية بآية (بلغني الكبر) ولم يرد لفظ بلغني الا في هذه الآية.
الآية سلاح
والآية حجة وتوكيد لعظيم قدرته تعالى وتجاوزها للأسباب المادية، ودعوة الى التطلع الى فضله تعالى ونزول رحمته تعالى، وتبعث الأمل في قلب كل زوج وزوجة سواء من تأخرت نعمة الولد عليهما او من تزوج حديثاً، نعم الثاني يكون أكثر املاً وتفاؤلاً وقد يقرأ الإنسان الآية ويستوعبها كآية شخصية رزقها لزكريا وزوجته، ولكن عندما يتأخر عليه الولد، ويرى هو وزوجته ان آخرين ممن حولهما تزوجوا وولد لهم وأصبح أولادهم يدرجون ويمشون، حينها يلتفتان الى النعمة والآية التي رزقها زكريا ويتطلعان الى رحمته تعالى، ويعلمان انه سبحانه واسع كريم خصوصاً وان خاتمة الآية ضياء مبارك واشارة قرآنية لتوكيد اطلاق وعموم النعم الإلهية.
لقد جاء قوله تعالى حكاية عن زكريا[قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ]( )، تأديباً وتعليماً للمسلمين، وهداية لهم لسؤال المستحيل وفق قوانين السببية، فيجعله الله واقعاً , وإذا أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بنعمة فهو أكرم من أن يرفعها.
وتجلت هذه النعمة وحمل المرأة عن كبر في هذا الزمان بالأسباب العلمية والمختبرات والطب الحديث، وإن لم تصل بعد إلى حال زكريا، لتكون هذه الآيات زاجراً للناس عن الغلو بأنفسهم وإكتشافاتهم، ببيان حقيقة وهي أن الذي بلغوه بالعلم والتحصيل بالمنهج التجريبي والدراسات الطبية والمختبرية قد ناله زكريا بسلاح الدعاء وبكلمات معدودات، وأنه صار أساساً وترغيباً للعلماء والأطباء بالسعي في فك وحلّ ضروب من العقم.
وتضمنت هذه الآية إخبار زكريا عن زحف الكبر والهرم إليه بقوله (قد بلغني الكبر) بينما نسبت آية أخرى الفعل والزحف إلى زكريا ذاته [وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيًّا]( )، مع إتحاد الموضوع والسؤال وفيه آية إعجازية من وجوه:
الأول : إن كلاً من الإنسان والهرم يزحف أحدهما إلى الآخر، وفيه دعوة للإستغفار والتقيد بآداب التقوى.
الثاني : بيان حقيقة أن (الكبر) من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , وأنه ينبسط على سنين عديدة من العمر والهرم .
الثالث : إرادة التقييد في الآية أعلاه بلفظ(عتيا) وفيه وجوه:
الأول : إنه الهرم.
الثاني : نحول وهشاشة العظم.
الثالث : فوات زمان تغشي ووطأ الزوجة والإنجاب.
الرابع : عن الثوري : بلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة ، وعن وهب بن منبه قال: ابن ستين أو خمس وستين ( ).
مفهوم الآية
تطرد الآية اليأس من النفوس، وتمنع من القنوط، ليس في باب الولد وحده بل في جميع موارد الحياة، وحاجات وآمال الإنسان فيها خصوصاً وان سلسلة الحاجات لا تنتهي، والآمال عند الإنسان لا تعرف الحدود، ويمكن اعتبارها من اللامنتهي، فيسيح الذهن في عالم التصورات بل حتى الممكنات ولكنه يقرأ ويرى الجانب الإيجابي والحسن منها، وتحول النفس الشهوية دون رؤية الحواجز والمعوقات، الى ان يدخل آماله في خضم الواقع ويشرع بالفعل فتواجهه الصعاب والأذى، وتفتر الآمال وتضعف الهمة ولكن باب الدعاء يبقى مفتوحاً، لأنه فرع رحمته تعالى في الدنيا والآخرة، اما في الدنيا فلأنه أفضل السبل لتيسير الحاجات، واما في الآخرة فلما فيه من الثواب لأنه عبادة، وقد ورد في الحديث: الدعاء مخ العبادة.
لقد جاءت البشارة لزكريا بالولد الصالح ليجعل عز وجل الدنيا دار بهجة وسعادة لآل ابراهيم وآل عمران، وهو من مصاديق الإصطفاء فلم يجعل البأس واليأس يغلبان على نفوسهم، وشاركهم في هذه النعمة أزواجهم وأقاربهم، وأنتفع الناس جميعاً من هذه النعمة العظيمة فهي وان جاءت على نحو القضية الشخصية الا ان افاضاتها تنبسط على الناس جميعاً، سواء بالإنتفاع منها والإقتداء بزكريا والمبادرة الى الدعاء، او ببركات ولادة يحيى وجهاده وأثره في تثبيت كلمة التوحيد.
ولا ينحصر الإنتفاع بالآية وموضوعها وأحكامها بالذين يستعصي عندهم طرفا الولادة بالآية والإنجاب وفق العلل المادية، بل تشمل الناس جميعاً وحتى الذي لم يتزوج بعد لأنها نوع كنز مدخر يلجأ اليه اهل الإيمان عند الحاجة وقيد الإيمان في ولوج هذا الباب والإنتفاع الأمثل من الكنز المدخر في نيل الولد بالدعاء والمسألة الى تعالى.
والآية دعوة لتخطي حواجز الأسباب المادية بالمبادرة للجوء اليه تعالى حتى في حصول الولد بالعلة المادية وأهلية الزوج والزوجة للإنجاب، خصوصاً وان ذكر صفات الولد المعجزة يحيى دعوة للناس جميعاً، للفوز بهذه النعمة، فقد تحصل الولادة والإنجاب ولكن بصفات خلقية ناقصة، او ينشأ الولد في أحوال قاسية، او يكون شريراً وذا سجايا مذمومة وقبيحة، والدعاء ينفع في المقام ابتداء واستدامة وتداركاً.
وتدعو الآية المسلم ان يرجو كل خير منه تعالى، ولا يشغل نفسه بالموانع كما تؤكد الآية على مسائل كلامية هي:
الأولى : عظيم قدرته تعالى.
الثانية : استجابة الأشياء جميعاً له.
الثالثة : نزول الفيض والخير منه تعالى من غير قيد او حد.
الرابعة : تعدد نعمه على العبد الواحد, وتوالي النعم في آن واحد على الكثير المتعدد، كما في الرزق السماوي الكريم لمريم، وهبة الولد لزكريا.
الخامسة : من صفاته تعالى انه يهب العطايا الجزيلة والمواهب الكثيرة، ومن مفاهيم الآية انها تنهى عن التوجه بالدعاء الى غير سواء بارادة الغير بذاته كالملك والنبي او جعله واسطة لنقل الدعاء فمع حضور الملائكة بالبشارة فان زكريا لم يحملهم رسالة واستفهاماً جوابياً بل توجه الى تعالى بالدعاء.
إفاضات الآية
تبعث الآية في النفوس الشوق الى نعمه وفضله واحسانه تعالى، وتخترق حواجز الأسباب المادية وتجعل الأذهان سائحة في آفاق وحدائق الهبات الإعجازية التي يتفضل تعالى بها على المؤمنين، وفي الآية ترغيب بالإيمان، وهداية الى أهم طرق طلب الحاجات وهو الدعاء واخلاص النية وصدق الإيمان.
وجاءت هذه الآيات الأربعة (38-41) في ذكر مناجاة زكريا مع الله عز وجل بعد رؤية معجزة رزق مريم عليها السلام بغير حساب، وفيها يناجي ويدعو زكريا الله عز وجل بلفظ (رب) أربع مرات وكيف أن الله عز وجل لم يترك مريم وشأنها بل تفضل بالعناية بها بلطفه وبالمعجزة ليكون مناسبة لإلحاح زكريا بسؤال الولد خلاف قانون العلة والمعلول وفق نظام خلق الإنسان .
وهل فيه دعوة للمسلمين للدعاء وسؤال المعجزة أم أنه أمر خاص بالأنبياء، الجواب هو الأول، ولكن ليس بالمعجزة بل ذات النعمة ترد بالأسباب العرضية الطارئة والكسب العلمي , ولتكون آية ولادة يحيى بشارة الإنجاب عن كبر من طرف الأم والأب.
لقد أنعم الله عز وجل على زكريا بالمعجزة الخاصة بولادة يحيى بالدعاء والمسكنة، وهذا السلاح جعله الله عز وجل عند المسلمين بقوله تعالى[وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، إذ جاءت الآية أعلاه مطلقة من غير تقييد في موضوعها.
التفسير
قوله تعالى [قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ]
القائل هو زكريا، وجاء قوله هذا عقب بشارة الملائكة له بالولد الذي ينشر الهدى ومفاهيم الإيمان، ومع ان النداء والبشارة جاءت من الملائكة الا ان زكريا توجه الى ربه في القول والخطاب، مما يدل على عدم وجود واسطة في الدعاء بين العبد والمعبود، وانتفاء الواسطة لوجوه:
الأول : ان يسمع الدعاء قبل ان تسمعه الواسطة سواء كان ملكاً او نبياً.
الثاني : شرف وعظمة الدعاء بان تولى سبحانه تلقيه من العبد مباشرة.
الثالث : تدل الآية على اكرامه تعالى للإنسان بان رفع الحواجز عنه وأذن له بمخاطبته وسؤاله من دون اللجوء الى حجاب وكتبة.
الرابع : الدعاء توكيد لحقيقة في الإرادة التكوينية وهي انه سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وكأنها مقدمة لتحذير بني اسرائيل من الإدعاء بان عيسى ابن عز وجل .
الخامس : الآية في مقام التأديب والإرشاد، فهي تهدي المسلمين الى سبل الدعاء وكيفية الإنجذاب الى حضرة القدس بالتوجه بالمسألة منه مباشرة من غير وسائط وان كانت تلك الواسطة مباركة ولها مقام عند كما في مقامات الملائكة والأنبياء والأولياء الصالحين.
وورد لفظ (رب) بصيغة النداء سبع وستين مرة في القرآن ومنها (قل رب) من غير لفظ النداء، وقد ورد لفظ (قال رب) في القرآن خمس وثلاثين مرة منها:
الأول : احدى عشرة مرة حكاية عن موسى .
الثاني : ست مرات لزكريا .
الثالث : خمس مرات لنوح .
الرابع : مرتان لسليمان .
الخامس : مرة واحدة حكاية عن كل من لوط، وشعيب ويوسف عليهم السلام.
وتظهر هذه الإحصائية منزلة زكريا في الدعاء والمناجاة، وتوثيق القرآن لعظيم منزلته وتفضله تعالى باكرامه بحسن الإستجابة وان مسألة البشارة بولادة يحيى تعتبر ركناً من أركان تثبيت دعائم الإيمان في الأرض، وفيه درس بليغ للمسلمين وهو مناسبة لإستقراء الدروس والعبر.
ويبين هذا العدد من الإستعانة والنداء والدعاء انقطاع زكريا لله تعالى وانه ما كفل مريم الا قربة وطاعة الى ، وفيه دلائل على خصائص اصطفاء آل ابراهيم وان من مصاديقه حسن المناجاة واللجوء المستمر الى تعالى في طلب الحاجات، فحينما تلقى زكريا البشارة توجه الى تعالى بالنداء والدعاء “وفي قوله (رب) قال الرازي: خطاب مع او مع الملائكة، لأنه جائز ان يكون خطاباً مع ، لأن الآية المتقدمة دلت على ان الذين نادوه هم الملائكة، وهذا الكلام لابد ان يكون خطاباً مع ذلك المنادى لا مع غيره، ولا جائز ان يكون خطاباً مع الملك، لأنه لا يجوز للإنسان ان يقول للملك: يا رب.
والجواب للمفسرين فيه قولان:
الأول: ان الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا ورجع في ازالة ذلك التعجب الى تعالى.
الثاني: انه خطاب مع الملائكة والرب اشارة الى المربي، ويجوز وصف المخلوق به، فانه يقال: فلان يربيني ويحسن الي”( ).
وفي القول الثاني أعلاه اشكال من وجوه:
الأول: لم يثبت ان المفسرين لهم في المقام قولان بعرض واحد بحيث يستحق القول الثاني ان يرقى الى مرتبة القول الأول، نعم قد يكون هناك قول نادر بانه خطاب للملائكة.ولا عبرة بالنادر.
الثاني: ورد لفظ (رب) بصيغة النداء كله لله تعالى، وليس فيها نداء لغيره، والقرآن يفسر بعضهً بعضاً.
الثالث: من علامات الحقيقة التبادر، فما يتبادر الى الذهن من لفظ (الرب) هو ارادة الخالق سبحانه، وحينما يصدر النداء واللفظ من نبي فيكون من باب الأولوية، انصراف المعنى الى الذات المقدسة.
الرابع: جواز وصف المخلوق بلفظ (رب) لا يعني وروده في القرآن وبخطاب نبي من الأنبياء، ولم يثبت ان الملك يربي النبي على نحو الإستدامة، والقدر المتيقن ان الملائكة جاءوا رسلاً مبشرين الى زكريا، ومن قبل سجدوا لآدم عند خلقه.
الخامس: لقد جاءت البشارة من الملائكة على نحو الجمع (نادوا)، ولفظ (رب) بصيغة المفرد.
السادس: يعتبر اسم (الرب) من أمهات الأسماء المقدسة، وفيه تعظيم لمقام الربوبية، ويتباهى الأنبياء بالنطق به في موارد الإستغاثة، ولم يرد الدعاء في القرآن الا بلفظ (رب).
ولما تضرع زكريا الى وسأل الولد من فضله وعلى نحو المعجزة الخارقة للعادة بعد بلوغه حال العجز عن الإنجاب جاءته البشارة الكريمة تحملها الملائكة، فاجاب زكريا انى يكون لي غلام، وفيه وجوه:
الأول: جاءت بشارة الملائكة بذكر اسم الولد على نحو الخصوص (يحيى) اما سؤال زكريا فجاء بذكر الجنس (غلام) لأنه سأل عن كيفية الإنشاء والمراد من الغلام هنا الولد.
الثاني: اراد زكريا بيان حاله من الكبر، وقد ورد عن ابن عباس انه قال: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة.
الثالث: سيأتي في قوله تعالى [وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ] ان نسبة الفعل الى الكبر، وانه لم يقل بلغت الكبر، وفيه شكر وثناء لله تعالى على نعمة طول العمر، فجاء السؤال التقريري لإستحداث شكر اضافي مع ذكر النعم التي هي كالأصل بالنسبة لنعمة الولد، لأنه لو لم يمن عليه بالبقاء حياً لما جاءه الولد، وهو مع سؤاله الولد لم ينس شكره تعالى على النعمة العظيمة بالسلامة في البدن وتأخر الأجل.
الرابع: لقد سأل عن كيفية تكون الولد بعد الذي بلغه من الكبر وقصور امرأته عن الحمل، على اعتبار ان المراد من (أنى) هو كيف.
الخامس: على المعنى الآخر لها وهو من أين فهو توكيد لعجزه وضعفه مما يدل على ان قوله (أنى) يفيد الإقرار بعظيم نعمته تعالى والموهبة الجزيلة التي يتفضل بها سبحانه في اتيانه الولد، فهذا الإستفهام من زكريا تقريري , وفيه تسليم بانه يرزق معجزة.
السادس: يحمل الإستفهام معنى الشكر لله تعالى على بديع صنعه وارادته وقدرته في اتيان الولد بعد انتفاء شرائطه المادية.
السابع: لقد عرف الأنبياء بالكلام وليس بالسكوت، فجاء كلام زكريا للإخبار عن تلقيه البشارة وفهمها ومعرفتها، وان كان بالإمكان الجواب على هذا الوجه بان الإخبار عن تلقي البشارة يجوز ان يأتي بصيغة اخرى، ولكن توثيق القرآن لكلام زكريا النبي يدل على وجود مضامين قدسية فيه.
الثامن: اراد زكريا تعليم المسلمين درساً بليغاً في هذه المراجعة ويقف عند المعجزة ويشير اليها بالوضوح والإفصاح عن حاله وحال زوجته، فلو بقي الأمر على الآية السابقة والدعاء فيها [رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً]، لقيل ليس في الأمر اعجاز أو امر خارق للعادات ونواميس الطبيعة، وأغلب الناس يأتيهم الولد من غير دعاء، فأراد زكريا تثبيت حقيقة كبره وتخلف وقصور إمرأته عن الحمل ليعرفها الناس جميعاً ويتعظ منها المسلمون، فكانت المعجزة معروفة عند والملائكة وزكريا ومن حوله من بني اسرائيل الذي يعلمون حاله وعجزه عن الإنجاب وهو أمر يُنسى بمرور الأيام، اما مع هذا السؤال والتوثيق السماوي فان الآية اصبحت جلية لكل انسان ومدرسة في عالم الأمر والخلق معاً.
التاسع: سأل زكريا عن كيفية اصلاحه لنفسه ولزوجه للولد , وما يجب عليه من المقدمات.
العاشر: ربما طمع زكريا في ارجاعه شاباً هو وزوجته واصلاحهما لإنجاب الولد، فسأل عن الكيفية، وفيه بيان لإستعظام زكريا لقدرته تعالى وكثرة هباته وتعدد نعمه في الموضوع الواحد، وشاهد على انه لم يقنط من رحمته تعالى حتى في حال الكبر والشيخوخة.
الحادي عشر: لقد جاءت البشارة خاصة لزكريا فأراد ان يسأل هل يأتيه الولد من زوجته العاقر الطاعنة في السن، ام عليه ان يتزوج من غيرها تتصف بالأهلية للإنجاب وتكون شابة، كي لا تفوته مقدمات انجاب الولد وانه في سن لا تسمح له بالتأخر وتجربة الإحتمال المتعددة، وعلى فرض ارادة الزواج من امرأة أخرى فانه يسأل عن خصوصياتها وشخصها، فقد تتعلق الصفات الكريمة للولد بامرأة معينة.
وقد حصل في قصة بني اسرائيل وموضوع ذبح البقرة انفرادها بصفات خاصة وان كان الأمر من القياس مع الفارق، فخصائص تلك البقرة جاءت بعد مراجعة بني اسرائيل لموسى في السؤال، ولكنه قد يرد من زكريا من باب الإحتياط والعموم لذا جاء السؤال على نحو الإطلاق (أنى) في دعاء وتوسل للتفضل ببيان التفصيل الذي يساعده على معرفة تلك الخصوصيات في حال وجودها، والصحيح هو الوجه السادس وتدخل معه الوجوه الثاني والثالث والرابع والخامس والسابع.
والظن بان زكريا أراد التأكد والتفريق بين كلام الملائكة ووسوسة الشيطان بعيد، لأن الشيطان لا يتلاعب بالأنبياء كما ان حديث الملائكة بين وواضح، واذا أراد عز وجل فعل أمر فانه يتمه ويمنع من الترديد فيه بين المتشابهات فكيف بالنسبة للمتناقضات، ومن عداوة للشيطان وطرده من رحمته ان لا يجعل كلام الملائكة يختلط مع كلامه في الواقع الخارجي , وفي أذهان الناس خصوصاً الأنبياء الذين هم خاصة من خلقه.
وعن السدي: ان زكريا جاءه الشيطان عند سماع البشارة، فقال: ان هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك، فأشتبه الأمر على زكريا ، فقال: [رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ] وهذا الكلام لا دليل عليه، “وقال القاضي: لا يجوز ان يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اذ لو جوزنا ذلك لأرتفع الوثوق عن كل الشرائع”( ).
ولكن لا ملازمة بين الشرائع والوحي وبين البشارة بالولد التي هي على نحو القضية في الواقعة، وتعتبر معرفة زكريا لصحة صدور الكلام من الملائكة وليس من الشيطان من باب الأولوية القطعية، ومسألة مخالطة الوسوسة لقلب زكريا لم تثبت، والأصل انه تيقن من حديث الملائكة، وجمعاً بين كلام السدي والقاضي، قال الرازي بالتفصيل.
“وحصول الوثوق في كل ما يتعلق بالدين وان الوحي من تعالى بواسطة الملائكة، اما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز، فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع الى تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الإحتمال”( ).
والإجابة عليه من وجوه:
الأول : تنزيه ساحة الوحي والأنبياء عن تلاعب الشيطان، فلا يستطيع الشيطان ان ينفذ الى الوحي، ولا الى الأنبياء في ظنهم بالوحي والتنزيل وان كان في أمور خاصة.
الثاني : لم تكن البشارة بيحيى من أمور الدنيا وحدها بل من امور الدين والدنيا، فالكبرى وهي التفصيل لم تثبت، ولقد تضمنت البشارة الأخبار بان يحيى نبي ومصدق بعيسى ومن الصالحين.
الثالث : لقد جاءت الملائكة برسالة وبشارة من عند الى يحيى، فلا تغادره الا بعد ان تتأكد انه أستلم الرسالة وعرف جهة صدورها ومضمونها كاملاً من غير نقصان، وتلك من خصائص الرسل في الدنيا وبين البشر فكيف في الرسل من الملائكة ونزولهم على نبي من أنبياء .
الرابع : ورود قيد (في المحراب) وهو تنزيه لموضع البشارة، ونفي لدخول ابليس اليه.
الخامس : ان عز وجل يصلح النبي لقبول الوحي وعدم الشك فيه.
لقد طلب زكريا الولد منه تعالى وهو يعلم عدم استحالة الطلب، للكبرى الكلية وهي عدم استعصاء مسألة عليه تعالى، فلا يصح ان يسأل سؤالاً انكارياً عن كيفية حصوله.
لقد جاءت البشارة بيحيى بالاسم وذكر صفات الحسن والصلاح، ولم يأتِ سؤال يحيى الا بخصوص ولادة الغلام، وفيه وجهان:
الأول: انه رضي بالبشارة وفرح بها وسأل عن كيفية الولادة.
الثاني: ان تلك الصفات فرع الولادة، فالأصل هو الولد، وسأل عن الأصل، (ونقل عن سفيان بن عيينة كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة، فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم أستبعد ذلك على مجرى العادة، لاشكاً في قدرة تعالى، فقال ما قال) ( ).
والنقاش فيه من وجوه:
الأول: عدم ثبوت استبعاد زكريا لحصول الولد، ولو دار الأمر بين تقريره وقبوله وبين استبعاده للبشارة بسبب فقد الأسباب المادية، فالأصل هو التقرير والرضا لإنتفاء الشك بقدرته تعالى.
الثاني: عدم رفع الحديث، ولم ينسب الى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم او الى الصحابة، وسفيان بن عيينة من تابعي التابعين (107-198) هجرية ولد بالكوفة، ومات في مكة.
الثالث: الدعاء سلاح الأنبياء وملازم لهم، وزكريا يعاني من الحرمان من الولد والحاجة اليه في الدين واحياء الشعائر، فلابد انه مشغول بطلب الولد حياته كلها، ولم يفارق الدعاء، واذا كان عمره أوان البشارة مائة وعشرين سنة، فيعني هذا انه دعا عز وجل وعمره ستين سنة، وقد تقدم قبل آيتين ان زكريا دعا عندما رأى الرزق السماوي عند مريم، بقوله تعالى [هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ]،وهذا لا يمنع من إتصال دعاء زكريا أيام عمره ومدة زواجه , وإثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره.
وهل يحتمل حصول الرزق عند مريم قبل ستين سنة من بشارة الملائكة لزكريا، الجواب لا، لأن المشهور والمتواتر هو تقارب أوان ولادة يحيى وعيسى، واذا اخذنا بنظر الإعتبار ان ولادة يحيى كانت وفق الطرق الطبيعية للولادة بلحاظ مدة الحمل وان مدة الحمل بيحيى كانت ستة أشهر.
وان الحمل بعيسى فكان لساعات من النهار، ويحيى أكبر من عيسى في العمر بستة أشهر، والمتعارف دائماً اعتبار العمر من حين الولادة، وليس من حين الحمل كما حكي عن الصينين القدامى، فيتحصل حدوث الحمل عند امرأة زكريا قبل مريم بسنة كاملة، ستة أشهر مدة الحمل بيحيى وستة أشهر تقدم يحيى في العمر على عيسى، ولكن تقدمت الإشارة الى الأمر في الخبر بان ما في بطن امرأة زكريا سجد لما في بطن مريم، أي ان المدة بين وضعهما بضعة شهور.
ولو تنزلنا وقلنا ان زكريا قال كلامه هذا للإستبعاد فهل يكون له ضرر في:
الأول : حدوث آية الولد والإنجاب.
الثاني : في تمام الصفات التي بشر بها الملائكة.
الثالث : فيما يلحق زكريا لإستبعاده الآية.
الرابع : تأخير أوان آية الإنجاب.
الجواب لا ضرر في كلام زكريا لأن البشارة جاءت اخباراً عن مشيئته وارادته تعالى وان الأمر حاصل على نحو العزم والقطع.
ان تفضله تعالى باجابة زكريا , ومضمون تلك الإجابة يدل على عدم وجود استبعاد أو استغراب عند زكريا للآية في اتيانه الولد، قال تعالى [قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ] وهذا من اعجاز القرآن، وذات الآية تذب عن الأنبياء وتدفع عنهم الشبهات، وتؤكد عظيم منزلتهم عند فبسؤال زكريا انتفع المسلمون من ظهور وعلامة في الإرادة التكوينية وهي ان الأشياء تجري بمشيئته تعالى وليس بالأسباب وحدها.
وان عالم الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات جزء ومصداق من مشيئته وهي أعم منه ولا يستطيع ان يستوفي موارد فضله تعالى على الناس عامة والمسلمين خاصة، وعلى الأنبياء على نحو خصوص الخصوص لا سيما وان الفضل الإلهي على الأنبياء لا ينحصر باشخاصهم بل يشمل ذراريهم وأعقابهم وأجيال المسلمين عامة، وهو من اصطفائه تعالى لآل ابراهيم، ولو تدبرت قصص الأنبياء لوجدت لآية الإصطفاء ظهوراً ودلالات واضحة تنطق باللطف الإلهي واكرامه تعالى لبني آدم عموماً بالصفوة منهم.
بحث بلاغي
من وجوع البديع والإطناب باب الإيضاح بعد الإبهام لما فيه من تعدد المعاني وانتقال الذهن من الأمر المبهم الى ما فيه البيان والمندوحة، فيكون أقر للفهم والإدراك ويرسخ في الحافظة، وله في علوم القرآن خصوصية وهي اعانة علوم البديع والبيان على حفظ آيات القرآن ورسوخ مفاهيمها في الذاكرة، وحتى من ينسى الآيات وكلمات القرآن تجده يتذكرها حالما تبدأ بتلاوة اول الآية فيشرع معك بتلاوتها وقراءتها.
ويأتي الإيضاح لجذب النفوس لأفراد الموضوع، فاذا علم الإنسان بجانب منه فانه يتشوق لمعرفة الجوانب الأخرى والإحاطة بمضامينه، وضرب اهل البيان له مثلاً قوله تعالى [اشْرَحْ لِي صَدْرِي] ( )، فان (اشرح) يفيد طلب شرح شيء ما، و(صدري) يفيد تفسيره وبيانه( ).
ولكن هذه الآية جملة واحدة ليس من فاصلة معتدة بها بين الطلب وموضوعه بحيث تتشوق النفس خلالها لمعرفة موضوع الشرح.
وما في هذه الآية مثال على الإيضاح بعد الإبهام , فقد قال زكريا [أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ] ليحصل الإنبعاث نحو سبب وعلة هذا التساؤل وهل بعده ايضاح يبينه، وحينما نعلم بان زكريا قال ما يفيد تفسير وتفصيل قوله، ندرك ان سؤاله ليس استنكاراً او استبعاداً لنيل نعمة الغلام، بل لذكر الموانع الخاصة التي يرجو ان تزول وتقهر، وهذا الإيضاح توكيد في مقام الشكر والثناء، الذي تجلى بذكر زكريا للموانع الذاتية البدنية الخاصة به وبزوجه.
بحث بلاغي آخر
من وجوه الإطناب والبيان باب التفسير أي ان الكلام يتضمن كلاماً مفسراً وتفسيراً له، وفائدته ازالة اللبس وكشف الغطاء ودفع الخفاء، ولكنه في آيات القرآن يأخذ عناوين اضافية أخرى منها تنمية الملكات وزيادة الإيمان، وتحصيل المعارف الإلهية، فبعد ان سأل زكريا عن كيفية نشوء الولد بين تفاصيل هذا السؤال بما يجعل قوله [أَنَّى يَكُونُ لِي] إقرارا بقدرة الباري واستعظاما لفضله واحسانه، ولتترسخ مفاهيم أدب العبودية وتنزيه مقام الربوبية عند عموم المسلمين.
وذكر السيوطي من أمثلة باب التفسير عن البيهقي في (شرح الأسماء الحسنى) قوله تعالى [لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ] بان قوله تعالى [لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ] تفسير للقيوم.
قوله تعالى [وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ]
بيان وعرض لحال زكريا وانه قد طعن في السن وعجز عن ملامسة النساء ، وزكريا لا يشك في قدرته تعالى لأنه نبي، ولأن ذات البشارة تحمل الإنسان طوعاً وقهراً على التصديق اذ جاءت خلاف الأسباب الطببعية فليس هي من حديث البشر او الجن، بل من حديث الملائكة الذين لا يفعلون الا ما يأمرهم به.
وقد جاء اللفظ بقوله “بلغني” ولم يقل بلغت الكبر فنسبة الفعل الى الكبر باعتبار ان عمره بيد وانه لم يبلغ بارادته وقوته وانما عز وجل هو الذي رزقه طول العمر وهو نعمة اضافية اخرى، فالآية جاءت من باب الثناء والشكر لله تعالى وليس من باب الشكوى، ويكون معناها مع انك سبحانك أطلت في عمري وجعلت سني تتقدم وأيامي في الحياة تطول فانك ترزقني ولداً فهذه نعمة اضافية.
ونستقرأ منها قاعدة كلية في الإصطفاء وهي تعدد الآيات والنعم في الموضوع الواحد وتوالي وتعاقب النعم على ذات الفرد من آل ابراهيم وآل عمران وان الإصطفاء لا ينحصر بالإجتباء او نزول نعمة مخصوصة بل من خصائصه توالي النعم.
وتبين الآية ان الكبر والأجل يطلبان الإنسان مع تعاقب الليل والنهار، وفي نسبة الفعل والبلوغ الى الكبر مسائل:
الأولى : ان الكبر أمر وجودي له شأن وفعل ويدرك الإنسان وانه مخلوق من المخلوقات، وقد تكون له موضوعية يوم القيامة عند سؤال العباد، فمن بلغه الكبر تكون الحجة عليه اكبر في لزوم الإنابة والتوبة والعمل الصالح.
الثانية : في الآية تنبيه وتحذير للإنسان، بان الضعف يرد عليه بعد القوة، والمرض بعد الصحة، والشيخوخة والهرم بعد سن الشباب والفتوة، في دعوة الى استثمار ايام الصحة والشباب في تقوى .
الثالثة : الآية حث على الزواج المبكر والفوز بنعمة الولد.
الرابعة : (قد) حرف تحقيق فليس كل انسان يدركه الكبر والهرم وقد يموت في سن الشباب، وبلوغ زكريا الكبر نعمة وهي من الإصطفاء، وما أنعم عزوجل به على آل ابراهيم، وقد جاء القرآن بتوثيق طول عمر نوح ، وهذا التوثيق جزء من الإصطفاء ايضاً فأشار الى لبثه في قومه فقط، وهو تسعمائة وخمسون سنة.
الخامسة : في الآية دعوة للمسلمين لسؤال طلب طول العمر ونيل هذه النعمة.
السادسة :لم تأتِ نعمة طول العمر مجردة خالية من الفوائد الإضافية، بل تأتي معها نعم اضافية متعددة وهل نعمة طول العمر أفضل من نعمة البشارة بيحيى ام البشارة هي الأفضل والأكبر،
وبالنسبة للإنسان عامة أيهما أفضل طول العمر ام النعم الأخرى المصاحبة له، اما بخصوص الشق الأول الخاص بزكريا ويحيى فكل منهما نعمة عظيمة مستقلة ولا سبيل للمقارنة بينهما لأنهما عنوان اتصال وافاضات النبوة، اما بالنسبة للشق الثاني أي عامة الناس فهو من المتباين والكلي المشكك فقد تكون نعمة طول العمر هي الأفضل وقد يكون العكس وتظهر النعم الأخرى بالولد الصالح او فعل الخيرات والإكتناز من الصالحات.
السابعة : الآية من صيغ العبودية لله واظهار الضعف والهوان امام قدرته تعالى ومشيئته وان الإنسان لا شأن له في مقادير ألأمور وخصوصيات حياته وبلوغ الكبر عنوان شامل للرجال والنساء، فقد يصيب المرأة الكبر ايضاً.
الثامنة : في الآية اخبار عن عدم ملازمة الخرف للكبر، فقد يكبر الإنسان وتكبر معه معاني الورع والتقوى والصلاح، ويكون أمة في الخير.
وفي الآية بشارة الإنجاب عن كبر لأن اذا أنعم على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها، وهذه النعمة وان جاءت كمعجزة خاصة الا ان عزوجل واسع كريم وليس من حد لعطائه سبحانه.
ومن الآيات ان ترى تقدم العلم في هذا الزمان وظهور امارات على امكان حصول الإنجاب مع تقدم العمر والطعن في السن، وهل هو شبيه بآية زكريا، الجواب لا، لآن آية زكريا جاءت على نحو المعجزة الخارقة للعادة والأسباب الطبيعية بل هو فرع علمي وعام لآية زكريا واخبار مسبق عن حصولها، جمعاً بين آية زكريا والآيات التي تحث الإنسان على طلب العلم والإرتقاء في منازله.
التاسعة : لقد أراد زكريا في كلامه تثبيت حاله وعجزه عن الإنجاب ومنع الناس من التجرأ واخفاء المعجزة او التقليل من شأنها، كما تبين ان زكريا ملتفت الى الفضل العظيم الذي رزقه سبحانه بالإنجاب عن كبر وانها نعمة مستقلة وآية باهرة وشرف عظيم.
العاشرة : في الآية حجة على بني اسرائيل ولزوم اكرام زكريا وعدم التعدي عليه لأن خصه بآية ونوع اكرام وتشريف، أي ان الآية تكون زاجراً لهم عن ايذائه وفيها منع من حسده.
الحادية عشرة : تدل الآية بالدلالة التضمنية على تفضله تعالى بتعاهد النبوة وعدم انقطاعها في آل ابراهيم فيخلف النبي فيهم النبي ألآخر ولو بالإنجاب عن كبر وعقم.
الثانية عشرة : في الآية بشارة لتحسن أحوال الناس الصحية، والزيادة في متوسط عمر الفرد منهم، ويصاحب هذه الزيادة القدرة على الإنجاب، وصحيح ان الآية جاءت على نحو القضية الشخصية وخاصة بزكريا الا ان آيات القرآن كلها حكمة وموعظة، ومنها ما يأتي اشارة الى حال متقدمة , قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ).
انها مدرسة ودعوة للنهوض والإرتقاء بالمجتمعات في صحة الأبدان وطول الأعمار الا انها تدل بالدلالة الإلتزامية على شرط التقوى والصلاح، فجاءت البشارة بيحيى وموضوعها للتذكير بان طول العمر نعمة من عز وجل.
وكل يوم جديد يأتي على الإنسان هو من فضله تعالى سواء كان الإنسان في سن الصبا او الشباب او الشيخوخة، بل أصل الخلق والنشوء في الرحم ومراحل تكون الجنين من علقة ومضغة وما بعدهما هو فضل منه تعالى واذا رجعت الى النصوص تجد بياناً للعناية الإلهية بالجنين، وتفضله تعالى بتعاهد الإنسان وهو في رحم امه.
والآية مدرسة في أحكام عالم الشيخوخة والهرم، ودعوة لمن يبلغ هذه السن باللجوء الى تعالى وعدم القنوط , بل عليه ان يواظب على الدعاء والمسألة مع عدم اعتبار الأسباب المادية والعوائق والإفتقار الى العلة بل يلجأ اليه تعالى، وفيها حث للأولاد والأحفاد والأهل باكرام من يبلغ الكبر، والحرص على الإنتفاع من دعائه ومسألته لطول اقامته على ذكر .
وتطرد الآية اليأس عن المؤمن سواء بلحاظ أفراد الزمان وفي ايامه في الحياة الدنيا او في الموضوعات وحاجته فتنفي عنه الظن باحتمال قرب أجله وتفتح امامه باب الدعاء والمسألة، كما ان حاجته لا تنحصر بالشخصية منها، خصوصاً وانها تقل وتتضاءل مع تقدمه في العمر ولكنها تشمل حاجة الأبناء والأهل والأمة عامة، لذا فان سؤال زكريا الولد لم يكن لذاته بل للملة وبني اسرائيل والمسلمين والناس جميعاً.
لقد أظهر زكريا حسن الأدب في الدعاء والمسألة وبين عجزه وقصوره عن نيل البشارة وموضوعها، ليثبت اقراره بانها فضل منه تعالى، وفيه دعوة للناس لحسن الدعاء والمسألة والإقرار بالنعم منه تعالى، بمعنى انه بعد تلقي البشارة وحصول النعمة لابد من اظهار الشكر والإقرار بان هذه النعمة جاءت بفضل واحسان منه تعالى، وان الإنسان ليس بمقدوره نيلها.
لقد أراد زكريا اشهاد الملائكة على اقراره، فقد جاءوا بالبشارة فأراد ان يجعلهم شهوداً على شكره لله تعالى وتضرعه اليه، واقراره بالنعمة واللطف الإلهي، وانه عاجز وقاصر عن بلوغ منيته لولا تفضله سبحانه بالهبة.
وفيه درس للملائكة على أهلية الإنسان لخلافة الأرض من وجوه:
الأول : دعاء زكريا وطلبه الولد من .
الثاني : مواظبته على الإقامة في المحراب سواء للعبادة أو تفقد مريم او سؤال الحوائج.
الثالث : بث ما في نفسه الى ومواظبته على المسألة مع فقد الأسباب.
الرابع : البشارة الإلهية فرد من أفراد الإصطفاء، والملائكة حينما قالت [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، لم تكن تعلم ان عز وجل سيصطفي جماعة من الناس يغلبون جانب العقل ويعطلون أسباب الشهوة ويكبحون جماح النفس الغضبية والبهيمية وهو ظاهر من مفاهيم وعنوان الخلافة.
واذا كان السؤال عن مدا قدرة الإنسان على القيام بمسؤوليات الخلافة، فان الإصطفاء وسيلة سماوية مباركة لإصلاح الإنسان وتأهيله للخلافة سواء الذين ذكرتهم آية الصفوة آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران ام المسلمين مطلقاً , وهو الأرجح لإعمارهم الأرض بذكره تعالى على القول بشمولهم بالخلافة ام عدم شمولهم بها.
ترى هل كان زكريا يعلم بانه سيكون عندهم ولد من غير أب او انه يولد من امرأة لا يلامسها احد، وظن ان يحيى هو المقصود بالأمر، وان قول الملائكة [أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ] أعم من ان يكون الولد من صلبه ووطئه لزوجته،مما يحول دون انجاب الولد، الجواب ليس من دليل على حصول هذا الظن ولكن البشارات بعيسى موجودة عند بني اسرائيل.
لقد ذكر زكريا الموانع للتأكد من حصول الولد والإنجاب عنده وان عليه ان يطأ زوجته، ففي الآية بشارة اضافية ومصداق عملي حاضر وهو تجدد القدرة على الوطئ عند زكريا، وهذه نعمة عظيمة يعرف قدرها من فقدها ممن طعن في السن , وتهيأت له أسباب النكاح والوطئ، وكأن البشارة حاجة ودعوة لزكريا لأن يطأ زوجته فقوله [وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ].
وما ورد بان عمر زكريا كان مائة وعشرين سنة أمر يجعله يعزف عن الإقتراب من إمرأته لأنه سالبة بانتفاء الموضوع من طرفه وطرف الزوجة العاقر التي تقدم بها العمر، فسأل زكريا القدرة على الإقتراب من زوجته واصلاح رحمها للإنجاب ولم يسأل عن تقدم امرأته بالسن، لأمرين:
الأول: اصلاح حال العقم عند زوجته الذي يدل بالدلالة التضمنية على الأهلية للإنجاب.
الثاني: ان علاج مسألة الكبر عند زكريا يترشح عنه اصلاح ذات الأمر عند زوجته بالأولوية من وجهين:
الأول: ان امرأته أصغر منه بنحو اثنتين وعشرين سنة.
الثاني: ان قوله [وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ] شامل للعقم المستديم والطعن بالسن.
ومن وجوه سؤال زكريا وقوله [وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ] التوسل للتعجيل بتحقيق البشارة وعلوق الولد، لأن تقدمه وزوجه في السن أمر لا يحتمل التأخير، ولكن واسع كريم لا يقف عطاؤه عند حساب مخصوص.
قوله تعالى [وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ]
هذه هي العلة الثانية لإستبعاد حصول الولد لزكريا وفق الأسباب المادية والطرق الطبيعية المتعارفة، لقد بدأ زكريا بذكر النقص الذاتي وهو الكبر، ثم ذكر عقم إمرأته وقصورها عن الإنجاب فهل من ترتيب في المقام الجواب نعم، لأن العجز الذاتي أهم وأكبر أثراً في عدم الإنجاب من عقم الزوجة، وبإمكان الرجل ان يتزوج امرأة اخرى عند وجود نقص في إمرأته لذا يمكن طرح سؤال وهو لماذا لم يتزوج زكريا من امرأة اخرى مدة حياته بعد ظهور امارات عقم امرأته , فيه وجوه:
الأول : حرمة الزواج من امرأة ثانية في شريعتهم.
الثاني : انتظاره الولد مع تعاقب الأيام والسنين.
الثالث : وجود بشارة بان يرزقه ولداً من زوجته ذاتها.
الرابع : عدم ايلاء اهمية وعناية خاصة للولد، وان الأهم عنده السعادة الزوجية.
الخامس : بقاء نيته في الزواج من امرأة ثانية.
اما الأول فان الحرمة لم تثبت، وفي قصة يعقوب ورد انه تزوج اختين وانه كان جائزاً في شريعتهم أي ليس زوجتين كل واحدة منهما اجنبية عن الأخرى بل جواز الزواج من الأختين.
وقد أرسل النجاشي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أختين لينظر هل يتزوجهما وهما مارية وأختها، لما ورد عندهم ان نبي آخر زمان لا يتزوج من الأختين، وقد أختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مارية منهما لأنها بادرت للنطق بالشهادتين.
اما الثاني فهو بعيد لأنه بين لله عجزه عن الولد ببلوغه الكبر والشيخوخة، أما الرابع فكان زكريا يجتهد في طلب الولد ويريده منه تعالى، ومما يصاحب السؤال السعي في تحصيل الأسباب لإنجاز الحاجة والطلب، اما الخامس فالظاهر بخلافه لأنه لم يذكر عقم امرأته وحده كسبب لعدم انجاب الولد بل ذكر كبره وشيخوخته.
لقد اراد زكريا تثبيت حقيقة وهي حصول الولد بالزواج من زوجة ثانية لأن المانع الذاتي موجود عنده، لما هو معروف عند الناس جميعاً من عجز ملامسة الشيخ الفاني للنساء وضعف الآلة عند الكبر، الا ان يشاء ويبعث النشاط فيه ويجعله مؤهلاً للزواج من ثانية والإنجاب منها، وان آية الولد والقدرة على الإنجاب تخصه بالذات دون زوجته وهو من وجوه سؤاله (انى يكون لي)أي ان الولد من زوجتي العاقر هذه ام من زوجة ثانية اخرى.
وظاهر الاية يجعل هذا الإحتمال بعيداً لأن خاتمتها جاءت باطلاق قدرته ومشيئته وانه يرزقه وزوجته العاقر يحيى ولداً مباركاً، فمن فضله تعالى بيان رحمته وعدم اللبس في نعمه وفضله واحسانه.
والأرجح هو الثالث وهو يظن ان الولد من زوجته تلك، وكان يترقب فضله تعالى بالدعاء والمناجاة، لبيان حقيقة في الإرادة التكوينية وهي اذا تعطلت الأسباب المادية فان الدعاء أفضل منها لإنجاح الطلب فجاءت الاية لتأديب المسلمين ولزوم اكرام المرأة وان كانت عاقراً , وعدم اليأس والقنوط من الولد مع العقم، وهذا لا يتعارض مع النصوص التي وردت بكراهة الزواج من العاقر، منها: “سوداء ولود خير من حسناء عقيم”.
وعدم التعارض من وجوه :
الأول: ان كل مكروه هو جائز.
الثاني: ورود أسباب خاصة للزواج من العاقر، او بروز جانب أهم كما في تحليها بالإيمان والعفاف وحسن التدبير والجمال والمال والصلاح.
الثالث: موضوعية الزواج للمرأة، وهو جزء من النظام الإجتماعي العام واستقرار المفاهيم الأخلاقية الحميدة، ولزوم عدم ترك المرأة معطلة خصوصاً وان أفراد موضوع الزواج وغاياته ومنافعه متعددة وأعم من ان تنحصر بانجاب الولد.
الرابع : القدر المتيقن من الكراهة ما علم امر المرأة وانها عاقر كالثيب ,لا التي يتزوجها الرجل بكرا ولا يعلم حالها.
ومن النساء ما تكون عاقراً ولكنها عضد وعون للرجل في دنياه وآخرته، وتحرص على توفير السعادة له والحفاظ على عرضه وماله وبيته وقد يكون ما عندها من العقم والنقص سبباً في اجتهادها في طاعته وتحصيل أسباب بهجته، وهو سبب لإنقطاعها واياه الى تعالى بالدعاء والمسألة لطلب الولد لتكتمل سعادتهما وتتغاشهما الرحمة الإلهية.
اما من يتنعم بالسعادة والسكينة والإستقرار فيطمع بالمزيد من فضله ويدرك بالعقل والحس والوجدان انه سبحانه يهيء له ما فاته ويخلف عليه خيراً في النشأتين، لقد اراد زكريا اتمام النعمة بان يتفضل عليه تعالى بولد يكون هبة له ولزوجه، فالزوجة حينما تقوم باداء وظائفها الزوجية كاملة، تبعث السعادة والغبطة في نفس الزوج وعموم الأسرة وتكون عوناً على التوجه العام لذكره تعالى و أداء الفرائض ومنع الكدورة.
وفي الآية دعوة للرجال بعدم اليأس من العاقر، وعدم ايذائها للنقص الذي عندها لأنه خارج عن ارادتها ولأن واسع كريم , وهو القادر على اصلاحها للولادة والإنجاب وان كان عن كبر وشيخوخة، كما انها تبعث الأمل في نفس المرأة العاقر وتمنعها من القنوط وتدعوها للتوجه الى تعالى بالدعاء والمسألة والعمل الصالح وحسن التبعل، لقد أظهرت الآية بعض مصاديق اصطفاء آل ابراهيم و آل عمران منها:
الأول : ان العاقر من نسائهم تعيش الأمل بنيل الولد وتحقيق الرغائب، لأن ذكرامرأة زكريا جاء على نحو المثال وليس الحصر، وقد سبقت ايضاً إمرأة ابراهيم سارة التي لم تأتِ باسحاق الا بعد ان بلغ عمرها تسعين سنة.
الثاني : التداخل في الإصطفاء بين آل ابراهيم وآل عمران، وتأثير مصاديق احدهما بالآخر، فزكريا من آل ابراهيم وانتفع من الكرامة والنعمة السماوية التي عند مريم وهي من آل عمران.
الثالث : النصرة بينهما لبيان ان الغاية هي تثبيت كلمة التوحيد في الأرض لذا جاء في بشارة الملائكة بيحيى انه يصدق عيسى كما في قوله تعالى [مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ].
الرابع : اشتراك آل ابراهيم وآل عمران في دعوة الناس الى الإيمان والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أراد زكريا تثبيت حقيقة عقر إمرأته، والإقرار المتقدم في زمانه على الولادة بحصولها آية وفضلاً ونافلة منه تعالى، وهذا من معاني (أحسن القصص) ( )، التي وصف عزوجل به قصص القرآن ومصاديق الإصطفاء، بان تحمل القصة المفاجئة الكريمة وحل الأمر المستعصي، والإتيان بالمعجزة التي تبعث الغبطة والبشارة في النفس من وجوه:
الأول : استدامة الأمل في نفس كل امرأة عاقر او تأخر حملها، اذ ان الغايات الأخلاقية والإجتماعية من الآية أعم من ان تنحصر بموضوعها بل تشمل كل امرأة تأخر حملها لسبب من الأسباب لذا ترى كل امرأة منهن وفي مختلف أجيال المسلمين واهل الكتاب تعرف قصة امرأة زكريا.
الثاني : هذه المعجزة موضوع للتأسي والمواساة ودعوة لإنتظار نزول فضله تعالى على الزوجين، فمن كانت عاقراً تواسيها النساء وتذكرها بقصة امرأة زكريا وكأنها بين ظهرانيهن، خصوصاً وان البشارة بيحيى لم تأتِ بالإخبار عن حصول الولادة بل شملت اتصافه باسمى معاني الصلاح والشأن والرفعة في النشأتين.
الثالث : تمنع الآية من حصول النزاعات والخلافات داخل الأسرة بسبب تأخر انجاب الولد وعقم الزوجة، وحدوث الطلاق بسببه، اذ ان الأمل يطرد اليأس ويمنع من غلبة النفس الغضبية.
والآية من منافع الإصطفاء لما فيها من الإصلاح الإجتماعي العام فببركة آل ابراهيم وآل عمران ينغلق باب الفتنة الأسرية على كثير من عوائل المسلمين، ليتوجهوا نحو الدعاء وأداء الفرائض والإنشغال بطاعته تعالى، فمسألة الولد أهم مقومات الأسرة وهو العلة الغائية للزواج، فمع تخلف الزوجة عن الإنجاب تكون مستضعفة تشعر بالحياء، فجاءت هذه الآية لتجعلها وزوجها والأهل جميعاً يتطلعون الى فضله تعالى ونزول الرحمة ببركة آل ابراهيم وآل عمران، بدعاء زكريا، وتقوى مريم.
وقد ذكر زكريا أمرين انه بلغه الكبر، وامرأته عاقر، وان علة عدم الإنجاب مركبة من الفردين، وتدل الاية في مفهومها على عدم حصول الإنجاب في ايام شبابه بسبب عقم زوجته وما يدريه ان امرأته كانت عاقراً، فلعل السبب أصلاً واستدامة كان منه وان العقم والنقص كان عنده، وان رحم امرأته في شبابها كان صالحاً للحمل.
والظاهر ان الطب كان متقدماً عندهم وانهم كانوا يعرفون الامرأة العاقر وسبب عدم حصول الإنجاب من قبل ان تصل النوبة الى الوحي وان زكريا كان يعرف الأمر بالوحي واخبار الملائكة، لذا جاء عيسى بالآيات والمعجزات في باب الطب وابراء الأكمه والأبرص، وهو أكثر صعوبة من معرفة العاقر لأنه علاج ودواء، وليس تشخيصاً لحالة مرضية فقط.
ولم تذكر الآية تقدم امرأة زكريا بالعمر واكتفى زكريا بذكر عقمها وانها عاقر وجاءت الرواية بان عمرها اوان البشارة ثمان وتسعين سنة.
وفي الآية وجوه:
الأول : ان العقم وعنوان العاقر شامل لحالات المرأة المختلفة فاذا قال زكريا انها عاقر فانه يريد عدم اهليتها للإنجاب.
الثاني : جاءت قصص القرآن بلغة الإجمال والإيجاز غير المخل، وهو من جمالها وحسنها.
الثالث : لتوكيد حاجة زوجته الى الإصلاح من جهتين:
الأولى: الكبر وتقدمها في العمر.
الثانية: عقمها، أي انه بيّن المعنى الأعم للقصور والتخلف رجاء تمام الفضل والعطية.
الرابع : ذكر زكريا لعلة الكبر بالنسبة له يتضمن الإشارة الى كبرها وان الإعجاز في باب الكبر عند الرجل يترشح عنه الإعجاز بالنسبة لكبر المرأة ولعل فيه بشارة ان الإرتقاء العلمي يؤدي الى معالجة الإنجاب عن كبر عند الرجل والمرأة في زمان واحد او متقارب وكأن احدهما مرتبط بالآخر وملازم له.
الخامس : تصدي زكريا للإخبار عن حال زوجته وطلب الولد له ولها.
السادس : تدل الآية بالدلالة الإلتزامية على رضا زكريا بزواجه وتسليمه بأمر في عقم زوجته لذا تراه يذكرها بقوله (امرأتي) وفيه اخبار عن عدم وجود أكثر من زوجة عنده، وانه لم يجعل عقم الزوجة سبباً للزواج من غيرها، مما يرجح الظن بانه كان يرجو البشارة ونيل الولد منها.
السابع : ليس نقصاً او عيباً بالشخص ان تكون امرأته عاقراً، فهذا زكريا نبي من أنبياء وله شأنه وجاهه في المجتمع وهو أولى بالإنجاب والولد، ومع هذا فانه صابر على عقم زوجته وحرمانه من الولد بسببها الى ان منّ عليه بالبشارة.
الثامن : انتفاع الزوجة من الإفاضات التي تتغشى ألزوج , في آية للأزواج بعدم المنة على الزوجة حينما تنتفع من النعم والجاه والشأن الذي يصيبه، كما في التي تتزوج شاباً فقيراً فيصبح غنياً او ذا منصب رفيع.
التاسع : التفصيل الذي ذكره زكريا بانه بلغه الكبر وامرأته عاقر يدل على انه ليس بعقيم، وانه كان قادراً على الإنجاب.
بحث عقائدي
تبين هذه الآية الكرامة والمنافع في فلسفة تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية، فزكريا مع انه نبي، ويحتاج النصرة والتصديق فان يحيى لم يأتِ الا بمعجزة وبشارة الملائكة، اما المسلمون فكانت بشارتهم القرآن ونزوله على النبي محمد قال تعالى [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ] ( )، ومن وجوه الطيب والحسن الإنجاب وطلب الولد عندما تكون الزوجة عاقراً، وهذا يدل على ان شطرا من الآيات التي عند الأنبياء توارثها المسلمون ولكن بلحاظ التشريع والتخفيف فبالزواج من امرأة ثانية يستطيع المسلم تعاهد التوحيد وايجاد خلف له يحفظه وشأنه وأسمه.
لقد خاف زكريا الموالي من خلفه فسأل ولداً مع ذكره للمانع منه وهو عقم زوجته والظاهر ان سؤاله هذا متقدم كثيراً على زمان البشارة وان الخلل كان منحصراً بزوجته للمسلمين في هذا الباب وهي الزواج من أكثر من زوجة تداركاً وطلباً للولد الذي يحفظ الإسلام وعقيدة التوحيد مع أهمية البقاء على زوجة واحدة والإكتفاء بها خصوصاً مع انجابها للولد وخشية عدم العدل.
وكأن القرآن يقول في آية تعدد الزوجات ان من خاف الموالي والأعداء والشماتة وانقطاع النسل، واراد الولد وكانت أمرأته عاقراً فليتزوج من إمرأة ثانية، وهل تصلح مسألة الفحص الطبي المتقدم لكلا الزوجين قبل الزواج في تحديد الغرض ومعرفة الحال والإختيار، ام يترك الأمر للمشيئة الإلهية خصوصاً مع البشارة بيحيى التي تضمنتها هذه الآية وعظيم فضله تعالى على المسلمين، وان تخلف الإنجاب باب للدعاء والمسألة، الجواب ان الفحص الطبي أمر حسن لمعرفة الحال وتعيين الفعل والإختيار من غير ان يتعارض مع جواز الزواج من العقيم خصوصا مع الراجح الشرعي والعقلي الخاص, والمواظبة على الدعاء, وبذل الوسع في الإستعانة بالأسباب وعلوم طب الابدان و واسع كريم.
علم المناسبة
ورد لفظ (عاقر) في القرآن ثلاث مرات، وكلها في امرأة زكريا، وحكاية عن لسانه وفي حال سؤاله وتضرعه الى تعالى وهذا من الآيات في قصة زكريا وولادة يحيى، نعم ورد ذكر (عقيم) بالنسبة لامرأة ابراهيم وجاء على لسانها [وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ] ( )، والعقيم التي لا تلد ولا يقبل رحمها الولد، يقال امرأة عقيم من نسوة عقائم، ويطلق لفظ عقيم على الرجل ايضاًَ اذا كان لا يولد له، وحصول الخلل والقصور عنده وليس عند الزوجة.
ولابد من وجود فارق جهتي بين العاقر والعقيم , وان كان موضوعهما واحداً، ويبدو هذا الفارق جلياً في هذا الزمان بلحاظ تعدد أسباب العقم وتباينها وامكان معالجة بعضها ثم ان زكريا وصف زوجته بانها عاقر، اما إمرأة ابراهيم فهي التي أخبرت عن نفسها، فابراهيم تقبل البشارة وامرأته هي التي سألت، وزكريا هو الذي سأل وامرأته لم تكن حاضرة ساعة بشارة الملائكة.
اما في بشارة الملائكة لزكريا فكان قائماً في المحراب وليس معه أحد، وفي تكرار ذكر زكريا عقر زوجته شكوى الى وفيه دلالة على الإلحاح في الدعاء رجاء الإستجابة وعدم الملل او الضجر، ولم يقل زكريا انه عاقر وبلحاظ قصص الأنبياء وما رزق ابراهيم وزكريا من الإنجاب عن كبر وشيخوخة حتى في حال كون المرأة عاقراً، تتجلى آية منه تعالى وهي ان كل نبي لا يكون عقيماًُ ولابد ان تكون له ذرية، وان قوله تعالى آل ابراهيم وآل عمران يقيد التناسل والتكاثر الا ما ورد الدليل بخصوصه كما في يحيى اذ ذكره وقال (حصوراً).
وفي الآيات اخبار عن وجود ولد وذرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى [كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ]
بعد ان بين زكريا الموانع المادية التي تحول دون حصول الولد والإنجاب وانها لا تنحصر به بل تشمله وزوجته، فعمره زاد على المائة سنة، وامرأته بالأصل هي عاقر الى جانب انها أصبحت عجوزاً ورحمها معطل عن الحمل من أول الزواج، جاء الجواب منه تعالى، وهذا الجواب متمم للبشارة وتوكيد لها، فلقد تفضل سبحانه بنزول الملائكة بالبشارة، وحينما تلقى زكريا البشارة أخبر عن القصور عن تحصيل الولد وفيه:
الأول : انه يعلم ان عز وجل قادر على كل شيء.
الثاني : لقد قامت مريم باخباره بان عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب.
الثالث : لقد توجه زكريا بسؤال الولد وهو يعني انه لم ييأس ولم يقنط وانه ينتظر الولد، وليس من فترة بين سؤاله لمريم عن الرزق الملكوتي ودعائه وبشارة الملائكة بدليل التقارب الزماني بين ولادة يحيى وعيسى، فلابد انه اراد المزيد من فضله تعالى، ليعطي زكريا للمؤمنين درساً اضافياً، يتعلمون من خلاله الإلحاح في الدعاء، وانتظار فضله تعالى بالإستجابة فمن آيات النبوة ومصاديق الإصطفاء في الآية ان عزوجل أستجاب له ورد على قوله واستفهامه ولم يترك كلامه يذهب سدى، او يجعل الآية الفعلية بالإنجاب هي الجواب الشافي والدليل على قدرته تعالى.
وفي الآية سر من أسرار الإرادة التكوينية , وهو لزوم نسبة المعجزات اليه تعالى، فمع ان الملائكة هي التي جاءت بالبشارة ونسبتها الى تعالى، فان هذه الآية جاءت بالإخبار عن الفعل وليس عن البشارة وحدها.
وصحيح ان بشارة الملائكة حق وانهم لايفعلون الا ما يؤمرون وقولهم ونداؤهم هو ايضاً فعل الا ان قوله تعالى [كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ] يؤكد ان البشارة منه تعالى، وهي بشارة حتم وجزم والحديث ملكوتي لا يستطيع الشيطان محاكاته والإتيان بمثله، وآية يحيى منه تعالى واذا أراد شيئاً أتقنه وهيء اسبابه ومقدماته، ومن كرمه واحسانه بعث الملائكة بالبشارة ثم يتفضل بان يؤكدها ويخبر انها فعل الهي منجز.
لقد جاء التشبيه باسم الإشارة للبعيد، والأصل في (كذلك) انها مركبة من:
الأول : كاف التشبيه فتقول: كذا صلاتي.
الثاني : اسم الإشارة (ذا).
الثالث : حرف الخطاب فتقول كذاك صومي.
الرابع : لام البعد مع حرف الخطاب، كما في الآية الكريمة [كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ].
وهذا من أسرار اللغة العربية ودقة معانيها وأهليتها لأن تكون وعاء لغوياً لآيات القرآن , فكلمة واحدة من أربعة حروف كل حرف يرمز الى معنى ومضمون مستقل، وفيه توكيد على التكرار والتشابه المتصل الدائم.
لقد أظهر زكريا المدح والثناء لله تعالى ببيان ان هذه النعمة أمر فريد ونادر وأختص به من بين الناس، لأنه لم ير في حياته ان رجلاً في مثل سنه الطاعن وامرأته عاقر رزقه ولداً نبياً وجامعاً لصفات الصلاح، فأخبره سبحانه ان عزوجل يفعل ما يشاء , وفيه امضاء لقول مريم [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]، فمن مصاديق الإصطفاء ان الأمر والمشيئة الإلهية تأتي مطابقة لقول المصطفين الأخيار، فان بشارة زكريا بيحيى رزق بغير حساب وعطاء غير مجذوذ.
وهذا الرزق والنعمة يشمل:
الأول : زكريا.
الثاني : امرأته العاقر.
الثالث : يحيى.
الرابع : مريم لنصرة وكفالة زكريا لها، لما في آية ولادة يحيى من علو رتبة وشأن عند بني اسرائيل وبما يؤدي الى اكرامها والذب عنها.
فصحيح ان بني اسرائيل إحتجوا على وضع مريم لعيسى، كما حكى القرآن عنهم [يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ] ولكنهم لم يتعرضوا لها وللمولود بأذى، لأنه تكلم في المهد ولذب زكريا عنها ووجود المؤمنين الذين يصدقون بالآيات، ولابد ان الإفتراء لم يصدر منهم جميعاً.
ومع ان الآية مقول لقوله تعالى فانها وردت بصيغة القاعدة الكلية والحقيقة الثابتة في الإرادة التكوينية والتشريعية، وفيها اخبار بان المشيئة الإلهية له تعالى، وهي فوق الأسباب المادية والعلل الطبيعية، وليس لها حد او حساب بل هي مطلقة، وهذا الإطلاق يتعلق بجانب الثواب والعقاب والخير والإبتلاء.
فقد وردت الآية هنا في الهبات والخير والفضل الإلهي، وجاءت بصيغة الإنذار والوعيد , كما في قوله تعالى [فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ
مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ] ( ).
ترى كيف وصل كلامه تعالى الى زكريا فيه وجوه:
الأول : عن طريق الملائكة الذين جاءوا بالبشارة بيحيى.
الثاني : الوحي والتنزيل واخبار الملك.
الثالث : كيفية اخرى و واسع كريم.
والأقوى هو الثاني فان الجواب منه تعالى جاء بالوحي.
وخاتمة الآية تتضمن الإعجاز وتنبئ عن عدم انحصار الفضل الإلهي والكرامات بالذين ورد ذكرهم في القرآن، وان انعدام صفة النبوة عند العبد لا يعني حرمانه من الكرامة والعطاء الإلهي.
فقد يظن شطر من المسلمين بان نعمة الولد عن كبر وعقم خاصة بالأنبياء او بابراهيم وزكريا على نحو الخصوص خصوصاً مع القاعدة الكلامية بان زمان المعجزات قد إنتهى بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى.
فجاءت هذه الآية بما هو أعم من القواعد الكلامية ومن غير ان يتعارض معها، اذ أخبرت عن الإطلاق في فضله تعالى وان النعم لا تنحصر بالأنبياء ولا بهبة الولد من غير استعانة بالأسباب المادية، لتجعل أبصار المسلمين شاخصة الى السماء، وألسنتهم طرية لهجة بالدعاء وأبدانهم مشغولة بالعبادة، ونفوسهم حريصة على تعاهد الأحكام الشرعية , واجتناب الحرام لتنقية طريق المسألة والحاجة واحراز شرائط الدعاء والطمع في الإستجابة.
وموضوع خاتمة الآية لا ينحصر بالبشارة التي جاءت بها الملائكة بل يشمل ما رآه زكريا عند مريم من الرزق السماوي، فأراد سبحانه ان يخبر عن كونهما من أفراد عطائه ورزقه الكريم وان فضله لا يقف عندهما سواء لزكريا او مريم او غيرهما.
فالآية تدعو زكريا لسؤال غير الذرية الطيبة ايضاً، بمعنى ان الإستجابة الإلهية في موضوع ومسألة لا تمنع من السؤال وطلب حاجات أخرى بل بالعكس فتلك الإستجابة مقدمة لسؤال الرغائب منه تعالى لأنها توكيد عملي بان عزوجل يقضي ما عجزت عنه الأسباب وقصرت عنه الهمة وحالت دونه الموانع.
والإعجاز في الآية على وجوه:
الأول : جاء الجواب لزكريا بعد البشارة بالولد، وسؤاله عن كيفية حصوله رغم امتناعه في واقع الإمكان السببي.
الثاني : في الآية تذكير لزكريا بان البشارة لم تنحصر بالولد ومجيئه مع الكبر والعقم بل انها تضمنت كونه مصدقاً بعيسى وانه وجيه وسيد وحصور ونبي من الصالحين.
وهذا كله من فضله تعالى، وهل في الآية تذكير لزكريا وزوجه بهذه النعم ولزوم الإلتفات اليها لأنها ليست فروعاً للولد بقدر ما هي أصول مباركة كل فرد منها قائم بذاته وله خصوصياته ومنافعه الخاصة والعامة، وهذا التذكير مناسبة للشكر له تعالى واستحضار تلك النعم والفرائد والخصال الحميدة , ولعل فيه دعوة الى اعلانها وذكرها وان المولود البشارة سيكون حاملاً لصفات الحسن والكمال , وانه سيكون نبياً ومصدقاً بكلمة من من غير معرفة او اعلان تلك الكلمة للحفاظ على عيسى ويحيى في آن واحد بل وعلى زكريا وزوجه، ومريم التي تكفلها زكريا نفسه لأن النبوة أجتمعت في هذا البيت باعتبار ان مصاديق اصطفاء آل ابراهيم وآل عمران الذي ذكرته هذه الآيات اجتمعت عندهم.
فالإصطفاء كان لآدم ثم نوح ثم ابراهيم وآل ابراهيم، ولكنه في هذه المناسبة إجتمع مع اصطفاء آل عمران في زمان واحد، وهذا الإجتماع لم ينحصر بالزمان بل شمل المكان والموضوع والحكم , فقد إلتقى اصطفاء آل ابراهيم وآل عمران في قصة زكريا وولادة يحيى ومريم وولادة عيسى من غير اب، لأن زكريا من آل ابراهيم، ومريم وعيسى من آل عمران ومن آل ابراهيم ايضاً، فالواو التي وردت في الآية الثالثة والثلاثين في قوله تعالى [وَآلَ عِمْرَانَ] تفيد الترتيب والجمع في زمان وموضع واحد باشخاص معينيين، ومن أسرار الإصطفاء انه معلوم عند الناس ويمكن معرفته بالشواهد والوقائع والسيرة والسنن.
وتبين الآية تعدد ذات النعمة وهبة الولد عن كبر لإفادة (كذلك) التشبيه سواء بأفراد الزمان المنصرمة او اللاحقة لأنها فرع القدرة والكرم الإلهي , ومن أسمائه تعالى القادر والكريم،
وفي خاتمة الاية ثناء منه تعالى على نفسه , وبيان لعظيم احسانه وتوالي آلائه، لأن نعمة الولد عن كبر فضل عظيم يدل على استجابة الأشياء لمشيئته بما يتعدى الأسباب والعلل المادية.
وتبعث الآية في نفوس المسلمين الأمل بالرزق الكريم الذي يتعدى الأسباب والقواعد ليس في خصوص الولد، بل في جميع شؤون الحياة وحاجات الدنيا والآخرة وان الفعل الإلهي لا يخضع لقوانين الطبيعة بل القوانين هي التي تخضع للمشيئة وتستجيب له تعالى، وقد يصدر ملك او سلطان قانوناً ثم يعمل بالقانون ولا يستطيع تعديه ومخالفته وقد يتعرض للذم او الحساب حينما يخالف القانون.
اما القوانين الكونية فهي فرع المشيئة الإلهية، ومن رحمته تعالى ان تكون المشيئة أعم منها لتوكيد ان هذه القوانين والعلل والمعلولات وجدت لخدمة الإنسان وسخرت لإعانته وقضاء حوائجه وعندما تكون تلك القوانين والعلل قاصرة عن تحقيق حاجاته، تأتي المشيئة الإلهية ليفعل ما يريد من اكرام العبد ونيله للرغائب وانجاز طلبته وازاحة الموانع التي تحول دون حصول بغيته، ومن الإصطفاء والإجتباء ان تنال حوائج المصطفين الأخيار بالدعاء والمشيئة وبما يفوق قانون الأسباب والمسببات.
لقد اراد عزوجل توكيد حقيقة عقائدية، وهي التطلع الى رحمته وعدم اعتبار الأسباب المادية كل شيء في الوجود، لأن رحمته وفضله تعالى ليس لهما حدود وانه سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، وتدل الآية على اكرامه تعالى للأنبياء فمع الإستجابة يأتي البيان بصيغة التوكيد والعموم ليكون سؤال زكريا دعوة للناس للإقتداء به في الدعاء والمسألة ولم يكن كلام زكريا عن شك بان النداء من وسوسة الشيطان كي يكون الجواب الإلهي سلاحاً لدفع هذا الشك، بل انه رحمة اضافية وتثبيت للبشارة ودعوة لسؤال المزيد من الحاجات والرغائب.
قوله تعالى[قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ]الآية 41
الإعراب واللغة
قال: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر يعود لزكريا، رب: منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، اجعل: فعل طلب وسؤال، والفاعل ضمير مستتر تقديره انت.
لي: جار ومجرور متعلقان بأجعل.
آية: مفعول به منصوب، وجملة النداء وما تلاها مقول القول.
قال: فعل ماض، آيتك: مبتدأ، والضمير الكاف مضاف اليه.
الا: مركبة من (ان) الناصبة للمضارع، و(لا) النافية، ومنهم من لا يدغمها في الكتابة فيفصل طرفيها ويكتبها ان لا.
تكلم: فعل مضارع منصوب بان، ان وما في حيزها في تأويل مصدر خبر للمبتدأ آيتك.
ثلاثة ايام: ظرف متعلق بتكلم، ايام: مضاف اليه.
الا: اداة حصر في الإستثناء المفرغ لأن الرمز ليس من جنس الكلام.
واذكر ربك كثيراً: الواو: استئنافية، اذكر: فعل أمر وفاعله: ضمير مستتر تقديره انت، ربك: مفعول به منصوب، الكاف: مضاف اليه.
كثيراً: مفعول مطلق وقيل ظرف زمان.
وسبح: الواو: عاطفة، سبح: عطف على اذكر.
بالعشي: جار ومجرور متعلقان بسبح، الأبكار: عطف على العشي.
والرمز اشارة لإفادة المعنى من غير ظهور لفظ مفهوم وكلمات ذات معنى مبين، وهو على وجوه:
الأول : تحريك الشفتين من غير ظهور مفردات واضحة وافصاح لساني عن المقصود.
الثاني : ايماء باليد او الحاجب.
الثالث : اشارة بالشفة.
الرابع : الإيماء والغمز بالعين، يقال رمزته المرأة بعينها رمزاً: غمزته، والرميز: العاقل الثخين الرزين الرأي.
بحث بلاغي
من البديع باب (حسن النسق) وهو ان يؤتى بكلمات او جمل متتاليات بعضها معطوف على بعض، بينها تناسق وتلاحم وتجانس بهيج، اذا أفردت كل جملة أعطت معنى مستقلاً وقامت بنفسها، ومنه هذه الآية اذ يظهر الترتيب البلاغي البديع بين جملها والذي يستقرأ منه حسن استجابته تعالى لزكريا وارشاده الى كيفية تلقي وتعاهد النعم واظهار اثرها في القول والفعل،
فقد بدأت الاية بسؤال زكريا آية ومصداقاً يؤكد حصول البشارة وانها من عند وبما يجعل الناس يعتبرون منها ويكونون شهوداً عليها، ليأتي الجواب منه تعالى بذكر الآية التي تتضمن آية بدنية عضوية محدودة بمدة معينة وهي العجز عن الكلام واللجوء الى الإشارة مع عدم ترك العبادة والذكر والتسبيح في الليل والنهار.
وحسن النسق اصطلاح بلاغي وفق قواعد خاصة والا فان آيات وكلمات القرآن جاءت كلها بنسق وحسن وترتيب بديع يعجز عن ادراك معانيه اولوا الألباب.
في سياق الآيات
بعد تلقي زكريا نداء الملائكة الذي هو بذاته بشارة وتشريف وضياء مبارك لغد ايماني مشرق، والآيات التي تضمنتها البشارة والتي لاتنحصر بموضوع واحد بل تتعدد من جهة الموضوع، والمحمول، اذا ان الموضوع لاينحصر بيحيى بل يشمل زكريا وزوجه،وبني اسرائيل والناس جميعاً.
فالبشارة التي جاء الملائكة بها تخص اطرافاً متعددة وهي:
الأول : زكريا اذ يأتيه ولد يكون فيه خير الدنيا والآخرة.
الثاني : زوجة زكريا لاحياء رحمها وبعث الحياة في شخصيتها وذكرها لتغمرها السعادة الى حين الاجل.
الثالث : يحيى نفسه اذ انه نافلة وهبة جاء بفضله تعالى فلا غرابة ان يكون حصوراً ناذراً نفسه لمرضاته تعالى ودعوة الناس للتصديق برسالة عيسى .
الرابع : بنو اسرائيل في بقاء النبوة بين ظهرانيهم، وفيه حث على تعاهد شخص النبي واتباع اوامره واخبارهم بان الملائكة قريبون منهم يسمعون دعاء نبيهم وينقلون البشارة والامر الالهي الذي يتضمن الوعد والوعيد لهم، وعد بالاستجابة للصالحين والذين يتخذون الدعاء سلاحاً، ووعيد للجاحدين والمعاندين فكما تنزل الملائكة بالبشارة على النبي والعبد الصالح فانها تنزل بالعذاب على الجاحد والكافر.
الخامس : المسلمون، فمن الآيات ان تنزل الملائكة على زكريا في مسألة الوعد والبشارة به، ولكن موضوعها اعم، فهذا النزول حدث عظيم وواقعة لها شأن في تأريخ العقائد والمليين الى يوم القيامة، وتبعث في نفوس المسلمين العز والامل وتجعلهم يتطلعون الى رحمته وفضله تعالى في السراء والضراء.
وليس في نزولهم وعيد للمسلمين بل وعد وبشارة، ومع البشارة يأتي التوكيد عليها، والاخبار القرآني بالسعة والمندوحة، فللنبي والعبد الصالح ان يسأل عن كيفية الاستجابة وهذا السؤال والجواب عليه من كرمه ولطفه تعالى، فلولا اللطف والعون الالهي لما استطاع زكريا ان يسأل عزوجل [أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ] وجاءت هذه الآية بطلب زكريا لنعمة وهبة تكون مصداقاً عملياً للبشارة.
اعجاز الآية
مع عظم الآية والمعجزة فان النداء يتكرر من زكريا رجاء توكيد البشارة واظهارها لبني اسرائيل لتكون حجة له وعلامة على نبوته ودعوة لتصديق يحيى قبل ولادته، لقد اراد زكريا ان يكون للبشارة أثر واقعي متقدم على زمان التحقيق.
فكما قامت الملائكة مستبشرة بنقل البشارة فانه اراد من الذين حوله الفرح والاستبشار بهذه البشارة وتلقيها النوعي بزيادة الايمان والرشاد، فسؤال زكريا هذا نوع شكر عاجل منه، لما فيه من ارادة اتخاذ هذه البشارة سبباً لهداية الناس ورسوخ الايمان والصلاح.
فصحيح ان الملائكة نزلوا بالبشارة ونقلها الى زكريا وبني اسرائيل والناس جميعاً فاراد زكريا الانتفاع من هذا الافاضات بآية تكون شاهداً على صدقه وسبيلاً لجذب بني اسرائيل وجعلهم يعيشون في رحاب الآيات وينتظرون بشغف ولادة يحيى النبي.
وهذا من اسرار الاصطفاء، فجاءت الآية لزكريا بالذات ولكنه أراد ان ينتفع الناس منها بالحال، فلم ينتظر اوان ولادة عيسى ونشأته على الصلاح ومجيئه بالآيات التي تدل على صدق نبوته، بل اراد انتفاع بني اسرائيل من الآية حال نزول الملائكة فاستجاب له تعالى، وجعل الآية في نفسه وبدنه وعلى نحو مؤقت.
ومن الاعجاز في الآية اعتبار التقيد بالذكر والتسبيح على كل حال وعدم الغفلة عنهما، وتلاحق هذه الآية اليهود في كل زمان للتدبر ومراجعة الذات فيما فعلوا بيحيى وزكريا مع الآيات الباهرات التي جاء بها كل واحد منهما، مما يدل على ان القرآن حاكم على الكتب والملل الآخرى، وفيه توثيق للسنن والاعمال النوعية العامة.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (إجعل لي آية) ولم يرد لفظ (اجعل لي ) في القرآن إلا مرتين وفي ذات موضوع زكريا وسؤاله( ).
الآية سلاح
في الآية سلاح وعون مركب:
الاول: خاص وينقسم الى شعبتين.
الاولى: عون لزكريا في مواجهة بني اسرائيل واثبات نبوته، وان عزوجل رزقه آية الولد عن كبر ولم يأت الولد عن سحر اوتسخير للجن والشياطين، ولكنه رزق وهبة من ، وامر ضروري لدعوة الناس للاقرار بالاعجاز ومنعهم من التأويل الخاطئ والتعدي، لان سوء التأويل والاقاويل تحول دون الاعتبار والانتفاع الأمثل من الآية.
الثانية: النصرة المتقدمة زماناً ليحيى، اذ ان ظهور الآية على زكريا برهان ودليل اعجازي فلم يحدثنا التأريخ عن آية تصيب الوالد كعلامة لولادة المولود الا في قصة ولادة يحيى وهذا من مضامين الاصطفاء والاجتباء بان تكون هناك آيات تظهر عند الحمل والولادة بالمصطفى من آل ابراهيم.
الثاني: عام وينقسم الى شعب متعددة وهي:
الاولى: أهل دويرة زكريا ومن حوله، وعموم من يرى الآية من الرجال والنساء والرهبان.
الثانية: بنو اسرائيل عامة سواء الذين يسكنون مع زكريا في ذات البلدة او غيرهم لتكون لهم آية وتحذير من ايذاء يحيى.
الثالثة: الاجيال المتعاقبة من بني اسرائيل، فآية زكريا حث لهم على تلقي وتوارث البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والايمان به عند بعثته.
ولهذه البشارات نفع وأثر عظيم في التصديق بعيسى ثم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء من قبل اليهود او غيرهم، لان الامر الإلهي لايأتي الا لغرض ونفع عظيم الاأن يقال بعدم ثبوت الملازمة بين البشارة بيحيى ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الملازمة والاشارات ظاهرة خصوصاً وان كل رسول يبلغ من يأتي من بعده بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يكون بين الرسل عدد من الانبياء المتعاقبين فيتناقلون ويتوارثون البشارة اضافة الى تضمن الكتب النازلة من السماء لموضوع نبوته و الاخبار عنها كما في ألتوراة والانجيل.
الرابعة: المسلمون، فهذه الآية حرز لهم وسلاح على اعدائهم من الكفار والجاحدين، فمع ان زكريا نبي الا انه يلتقي مع المسلمين بالتوحيد والاقرار بالربوبية لله تعالى، فالاصل هو الاسلام لذا مدح عزوجل النبي محمدا , واسرى به الى السماء بصفة العبودية مما يدل على شرفها, قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] ( )، بل وردت آية اكرام زكريا بصفة العبودية ايضاً قال تعالى [ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا]( )، وفيه دلالة على ان زكريا، ونبوته والآية التي رزقه رحمة للناس جميعاً.
الخامسة: الناس جميعاً، في حجة عليهم وموعظة واخبار بان الانسان لم ينقطع عن الجنة وعالم السماء الا ان الكفار حجبوا عن انفسهم هذه النعمة باختيارهم الكفر، فان قلَت ان هذه الآية خاصة بزكريا قبل النبوة، قلتُ: صحيح ان الآية خاصة بزكريا ولكنها تشمل المسلمين من وجوه:
الأول : الجامع المشترك من الايمان والتسليم لله بالربوبية.
الثاني : ماجاء للنبي كأنه جاء للمسلمين على نحو العموم والتفرع، فالآية النبوية كالشجرة التي تدخل اغصانها كل بيت من بيوت المسلمين.
الثالث : الآية النبوية مدرسة وموعظة ينهل منها كل مسلم، اما الكافر فقد وضع غشاوة اختيارية على بصره فلم ير ما فيها من الدلالات والعبر.
الرابع : تتجلى بركات آية البشارة بيحيى بالامل، وعدم اليأس عند المسلمين، فلا ترى الاكتئاب مستحوذاً على من ابتلي بالنقص او العاهة منهم، بل يكون مشغولاً بالشكر له تعالى.
وهذه الآيات ترغيب بالاقتداء بالانبياء ودخول الاسلام واصلاح السريرة، وتدارك النقص البدني والعوز والفاقة بسلاح الدعاء، لذا فان قصص القرآن حاجة للناس جميعاً، فمن وجوه حسنها ووصفها بانها (احسن القصص)( ) ان الناس يحتاجون اليها في دنياهم وآخرتهم، يتلقون الدروس والعبر ويجعلونها منهلاً للعلوم ومؤدباً ومصلحا ً ومرشداً، فالى جانب امره تعالى بالدعاء ووعده بالاستجابة، فانه سبحانه ذكر في القرآن شواهد للدعاء والاستجابة، تضمنت الآيات الباهرات في كل من طرفي الدعاء والاستجابة، لمنع التردد والخشية من عدم الاستجابة سواء مطلقاً او بخصوص المسائل المستعصية والفاقدة لاجزاء العلة كلاً او بعضاً.
مفهوم الآية
المعجزة والكرامة التي تأتي للأنبياء على قسمين:
الاول: ظاهرة بينة، مدركة بالعقل او الحواس، والآية العقلية القرآن، ومن الآيات الحسية عصا موسى وناقة صالح، وولادة يحيى وعيسى، وحتى الآيات الحسية فانها ليست حسية محضة، بل تتضمن الدلالات العقلية وهي خلاف البديهيات والمسلمات والعاديات، ولابد من استحضار وتصور عظيم قدرته لتخطي عالم السببية والعلة والمعلول، وهذه الآيات الظاهرة على شعب وهي:
الاولى: ان تكون خاصة بشخص النبي سواء في نبوته وعلمه او بدنه ونفسه.
الثانية: عامة للناس وهي على شعب:
الاولى: ماتكون آية رحمة ونفع للناس ودعوة للايمان، ولاتنحصر بفرد معين بل بالجماعة كما في نزول المن والسلوى على بني اسرائيل.
الثانية: ماتكون على نحو القضية الشخصية المتحدة او المتكررة كما في ابراء عيسى للاكمه والأبرص.
الثالثة: ماتكون آية عذاب وعقاب نازل بالجاحدين والكافرين , كما في قوم لوط , وقوم صالح قال [تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ] ( ).
الثاني: وهي الآية الخفية التي لايراها الا النبي وحده او من يشاء من اصحابه او اهل بيته، كما في نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه لايرى الملك عند النزول الا النبي وبصفة الرسالة، ونداء الملائكة لزكريا من هذا القسم لم يسمع النداء الا زكريا نعم عند رؤية ولادة يحيى تتجلى الآية ولكن سؤال زكريا يوحي بالخيفة والحذر من بني اسرائيل وانهم قد لايؤمنون بالآية، ولايقرون بان يحيى جاء بمعجزة وآية.
واحتمال انهم لايقرون بالآية عند الولادة اذا لم يكن اخبار اعجازي متقدم على الحمل له وجوه.
الأول : تقدم الطب عندهم بحيث يمكن حصول الولد والانجاب ممن عمره مائة وعشرين سنة، وامرأته تبلغ ثمان وتسعين سنة وهذا الاحتمال بعيد، ولااصل له، فصحيح ان الطب متقدم انذاك ولكن ليس الى هذا الحد من الاتقان الذي تعجز عنه العلوم التقنية والمختبرات الحديثة، ولوكان لبان، والتضرع لطلب الولد ومجئ الآية بولادة يحيى، وقول زكريا [أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ] يبين قصور الطب تماماً عن تحصيل الولد بحالته وحالة زوجته تلك.
الثاني : سوء التأويل والظن القبيح بزكريا وزوجه، فجاءت الآية والاخبار عن البشارة بحصر موضوع الولادة بالاعجاز.
الثالث : عدم الالتفات للآية عند حصولها واعتبارها فرداً نادراً , وليس ممتنعاً واقعاً وفي عالم الامكان، وربما كان عند بني اسرائيل اخبار واقعي بان من الناس من يولد له عن كبر، تلك الاقاصيص التي قد تنتشر بين اوساط العجائز لمنع اليأس والقنوط، فجاءت آية زكريا لتوكيد حقيقة ولادة يحيي بآية سماوية.
الرابع : تقدم زمان الآية على الولادة دعوة للناس لترقب ما يحصل، وليتبين لهم ان آية زكريا حق وصدق، وفي عالم النبوة شواهد كثيرة عن التنبأ بما يحصل وتحدي الناس بالإخبار عن حوادث المستقبل القريب.
ففي صبيحة يوم الاسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما اجتمعت قريش في البيت الحرام وسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا فاخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم( )، وبين لهم احمالها وهيئاتها وقال يقدمها جمل اورق عليه فزارتــان محيطتــان وتطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا هذه آية اخرى.
ثم خرجوا يشتدون نحو التيه وهم يقولون: لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بيناً وجلسوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه؟ فقال قائل: و ان الشمس قد طلعت، وقال آخر: و هذه الأبل قد طلعت يقدمها بعير اورق فبهتوا وسألوهم عن الإناء فاخبروهم انهم وضعوه مملوء ماء ثم غطوه وانهم وجدوه مغطى ولا ماء فيه.
وسألوهم عن البعير الذي ند لهم فاخبروهم انهم فقدوا بعيراً وسمعوا صوت رجل يدلهم اليه ثم اخذوه، وعن الصادق ان قريشاً ارسلت الرسل وقالوا لهم حيث ما لقيتم العير فاحبسوها ليكذبوا بذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضرب وجوه الإبل فاقتربت على الساحل واصبح الناس فشرفوا فما رؤيت مكة اكثر مشرفاً ولا مشرفة منها يومئذ لينظروا ما قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم فاقبلت الإبل ناحية الساحل وكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخرج المسلمون يومها فرحين بفضل ، واسلم ساعتها عدد كبير من الناس وله الحمد في الأولى والآخرة( ).
ومن مفاهيم الآية محل البحث جواز العلامة والدلالة التي تؤكد حصول المعجزة وتوثيق البشارة وعدم تكذيب الناس بها، وتبين الآية اهمية معرفة الناس لمعجزات الانبياء وكرامات الاولياء بما يؤدي الى تحصيل النفع الخاص والعام منها.
لقد جاء سؤال الآية بعد ان اكدت الآية السابقة انه تعالى يفعل ما يريد ويهب المواهب العظيمة، وتفضل سبحانه واستجاب له في مسألته وحاجته وجعل له آية وحبسه عن الكلام لتكون هذه الآية مقدمة لولادة يحيى مع التوكيد على الذكر واقامة الصلاة وعدم تركها باي حال من الاحوال، وتبين هذه الآيات مراتب الدعاء والمسألة في ولادة يحيى وهي:
المرتبة الاولى: ولادة مريم كأنثى، ومالها من البركات بان كانت سبباً لإنقطاع زكريا للدعاء.
المرتبة الثانية:كفالة زكريا لها وتوليه شؤونها لتكون مناسبة لتنمية ملكة الدعاء عندها واشتغالها المتصل به.
المرتبة الثالثة: دخوله المتكرر عليها في محراب الصلاة والعبادة.
المرتبة الرابعة: رؤيته للرزق السماوي عند مريم.
المرتبة الخامسة: سؤال زكريا لها عن تلك الموائد والهبات المتصلة.
المرتبة السادسة: اجابة مريم بانه [مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]
التي تدل على اثار الجلال والجمال للرزق السماوي عليها في سمتها وسجاياها وكلامها، لانه عون على زوال الحجب عن البصيرة، وادراك مفاهيم الايمان بالحس والوجدان والعقل، فجاء جوابها قاعدة في المعرفة الالهية ومدرسة في الاخلاق ومساهمة جهادية في صلاح النفوس، وقد يكون فيه اخبار بأن مريم تنتظر اكثر من هذا الرزق، وفضلاً آخر يتعقبه، وتتطلع الى البشارة بالحمل بعيسى من غير اب أي ان كلامها مركب ويفيد ارادة:
الأول : الذات، وتفضله تعالى بالاحسان اليها.
الثاني : الشكر على نعمة الرزق السماوي.
الثالث : الوثوق من استدامة هذه النعمة وعدم انحصارها بوقت محدود، ولابد من ملازمة بين الرزق الذي رآه زكريا عند مريم وبين قول عيسى [وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا] وموضوعية المحراب في وجود الرزق عندها.
وحينما تكون خارج المحراب وعند ساعة الولادة وما قد يصاحبها من النفاس والدم فان الامر جاء اليها بهز النخلة والاكل من ثمرها، في اشارة الى اعتبار النقاء والطهر البدني والذاتي والمكاني ساعة نزول الرزق السماوي لمريم.
الرابع : مباشرة مريم للدعوة الى وهي في كفالة زكريا وقيامها بالخدمة في الكنيسة باصلاح النفوس وتهذيب الاخلاق والانقطاع الى تعالى.
فكل راهب يرى عبادة وتقوى مريم يشعر بلزوم اجتهاده بطاعة من باب الاولوية القطعية ليكون مصداقاً لقول امها وليس الذكر كالأنثى فمريم تقوم بتثوير حال التقوى وجعل المؤمنين يتسابقون في مرضاته ويكرمون المرأة المؤمنة عامة ومريم على نحو القضية الشخصية وفيه وجوه:
الاول: انعدام الحسد عند مريم من جهات:
الأولى: التضاد والتنافي بين الإصطفاء الإلهي والأخلاق الذميمة، فالإصطفاء عنوان للمكارم والبهاء والحسن.
الثانية: الإنقطاع لطاعة عز وجل يشغل الإنسان عن الإنشغال بغيره.
الثالثة: تعدد نعم على العبد وتواليها يجعله لا يتوجه الا اليه تعالى في حاجته ومسألته.
الرابعة: لقد رزق مريم من الآيات والنعم ما يجعلها لا تلتفت الى ما عند غيرها لثبوت حقيقة في الوجود الذهني والواقعي عندها , وهي ان رزقه تعالى غير محدود ولا منقطع.
الثاني: الاخبار بامره يرزق من يشاء، واسم الشرط هنا (من) يفيد الاطلاق وعدم حصر الرزق باشخاص او جماعة معينة.
الثالث: دعوة زكريا لطلب الرزق والفضل منه تعالى وبما هو اعم مما رأى عندها.
الرابع: حث الناس على اللجوء اليه تعالى ورجاء فضله ورزقه، وانها ترجو للمؤمنين مثلما نالت.
الخامس: ان مريم عليها السلام تنتظر دوام الرزق وتهيئ الاذهان سواء بخصوص الكفيل او غيره بانه اذا رزقها ولادة عيسى فانه من الرزق الذي لايعد ولايمكن حسابه.
السادس: تعتبر مريم الرزق الذي عندها من الذي لايمكن حسابه وعده واحصاؤه، او انه مما يحسب بلحاظ اضافة عدد المحراب التي ينزل فيها وفيه وجهان.
الوجه الاول: انها تعتبر نفسها ممن رزقها بغير حساب بدليل شواهد الطعام الملكوتي عندها.
الوجه الثاني: تنتظر ان يرزقها ما لا يحصى وهو على عدة شعب:
الاولى: لايكون مما لايحصى الا لجمعه مع الرزق الذي عندها.
الثانية: ان الذي سيأتيها مما لايعد بذاته وهذا ايضاً على قسمين:
الاول: رزق مريم قائم على نحو الانفراد والاتحاد والدفعة الواحدة.
الثاني: الرزق المتعدد والمتكثر.
الثالثة: لم تكن تعلم بوضعها لعيسى من غير أب سواء على نحو التفصيل او الاجمال الذي يتضمن دلالات الاعجاز والاكرام، ولكنها تدرك ان ابواب الرزق الالهي مفتوحة.
الرابعة: ارادة ما عندها من النعم المتعددة كالولادة والتفرغ للعبادة وخدمة الكنيسة وسمت الصلاح والتقوى في بيان لصفات العبودية والشكر لله ونزاهتها من الغرور والزهو ووساوس الشيطان.
السابع: ايمان مريم بان خزائنه تعالى لاتنضب وكنوزه وعطاياه سبحانه لاتنفد.
وهذا من وجوه الاصطفاء انه تعالى جعل آل ابراهيم منزهين عن الشح والبخل، ويرجون من الناس ان يتنعموا بمثل الذي رزقهم تعالى ويدركون ان هذا الانعام لن ينقص مما رزقهم سبحانه بل انه يزيد عليهم بلحاظ عناوين الاصطفاء والاجتباء.
المرتبة السادسة: من مراتب الدعاء والمسألة استحضار زكريا حاجته للولد، ومبادرته للدعاء فهناك ملازمة بين اطراف ثلاثة:
الاول: رؤية زكريا الرزق عند مريم.
الثاني: استحضار فقده للاسباب والعلة المادية لنشوء الولد.
الثالث: مبادرته للدعاء والسؤال , باعتبار ان الولد مع حالته تلك من الرزق الذي يكون بغير حساب وغير متوقع لا بالظن الراجح ولا المرجوح في عالم التصور، ولكن الدعاء يجعله حقيقة ويقيناً من عالم التصديق.
لقد انتقل ذهن زكريا من رؤية الرزق عند مريم وجوابها الى ضعفه وعجزه، وامكان نيل بغيته وحصول الولد من عنده تعالى فلجأ الى الدعاء والمسألة بصوت علني مسموع، والظاهر انه جاء متعقباً لجواب مريم بقرينة قوله تعالى(هنالك) مما يعني ان مريم سمعت دعاءه.
وهذا الاستماع تثبيت لها على الايمان واعتراف بمنزلتها والاقتداء بها وأخذ الدروس والعبر من سيرتها ومما رزقها تعالى من ثمار الجنة، فلم يكتف زكريا بغبطة مريم وتهنئتها بما عندها من الرزق والهبات العظيمة وهو من الاصطفاء واستثمار النعم التي عند المصطفين والناس بجعلها مناسبة للدعاء ونيل مثلها او احسن منها، فالمصطفون من آل ابراهيم وآل عمران يتعاهدون النعم التي عندهم وعند غيرهم من اهل الارض بالدعاء لهم ولابنائهم كما في دعاء ابراهيم [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ].
المرتبة السابعة: سؤال زكريا الولد والذرية الصالحة وعدم تضييع هذه المناسبة الكريمة وحث مريم عليها السلام لطلب الرزق منه تعالى ومع حاجته للولد الا انه قيد سؤاله بأن يكون ولداً صالحاً.
المرتبة الثامنة: المدح والثناء للباري عزوجل وجعل هذا المدح خاتمة للسؤال، فالسؤال بدأ بالمدح والثناء بلفظ (رب) وما يدل عليه من الخضوع والخشوع لله تعالى، واختتمت بانه سبحانه (سميع الدعاء) وسمعه للدعاء يعني عدم استعصاء أي مسألة عليه.
المرتبة التاسعة: تفضله تعالى بالاستجابة وهذه الاستجابة جاءت مركبة من المقدمة والذات، واما المقدمة فهي نداء الملائكة لزكريا ونقلها البشارة له، فمن فضله تعالى انه لم يجعل زكريا ينتظر الانجاب بالاتفاق والصدفة، او بالوحي اليه بملامسة زوجته , واما الذات فهو تحقق الاستجابة بالولد الجامع الشرائط الحسن والخصال النبيلة.
بل جاءت البشارة بالولد التي تعني بالدلالة التضمنية على لزوم وطئه زوجته والوعد الكريم بقدرته على الوطئ، وانه يتم بآية منه تعالى، فآية ولادة يحيى تتضمن ايجاد الأهلية للوطئ عند زكريا وهذه الاهلية لاتتم الا بالاعجاز المركب من وجهين:
الاول: استعادة زكريا قوته وقدرته.
الثاني: اصلاح زوجه.
المرتبة العاشرة: اظهار زكريا لليقين بحصول البشارة والتسليم بقدرته تعالى لان طلبه الآية جاء بقصد اراءة الغير واقامة الحجة والاعلان عن قرب اوان حصول المعجزة، لقد اراد زكريا عدم تضييع هذه النعمة ولزوم انتفاع الناس منها.
إفاضات الآية
في الآية توظيف للحواس في ادراك العلامات والبراهين الدالة على عظيم قدرته وهباته تعالى ودوام اتصال الانسان مع السماء، وهذا التوظيف مركب من موضوع ومحمول، فالموضوع ما يصيب زكريا من سلب القدرة على الكلام من غير آفة او علة، اما المحمول فهو رؤية الناس لهذه الآية الحسية وتوثيق القرآن لها.
لقد جعل زكريا محلاً لابداعه وتجليات صفاته، ومظهراً للاخلاق القدسية، وكما تلقى زكريا الآية وسمع النداء الملكوتي فانه اراد ان يكون واسطة للفيض الالهي على الناس وسبباً لبعث الشوق في نفوسهم لطلب الولد والدعاء مطلقاً، لقد عشق زكريا النداء وتعلق قلبه به، واحب ان يعلم به الآخرون، فلا يصدقونه الا بآية من عنده تعالى، فجاءت الآية شخصية ذاتية تتعلق بيدنه وحواسه.
التفسير
قوله تعالى [قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً]
بعد مجئ الملائكة بالبشارة، انتقل زكريا الى مرحلة الدعاء والسؤال منه تعالى من غير واسطة، سأل عن كيفية نشوء الولد في اقرار منه بان قادر على أي كيفية لنشوء الولد، وعندما اخبره سبحانه بانه يهب العطايا الجزيلة سأل زكريا آية وعلامة تدل على حصول علوق الولد، وقد يقول قائل ان مجئ الولد في سن الشيخوخة هو نفسه آية وبرهان على انه معجزة منه تعالى خارقة للعادة والاسباب فلماذا طلب زكريا الآية اذن , الجواب من وجوه :
الاول: ان يطمئن قلبه للبشارة وتسكن نفسه لبشارة بعد طول انتظار وغلق العلة المادية ابوابها بوجهه بالشيخوخة والتي يصاحبها ضعف الآلة وعدم القدرة على الانزال.
الثاني: دفع الظنة عن نفسه وعن ابنه، فلا يقول بنو اسرائيل ان يحيى ليس ابنه، والادعاء بانه تبناه، مما يضعف من تأثير يحيى في الناس وانصاتهم لدعوته الى عيسى، خصوصاً وان عيسى ولد من غير أب ويأتي يحيى عن شيخوخة، فيحصل الشك، ويتصدى الذين في قلوبهم مرض لبث الريب والاقاويل بين الناس، فبدل من ان تكون ولادة يحيى عوناً على التصديق بولادة عيسى تصبح سبباً للافتراء على كل منها، فان قلت: ان ابراهيم بشر بالولد عن شيخوخة ولكنه لم يطلب آية، قلت انه قياس مع الفارق، لان ابراهيم كان رسولاً وجاء بالمعجزات والبراهين الدالة على نبوته مثل نجاته من النار، فتكون آية الولد لاحقة ومتعقبة لآيات اخرى دلت على نبوته كما انه لم يكن وسط امة مثل بني اسرائيل، بل كان بين الكفار في اغلب الاحيان، فتراه أسكن اسماعيل[بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ] اما زكريا فكان وسط امة من المليين من اتباع موسى ويعرفون معالم النبوة ويصرون على البقاء على شريعة موسى ويرفضون تركها الى غيرها، ثم ان الآية زيادة من فضله تعالى لنيل اسباب التوفيق والفلاح، فاذا كان ابراهيم لم يطلب آية فانه لايعني الزام زكريا بعدم طلب آية خصوصاً وانه تعالى يرزق من يشاء بغير حساب، وليس هناك ما يدل على ان ابراهيم ، لم يطلب آية في الانجاب ولكنه الظاهر.
وحينما جاءته البشارة قال [أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ] ( ) بالإضافة الى ما جاء من تعجب امرأته حينما سمعت كلام الملائكة.
الثالث: طلب العلامة لينتفع الى تعالى بالعبادة والشكر والثناء على النعمة، وليتعجل البهجة والفرح بفضله تعالى لقد قالت الملائكة (ان يبشرك) فاراد ان يتنعم بالبشارة على نحو الوجود الواقعي في الحال.
الرابع: انه طلب آية على حصول الحمل، لان البشارة قد تتأخر في زمانها كما ان الحمد لايستبين الا بعد نحو ثلاثة شهور او اكثر خصوصاً وان امرأته عاقر، فقد ينتظر التأكد من علوق الولد لحين احساس امه به من جهة حركته في رحمها ونحوه من العلامات، ولكن زكريا اتجه الى طلب الآية الفورية العاجلة التي تخبر عن حصول العلوق وما يسمى في هذا الزمان بتلقيح الحيمن للبويضة.
الخامس: لقد اراد زكريا تحدي بني اسرائيل بالآية التي تؤكد المعجزة، فولادة يحيى معجزة لزكريا ودليل على نبوته، لذا اراد زكريا الآية التي تثبت نبوته بالواسطة وتؤكد ان يحيى ابنه وهل يمكن ان تكون النتيجة وفق القياس الاقتراني هكذا:
الكبرى: كل من كان في سن الشيخوخة وامرأته عاقر انذاك، ورزق ولداً، فهو نبي.
الصغرى: زكريا رزق ولداً في سن الشيخوخة وامرأته عاقر.
النتيجة زكريا نبي، الجواب عدم صحة وعموم هذا القياس، لأن النبوة غير رزق الهبة والكرامة فالقدر المتيقن من النبوة هو الوحي والأخبار منه تعالى باحكام الشريعة من دون واسطة بشر.
السادس: لقد اراد زكريا الانتفاع من قول مريم [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ] في موضوع واحد، من وجوه:
الأول : الدعاء بطلب الولد مع الشيخوخة وعقم الزوجة.
الثاني : تقييد سؤال الولد بارادة التعدد وان تكون ذرية طيبة بمعنى انبساط صفة (طيبة) ومالها من دلالات الحسن العقائدي والخلقي على افراد الذرية لقد اراد زكريا الاستفادة من سؤال ابراهيم والامامة لذريته وخروج الظالمين منهم بالتخصيص، كما في قوله تعالى [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] فاراد زكريا ان تكون ذريته كلها طيبة لتنال الامامة ولا تستثنى منها، وهذا من مصاديق الاصطفاء ان ينتفع اللاحق من دعاء السابق من المصطفين ولتكون ذرية وفروع منهم ليس فيها ظالم.
السابع: لقد غمرت السعادة والفرح زكريا وادراك المضامين العقائدية السامية لهذا البشارة وان انوار النبوة تشع من جديد على الارض فاراد اخبار قومه فسأل الآية والعلامة.
الثامن: خاف زكريا على نفسه وزوجه وولده من بني اسرائيل وخشي الفتنة والاجهار عليه اوعلى المولود، فسأل الآية كي يضمن السلامة للذات والمرأة الحامل والحمل الأمل.
التاسع: لعل زكريا اطلع على ماسيلقاه من القتل هو ويحيى، او الذي يصدق بكلمة بالإضافة الى حدوث قتل الأنبياء عندهم لذا سأل الآية كي تكون حجة على بني اسرائيل، ومناسبة لزجرهم وامتناعهم عن التعدي عليها.
لقد توجه زكريا مرة اخرى الى عزوجل باسم(رب) تعظيماً وتوسلاً ورجاء للاجابة، وهي المرة الثالثة في هذه الآيات الاربعة التي يتوجه بها زكريا الى بلفظ (رب) وهذه الكثرة والتعدد تدل على امور هي:
الأولى : الحاح الانبياء بالدعاء، والاقبال على الدعاء وكثرته واقية من الاذى والسوء والوقوع بالضيق والعسر، وهو غذاء للنفس يبعث الثقة والامل قال تعالى [لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ومن اسباب بقاء واستدامة العز ان يلح المؤمن بالدعاء سواء أستجيب له اوأبطأت عنه الاستجابة.
الثانية : كثرة مناجاتهم لله تعالى.
الثالثة : الفزع اليه تعالى في الحوائج والرغائب.
الرابعة : طلب المزيد من النعم الاضافية والزوائد والفيوضات الالهية في ذات النعمة وملحقاتها الاعتبارية، فالآية والعلامة التي سألها في هذه الآية لاتتعلق يبحيى، مما يدل بالدلالة الالتزامية على انه راضِ وشاكر لنعمة الولد وصفاته التي جاءت الملائكة بالبشارة بها، وانها ذات أهمية تستلزم العناية الخاصة.
الخامسة : لم ينشغل زكريا بهواجس الخوف على يحيى وكيفية الاستعداد لما يحتمل من الشر والاذى، بل بادر الى اللجوء اليه تعالى للنجاة منها، مما يدل على الكمالات العقلية عند الانبياء اذا ان الحذر لايرد القدر، والاحتياط الفردي لايدفع الاذى النوعي الصادر من جماعة تتفق على الشر، فكان الدعاء حاجة يدركها المؤمن ذو البصيرة.
السادسة : سأل زكريا ان يهب له ذرية طيبة وفي هذه الآية قال [اجْعَلْ لِي آيَةً] ولم يقل اجعل له أي للولد، فلابد ان الآية والعلامة تخص زكريا وهل يحتمل تعلقها في موضوع آخر غير ولادة يحيى، الجواب لا لنظم الآيات ووحدة الموضوع وأهمية البشارة في حياة زكريا والمجتمع والملة.
السابعة : اللام في قوله تعالى [اجْعَلْ لِي] ( ) تحتمل وجوهاً:
الأول : الإختصاص كما تقول اتعلم للكتابة.
الثاني : الملك كما في قوله تعالى [الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ]( ).
الثالث : التمليك كما في قولك “وهبت الدار لأخي”.
الرابعة : مرادفة (عند) نحو “ولد سنتين مضيا”.
الخامسة : مرادفة (بعد) نحو “صل الظهر لزوال الشمس” أي بعد زوالها.
السادسة : مرادفة (مع) كأن الكسوف لظلمته ليل أي مع ظلمته.
السابعة : ولا تعارض بين هذه الوجوه في طلب زكريا الولد لأنه يريده عزاً وعضداً ووزيراً له ويخلفه من بعده كما في قوله تعالى [يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ]( ).
قوله تعالى [قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا]
رحمة اضافية على زكريا وهي مركبة من امور:
الأول : تفضله تعالى باجابة زكريا، وهذه الاجابة نعمة تندرج في مضمونها عناوين ونعم متعددة فلم يتركه متحيراً.
الثاني : جاءت الاجابة مع البشارة، وسؤال زكريا [أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ] وتفضله تعالى باخباره بان كذلك يفعل، ويهب العطايا الجزيلة.
الثالث : تضمنت الاجابة الوصف التفصيلي للآية.
الرابع : لم يترك زكريا لحين حصول الآية واقعاً، فيدرك بالحس انها هي الآية التي سألها، بل اخبره عزوجل بها قبل حصولها، لذا جاءت بصيغة المضارع (َلاََّّ تُكَلِّمَ) ولو لم يخبر بها قبل حصولها لربما حصل عنده شك وظن، فاراد عزوجل للنبي ان يكون دائماً على يقين فيما يفعل ويقول.
الخامس : جاءت نسبة الآية الى زكريا (آيَتُكَ) ومن الاعجاز ورود هذه الآية في القرآن مرتين وكلاهما في زكريا، ولكن الآية الثانية جاءت بذكر الليالي بدل الأيام، قال تعالى [قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا] ( ) والجمع بين الآيتين يدل على ان الآية حصلت بالآيام الثلاثة مع لياليها.
السادس : لقد تضمنت كل من هذه الآية والآية السابقة قولين، احدهما لله عزوجل والآخر لزكريا، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الالتقاء ان السؤال يأتي من زكريا والجواب منه تعالى، ومادة الافتراق في الاولى بيان وجواب عن سؤاله عن كيفية مجيئ الآية، وفي الثانية استجاب تعالى وجعل له آية تؤكد علوق الولد.
وتظهر في الآية علامات اكرام الانبياء ونيلهم للدرجات العلى واختصاصهم بتفضيل وتشريف يتجلى بتعدد الآيات والهبات التي تترشح من خلالهم على اجيال المسلمين، فلقد رزق مريم رزقاً وفاكهة من السماء تكون عندها في المحراب، اما زكريا فقد انعم عليه بالولد مع فقدان العلة المادية المباشرة سبحانه بانه نبي وجامع لصفات الكمال ثم اجابه على سؤاله ورزقه آية تؤكد حصوله هذه النعمة وتنبأ عن قرب اشراقة الأرض بولادة يحيى، وفي الآية وجوه:
الاول: ان حبس الكلام متعلق بامور الدنيا دون الذكر والتسبيح ومع ان الفلاسفة قالوا بعدم اجتماع المتناقضين، فانه يظهر جلياً اجتماعهما في موضوع وزمان واحد، فترى زكريا لايستطيع ان يكلم الناس ولسانه محبوس، بينما هو يقدر على الذكر والتسبيح بصوت مسموع.
الثاني: حبس عن الكلام مطلقاً ولمدة ثلاثة ايام لايكلم الناس الا بالاشارة، اما التسبيح والتهليل فكانا بصوت خافت وبالاخطار، وفي تفسير العياشي “ان زكريا لما دعا ربه ان يهب له ذكراً فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم ان ذلك الصوت من ، أوحى إليه ان آية ذلك ان يمسك عن الكلام ثلثة ايام، قال: فلما امسك لسانه ولم يتكلم علم انه لايقدر على ذلك الا ، وذلك قول :ً رب اجعل لي آية”.
والظاهر ان حبس الكلام مطلق، وهو الانسب لاتمام الحجة.
الثالث: ان يكون منشغلاً عن الناس، منقطعاً الى ذكر والعبادة، لايتكلم مع الناس الا بالاشارة.
وحصر الكلام معهم بما يدل على الاختصار والايجاز ليكون وقته كله للعبادة والذكر، وفي اصل حبس زكريا عن الكلام وجهان:.
الاول: ان امر زكريا بان لايتكلم الا رمزاً وانه كان في مقدوره ان يتكلم ولكنه امتنع عن الكلام كآية وعلامة لبني اسرائيل، كما لو كان في مضمون الآية انه اذا أمرتك بان لاتكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزاً فهذا اوان حصول علوق الولد.
وهل من فترة من بين البشارة وبين حبس الكلام وان كان متعلقه بداية نشوء الولد، الاقرب لا، لان عزوجل اذا اعطى يعطي بالاوفى، ومن وجوه الحسن والاوفى ان تأتي النعمة عاجلاً سريعاً.
الثاني: ان حبس لسان زكريا، فاصبح عاجزاً عن الكلام مدة الأيام الثلاثة، ولو اراد ان يتكلم لمايستطيع سواء على القول بان الحبس في امور الدنيا، أو أنه مطلق وشامل، وقد يقول قائل بمقدور الانسان ان يحبس نفسه عن الكلام ثلاثة ايام اواكثر ولا يكلم الناس الا بالرمز.
فهذا الحبس لايدل على إنه آية اعجازية، واذا تم باخبار زكريا لايكون آية ودلالة اعجازية، بل علامة بينه وبين بني اسرائيل واشارة الى علوق الولد،والجواب ان عدم قدرة زكريا على الكلام آية اعجازية منه تعالى، فلا يستطيع ان يكلم الناس طيلة الايام الثلاثة سواء في امور الدين او الدنيا لارادة صيغة التخاطب، والامر، والنهي، والسؤال والجواب والخبر ونحوها، فليس بمقدوره ان يأمر او ينهى عن شئ الا بلغة الاشارة.
ولم ترد مادة الرمز في القرآن إلا في هذه الآية، وهل ينقطع زكريا عن التبليغ والامر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأيام الثلاثة بحيث نستقرأ منها قاعدة كلية وهي جواز انقطاع النبي عن التبليغ واحكام النبوة مدة معينة، الجواب لا، كبرى وصغرى، فلا دليل في الآية على الانقطاع بل العكس هو الصحيح، وفيها اخبار عن كفاية الرمز والاشارة في التبليغ واداء الوظائف الشرعية في تلك المدة، وقد تكون لغة الاشارة اكثر نفعاً وأهمية، والرمز في المقام يتصور على وجوه:.
الأول : حركة اليد لإرادة معنى أفعل لا تفعل ونحوه.
الثاني : حركة الشفتين بذات المعاني من غير أن يصدر لفظ مسموع، بل يكون الصوت خفياً ليس ظاهراً.
الثالث : الاشارة المفيدة للمعنى باي جارحة من جوارح البدن.
الرابع : الغمز في العين.
وكل الوجوه صحيحة الا الوجه الرابع، يكون بعيداً، وقد ورد عن النبي في فتح مكة ما يدل على نفيه عن النبي مطلقاً.
وبينما نرجع الى الشعر العربي لتدبر معاني الآيات القرآنية، ونختار الشواهد التي تدل على معاني الكلمات، فان هذه الآية كنز بلاغي ينهل منه الشعراء، ويقتبسون منها ما يدل على خلجات النفس قال ابو تمام:
كلمته بجفون غير ناطقة فكان من رده ماقال حاجبه
وقال شاعر آخر:
اذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوارد
وعلى فرض ان الاخفات والاشارة شاملان للكلام، وان الذكر والتسبيح كانا بالاخفات ايضاً، فانه يدل على صحة الذكر اخفاتاً، لذا شرع الاخفات في القراءة في صلاة الظهر والعصر في الشريعة الاسلامية.
لقد كان حبس لسان زكريا مطلقاً وشاملاً لحالات العبادات والمعاملات والاحكام في آية منه تعالى، والارجح ان الاخفات وحبس الكلام في المقام مطلق، ولم ينحصر بشؤون الدنيا، ولم يبتل زكريا بآفة بدنية تعوقه عن الكلام بل كان في تمام الصحة في البدن مع سلامة الجوارح واعتدال المزاج، لتوكيد المعجزة ومنع الشك او التردد في صحتها، ولاثبات انها من عند تعالى، وهذا الاثبات فيه وجه:
الأول : انه لزكريا كي يطمئن للآية وولادة يحيى وصفات الحسن والكمال التي سيتصف بها لان موضوع بشارة الملائكة بحال ولادة يحيى بل يستمر الى حين بعثته نبياً.
فمثلاً قوله تعالى (حصوراً) أي ان عدم الزواج وملامسة النساء مستمر له طيلة ايام حياته فليس لزكريا اولام يحيى ان يأمران يحيى بالزواج ويرغبان فيه باعتباره انه سنة الحياة وانهما لم ينالا بغيتهما ويرزقا يحيى الا بعد جهد وبذل الوسع في الدعاء والتضرع الى تعالى.
لقد اراد عزوجل تنزيه يحيى من الشبهات وما يثيره المبطلون واهل الحسد والريب من شكوك في عدم زواجه بعد ان يولد ويصل الى سن البلوغ، فاخبر تعالى بانه سيكون (حصوراً).
وجاءت آية زكريا لتوكيد ان حصر يحيى آية اعجازية وليس عن قصور او خلل بدنيَ عنده، بل ان عزوجل اراد ان يكون هذا المولود حصوراً، فهو عنوان مدح وثناء وليس افتراء، وكأن عدم قدرة زكريا على الكلام حصر اصغر ولكن في باب الكلام واللسان وليس في باب الوطئ، لتوكيد ان يبتلي الانبياء وغيرهم بآيات اعجازية تبدو وكأنها قصور ولكنها كرامة وليست عن داء وعلة.
وفي الآية تذكير بعظيم نعمة الكلام والنطق، فقد يدرك الانسان هذه النعمة بالوجود الذهني والتصور لمنافعها، اوحين يرى انساناً اخرس عاجزاً عن النطق، او لاينتبه حتى في هذه الحالات ولايتوجه الى بالشكر على نعمة النطق وفهم لغة التخاطب، وفي كل الاحوال تأتي هذه الآية القرآنية لتذكر المسلم بهذه النعمة ولزوم شكره تعالى عليها، خصوصاً وان جعل الصمت آية اعجازية للنبي زكريا.
وتدل ايضاً على موضوعية الاشارة في المعاملات وكفايتها في الدلالة على المراد وايصال المطلوب الى المخاطب عند الحاجة، وان عزوجل انعم على العباد بنعم اضافية تصلح ان تكون بديلاً للنعم الاصلية التي يسخرونها لمنافعهم وقضاء حوائجهم، سواء في البدن كما في لغة الاشارة، او في العبادات مثل بدلية التيمم عن الوضوء، او في الوسائط والآلات التي تتعدد وتتضاعف منافعها بسرعة في هذا الزمان.
واذا كان زكريا النبي قد حبس عن الكلام فمن باب اولى ان يحبس غيره عن الكلام، ولكن الآية لم تأت عقوبة حتى نقول بالقياس والاولوية القطعية بل جاءت برهاناً ودليلاً على صدق اخبار زكريا عن بشارة الملائكة بيحيى.
والرمز والاشارة عنوان الاختصار سواء في التعبير عن المراد أو في ذاته وموضوعاته، فلا يستطيع الانسان ان يسرد خبراً عن طريق الاشارة والرمز، بل يكتفي بمسماه مما هو اقل من الاجمال، ليكون زكريا منشغلاً بطاعته تعالى متوجهاً اليه سبحانه بالشكر والثناء، فقد يقل الشكر والتدبر بالنعمة وسط اعمال وهموم الدنيا والمعاملات مع الناس، فاراد عزوجل ان يتفرغ زكريا لأمور هي:
الأول : الشكر لله على نعمة الولد.
الثاني : التدبر في الرزق الالهي والفضل العظيم عليه وعلى الناس.
الثالث : كيفية اخبار الناس بالنعمة.
الرابع : الاستعداد لنعمة الولد الذي لم يأت الا عن شيخوخة، وهل في الآية اشارة الى الملازمة بين السكوت والقدرة على الانجاب بالنسبة لمن بلغ الشيخوخة والكبر، وتأثير الصمت ونفعه في تحقق الانجاب وبعث الحركة والنشاط في الجهاز التناسلي للشيخ والرجل الفاني، يحتاج اثباته الى دليل من علوم الطب.
وجاءت صيغة المخاطبة بلفظ الناس وهو شامل للمسلم وغير المسلم، وللقريب والبعيد، فيشمل أهل بيته وامرأته، بل ان امرأته تنتفع من هذه الآية اكثر من غيرها.
ونعتت الآية الرمز بانه كلام مما يدل على حجيته واعتباره فلو اعطى احدهم رمزاً لاحد اتباعه فقام بتصرف ما فان صاحب الرمز والاشارة بالفعل يكون مسؤولاً وليس له ان يقول اني لم اتكلم، نعم قد لايكون الرمز كافياً في الاحكام كما بالنسبة للنكاح والطلاق فلا عبرة بالرمز الا بخصوص الاخرس العاجز عن النطق، وجاءت البشرى لزكريا بولادة يحيى وظاهرها انها من إمرأته ذاتها العاقر العجوز.
وعلى فرض انه اراد الطلاق الرجعي في تلك الايام الثلاث فهل يصح منه الطلاق بالرمز او الوكالة للغير بالاشارة مع اجتماع شرائطه الاخرى عندما ينتظر انقضاء الايام الثلاثة ويقوم بالطلاق ان بقت النية والعزم عليه الجواب هو صحة الطلاق ووكالته منه بالاشارة والرمز الذي يفهم منه ارادة الطلاق والانفصال عن الزوجة، لحصول القدر المتيقن من الاشارة والرمز وفهم الطرف الآخر إرادة الطلاق، ولوجود علة قاهرة تحول دون النطق، ولعدم تعطيل الاحكام، ولانه تعالى وصف الرمز في الآية بانه كلام [تُكَلِّمَ النَّاسَ]، فجعل الرمز كلاماً وبدلاً عن النطق وان كان مفروض هذه المسألة وموضوع الطلاق مخالف لأفعال المصطفين عند انتظارهم البشرى.
فان قلت لماذا اذن لايصح الطلاق بالاشارة من السليم في نطقه قلت: لان النطق بالطلاق والتلفظ بصيغته شرط في صحته، انما ينتقل للاشارة عند العجز عن النطق، وكان زكريا مدتها عاجزاً عن النطق، خصوصاً وان الطلاق ايقاع يصح بتلفظ الزوج به ولايحتاج الى رضا وقبول المرأة وتصح معاملات زكريا بالاشارة كما لو باع او اشترى أو وهب مع حلول الاشارة بديلاً في القبول والايجاب بالنسبة له، اما الطرف الآخر فيبقى على حاله من لزوم النطق والتلفظ بصيغة العقد.
وهل يمكن اعتبار الانقطاع عن الكلام ثلاثة ايام مقدمة لقلة الكلام معهم بعدها باعتبار انه رياضة للنفس ومناسبة للسيطرة على اللسان والتحكم به، وخروج عن العادة يعتبر خلاله الانسان ويلحظ منافع السكوت واجتناب الكلام الجواب لا، لان الكلام والتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وظائف الانبياء، والامر والنهي باللسان نوع بيان ونصح وارشاد الى المعنى، ولكن الآية بقدرها وتتعلق بالايام الثلاثة دون غيرها.
ترى لماذا مدة الرمز ثلاثة ايام وليس اكثر او اقل، لقد جاءت الثلاثة وتراً و تعالى وتر يحب الوتر، والثلاثة ايام كافية لكي يرى الناس الآية ويتأكدوا منها، ومن فاته في اليوم الاول رؤية زكريا فانه يدركه في اليوم الثاني او الثالث، كما انها مناسبة لاخبار القرى القريبة بالآية وحضورهم وانتشار الآية والبرهان، والتأكد الشخصي والنوعي منها، بالإضافة الى ان قلة ايام الآية تخفيف عن زكريا، وجمعت الليالي مع الأيام الثلاثة لإتصال الليل بالنهار واتماماً للحجة، ومع ان المراد من الليلة هي السابقة لليوم والنهار، وهو المشهور، الا ان الظاهر في هذه الآية انها تبدأ من النهار وان المراد من الليالي المتعقبة لها خصوصاً، وان الآية التي ذكرت الليالي جاءت مستقلة وفي سورة مريم( ).
قوله تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا]
امر وخطاب الى زكريا بذكر تعالى، على نحو الكثرة والتعدد والانشغال به ويحتمل الذكر هنا بلحاظ الزمان وجهين:
ألاول: ان يكون الذكر في ألأيام الثلاثة التي حبس فيها عن الكلام مع الناس أية التباين بين عجزه عن الكلام معهم ومواظبته على التسبيح والتهليل.
الثاني: أرادة الذكر في أيام العمر مطلقا و عدم حصر الامر الالهي بالإكثار من الذكر و التسبيح في الايام الثلاثة فقط، والواو في (و أذكر) أستئنافية، و يمكن استفادة هذا المعنى من القرينة [َكثِيرًا] فالمراد من الكثرة انبساطها على أيام العمر, ولو دار الامر بين الاطلاق والتقييد, فالاصل الاطلاق و الشمول الا مع القرينة الصارفة, و ذهب المفسرون الى المعنى الاول.
وقد لا تكون قرينة الحبس عن الكلام مع الناس ثلاثة ايام كافية لحمل الكلام على التقييد، والظاهر ان المعنى اعم وارادة الذكر على نحو الاطلاق خصوصاً وان الذكر الكثير من أهم وظائف الصالحين، وفي الذكر في ألآية ومنافعه مسائل:
الأولى : لطرد الغفلة عن النفس.
الثانية : أنه نوع شكر لله تعالى على عظيم النعم.
الثالثة : الاستعداد بالتقوى والورع الظاهرين على الجوارح والأركان بالذكر والتسبيح، وهما عنوان الصلاح و الانقطاع لله تعالى.
الرابعة : الذكر مقدمة لتحقيق البشارة ونيل المراد، وأن يأتي الولد عن التقوى والطاعة لله تعالى.
الخامسة : الذكر الكثير دأب الانبياء, بمعنى انه لم ينحصر بالايام الثلاثة، والآية لم تأمره بشيء جديد او تؤسس قاعدة كلية، بل هي تذكير وارشاد.
السادسة : من خصائص الاصطفاء الذكر الكثير والمواظبة على التسبيح.
السابعة : اراد لزكريا ان لا ينسى و ظيفته بالذكر الكثير سواء بصفته كنبي او من المصطفين, او بلحاظ صفة العبودية وقد وردت آيات عديدة تأمر بذكره تعالى كما في قوله تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً] ( )، و قوله تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ] ( )، وقوله تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ]( ), ولم يرد قيد (كثيراً) الا في هذه الآية مما يدل على عظيم النعمة التي وهب زكريا ولزوم مقابلة النعم بالذكر الكثير، بالاضافة الى الدلائل الغائية للذكر فيما يتعلق بالمولود وقادم الايام.
وجاءت الاية بلفظ (ربك) وهذه النسبة تدل على رضاه تعالى على زكريا في دعائه ( رب) وتدل بالدلالة الالتزامية على ان زكريا صادق في دعائه وخضوعه و خشوعه لمقام الربوبية وهو امر مستغرق للانبياء جميعاً.
وفي الآية درس عرفاني واخلاقي وهو لزوم عدم الانشغال بالنعم والفرح بها عن ذكره تعالى, بل بالعكس فان النعم مناسبة كريمة للانقطاع اليه تعالى بالشكر و الثناء, والشكر احد افراد الذكر لانه تعالى غني غير محتاج، لم يقل له اشكرني على النعمة بل قال [وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا] وأن وردت آيات بلزوم شكره سبحانه.
والآية في مقام الكرم و الرحمة الالهية، فجاءت بالحث على الذكر وفيها اشارة بان آية وولادة يحيى ليست خاصة بزكريا، بل هي للناس جميعاً، و للمسلمين بصورة خاصة، ولآل ابراهيم وزكريا وزوجه بصورة اخص، اذ ان النعم الالهية تتغشى العام المتعدد، وان جاءت للخاص و المتحد.
ان الانشغال بالذكر يطرد عن الانسان معاني الغرور والكبر ويجعله يدرك ان انفراده بهذه الآية والنعمة العظيمة يستلزم ان يكون متواضعاً مع الناس قريباً منهم، لان قوله تعالى [لاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ إِلاَّ رَمْزًا] أي لا تحتجب ولا تعرض بوجهك عنهم وان كان هذا الاحتجاب بسبب الانقطاع الى العبادة و الذكر, وهذا من ألآيات التي تتجلى للجميع بين مضامين الاية.
قولة تعالى[وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ]
لقد سأل زكريا آية تكون شاهداً على المعجزة وقرب ولادة يحيى عن بشارة ملكوتية، فجاءت الآية بشخصه ولسانه ليجتمع الصمت والكلام، الصمت في امور الدنيا والصلات مع الناس، والكلام في الذكر والدعاء والصلاح والارشاد، ليكون الولد مناسبة للانشغال بالتسبيح باعتباره اجمل واحلى ما ينطق به اللسان وليكون هذا التسبيح شكراً لله و مقدمة مباركة لمجئ الولد، وهو من مصاديق الاصطفاء بان يستقبل آل ابراهيم المولود منهم بالتسبيح والتهليل والذكر.
والعشي جزء من أوقات اليوم وليلته وفيه وجوه:
الأول : مابعد زوال الشمس و تحول الظل, قال الازهري: صلاتا العشي الظهر و العصر.
الثاني : مابين زوال الشمس الى غروبها, وبعد الغروب يكون العشاء, يقال : جاء عشوة أي عشاء.
الثالث : العشي أخر النهار, والمفرد عشية، والمراد منها ليوم واحد يقال لقيته عشيتة يوم كذا، اما العشاء فهو اول الظلام من الليل، والأبكار بفتح الهمزة وبكرة وهو أول النهار، اما الابكار بكسر الهمزة فهو اسم البكرة كالاصباح، وفي الآية قال ابن منظور: جعل الابكار وهو فعل يدل على الوقت وهو الُبكرة ( )، ويقال رجل بكر في حاجته.
وبعد الامر بذكره تعالى على نحو الكثرة والتعدد، جاء الامر بالتسبيح وبين التسبيح والذكر عموم وخصوص مطلق، فكل تسبيح هو ذكر وليس العكس، لذا يمكن اعتباره من عطف الخاص على العام وبينما يأتي الذكر بالإضافة وانه ذكر لله، جاء التسبيح مجرداً (وسبح) لانصراف المعنى الى تنزيه الباري عن كل مالايليق به من الصفات، ولان التسبيح نوع تعظيم لمقام الربوبية واجلال وثناء عليه تعالى، ويقال سبحت تسبيحاً أي نزهته تنزيهاً.
قال ابن شميل: رأيت في المنام كأن انساناً فسر لي سبحان فقال: اما ترى الفرس يسبح في سرعته؟ وقال: سبحان السرعة اليه والخفة في طاعته) ( ).
ورؤيا الناس ليس بحجة في اللغة او الحكم، ثم ان السرعة اليه تتعلق بفعل العبد، اما سبحان فهو مصدر يعني تنزيه ، كما في قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً]( )، وهذا من الاكرام الخاص لزكريا ان يؤمر بالذكر الكثير والتسبيح وفيه دلالة على اهليته للشكر والثناء عليه تعالى بالمواظبة على الذكر والتسبيح المتصل، فكما قيدت الآية الذكر ووصفته بانه كثير، فكذا بالنسبة للتسبيح فهو ايضاً كثير لافادة التعدد والجمع بلفظ العشي والابكار، وان المراد ابتداء اليوم بالتسبيح واختتامه وتوديعه بالتسبيح ايضاً، والمراد من التسبيح في الآية وجوه:
الأول : التسبيح المعروف وهو قول سبحان ، ومسمى التسبيحة الصغرى مقابل التسبيحة الكبرى، وهي سبحان والحمد لله ولااله الا و اكبر.
الثاني : الصلاة واقامتها باوقاتها خصوصاً وانها تتضمن التسبيح، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَار] ( )، وفيه تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء الخطاب الى زكريا شخصياً وبارادة التسبيح، اما بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فقد جاء بعنوان الصلاة.
الثالث : الانقطاع الى تعالى واظهار الخضوع والخشوع له تعالى، وذكره باسمائه بما يعني الاقرار له بالربوبية وتنزيهه عن التسمية بغير ماسمى به نفسه وعدم الالحاد في أسمائه.
يطلق التسبيح على الذكر كالتحميد والتمجيد (قال ابن الاثير: ان اطلاق التسبيح على غيره من انواع الذكر مجاز)( ).
وتبين الآية حاجة الانسان الى الانشغال بتسبيحه تعالى في مواطن الشكر والثناء لان التسبيح اظهار لعنوان الاخلاص في العبادة ومنع من الشك والظن السيء، ان الآيات والنعم التي تأتي للانسان فيض ورشحة من رشحات فضله تعالى (والعرب تقول سبحان من كذا إذا تعجبت منه)( )، مما يدل على عظيم الآيات التي رزقها زكريا فاراد توجهه للشكر ومنعه من التعجب والتيه كما في قصة الملائكة مع امرأة ابراهيم، وقوله تعالى [قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ]( ).
لقد جاء الذكر في الآية على نحو الكثرة وهي منبسطة على أنات الليل والنهار، من غير تقييد بوقت مخصوص او استثناء وخروج وقت معين سواء من الليل او النهار، وفيه ترغيب بالمواظبة على الذكر والدعاء مع التخفيف بعدم التعيين لوقت الذكر، واي تعيين يكون اقل في الذكر من ارادة الكثرة وعدم التعيين، لان الكثرة الواردة في الآية تنبسط على جميع آنات الليل و النهار فيكون بمقدور زكريا ان يذكر اليوم وليلته عشرات الآلاف من المرات والتعيين يأتي على نحو العدد المعدود.
ومن الآيات ان تأتي خاتمة الآية لتحديد وقت مخصوص للذكر, فكما ان النسبة بين الذكر والتسبيح عموم وخصوص مطلق, فكذا النسبة بين الذكر والتسبيح في هذه الآية, فالذكر جاء بعنوان الكثرة، فتشمل أي وقت, أما التسبيح فجاء بخصوص اول النهار و أخره مما يعني الشرف والخصوصية لهذين الوقتين ولزوم ذكرة تعالى اثناءهما, فاول النهار أوان بداية العمل والمعاملات و الصلات مع الناس و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر.
فيأتي التسبيح حرزاً وواقية وافتتاحاً للاعمال اما آخر النهار فيأتي التسبيح خاتمة لاعمال اليوم و كفارة للذنوب و الزلل ووسيلة للاستغفار ومناسبة لاستحضار ذكره تعالى وعدم الانشغال باعمال النهار، واستيلائها على الذهن, لقد اراد لزكريا ان لاينساه في ساعة النعمة ونزول الفضل الالهي.
وصحيح ان الخطاب في الآية متوجه لزكريا و على نحو القضية الشخصية وبمناسبة البشارة بالولد, الا ان الآية عامة والمراد المسلمون جميعاً في كل زمان, فان قلت ان قيد النعمة وإرادة آية زكريا والبشارة بالمولود النبي يجعل الخطاب خاصاً, قلت: ان نعم عزوجل على كل انسان متصلة ودائمة، وان الخطاب في الآية أعم من ان يتقيد بنعمة ولادة يحيى اذا قرأنا الواو في [وَاذْكُرْ رَبَّكَ] على انها واواً أستئنافية، ثم ان الأمر بالتسبيح ورد في القرآن في مواطن عديدة، وكل واحد منها مدرسة وموعظة بالذات والعرض.
وهل الذكر الكثير والتسبيح من افراد آية زكريا،أم انها مستقلة، الاقوى انها من آية زكريا سواء قلنا بان الواو عاطفة او أستئنـافية, فلقد اراد لزكريا ان يكون مواظباً على الذكر والدعاء والتسبيح، وكأن أية زكريا على اربعة وجوه:
ألاول: عدم الكلام باللسان مع الناس لمدة ثلاثة ايام.
الثاني: أتخاذ الرمز و الاشارة وسيلة لافادة المعنى مع، استماعه وانصاته لكلامهم.
الثالث: ذكر على نحو الكثرة والتعدد.
الرابع: التسبيح المتصل كل يوم في أول النهار وأخره، واذ تنقضي لغة الرمز في ثلاثة ايام فان الذكر والتسبيح مستمران و ملازمان لزكريا في حياته ليكونا من مصاديق اصطفاء آل ابراهيم، الى ان تتوج الامر باداء المسلمين للصلاة في كل يوم وليلته خمس مرات لذا فأن عزوجل مدحهم اذ نسبهم الى ابراهيم بالبنوة فقال تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ المسلمين]( ).
وهذا التعدد والجمع في افراد الآية يعطيها اشراقة ايمانية ويظهر معالم النبوة وكيف ان الانبياء يقابلون النعمة بالمواظبة على الذكر والتسبيح.
لقد كانه الذكر والتسبيح مطلوبين بذاتهما لزكريا ومن حوله، و هما دعوة للصلاح والتقوى، ووسيلة لطلب الحوائج والاقتداء بزكريا في مجازاة النعم بالشكر والثناء، ومقدمة لولادة يحيى في بيت يكثر فيه ذكر ، ويتردد التسبيح في جنباته واركانه، ومناسبة لتأديب يحيى على التقوى ووراثة الذكر والتسبيح.
وتدل الآية على المسؤولية الشرعية والاخلاقية والعقائدية للمصطفين من آل ابراهيم وآل عمران في دوام الذكر في الأرض، فيرث يحيى من زكريا الذكر الكثير والتسبيح بكرة وعشياً، وهو نوع حجاب على يحيى من بني اسرائيل كي لايحسدونه او يتضايقون من كثرة ذكره وتسبيحه، وتخفيف عنه وعن عيسى في دعواتهما الى عزوجل بجد ودأب، ولا أحد يتضايق من زكريا في تسبيحه وذكره لله لان النعم العظيمة ظاهرة عليه وتستحق الذكر الكثير.
وكما ان زكريا رأى الرزق عند مريم فدعا فرزقه هذه البشارة العظيمة، فان مفهوم الآية هو يابني اسرائيل ويا ايها الناس جميعاً ان اردتم مثل هذه البشارة والنعمة فتوجهوا الى الذكر الكثير والصلاة اليومية والتسبيح، ولاينحصر موضوع هذا الذكر والتسبيح بالشكر لله تعالى بل يشمل الرجاء والسؤال، فمن فضله تعالى ان يكون الشكر له مقدمة لعطاء اكثر ونزول المزيد من فضله واحسانه لذا قالت مريم لزكريا [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] فالبشارة تتفرع عنها بشارات، وهل يثبت هذا الذكر البشارة ويساهم في جعلها واقعاً، الجواب لقد جاءت الملائكة بما هو حق وصدق، ولايحتاج الى فعل اضافي من زكريا لتثبيته، وهذا الذكر والتسبيح فيه وجوه:
الأول: انه استجابة لله تعالى اذ ان الآية وردت بصيغة الأمر (واذكر) (وسبح) وهو محمول على الوجوب.
الثاني: شكراً لله تعالى على نعمة البشارة وتحديث الملائكة، وكي يستقبل يحيى ومن ساعة علوقه بالذكر الكثير والتسبيح.
الثالث: في الآية احياء لذكره تعالى في الأرض وجعل الناس يلتفتون الى موضوعية التسبيح في توالي النعم، فالحال الراتبة من الذكر نعمة ودعوة للناس للايمان ولكن بعضهم لايلتفت الى أهمية الأمر اذا كان راتبا فيأتي الذكر الكثير على نحو بين وظاهر وشاهد على نعم عظيمة خارقة للعادات.
الرابع: ان ذكره تعالى لاينقطع بسبب ما يطرأ على الانسان من احوال خاصة، فالكلام بالرمز لايمنع من الذكر والتسبيح، لذا جاءت النصوص بعدم ترك الصلاة بحال من الاحوال، فتؤدى في حال الخوف وشرعت صلاة الخوف ولو تكبيراً وتهليلاً على ظهور الخيل، كما يؤدي المريض الصلاة باي حال مادام يمتلك قواه العقلية، وبالتيمم اذا تعذرت الطهارة المائية، فالمريض اذا عجز عن القيام مستقلاً يصلي معتمداً في قيامه على شيء ولو ببذل مال، فان عجز صلى جالساً ولو معتمداً او مستنداً الى غيره، فان عجز اضطجع على جانبه الأيمن.
ومن منافع الصلاة في المقام انها من الذكر الكثير ومن التسبيح في العشي والابكار وهذا من التخفيف عن المسلمين ومضامين اكرامهم ودليل على اهليتهم لوراثة الانبياء، وهل تعتبر قراءة القرآن من الذكر الجواب نعم سواء كانت في المصحف أو في الصلاة او عن ظهر قلب، وهذا من افاضات القرآن ومنافعه التي تتغشى المسلمين، وهو سلاح لطلب الرغائب سواء جاء طلبها بالسؤال والدعاء او انه سبحانه ينعم على من ينشغل بذكره وتسبيحه بالفضل العظيم وصرف البلاء واسباب الشر والأذى.
لقد سأل آية على نحو الاطلاق والتنكير من غير تقييد لها، في الوقت الذي قيد الذرية بانها طيبة، والنكرة في مقام الاثبات لا عموم لها، وعدم
التقييد هذا فيه وجوه:
الأول : تفويض الامر الى عزوجل فهو أعلم بالحال وما يناسب المقام.
الثاني : لقد اطمئن زكريا للعطايا الجزيلة منه تعالى اذ سأل الذرية الطيبة، فجاءته البشارة بيحيى وهي تتضمن اسمى معاني التشريف والاكرام، لذا اكتفى هنا بسؤال الآية لانه تعالى اعلم بالحال ويعطيه آية افضل من الذي يرجو بالأسباب.
الثالث : يحتمل سؤال زكريا من جهة الزمان وصلته بالبشارة وجهين:
الاول: جاء متعقبا لقوله تعالى [كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ].
الثاني: تأخره زماناً، وجاء في القرآن متعقباً للبشارة لوحدة الموضوع ولأنه جزء من علوم الغيب التي أراد ان يظهر عليها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والأرجح هو الأول.
علم المناسبة
لقد جاءت هذه الآية والآيات الأربعة التي قبلها في قصة زكريا وبالتوالي:
الأولى : في الآية الأولى وهي السابعة والثلاثون جاء ذكر كفالة زكريا لمريم من عنده تعالى، وفيه تشريف مركب لزكريا من وجهين:
الأول: ان عز وجل هو الذي أختاره كفيلاً للمرأة التي أصطفاها على نساء العالمين.
الثاني: قيامه بكفالة مريم واعدادها لمسؤوليات الحمل بكلمة المسيح بن مريم، فهذه الآية ذكرت زكريا ضمن قصة مريم وانه كان يجد عندها الرزق السماوي في المحراب.
الثانية : ذكرت الآية الثانية توجه زكريا بالدعاء وكأنه يتعلم مفاهيم مدرسة الدعاء من مريم وما شاهده، مع نبوته ودلالة تحمله لكفالة عيسى على عظيم منزلته.
وقوله تعالى [هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ] اشارة الى لزوم تعلم المؤمنين الموعظة والعبرة ولو ممن هو أدنى منهم رتبة في العلم والإيمان والمنزلة والشأن، فالرجل يأخذ من المرأة، والعالم يكتسب من المتعلم، والعاقل يعتبر بغيره، والكبير قد يستفيد من الصغير، وان كان الأصل في الوجوه أعلاه هو العكس، فالمتعلم مثلاً هو الذي يأخذ من العالم ولكن هذه القاعدة لا تمنع من الإقتباس المتبادل بما فيه النفع والتحصيل.
الثالثة : جاءت الآية الثالثة وهي الآية التاسعة والثلاثون باستجابته تعالى لدعاء زكريا مع عدم وجود فاصلة بين السؤال والإجابة في اشارة الى سعة فضله تعالى وعدم نفاذ خزائنه فنزول الهبات العظيمة الى مريم لم يمنع من نزول مثلها او ما هو أفضل منها الى زكريا بسلاح الدعاء والتضرع، والبشارة التي تلقاها بولادة يحيى أكبر وأعظم من نعمة نزول الرزق من السماء لمريم، وهو ايضاً نعمة عظيمة، وستأتي الآيات بأنه سبحانه يتفضل مرة أخرى على مريم بالبشارة بعيسى هو نبي رسول.
الرابعة : وردت الآية الرابعة في قصة زكريا بسؤاله عن كيفية مجيء الغلام وهو على حال الشيخوخة ومع عقم أمرأته، وقد جاءت الآية الأربعون بهذا الإستفهام استعظاماً لقدرته تعالى وبياناً للآية ولتكون مناسبة للتفقه العام وأدراك فضله العظيم ومنافع الدعاء التي لا تحصى، ومن الآيات انها تضمنت الجواب الإلهي بما يمنع اللبس ويقطع الشك ويثبت اختصاصه بالإرادة التكوينية [يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ].
الخامسة : لقد تيقن زكريا ان الأشياء كلها مستجيبة له سبحانه وان مقاليد الأمور بيده، وهذا اليقين ليس امراً مستحدثاً عند زكريا وهو النبي ولكنه جدد به العهد بخصوص هذه الآية نسأل عز وجل ما يثبت مضامين الآية بين الناس ويجعلها مناسبة لتوجه الناس الى الإيمان وهدايتهم الى الصلاح والإلتقات الى الآيات الكونية، واستحضار الآيات التي جاء بها موسى ، لأن رؤية الآيات في شخص زكريا يعيد الى الأذهان آيات الأنبياء والبراهين التي جاءوا بها والتي تؤكد صدق نبوتهم.
لقد ورد اسم زكريا في القرآن سبع مرات ولعدد السبعة ومضاعفاتها اعتبار خاص عند العرب وهو عنوان الكثرة والتعدد، ثلاث منها في سورة آل عمران، اثنتان في الآية السابعة والثلاثين، وواحدة في التي تليها، مع ان قصته تستمر الى هذه الآية.
ويمكن استقراء قاعدة كلامية في المقام وهي ذكر موضوع القصة، وأحوال النبي أعم من ورود اسمه، فقد يرد اسمه مرة واحدة في القرآن ولكن ذكر احواله وشأنه متعدد وقد ورد ذكر زكريا في سورة الأنعام مرة، وفي سورة مريم مرتين، وفي سورة الأنبياء مرة واحدة، وأكثر هذه الآيات جاء بخصوص دعاء زكريا وسؤاله الولد وتلقيه البشارة بيحيى، في اشارة الى ان الفضل منه تعالى وان المنة له على الأنبياء وهو غني عن العالمين، وان جهاد وسعي الأنبياء والصالحين انما هو لأنفسهم ومقاماتهم في الدنيا والآخرة.
الإعراب واللغة
وَإِذْ: الواو: حرف عطف، اذ: في محل نصب على الظرفية الزمانية.
َقَالَتْ: فعل ماض، الْمَلاَئِكَةُ: فاعل مرفوع، يَا: حرف نداء،مَرْيَمُ: منادى مفرد علم، إِنَّ اللَّهَ: ان واسمها جملة، اصْطَفَاكِ: خبر إن، والجملة مقول القول.
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ: فعلان معطوفان على اصطفاك.
عَلَى نِسَاءِ: جار ومجرور، متعلقان باصطفاك.
الْعَالَمِينَ: مضاف اليه مجرور بالياء.
في سياق الآيات
بعد تلقي زكريا للبشارة التي جاءت عقب دعائه وتوسله لما رأى المائدة السماوية عند مريم عليها السلام، ومجئ الامر الالهي الى زكريا بمخاطبة الناس بصيغة الرمز ولزوم انشغاله بالذكر والتسبيح عادت هذه الآية الى موضوع مريم من غير خروج عن الجامع المشترك بين الآيات وهو الاصطفاء والاكرام الخاص لاهل البيت وتوالي النعم الالهية عليهم.
اعجاز الآية
لقد جاء خطاب الملائكة لمريم بصيغة القول (قالت الملائكة) مما يدل على مضامين القرب بينها وبين مريم واستئناس كل منهما بالآخر، والآية وثيقة في اكرام الملائكة لمريم ومنزلتها العظيمة عند ، وهي شهادة قرآنية للمقام الرفيع الذي نالته مريم بالذات من الاصطفاء والاختيار والاجتباء، والآية بيان عقائدي فيما يخص مريم وزجر عن الافتراء عليها، وهذا من الاصطفاء اذ يقيض عزوجل اسباباً لرفعة وعز مريم بين الناس وعدم الإفتراء عليها.
وتجعل الآية المسلم والمسلمة يحسان بقرب الملائكة منهما واطلاعهما على اعمالهما مما يكون سبباً للإحتراز من السيئات، والمسارعة في فعل الخيرات.
ويمكن ان تسمى هذه الآية بآية (وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ ) وهذه هي الآية الوحيدة التي يرد فيها لفظ أصطفاك وجاء فيها مكرراً.
الآية سلاح
تدعو الآية المسلمين جميعاً الى اكرام مريم عليها السلام، والنفرة ممن يحاول الاساءة لها، وهي مناسبة لاكرام المرأة المؤمنة، والمنع من النظر اليها باستخفاف، وفيها تحصين للمسلمين ولزوم عدم التصديق بما يقال على الانبياء والاولياء والصالحين بغير حق.
أنها مدرسة القرآن التي تجعل قول وفعل المسلم يحدد وفق مناهج القرآن ومضامين المدح والذم، فتأتي الآية القرآنية بمدح شخص وتدل بالدلالة التضمنية على لزوم اكرامه والأخذ من سيرته والاقتداء به، وتأتي بذم شخص او فعل لتنمية ملكة بغض السيئات في نفوس المسلمين ونفرتهم منها.
ويأتي الملائكة مرة لنصرة المسلمين كما في معركة بدر ويأتون مرة للبطش بالعتاة من الكفار، كما في قوم لوط وصالح، ويأتون مرة بنقل البشارة والتحديث.
ومع تباين هذه الوجوه الثلاثة فانها متحدة ومتفرقة تبعث الغبطة في قلب المسلم، وتجعل اشراقة الأمل تملأ جوانحه ويزداد توكلاً على .
مفهوم الآية
في الآية تأسيس لقاعدة كلية في الارادة التكوينية وهي وجود نساء فزن بمنزلة رفيعة عند وان من النساء من حازت الاصطفاء على نحو القضية الشخصية، وجاء القرآن بذكرها بالاسم، ان انفراد مريم بالذكر في القرآن بالاسم من بين النساء آية واكرام خاص، فهي المرأة الوحيدة التي ورد اسمها في القرآن بينما ورد ذكر حواء بصفة الزوجية لآدم، واذ حرمت مريم من الخلق في الجنة بحكم نواميس واحكام الأرض، فان عزوجل أكرمها بنزول المائدة والرزق من السماء لتأكل من ثمار الجنة وهي في الأرض، ويرد هنا سؤالان:
الاول: ايهما افضل حواء ام مريم؟
الثاني: ايهما احسن وافضل مانالته حواء بالسكن المؤقت في الجنة ام مانالته مريم؟ الجواب ان الخلق في الجنة والسكن فيها افضل واعظم، لذا جاء طعام مريم بالرزق من السماء كي لاتحرم من هذه النعمة، وللاخبار بانها لا تزال موجودة وان ابواب السماء مفتوحة، وبامكان المؤمن والمؤمنة ان يعيشا في الأرض من غير ان يحرما من التمتع بالنعم الخاصة التي فاز بها آدم وحواء ولو على نحو الموجبة الجزئية.
اما بالنسبة للتفضيل فمريم افضل من حواء بدليل هذه الآية وما فيها من الاخبار عما رزق مريم وهو على وجوه:
الأول : ورود اسمها في القرآن.
الثاني : تحديث الملائكة لها.
الثالث : قيام الملائكة باخبارها بالنعم العظيمة التي رزقها عزوجل وهي على شعب.
الأولى: اصطفاؤها واجتباؤها، وهو امر يدل على ما تتمتع به مريم من الورع والتقوى والصلاح واسباب العفة.
الثانية: تفضله تعالى بتطهيرها، واكرامها أي ان عزوجل اراد لها النقاء والطهر.
الثالثة: شهادة الملائكة بنزاهة مريم، ومن مفاهيم طهارتها حرمة الافتراء والطعن عليها في سيرتها وافعالها.
الرابعة: اجتباء مريم من بين النساء، الامر الذي يدل عدم اهلية امرأة في زمانها لمنافستها في المقام الرفيع الذي نالته، ومن يفتري على مريم انما يظلم نفسه، لان مريم اختارها على جميع النساء فتكون الاساءة اليها اساءة وانتقاصاً لجميع النساء من باب الاولوية الا ان يراد معنى آخر لمعنى الاصطفاء وهو بعيد.
وهل يجعل هذا الاكرام النساء الآخريات يقصرن في عبادتهن واعمال التقوى، اويحسدن مريم على ما رزقها من المنزلة العظيمة، الجواب لا، لان المؤمنة تغبط ولاتحسد وان اصطفاء مريم دعوة للنساء كافة ببذل الوسع في طاعته تعالى.
لقد جاء اخبار الملائكة لمريم على نحو القول والقطع بان اصطفاها وطهرها ولو أجرينا مقارنة بين بشارة الملائكة لزكريا وبين قولها لمريم ففيه وجوه:
ان اخبار الملائكة لزكريا جاء على نحو النداء، أما حديثها مع الملائكة فجاء بصيغة القول وليس النداء، والقول أقرب وأعم من النداء.
جاءت الملائكة بالبشارة لزكريا، وجاءت لمريم بالخبر عن حصول الاصطفاء والبشارة تتعلق بالمستقبل وقادم الايام، اما بالنسبة الخبر فانه يدل على الوقوع والحصول.
تتعلق بشارة الملائكة لزكريا بولادة يحيى، والخصال الحميدة التي يتنعم بها، اما بالنسبة لمريم فقد تعلق قول الملائكة باصطفائها، وكما فازت مريم بالإصطفاء فان هذه الآية جاءت بآيات وافاضات متعددة انفردت بها مريم، وجاءت هنا على نحو التعدد لمنع القول بانها آية واحدة تدل على الاصطفاء والاختيار.
وأيهما افضل اخبار الملائكة ام اخبار النبي بالاصطفاء ونحوه، أي ايهما أحسن في اكرام مريم قول الملائكة لها بان اصطفاها، ام قول نبي زمانه بان اصطفاها واخبارها، الجواب هو الاول، أي ان اخبار الملائكة هو الافضل من غير ان تكون هذه الافضلية نقصاً باخبار الانبياء وما يقومون به من التبليغ ونقل البشارات والانذارات، ولكن اخبار الملائكة له خصوصية وفيه اكرام خاص، ويتضمن بذاته التصديق الفوري وله وقع واثر في النفس ويبعث عند الانسان الفرح بفضله تعالى.
ان الناس جميعاً متفقون على قدسية الملائكة وانهم من عالم السماء وان مجيئهم للارض ومخاطبة انسان تشريف عظيم لم يحض به الا الانبياء وماورد الدليل الشرعي بخصوصه كما في مريم.
فالانبياء يأتيهم الوحي، وهذا الوحي على وجوه متعددة ومراتب تشكيكية متفاوتة، فالرسول يرى الملك ويسمع كلامه بينما لايراه النبي بل يسمع الكلام، لذا جاء اخبار الملائكة لمريم بالاصطفاء بانه (قول) مما يدل على تشريف الانبياء وعدم تمتع انسان بما هو افضل واحسن مما عندهم فكما تحدث الملائكة الانبياء فانها حدثت مريم واخبرتها بالاصطفاء بمعنى ان مريم لم تر الملائكة بل سمعت قولهم، كما يسمع الانبياء كلام الملائكة.
وهل جاء قول الملائكة على نحو التحديث وفي اليقظة ام انه رؤيا منام، الجواب هو الاول من وجوه:
الاول: اخبار الآية بحصول القول، ويفهم الكلام على ظاهره، ولا قرينة على العدول عن الظاهر، بل القرائن تؤكده باعتباره مصداقاً لإكرامها واصطفائها.
الثاني: بالامكان استقراء قاعدة كلية وهي لو دار الامر في قول او فعل انه كان في اليقظة او المنام، فالاصل هو اليقظة، واعتبار القول والفعل باليقظة وليس المنام.
الثالث: لقد ذكر القرآن الموضوع على انه آية واخبار منه تعالى فلابد انه جاء باليقظة.
الرابع: مجئ النداء بصيغة التعدد وصيغة الجمع من الملائكة.
وتدل الآية على استغراق الإصطفاء لجميع أيام مريم وتغشيه لحياتها، وشموله لأيام الآخرة ايضاً لإصالة الإطلاق وعدم التقييد، ولحمل النعم الإلهية على المعنى الأعم والأوفى.
ومن وجوه التطهير لمريم انه فضح الإفتراء عليها وعدم وجود أثر له في الواقع، وكأن الآية حصانة لها، وولادة عيسى من غير أب وكلامه في المهد بالدعوة الى منع للطعن بها، وحث على اكرامها ومن الطهر النفخ فيها من روح والحمل بعيسى لأنه أمر مباين للحمل بالحالات الطبيعية، ولحاجته لوعاء كريم طاهر وامرأة اصطفاها .
افاضات الآية
لقد اراد عزوجل بقاء صلة أهل الارض مع السماء، واخبرت الآية عن عدم انقطاعها بهبوط آدم وحواء الى الارض، ونزول الملائكة على وجهين اما ان تنزل بالبشارة والرزق الكريم والآيات الباهرات والوحي والتنزيل، أو تأتي بالعذاب والعقاب.
ولو اجرينا احصائية لنزول الملائكة وما قاموا به بين أهل الارض لرأيت أن نزولها بالبشارة والخير اكثر من نزولها بالعذاب والشقاء، وهذا الفارق وكثرة نزولها بالخير عنوان الرحمة والفضل الالهي، ونزولها بالخير والرزق على قسمين:
الاول: خاص كما في مريم.
الثاني: عام كما في البشارات العامة.
وتخبر الآية عن بلوغ مريم مراتب الكمالات الانسانية انها جذبة من جذبات الرحمن وسبيل للهداية والتقوى.
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ]
يحتمل الكلام والصلة بين الملائكة ومريم أموراً:
الأول: صعود مريم الى السماء باعتبار ان الملائكة من سكان السماء.
الثاني: كلام الملائكة مع مريم عن بًعد، فهم في السماء وهي في الأرض ولكنها تسمع كلامهم بقدرته تعالى.
الثالث: نزول الملائكة الى الأرض.
والأول لم يحصل ومن البديهيات ان مريم من سكان الأرض ولم تصعد الى السماء، اما الثاني فلم يثبت وقد كان جبرئيل والملائكة ينزلون للوحي الى الأنبياء.
فيتحصل الأمر الثالث وهو نزول الملائكة الى الأرض، وهل كان نزولها خاصاً لتحديث مريم أم هو أعم، الأقرب هو الأول، فقد جاء الملائكة لنقل البشارة ومع عظمة وأهمية البشارة يتشرف الملائكة بنقلها لأنها رحمة وفضل من عند واكرام لمريم وجنس الإنسان.
لقد ذكرت الآية موضوعاً عقائدياً من الارادة التكوينية، اذ ان حديث الملائكة مع بني أدم ليس امراً متعارفاً, بل هو فرد نادر ولابد له من قواعد وشرائط معروفة وثابتة عند اهل السماء، فلا يمكن ان يحظى به احد من الناس الا وفق أصول وشروط معروفة عندهم، وان حصوله يدل على المرتبة العظيمة لصاحبه، بمعنى ان الملائكة حينما يؤمرون بالقول والحديث مع احد الناس فانه دلالة على حيازته للمراتب العالية، والمنازل الرفيعة والشأنه العظيم عند تعالى، ومن ينال تلك المنزلة بين سكان السماوات فمن باب أولى ان ينالها ويجدها عند أهل الارض، فالشخص التي تحدثه الملائكة ليس للناس ان يفتروا عليه او يؤذوه بالقول او الفعل.
وفي قول الملائكة وحديثها مع مريم مسائل:
الاولى: انها تتحدث معها بصيغة الاكرام.
الثانية: جاء خطابها بلغة النداء (يامريم) وهو اكرام ودليل على عظيم منزلة مريم عند وعند الملائكة ودعوة للناس لاكرامها وذكرها ذكراً حسناً يتناسب ومالها من المقام الرفيع في السماء.
الثالثة: ان مريم محدثة، أي تحدثها الملائكة والتحديث مرتبة في الشرف والفضل ولكنها دون النبوة.
وهل يعتبر افتراء اليهود سبباً لاكرام مريم في القرآن اكراماً خاصاً وذكرها بالاسم وبيان قول الملائكة أي انه لولا افتراء اليهود على مريم لما ذكر قول الملائكة لها مع انه امر حاصل وموجود، فليس كل ما هو حادث وواقع مذكور في القرآن، الجواب لا، فلا ملازمة بين ذكر قول الملائكة لمريم في القرآن وبين افتراء اليهود عليها، ولو لم يحصل هذا الافتراء لجاءت ذات الآية بنفس الكلمات والموضوع لأنه جزء من علوم الغيب، الذي أراد اطلاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليه.
ولعل الإفتراء بسبب الحسد لها وما نالته من عظيم المنزلة عند ، فالآية تنهى عن الاساءة لمريم وتحذر من الحسد لها ولأولياء الذين آتاهم من فضله، والنهي والتحذير مرشحان عن مضمون الآية ودلالتها ومعانيها القدسية، واخبارها بفوز مريم بكرامة سماع قول الملائكة.
ويمتاز قول الملائكة لمريم عن نداء الملائكة لزكريا بان النداء من طرف واحد، اما القول فيحتمل حصول الحديث والخطاب بين الطرفين، لا أقل ان مريم كانت تستأنس بكلام الملائكة، وفيه اشارة بانها تسمعه على نحو التكرار والتعدد.
واذ بشر الملائكة زكريا بالولد وذكرت له اسمه (اسمه يحيى)، فان هذه الآية اخبرت بان الملائكة تعرف اسم مريم وتسميها باسمها.
ومخاطبة الملائكة لها بالاسم يدل على انها تعرفها، وتستانس باسمها خصوصاً مع قرينة وهي موضوع القول الاخبار عن حصول الاصطفاء والتطهير والاكرام المتعدد والانفراد بهذا الاكرام آية في الاصطفاء والاحترام.
ومن الآيات ان بشارة الملائكة لزكريا تعلقت بالبشارة بولادة يحيى، اما بشارتها وحديثها مع مريم فقد تضمنت الإصطفاء والبشارة بولادة عيسى، بالإضافة الى سبق نزول الرزق الملكوتي.
وتبين الآية ان مريم واسمها امران معروفان عند الملائكة فحينما نزل اليهم الامر باصطفاء مريم، لم يسألوا أي مريم هي، بل قاموا بنقل البشارة، وهل يمكن الإستدلال على هذا النقل بانه ليس من امرأة اسمها مريم الا هي وان اختيار امها لهذا الاسم الوارد في التنزيل[وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ] يدل على انه اختيار منه تعالى وجاء لها بالتحديث والارشاد والتعليم، الجواب لا، كما ان المبادرة الا التبليغ ليست ثابتة ولكنها الظاهر، بالإضافة الى ضابطة كلية، وهي اتقان الملائكة لأفعالها، وانها لا تنزل الا على من أراد .
ولغة الجمع في قول الملائكة يدل على اكرام مريم، وكذا في زكريا [فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ] ويمكن استظهار قاعدة كلية من هذه الآيات وهي اكرام الملائكة للانسان وتعظيم شأنه بحيث لايأتي ملك واحد بالقول بل يأتي ملائكة متعددون.
والآية عطف على قول امرأة عمران وما رزق عزوجل مريم وتفضله تعالى باستجابة دعائها، ولابد من ملازمة بين الرزق السماوي الذي جاء لمريم وبين قول الملائكة لها، وهذه الملازمة على وجوه:
الأول : من شرائط من تحدثه الملائكة ان يكون قد اكل من ثمار الجنة كما في آدم الذي خلق في الجنة وأكل من ثمارها.
الثاني : الرزق السماوي مقدمة لنداء الملائكة، وتهيئة لمريم للاستماع له واعداد نفسي لقبوله ومعرفة انه صادر من الملائكة، وليس من الشياطين.
الثالث : من خصائص الملائكة، انها تأتي بالرزق من السماء لمن تريد ان تكلمه وتتحدث معه.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، الا ان الثالث منها ليس عليه دليل فالرزق لمريم تشريف واكرام، وهو آية مستقلة عن تحديث الملائكة حتى ولو كان حصولها في أن واحد فصحيح ان موضوع القول والتحديث جاء متعقباً لآية (تقبلها ربها) وما فيها من الرزق الالهي النازل من السماء، الا انه لايعني بالضرورة مجيؤه في الزمان.
فقد يكون التحديث مصاحباً للرزق السماوي، وان الملائكة كانت تحدث مريم وهي قائمة في المحراب بقرينة ان زكريا كلمته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب، الا ان قيام مريم في الصلاة والتسبيح والقنوت متصل حتى بعد نزول الرزق اليها وانقضاء كفالة زكريا، والأظهر ان قول وتحديث الملائكة هذا جاء بعد نزول الرزق اليها.
لقد سألت الملائكة عند خلق آدم عن جعله خليفة في الآرض وهو يفسد فيها، وجاءت هنا لتخبر عن وجود بعض افراد ذرية آدم ممن فاز بالطهر والاصطفاء وهذا التباين وتأخر موضوع البشارة والإصطفاء زماناً على الاستفهام عن اهلية الانسان للخلافة في الأرض يدل على قبول ورضا وسعادة الملائكة بهذه الخلافة، وأهلية الانسان لها لان اصطفاء المرأة يدل على اهلية الرجل سواء من باب الاولوية او التماثل والتشابه في الجنس، ووحدة الموضوع في تنقيح المناط.
وذكر ان القائل هو (جبريل) وحده والاصل في الكلام ان يحمل على ظاهره، ومن الظاهر صيغة الجمع ولا دليل يدل على التخصيص من القرآن والسنة، ويمكن في بعض الاحيان الاستعانة باللغة ومنطق العقل وليس من نص ان القائل هو جبريل، ومسألة نفخ الروح في مريم وان جبرئيل هو الذي تلقاها.
“قال الإمام الرازي قالوا: المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده، وهذا كقوله [يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ] ( )، يعني جبرئيل، وهذا وان كان عدولاً الا انه يجب المصير اليه، لأن سورة مريم دلت على ان المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل ، وهو قوله فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا“.
ولكن الموضوع متباين فالآية محل البحث تتعلق بنداء الملائكة ونقلها للبشارة، اما النفخ فانه فعل شخصي لا يصدر الا من المتحد، وكما جاءت الملائكة بالبشارة لزكريا فانها جاءت بالبشارة لمريم.
وفي الآية أعلاه [يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ] روى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالملائكة جبرئيل وحده، وقال الواحدي: وتسمية الواحد باسم الجمع اذا كان الواحد رئيساً مقدماً جائز، كقوله تعالى [أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ]، [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ]، [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ] ( )وفي حق الناس كقوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ]( ).
ولكنه قياس مع الفارق، ومقام الربوبية منزه عن مسألة الرئاسة والتقديم ونحوهما مما يحصل بين الخلائق وأفراد عالم الإمكان، وجاء الجمع في [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ]، لإفادة المعنى الأعم الذي يتعدى أسباب النزول على فرض ثبوتها بشخص واحد.
والنفخ حصل من طرف ملكوتي واحد ويتضمن معنى الإتحاد لذا جاء بصيغة المفرد (الروح) بينما جاءت هذه الآية بلفظ التعدد والجمع (الملائكة).
والنزاع صغروي، وعلى فرض ان جبرئيل هو القائل، فان الآية تشير الى علم الملائكة بالقول، والفعل الذي يؤمر به احدهم يعتبر صادراً منهم جميعاً وينسب اليهم كلهم وانهم يعلمون بما تجري من الصلات بين بعضهم وبين البشر لاحاطة علما باحوال الناس في كل زمان من ازمنة الانبياء بل وما بعدها، والظاهر ان مسؤولية تحديث وابلاغ مريم بالإصطفاء كانت لعدد من الملائكة وانهم نزلوا للتبليغ ونقل البشارة.
وقوله تعالى للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] في الرد على احتجاجهم او استفهامهم على جعل آدم خليفة في الآرض يتجدد مصداقه العملي في كل زمان اذ يرى الملائكة اهلية الانسان للخلافة باعمار الأرض بالتقوى والصلاح فيقوم الملائكة بتسخير انفسهم لنقل البشارات.
والصلة بين ردهم ساعة خلق آدم وبين هذا النقل على وجوه محتملة:
الأول: الاقرار بأهلية الانسان لخلافة الارض.
الثاني: اعانة الانسان على وظائف الخلافة في الارض، وليس الاعانة على تأهيله لها لمجئ صفة الخليفة ملازمة لخلقه وبأمر منه تعالى فلا يحتاج الانسان تعضيداًً لنيل هذه المرتبة من الخلائق الاخرى، وان كانت ذات مقام سامي كالملائكة، وهذا من وجوه تفضيل الانسان واكرامه ان جعله عزوجل غير محتاج لغير عزوجل في مسألة الخلافة في الارض.
الثالث: هذا النقل من وظائف الملائكة وهم سكان السماوات خصوصاً وانه تعالى لايكلم انساناً الا عن طريق رسول او من وراء حجاب، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ]( ).
الرابع: من أحكام أهل الأرض ان الأمر الإلهي الخاص بهم يمر على الملائكة سواء كان الأمر نوعياً او شخصياً، فالنبوة والإصطفاء أمور يظهر عزوجل الملائكة عليها ان شاء، وكذا بالنسبة للبلاء والعقاب العاجل الذي ينزل ببعض الأقوام من الكفار كما في حديث الإسراء عندما علم الملائكة ان الذي عرج به الى السماء هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أستبشروا بمجيء زمانه.
وتخبر الآية بان الملائكة على علم بعظيم منزلة مريم عند وهذا العلم اخبار عن قرب ولادة روح .
قوله تعالى[يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ]
جاء ذكر مريم على لسان الملائكة بصيغة النداء، وهو اكرام خاص، واخبار عن معرفة الملائكة بمريم، ومناداتها باسمها عز للمرأة المسلمة ودعوة لها للعفة والتقوى والتقيد باداء الفرائض والعبادات، والإصطفاء والإجتباء يحمل على وجوه:
الأول: الإختيار مطلقاً أي ان الإصطفاء عنوان تشريف ونيل مرتبة عظيمة لا ينالها غيرها.
الثاني: الإصطفاء مقدمة لولادة روح .
الثالث: انه وسيلة ومناسبة لتفرغها للعبادة.
الرابع: ان مريم قدوة وأسوة كريمة للمسلمات والنساء جميعاً، وسيرتها مدرسة في الفضيلة.
لقد جاءت البشارة في هذه الآية على نحو التحقيق والحدوث والإمضاء، فالإصطفاء قد تم وحصل وجاء لفظ (أصطفاك) مكرراً في الآية، ومريم هي الامرأة الوحيدة التي ورد ذكر تشريفها بالإصطفاء على نحو التعيين والتخصيص مع ان الإصطفاء ورد في القرآن على نحو التعدد والنوع كما في قوله تعالى [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ]( ) او على نحو القضية الشخصية، كما في موسى [إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي] ( ).
وتبين الآية حصول الإختيار والإجتباء في عالم النساء وتدعوهن الى التسابق في الخيرات، والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، وتمنع من الإستخفاف بالمرأة في دينها ومنزلتها عند ومتى ما علم الناس ان للمرأة شأناً عند فانهم يخشون الإساءة لها.
لقد جعلت الآية النساء بعرض واحد مع الرجال في درجات الإكرام والعناية الإلهية، ومن اللطف الإلهي بالمرأة ان شملها الإصطفاء بعد ان فاتتها درجة النبوة ولم تحرم من التحديث بعد ان تعذر عليها بلوغ درجة الوحي، وهذا من فضله تعالى وتغشي رحمته تعالى للخلائق جميعاً، ودليل على ان النعم التي ينالها شخص او جماعة او جنس لا تسبب حسداً او حسرة في قلوب الآخرين.
قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( )، واصطفاء مريم لا يعني تخلف النساء في مراتب التقوى بل انه يدل على أمرين:
الأول: الإكرام الخاص لمريم عليها السلام.
الثاني: أهلية المرأة للإصطفاء ونيل مراتب القرب بمعنى ان أبواب المعارف والإرتقاء في منازل التقوى مفتوحة للنساء كافة، وملاك هذا الإرتقاء هو التقوى والصلاح.
وتبين الآية ان سمو منزلة مريم لم تنله الا بجهدها وفعلها وانها كانت ملتزمة بمسالك التقوى وان أمها نذرتها للعمل في دور العبادة وفوق هذا انه جاء باجتباء منه تعالى، فهو الذي أختارها لهذه المنزلة الرفيعة وما دام الإصطفاء والإجتباء بفضل وافاضة منه سبحانه فان باب الإصطفاء ونيل المراتب العالية يبقى مفتوحاً، لذا ورد في بعض النصوص ان مريم سيدة نساء زمانها وهذا يعني وجود مراتب الإصطفاء ونيل بعض النساء له سواء في الأزمنة السابقة لمريم او اللاحقة لها.
واشرف الأزمنة هو زمان الإسلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنيل المسلمات مراتب التقوى وقيامهن بالأداء الأمثل للفرائض والعبادات يتجلى هذا بتوجه الخطابات التكليفية للمرأة بعرض واحد مع الرجل كما في الصلاة اليومية والصيام والزكاة، ومن الآيات في اكرام المسلمة ونيلها المراتب العالية ان ترى وجوب الحج يتعلق بها بذات الشرائط التي تتعلق بالرجل مع ما فيه من المخاطر والإبتعاد عن الوطن ومشاق السفر ولابد من ترتب الأثر والجزاء الكريم على هذه المسؤولية الشرعية، بالإضافة الى اتصال الإصطفاء في آل ابراهيم، ” قال ابن داود: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة مني ولا اعدل ببضعة رسول الله احداً”.
لقد اراد عز وجل ان يكون إصطفاء مريم اشراقة وضياء ينير دروب التقوى للنساء ويبعث في نفس المؤمنة الثقة والأمل في قرب المنزلة منه تعالى، وجاء على لسان الملائكة مما يدل على انه صدق وحق، كما جاء على لسان الملائكة مرة أخرى في هذه الآية لتكون شاهداً ووثيقة باقية الى يوم القيامة لتنتفع منها النساء عامة والمؤمنات خاصة.
بحث روائي
وردت نصوص عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها ما يفيد تفضيل النساء الأربعة، و عن عكرمة عن ابن عباس: “خط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اربعة خطوط فقال: افضل نساء اهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية.
ومنها ما ورد بخصوص منازل الجنة فقد ذكـر الدراوردي عن موســى بن عقبــة عن كــريب عــن ابن عبــاس قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيدة نساء اهل الجنة مريم ثم فاطمة بنت محمد ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون”.
وفي صحيح الترمذي قال: “حدثنا عبد الرحمن واسحق بن منصور قالا: اخبرنا محمد بن يوسف عن اسرائيل عن ميسرة بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة قال: سألتني امي متى عهدك تعني بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت مالي به عهد منذ كذا وكذا، فنالت مني، فقلت لها: دعيني آتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاصلي معه المغرب واسأله ان يستغفر لي ولك، فاتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصليت معه المغرب فصلى حتى صلى العشاء، ثم انفتل فتبعته، فسمع صوتي، فقال: من هذا حذيفة؟ قلت: نعم، قال: ما حاجتك غفر لك ولأمك، قال: ان هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه ان يسلم علي ويبشرني بان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة وان الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة( )”
وذكر ابن السراج قال: “حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا علي بن هاشم عن كثير السواء عن عمران بن حصين ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاد فاطمة رضي الله عنها وهي مريضة فقال لها: كيف تجدينك يا بنية، فقالت: اني لوجعة وانه ليزيدني اني ما لي طعام آكله، قال: يا بنية اما ترضين انك سيدة نساء العالمين قالت: يا ابت فاين مريم بنت عمران، قال: تلك سيدة نساء عالمها وانت سيدة نساء عالمك( )،
ولا تعارض بين هذه الأخبار وتدل على اتصال التفضيل في أيام الحياة الدنيا، وانبساطه على الآخرة ومقامات الصالحين والمصطفين في الجنة، وتؤكد تعاهد المسلمين لمنزلة مريم وتوكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لزوم تقديسها ورعاية حقها وعظيم منزلتها عند .
ترى أيهما أفضل الرزق الذي نزل على مريم ام الإصطفاء الجواب على وجهين:
الأول: ان كلاً منهما نعمة وشرف عظيم، ودليل على علو المنزلة والمقام السامي الذي نالته مريم عليها السلام.
الثاني: الإصطفاء أعظم من الرزق السماوي من وجوه:
الأول: ان الرزق امر مادي محسوس، والإصطفاء من عالم الأمر، وعالم الأمر أشرف من عالم الخلق.
الثاني: ان الرزق محدود بأوانه وساعته، اما الإصطفاء فانه نعمة دائمة ومنزلة رفيعة.
الثالث: يمكن ان يكون الرزق فرع الإصطفاء والإجتباء وليس العكس.
الرابع: الرزق تشريف مستقل، والإصطفاء نعمة وأصل تتفرع عنه نعم متعددة.
الخامس: موضوع الرزق في الدنيا، اما الإصطفاء فهو أمر يتعلق بالدنيا والآخرة وينبسط على الذات والغير.
ولابد من مصاديق للإصطفاء في الدنيا تتجلى بركاتها على مريم منها:
الأول : تفرغها للعبادة والنسك.
الثاني : اختيارها لولادة المسيح، ولكن هذا المعنى ليس هو الإصطفاء بتمامه، وان فسر الزجاج الإصطفاء به، بل هوأحد مصاديق الإصطفاء ويعتبر عنوان تشريف واكرام ترشح عن الإصطفاء وكأن ولادة المسيح لا تتم الا ممن أصطفاها .
الثالث : التشريف والإكرام والتفضيل على نساء زمانها.
الرابع : الإصطفاء منزلة عالية ودرجة لا ينالها الا من يشاء من عباده وقد فازت بها مريم.
والإصطفاء على قسمين: نوعي وشخصي، والنوعي هو الوارد في آل ابراهيم وآل عمران، وهل يمكن اعتبار اصطفاء مريم منه، وان اصطفاءها ليس شخصياً بل هو جزء من اصطفاء آل ابراهيم وآل عمران، لتكون جامعة للموضوعين معاً ويترشح عليها الإصطفاء مرتين.
الأولى باعتبار انها من آل ابراهيم، والأخرى انها من آل عمران، الجواب ان اصطفاء مريم شخصي وليس نوعياً فقط وتنفرد مريم بان الإصطفاء يأتيها من وجوه ثلاثة:
الأول: هي فرد من آل ابراهيم.
الثاني: انها من آل عمران.
الثالث: جاءها الإصطفاء على نحو خاص وبأمر منفرد.
والدليل على الثالث هو صيغة الخطاب ومجيؤه بلغة المفرد المخاطب، ودخول النساء من آل ابراهيم وآل عمران ضمن عمومات قوله تعالى [عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ].
وكما ان الإصطفاء موضوع مطلوب بذاته وتشريف ومنزلة رفيعة فانه مقدمة لأعظم وظيفة لامرأة في التأريخ فليس من امرأة غيرها قامت بحمل ولد من غير أب وتقيدت بوجوب حفظه وتعاهده لأنه نبي رسول فكأن الملائكة تقول لها:
الأول : نبشرك بالإصطفاء والإجتباء.
الثاني : استعدي لمسؤوليات الإصطفاء ومنها حمل عيسى .
الثالث : استمري على المواظبة على العبادة والنسك.
وتبين الآية حصول التفضيل بين النساء، فاذا كانت النبوة تشريفاً لنفر من الرجال باختيارهم لتلقي الوحي والرسالة والقيام بالتبليغ عن ، فان اصطفاء مريم توكيد على اكرام المرأة واعطائها مرتبة ومنزلة في الفضل والإجتباء.
وبعثة الأنبياء تشريف لأممهم وموضوع للتفاخر والإعتزاز، واصطفاء مريم فخر للنساء عامة وللمؤمنات خاصة بالإضافة الى العموم بالإفتخار بالأنبياء، أي كما يفتخر الرجال بالأنبياء فان النساء يفتخرن بهم لأن الإتباع عنوان شامل للرجال والنساء، ويأتي اصطفاء مريم افاضة اضافية لمعاشر النساء يترشح منها دعوة الرجال لإكرام النساء عامة.
لقد منعت هذه الآية والى يوم القيامة الإستخفاف بالمرأة والإنتقاص من شأنها، وهي دعوة لدراسة سيرة مريم والمؤمنات وبنات الأنبياء وأزواج وبنات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابيات ومعرفة وجوه جهادهن وصبرهن وما يتحلين به من أسباب التقوى.
قوله تعالى [وَطَهَّرَكِ]
في الآية اخبار عن اكرام اضافي لمريم عليها السلام يتجلى بالتطهير والنزاهة والنقاء من وجوه:
الأول : ان التطهير منه تعالى وبفضله وعظيم قدرته،مما يدل على انه أمر حتمي وقطعي.
الثاني : يأتي التطهير على نحو دفعي وليس تدريجياً لأن عزوجل اذا أعطى فان عطاءه ينزل تاماً كاملاً.
الثالث : التطهير على نحو الموجبة الكلية، وليس على نحو الموجبة الجزئية، فهو شامل للذات والبدن والنفس والجوارح والأقوال والأفعال التي تقوم بها مريم فتطهير الذات يترشح على الأقوال والأفعال.
وللتطهير الوارد في الآية مصاديق وأفراد وهي:
الأول : الإيمان وانتفاء الكفر الظاهر الخفي، والإيمان على مراتب متعددة، ولابد ان التطهير الإلهي يجعل الإنسان يتحلى بأرقى مفاهيم وقيم الإيمان.
الثاني : انتفاء الشك والريب وأسباب الحسد.
الثالث : التطهير من المعصية سواء القولية كالغيبة والنميمة، او الفعلية كالتعدي والفواحش.
الرابع : التطهير من الحيض والنفاس الذي يأتي النساء لما فيهما من الأقذار، لكي تتفرغ مريم للعبادة، فان قلت ان الحيض جزء من الإرادة التكوينية في خلق المرأة وليس من امرأة تسلم منه الا عن علة ونقص، قلت: ان عز وجل لا تستعصي عليه مسألة وقد رزق مريم ما هو أعظم وهو نزول الرزق من السماء، وولادة عيسى من غير أب، ويحمل التطهير على المعنى الأعم والأوفى ومنه التطهير الذاتي من الأدناس والأقذار ليكون فيه تشريف للمرأة وأجر ثواب لمن تقوم بالتطهر والتقيد بأحكام الحيض والإستحاضة والإحتراز من تعدي الدم الى غير موضعه مع الإلتزام بأحكام غسل الحيض والإستحاضة.
الخامس : التطهير من الأخلاق الذميمة والخصال القبيحة واصلاحها لأفعال الخير وعمل الصالحات.
لقد جاء تطهير مريم على نحو القضية الشخصية ولكن منافعه عامة ولا تنحصر بجماعة من النساء او زمان دون زمان، وهذا من آيات الإصطفاء والإجتباء لآل ابراهيم وآل عمران، اذ يأتي الإصطفاء والتطهير خاصاُ ولكن منافعه تعم النساء والناس جميعاً، بما يترشح عنهما من الفوائد والإرتقاء النوعي في عالم الأخلاق والعقائد ومفاهيم التأديب والإصلاح المتصل في الأجيال المتعاقبة، فمن آياته تعالى ان يبعث نبياً فيجعل الأمم والجماعات تتبعه وتقتدي به.
وتظهر الآية موضوعية التطهير في سلم الإيمان والمدد الإلهي للعباد ذكوراً واناثاً وحاجة الممكن الى واجب الوجود، وهذا التطهير من مصاديق اللطف الإلهي الخاص والعام أي يمكن تقسيم اللطف الإلهي الى أقسام ثلاثة:
الأول: الخاص وهو الذي يأتي لفرد مخصوص كالنبي والولي والمؤمن والعبد مطلقاً، فقد تأتي واقعة وبرهان ليكون سبباً لإيمان فرد او جماعة.
الثاني: العام: وهو اللطف الشامل للجماعة والملة والأمة كما في بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية واجتماع مقدمات الفعل العبادي للأداء النوعي العام للفرائض.
الثالث: العام والخاص وهو اللطف المركب الذي يأتي للأفراد والجماعات فينتفي منه بعض الأفراد مرتين، مرة باللطف الفردي الخاص، وأخرى باللطف النوعي العام، كما في تطهير مريم، فانه لطف وفضل منه تعالى على مريم وتنزيه وتحصين لها من الفواحش والأدناس ولطف بالناس جميعاً.
قوله تعالى [وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]
لقد ورد الإصطفاء في الآيتين مرتين، ولابد من معنى مستقل لكل منهما، وانه ليس تكراراً، ومجيء التباين بينهما من وجوه:
الأول: جاء الإصطفاء الأول قبل التطهير، والثاني بعده.
الثاني: ورد الأول مطلقاً، اما الثاني فجاء مقيداً وانه على نساء العالمين مما يدل على التقييد.
الثالث: قيد (على نساء العالمين) يدل على الحصر والتعيين الموضوعي، وان الإصطفاء الثاني يتعلق بعالم النساء.
ولم يرد قيد الإصطفاء بانه على النساء فلم تقل الآية واصطفاك على النساء، بل قالت (على نساء العالمين) ولم يرد لفظ نساء العالمين الا في هذه الآية، وجاء بلغة المرجوحية وان مريم أفضلهن بالإصطفاء والإختيار الإلهي فلماذا جاء لفظ النساء مضافاً للعالمين، فيه وجوه:
الأول : اصطفاك لولادة عيسى من غير أب، وان تكوني المرأة التي ينفخ فيها من روح .
الثاني : الإصطفاء لأمر مخصوص.
الثالث : الآية بيان للتشريف الخاص لمريم من بين النساء دون الرجال.
الرابع : لتوكيد شرف النبوة الذي أختص به الرجال، ولمنع القول باطلاق الإصطفاء وشموله للأنبياء.
الخامس : جاءت الآية لمنع الغلو بمريم، سواء بالذات او لأنها ام السيد المسيح وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين.
السادس : ورد عن الإمام الباقر ان معنى الآية إصطفاك من ذرية الأنبياء.
وجاء الإصطفاء بحرف الجر (على) مما يدل على ارادة التشريف بالإصطفاء، فالآية لم تقل (على نساء العالمين) بل جاءت بما يفيد الإستعلاء لتوكيد الترجيح والتفضيل بالإصطفاء وكي لا يقال انه مجرد اختيار وان مريم أختارها لأن تكون وعاء لحمل المسيح.
فجاءت الآية لتخبر ان هذا الإختيار جاء عن تفضيل ويتضمن التأهيل لهذه المسؤوليات العظيمة فالإصطفاء هنا عنوان الإختيار لتحمل أعباء حمل عيسى وحفظه مدة الحمل والحضانة، لأن حمله حالة خاصة قد يتعرض خلالها للإسقاط والإجهاض من طرف الأم أو أهلها ومن حولها في مجتمع محافظ على القيم الإسلامية، وجاء لامرأة معروفة بالورع والتقوى ومن غير ان يكون لها زوج، ووظيفتها الشرعية أزاء الحمل بعيسى ولا تفزع منه، ولا تخبر من يكون سبباً في الإجهاز عليه وهو حمل.
فاصطفاء مريم هنا للأمانة التأريخية بحفظ عيسى وهو حمل، وحين وضعه، وهي من أعظم المسؤوليات التي تكفلت بها امرأة في التأريخ، ولم تمر امرأة بما عانته مريم فهي المعروفة بالتقوى والصلاح تصبح بين عشية وضحاها حاملاً بطفل ليس له أب وعليها حفظه ورعايته لمصلحة الدين والأمم الى يوم القيامة مما يستلزم درجة من اليقين والصبر لمواجهة النفس والغير فهذا الحمل جهاد وقهر للنفس الغضبية ولأسباب الشك والريب.
ويبدو ان الرزق تنزل به الملائكة ليكون مقدمة لتأهيل مريم لحمل عيسى وجعلها قادرة على تحمل هذه المسؤولية ومواجهة الذات والأقارب والناس بتسليم بالآية والمعجزة في ولادته ، ان اخبار مريم بالإصطفاء جعلها تدرك انفرادها بمسؤولية حمل روح وانه فوز عظيم وارتقاء ومنزلة لم تنلها امرأة غيرها، مما يجعلها حريصة على حفظ الأمانة والعناية بعيسى وهوفي بطنها وحين وضعه، ويدل عليه قوله تعالى [فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا]( )، فمن وجوه الإصطفاء اختيارها العزلة حفظاً على عيسى .
وعادة النساء عند الإبتلاء بحالات شاذة وغريبة ان تقوم المرأة باخبار الأم ومن تثق به للتدارك ومعالجة الأمر والنظر في اطلاع رب الأسرة او غيره على الأمر وبحسب الحال والخصوصيات ولكن مريم لم تخبر أحداً وبادرت الى العزلة حرصاً على امانة السماء وعلة الإصطفاء، والإعتزال يدل على قبولها ورضاها بالحمل، وهذا الرضا فرع اخبار الملائكة بالإصطفاء ودليل ارتقائها في سلم الكمالات وحال اليقين الذي صارت اليه وان الحمل الذي في بطنها انما هو آية من آيات ، وهذه الآية وثيقة سماوية باقية الى يوم القيامة ليتجدد معها اكرام مريم والإخبار عن جهادها وصبرها في ذات وسعي النساء مطلقاً ومن آل ابراهيم خاصة في تثبيت أركان التوحيد والنبوة في الأرض.
الإعراب واللغة
يا مريم: يا: حرف نداء، مريم: منادى مفرد علم،
أقنتي: فعل أمر مبني على حذف النون، الياء: فاعل.
لربك: جار ومجرور متعلقان باقنتي، والكاف مضاف اليه.
واسجدي: الواو: حرف عطف، أسجدي: فعل أمر مبني على حذف النون، وكذا(اركعي).
مع: ظرف مكان منصوب، الراكعين: مضاف إليه مجرور، وعلامة الجر الياء، وجملة(اقنتي لربك) لا محل لها وهي جواب النداء، وجملة (اسجدي) لا محل لها معطوفة على جملة اقنتي، وكذا جملة اركعي.
في سياق الآيات
بعد آية اصطفاء مريم واخبار الملائكة عن عظيم منزلتها والشرف الذي نالته من بين النساء جاءت هذه الآية بذات السياق لتبين ما يترتب على الإصطفاء من مضامين الشكر لله تعالى واظهار الأهلية لهذا الإصطفاء واداء الفرائض والعبادات، وفي نظم الآيات اعجاز خاص يتجلى بالجمع بين الإصطفاء ومواظبة مريم على فعل الصالحات واظهار الخشوع والخضوع لله تعالى.
جاءت هذه الآية والآية السابقة في إكرام مريم عليها السلام، وحديث الملائكة معها وفيه:
الأول : النداء من الملائكة لمريم بدون واسطة بشر(يا مريم).
الثاني : دلالة الآية على سماع مريم لنداء الملائكة، وفيه شرف عظيم لها ولمعاشر النساء.
الثالث : بشارة إختيار وإصطفاء مريم من بين نساء العالمين، وولادة عيسى عليه السلام.
الرابع : تزكية وطهارة مريم(وعن السدي: وطهرك قال: من الحيض)( ).
الخامس : إجتباء مريم عليها السلام على نساء زمانها في التقوى والعفة والشأن العظيم عند الله عز وجل.
السادس : إبتداء هذه الآية بنداء الملائكة ذاته(يا مريم) وكأن الملائكة تتباهى بذكر إسمها لأن الله عز وجل أكرمها بالطهر والتشريف وولادة عيسى عليه السلام، وفيه بعث للعز في نفس مريم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السابع : أمر الملائكة لمريم بالقنوت لله عز وجل شكراً له تعالى على هذه المنزلة العظيمة التي نالتها بفضله سبحانه، ومقدمة لولادتها لعيسى عليه السلام من غير أب.
الثامن : شهادة الملائكة لمريم بسلامتها من دنس الشرك، والإقرار لها بأنها تعبد الله عز وجل، وهو من مصاديق التطهير.
التاسع : أمر مريم بالسجود والتطامن لله عز وجل وهو مقدمة لولادة عيسى عليه السلام.
العاشر : الأمر لمريم باقامة الصلاة، وتعاهدها، وعدم الإبتعاد عن جماعة المؤمنين حال ذكرهم لله عز وجل.
إعجاز الآية
تتجلى في الآية المضامين العملية للإصطفاء وظهور الآيات في تقوى وعبادة مريم، وكيف ان الملائكة يأمرون مريم بالإجتهاد في العبادة وبيان أهم أفرادها.
وتبين الآية موضوعية الصلاة في الإصطفاء والإجتباء، وفيها تشريف للمسلمين لتعاهدهم للصلاة وتقيدهم بالركوع والسجود باعتبارهما ركنين في الصلاة.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (يَامَرْيَمُ اقْنُتِي ) ولم يرد القنوت بصيغة الأمر (إفعل) الا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية تأديب للمسلمين والمسلمات بلزوم اتيان الصلاة وتوكيد بانهم ورثة المصطفين من آل ابراهيم وآل عمران، فصحيح ان الخطاب لمريم الا انه في دلالته ومضمونه موجه للمسلمين بلزوم الخضوع والخشوع لله تعالى.
وفي الآية ترغيب للنساء بالإيمان، وحث لهن للإجتهاد في مراتب التقوى وحسن التبتل والإنقطاع إلى الله عز وجل، والآية مدرسة في صبر وجهاد والنساء في طاعة الله عز وجل إذ جاءت بالأوامر العبادية مجتمعة وهي:
الأول : القنوت والطاعة التامة لله عز جل.
الثاني : السجود والخضوع لله عز وجل.
الثالث : الركوع والخشوع لله عز وجل، وتعاهد صلاة الجماعة.
وتتضمن الآية في مفهومها البشارة للمؤمنات بالولد الصالح، وأن تقوى الأم تتجلى بحسن سمت إبنها، لأن عيسى عليه السلام آية من عند الله وأسوة حسنة للمؤمنين، قال تعالى[وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً]( ).
مفهوم الاية
في الآية دعوة لطرد الغفلة وعدم ترك العبادة والذكر والتسبيح، لقد جاء أمر الملائكة على نحو الإجمال، وتوجه الخطاب للمسلمين بالفرائض اليومية على نحو التفصيل والبيان مما يدل على المنزلة الرفيعة للمسلمين في سلم المعارف الإلهية، وفي الآية مسائل:
الأولى : ابتداؤها بالخطاب، وهو نوع اكرام، وأفرادها بالنداء دليل على العناية الخاصة بها.
الثانية : الأمر بالقنوت والخشية منه تعالى مطلق يشمل السر والعلانية، وهو حالة وملكة نفسية تطرد الغفلة وتمنع من الزلل وركوب المعصية، والقنوت عنوان لصلاح النفس والإخلاص وصدق السريرة.
الثالثة : بعد الأمر بالقنوت وما فيه من دلالات عقائدية جاء ألأمر بالسجود وما يعنيه من مضامين الخضوع والخضوع لله تعالى ونزع رداء الكبرياء عن النفس واجتناب الزهو والعتو.
الرابعة : الأمر بالسجود، وهو مطلوب بذاته على نحو الإستقلال، وباعتباره جزء من الصلاة، والسجود اظهار للخضوع والخشوع له تعالى، وزجر للنفس عن التكبر والزهو والغرور وهي صفات تجعل الإنسان ينسى ذكره تعالى ولا يعرف ماهية نفسه وضعفه وعجزه “وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه”.
والسجود يساهم في معرفة النفس وخلجاتها وحاجتها الى واجب الوجود، ولزوم عبادته وطاعته.
الخامسة : الأمر بالركوع، وجاء مقيداً بان يكون مع الراكعين مما يدل على اقامة الصلاة ووجود اهل الإيمان من حواليها، وهو أمر يساعد في تقوية الإيمان في النفس وعدم الفزع او الخوف من اظهار معالم التقوى، ويعتبر مقدمة وحرزاً اجتماعياً لولادة عيسى من غير أب.
افاضات الآية
لقد أراد لمريم ان تقوم برياضة روحية يومية متجددة تتضمن معاني التقوى والصلاح بما يناسب مقامات الإصطفاء، وتدعو الناس بعبادتها ونسكها الى التصديق بها وبعيسى حين وضعه وولادته من غير أب، لقد أراد الملائكة ان تكون مريم في سفر روحي وعقائدي جسدي تتجلى فيه آيات العرفان، وتخترق فيه نفسها حجب السماوات بسلطان وسلاح التقوى والخضوع والإستجابة لله تعالى، وتعلم ان نفخ الروح منه سبحانه، ولتكون في اتصال روحي مع عالم الملكوت وانقطاع بدني عن مشاغل وهموم الدنيا.
التفسير
قوله تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ]
بعد قيام الملائكة بالبشارة بالإصطفاء والإجتباء قاموا بمخاطبة مريم وأمرها بالقنوت، وهذا الأمر يحمل على الوجوب لعدم وجود قرينة صارفة الى الإستحباب.
والنداء في الآية (أقنتي) يحتمل وجوهاً:
الأول : ان تعالى نادى مريم شفاهاً , كما في كلامه مع موسى [فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ] ( ).
الثاني :انه كلام وأمر تنقله الملائكة بالواسطة.
الثالث : كلام الملائكة لتحث مريم على القنوت شكراً له تعالى، وللإخبار عن قاعدة كلية وهي ان من لوازم الإصطفاء القنوت والخشوع والخضوع لله تعالى.
والأصح هو الثاني والثالث للتداخل بينهما بلحاظ ان الملائكة يفعلون ما يؤمرون سواء جاءهم الأمر بخصوص مريم وأمرها بالقنوت او لوجود قاعدة في الإرادة التكوينية يعلمها اهل السماء وهي مع الإصطفاء يأتي القنوت، كما انه مدخل وباب لتعاهد الإصطفاء والمحافظة عليه.
ولم يقل الملائكة اقنتي لله بل قالوا[لِرَبِّكِ] في تزكية وشهادة لمريم بانها من الموحدين , ولم يطرأ عليها الشرك ابداً.
علم قرآني جديد
يمكن تأسيس علم قرآني يتعلق بالصلة والمناسبة بين الآيات وتسميته (الشاهد القرآني) ومضمونه شهادة آيات القرآن بعضها لبعض, وبلحاظ الموضوع والحكم ينقسم هذا العلم والصلة بين الآيات الى عدم أقسام وهي :
أولاً : تفسير بعض آيات القرآن للبعض الآخر، فما من آية الا وتجد تفسيرها في آية او آيات أخرى من القرآن.
ثانياً : تعضيد وتأييد الآية القرآنية لأختها وان جاءت أحداهما في أول القرآن والأخرى في آخره، او احداهما مكية والأخرى مدنية.
ثالثاً : ثبوت النسبة بين الآيات بلحاظ المطلق والمقيد، والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ.
رابعاً : مجيء بشارة في آية، وثبوتها عملياً وتحققها واقعاً في آية أخرى، وفيه شواهد كثيرة منها ما ورد في عيسى وكيف ان بشر مريم بانه يكلم الناس في المهد في سورة آل عمران، وجاءت سورة مريم لتخبر بانه كلم الناس فعلاً، وذكرت مضمون الكلام وانه علم وحكمة وتقول [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ]( ).
خامساً : مجيء الأمر الإلهي في آية، ومجيء العمل به ومصداقه العملي في آية أخرى، فقد جاءت هذه الآية بالأمر لمريم بان تقنت لله وجاءت آية أخرى تؤكد ان مريم امتثلت للأمر الإلهي قال تعالى [وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ]( ) وقوله تعالى صدقت أي بعيسى والكتب السماوية المنزلة،
ولم يكن يحيى وحده الذي صدق بعيسى من بين المصطفين، فقد شهد القرآن لمريم تصديقها له في رسالته، والتبعيض في قوله تعالى [مِنْ الْقَانِتِينَ] يؤكد تعدد وكثرة الخاشعين لله , المنشغلين بعبادته وطاعته , وانه بامكان العبد ان يلتحق بالمصطفين الأخيار ويحاكيهم في عبادتهم وتقواهم , ويكون عند بمنزلتهم , و واسع كريم.
بحث أصولي
أختلف في متعلق الأمر بلحاظ اعتبار علو الآمر او عدمه على وجوه:
الأول : اعتبار العلو: أي يشترط في الأمر ان يكون من العالي الى الداني.
الثاني : عدم اعتبار العلو: فيصح الأمر اذا جاء الطلب من المساوي او من الداني الى العالي.
الثالث :انه حقيقة في الأول اعلاه، وفي الثاني مجاز يحتاج الى مؤونة زائدة وعناية.
الرابع : اعتبارالإستعلاء، فلابد للعالي في الأمر من اظهار هيئة الإستعلاء سواء بصيغة الأمر، او بالقرائن، او بالتشديد، والتوكيد، والتهديد ونحوها، فالعالي اذا اصدر امراً خالياً من الإستعلاء فانه لا يتعدى الطلب والسؤال فلا يكون أمراً على هذا المبنى.
الخامس : عدم اعتبار الإستعلاء فيكون الطلب من العالي الى الداني امراً وان كان مستخفضاً لجناحه، ومجيء امره بصيغة الرجاء والتوسل والحث والترغيب، فالمعتبر في الأمر هو منزلة ومقام العالي، دون التفات الى استعلائه، واستدل عليه بالعرف والوجدان.
السادس : اعتبار الإستعلاء احياناً، وعدم اعتباره احياناً اخرى بحسب القرائن والإمارات، فالعالي قد يأتي بطلب وهو لا يقصد الأمر وان كان عالياً كما هو بين الناس لأن العلو من الأمور المتزلزلة غير الثابتة وقد يأمر مستخفضاً لجناحه، ولم يعتبر الإستعلاء ولكن القرائن تفيد الأمر لكفاية العلو.
اعتبار احد الأمرين اما العلو او الإستعلاء، اما جانب العلو فبين، وهو اعتبار العلو واقعاً، اما الإستعلاء فيعتبر بمفرده، كما لو طلب المساوي من مثله ولكن بصيغة الإستعلاء، وكذا بالنسبة للداني من العالي، فالعلو مفقود ولكن الإستعلاء موجود.
وموضوع الإستعلاء او عدمه في المقام يستقرأ من أدلة أخرى تتعلق بالصلة بين الملائكة والإنسان اذ ان الملائكة سجدوا لآدم ، وليس هناك ما يدل على الإستعلاء في المقام لأن الأمر يحمل على التذكير بما يجب على مريم عمله واتيانه لتتغشى العبادة ليلها ونهارها وتعلم أجيال المؤمنين وصبرها في جنب وان الإصطفاء لم يأتِ الا عن جهاد وتقوى وانقطاع اليه تعالى وتبين الآية اعانة الملائكة لمريم في سبل الطاعة، وهذه الإعانة ليست من باب الحصر بل هي من باب المثال، والشاهد على اعانتهم للأنبياء والمصطفين من آل ابراهيم وآل عمران.
وهل جاء أمر الملائكة لمريم عن أمره تعالى، ام هو ابتداء منهم على نحو النصيحة والإرشاد لما يناسب حال الإصطفاء، الأقوى هو الأول، ويحتمل على وجهين:
الأول: انهم نقلوا وحياً وامراً الهياً الى مريم.
الثاني: قاموا بذكر قاعدة كلية تتعلق بالإصطفاء وما يلازمه من سنن الطاعة والمواظبة على الذكر.
ولا تعارض بين الوجهين لعمومات قوله تعالى بخصوص الملائكة [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ) والقنوت عنوان حب العبد لله، ومظهر من مظاهر الرق والعبودية، وارتقاء في سلم الكمالات بملاك المعرفة والإخلاص، لقد اراد الملائكة ايجاد صلة بين مريم وعالم الملكوت، وتقارب بين الإنسان والملك وتجديد للصلة معه منذ ان خلق آدم في الجنة، ويتقوم بالمعارف الإلهية وحسن العبادة والصلاح الذاتي المنبسط على الذات والجوانح والأفعال.
فالقنوت مدرسة جامعة للأذكار والأوراد وانتصار على النفس الشهوية والغضبية وطرد للشيطان ووسوسته ومنع من تأثيره على مريم او ابنها، بالإضافة الى ما فيه من الثواب العظيم والفضل الإلهي ونزول الإفاضات ودوام البركات ليكون الإصطفاء والقنوت طرفي الجذب بين المعبود والعبد، وفي القنوت الوارد في الآية ذكرت اقوال هي:
الأول : اعبديه واخلصي له العبادة، عن سعيد بن جبير.
الثاني : أديمي الطاعة له، عن قتادة.
الثالث : اطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد( ).
وكل هذه الوجوه صحيحة، ومن مصاديق الآية.
لقد أراد لمريم ان تنقطع لعبادته ولا تنشغل الا بذكره ليكون هذا الذكر مقدمة ذاتبة وتهيئة للحمل بعيسى وذكر انه لما سمعت مريم كلام وأمر الملائكة قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها، وسال الدم منهما.
وفي الآية تأديب وتعليم لمريم، فالآية جاءت بلفظ (ربك) مما يؤكد ايمان مريم وانها لا تعرف الهاًً الا عز وجل.
لقد دعا الملائكة مريم لإقتفاء هدي الأنبياء، وان تظهر الشكر له تعالى على اللسان والجوارح وتنشغل بالنسك واتيان ما تتقرب به الى تعالى لتفوز بحمل عيسى، ويكون القنوت واقية وحرزاً وصفة مستديمة تعرف بها مريم في قومها، وعند الناس عامة، وتبتعد معها عن ذميم الأفعال ورذائل الأخلاق.
لقد أراد عز وجل للمصطفين ان يكونوا قادة للأمم في التقوى والصلاح، وسخر الملائكة ليساعدوهم في الهداية الى سبل الصلاح، وبينما توقف الملائكة ساعة خلق آدم عند فعل الإنسان للسيئات كما ورد في قوله تعالى [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( )، تراهم يدعون مريم للقنوت والتحلي بأفضل عناوين الطاعة لله تعالى، مما يدل على ان الملائكة أصبحوا يعلمون بقدرة الإنسان على القنوت والطاعة لله.
وتثبت الآية أهلية المرأة لأن تكون أسوة وقدوة للأجيال والأمم وقدرتها على تلقي الأوامر الإلهية وخطاب الملائكة، ولقد جاءت الآية بأمر الملائكة لمريم بان تقنت لله، واستجابة مريم على وجوه:
الأول : القنوت على نحو الموجبة الكلية.
الثاني : القنوت على نحو الموجبة الجزئية.
والأصح هو الأول، اما إحتمال عدم قنوتها فهو معدوم لمعارضته وتضاده مع مضامين الإصطفاء ولتحلي مريم بأبهى حالات الصلاح والتقوى، لقد أراد الملائكة للنفس الإنسانية ان تخترق حجب السماوات بسلطان وسلاح القنوت والذكر ليكون الإنسان بدعائه وتسبيحه قريباً من الملائكة.
ويبعث القنوت والطاعة لله عز وجل انواراُ قدسية في النفس تفيض على الأفراد والمجتمعات وتكون وسيلة لجذب الناس للهداية والتقوى، ولقد كانت مريم محتاجة الى سيادة التقوى في مجتمعها وهذه الحاجة مركبة ومتعددة فمريم بذاتها محتاجة للإيمان من حولها للشهادة على تقواها واعانتها على المواظبة على القنوت وتصديقها في ولادة من ليس له أب.
وحفظ المسيح كحمل ورضيع وصبي أمر يحتاج مجتمعاً مؤمناً صالحاً يفهم أسرار الآيات وامكان حصول المعجزات وتلقي الأوامر الإلهية والآيات بالقبول والرضا واجتناب الجحود والحسد خصوصاً وان مريم امرأة وتواجه في باب تلقيها للآيات حسد الرجال لأنها فازت بالإصطفاء والإكرام من دونهم، فجاء الأمر بالقنوت للتخلص من شرور الحسد واسباب الكيد والأذى.
لقد اراد عزوجل لمريم السلامة والأمن والنجاة من الأذى والمكر لتبقى الى حين الحمل بعيسى، كما انها امرأة وكل امرأة معرضة بعد البلوغ للزواج، ومن يأتيها رزقها وغذاؤها اليومي من السماء وفي المحراب تكون عرضة للزواج ويتدافع عليها الخطاب وكل يرغب ان يفوز بها ليناله بعض المنافع من رشحات الآيات التي كانت لمريم، وتقتضي الإرادة الإلهية حصانة فرجها من الزواج والنكاح والسفاح، فيأتي القنوت واقية وحرزاً ومانعاً دون التجرأ او التعدي عليها.
لقد اراد عز وجل لمريم الحفظ والسلامة بسلاح القنوت، بالإضافة الى ما فيه من العز والغنى والثروة فمع القنوت والرزق السماوي لا تحتاج مريم اعانة أحد في أسباب المعيشة ولا تفكر بزوج يتكفل معيشتها، وأراد عز وجل للمجتمعات الصلاح والرشاد، اذ أن امر مريم بالقنوت لا ينحصر بها بالذات بل هو دعوة انحلالية وخطاب متوجه الى النساء والناس عامة بلزوم الإنشغال بالطاعة والذكر والتسبيح واظهار الخضوع لله تعالى، والمحافظة على القيم والمعارف الإلهية وليكون القنوت طهارة للقلب ومقدمة للفضائل والمقاصد الحميدة، وأكدت الآية على لزوم عبادته تعالى وعدم التفريط بالوقت وأيام العمر بل لابد من قضائه بالتقوى والصلاح والرشاد.
لقد ساهم الملائكة بالحرب على الكفر والجحود في الأرض وبالدعوة الى القنوت وطاعة فالأمر الملكوتي وان جاء خاصاً لمريم الا انه عام للناس جميعاً الذي يعني في مفهومه طرد مضامين الكفر والضلالة، وفيه دلالة الى ان الملائكة لم يقفوا عند السؤال عن إفساد الإنسان في الأرض عندما خلق آدم بل قاموا باعانة المسلمين المصطفين لتثبيت دعائم التوحيد في الأرض وكما يتجلى ذلك بنصرتهم للمسلمين يوم بدر.
والقنوت مصداق للصبر في العبادة، ومقدمة ذاتية للعصمة ومن وجوه القنوت الدعاء مطلقاً والدعاء في الصلاة، أخرج الطبراني عن ابن عباس وفي قوله تعالى [وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] قال كانوا يتكلمون في الصلاة يجئ خادم الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته فنهوا عن الكلام( ).
قوله تعالى [وَاسْجُدِي]
السجود هو التطامن والخضوع لله تعالى، لقد أراد عز وجل لمريم ان تكون خيراً محضاً وتقوى متصلة ومدرسة دائمة في الورع والصلاح والخشوع لله تعالى، وتجتمع عندها العبادة الجوارحية مع الإنقياد النفسي والإنقطاع الى تعالى.
ان اجتماع التسليم الى والعبادة يمنع من الغفلة ويطرد أسباب الضلالة في المجتمع، وقد يقول قائل ان اتخاذ القنوت ملكة دائمة يؤدي الى السجود والإنشغال به، الجواب ان الملائكة في مقام التأديب والتعليم والتوجيه والإعانة وتعليم مضامين العبادة والتقوى، فاذا كان الإنسان لا يعرف العمل المناسب للقنوت، يبقى يتنقل في وجوه الذكر، واختيار كيفية الفعل العبادي، فندب الملائكة مريم الى السجود في اشارة الى موضوعيته واعتباره في الإصطفاء مطلقاً واصطفاء مريم على نحو الخصوص، وللسجود في المقام معان متعددة وهي:
الأول : الخضوع والتطامن والخشوع لله تعالى.
الثاني : الإنقياد لأوامره تعالى واجتناب الشك والجحود.
الثالث : الإنحناء ووضع الجبهة على الأرض طاعة لله تعالى.
الرابع : السجود كجزء وركن في الصلاة، بمعنى ذكر الجزء وهو السجود وارادة الكل وهو الصلاة، والآية تقول اسجدي أي صلِ، ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها مصاديق للسجود الوارد في الآية الكريمة، فحينما أمر الملائكة مريم بالسجود فانهم لم يأمروا بوجه واحد من وجوه السجود بل جاءوا بالمعنى الأعم والأتم، والتعدد في معاني السجود نوع اكرام وتشريف لمريم ودلالة على أهليتها لمقامات الإصطفاء.
الخامس : أسجدي لله شكراً على نعمة الإصطفاء ونزول الرزق من السماء ونعمة الحمل بروح .
بحث قرآني كلامي
وقد تقدم السجود على الركوع في الآية مع ان السجود في الصلاة يأتي بعد الركوع، وقال الطبرسي: وقدم السجود على الركوع لأن الواو لا توجب الترتيب( )، ولكن الآية أعم، وهذا التقديم يتضمن مقاصد سامية منها :
الأولى : حمل الكلام على ارادة السجود على نحو الإستقلال.
الثانية : اشارة الى ان المراد ليس سجود الصلاة لبيان أهمية السجود كعنوان للعبادة والشكر له تعالى على النعم المتوالية.
الثالثة : من خصائص المصطفين المبادرة الى السجود طاعة لله وشكراً له على النعم وانقطاعاً اليه تعالى.
الرابعة : قال الرازي : لعله كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع”( )، ولا دليل عليه ويمكن تأسيس قاعدة وهي لو دار الأمر بين وحدة الترتيب في أجزاء العبادات بين الملل السماوية او عدمها فالأصل وحدة الترتيب وان السجود فيها يأتي بعد الركوع.
الخامسة : جاء السجود كعنوان عبادة وفعل فردي , أما الركوع فهو مع الجماعة بمعنى ان اصطفاء مريم يحتم عليها أداء وظائف عبادية مستقلة وخاصة بها تتناسب وحال الإصطفاء، ففي الآية تشريف لمريم وبيان اخلاصها في العبادة وانقطاعها الى تعالى، وتوكيد بانها تؤدي اكثر من الفرائض والتكاليف العامة، وهو نوع اكرام للمرأة وشهادة سماوية بانها تستطيع اداء اكثر مما يتحمله غيرها من الرجال، لتكون عبادة وسجود مريم حجة على الناس في اداء العبادات واخباراً بان الفرائض ليست صعبة اوشاقة على الرجال او النساء لأن مريم ادتها وأدت غيرها بالإضافة اليها.
السادسة : تقديم السجود شاهد ودلالة على لزوم الإكثار منه، وتوكيد على أهميته وموضوعيته في أفراد ومصاديق العبادة.
السابعة : الآية دعوة الى مريم للمبادرة الى العبادة في الليل والنهار، وعدم الإكتفاء بانتظار الفريضة.
الثامنة : ارادة السجود وهيئته، وارادة الصلاة اليومية في قوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ].
التاسعة : لبيان موضوعية السجود، ووضع الجبهة على الأرض سواء في الصلاة او غيرها.
العاشرة : المراد من السجود هو المعنى اللغوي كما تقدم أي الخضوع والتطامن والخشوع لله تعالى.
والأقوى ان المراد من السجود في الآية هو العنوان الجامع للسجود على نحو مستقل والسجود في الصلاة ومجيئه متقدماً على الركوع دليل على موضوعيته وأهميته على نحو مستقل كما ان الركوع واداء الصلاة يعني بالضرورة السجود والإتيان بسجدتين في كل ركعة من الصلاة.
أي لأن السجود عنوان جامع يشمل السجود للصلاة وسجود التلاوة والمعنى اللغوي فقدم على الركوع فالسجود هنا انحلالي ينقسم الى الى عدة أقسام منها سجود الصلاة، ولتعدد مضامينه جاء متقدماً على الركوع، بالإضافة الى ان ركوع الصلاة يشمل ارادة ومعنى السجوء كجزء منها لذا تسمى كل ركعة في الصلاة باسم الركوع مع انه فيها سجدتان.
الحادية عشرة : ارادة دوام القرب الى تعالى بالسجود، وعن الإمام الرضا : أقرب ما يكون العبد من وهو ساجد.
لقد ورد لفظ اسجد بصيغة ألأمر مرتين، وكلاهما خطاب لصاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ] ( )، وقال تعالى [كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] ( )، ولم يأتِ بصيغة الخطاب المفرد للمؤنث الا لمريم في هذه الآية مما يدل على المنزلة العظيمة لمريم في ميادين التقوى والصلاح والرشاد.
وتؤكد الآية بان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وريث المصطفين الأخيار من آل ابراهيم وآل عمران، وحتى التعدد في الأمر والأمر الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسجود له دلالات عقائدية تفيد التفضيل، بالإضافة الى انحلال الخطاب في السجود للمسلمين كافة فقد جاء خاصاً في لفظه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اما موضوعه فهو عام يشمل كل مسلم ومسلمة.
اما الخطاب والأمر بالسجود لمريم فقد جاء على نحو القضية الشخصية وانتفع المسلمون والناس جميعاً من خطاب التكليف الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسجود وأداء الصلاة.
وتظهر الآية ان السجود غير القنوت لمقام الواو التي تفيد التغاير كما ان التعدد في صيغ العبادة يدل على الحث على التزامها ولزوم عدم التفريط او الغفلة ليعلم الناس اجتهاد المصطفين في منازل العبادة واشتغالهم بذكر .
بحث فقهي
السجود هو لغة الميّل والخضوع والتطامن وكل شيء ذلّ فقد سجد، أما في الاصطلاح فهو عبارة عن وضع الجبهة على الأرض بهيئة مخصوصة وقصد التعظيم والعبادة لله تعالى، ويكون تارة جزء من الصلاة، ويلحق به السجود للسهو ولقضاء السجدة المنسية وللتلاوة والتذلل والتعظيم، ويؤتى به خشوعاً وشكراً لله عز وجل.
مسائل في السجود
الأولى : يجب في صلاة الفريضة والنافلة في كل ركعة سجدتان وهما معاً ركن.
الثانية : اذا أخلّ بالسجدتين معاً بمعنى صلى ركعة من صلاة الفريضة خالية من السجدتين سواء كان عن عمد او سهو بطلت الصلاة.
الثالثة : تبطل الصلاة بزيادتهما معاً او احداهما عمداً في الفريضة والنافلة.
الرابعة : تبطل الصلاة بزيادتهما معاً في الفريضة سهواً او جهلاً ولا تبطل بذلك النافلة.
الخامسة : الاقوى عدم بطلان صلاة الفريضة بنقصان سجدة واحدة ولا زيادتها سهواً، اما لو كانت زيادة السجدة الواحدة عن عمد فتبطل الصلاة.
السادسة : الجبهة هي ما بين قصاص شعر الرأس وطرف الأنف الأعلى والحاجبين طولاً وما بين الجبينين عرضاً، ولا يشترط وضع كامل الجبهة على الأرض بل يكفي صدق السجود على مسمى الجبهة ويتحقق بوضع مقدار الدرهم او الأنملة وهي الطرف الأعلى من الاصبع.
السابعة : يشترط عدم وجود حائل بين الجبهة وما يُسجد عليه، ويجوز ان يكون موضع السجود متفرقاً كما لو كان السجود على الحصى او السبحة غير المطبوخة، ويجب على المرأة رفع شعرها الواقع على جبهتها لمنع الحاجب عن المقدار الواجب للسجود.
الثامنة : ما عدا الجبهة من المساجد لا يشترط مباشرته للأرض فيجوز ان يكون بينه وبين الأرض الثوب او المصلى.
التاسعة : يشترط في الكفين وضع باطنهما على الأرض مع الاختيار، نعم لا يشترط وضع تمام باطن الكفين على الأرض بل يكفي المسمى ولو الاصابع، ومع الضرورة يجزي الظاهر، ولو كان مقطوع الكف مثلاً ينتقل الى الأقرب من الكف والذراع مع الإمكان.
العاشرة : في الركبتين يجزي المسمى ايضاً، والركبة مجمع عظمي الساق والفخذ.
الحادية عشرة : الاقوى كون الســجود على الهيئة المعهودة للســنة الفعلية ولأنه مقتضى النصـــوص والمتعارف، فلا يكفي وضع المساجد السبعة بأية هيئة كانت.
الثانية عشرة : لو وضع جبهته على موضع يزيد على موقف وموضع قدميه أكثر من المقدار المغتفر وهو أربع أصابع مضمومات ونحوها، فالاحوط جر الجبهة وعدم رفعها الا مع الضرورة او عدم امكان الجر، وكذا لو وضع جبهته على ما لا يصح السجود عليه.
الثالثة عشرة : من كان بجبهته دمل او جـرح ونحـوه فاذا تمكن من السجود على الموضع السليم منها سجد عليه، وان احتاج صنع ما يشبه الحفيرة في الأرض كي تقع جبهته على الأرض ويصح سجوده فعل ما دام السجود على المسمى ومقدار درهم، وان لم يتمكن او أن العلة كانت مستوعبة للجبهة كلها سجد على أحد الجبينين وهما فوق الصدغين عن يمين الجبهة وشمالها يتصاعدان من طرفي الحاجبين الى قصاص الشعر.
الرابعة عشرة : ان تعـــذر الســـجود على الجبهة ســـجد على الذقـن لقوله تعالى [يخرون للأذقان سجداً ]، والذقن معروف وهو مجمع اللحيين وما فوق الحنك، فان تعذر سجد على الأنف والا فعلى صفحة الوجه، وان تعذر اقتصر على الممكن لقاعدة الميسور.
الخامسة عشرة : لو تعذر وضع الجبهة على الأرض فأن وجوب وضع المساجد الستة الأخرى في محالها يبقى على حاله.
السادسة عشرة : من لم يتمكن من الإنحناء للسجود انحنى بالقدر الممكن مع رفع المسجد الى جبهته ووضع سائر المساجد في محالها، وان لم يتمكن من الإنحناء أصلاً أومأ برأسه، وان لم يتمكن فبالعينين، والأحوط له رفع المسجد ووضع الجبهة عليه مع الإمكان ووضع ما يتمكن من سائر المساجد في محالها، وان تعذر عليه جميع ما يفيد مسمى السجود فبالعينين، فان لم يتمكن نوى بقلبه وان كان عن قيام، والاحوط الإشارة باليد ونحوها ايضاً.
السابعة عشرة : اذا ارتفعت الجبهة من على الأرض قهراً قبل الإتيان بالذكر او أثناءه وعادت قهراً فالمجموع سجدة واحدة، والاقوى كذلك حال اعادتها اختياراً بقصد ذات السجدة، نعم لو كان رفع الجبهة الى حد الجلوس فالأولى احتساب كل منهما سجدة مستقلة.
الثامنة عشرة : اذا نسي السجدتين معاً من الركعة الواحدة او تذكر قبل الدخول في الركوع وجب العود اليهما، ولو تذكر بعد الدخول في حد الركوع بطلت صلاته، وان كانت سجدتي الركعة الأخيرة فيعود اليهما ما لم يسلم ويأتي بالمبطل.
التاسعة عشرة : اذا نسي احدى السجدتين وتذكر قبل الدخول في الركوع وجب العود اليها، وان كان بعد الركوع مضى في صلاته وقضى السجدة بعد السلام، أما لو كانت السجدة من الركعة الأخيرة فيعود اليها اذا تذكر قبل السلام، ويقضيها لو كان قد تذكرها بعد السلام او في أثناء الواجب منه.
العشرون : لا يجوز الصلاة على ما لا تستقر المساجد عليه كالقطن المندوف والوسائد من الريش والصبرة من الحنطة ونحوها لاعتبار الاستقرار والطمأنينة في السجود والصلاة.
الحادية والعشرون : اذا دار أمر العاجز عن الانحناء التام للسجدة بين وضع اليدين على الأرض وبين رفع ما يصح السجود عليه ووضعه على الجبهة فيأتي بما هو أقرب الى هيئة السجود منهما، وان ظن بتساويهما فالاقوى التخيير.
الثانية والعشرون : يكره الإقعاء في الجلوس بين السجدتين وبعد السجدة الثانية، والإقعاء هو الاعتماد بصدري القدمين على الأرض ويجلس على عقبيه.
الثالثة والعشرون : يكره له ان ينفخ موضع السجود.
الرابعة والعشرون : يكره عدم رفع اليدين من الأرض بين السجدتين.
الخامسة والعشرون : السجود مناسبة ومحل للدعاء والخشوع فلا يقرأ فيه القرآن.
السادسة والعشرون : يؤتى بجلسة الإستراحة وهي الجلوس بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى من كل صلاة، وبعدها من الركعة الثالثة من الصلاة الرباعية.
واجبات السجود
الأول : وضع المساجد السبعة على الأرض وهي الجبهة والكفان والركبتان والإبهامان من القدمين، وتدور الركنية والزيادة والنقيصة في السجود مدار وضع الجبهة على الأرض دون المساجد الاخرى، فلو وضع جبهته دون سائر المساجد تحصل الزيادة، اما لو وضع سائرها ولم يضع الجبهة فيصدق حينئذ ترك السجود.
الثاني : الذكر بالتسبيحة الكبرى وهي “سبحان ربي الأعلى وبحمده” مرة واحدة او الصغرى “سبحان ” ثلاث مرات، والاقوى كفاية مطلق الذكر من التحميد والتهليل والتكبير ونحوها بشرط ان لا يكون أقل من التسبيح لمن لا يحسن التسبيحة.
الثالث : الطمانينة في السجود بمقدار الذكر الواجب فلا يجوز ان يشرع في الذكر قبل وضع الجبهة على الأرض والاستقرار، وان تذكر قبل رفع الرأس وجب التدارك، وكذا لا يجوز ان يأتي به حال رفع الرأس من السجود ولو كان حرفاً واحداً، ولو جاء ببعض الذكر عند رفع الرأس من السجود سهواً او غفلة ونحوها صحت صلاته ان تحقق السجود شرعاً وعرفاً ولكن ثواب الصلاة ليس تاماً.
الرابع : رفع الرأس منه.
الخامس : الجلوس بعد السجود بطمأنينة ثم الانحناء للسجدة الثانية.
السادس : كون المساجد السبعة في محالها الى تمام الذكر، ولا يجوز رفع الجبهة عمداً وان حصل سهواً يتداركه، اما ما عدا الجبهة فيجوز على كراهة رفعه عمداً كما لو أراد حك جسده ونحوه لعدم زوال الطمأنينة اصلاً، والأولى ان لا يكون ذلك في حال الذكر.
السابع : مساواة موضع الجبهة مع موضع القدمين بمعنى عدم علوه او انخفاضه اكثر من لبنة او أربع اصابع مضمومات وعليه النص والاجماع، ولا يضر الانحدار اليسير بين موضع الجبهة والموقف.
الثامن : المحافظة على العربية والترتيب والموالاة في الذكر.
من مستحبات السجود
السجود تجسيد وبيان لأرقى مراتب الخشوع لله عز وجل وفيه مستحبات كثيرة تكون الاستكانة معها أبلغ، ومن هذه المستحبات ما يسبقه ويكون مقدمة له، ومنها ما يكون مقارناً له، ومنها ما يتعقبه وأهمها:
الأول : التكبير حال الانتصاب من الركوع قبل ان يهوي الى السجود ورفع اليدين حال التكبير وعليه النص والاجماع.
الثاني : ان يضع يديه على الأرض قبل الركبتين عندما يهوي الى السجود.
الثالث : وضع تمام الجبهة على ما يصح السجود عليه.
الرابع : الإرغام بالأنف على الأرض وما يصح السجود عليه.
الخامس : بسط اليدين في حال السجود مضمومتي الأصابع حتى الإبهامين ويكونا بِحذا الاذنين ومتجهاً بهما الى القبلة.
السادس : توجه النظر حال السجود الى طرف الأنف وهو المنسوب الى المشهور.
السابع : الدعاء عند السجود وقبل الذكر الواجب بأن يقول: “اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، والحمد لله رب العالمين تبارك أحسن الخالقين.
الثامن : تكرار الذكر والختم على الوتر كأن يقول: “سبحان ربي الأعلى وبحمده” ثلاث مرات أو خمس او سبع.
التاسع : ان تكون الأرض موضع سجوده.
العاشر : الدعاء في حال السجود بطلب الرزق وقضاء الحوائج، وفي خبر زيد الشحام عن أبي جعفر : “أدعُ في طلب الرزق في المكتوبة وأنت ساجد: يا خير المسئولين ويا خير المعطين ارزقني وارزق عيالي من فضلك فأنك ذو الفضل العظيم”.
الحادي عشر : التورك في الجلوس بين السجدتين وبعدهما وان كان في الركعة الأولى او الثالثة من الرباعية وهو الجلوس على فخذه الأيسر جاعلاً ظهر قدم اليمنى على بطن اليسرى.
الثاني عشر : ان يقول في الجلوس بين السجدتين: “أستغفر ربي وأتوب اليه.
الثالث عشر : التكبير بعد الرفع من السجدة الأولى عند الجلوس والطمأنينة فيه، والتكبير للسجدة الثانية قبل ان يهوي الى السجود، والتكبير بعد الرفع من الثانية.
الرابع عشر : رفع اليدين حال التكبيرات.
الخامس عشر : وضع اليدين على الفخذين حال الجلوس، اليد اليمنى على الفخذ الأيمن واليسرى على الأيسر.
السادس عشر : التجافي والتجنح حال السجود أي تتجافى الأعضاء بأن يرفع البطن والمرفقين عن الأرض ويبعد ذراعيه عن بدنه ليكونا كالجناحين.
السابع عشر : ان يصلي على محمد وآله في السجدتين.
الثامن عشر : يرفع ركبتيه عن الأرض قبل اليدين عند القيام من السجدة الثانية.
التاسع عشر : يدعو عند جلوسه بين السجدتين بالمأثور كالقول: “أستغفر ربي وأتوب اليه.
العشرون : ان يقول وهو في حال النهوض للقيام : بحول وقوته أقوم وأقعد”، او يقول: “اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد”.
الواحد والعشرون : ان تكون يداه عند النهوض مبسوطتين فلا يقبضهما ولا يعجن، أي لا يعتمد على يديه اذا قام كما يفعل الذي يعجن العجين.
الثاني والعشرون : المرأة تضع ركبتيها قبل اليدين عند الهوي للسجود أي عكس الرجل.
الثالث والعشرون : إطالة السجود والإكثار من التسبيح والذكر.
الرابع والعشرون : مباشرة الأرض بالكفين أي لا يكون ثمة حاجز او فراش بين الأرض وبين يديه.
ومن أقسام السجود الأخرى سجود التلاوة عند قراءة آية من آيات السورة من سور العزائم، وسجود الشكر لله عند تجدد نعمة او رفع نقمة او تذكر أحدهما او التوفيق لأداء فعل عبادي او اتيان عمل صالح، ويعتبر السجود من معالم المحراب والصلاة فيه.
قوله تعالى [وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]
هذا هو الأمر الثالث في الآية الكريمة، فبعد القنوت والسجود جاء الأمر بالركوع، والركوع الإنحناء خضوعاً لله تعالى وهو ركن من أركان الصلاة وتركه سهواً او عمداً مبطل للصلاة.
وبينما جاء الأمر بالقنوت والسجود على نحو الإستقلال والقضية الشخصية، جاء الأمر بالركوع بان يكون مع الراكعين، وهذا لا يعني عدم وجود قانتين وخاشعين وساجدين لله عز وجل، فوجود الراكعين والمصلين يدل على انتشار صيغ العبادة والتقوى بين الناس، وهناك قرائن تدل على ان المجتمع الذي كانت فيه مريم مجتمع اسلامي منها :
الأول : نذر امرأة عمران لما في بطنها، كما تقدم في قوله تعالى [رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا] ( ).
الثاني : وجود المحاريب، وهي عنوان للصلاة.
الثالث : النذر للكنيسة وبيت العبادة.
الرابع : النصوص التي جاءت في ذكر الرهبان ورجال الكنيسة.
الخامس : دخول زكريا على مريم المحراب في دار العبادة مما يعني ان مناسك العبادة تؤدى على نحو علني وظاهر.
وفي الركوع الوارد في الآية وجوه:
الأول : اداء الصلاة جماعة وهو المتبادر الى الأذهان وفق أحكام الشريعة الإسلامية باداء الصلاة بهذه الكيفية.
الثاني : ارادة الركوع بذاته وجاء ذكر الراكعين للتشبيه والمثلية.
الثالث : بيان الحصة الزائدة في الإصطفاء فالناس يؤدون الصلاة والتكاليف العبادية، اما مريم فانها تؤدي مناسك أخرى من القنوت والسجود ومضامين الخضوع والخشوع لله تعالى.
الرابع : ان التكاليف والأوامر الخاصة لا تتعارض مع التكاليف النوعية العامة.
الخامس : توكيد الركوع مع الراكعين لدفع وهم بان القنوت والسجود الخاصين كافيان في العبادة.
السادس : لتوكيد حقيقة وهي ان مريم شأنها شأن المكلفين الآخرين من الرجال والنساء تؤدي الصلاة مع زيادة في الإنقطاع الى تعالى.
السابع : يمكن قراءة الآية بتقدير، (واسجدي مع الساجدين واركعي مع الراكعين) بقرينة ان الركوع جزء من الصلاة التي تتضمن السجود ايضاً، الا ان هذه القراءة لا تمنع من ارادة السجود على نحو مستقل خصوصاً وان هناك وجوهاً متعددة من السجود كما في البحث الفقهي كسجود الشكر وسجود التلاوة.
الثامن : الآية حث على صلاة الجماعة وأداء مريم للصلاة مع الجماعة في اشارة الى مخالطتها للناس وفق موازين التقوى والعبادة والصلاح.
التاسع : حضور مريم لصلاة الجماعة ومناسك العبادة الجماعية سبب لترسيخ الإيمان في القلوب ودعوة للناس للإقتداء بمريم في تقواها وصلاحها.
العاشر :حضورها صلاة الجماعة حجة وشاهد على تقواها ومقدمة لتصديقها في ولادة عيسى من غير أب.
الحادي عشر : ليعرف الناس مريم ويكون لها مقام اجتماعي ويعترف الناس بنقائها وورعها وتقواها.
الثاني عشر : الآية شاهد على اشتراك النساء مع الرجال في اداء صلاة الجماعة فلم تقل الآية واركعي مع الراكعات، بل جاءت بلفظ الراكعين وارادة جمع المذكر منه، وهو يحتمل امرين:
الأول: ارادة الذكور وانها تصلي مع جماعة الرجال.
الثاني: المعنى الأعم الشامل للرجال والنساء، وجاءت صيغة جمع المذكر للمعنى الأعم الشامل للجميع ولتغليب المذكر في مثل هذه الحال، والأصح هو الثاني لأن الآية دعوة للنساء لحضور صلاة الجماعة، وترى الصلاة في المسجد الحرام وفي كل زمان تشارك النساء فيها الرجال، وكانت النساء تحضر صلاة الجماعة مع الرجال أيام النبوة.
الثالث : لقد أراد عز وجل للمسلمات الإرتقاء في مراتب الإيمان والمحافظة على صلاة الجماعة.
الرابع : جاءت الآية لمنع ولاة الأمور والفقهاء من حجب النساء من حضور صلاة الجماعة، والإصرار على بقائهن في البيوت والإعتذار بالإستدلال عليه بقوله تعالى [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ]، فالآية تدل بالدلالة الإلتزامية على حق المرأة في الخروج من البيت لأداء الصلاة، ويدل عليه وجوب ادائها الحج مع ما فيه من السفر ومغادرة البلد والأهل.
الخامس : أداء صلاة الجماعة تمنع من الغرور والإستكبار فمع الإصطفاء وعظيم المنزلة فان مريم مأمورة بصلاة الجماعة وهي تؤدي بامام وتكون مريم مع علو مرتبتها مأمومة في الصلاة مما يعني عدم تعارضها مع الشرف والمقام السامي لمريم، فكأن الآية تخبر عن حقيقة وهي ان الإصطفاء لا يمنع من كون المرأة التي أصطفاها الله مأموماً وتابعاً لغيره في العبادة، مع بقاء ما للإصطفاء من خصوصية وشرف، بل بالعكس فاذا كانت مريم مع عظيم مرتبتها تكون مأمومة وتؤدي الصلاة مع الناس فانها دعوة وحجة على الآخرين بلزوم الإلتحاق بالجماعة.
السادس : تبين الآية أهمية الجماعة في دوام مقومات الإيمان وحاجة مريم الى النصرة النوعية العامة عند الحمل بعيسى ووضعه.
ولقد تقدمت البشارة بالذي يصدق بعيسى ، وهو يحيى في بيان حقيقة عقائدية في الإرادة التكوينية وهي رأفته واعانته تعالى لعيسى في رسالته بجعل نبي يشد عضده ويؤيده ويصدقه، وكذا في موسى اذ جعل له اخاه هارون النبي وزيراً وعضداً، وجعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته وأصحابه وزراء وانصاراً، ولم يقفوا عند حدود التصديق بل جاهدوا بأنفسهم وأموالهم، كما جاهد يحيى في سبيل الى ان قتل.
فورود لفظ (مصدقاً) لا يعني انحصار الأمر بالتصديق باللسان بل يحمل اللفظ على الأطلاق , والمراد التصديق بالقول والفعل وبذل الوسع في بيان صدق رسالة عيسى.
وكما جاء في فريضة الصيام , وانه كان عبادة مفروضة على الملل السابقة قبل البعثة النبوية المباركة , قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )، وكذا بالنسبة للصلاة بهيئتها المعروفة عند المسلمين , اذ ان الآية تشير الى تعاهدها من قبل المصطفين الأخيار، كما تعاهد الأنبياء فريضة الصيام في شهر رمضان , وللإخبار بان الصلاة ملازمة للإنسان في وجوده على الأرض.
الإعراب واللغة
ذلك: اسم إشارة مبتدأ، من انباء: جار ومجرور، خبر للمبتدأ، الغيب: مضاف اليه.
نوحيه: فعل مضارع، والفاعل نحن، الهاء: مفعول به، اليك: جار ومجرور متعلقان بنوحيه، وما كنت: الواو: استئنافية، وقيل: حالية.
ما: نافية، كنت: كان وأسمها.
لديهم: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت، والهاء ضمير في محل مضاف اليه.
اذ: في محل نصب على الظرفية الزمانية
يلقون: فعل مضارع، الواو: فاعل.
أقلامهم: مفعول به، مضاف، والضمير: مضاف اليه.
ايهم: أي اسم موصول، مبتدأ مرفوع، وهو مضاف وقد أعتبرها سيبويه مبنية على الضم وحذف صدر صلتها، ولكن كثيراً من النحاة قالوا بعدم اجتماع الإضافة والبناء.
والجملة في محل نصب حال بتقدير فعل مثل: يتنافسون، وقيل انها فاعل لفعل محذوف.
الهاء: مضاف اليه، الميم: جمع الذكور.
يكفل: فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
مريم: مفعول به، والجملة خبر المبتدأ.
وما كنت: الواو: عاطفة، ما: نافية، كنت: كان وأسمها،
لديهم: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت، وهو مضاف.
والضمير: مضاف اليه.
اذ يختصمون: اذ: ظرف لما مضى، يختصمون: فعل مضارع والواو فاعل، والجملة الفعلية في محل جر بالإضافة.
والأنباء: جمع نبأ وهو الخبر، ويقال ان لفلان نبأ أي خبراً.
والخصومة: الجدل، خاصمه خصاماً فخصمه خصماً، غلبه بالحجة والبرهان، والخصومة: الاسم من التخاصم والإختصام.
في سياق الآيات
ألآية ميثاق وتوكيد لموضوعات الآيات السابقة، وشهادة سماوية من أفراد علم الغيب والأسرار التي لا يطلع عليها الا من يشاء تعالى، وتوكيد لمضامين وأفراد الغيب في نظم الآيات.
اعجاز الآية
تثبت الآية اعجاز الآيات السابقة، وتعلن حقيقة تأريخية وهي أهلية المسلمين للإطلاع على الغيب بواسطة نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما انها تنفي الأقوال والإدعاءات الأخرى التي تتعارض مع مضامين هذه الآية وان جاء بها أهل الكتاب وتغني الملل عن الحاجة الى غيرهم من المسلمين والنحل خصوصاً وان عالم القصص يجذب الإنسان ويجعله يتسامح في جهة صدور الخبر والرواية، فهي ليست كالأحكام الشرعية والتكاليف العبادية التي يحرص العلماء على ضبطها وتوجه الناس الى مصاردها الشرعية.
ومع تضمن الآية للإشارة الى الآيات السابقة فانها جاءت بموضوع فرعي مستقل لم تذكره الآيات السابقة ولكنه يتعلق بذات الآيات وقصصها في توكيد لعلوم الغيب فيها بذكر مسائل مستحدثة أخرى.
ويمكن تسمية الآية آية (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ) وورد هذا اللفظ مرتين في القرآن( ).
مفهوم الآية
في الآية تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول : الإخبار بانه لم يأخذ من أهل الكتاب وغيرهم، خصوصاً بعد نعتهم بالقيام بتحريف التوراة والإنجيل وصحيح ان التحريف لا يمنع من الأخذ منهم فيما يتعلق بما لم تصل اليه يد التحريف الا ان الإستغناء عنهم في باب قصصهم انبيائهم وأئمتهم دليل على العز والرفعة اللتين نالهما الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب التنزيل وأمارة على علو مرتبة القرآن وحاجة المسلمين والملل الأخرى والعلماء في الإختصاصات المتعددة له وعدم حاجته لأحد.
الثاني : نيله لمرتبة الإطلاع على علوم الغيب.
الثالث : تشريفه بان تحصل امته على علوم الغيب وتكون جزء من ثروتهم العلمية والفكرية.
الرابع : جعله الرقيب والحاكم على ما في ايدي الملل الأخرى من العلوم وأخبار الأمم السالفة.
الخامس : الأخبار عن نبوته لأن عز وجل اظهره على شطر من وجوه علم الغيب.
لقد أخبرت الآية بان قصص امرأة عمران ومريم وزكريا ويحيى من علم الغيب، وفيه تحد ظاهر لأهل الكتاب وغيرهم خصوصاً وان هذه القصص موجودة عند أهل الكتاب ومع هذا نعتها القرآن بانها من علم الغيب.
ومن مفاهيم الآية ان عز وجل أنعم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورزقه ما لم يؤت أحداً من الأنبياء الآخرين وان قصص الأنبياء تتضمن اسراراً لم يطلع عليها أحد الى حين بعثته صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة لأهل الكتاب وغيرهم للرجوع الى القرآن والصدور عنه وتبين الآية فضله تعالى بنزول القرآن وانه كتاب أحكام وحكم وأمثال وقصص وعبر ومواعظ.
ومن الآيات ان تكون القصص من أفراد علم الغيب وتنقل الآية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الى تأريخ وأوان الحدث والقصة وكأنه حاضر عندهم وبين ظهرانيهم.
افاضات الآية
في الآية بيان لفضله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اتمام الكمالات الإنسانية له، واطلاعه على الغيب الذي هو آية من آيات جماله وجلاله تعالى، وشاهد على ربوبيته وعلمه المطلق، وعجز الناس عن حفظ وتوارث اخبار الأمم والملل والأنبياء، فهذه الأخبار اما ان يطرأ عليها التحريف والتغيير والتشويه او يتراكم عليها غبار النسيان، او ان الناس ينشغلون عنها، خصوصاً في ايام الحروب والجدب ونقص المؤون، او عند الإفتتان بملك ورئاسة معينة فلا يلتفت الى الدروس والعبر التي يتضمنها التأريخ، فجاء القرآن لتوثيقها ودعوة العلماء والدارسين للإنتفاع منها، واجتناب ما وصلته يد التحريف.
لقد أكدت الآية بان جميع العوالم الطولية والعرضية آيات منه تعالى وتجري بحكمته ومشيئته، وهي تجليات لصفاته ، فالآية تبين وجهاً من وجوه اصطفائه تعالى لمريم وانه يسخر قادة الأمة في العلوم الدينية والفكرية ليتنافسوا للعناية بمريم ورعايتها وتعاهد شؤونها الشخصية.
قوله تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ]
قد تقدم في سورة البقرة بداية الآية الثانية وبعد الحروف المقطعة باسم الإشارة ذلك للدلالة على القرآن، قال تعالى [ الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ].
وجاءت هذه الآية للإشارة الى العلوم والمضامين القدسية في قصة امرأة عمران ومريم العذراء وزكريا ويحيى، لبيان أن الإنسان مجمع الفضائل ومظهر الفيض والرحمة الإلهية التي تجلت في المصطفين الأخيار من آل ابراهيم وآل عمران، ولابد ان هذه العلوم من مصاديق العقل النظري وهو ان المدرك مما ينبغي ان يعلم، لو لم تكن هذه القصص ذات دلالات عقائدية لما جاء ذكرها في القرآن فما هي اللطائف والإشارات المستقرأة من هذه القصص والمسائل والأحكام التي يمكن اقتباسها، فيه وجوه:
الأول : الإخبار عن اصطفاء واجتباء جماعة من الناس من مختلف الأجيال، وهذا الإصطفاء آية في الفضل والإحسان الإلهي لبني الإنسان، فبعد تفضله سبحانه بخلق آدم وبعث الروح فيه جاء الإكرام المتعاقب لأفراد من جنس الإنسان تتجلى فيهم الكمالات الإنسانية وهم مهبط الوحي والإمامة والهداية الى الدين.
الثاني : ابتداء الإصطفاء مع أول انسان خلقه تعالى للدلالة على اكرام الأبوة، وانتفاع الناس جميعاً من هذا الإصطفاء لما يترشح على الأبناء من الفيض الذي يتغشى الأب.
الثالث : ان الأخبار عن الإصطفاء ذاتاً وموضوعاً ومحمولاً نعمة منه تعالى، فالآية توكيد لمسألة كلامية وهي ان الأخبار عن الإصطفاء فضل عظيم ناله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون مما يستلزم الشكر والثناء والحمد لله تعالى على احسانه ولطفه , وما خص به المسلمين دون غيرهم.
الرابع : لقد تلقى المسلمون نعمة الأخبار عن الإصطفاء بواسطة القرآن وفيه اشارة الى عظمة القرآن.
الخامس : تؤكد الآية حاجة الناس وأهل العلم وطلاب الحقيقة الى اخبار وقصص القرآن.
السادس : مما ينفرد به القرآن ان قصصه من علم الغيب وهذه القدسية والتشريف آية سماوية في الأرض.
السابع : تبين الآية ان المسلمين في غنى عن كتب الملل الأخرى، وان الناس بحاجة الى القرآن والسنة النبوية، ولا يحتاج المسلمون اللجوء الى الكتب السماوية الأخرى مع شرفها وعظمتها وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله، فان قالوا باطلا لم تصدقوهم، وإن قالوا حقا لم تكذبوهم”( ).
الثامن : في الآية حصانة للمسلمين من أثر التحريف وحاجز دون الإنصات له، وحصول الفرقة بسببه ولقد درأ القرآن كثيراً من الفتن بين المسلمين، او بينهم وبين غيرهم من الملل والأمم.
التاسع : الآية نوع تحد ودليل على اعجاز القرآن لأن اخباره وقصصه لم تأتِ نقلاً او تكراراً لما في الكتب السماوية السابقة بل هي أمور غيبية لم يطلع عليها الناس.
العاشر : في الآية دعوة للمسلمين وغيرهم لمعرفة تفاصيل قصص القرآن.
الحادي عشر : تحث الآية العلماء على تأليف مصنفات وكتب خاصة بالمصطفين تتضمن:
الأول: قصة كل واحد منهم , وجهاده في سبيل .
الثاني: نيله لمرتبة الإصطفاء باعتبارها نعمة منه تعالى.
الثالث: ايمانه وتقواه واخلاصه لله تعالى.
الرابع: شمول المرأة بالإصطفاء، وهو على نوعين:
الأول : الإصطفاء الخاص كما في مريم وتشريفها بتحديث وكلام الملائكة.
الثاني : الإصطفاء الذي يشمل النساء من الذرية الصالحة بالنسب وتعاهدهن لهما أي للإصطفاء والنسب بالتقوى والعفة والطهارة.
الخامس: تجليات الشكر لله تعالى على لسان وأفعال المصطفين.
السادس: كيفية الإقتداء بهم.
السابع: احياء مدرسة الإصطفاء بالإجتهاد باتباع سننهم.
الثامن: وجوه الإلتقاء بين أفعالهم وبين أحكام الشريعة الإسلامية وعبادة المسلمين.
التاسع: اثبات ان قصصهم الواردة في القرآن من انباء الغيب.
العاشر: ذكر وجوه وأثر التحريف الوارد بخصوص قصص المصطفين في الكتب الأخرى، ووقف الوعاظ وأهل القصص عن الغلو وذكر ما ليس بحق.
الحادي عشر: منافع وبركات الإصطفاء، وهذه المنافع على وجوه متعددة منها:
الأول : بيان ما للإنسان من المنزلة والرفعة.
الثاني : أهليته للخلافة في الأرض، وهذه الأهلية ليست على نحو الإتحاد، بل التعدد.
الثالث : الإصطفاء موضوع توليدي، فيزداد عددالمصطفين مع كثرة الصالحين من ذرية ابراهيم.
الرابع : تلقي دروس الحكمة والمعارف الإلهية من سيرة المصطفين.
الخامس : افتخار المسلمين بانهم ورثة المصطفين والمؤهلين لحمل لواء الخلافة في الأرض سواء بفروع الإصطفاء او بالتقوى والصلاح والتقيد بالفرائض والتكاليف.
السادس : ان شطراً من علوم الغيب التي أطلع عليها الناس، جاءت بواسطة القرآن وتلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل.
وبعد الإخبار عن القصص وأحوال المصطفين، هل تبقى قصصهم من علم الغيب فيه وجوه:
الأول : نعم تبقى من علم الغيب.
الثاني : تكون من علم الغيب الذي أطلع عليه انبياءه.
الثالث : لا تبقى من علم الغيب بل تصبح من المعارف الإلهية التي يعلمها الأنبياء ومن أخبروه من اصحابهم واتباعهم وكذا من يطلع عليها في الكتب النازلة من السماء، والأقوى هو الثاني لمضامين قوله تعالى [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ]( ).
فأضافت الآية الغيب اليه تعالى، وهذه الإضافة تنبسط على جميع أفراد الغيب ولا تغادرها هذه الصفة التشريفية باطلاع الأنبياء عليها بدليل نعت تلك المصاديق مجتمعة ومنفردة بانها غيب وجاء هذا النعت بعد اخبار الأنبياء واطلاعهم عليه وتؤكد الآية أعلاه بان قصص المصطفين الواردة في القرآن خالية من التحريف والتغيير والتبديل وانها تنزل وسط حراسة وعناية الملائكة ومنع تأثير الشياطين عليها، فجعل الإصطفاء وأفراده من علم الغيب تشريف واكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ودعوة لتلقي أخبارهم بالقبول والإستبشار والرضا، والحرص على الإنتفاع الأمثل منه.
كما ان الأخبار عنها بالوحي لم يأتِ شاملاً لجميع جوانبها بل جاء ببعض موضوعاتها، وربما قال بعضهم ان قصص الأنبياء والمصطفين ذكرت في القرآن على نحو الإجمال وان هناك أموراً لم تذكر فنرجع فيها الى الكتب الأخرى وما تناقله الرواة والمؤرخون وتناقلته الأخبار وتوارثته الأمم، والجواب ان عز وجل جعل في القرآن حصانة ذاتية وهو من اعجازه، فقوله تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ] يفيد ان باقي الأسرار والمضامين القدسية في موضوع الإصطفاء وأهله من علم الغيب، لمقام حرف الجر (من) في (مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ) والذي يفيد التبعيض وان ما أوحي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الإصطفاء هو بعض وشطر من علم الغيب وليس كله او مجموعه، وان عز وجل يحتفظ لذاته بالشطر الأكبر من علم الغيب.
وأفراد علم الغيب التي تضمنتها هذه الآية هي:
الأول: الإصطفاء والإجتباء.
الثاني: الإصطفاء الشخصي والنوعي.
الثالث: اعتبار وحدة النسب في الإصطفاء، ففي آدم يعتبر النسب عاماً لأن الناس جميعاً يرجعون اليه في النسب، وكذا في نوح باعتباره الأب الثاني للبشر بعد الطوفان، ليتسع الإصطفاء في آل ابراهيم وآل عمران، ويبقى غضاً حاضراً في آل ابراهيم الى يوم القيامة وتشريفه تعالى للمسلمين بنسبتهم بالأبوة الى ابراهيم، قال تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ] ( ).
وهل يمكن اعتبار المسلمين من آل ابراهيم وان آية الإصطفاء تشملهم جميعاً الجواب لا، لأن القدر المتيقن هو الذرية وبقيد الصلاح والتقوى والإسلام بدليل آية الإمامة [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ( )، وتوكيد هذه الآيات بان المراد من آل ابراهيم ذرية ابراهيم، وان ابراهيم نفسه من ذرية نوح لتوثيق انساب الأنبياء والمصطفين ومنع الطعن او التشكيك بنسبهم، او دعوى الإنتساب اليهم بغير حق.
الرابع: موضوعية الإصطفاء في خلافة الإنسان في الأرض، والإصطفاء فيه وجهان:
الأول: جاء على نحو الإطلاق وانه اختيار واجتباء خاص بالذوات الشريفة، واختيارهم ائمة وقادة من غير لحاظ للحال الإجتماعية ونحوها، ويدل على الإطلاق قوله تعالى [يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ].
الثاني: اصطفاؤهم من بين الناس بمعنى ان الناس ينقسمون الى قسمين ، مصطفى وغير مصطفى منه بدليل قوله تعالى [وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
ولا تعارض بين الوجهين لتعدد مضامين الإصطفاء وكلاهما يدلان على شرف نوع الإنسان، وتفضيل المصطفين درجة.
والناس في صلتهم مع المصطفين بلحاظ المقامات والماهية على شعب , هي:
الأولى: أصحاب واتباع المصطفين.
الثانية: المنقادون لهم فيما جاءوا به من عند .
الثالثة: الذين أعرضوا عنهم.
الرابع: الذين قاموا بتحريف ما جاءوا به ولو على نحو السالبة الجزئية.
الخامس: من أفراد علم الغيب دعاء امرأة عمران وتوسلها لطلب الولد، وذكر ان (حنة) وهو اسم امرأة عمران كانت عاقراً لم تحمل بالولد ولما أصبحت عجوزاً وبينما هي في ظل شجرة رأت طائراً يطعم فرخه، فأشتاقت للولد وطمعت بنيله من فضله تعالى فقالت: اللهم ان لك علي نذراً ان رزقتني ولداً، لأتصدقن به على بيت المقدس، فيكون من سدنته فحملت بمريم.
ولكن الآية أشارت الى عقد النذر حين الحمل والتأكد منه وليس قبله، وهذا من أفراد علم الغيب نعم لا تعارض بين هذا الخبر والآية الكريمة، ولكن اثبات عقم امرأة عمران وعقدها النذر قبل الحمل يحتاج الى دليل، والأصل عدم العقم، ومجيء النذر ابتداءً، وهو شاهد على التقوى والأخلاص لله الذي تتحلى به امرأة عمران.
السادس: الإصطفاء يتغشى أهله من حين الحمل.
السابع: اعانة الوالدين في تيسير مقدمات الإصطفاء كما في قصة مريم ويحيى بالإضافة الى دعاء ابراهيم الشامل لذريته وآل عمران وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا دعوة ابي ابراهيم.
الثامن: وضع مريم بولادة طبيعية، وتوثيق هذه الولادة المباركة في القرآن، وهذا التوثيق فيه مسائل:
الأولى: الإصطفاء والإجتباء.
الثانية: نذرها وهي حمل.
الثالثة: منع الإفتراء على مريم والطعن في ولادتها.
الرابعة: للمقارنة والتباين بين ولادتها عن أب وولادة ابنها النبي عيسى من غير أب.
الخامسة: موضوع وكيفية نذر المصطفين وأهلهم، والتقوى والإخلاص في العبودية عندهم وعند عوائلهم.
السادسة: كلام امرأة عمران عندما وضعت مريم سواء جاء كلامها حال الوضع او بعده بمدة قصيرة، ولا يحتمل تأخره عن الوضع مدة طويلة كالسنة والسنتين، لمقام الفاء في [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا] وهذا التوثيق يدل على حفظ وتوثيق كل كلام يصدر من أفراد الجنس البشري، في اشارة الى يوم الحساب واحضار أقوال كل ذكر او أنثى معه، فمع تقدم زمان كلام امرأة عمران على نزول القرآن بأكثر من خمسمائة عام فان هذه الآيات أخبرت عنه باعتباره فرداً من أفراد علم الغيب.
السابعة: تفضله تعالى بسماع كلام ام مريم وتثبيته في القرآن باعتباره من علم الغيب، ويتضمن:
الأول : نذر امرأة عمران الذي جاء بصيغة القول (اذ قالت) مما يدل على لزوم الإجهار بالنذر وموضوعية النطق به بالنسبة للسليم والمعافى من آفات حبس اللسان.
الثاني : انقطاع المصطفين وأهلهم الى تعالى، فقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها سواء كان متحداً او توأماً متعدداً.
الثالث : اقتران النذر برجاء القبول منه تعالى للنذر والمولود، لذا ورد قوله تعالى [فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا] أي ان السؤال لقبول مريم كأمة منذورة لله، ولابد ان القبول له منافع عظيمة في النشأتين سواء بمتعلق النذر او مطلقاً.
الرابع : ان امرأة عمران لم تنس نذرها حين الولادة، ولم تعرض عنه لأن المولود بنت وليس ولداً بل أحدثت شكراً لله تعالى وقالت [رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى] وبالنداء (رب) اقرار بالعبودية لله تعالى، في ساعة مجيء الحمل والحدث بخلاف ما يطمع ويتمنى الإنسان، أي انها في تلك الساعة لم تنسِ ذكر ولزوم اعلان العبودية له والإقرار بربوبيته ليكون باباً لنزول الفضل الإلهي.
الخامس : بيان درجة الإرتقاء العقائدي عند المصطفين فامرأة عمران تختتم كلامها بتمجيده وتعظيمه تعالى تضرعاً ورجاء لقبول النذر.
السادس : اقتران الولادة بالإستعاذة من الشيطان، وقيام الأم بتحصين المولود من نزغ الشيطان باللجوء الى تعالى، والإستعاذة دليل على الإقرار بالربوبية لله تعالى وقدرته سبحانه على درء الشرور وأذى الشيطان.
التاسع: من أفراد علم الغيب : كفالة زكريا لمريم منه تعالى , ولابد ان تلك الكفالة والسعي لها جاء له بالوحي واخبار الملائكة.
العاشر: توكيد مسألة اعجازية وآية في اكرام آل ابراهيم بنزول الرزق لمريم من السماء.
الحادي عشر: المحادثة بين زكريا ومريم بخصوص المائدة السماوية التي يجدها عندها على نحو متكرر، وهي بشارة تفضله سبحانه بتهيئة الرزق الكريم لمن ينشغل بطاعته وذكره تعالى، فالإخبار عن الرزق الكريم ورؤية زكريا له ترغيب بالإجتهاد بطاعته تعالى وأداء الفرائض والتكاليف، وحتى مسألة رؤية زكريا وهو نبي للرزق عند مريم وهي ليست نبية تدل على الحث على الطاعة، وعدم القياس مع حال من هو متقدم في مراتب العبادة عندما يكون مبتلى بالفقر او المرض او النقص في توفير حاجاته ومستلزمات معيشته، فقد يكون هذا الإبتلاء سبباً لنجاته من آفة او أذى شديد.
الثاني عشر: من علم الغيب قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] لما فيه من الإخبار عن عدم تقييد الرزق بالأسباب المادية بل ان سعته وزيادته بفضله تعالى.
الثالث عشر: دعاء زكريا وسؤاله الولد والأسباب التي جعلته يتوسل ويلح بطلب الولد وهي على أقسام:
الأول: ما يتعلق به، وهو على شعب:
الأولى:حاجته الى الولد كما ورد حكاية عنه في التنزيل [يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ] ( ).
الثانية: وظائف آل ابراهيم لوجود الذرية الصالحة التي تحفظ ميراث الإصطفاء.
الثالثة: تقدمه في السن وبلوغه سن الشيخوخة.
الثاني: ما يتعلق بالمجتمع والناس ولزوم هدايتهم والسعي لجذبهم الى منازل الإيمان والصلاح.
الثالث: ما يخص مريم عليها السلام ورؤية الرزق عندها وغبطها
على هذه النعمة، فأراد زكريا ان ينال مثل الذي عندها.
الرابع عشر: من علم الغيب: ما يتعلق بصيغ التقوى التي يتضمنها نظم وخواتيم الآيات فامرأة عمران ختمت قولها بالثناء عليه تعالى بانه السميع العليم، اما مريم فانها قالت لزكريا [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]، وفيه دعوة وحث على التوجه الى ، وهذا الحث لا ينحصر بزكريا فقد ذكره القرآن ليكون عاماً نافعاً للناس جميعاً وطريقاً للهداية بالإقتداء بمريم واختيار الدعاء لطلب الرزق من غير ان يتعارض هذا الإختيار مع لزوم العمل والسعي وفق أسباب الكسب المادي وبذل الجهد في المعاملات ووجوه طلب الرزق اما زكريا فانه ختم دعاءه في طلب الولد بالمناجاة [إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ] وبينما أطلقت امرأة عمران في دعائها وانه تعالى [ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ]، قال زكريا بانه تعالى سميع الدعاء لإثبات اقرار آل ابراهيم بالعبودية لله تعالى.
الخامس عشر: نداء الملائكة لزكريا والإخبار عن قيام الملائكة بنقل البشارات الى المصطفين وهو تشريف عظيم.
السادس عشر: مناجاة زكريا وبيان حاله والموانع المادية التي يحول دون حصوله على الولد بالأسباب الطبيعية ووفق المتعارف لتوكيد الآية، ومن علم الغيب اخباره عن حال امرأته واصابتها بالعقم، ليعلم المسلمون الإعجاز والآيات في باب طلب الولد وهو من أهم المسائل التي يوليها الإنسان عناية خاصة، كما ان الناس لا يتركون الشخص وحالته الإجتماعية بل يسألونه دائماً ان كان في سن الزواج هل هو متزوج وذات السؤال يوجه للفتاة، وكما يسألون المتزوج والمتزوجة عن عدد اولاد كل منهما، وعدد ونسبة الذكور منهم، فمن كان عاقراً ذكراً او انثى يبتلى بسؤال الناس وملاحظتهم لما عنده من النقص.
السابع عشر: سؤال زكريا الآية لتوكيد الحمل وتفضله تعالى برزقه الصمت والسكوت ثلاثة ايام ومخاطبته الناس بالرمز والإشارة، وامره
بالإكثار من الذكر والتسبيح.
الثامن عشر: مجيء الملائكة باصطفاء مريم ومخاطبة مريم واخبارها بهذه النعمة العظيمة واجتبائها واختيارها من بين نساء العالمين.
التاسع عشر: امر مريم بالقنوت والخضوع لله تعالى والإنقطاع اليه تعالى، ومواظبتها على السجود وأداء الصلوات.
العشرون: ومن أنباء الغيب ما جاء بعد هذه الآية، فالآية التالية تبدأ بقوله تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ] ثم تذكر الآيات التالية ما رزق عز وجل عيسى من الدلالات الباهرات ومناجاة مريم بخصوص ولادة عيسى وتفضله تعالى بذكر الأسرار والبراهين الإعجازية في ولادة عيسى والإخبار بانه سيكون نبياً رسولاً الى بني اسرائيل وداعياً الى تعالى.
لقد أراد عز وجل العز للمسلمين باحاطتهم علماً بأحوال المصطفين وما رزقهم من كنوز فضله واحسانه فنزلت عليهم شآبيب الرحمة وتعاهدوها بالصلاح والتقوى.
علم المناسبة
قد ورد لفظ [ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ] في آية ثانية في سورة يوسف وهي السورة الوحيدة التي وردت بخصوص قصة نبي من الأنبياء، وهي من الغيب بما تضمنته من الأسرار والأخبار عن مواضيع قصة يوسف وما تعرض له من المكر والكيد وما أصابه من الإبتلاء والخفايا الخاصة باخراجه من غيابت الجب، وما جرى له في السجن، وافتتان امرأة العزيز به، وكيف انه كان منقطعاً الى تعالى وان الإخلاص في العبادة والتزام التقوى سبيل للنجاة من المكر والكيد.
كما جاء بصيغة التأنيث في آية اخرى [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ]( )، وتتعلق بقصة نوح وما لاقاه من قومه ومواظبته على الجهاد ودعوته الى في السراء والضراء وقوله [وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ] ( ).
وتبين الآيات ان الغيب من مختصاته تعالى وما يظهره للأنبياء فضل وهبة منه تعالى ليكون عوناً لهم ولأتباعهم في تثبيت كلمة التوحيد في الأرض والإنتفاع الأمثل من الحياة الدنيا كمزرعة للآخرة، وهو تعالى وحده الذي يحيط بعلوم الغيب، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) في اشارة ودلالة على احاطته علماً بالوقائع والحوادث وعدم غياب او فوات بعضها، وهي حاضرة عنده على نحو مستديم.
وورد لفظ الغيب في ثمان وأربعين آية، وبصيغة الجمع أربع مرات [عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] وكل هذه الألفاظ تؤكد بان علم الغيب عنده سبحانه ولا يطلع عليه أحد الا باذنه سبحانه، ومن الغيب حالات انفراد الإنسان وخلوه مع نفسه، قال تعالى [مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ]( ).
وذكر اخلاص المصطفين في العبادة والدعاء وتفاصيل حياتهم الخاصة التي تتعلق بأمور الدين والإنقطاع الى تعالى يدل بالدلالة التضمنية على علمه تعالى بأحوال وأفعال كل انسان وانه سبحانه يحصي عليه أقواله وأعماله ولا يغيب منها شيء عنه سبحانه وهي حاضرة عنده لتكون مادة الحساب يوم القيامة، فالآية دعوة الى الصلاح والإستقامة، فمتى ما أدرك العبد ان تعالى يعلم كل شيء، فانه يخشى ويتجنب ارتكاب المعاصي.
قوله تعالى [نُوحِيهِ إِلَيْكَ]
للوحي عدة معان ويراد منه الإشارة والرسالة والإلهام والكتاب والكلام الخفي، ومعناه في هذه الآية هو التنزيل والإخبار بواسطة القرآن ومن أسماء القرآن "الوحي".
لقد جاءت الآية لتوكيد حقيقة كلية وهي ان اخبار الأنبياء الواردة في القرآن وحي من عنده تعالى وليس من الملائكة او أنها استنساخ للكتب السماوية الأخرى، ففي الآية توكيد جزئية هذه القصص من القرآن ونزوله من عند عز وجل، وخصت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بانه الموحى اليه والذي نزل عليه القرآن وهو تشريف اضافي وان تعالى هو الذي يوحي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ان الثابت قيام جبرئيل بانزال الآيات وقراءتها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد نسب عز وجل الوحي له سبحانه ولا يعني هذا نسبة فعل جبرئيل للذات المقدسة بل لبيان حقائق منها:
الأول : ان جبرئيل والملائكة وسائط لنقل الوحي والتنزيل.
الثاني : ليس لجبرئيل والملائكة التغيير او التبديل في نص ومنطوق والفاظ الوحي.
الثالث : ان الوحي بانباء الغيب من مختصاته تعالى وهو فرع علم الغيب الذي لا يعلمه الا عز وجل، فالملائكة لا تعلم من الغيب الا ما يعلمها تعالى به، ومنه الذي تنزل به على الأنبياء.
وتبين الآية عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيف ان المسلمين يتلقون الوحي بواسطته، وبينما أكدت صدق نزول الملائكة بالوحي على النبي، فانها أطلقت صحة قراءة النبي للقرآن واخباره عن الوحي، مع ان التنزيل لا يسمعه الا الرسول، ومن خصائص الرسول الصدق في الإخبار عن الوحي والتنزيل، وعدم التبديل او التحريف فيه.
وتؤكد الآية على جانب من اعجاز القرآن وما أنفرد به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء، فالنبي لم يطلع على قصص الأنبياء هذه ولم يسمعها او يحصل عليها عن طريق التعلم والكسب، وان كان شطر منها موجوداً عند أهل الكتاب على نحو اجمالي، وحتى هذا الشطر لم يتعلمه النبي كما هو معلوم، فان نشأته في مكة وسكانها ليسوا من أهل الكتاب، ولم يتناقلوا في مجالسهم ومنتدياتهم قصص أهل الكتاب، بالإضافة الى وجود اسرار ومضامين في هذه الآيات لم تكن موجودة عند أهل الكتاب، فصدق عليها انها من علم الغيب.
قوله تعالى [وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ]
خطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان أحداث قصة مريم متقدمة زماناً على أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأكثر من خمسمائة عام، وقد جاء هنا ذكر قصة مريم، والمراد المعنى الأعم ويشمل نذر أمها، ودعاء زكريا لطلب الولد لأنها مواضيع مترابطة ومتحدة زماناً، فدعاء زكريا جاء حال كفالته لمريم وعندما رأى عندها الرزق السماوي.
وجاء ذكر الضمير في (لديهم) مع ان الموضوع لم يذكر بعد، وفيه دعوة للإنتباه، وتوكيد على الموضوع وجذب وحث على متابعة قراءة الآية ومعرفة احكامها وتفاصيلها، لأنها تدل على وجود جماعة مجتمعين في مكان، ولابد ان اجتماعهم لأمر ذي شأن، ولا يعلم به الا تعالى.
وتنفي الآية وصول الموضوع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل، لأن الآية أشارت بانه من علم الغيب الذي أوحاه اليه.
وصحيح ان الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الا انه شامل للمسلمين جميعاً ومضمونه (ما كنتم لديهم) وهل يمكن فهم لغة الخطاب في الآية بانها موجهة لكل مسلم مباشرة من غير واسطة، أي وما كنت لديهم ايها المسلم، الجواب لا، لوجود قرينة تدل على ارادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [نُوحِيهِ إِلَيْكَ]، ولإعتبار الإلتفات الى التنزيل والنبوة كوسائط مباركة بين والناس.
وتبين هذه الآية عظيم فضله تعالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من الإخبار باحضار علوم واخبار الأمم السابقة في القرآن وجعلها عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتنتفع أمته منها، وجاءت بأشرف صيغ الوحي وهو تنزيل القرآن، فقد يكون الوحي حديثاً قدسياً او كلاماً للملك مع النبي، او رؤيا صادقة لنبي من الأنبياء، وقد يطرأ عليه التغيير والتبديل بمرور الأيام وتعاقب الأجيال، فجاءت مواضيع علم الغيب هذه جزء من آيات القرآن لتبقى ثابتة مع الأيام والى يوم القيامة، ولتوكيد ما فيها من مضامين التحدي والإعجاز، وبيان وجوه اللطف الإلهي في احاطة القرآن بالعلوم والتأريخ وأحوال الأمم السالفة مع اعتنائه بتنظيم شؤون المسلمين.
ان نعت مضامين هذه الآيات بانها من علم الغيب توكيد بان النبي لم يكن حاضراً الوقائع والأحداث ولكن أنعم عليه واصبح محيطاً بأحوالهم وكأنه حاضر معهم وفيه جذب للناس للإنصات والإستماع ، ولم تقل الآية وما كنت معهم، لأن المعية تفيد المشاركة اما (لدى) فهو اسم بمعنى (عند) فيكون أعم من المعية ويفيد العلم والإحاطة بالأمر لما فيه من مضامين القرب والحضور، والآية اخبار عن المقام الكريم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان رزقه ما لا يقدر عليه انسان ولا ملك مقرب وهو العلم بالغيب الا ان يشاء .
وهذا الرزق ناله المسلمون وهو دعوة للإنتفاع منه، وفيه وجوه:
الأول: الإطلاع على تأريخ الأمم والنحل.
الثاني: معرفة الوقائع على وجهها الصحيح والخالي من الإضافات والزوائد والنواقص، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً].
الثالث: الإستغناء عما يروي بخصوصها في الكتب الأخرى.
الرابع: تأديب المسلمين، ومنعهم من النقل عن الوعاظ والقاص الذي يروي الأخبار والقصص، “وفي الحديث: القاص ينتظر المقت لما
يعرض في قصصه من الزيادة والنقصان”( ).
الخامس: عرض ما يرد في الكتب الأخرى على القرآن، فما خالف القرآن يهمل ويترك، ويكون حجة مركبة على صاحبه في لزوم نبذه وتركه والرجوع الى القرآن وفيه من القصص الحق والنبأ الصادق والخبر اليقين.
السادس: منع المسلمين من الزيادة والنقيصة في الأخبار لأنها جزء من القرآن الذي يتوارثون عدم تحريفه الى يوم القيامة.
السابع: حثهم على تلقي الأخبار والأحكام من القرآن والسنة النبوية الشريفة، فاذا كان الإنسان يشتاق لسماع أخبار الأمم السابقة ومعرفة الوقائع ويجدها في القرآن فانه يحرص على الرجوع اليه في العلوم الأخرى.
وعائدية الضمير في (لديهم) فيه وجهان:
الأول: الذين يلقون أقلامهم من رهبان وعلماء بلحاظ نظم الآية الشريفة.
الثاني: المصطفون من آل ابراهيم وآل عمران الذين تضمنتهم الآيات الكريمة لأن متعلق الآية قصصهم، والأصح هو الأول فالفاء الأقلام واجراء القرعة على كفالة مريم من علم الغيب ليكون اسم الإشارة (ذلك) الوارد في أول الآية شاملاً للموضوعات المتقدمة وما يتعقبه في هذه الآية والآيات التالية.
قوله تعالى [إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ]
تكرر الضمير (هم) في الآية وفيه اشارة الى الذين ارادوا كفالة مريم، وفي الاقلام وجوه:
الأول : جمع قلم وهو مايكتب به.
الثاني : انها الاقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة والكتب السماوية المنزلة.
الثالث : ارادة السهام وكتابة اسمائهم عليها، فمن يخرج سهمه في القرعة يكون له الامر الذي يتخاصمون فيه، وفي التنزيل [فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ]( )،وسميت هذه السهام اقلاماً لانها تقلم وتبرى، او لان كل واحد يكتب اسمه على سهمه.
الرابع : ان العرف عندهم القرعة بالاقلام كي لايشترك فيها الا من كان مؤهلاً علمياً لمستلزمات الكفالة.
الخامس : العصي والقاؤها في الماء.
السادس : اخرج عبد بن حميد وابن ابي حاتم عن عطاء اقلامهم يعني قداحهم.
والاقوى هو الثاني وان المراد هذه الاقلام التي يكتب بها، وتدل الآية على منزلة الذين يختصمون في كفالة مريم وانهم من اهل العلم والمؤهلين لكفالتها ولم يعترض بعضهم على الآخر بعدم أهليته، فكلهم من ارباب العلم ومن اتخذ القلم له هوية وكان له قلم متميز ينسب اليه ويعرف به، والتباري في نوع وهيئة القلم يدل على اتخاذ الكتابة وطلب العلم صنعة.
وفي الآية حث للمسلمين للمواظبة على طلب العلم والتحصيل والعناية بالكتابة وعدم الاكتفاء بالقراءة، وفيه دعوة لاستنساخ القرآن وتدوين السنة النبوية خصوصاً وان النصوص وردت بعدم استنساخ الكتب الاخرى وايلائها اهمية بالغة في التدوين، وهذه الآية وتفضله تعالى بالاخبار عن علوم الغيب في القرآن شاهد عليه.
واذ انتشرت في هذه الزمان الطباعة الحديثة فهل يعني الامر الإستغناء عن الكتابة باليد، الجواب لا، فمن فروع الكتابة التأليف والتصنيف والابداع وتدوين العلوم الحديثة والوقائع وما يناسب الحال ومستلزمات الامور واستنباط القواعد الكلية الفرعية من القرآن وتطبيق احكام الحلال والحرام ومنع الضلالة ولا ينحصر الامر بالكتابة، وفي الآية اشارة لإنشاء مؤسسات علمية تعتني بنشر العلوم الاسلامية، والكتابة عنوان ومادة لها، فقد بينت الآية ان أعمال العلماء في الملل السابقة لم تنحصر بالصلاة والعبادة بل عندهم اقلام خاصة كآلة لطلب العلم، وانهم ليسوا تلامذة مجتمعين بل علماء في مكان واحد يختلفون في موضوع كفالة مريم لأن التنافس عنوان التشابه في المنازل والمقامات، والشعور بالإستحقاق لنيل الكفالة.
كما تنبه الآية الى كيفية حل الخصومات والمنازعات فيما لايتعلق بالملكية الشخصية بل بالعناوين الاعتبارية وموارد الاجر والثواب فاتجهوا الى القرعة وهو حل يرضي الجميع، فمن لاتخرج له القرعة لا يشعر بانه مغبون وكان حظه في البداية بعرض واحد مع حظ الذي فاز بالقرعة، وهل في الآية دلالة على تحريف التوراة أو عدمه، او رجحان الثاني بسبب الكتابة المتعددة لها الجواب لا، وموضوع التحريف يستقرأ من آيات وادلة اخرى، قال تعالى [يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ]( ).
وفي كيفية الالقاء وجوه:
الأول : القاء الاقلام بمعنى تركها وطرحها جانباً، والتوقف عن الكتابة، والاتجاه صوب القرعة لتوكيد أهمية موضوع مريم عند الجميع وان الكل راغبون في كفالتها.
الثاني : القاء الاقلام في الماء على نحو وقواعد متعارفة يستبين معها استحقاق أحدهم لكفالة مريم.
ويدل لفظ الالقاء على التوجه العام نحو القرعة والانشغال بكفالة مريم مما يدل على انهم يدركون موضوعية كفالتها في الاعمال العبادية ووظائفهم الشرعية ومسؤوليات الكنيسة ودور العبادة، وهذا الادراك فيه وجوه محتملة:
الأول : انه أمر متعارف بخصوص من يكون محرراً للكنيسة.
الثاني : لأن تحرير فتاة لخدمة الكنيسة أمر مستحدث فتسابقوا في كفالتها.
الثالث : كان أبو مريم وهو عمران رئيساً لهم فأراد كل واحد منهم كفالتها لأداء حق ابيها.
الرابع : لأن مريم من المصطفين وعلى نحو مكرر فهي من آل ابراهيم وآل عمران.
الخامس : للآيات في ولادتها، وورود اخبار بشأنها وما ستكون عليه من عظيم المنزلة.
السادس : لما ورد بخصوص من يكفلها وانه نبي او انه سينتفع من كفالتها بما فيه خير الدنيا والآخرة.
السابع : يترتب على كفالة مريم نيل درجة ومنزلة رفيعة.
الثامن : ارادة الثواب والأجر في الآخرة بكفالتها.
وهذه الوجوه مجتمعة ومنفردة من مصاديق الآية ولا تعارض بينها، لقد بينت الآية فرداً وامراً من علم الغيب يدل على تدافع الرهبان واولي الشأن من بني اسرائيل على كفالة مريم وحرص كل واحد منهم بالفوز بهذه النعمة، مع ان كفالة الأيتام أمر يحاول أكثر الناس الإعراض عنه خصوصاً اهل العلم لإنشغالهم بالعلم والكتابة، كما تدل عليه قرينة الأقلام، نعم أرادة نيل المرتبة في الكنيسة والثواب في الآخرة تجعل أمر الكفالة راجحاً.
وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: ان مريم عليها السلام لما وضعت في المسجد أقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي فأقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها، فقال لمحمد [وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ].
وعن عكرمة في الآية قال: ألقوا أقلامهم في الماء فذهبت مع الجرية وصعد قلم زكريا فكفلها زكريا، الا انه لم يرفع الحديث.
ومثله ما ورد عن الربيع قال: ألقوا عصيهم تلقاء جرية الماء فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء فقرعهم.
وهذا الشطر من الآية مصداق وفرد من علوم الغيب التي تفضل سبحانه وأظهرها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه تعالى كريم يعطي بالأوفى والأكثر، فالآية تدل على تعدد وجوه ومواضيع علم الغيب التي جاء بها القرآن مع ان كنوز الغيب عنده سبحانه من عالم اللامنتهي.
لقد جاء القاء الأقلام على نحو جماعي متعدد، فلم يلق بعضهم دون الآخر مما يدل على أهمية الأمر واعتباره في عالم الوظائف الشرعية للرهبان والقائمين بأمور الدين.
قوله تعالى [أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ]
في الآية بيان لعلة القاء الأقلام وهي تعيين الشخص الذي يكفل مريم وجاء الاسم الموصول (أي) لتوكيد حقيقة وهي عدم خروج كفالة مريم عنهم، بمعنى ان هناك شرطاً ارتكازياً وهو لابد ان يكون الكفيل من بين حملة الأقلام هؤلاء، فليس للتاجر والمزارع وأعوان السلطان كفالتها، فالكفيل من الرهبان، وهو أمر يدل على حقيقة وهي ان الكفالة جزء من اعداد ديني واخلاقي يتقوم بالإصلاح والهداية وتهيئة أفضل أسباب العبادة والفتوى وجعل مريم منقطعة الى تعالى منشغلة بالصلاة والنسك.
وهذه الأمور لا تتوفر عند أهل الدنيا كما ان أم مريم نذرتها لتكون محررة للكنيسة، فلابد ان يكون الكفيل قريباً منها، عارفاً بأحوال الكنيسة، وقادراً على توفير أحسن الأسباب لقيامها بوظائفها العبادية الجهادية، فلقد كانت مريم تجاهد من أجل تنقية الذات والمجتمع ومنع الإفتراء عليها عندما تستقبل أعظم مسؤولية تأريخية قامت بها إمرأة، لقد حرص الرهبان على كفالة مريم لأنها أي الكفالة واقية لها وللسيد المسيح من وجوه:
الأول : سلامة شخص مريم لحين حملها ووضعها لعيسى .
الثاني : صيانة فرجها وحفظ عفتها.
الثالث : تأهيلها لحمل روح من الجهة العبادية والأخلاقية بانقطاعها الى تعالى، وتطهير القلب ليكون روضة ناضرة ومؤهلاً لسماع تحديث الملائكة والبشارات بالإصطفاء.
الرابع : تهيئة اسباب اشتغالها بالعبادة وعدم تكليفها بالأعمال اليومية والمنزلية التي تقتطع الجزء الأكبر من وقت المرأة، لذا كان هناك محراب لها للعبادة، وقد ثبت في العلوم العقلية ان تكرار الفعل يؤدي لحصول الملكات.
وذكر المحراب واقترانه بحياة مريم اليومية فيه وجوه:
الأول : ان كل محرر للكنيسة له محراب.
الثاني : اعتبار خصوصية مريم كأنثى فأفرد لها مسجداً وأسقط عنها العمل في الكنيسة لما يستلزمه العمل من الإختلاط بالرجال.
الثالث : موضوعية كفالة زكريا لمريم وعنايته الخاصة بها، فلو خرجت القرعة لغيره فربما لم تتهيء لمريم مقدمات العبادة والإقامة الدائمة في المحراب، فليس كل من تهيء له أسباب العبادة وطلب العلم يقبل عليها.
الرابع : شغف مريم بالعبادة واخلاصها لله عز وجل وعكوفها على الصلاة والذكر هو السبب لعكوفها في المحراب.
ولا تعارض بين هذه الوجوه بل هي متداخلة، وبعضها يعضد بعضاً في اصلاح مريم للعبادة واتصال مباشرتها للنسك وعدم الإختلاط بالدنيا وما فيها من الشوائب والكدورات.
الخامس : معرفة الناس لمريم بالصفات الحميدة والفضيلة والتقوى، وهذه المعرفة برزخ دون الإفتراء عليها.
السادس : لقد كانت صلاة ونسك مريم دعوة للنساء والرجال في زمانها وما بعده للإقتداء والإقتباس من عبادتها وصلاحها.
وتدل الآية على حصول كفالة زكريا من عنده تعالى لخروج سهمه بالقرعة خلافاَ للقواعد والنواميس، وان البشر لو أرادوا شيئاً فلا يحصل الا الذي يريده تعالى كما تبين ان كفالة زكريا لم تأتِ من غير اعانة ومدد الهي، أي من فضله تعالى على مريم وعلى زكريا ان جاءت القرعة بكفالة زكريا لها، ومع ان زكريا نبي من عند فقد شاركه الآخرون في طلب كفالة مريم، ولم يتركوا الأمر له، وفيه وجوه:
الأول : عدم معرفتهم بنبوة زكريا وانهم يعتبرونه واحداً منهم.
الثاني : حصلت الكفالة قبل نبوة زكريا.
الثالث : تجعل قواعد الكنيسة وأحكام الكفالة الحق لطائفة من الرهبان المشاركة في طلب كفالتها، فشرط المنافسة هو منزلة علمية معينة، يلتقي فيها الرهبان ومن هو أكبر منهم في العلم خصوصاً وان النبوة لا تكون حاضرة في كل كفالة، فأغلب الكفالات لا يكون فيها نبي ينافس الآخرين.
الرابع : ارادة أم مريم بان يكون الأمر مشتركاً بينهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وفي الآية تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واكرام للمسلمين الذين لا ينافسون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شيء، وتدل الآية على اعجاز القرآن اذ جعلت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنفال وهي التي اؤخذت من دار الحرب بغير قتال ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب مثل فدك.
وفي الآية حذف والتقدير: يلقون أقلامهم ليروا ايهم يكفل مريم، ووقع الحذف للحسن البلاغي ولأنه معلوم من سياق ونظم الآية، وتدل الآية على نيل الذي يتكفلها مرتبة ودرجة في الفضل وقد تجلى هذا في انتفاع زكريا من كفالة مريم، وهذا الإنتفاع فيه وجوه:
الأول : التشريف الإعجازي في خروج القرعة بكفالته خصوصاً مع الأخبار التي ذكرت ان قلمه جرى بخلاف مجرى الماء او انه إرتفع الى سطح الماء بآية جلية ظاهرة.
الثاني : مطابقة القرعة للمشيئة الإلهية.
الثالث : جعل كفالة مريم خاصة بالنبي، فأراد كل واحد منهم مرتبة النبوة، فأخبرهم سبحانه بان النبوة عند زكريا، ولعل من خصائص ولادة عيسى ان يكون كفيل أمه في صغرها نبياً من الأنبياء، وهو أقرب للإكرام والتشريف ودفع الظنة والتهمة خصوصاً وانه زوج خالتها.
الرابع : ليكون الشاهد على الرزق السماوي نبياً من الأنبياء لا يغادره الصدق في القول والفعل.
الخامس : النبي أفضل الناس في تهيئة أحسن الوسائل والأسباب لكفالة مريم.
السادس : الكفالة مناسبة لولادة نبي وهو يحيى في شيخوخة زكريا ومع عقم زوجته فالكفالة غاية ومقصد سامي وهي ايضاً وسيلة ومقدمة للدعاء ونيل الولد والنبي الصالح.
السابع : تبين الآية مضامين الإصطفاء والإختيار لأن كفالة زكريا جاءت على نحو الإصطفاء من بين المقترعين بمعنى ان اصطفاء آل ابراهيم وآل عمران أمر توليدي ومع الإصطفاء العام يأتي الإصطفاء الخاص، كما يمكن حصول التنافس بين المصطفين بلحاظ ان المقترعين كلهم من آل عمران.
وهل في الآية ذم للذين نافسوا زكريا في كفالة مريم او ان عدم خروج القرعة على أحدهم دليل على مبغوضية مشاركتهم في القرعة، الجواب لا، ومن الأسرار القدسية في الآية ان فوز زكريا من بينهم بكفالة مريم حجة وبرهان وسبب من منع الأقاويل والشبهات خصوصاً عند ولادة عيسى من غير أب، ويبدو ان كفالة زكريا النبي كانت حاجة لمريم ولعيسى وسبب لنجاتهما من وطأة الأذى والقذف وشرور الأقاويل، ولو خرجت القرعة لغير زكريا لأحتمل انه لا يهيء لها أسباب العبادة مثل زكريا او انه لا يكون محترماً في الكنيسة والمجتمع بما يكون حاجزاً دون ايذاء مريم.
كما ان الشك وسوء الظن يدب الى نفسه عند ولادة عيسى من غير أب، ولا يستطيع مواجهة الأقاويل، وتوجيه التهم اليه بانه كان سبباً في حصول فاحشة ونحوها مدة الكفالة، لقد اراد عز وجل للكفيل ان يكون عزيزاً في جنب واثقاً من فضله واحسانه وعظيم قدرته فالله الذي يرزق مريم الغذاء الملكوتي من السماء، وينعم عليه بالولد مع الشيخوخة وعقم الزوجة، هو الذي يؤتي هذه القديسة العابدة ولداً من غير أب.
وبالكفالة تتجلى مضامين قدسية في سؤال زكريا [أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ] وقوله [رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً…] لتكون هذه الآيات ومعرفة الناس بها دليلاً على صدق مريم في ولادتها لعيسى من غير أب، وان الآيات لم تنقطع عن المصطفين من آل ابراهيم فكأن الحمل بيحيى مع الشيخوخة والعقم مقدمة عقلية وشرعية وعرفية للحمل بعيسى .
ومعنى قوله تعالى [أَيُّهُمْ] أي من الذي سيتولى كفالة مريم، وجعل هذا الأمر من علم الغيب لما له من الدلالات وهو باب من العلم فتحه للمسلمين لإستنباط المسائل الشرعية والأخلاقية منه ولإستخراج ما فيه من الدرر العقائدية، وتبين الآية جانباً من القبول الإلهي الحسن لمريم اذ تنافس الرهبان وأهل العلم على كفالتها فكانت من نصيب النبي زكريا، أي انها مباركة منذ ولادتها، وفي صغرها يتنافس العلماء على خدمتها، والسعي في تهيئة أفضل أسباب الراحة والأمن لها لتبقى منقطعة الى .
قوله تعالى [وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ]
لقد ورد قوله تعالى [وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ] ثلاث مرات في القرآن، منها مرتان في هذه الآية ومرة في سورة يوسف، واخبار القرآن عن اجماع اخوته الذين خرجوا معه على المكر به والقائه في غيابت الجب، وتكرار هذا اللفظ مرتين في هذه الآية من بين ثلاث مرات فقط في القرآن اشارة الى ما لها من خصوصية في مفاهيم ومصاديق علم الغيب، ومن منافع التكرار هنا ارادة الفصل والتمييز الموضوعي بين القاء الأقلام وبين الإختصام، وان الخصومة أمر مستقل عن الكفالة وما كان هذا الفصل يعرف لولا تفضله تعالى باطلاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليه، وفي هذا الإختصام مسائل تتعلق:
الأولى : بأطرافه.
الثانية : أوانه.
الثالثة : موضوعه.
الرابعة : كيفيته.
الخامسة : غاياته، اما الأول فالظاهر ان الضمير (هم) في يختصمون فيه وجوه:
الأول : يعود للذي تنافسوا على كفالة مريم من الرهبان وأهل العلم وخدمة دور العبادة والأحبار وأصحاب الفضيلة المؤهلين لكفالتها عند ولادتها وحمل أمها لها الى الكنيسة، فكل واحد منهم أراد حصانتها وكفالتها وتربيتها، ونسب هذا القول الى الأكثر.
الثاني : وقت كبرها وعجز زكريا عن تربيتها، ونسبه الطبرسي الى بعضهم( )، وهو ضعيف.
وعن الإمام الباقر : “أول من سوهم عليه مريم بنت عمران وهو قول عزوجل : [وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ] والسهام ستة، واستهموا في يونس لما ركب مع القوم، فوقفت السفينة في اللجة، فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات، قال : فمضى يونس إلى صدر السفينة فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه. ثم كان عبد المطلب قد ولد له تسعة بنين، فنذر في العاشر إن رزقه غلاما أن يذبحه. فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول صلى الله عليه وآله في صلبه، فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله، فخرجت السهام على عبد الله فزاد عشرا، فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشرا، فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على الإبل، فقال عبد المطلب : ما أنصفت ربي، فأعاد السهام ثلاثا، فخرجت على الإبل، فقال : الآن علمت أن ربي رضي فنحرها”( ).
الثالث : وقعت الخصومة قبل حصول القرعة وان القاء الأقلام جاء حلاً للنزاع وفكاً للخصومة.
الرابع : حصولها بعد القرعة لرغبة كل واحد منهم بكفالة مريم لما فيها من الكرامات والنفع لوجوه:
الأول : دعاء أمها ونذرها في تحريرها للكنيسة واحاطتها بسلاح الإستعاذة.
الثاني : لما في الأخبار من ولادة عيسى النبي .
الثالث : لإستجابة دعاء كفيلها، أي ان كفيل مريم يرزق دعوة مستجابة.
الرابع : لعلمهم بان عز وجل قد تقبلها بقبول حسن فاراد كل واحد منهم ان يفوز برشحات هذا القبول وينال به درجة ومرتبة.
الخامس : وقوعها بعد الكفالة وولادة عيسى.
السادس : الإختصام أمر آخر غير كفالة مريم، والخصومة: الجدل، أي انهم لم يتنازعوا بل كان الأمر جدلاً مبنياً على الحجة وكل يريد الغلبة على صاحبه بالبرهان، وحجة زكريا انه نبي وزوج خالتها.
وتبين الآية حالات خاصة خفية على الناس ولابد من منافع ودلالات في كشفها واظهار النبي محمد صلى عليه وآله وسلم عليها.
اما الثاني وهو أوان الخصومة فالأرجح انها في بداية كفالة زكريا وكانت سبباً للجوء الى القاء الأقلام واجراء القرعة ولا مانع من تجددها مدة كفالة مريم وعند ولادة عيسى على نحو الجدل واشتراك اطراف أخرى غير أرباب العلم لتوكيد ان كفالة زكريا كانت بالطرق الشرعية وبآية منه تعالى.
فلو جاء الناس الى الأحبار وكتاب الوحي وسألوهم على نحو الإستنكار: لماذا جعلتم كفالة مريم عند زكريا ولم تقوموا انتم بكفالتها، على نحو متحد او متعدد، فيأتيهم الجواب بالحجة والبرهان وبيان الآيات التي حصلت ساعة القرعة وجري قلم او سهم زكريا على خلاف جري الماء، وهذا التكرار في الإختصام من علل تكرار قوله تعالى [وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ] ولبيان موضوعية الإختصام.
اما الثالث وهو موضوعه فانه يتعلق بكفالة مريم وما فيها من المنافع وما ترتب عليها من الآثار، ولولا القرآن وما فيه من أنباء الغيب لم يعلم احد ما لكفالة مريم وكيفيتها من الموضوعية والإعتبار في تأريخ العقائد وفي ولادة عيسى وسلامته ونجاته وأمه معاً.
وهل هذا الإختصام نعمة او نقمة وهل فيه قوة او ضعف، الجواب انه نعمة ومن أسباب القوة والعز لأن الإختصام والجدل مقدمة لبيان الحق والآيات والتجليات النورانية في ولادة مريم وكفالتها.
واما كيفيته فهي الإحتجاج والجدل وذكر كل واحد منهم ما يؤهله للكفالة او اشتراك جماعة بترجيح أحدهم، وبيان استحقاق مريم للكفالة اللائقة بها موضوعاً وكيفية وشأناً، لقد أظهر الإحتجاج رغبة واندفاع كل واحد من العلماء والأحبار لكفالة مريم، وهل سببت هذه الكفالة حسداً لزكريا، وكانت سبباً في ابتلائه، وما لاقاه من القتل من بني اسرائيل؟ ليس من دليل عليه وصيغة الجمع في الإختصام تدل على كثرة الجدل والإحتجاج ويستقرأ من القرعة مشاركة الجميع فيها، لأن القرعة لكل أمر مشكل، وتبين الآية حضور الإعجاز والقدرة الإلهية في نتيجة القرعة، بحيث لم تخرج الا لزكريا أي ان القرعة مقدمة شرعية ومناسبة لتثبيت ضرورة وهي لزوم تولي زكريا دون غيره كفالة مريم.
وأما غايات الإختصام فهي الفوز بتولي مسؤولية العناية بمريم في صغرها ونيل المرتبة بكفالتها، وربما كانوا يعلمون بالشرف العظيم والخالد الذي يناله من يكفلها وان موضوع الكفالة لم يبق خفياً وفي طيات التأريخ بل ان القرآن سيظهره ويخبر عنه ويوثقه كما تدل عليه هذه الآيات.
بحث فقهي
يدل على القرعة الكتاب والسنة والإجماع، ومن الأول ورد موضوع القرعة في كفالة مريم كما ورد في قصة نبي يونس والقائه في البحر، قال تعالى [فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ] ( ).
ومن السنة وردت نصوص كثيرة منها ما ورد عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اذا سافر أقرع بين نسائه”( ).
وعن زيد بن أرقم، قال : أتى علي بن أبي طالب، وهو باليمن، في ثلاثة قد وقعوا على امرأة في طهر واحد. فسأل اثنين. فقال : أتقران لهذا بالولد ؟ فقالا : لا. ثم سأل اثنين. فقال : أتقران لهذا بالولد ؟ فقالا : لا فجعل كلما سأل اثنين : أتقران لهذا بالولد ؟ قالا : لا. فأقرع بينهم. وألحق الولد بالذى أصابته القرعة. وجعل عليه ثلثى الدية. فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه”( ).
ومورد القرعة هو الشبهات الموضوعية من كل حيثية وجهة بما يمنع من وجود امارة او قاعدة او دليل ظني، وتأتي القرعة في مقام فك الخصومة لو حصل نزاع بين الشركاء مثلاً، وفي حالات القسمة للتراضي بينهم، ولقاعدة السلطنة أي الناس مسلطون على أموالهم، وقوله “المؤمنون عند شروطهم” والقرعة لا تصيب الحكم الواقعي دائماً، فقد تخطئه ولكنها من أفضل الوسائل للتراضي ولا تعني الحصر بل هي نوع طريق لفك النزاع، ولو حصل التراضي، من دون القرعة تنتفي الحاجة اليها لعدم موضوعيتها في فك الخصومة، ولابد في القرعة من تفويض الأمر الى تعالى.
وقد ذكرت عدة كيفيات للقرعة في باب قسمة السهام بين الشركاء سواء اذا كانت الحصص متساوية او متفاوتة، ومن الأول أخذ رقاع بعدد الشركاء ويكتب على كل واحدة منها اسم من أسماء الشركاء، ثم تشوش وتخلط وتستر، ويؤمر من لم يشاهدها فيخرج واحدة، ويعلن بأن من خرج اسمه اولاً له السهم الأول برقعة مذكور فيها السهم لمنع اللبس والجهالة والغرر، ثم تخرج رقعة باسم شخص ثان للسهم الثاني وهكذا.
وبعد الرضا بالقرعة وتفويض الأمر لله تعالى تكون القرعة كالعقد الواقع بين الأطراف، فلا حاجة لإعتبار الرضا المستأنف بعد حصول القرعة.
وفي القرعة في مسألة كفالة مريم موضوع واحد وهو كفالة مريم لذا لم يخرج الا سهم زكريا لتأتي القرعة عن قصد وتفويض في الأمر له سبحانه وتكون موافقة لمشيئته وارادته.
وتحث الآية على تعاهد يتامى المسلمين ورجاء الخير والبركة في كفالتهم والعناية بهم في الدنيا والآخرة، كما تدعو لعدم الإستخفاف والإستهزاء باليتامى فقد يخرج منهم من يتصف بالإيمان والذكاء والفطنة والصلاح.
الإعراب واللغة
اذ قالت الملائكة: اذ: في محل نصب على الظرفية متعلق بمحذوف، أي: اذكر، قالت الملائكة: فعل وفاعل، والجملة في محل جر بالإضافة.
يا مريم: يا: اداة نداء، مريم: منادى مفرد علم.
ان يبشرك: ان واسمها، ويبشرك: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية خبر ان.
بكلمة: جار ومجرور متعلقان بيبشرك، منه: جار ومجرور في محل جر صفة للكلمة، اسمه المسيح: مبتدأ وخبر مرفوعان.
عيسى: بدل من المسيح، ابن مريم: بدل مضاف، مريم: مضاف اليه.
وجيهاً في الدنيا والآخرة: وجيهاً: حال من كلمة، في الدنيا: جار ومجرور، والآخرة: معطوف على الدنيا.
في سياق الآيات
الآية من مصاديق علم الغيب وأفراده التي تفضل سبحانه واظهر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عليها، وبينما تعلقت الآية السابقة في القرعة على كفالة مريم والإعجاز بخروج سهم زكريا ، فان هذه الآية جاءت في ذكر كلام الملائكة مع مريم والبشارات التي نقلها الملائكة من عنده تعالى الى مريم بولادة المسيح وما له من الشرف والمنزلة الرفيعة، مما يدل على تعدد وجوه ومضامين علم الغيب التي تفضل عز وجل باطلاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها تحديث الملائكة للأنبياء والأولياء اذ ان مريم ليست نبية، ولولا هذه الآيات لما تم تصديق حقيقة تلقيها حديث وبشارات الملائكة بحجة انها ليست بنبي الا اذا ورد في السنة ما يدل عليه.
والإخبار الوارد بالسنة هو ايضاً من الوحي بمعناه الأعم، والقرآن تنزيل لا تصل اليه يد التحريف ولا يحتاج التصديق بآياته الرجوع الى سلسلة السند وعلم الرجال لأنه متواتر في مجموعه وآياته وكلماته، يحرص كل جيل وطبقة من المسلمين على تعاهده وحفظه بكلماته وحروفه كافة من غير تغيير ولا تبديل وهذا الحرص مركب من وجوه:
الأول : استنساخ المصاحف وزيادة عددها، والتسابق في كتابتها لما فيها من الفضل والأجر والثواب.
الثاني : حفظ آياته وسوره في الصدور، والتفاخر بالحفظ باعتباره منزلة من منازل الإيمان ولا يدخل هذا التفاخر في باب الرياء، بل هو تعظيم لشعائر وبيان لفضله ورحمته في التخفيف عن المسلمين وتسهيل حفظ الآيات والسور القرآنية.
ويلاحظ في الآيتين تكرار (اذ) في خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية، فقد ختمت الآية السابقة بقوله تعالى [إِذْ يَخْتَصِمُونَ] ثم افتتحت هذه الآية بقوله تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ] وذهب بعضهم الى تقدير بان وصف امور وحال زكريا وتلقيه بشارة الملائكة بيحيى والإختصام جاء مع قوله تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ] أي وجود ملازمة زمانية بين البشارتين.
ولكن الإختصام حصل في صغر مريم، وظاهر البشارة بعيسى انها عند بلوغها وقرب حملها به وهو الأنسب لثبوتها في الوجود الذهني والإستعداد لها واستحضار البشارة بثقة ورضا عند الشعور بالخوف واحتمال الأذى بسبب ولادته من غير أب، وهذا من أسرار فواصل الآيات في دلالتها على استقلال مضمون الآية الكريمة في متعلق الموضوع والحكم، وامكان الفصل بخصوصهما بين الآيتين المتقدمة واللاحقة مع وجود القرينة الدالة على الفصل.
والجامع بين الموضوعين هو مصاديق علم الغيب التي خص بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين رحمة منه تعالى بهم وبالمليين والناس عموماً.
اعجاز الآية
تتجلى في هذه الآيات وجوه من احسانه ولطفه تعالى ومظاهر من افاضاته ومنها:
الأول : كلام الملائكة مع بعض افراد الجنس البشري.
الثاني : عدم انحصار كلام الملائكة مع الأنبياء او جنس الرجال، بل انها تتكلم مع أفراد النساء ممن نالت مراتب الرفعة والكمال الإنساني.
الثالث : تنزل الملائكة بالرحمة للمؤمنين وتأتي بالبشارة منه تعالى.
الرابع : انه سبحانه يري ملائكته رحمته ولطفه بعباده اذ يسخرهم لنقل البشارة لأحدى النساء، ولقد سبق نزول الملائكة باصطفاء واجتباء مريم عليها السلام، ولابد ان موضوع الإصطفاء مختلف عن البشارة بولادة عيسى وان كان مقدمة شرعية وعقلية له، ولكن ليس بينهما تناف وتضاد فكلاهما من رحمة واحسانه ورأفته بمريم وبالمسلمين والى يوم القيامة.
لقد تفضل سبحانه باخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة التي جاءت بها الملائكة لمريم لتبقى وثيقة سماوية في الأرض الى يوم القيامة ينهل منها المسلمون ويأخذون منها الدروس والمواعظ والعبر.
وتعتبر مريم سلفاً صالحاً للنساء والمؤمنات، وكل امرأة عبر التأريخ الإنساني تفتخر بما حازته مريم من الشرف والفضل والمنزلة الرفيعة.
ويدل قوله تعالى[وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا] على الأخلاق في أيام الدنيا وإلى يوم القيامة لأصالة الإطلاق وعدم وجود تقييد في البين، ويتجلى هذا الإطلاق بنزول القرآن وذكره لقصة ولادة عيسى ودرء الإفتراء عنه وعن أمه، وبتعاهد المسلمين لآيات القرآن وهو من أسرار وجوب تلاوته في الصلاة اليومية وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة..
ويمكن تسمية هذه الآية آية(إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ) ولم يرد لفظ(يبشرك) في القرآن إلا في هذه الآية، وورد خطاباً بصيغة المذكر المفرد في نداء من الملائكة إلى زكريا بقوله تعالى[فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى]( ).
مفهوم الآية
تبين الآية ان هبوط آدم الى الأرض لم يكن نهاية المطاف في صلة السماء بالأرض، وان استفهام الملائكة عن خلافة الأرض وذكرهم لفساد الإنسان لم يمنعهم من النزول بالبشارات التي تتجلى فيها مظاهر الإيمان ودوام كلمة التوحيد في الأرض، فلقد أسهم عيسى وأمه مريم في بناء صرح خالد للتوحيد والإيمان في الأرض والى يوم القيامة ولا عبرة بالغلاة فيهما خصوصاً وان هذه الآية تفضح الغلو وتنهى عنه لما يتجلى فيها من المعاني القدسية وانهما من عباد وجنس البشر، تفضل سبحانه بتغشيهما بالآيات.
ويلاحظ في الآية توالي نزول الملائكة في تلك البقعة المباركة وهي بيت المقدس وفي فترة واحدة فقد هبطت على مريم على نحو التعدد وهبطت على زكريا بالبشارات والإصطفاء والإجتباء، وهل نزولها هذا من باب الحصر، الجواب لا، بقرينة ان الملائكة أخبرت مريم بالإصطفاء و عز وجل أخبر عن المعنى الأعم للإصطفاء، فقد أصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين.
نعم ان بشارات وحديث الملائكة لا تتغشى كل من اصطفاه ، ولكن القدر المتيقن ان الأنبياء منهم فازوا بحديث الملائكة وجاء ذكر مريم كمثال للامرأة المؤمنة الطاهرة التي نذرت نفسها لله وانقطعت لعبادته، وساهم اهلها في اعدادها لهذه المنزلة في دعوة للآباء والأمهات من المسلمين في تعاهد ابنائهم من الصغر وتربيتهم وتنشأتهم على صيغ الإيمان والتقوى والصلاح، فلا أحد ينكر موضوعية نذر امرأة عمران في بنتها.
وقد يقول قائل ان مريم نالت تلك المنزلة للعناوين الإضافية للإصطفاء والإجتباء الإلهي، والجواب لقد أخبرت الآيات بان أصطفى مريم على نساء العالمين وهذا لا يمنع من اقتفاء أثرها في التقوى والأخلاص في العبادة و واسع عليم، ومنازل الثواب والأجر بل والإصطفاء متكثرة ومتفاوتة وخزائنه تعالى لا تنفد ولا ينقص منها شيء.
لقد بينت الآية استبشار الملائكة بولادة عيسى والمسؤوليات العظيمة التي يقوم بها في تثبيت اسس التوحيد وجهاده في سبيل وكأن وجه التأريخ يتغير بولادته وتشع أنوار الهداية في ربوع الأرض باطلالته البهية، ومع ان القرآن جاء على نحو الإيجاز غير المخل والبيان المختصر المفيد للمعنى فانه ذكر قول الملائكة لمريم وصفات عيسى على نحو التعدد وهي:
الأول : كلمة من .
الثاني : ذكر أسمه من عنده تعالى.
الثالث : لقبه المسيح وما لهذا الاسم من المعاني والدلالات.
الرابع : أسمه عيسى.
الخامس : نسبته الى أمه مريم وفيه اشارة الى الإعجاز بولادته من غير أب، وفيه توطئة سماوية وتهيئة لمريم كي تكون مستعدة لتلقي هذه المعجزة واليقين بان الحمل به آية من عنده تعالى.
السادس : ان عيسى سيد وامام في الدنيا، وليس خاملاً او ضعيفاً، بل سيكون له شأن بين الناس.
السابع : وجيه في الآخرة ويكون في زمرة الصالحين، وفي منازل العز والرفعة والخلود.
الثامن : يفوز بالقرب منه تعالى لتجري على يديه آيات باهرات تدل على صدق نبوته.
قد جاء حديث الملائكة بلغة البشارة أي انه خال من أسباب الفزع والخوف في رأفة منه تعالى بمريم، ويمكن اجراء مقارنة بين البشارة بيحيى والبشارة بعيسى ومن وجوهها:
الأول : البشارة بيحيى تلقاها نبي وهو زكريا والبشارة بعيسى تلقتها امرأة ليست بنبية، جاءت البشارة بيحيى عن طريق الأب، اما عيسى فعن طريق الأم ليس لأنه لا اب له فقط، بل لعظيم منزلة مريم واصطفائها اذ ان ام يحيى ليس لها ذكر الا ما ورد على لسان زكريا بانها عاقر.
الثاني : جاءت البشارة بيحيى بدعاء والده زكريا ، اما عيسى فجاء بدعاء ونذر أم مريم وبجهاد وتقوى مريم وانقطاعها الى .
الثالث : في حين سأل زكريا [أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ] لأنه قد طعن في السن وامرأته عاقر، مع ان هذا السؤال ليس استنكاريا بل لتوكيد الحجة واثبات البرهان والآية الباهرة، فان مريم عليها السلام سألت عز وجل بصيغة الإستفهام بانها غير متزوجة فانى يكون لها ولد لبيان منزلة المصطفين عند بحيث يسألون عن تفاصيل النعمة وأسبابها وكيفيتها، وهم سادة وقادة الأمم وأصحاب الكمالات الإنسانية.
الرابع : لقد تضمنت البشارة بيحيى انه مصدق بعيسى مما يدل على علو مرتبة عيسى .
الخامس : انفرد عيسى بصفة كلمة من وفيه تشريف له، مترشح من ماهيته وكيفية خلقه.
ومع ان آدم خلقه بيده ونفخ فيه من روحه الا انه لم ترد تسميته بانه كلمة .
وموضوع وحكم هذه التسمية لا ينحصر بالإبتداء وكيفية الخلق بل انه ينبسط على أيام عيسى لذا تكلم في المهد وفي هذه التسمية اشارة الى انهم لا يستطيعون قتله لأن الكلمة ممتنعة عن الفناء بالقتل والجرح.
لقد أكدت الآية بان عيسى آية سماوية، وتقع على مريم وظائف حفظه حملاً ورضيعاً وصبياً وان تتعاهده وتذب عنه وتحرسه، فبشارة الملائكة عون على تحمل أعباء مسؤولية الحمل من غير أب، وولادة عيسى أمر لا يتكرر الى يوم القيامة سواء بكيفيته او شخصه، لقد خلق آدم من غير أن يكون له أب وأم، ثم جاء عيسى من غير أب في بيان لتوالي وتعاقب وتعدد الآيات والبراهين في الإرادة التكوينية.
افاضات الآية
من النعم الإلهية على أهل الأرض ان تنزل الملائكة بالبشارة لتشع منها أنوار قدسية الى يوم القيامة، وتدل بالدلالة التضمنية بان الإنسان سيد الخلائق ومنبت الفضائل والمكارم، وان المصطفين من آل ابراهيم ينابيع الهدى والمعرفة وسبل النجاة، وركائز الإيمان في الأرض يرجع لهم المتقدم والغالي، ويلحق بهم المتأخر.
تأتي البشارة لشخص مريم في زمان متقدم على زمان نزول القرآن باكثر من خمسمائة عام، فيتفضل سبحانه ويخبر عن البشارة وتفاصيلها في آيات القرآن باعتبارها من علوم الغيب التي يهب العلم بها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعموم المسلمين والمسلمات.
وظاهر البشارة ان الملائكة تتطلع ليوم ولادة عيسى وتنتظر هذه النعمة ولابد من ملازمة بين نزولها بالرزق لمريم وبين بشارتها لها بعيسى.
التفسير
قوله تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ]
جاء ذكر قول الملائكة من غير تعيين لمكان تلقيه، وكذا البشارة بالإصطفاء بينما جاءت البشارة لزكريا بيحيى في المحراب، نعم نزول الرزق لمريم كان في المحراب فهو يصل الى محرابها من غير عناء في طلبه او الخروج الى جلبه، أي ان الملائكة لا يقومون بطرحه خارج المحراب بل يأتون به الى داخل المحراب.
فأين جاء اخبار الملائكة لمريم، فيه وجوه:
الأول: جاء وهي في المحراب وهذا على شعب:
الأولى: انه أتفق ساعة نزولهم انها في المحراب.
الثانية: ان مريم لا تغادر المحراب الا نادراً، واحتمال مجيئهم يكون في الوقت الأعم وهو الأرجح.
الثالثة: من خصائص الملائكة عدم نزولهم بالبشارة على صاحبها الا وهو في المحراب.
الثاني: لا موضوعية للمكان، لأن مريم بذاتها قديسة طاهرة لا تكون الا في الأماكن الطاهرة.
الثالث: جاءت البشارة خارج المحراب لذا لم تذكره الآية الكريمة.
والأقوى هو الأول أي انها تلقت البشارة وهي في المحراب ولكن ليس عن طريق الصدفة والإتفاق بل القصد الذي يتضمن الإكرام والتشريف بالإضافة الى خصوصيات مكان العبادة كعون على تلقي البشارة والإنصات لها وفهمها، وفيه دعوة للمسلمات باللجوء الى المحراب والمسجد عند طلب الحاجة ورجاء نزول الفضل الإلهي.
وجاء الفعل (قالت) بصيغة التأنيث لإرادة الجمع والكثرة، ترى ما هي اللغة التي كلمت بها الملائكة مريم فيها وجوه:
الأول : السريانية: باعتبار انها لغتها خصوصاً على القول بان اسمها سرياني.
الثاني : العربية: ان اسمها عربي “وعن ابي عمرو: ومريم مفعل من رام يريم”( )، ورام أي برح، ويقال: ريّم بالمكان أي أقام به، بالإضافة الى ان العربية لغة اهل الجنة كما انها موجودة كلغة للتخاطب ايام مريم عليها السلام.
لقد أخبرتها الملائكة باللغة التي تتحدث بها وتناجي بها ربها، وقد جاء النداء مرة اخرى باسمها(يا مريم) ومن الآيات ان هذا الاسم خاص بها، اكراماً وتوكيداً انها هي المخاطبة والمقصودة بالبشارة دون غيرها، فبعد تلقي البشارة قد يطرأ الشك على النفس وتظن ان غيرها المخاطب بالبشارة بقرينة انها غير متزوجة ولم يلمسها رجل، ومنشغلة بالعبادة، فجاء الاسم لتدرك اختصاصها بالبشارة وارادتها دون غيرها وهو الأصح والأنسب عقلاً وشرعاً، الا انها قد تظن ان أوانها ما بعدها الزواج، وكأن البشارة بالذات والمقدمة هي النكاح لعدم امكان علوق الولد الا بالنكاح.
فجاءت البشارة بالاسم والدلائل لطرد الشك ولأن البشارة لم تكن مطلوبة بذاتها فحسب بل هي دعوة للإستعداد لولادة عيسى ، وفيه تخفيف ورفع للحرج عن مريم، ومنع من انشغالها عن العبادة بذكر الإحتمالات والظن لقد اراد الملائكة ان تبتهج مريم بفضله تعالى حال سماع البشارة لتكون من الأوليات والبديهيات التي يصدقها العقل بمجرد تصور طرفيها، من غير استحضار قياساتها معها ووسط يستلزم الطلب والتفكر.
فذكر الملائكة لمريم بالاسم يجعلها تستبشر وتشعر بالغبطة حال سماع البشارة، كما ان ورود اسمها على لسان الملائكة عنوان للفخر والإعتزاز، لقد أنقطعت عن الناس وكلامهم وأحاديثهم ومشاغل الدنيا وهمومها، فجعل عز وجل لها مؤنساً صوت الملائكة وهي تحمل الرزق السماوي تارة وأخرى تحمل البشارة التي تشع منها أنوار قدسية تملأ ما بين الخافقين.
لقد ورد خطاب الملائكة لمريم باسمها ثلاث مرات في القرآن كلها في سورة آل عمران احداها عقب الأخرى في الآيات (45،43،42) وفي هذا العدد وكثرته دلالة على ما لمريم من المنزلة الرفيعة في السماء، وهو عنوان شهادة الملائكة لها بالنسك والصلاح والأهلية لحمل عيسى من غير أب وزيارة الملائكة لمريم والإكثار من تسميتها ونقل البشارات لها مقدمة للنفخ فيها من روح ، لأن انسية نشوء عيسى من طرف الأم فقط، اما النفخ فهو أمر سماوي بالإرادة التكوينية.
لقد افتتحت الملائكة كلامها بالنداء (يا مريم) لجذب انتباهها وجعلها تصغي للخبر وتتلقى البشارة برضا وغبطة ليرسخ في الحافظة فلا تغيب عنها خصوصاً وان هموم الدنيا بعيدة عن مريم فلا تستحوذ عليها الغفلة.
وجاء ذكر الملائكة بصيغة الجمع الذي يفيد كثرة عدد الملائكة الذين أخبروا مريم بالبشارة “وعن ابن عباس: يريد جبرائيل”، أي ذكرت الآية الملائكة على نحو الجمع ولكن الذي قال هو جبرائيل وحده.
وذكر الجمع اما لإرادة جنس الملائكة وللإخبار بان البشارة جاءت مباشرة من الملائكة أو لتوكيد صدق البشارة وانها من عند لما في كثرة الملائكة من دلالات، أو لأن عدداَ من الملائكة نزلوا مع جبرئيل لتبليغ البشارة.
ان تلقي مريم البشارات من الملائكة من غير واسطة نبي من الأنبياء كرامة وشرف عظيم لمريم وللنساء عامة وفيه دلالة على اهليتهن لتلقي اخبار السماء.
ترى لماذا قامت الملائكة بالبشارة بعيسى قبل ولادته، فيه مسائل:
الأولى : حرص الملائكة على المشاركة في هذا الحدث العظيم.
الثانية : الإخبار عن الشأن والجاه الذي سيكون لعيسى .
الثالثة : تهيئة مريم للحمل بعيسى لأنه خلاف العادة والعرف.
الرابعة : تثبيت حالة مريم العذراء من البقاء على الطهر والنقاء وعدم المبادرة الى الزواج.
الخامسة : جعله برزخاً سماوياً حاضراًً للتستر على ما في بطنها والتدارك سواء بمبادرة من الأهل او الذات او الغير، فكل امرأة تحمل من غير زوج يكون حملها عاراً عليها وعلى أهلها الا مريم عليها السلام فان حملها شرف للجنس الإنساني عامة رجالاً ونساء.
السادسة : يؤدي الملائكة وظيفة شرعية، قال تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) فنزولهم جاء بأمر منه تعالى.
السابعة : تأهيل مريم لمواجهة الإفتراء والطعن والقذف واعانتها لمقامات الصبر في ذات واتمام اداء الأمانة التي خصها بها من بين نساء العالمين من الأولين والآخرين الى قيام يوم الدين.
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ]
تتجلى في الآية مضامين الإكرام لمريم عليها السلام اذ ان الملائكة لم ينسبوا البشارة لأنفسهم، بل نقلوها عنه تعالى، أي ان الملائكة رسل عز وجل الى مريم وليس لهم الا ان يقوموا بنقل البشارة فلم تقل الملائكة نبشرك، كما في قصة ابراهيم [إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ] ( )، وفي زكريا [إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى] ( )، وبشارة الملائكة تشريف واكرام، الا ان حصر وظيفتها بحمل البشارة وتبليغها الى مريم فضل عظيم منه تعالى على مريم، وفيه دلالة على أهمية الأمر وان ولادة عيسى تختلف عن غيرها خصوصاً وانه رسول وولد من غير أب.
ومن الآيات ان عز وجل جعل عند الناس وفي كل زمان ضابطة كلية وهي ان الملائكة لا يقولون ولا يفعلون الا ما يأمرهم به، وهو من البديهيات المتسالم عليها في كل زمان ومكان، فان القدرة العجيبة التي تمتلكها الملائكة وسكنها في السماء يجعل الناس يدركون عدم امكان طرو الخطأ والنسيان ونحوهما على فعل الملائكة، يشترك بهذا الإدراك والفقه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كما ان كلام الملائكة يأتي على نحو غيبي لا يطلع احد على هيئاتهم وكيفية كلامهم الا بما يأذن به تعالى.
والكلمة هي الألفاظ المتحدة التي تفيد معنى شخصياً مستقلاً، وجمع الكلمة- كلم ولا يكون أقل من ثلاث كلمات، يذكر ويؤنث ويقال هو الكلم وهي الكلم.
والكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، وفي الكلمة ثلاث لغات:
الأول : بفتح الكاف وكسر اللام.
الثاني : كسر الكاف وسكون اللام.
الثالث : فتح الكاف وسكون اللام، وقال ابن منظور (أصل الكلم الجرح)( ).
وقد تطلق الكلمة على الجملة والقصيدة والخطاب، كما يطلق لفظ اليوم على الواقعة والحادثة وان استغرقت سنوات، ومن معاني الكلمة الظهور وولادة عيسى مظهر من مظاهر صفات وعظيم قدرته وسلطانه ومشيئته وانها لا تنحصر بعالم الأسباب والمسببات بل له ملك السماوات والأرض يفعل ما يشاء، يأتي الأمر منه تعالى في الإرادة التكوينية على خلاف الأسباب للتذكير بقدرته، ودعوة الناس للتسليم له بالربوبية والتوجه اليه بالدعاء لمسألة رجاء الرحمة والفضل الإلهي فلقد تفضل سبحانه على زكريا بولادة يحيى عن كبر وشيخوخة وجاءت الآية بالبشارة بولادة عيسى من غير أب ليكون حجة على الناس ومناسبة لجذبهم لمسالك الرشاد ولابد من أسرار قدسية في تسمية عيسى بالكلمة منها:
الأول : ان العلة المادية لنشوئه هي الكاف والنون، في قوله تعالى [كن فيكون] وهذا لا يمنع من اعتبار نشوء كل انسان بكلمة وأمر منه تعالى ووفق الإرادة التكوينية.
الثاني : انه البشارة التي أخبر الأنبياء السابقون عنها ومنهم موسى .
الثالث : ذات البشارة هي الكلمة وكأن الملائكة أرادوا نقل كلمة أي مضمون رسالة وبشارة من عنده تعالى.
الرابع : فيه اشارة الى جهاد عيسى وانه يظهر كلمة التوحيد ويميت البدعة ويبطل التحريف ولا تعارض بين هذه الوجوه، ومن اعجاز القرآن تعدد المعاني القدسية للكلمة الواحدة.
وفي الآية اشارة الى ولادة عيسى من غير أب وانه لم يأت عن وطئ ولذة، بل هو عمل ملكوتي تتغشاه الطهارة.
لقد سأل الملائكة عن خلق آدم وتوليه الخلافة في الأرض، بينما جاءوا يحملون البشارة بولادة عيسى وهم فرحون مستبشرون بقرب ايامه وظهور المعجزات على يديه وما سيحدثه في العالم من التغيير نحو سبل الصلاح والإيمان.
علم المناسبة
لقد ورد لفظ (كلمة) بصيغة المفرد ثمان وعشرين مرة في القرآن يتجلى فيها عظيم قدرته ومشيئته تعالى جاءت ثلاثة منها بخصوص عيسى وانه كلمة ، اثنتان منها في سورة آل عمران والثالثة في النساء [إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ]( )، في اشارة للجمع بين البشارة وامضائها والشهادة السماوية عليها اوان نزول القرآن، مما يدل على قيام عيسى بوظائف النبوة والرسالة خير قيام، والآية اعلاه من سورة النساء تدل على عدم وجود فرق في قوله تعالى [ كَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ] وقوله [كَلِمَتُهُ]، وقد ورد في القرآن ان [َكَلِمَةُ ُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( )، فهي تدل على النصر العظيم الذي يحققه عيسى على أعدائه، والحصانة السماوية له حين الحمل به وعند ولادته وعند شبابه ودعوته الى .
وهل تدل الآية على ان دين النصارى هو الأعلى بقرينة ما يظهر في هذا الزمان من امتلاكهم أسباب القوة والمال في الجملة، الجواب لا، من وجوه:
الأول : ان الإسلام ناسخ للأديان الأخرى، وهذه الكبرى الكلية هي الحاكمة في المقام.
الثاني : ان دين عيسى هو الإسلام، وانه كلمته والقرآن كلام .
الثالث : القدر المتيقن من الآية ارادة عيسى وليس دين النصارى.
الرابع : المراد من كلمة في قوله تعالى [وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( )، هي كلمة التوحيد وقول لا اله الا ورفعة الإسلام، بقرينة ورود كلمة الكفار في ذات الآية ولا صلة لها بموضوع الولادة والعلة المادية لنشوء الولد، وكلمة الكفر هي الشرك وما فيه ذل الكافرين.
ولم تكن ولادة عيسى بالأمر السهل او الهين، لقد جاءت وسط مجتمع متدين محافظ، بالإضافة الى الأعراض الظلمانية التي تعتري النفوس من الحسد والغضب والشهوة، وقد عرف عن بني اسرائيل تعديهم وتجرأهم على الأنبياء فكيف بمن ليست بنبية، وتترعرع في الكنيسة وتظهر الورع والتقوى ثم تأتي بولد من غير أب، انه امر يجعل النساء يحرضن الرجال على البطش او التنكيل بها، فاذا كان الرجال منهم يقومون بقتل الأنبياء فكيف بالمرأة التي تجتمع عليها النساء والرجال الا ان يشاء ويبعث في نفوسهم السكينة ويجعلهم يتدبرون في آيات ولادة عيسى لذا تفضل سبحانه بآية مقارنة لولادته وهي كلامه في المهد لإقامة الحجة ومنع الفتنة وقطع الطريق على الذي في قلبه مرض.
وجاءت البشارة على نحو القضية الشخصية وارادة مريم بها (يبشرك) وفيه وجوه:
الأول : ان البشارة خاصة بمريم عليها السلام.
الثاني : توجه الخطاب لمريم وارادة الناس جميعاً.
الثالث : ماهية البشارة هو الحمل والولادة.
الرابع : موضوع البشارة مركب ومتعدد فهو خاص بمريم في تعلق الحمل والنسبة المباركة الشريفة واقتران اسمها باسم روح في النشأتين، وعام للناس كافة في رسالة عيسى ولزوم التصديق بها والأصح هو الوجه الرابع اذ ان البشارة بعيسى متشعبة المنافع.
ومن وظائف المسلم الإيمان برسالات الأنبياء كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ] ( )، فهل تكون ولادة عيسى من غير اب مما يجب التصديق به الجواب نعم لإخبار القرآن عنه، وورود اخبار السنة النبوية بخصوصه وكما سبقت بشارة الملائكة ولادة عيسى فان القرآن تعاهد موضوع ولادته من غير أب، ومنع من الإفتراء على مريم بل وحال دون الغفلة عن هذه الآية العظيمة.
فالآية اذا ترك أمرها ولم يلتفت اليها، يأتي من يعبث في التأريخ ويتعدى على الحرمات ويبث الأقاويل والريب والظنون السيئة، فلابد من اعلان المسلمين للآيات وتجديد الأخبار عنها وذكرها بصيغ من البيان مناسبة للزمان والحال، فكما ان معجزات الأنبياء مناسبة لأزمنتهم ومجتمعاتهم فنبي صالح جاء بالناقة وموسى بالعصا في مواجهة السحرة، وعيسى جاء بالمعجزات المناسبة للطب والعلاج.
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالقرآن كمعجزة عقلية باقية الى يوم القيامة وبلاغية تقهر اساطين اللغة والفصاحة فكذا بالنسبة للعلماء في الأجيال المتعاقبة فان الوظيفة تقتضي بيان قصص ومعجزات الأنبياء بحسب لغة العصر والإتجاه السائد في المجتمع كل بحسب حاله.
وفي زمن العولمة ظهرت العلوم التقنية والمعلوماتية والصناعية ودخل الناس في عالم الإستنساخ البشري ولو على نحو النظرية لتتجلى أسرار غيبية جديدة في هذه الآيات تبين الإعجاز والمضامين القدسية في نعتها بانها من علم الغيب منها استنباط مسائل ودروس وحكم تكون حجة في زمانها وقادرة على مواجهة التحديات العلمية وبرزخاً دون الإفتتان بالعلوم والمسائل المستحدثة.
ولقد أدرك المسلمون أهلية القرآن تفسيراً وتأويلاً لإستيعاب الظواهر الطبيعية والإنسانية وان القرآن بكلماته المحدودة يحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث، ولا يضر بهذا المرتكز وقواعده الكلية تخلف العلماء عن كشف الحقائق والأسرار القرآنية او عدم وصول تحقيقاتهم الى طوائف من الناس.
وكان عيسى كلمة باقية الى يوم القيامة لمواجهة العلوم والطب وتتجلى في هذه الأيام آية ولادته من غير أب لظهور دراسات علمية عالمية لنشوء الولد من غير الإستعانة بالوطئ او نطفة الأب، وهذا لا يخل بآية ولادة عيسى بل يدفع الناس الى الإيمان ويمنع من الغلو والغرور والإفتتان بالإستنساخ البشري لأن ولادة عيسى جاءت على نحو المعجزة الخارقة للعادة السالمة من المعارضة، التي لايمكن تحديها او الإتيان بمثلها، فكانت هذه المعجزة باباً لهداية شطر عظيم من الناس ومناسبة لتجديد الآيات في خلق الإنسان ونشأته من غير وطئ ونكاح.
وهل تعتبر مريم اماً وأباً لعيسى في آن واحد، ومن مصاديق اصطفائها على نساء العالمين ان تنفرد بالأمومة والأبوة لعيسى الجواب لا، لأن آية عيسى ليس له أب وكانت وظيفة مريم الحمل والوضع كباقي النساء، لكن الحمل جاء من غير فحل، وهو من الإصطفاء والتشريف، كما ان الصبر عليه من منازل التقوى، والعفة والصلاح أمر جهادي عبادي ليس بالهين، ولكن مريم أستطاعت القيام به وسط بشارات الملائكة والرزق السماوي وبلوغها مراتب اليقين.
وفي الآية مسائل:
الأولى : ان القول جاء على لسان الملائكة مما يجعل مريم تتلقاه برغبة وحرص وغبطة.
الثانية : تلفظ الملائكة لاسم مريم بالذات.
الثالثة : نقل الملائكة للبشارة منه تعالى فاول ما بدأ به الملائكة انها نادت مريم ثم ذكرت اسم الجلالة تعظيماً وعشقاً لمقام الربوبية، فحينما نزلت الملائكة الى الأرض لم تنسَ ذكر بل جعلت اسمه فاتحة الخطاب فلم تقل نبشرك، او بشراك، بل قالت ان يبشرك لتساهم الملائكة بالبشارة الى جانب نقلها لمريم، وهذه المساهمة مركبة من:
الأول : تعظيم شعائر .
الثاني : الدعوة الى ذكره وعدم نسيانه.
الثالث : الحث على المبادرة الى شكره سبحانه ساعة البشارة.
الرابع : لزوم استحضار عظيم فضله تعالى.
الخامس : ان وظيفة الملائكة نقل البشارة وأداء الرسالة لتوكيد عظيم منزلة مريم والتحذير من الطعن بها عند ولادة عيسى .
السادس : لابد وان حضور الملائكة وسماع كلامهم يبعث الهيبة في القلب ولا يستطيع الإنسان تحمله من غير خوف يملأ النفس، فجاء كلام الملائكة بذكر اولاً لإنزال السكينة على مريم ثم بينوا غرض المجيء وهو البشارة ونقلها، وسماع مريم للفظ البشارة يبعث الطمأنينة في نفسها.
السابع : أفتتح الملائكة موضوع البشارة بانه كلمة، والمتبادر الى الذهن من الكلمة امور متعددة منها:
الأول : التنزيل لذا ورد في القرآن بانه كلام .
الثاني : الخبر والقصة.
الثالث : النصح والهداية.
الرابع : الكلمة والقول مطلقاً.
الخامس : الأمر والشأن خصوصاً وانه جاء بصيغة البشارة ونزول الملائكة بها، وحرف الجر (من) في قوله تعالى بكلمة منه يفيد ابتداء الغاية في اشارة الى ولادة عيسى بأمره تعالى وخلاف الأسباب.
ونسبت الكلمة الى تعالى وفيه اشارة الى أهميتها واعتبارها انها ليس من الملائكة او من شؤون المجتمع والناس، وما دامت الكلمة من عند وجاءت على نحو البشارة فلابد ان لها خصوصية لذا قامت الملائكة ببيانها وذكر موضوعها، وهذا البيان رحمة من الملائكة بالإنسان لما فيه من مناهج التفصيل ومنع اللبس والجهالة، وهو دعوة للأنبياء والعلماء والقادة ببيان المطالب والغايات وكيفية اتيان الناس للواجبات والمندوبات وبصيغ تبعث على القبول بشوق ورضا.
قوله تعالى [اسْمُهُ الْمَسِيحُ]
المسيح لقب لعيسى وله معان:
الأول: لكثرة سياحته في الأرض.
الثاني: مسيح فعيل بمعنى مفعول من مسح الأرض لأنه كان يمسحها أي يقطعها ومنه مساحة الأرض أي قياس أقسامها.
الثالث: المبارك، وهو بالعبرية المشيح.
الرابع: المسيح: الملك، عن ابي عمرو بن العلاء( ).
الخامس: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.
السادس: عن النخعي، المسيح الصديق.
السابع: انه مسح بدهن زيت بورك فيه وكان الأنبياء خاصة يمسحون به.
الثامن: كان أمسح الرجل ليس له أخمص، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل.
التاسع: كان يمسح رؤوس اليتامى.
العاشر: يقوم بمسح عين الأعمى بيده فيبصر.
الحادي عشر: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة الا برئ.
الثاني عشر: معرب وأصله بالعبرانية ماشيحا.
الثالث عشر: انه مُسح من الأوزار والآثام.
ومع ان الكلمة لفظ مؤنث الا ان الاسم ورد بصيغة المذكر متعلقاً بما بعده للإخبار بان مريم ليست كأمها التي نذرت ما في بطنها وتظنه ولداً فجاءت مريم، اما مريم فانها لم تنذر ما في بطنها وأخبرها عز وجل بالبشارة بالولد النبي، نعم لأم مريم شأن في ولادة عيسى سواء في نذرها لما في بطنها او لإعاذتها لمريم وذريتها.
والمسيح وصف عيسى، ومع هذا قدم على الاسم خلافاً للعادة والعرف واللغة بتقديم الاسم على اللقب والوصف ولابد لتقديم لقب المسيح من دلالات عقائدية منها:
الأولى : ان المسيح اسم آخر لعيسى بشهادة هذه الآية الكريمة.
الثانية : تأكيد أوصاف عيسى .
الثالثة : موضوعية هذا اللقب في البشارة.
الرابعة : تعلق وجوه من الإعجاز بصفة المسيح.
الخامسة : جعل الآية ظاهرة باعتبار المسيح اسماً لعيسى ولا تعارض بين كون الصفة اسماً.
السادسة : الأصل تقديم الاسم على اللقب في حال اجتماعهما وعليه اللغة والعرف، وقدم هنا اللقب لموضوعية السياحة والجهاد في سبيل في بعثة عيسى .
السابعة : ان الملائكة وأهل السماء يعرفونه بهذه الصفة واللقب، وانه من وجوه استحقاقه للبشارة والرفعة والشأن.
الثامنة : فيه تشريف وتعظيم لمنزلة عيسى بان فعله الجهادي يكون اسماً له.
التاسعة : الآية شاهد بان عيسى يتلبس بالسياحة في سبيل ايام حياته.
العاشرة : لعل فيه اشارة الى رفع عيسى وسياحته في السماء.
الحادية عشرة : الآية مقدمة احترازية لمنع الإفتراء على عيسى او الطعن فيه بسبب مسحه في الأرض خصوصاً وانه فعل لم يكن متعارفاً عند انبياء بني اسرائيل فاراد عز وجل تهيئة الأذهان لهذا العمل العقائدي.
الثانية عشرة : في الآية اخبار لمريم بان عيسى خال من درن الذنوب وانه يكون مباركاً.
الثالثة عشرة : ان بني اسرائيل بشروا بظهور ملك عليهم يكون سبباً في نجاتهم فسمي مشيحاً، ولكن بني اسرائيل لم يتبعوه بحجة انه لم يتول شؤون الملك والسلطنة.
الرابعة عشرة : تعتبر تسمية عيسى (بالمسيح) فضلاً الهياً عظيماً عليه وعلى امه مريم وعلى الناس لأن عز وجل هو الذي أختار له هذا الاسم وشرفه به.
الخامسة عشرة : يظهر الرجحان لعيسى على يحيى في الإسم، وبين الإسمين عموم وخصوص من وجه مادة الإلتقاء ان كلا الإسمين من عنده تعالى، ومادة الإفتراق ان عيسى سماه المسيح، واسم يحيى لم يسم به احد قبله، ومع هذا فانه لا دليل على وجود اسم المسيح بين الناس قبل عيسى .
السادسة عشرة : يمكن اشتقاق معنى آخر للمسيح بلحاظ الواقع الديني، وهو انتشار رسالته واتباعه في الأرض، فالمسيح أي ان رسالته وعقيدة النصارى تسيح وتنتشر في الأرض، وهذا الأمر لم يظهر في ايام عيسى للحفاظ على حياته ولكنه امر ظاهر بالوجدان، اذ انتشرت المسيحية بعده بسرعة تفوق التصورات وبصيغ وكيفيات تتجاوز الأسباب المادية والوسائل المتعارفة، الى ان تمت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو طرح سؤال وهو أيهما اكثر عند نزول القرآن، اليهود ام النصارى، الجواب انهم النصارى خصوصاً وانه كانت لهم الدولة الرومانية وذكر انه بين موسى وعيسى الف وسبعمائة سنة، وألف نبي وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة وستون سنة واربعة انبياء ثلاثة من بني اسرائيل وواحد من العرب هو خالد بن سنان العبسي.
ومع بعد وطول المدة بين موسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان دين النصرانية انتشر بسرعة بآية اعجازية في ازاحة أفكار الشرك والضلالة عن الأرض، خصوصاً وان اليهود حصروا الإنتماء لدينهم بلحاظ النسب في الغالب، وليكون انتشار النصرانية مصداقاً لاسم المسيح ومقدمة لظهور الإسلام لما فيه من الدعوة الى وتضمن الإنجيل للبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقسم العَلَم الى اسم ولقب وكنية، ورد الأولان لعيسى ولم يرد الفرد الثالث في اشارة الى انه يرفع قبل ان يتزوج ويولد له، وهو امر يمكن استقراؤه من توكيد الملائكة على لقب المسيح.
علم المناسبة
ورد لفظ (المسيح) في القرآن احدى عشرة مرة اسماً لعيسى وهذه الأولى منها، بينما جاء ذكر اسم (عيسى) في سورة البقرة ثلاث مرات، كما ورد خمس مرات في سورة آل عمران، ولم يرد فيها اسم المسيح الا في هذه الآية التي تجمع بين الإسمين مع اسم ابن مريم إذا احتسب إسما مستقلاً .
ويمكن تقسيم المرات التي جاء فيها اسم المسيح في القرآن تقسيماً موضوعياً الى:
الأول : ثلاث مرات يجتمع فيها اسما المسيح وعيسى، ووردا في سورة آل عمران والنساء.
الثاني : ورد لفظ “المسيح ابن مريم” خمس مرات وهي أكثرها عدداً، لتوكيد النسبة الى انه بالإضافة الى القسم الأول اعلاه يتضمن ذات القسمة.
الثالث : ورد اسم (المسيح) مستقلاً من غير نسبة مرتين، في اشارة سماوية الى أهلية هذا الاسم لإطلاقه على عيسى وكفايته للتعريف به بين المسلمين، وللإشارة انه اسم لعيسى ، اذ شرفه تعالى بتعدد الاسم في القرآن مثل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي سماه في القرآن محمداً وأحمد مع نسبة عيسى الى أمه على نحو الإكرام، والإشارة الى آية خلقه.
الرابع : ورد مرة واحدة الذم للنصارى الذين نسبوه الى ، قال تعالى [وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ]( ).
ولابد من دلالات عقائدية لكل من هذه الأقسام الأربعة بلحاظ الموضوع والحال، فمثلاً قوله تعالى [لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ]( )، أي ان عيسى كان في طيلة ايام حياته عبداً داخراً لله عز وجل، يأتي بألآيات الباهرات ويحيي الموتى ولا يفوته ان يؤكد بان الآيات والأحياء كلها باذن وفضل منه تعالى لمنع الغلو فيه، وان النبوة والرسالة لا تخرج الإنسان عن مقام العبودية والخشوع لله تعالى.
وفي الآية محل البحث ذكر الإسمان معاً المسيح وعيسى لبيان صفة عيسى وتمام البشارة لمريم وهو من مضامين العطاء والرزق بالأوفى والأتم، وذكر الوجوه المتعددة للبشارة وما تتضمنها من الآيات والمعجزات، وقوله تعالى [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابن مَرْيَمَ]( )، وقوله تعالى [وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ]( )، توكيد لجهاد المسيح وسياحته وتنقله بين بني اسرائيل وهو يدعوهم الى كلمة التوحيد.
و(ابن) يكتب على صورتين:
الأولى: باسقاط الهمزة في الخط والرسم اذا وقع صفة بين علمين كما في القول “محمد بن عبد الله”
الثانية: اثبات الهزة خطاً ورسماً ولفظاً اذا لم يكن أحد الطرفين او كلاهما علماً، وقد ثبتت الهمزة في جميع المرات التي ذكر فيها اسم المسيح، وفيه وجهان:
الأول: ان خط القرآن ليس قياسياً.
الثاني: فيه دلالة على ان المسيح ليس له أب وهو الأرجح أي ان الهمزة تحذف بين علمين يراد منهما الابن والأب.
وقد ورد لفظ (ابن) بتثبيت الهمزة في القرآن، خمس وثلاثين مرة وليس فيه لفظ (بن) محذوف الهمزة لأمرين:
الأول: إطلاق ذكر الهمزة في ابن، وان التفصيل وحذفها عند ورود (بن) بين علمين جاء متأخراً على نزول القرآن.
الثاني: عدم ورود لفظ (ابن) بين علمين في القرآن تكون النسبة بينهما البنوة والأبوة.
بحث عقائدي
لقد أقترنت سياحة عيسى ودعوته الى بالآيات في ابراء الأكمه والأبرص أي ان عيسى لم ينتظر الزمنى وذوي العاهات يأتون اليه بل يقوم بالذهاب اليهم في مدنهم وقراهم ليكون شفاؤهم امام الناس حجة عليهم وآية حسية عامة، ولعموم النفع، وللحيلولة دون تكذيب او نسبة شفائهم الى غيره او نسبتها اليه ولكن بادعاء استعماله لأسباب علاجية او للسحر ونحوه من صيغ الإفتراء.
فالسياحة في الأرض بالنسبة لعيسى حاجة عقائدية لرسالته وتوكيد المعجزات التي جرت على يديه وعدم امكان انكارها، ورحمة للناس ومناسبة للإنتفاع الأمثل من كرامته وعظيم منزلته، كما انها أي السياحة وسيلة لجمع الأنصار والمريدين والإكثار من الأتباع، ويمكن ان تكون مانعاً من التعدي عليه وان اثارت حفيظة أهل الحسد.
ولقد كان عيسى في سياحته مجاهداً ساعياً لنشر مبادئ التوحيد، وهناك نوع ملازمة بين السياحة والمعجزات، اذ ان المعجزات الحسية الباهرة التي تفوق الإرتقاء في عالم الطب أمساً واليوم صارت واقية لحفظ عيسى وسبباً لإلتفات الناس وانصاتهم لدعوته، ويمكن اعتبارها من أهم الأسباب في انتشار النصرانية بين تلك الأمم، فلو لم يتخذ السياحة في الأرض وظيفة عقائدية له لكان الحال:
الأول : انحصار معرفة الآيات بجماعة قليلين ممن حول عيسى، وهذا يعني سهولة التستر عليها واخفائها.
الثاني : قلة النفع من المعجزات التي جاء بها لعدم معرفة الناس في الأمصار والقرى بها، ومن يعلم بها قد لا يوفق للمجيء الى عيسى ، وان جاء تتلاقفه أيادي أهل السوء والشبهات، كما كان المشركون يجعلون رصداً حول المدينة المنورة لمنع الناس من القدوم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة الآيات والمعجزات عن قرب، واعلانهم الإسلام، والرجوع الى قبائلهم باخبار البعثة النبوية.
الثالث : ضعف انتشار النصرانية والدعوة الى لموضوعية التبليغ.
ويبدو ان النصارى من بعد عيسى والى يومنا هذا وظفوا سياحته في نشر ديانتهم في ربوع الأرض، والأولى ان يقوم المسلمون بالإنتفاع الأمثل من سيرة الأنبياء خصوصاً وان القرآن ذكرها عبرة وموعظة، وانها جاءت هنا من أفراد علم الغيب الذي اطلع عز وجل عليها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
فذكر القرآن لتسمية عيسى بالمسيح وعلى لسان الملائكة بالبشرى بولادته توكيد على موضوعية هذا الاسم ودلالاته ولزوم استنباط الدروس والمواعظ منه، فان قلت ان سياحة عيسى كانت مقترنة بالآيات، قلت: ان دعوة علماء الإسلام تقترن باعلاء كلمة التوحيد وهي التي جاء عيسى من أجلها، وبآيات القرآن والبراهين الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
“وقال الإمام الرازي: ولو انك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على اقامة حجة اقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا اليه سبيلاً الا الرجوع الى استقراء العرف والعادة، وقد أتفق علماء الفلاسفة على ان مثل هذا الإستقراء لا يفيد الظن القوي فضلاً عن العلم، فعلمنا ان ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته”( ).
ولكن حدوث الولد من غير اب امر ممتنع عقلاً وشرعاً ووجداناً اذ ان الأب ونطفة الذكر علة مادية ضرورية لتكون الولد وبه قضت الإرادة التكوينية منذ ان خلق آدم ولا ينحصر الأمر باستقراء العرف والعادة، لتكون ولادة عيسى من غير أب آية اعجازية قاهرة تبقى عنوان فخر للإنسان بقرب رحمته تعالى من الناس وبما يفوق قوانين العلة والمعلول والأسباب والمسببات.
قوله تعالى [عِيسَى ابن مَرْيَمَ]
اما عيسى ففيه معان:
الأول : انه اسم عبراني معرب من أيشوع.\
الثاني : اسم سرياني.
الثالث : مشتق من العيس وهو بياض تعلوه حمرة.
الرابع : ايشوع معناه السيد.
الخامس : قيل ان معناه بيعيش أي انه يبقى حياً، لتكون التسمية قريبة من اسم يحيى بلحاظ مفاهيم الحياة والبقاء بالنبوة والتوثيق القرآني.
وذكر ان مريم بنت عمران حملت به ولها ثلاث عشرة سنة، واوحى اليه على رأس ثلاثين سنة من عمره، ورفع من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت مريم بعد رفعه ست سنين، وقيل ستاً وستين.
لقد جاءت البشارة السماوية باسمين ووصف تنزيه واكرام لعيسى وهي:
الأول : المسيح.
الثاني : عيسى.
الثالث : ابن مريم.
وهو نوع تشريف له اذ ان الملائكة يطيب لها ان تذكره بكل هذه الأسماء مرة واحدة وقبل ولادته، وكل اسم منها له دلالات عقائدية ويكون مدرسة لمريم وللأجيال.
ويمكن تأسيس قاعدة كلامية وهي ان كثرة الأسماء تدل على الشأن العظيم والمنزلة الرفيعة فذكرت البشارة ثلاثة أسماء لعيسى، وفيه مدرسة سماوية تدل على ماله من المقام السامي واخبار بان ولادته ستكون بشارة لعهد جديد من الإيمان والدعوة الى ، أي ان الملائكة بشرت بالبشارة، فمع ان ولادة عيسى موضوع مبشر به، فانه بالذات والفعل يكون بشارة لإعلاء كلمة الحق، وعهده بشارة لنزول القرآن وبعثة خاتم النبيين لتتجلى معاني قدسية من بعثة الأنبياء وارسال الرسل.
لقد تفضل سبحانه وأختار لعيسى اسماً من عنده وهو حجة على بني اسرائيل في لزوم اكرامه واتباعه وعدم الطعن فيه.
وقد يقال: ان بني اسرائيل والناس لم يعلموا بان هو الذي سماه المسيح وسماه عيسى والجواب ان عز وجل اذا أراد شيئاً هيء أسبابه وأظهر العلامات التي تدل عليه والإمارات التي تشير اليه، وان كلام عيسى في المهد دليل على الإعجاز وباب لتصديق تسميته من السماء، كما ان سياحته في الأرض شاهد بانها من عند لأنها تتضمن المعجزات واظهر فيها البراهين التي تؤكد صدق رسالته باحيائه الموتى وابرائه للزمنى في سياحته.
لقد أراد عز وجل لعيسى ان يكون آية في الإرادة التكوينية والتشريعية، ومن الأولى خلقه من غير أب خلافاً للنواميس الأرضية وقوانين العلل المادية وفي خلقه افاضة وحرز واثبات عملي لخلق آدم وزجر عن القول بقدم الإنسان لأن خلق الإنسان من غير أب شاهد على امكان خلقه من غير أبوين ولو على نحو التقريب والإمكان، فمن بركات عيسى ان ولادته تثبيت لخلق الإنسان وحضور للإرادة الإلهية على نحو خارق للأسباب، وظاهر للعيان في دعوة للإيمان، وانه يفتح باب الأمل للمرضى وذوي العاهات في كل زمان ومكان ويدرك كل واحد منهم ان هذا الأمل لا يصح الا بالإقرار بالربوبية لله تعالى وان الخير والفضل منه تعالى، وما الإرتقاء العلمي في عالم الطب الذي يحصل هذه الأيام الا رشحة من رشحات فضله تعالى على أيدي خلقه، قال تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]، ومع ان الملائكة تخاطب مريم الا انها ذكرت ان عيسى هو ابن مريم، فلم تكتف بذكر اسم عيسى بلحاظ انها تقوم ببشارتها ولم تقل لها عيسى ابنك، بل قالت عيسى ابن مريم وفيه مسائل:
الأولى: جاءت البشارة على نحو الإخبار عن اسم عيسى في السماء.
الثاني: في البشارة اعلان لاسم عيسى بين الأمم والملل.
الثالث: وجود ملازمة بين بشارة الملائكة وذكر عيسى في الكتب السماوية السابقة.
الرابع: ان الملائكة اخبرتها بما جاءها من عند تعالى من الأمر ومضامينه القدسية.
الخامس: تشريف لمريم، واشارة الى بعض مصاديق اصطفائها ان يرد إسمها بالبشارة الإلهية، فقد سمتها أمها مريم، اما في هذه الآية فان البشارة النازلة من عنده تعالى تتضمن اسم مريم كأم لعيسى.
السادس: الإخبار بان البشارة المباركة ستكون من صلبها مباشرة خلافاً لما حصل عند ولادتها اذ نذرت أمها الولد فوضعت بنتاً.
السابع: الإشارة الى ان نذر أمها سيتجلى في ولادة عيسى الذي ينذر حياته للجهاد في سبيله تعالى.
الثامن: اكرام مريم باقتران اسمها باسم روح وكلمته، وهو أمر لم تنله أي امرأة اذ ان الأبناء ينسبون الى آبائهم، نعم قد يرد أحياناً نسبة الابن لأمه اذا كانت من ذوات الشأن والشرف، ولكنه يحصل على نحو الموجبة الجزئية ومن غير ان يكون بديلاً عن نسبته لأبيه، اما بالنسبة لعيسى فجاءت النسبة على نحو الموجبة الجزئية وفيه تذكير للناس بالمعجزة باق ومستديم مادام القرآن أي الى يوم القيامة.
التاسع: تعتبر نسبة عيسى الى مريم مفخرة وآية في باب الاسم تدل على الإعجاز في موضوع وأحكام الخلق والمسمى.
العاشر: تبين الآية أهلية الأم للنسبة واحتضان الولد وعائديته اليها، ومن القواعد الفقهية انه لو كانت الأم حرة والأب عبداً فان الولد يلحق بامه من جهة الحرية لأنها أشرف الأبوين فيكون حراً تبعاً لأمه، مما يدل على اعتبار وموضوعية الأم والنسبة اليها.
الحادي عشر: لقد أراد عز وجل ان يبين للناس ان قوانين العلة والمعلول والسببية جزء من عظيم قدرته، وان النظام الذي وضعه للكون لا يمكن اختراقه الا بمشيئته واذن منه تعالى، وكما جاء عيسى من غير اب فانه يحيي الموتى ويبرء الزمنى باذنه ومشيئته تعالى ولابد من ملازمة بينهما كالسبب والمسبب.
الثاني عشر: فيه توكيد بان عيسى ليس ابن وزجر عن الغلو فيه واتخاذه الهاً.
الثالث عشر: النهي والمنع من أخذ عيسى من مريم واستيلاء او كفالة الرهبان او الملوك عليه لما عنده من الآيات، فامرأة عمران نذرت مريم للكنيسة، ومريم لم تنذر ابنها فهي أحق بحضانته وانه لا يحتاج الكفالة ونحوها.
لقد أراد لعيسى ان يبقى مع مريم فجاءت نسبته الى مريم بالاسم توكيداً لطهرها وحثاً على بقائه معها.
لقد بينت الآية موضوع البشارة ونسبة الولد وانه ابن مريم وهذا لا يعني انه يولد من غير اب، فلقد نقلت له الملائكة البشارة بالولد كما نقلتها الى زكريا الا انها لم تقل بانه سيأتي من غير اب في آية اعجازية لذا سيأتينا سؤال مريم في قوله تعالى [أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ] ولكن عدم ذكر الأب في الآية فيه وجوه محتملة آنية:
الأول : لم يذكر لأن البشارة خاصة بمريم.
الثاني : البشارة بالولد خاصة بمقام واصطفاء مريم بغض النظر عن الأب هل هو من آل ابراهيم او لا.
الثالث : الأب هوية وشخصاً يعرف فيما بعد. 4- ليس لعيسى أب.
والوجه الرابع هو الصحيح من بين الوجوه الأربعة أعلاه الا انه لم يتبين في حينه فلابد من مؤونة وقرائن اضافية كي تعلم مريم انه سيكون عندها ولد من غير اب.
لقد أراد عز وجل تأديب الناس في موضوع خلق وبعث عيسى والنهي عن الكفر به او الغلو فيه، فهو نبي رسول خلقه بالنفخ فيه من روحه، ولا يجوز للناس ان يتخذوه الهاً ومعبوداً، ولتكون البشارة سبباً في اتباع الناس له وتلقي الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية منه أي ان بعثة عيسى لاتقف عند منع الإفراط والتفريط، والكفر والغلو فيه بل لابد من الإنقياد لأوامره وتصديقه بما جاء به من عند ، فظهرت الآيات الباهرات على يديه اعانة للناس وحثاً لهم على أداء وظائفهم الشرعية ازاءه، كما ان ولادته ذاتها آية وحجة على العالمين الى يوم القيامة تتجلى فيها القدرة الإلهية.
علم المناسبة
لقد جاءت البشارة الإلهية بالولد مع ذكر أسمه في القرآن:
الأول : بشارة ابراهيم باسحاق .
الثاني : بشارة زكريا بيحيى عليهما السلام.
الثالث : بشارة مريم بعيسى .
وفي مجموع البشارات الثلاث ستة أطراف خمسة منها في مقام النبوة والسادسة مريم عليها السلام مما يدل على عظيم منزلتها وعلو شأنها عند عز وجل، فكل من المبشر والمبشر به نبي الا مريم، ولم ترد البشارات الثلاث الا بواسطة الملائكة وفيه دليل على ان كل بشارة انعطاف ومناسبة للتغيير في التأريخ الإنساني وسنن الشرائع في الأرض باتجاه تثبيت كلمة التوحيد، لتكون متحدة ومتفرقة بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي ورد ذكرها في الكتب السماوية السابقة.
ولقد جاءت ولادة عيسى من غير اب شاهداً على نبوته، وأقترنت رسالته بآيات حسية لتأكيدها وتثبيتها ودعوة الناس لتصديقها، اما نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاءت بالآيات الحسية والعقلية الباقية الى يوم القيامة وهي القرآن، تواجه آياته وفرائده ودرره كل مولود جديد قبل وصوله سن البلوغ وبعده، وتلازمه في كل حياته، تجذبه، الى الإسلام وتدعوه الى الصلاح، والإقرار بالربوبية له سبحانه.
بحث عقائدي
من الآيات ان القرآن لم تصل اليه يد التحريف تبديلاً لكلماته او زيادة او نقيصة، وهل يحتمل ان يحصل تحريف فيه مستقبلاً، الجواب لا، من وجوه:
الأول: ان آيات الحفظ الإلهي تتغشاه على نحو الإستدامة والدوام، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون].
الثاني: تعاهد المسلمين له تلاوة واستنساخاً وحفظاً للمصاحف.
الثالث: أصبحت المحافظة عليه في هذه الأزمنة سهلة من باب الأولوية القطعية بسبب تعدد صيغ التوثيق ووجود ملايين النسخ من المصاحف، وهي في ازدياد مطرد مع الحاجة الدائمة لهذه الزيادة.
الرابع: حفظ المسلمين لآيات وسور القرآن في صدورهم، ففي كل زمان هناك أمة يحفظ أفرادها آيات للقرآن.
الخامس: تلاوته في الصلاة اليومية من قبل عموم المسلمين.
السادس:المؤسسات المتشعبة والمقتبسةفي أنظمتها وعملها من العلوم القرآنية.
السابع: جهات التوثيق ووسائله الحديثة التي هي في ارتقاء متصل.
الثامن: لقد جعل عز وجل المسلمين يتعاهدون القرآن ويسارعون الى حفظه وضبط آياته وليس فيهم من يسعى الى طمس او اخفاء آياته، وهذا من الإعجاز الذي يتصف به القرآن، ولا عبرة بالشاذ النادر.
التاسع: شوق أهل العلم للغوص في بحاره واستخراج الدرر من علومه وآياته، ومواصلة البحث والتحقيق في علومه وبراهينه.
العاشر: حاجة المسلمين والناس جميعاً له، فهولا يكون محفوظاً، على وزن المفعول دائماً، بل هو حافظ للناس في حياتهم وصلاتهم وشرائعهم وأخلاقهم، وسبب لنزول البركات والرزق الكريم.
قوله تعالى [وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]
الوجيه السيد وذو الشرف والشأن، والجمع وجهاء، ويقال ايضاً وجوه القوم وأستعير الوصف من وجه الإنسان لأنه أشرف اعضائه، وفي الاسم فرد اضافي يتضمن معاني الريادة والزعامة والمنزلة الرفيعة، وهذا الوصف انفرد به عيسى وجاءت وجاهته مركبة على نحو طولي في ايام الدنيا والآخرة، وفيه دلالة على اعجاز القرآن باخباره عن أحوال الآخرة وبيان لمسألة عقائدية في المقام وهي أحتواء علوم الغيب الواردة في هذه الآيات لأنباء الآخرة وما فيها من كنوز الوقائع والأسرار ومنها وجود وجاهة في الآخرة ايضاً، واذا كان عيسى أنفرد بهذا الوصف وشموله الدنيا والآخرة، كما ورد وصف موسى بانه وجيه عند ، فهل تنحصر الوجاهة بهما الجواب لا، لأن الوجاهة بلحاظ النبوة فهي شاملة للأنبياء باختيارهم للنبوة بالإضافة الى قاعدة كلية وهو ما عند الأنبياء يكون عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سيد الرسل ووارث الأنبياء.
فحينما يخبر القرآن عن مرتبة وفضل لنبي من الأنبياء فهو ايضاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نعم أمتاز عيسى بالولادة من غير أب، وقد خلق آدم من دون ان ينشأ في رحم، وتلك خصوصية ذكرها القرآن لكل منهما الا انها لاتمنع من أفضلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تتعلق بأصل الخلقة والنشوء، وهي عون ومدد متقدم لرسالته وتثبيت دعائم الإسلام وتوكيد اعجاز القرآن باعتبارها من المقدمات التكوينية لنبوته صلى الله عليه وآله وسلم، ووجاهة عيسى في الدنيا لها جوانب وحيثيات متعددة منها:
الأولى : الشأن والمقام الإجتماعي الذي سببته ولادته من غير أب وكلامه في المهد.
الثانية : نزول الملائكة بالبشارة به والإخبار عن كونه وجيهاً.
الثالثة : نبوته وما جاء به من عند .
الرابعة : وجود الأتباع والحواريين معه.
الخامسة : ما رزقه من المعجزات والبراهين الدالة على نبوته.
السادسة : استجابة دعائه.
السابعة : منزلته عند الناس وهو مع ظهور المعجزات على يديه تراه متواضعاً سائحاً في الأرض ومن عناوين السياحة التعب والعناء والإختلاط مع مختلف طبقات وفئات المجتمع لا سيما الفقراء والضعفاء او المرضى منهم.
وتنقسم الوجاهة في الدنيا الى أقسام:
الأول: وجاهته عند عز وجل وسبق نزول الملائكة بالإخبار عنه.
الثاني: منزلته عند الملائكة واكرامهم له وانتظارهم لأيامه، ووصفهم له بانه بشارة يحمل مضامين الحسن والكمال وفق نواميس السماء، وأعراف الملائكة، لا أقل بالنسبة لموازين منازل بني آدم عندهم.
الثالث: وجاهته عند الناس، ومنزلته وعظيم قدره عندهم، وهذا القسم على شعب هي:
الأولى : وجاهته عند الملوك، سواء ملوك زمانه او الأزمنة اللاحقة، وأنت ترى أقوى وأقسى الملوك يدينون له بالطاعة والإنقياد، وكم أثرت وصاياه وسيرته في الواقع السياسي والإجتماعي وحالت دون نشوب حروب مدمرة بين الأمم والجماعات، كما كانت وسيلة للصلح والوئام.
الثانية : عظيم سلطانه على قلوب الرجال والنساء من المسلمين والنصارى وكل من أطلع على سيرته وأستمع الى أقواله.
الثالثة : نزول الإنجيل على صدره، ونسبة دين النصرانية لرسالته وقيامه بنشره وبناء صرحه العقائدي والإجتماعي والأخلاقي، ومن الآيات الدالة على وجاهته وصدق نبوته ان الذي أعتدوا عليه وأرادوا صلبه وقتله لم يستطيعوا محو الديانة التي جاء بها مع قصر مدة نبوته بل العكس فان الأمر زاد في انتشار رسالته في ربوع الأرض.
الرابعة : ايمان المسلمين بنبوته وتصديقهم بما جاء به.
الخامسة : نزول القرآن بالمعجزات التي جاء بها.
السادسة : خلو ساحته من العيوب، ونزاهته من أدران الدنيا.
السابعة : ان عيسى من الرسل الخمسة اولي العزم بمعنى انه من الأنبياء ثم من الرسل ثم ينفرد هو ونوح وابراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى منزلة بين الخلائق.
اما وجاهة عيسى في الآخرة فهي على شعب منها:
الأول : علو المنزلة بين أهل المحشر.
الثاني : فوزه بالمقام الرفيع الذي أعده للأنبياء والرسل.
الثالث : شفاعته للمؤمنين برسالته في ايام بعثته وبعدها.
الرابع : درجته في الآخرة كرسول من أولي العزم وما ينتظره من الثواب العظيم.
وبما ان عيسى لم يصلب ولم يقتل فهل تشمل وجاهته مدة رفعه الى السماء الى حين البعث والنشور الجواب نعم، لإصالة الإطلاق، والإستصحاب، وهذه المدة بالنسبة لوجاهة عيسى على وجوه:
الأول : انها من أيام الحياة الدنيا.
الثاني : من أيام الآخرة.
الثالث : من أيام البرزخ وهو من عوالم الآخرة.
الرابع : الجامع لهما أي لأيام الدنيا والآخرة.
الخامس : ليس من أيام الدنيا ولا من أيام الآخرة لأنه لم يبق على الأرض مع الناس، ويأكل ويشرب الطعام، بل هو في السماء.
السادس : التفصيل في خصوص افراد وجاهته بين الناس تكون هذه المدة المديدة من السنين من الوجاهة في الدنيا، وبالنسبة لأفراد وجاهته عند وسكان السماء تكون وجاهته من الآخرة.
الجواب هو الأول فتعتبر ايام رفعه الى السماء من ايام الدنيا، خصوصاً وان القدر المتيقن المراد من الدنيا في المقام هي ايام حياة الإنسان مطلقاً في الدنيا، وفي الآية بشارة اخرى توليدية عن هذه البشارة وهي بقاء ذكره الحسن في الدنيا وان أيامها لا تخلو من الموحدين والمسلمين الذين يقدسون الأنبياء ويقرون بنبوته، وفيه اشارة بان الإقرار لا يتحول الى اقرار اجمالي عام بصدق نبوته بل بقاء التفصيل في المضامين الإعجازية لنبوته والآيات التي جاء بها من عند ، بمعنى ان حصول الإرتقاء العلمي في الإستنساخ البشري والتقدم في الطب بزراعة الإعضاء وشفاء المصابين بالأمراض المستعصية لن يؤثر سلباً على الدلالات العقائدية لمعجزاته وعظيم منزلته عند الناس واقرارهم برسالته فبلحاظ الأفراد الطولية لأيام الدنيا تكون وجاهة عيسى على وجوه متعددة هي:
الأول : أيام حياته.
الثاني : فترة نبوته.
الثالث : بعد رفعه الى السماء الى حين البعثة النبوية المباركة.
الرابع : ايام حياته ونبوته وبعد رفعه الى يوم القيامة.
والأصح هو الوجه الأخير، لإصالة اطلاق لفظ الدنيا الوارد في الآية الكريمة والشامل لجميع ايام الحياة الدنيا، وهو أمر ظاهر بالوجدان بالإضافة الى لغة التوثيق القرآنية وهذه الوجاهة من علوم الغيب التي أخبر عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أي ان الآية أكدت بان عيسى سيكون عزيزاً ذا شأن عند الناس في جميع آنات وأيام الحياة الدنيا وفيه بيان لبعض منافع اظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على جانب من علوم الغيب.
اما من جهة الأفراد العرضية لوجاهة عيسى فتكون على صيغ محتملة هي:
الأولى : في بيت المقدس.
الثانية : بيت المقدس وحواليه من الأماكن التي ساح فيها عيسى .
الثالثة : اضافة القرى والأمصار القريبة التي وصل اليها ذكره وشاع فيها خبره.
الرابعة : في جميع أنحاء الأرض.
والأصح هو الوجه الرابع ولا يخلُ به ابتداء وجاهته في بيت المقدس وحواليه اذ ان الشيء يبدأ صغيراً ثم يتسع وينتشر، اذا كان جامعاً لشرائط وأسباب الإنتشار.
ووجاهة عيسى في الدنيا تحتمل من جهة السبب وجوهاً:
الأول : انها من عند وجزء من البشارة.
الثاني : نالها عيسى بجهاده وعمله وسعيه الدؤوب.
الثالث : توجه الناس له وانقيادهم لما جاء به من عند .
الرابع : لإحيائه الموتى وابرائه الأكمه والأبرص بإذن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فالوجاهة فضل منه تعالى وهي جزء من البشارة التي نزل بها الملائكة بمعنى ان الملائكة لم تنزل لتخبر مريم بان عيسى سيكون وجيهاً في الدنيا والآخرة، بل لتبشرها بان سيجعله وجيهاً في الدنيا والآخرة مما يدل على القطع والجزم بحصول الوجاهة له وتهيئة أسبابها ومقدماتها، ومنها الآيات الباهرات التي جرت على يديه، وارشاده واعانته على بذل الوسع في سبيل والإخلاص في اداء الرسالة من غير كلل او ملل، وجعل أفئدة الناس في كل زمان ومكان تميل اليه، ومن وجاهته انه ولد بكلمة منه تعالى ومن غير أب، ولم تقيد وجاهته بجماعة او ملة دون اخرى بل هي شاملة للناس جميعاً، ان خلق عيسى بكلمة منه تعالى دليل على بقائه حياً في اذهان الناس لأن كلمات باقية حية حاضرة.
ومن اصطفاء عيسى ان جعله عز وجل وجيهاً وسيداً في الدنيا، وجعله مباركاً، كما ورد في التنزيل [مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ] ( )، ومن مصاديق بركته ان وجاهته باب لنيل الثواب، وسبب لنزول الرحمة الإلهية، وسبيل للإيمان واستدامة ذكر في الأرض.
لقد أراد عز وجل ان يكون شأن ورفعة ووجاهة عيسى في الدنيا سبباً لإحراز الناس الحسنات والتدبر في خلق وبديع صنعه وقدرته، وامكان خرق العادات والأسباب لما فيه نزول الرحمة والإفاضة والبركة، كما انه مناسبة للفوز بالدرجات في الآخرة، ومن وجوه الإصطفاء الذي خص بها آل ابراهيم وآل عمران الوجاهة والشرف والقدر الرفيع بين الناس وفيه دعوة للناس لإكرام عيسى، وتحذير ونهي عن ايذائه وان الذي يحاربه يخسر الدنيا والآخرة لعمومات عدم اجتماع الضدين، فاذا كان عيسى وجيهاً فالذي يحاربه ويعاديه ليس بوجيه، خصوصاً وان وجاهة عيسى من عند وفي وطلباً لمرضاة .
علم المناسبة
ورد لفظ (الوجيه) مرتين في القرآن، احداهما في عيسى وفي هذه الآية، والأخرى في موسى [لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا] ( )،
وكل من الآيتين يحتمل وجوهاً:
الأول : انحصار الوجاهة بهما.
الثاني : تشمل الرسل الخمسة أولي العزم لأن موسى وعيسى عليهما السلام منهم.
الثالث : جميع الأنبياء والرسل.
الرابع : الوجاهة شاملة للمصطفين من آل ابراهيم وآل عمران.
الخامس : تتغشى الوجاهة المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات جميعاً منذ أيام أبينا آدم والى يوم القيامة.
السادس : انها خاصة بهما وبمن شاء عز وجل.
السابع : شاملة للأنبياء والرسل ومن شاء الله عز وجل ان يكون وجيهاً.
والأصح هو الأخير و واسع كريم.
وهل من تباين بين وجاهة عيسى وموسى عليهما السلام بلحاظ التباين في الفاظ الوجاهة، وان وجاهة عيسى في الدنيا وألآخرة اما وجاهة موسى فقد ذكر القرآن انها عند ، الجواب ليس من تباين بينهما، ولكن مضمون كل آية يفسر الآية الأخرى، وفيه اشارة الى ان الدنيا والآخرة ملك لله تعالى وان وجاهة عيسى من عند وليس من الناس او من الملائكة، وما كان من عنده تعالى فهو ثابت، ولا يضر به طعن المفترين واقاويل الحاسدين وعناد الجاحدين، والجمع بين الآيتين دعوة للسعي في مرضاة عز وجل وطلب العز والتوفيق منه سبحانه وفيه توكيد لعظيم قدرته وسلطانه تعالى وانه يهدي القلوب ويجعل الملوك تنقاد لأنبيائه وتجتهد في العمل بأحكام الشرائع التي جاءوا بها من عند .
وتطرد الآية اليأس والقنوط عن نفوس المسلمين، وتدل بالدلالة الإلتزامية على خسارة وخيبة الذين يحاولون طمس معالم النبوة، وفي الآيتين مجتمعتين ومنفردتين اشارة الى عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند لأنه وارث موسى وعيسى عليهما السلام، وتبين الآية موضوعية منزلة الإمام والمأموم في الآخرة ولزوم اختيار الأنبياء أئمة في الدنيا لنفوز بشفاعتهم وننال من وجاهتهم وبما ان الدار الآخرة دار حساب بلا عمل فلابد ان الوجاهة فيها وان الوجاهة اعم من القضية الشخصية فلابد ان تكون الشفاعة وتكرارها وكثرة مواضيعها من أهم مصاديق الوجاهة يومئذ، وفيه دعوة وحث لإقتفاء أثر الأنبياء والحرص على نيل شفاعتهم.
قوله تعالى [وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ]
لقد تفضل سبحانه بانزال الملائكة بالبشارة على مريم، ومن كرمه تعالى تعدد مضامين ووجوه البشارة مع ان موضوعها واحد وهو عيسى ، فمضامين البشارة هي:
الأول : ولادة المسيح وكثرة المعاني القدسية لهذا اللفظ المبارك الذي لم يطلق الا على السيد المسيح.
الثاني : تسميته عيسى وهذه التسمية سماوية جاءت الملائكة تحملها مستبشرة.
الثالث : انه ابن مريم وهذه النسبة كما هي تشريف لمريم فانها عز وشرف لعيسى نفسه ولإصطفاء امه وعظيم منزلتها عند ولأنه ليس من أب يشاركها في ولادة هذا النبي الرسول.
الرابع : شرفه وشأنه ومقامه الرفيع في الدنيا عند الملوك والأتباع والمسلمين والى يوم القيامة.
الخامس : منزلته عند في الدنيا والآخرة، ومقام الشفاعة الذي يرزقه يوم القيامة.
السادس : انه من الذين ينالون قرب الدرجة والمنزلة عند ، بالإضافة الى الخصائص الكريمة التي تذكرها الآيات التالية.
وفي الآية بيان لمراتب الثواب التي ينالها عيسى وان عز وجل لم يترك نصرته واعانته في يوم من ايام حياته كما ورد في العناية واللطف الإلهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اذ قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( )، ومع افادة اطلاق الوجاهة لجميع آنات الدنيا والآخرة فان الآية اختتمت بوصف عيسى بانه من المقربين مما يدل على المغايرة بين الوجاهة والقرب والتعدد، والإثنينية بمعنى ان القرب درجة وكرامة اضافية مستقلة في موازين الثواب والفضل الإلهي على العباد.
وفي النسبة والمقارنة بينهما وجوه:
الأول : انهما بعرض واحد، فالوجاهة في النشأتين بدرجة واحدة مع درجة القرب من .
الثاني : هما بمعنى واحد والنسبة بينهما التساوي وان الوجاهة تعني القرب من .
الثالث : القرب أعلى مرتبة وبلوغ درجته أهم وأعظم من الوجاهة.
الرابع : عدم التعارض بينهما وان تعدد الموضوع، فالوجاهة في أمور وشأن كريم، والقرب في مواضيع ومنازل أخرى من الكرامة والرفعة.
والصحيح هو الأخير فكل واحدة منهما منزلة وشأن خاص عند ، وحرف الجر (من) في قوله تعالى [وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ] يفيد التبعيض والإشارة الى قاعدة كلية وهي تعدد اشخاص المقربين، وان القرب لا ينحصر بعيسى بل يشمل غيره من الأنبياء والشهداء ومن شاء من الأولياء والصالحين، وورد لفظ القرب على نحو الإطلاق في الذات والوصف والمتعلق، والمراد القرب من رحمة واستجابته وفضله واحسانه، بالإضافة الى المنزل الكريم في الجنة العالية.
علم المناسبة
ورد لفظ المقربين ثمان مرات في القرآن، أربعة بصيغة الرفع وأخرى مثلها بالجر، وباستثناء اثنتين وردتا بخصوص السحرة وفرعون، فان الستة الأخرى جاءت في مدح المقربين من الملائكة وعباد الصالحين الذين يتعلق موضوع قربهم في الآخرة وعالم الأجر والثواب، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ]( )، أي الذين بادروا الى طاعة وأنتهجوا مسالك للإيمان أضاؤوا دروب الجهاد للناس فأقتفى المؤمنون آثارهم، وقد أخبر القرآن بأن عددهم ليس قليلاً وانهم [ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ*وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ] ( )، وهذه الكثرة فضل منه تعالى ولا تعني انتفاء الخصوصية للأنبياء من بينهم، فمجيء وصف القرب خاصاً بعيسى وعلى نحو المدح والثناء والبشارة يدل على ان القرب منه تعالى من أعظم النعم وأشرف المنازل وانه من الكلي المشكك وله مراتب متفاوتة، وهو ظاهر بلحاظ ثلاث امارات:
الأولى: ارادة معنى المكان في القرب على نحو التشبيه، و عز وجل لا يحده مكان، وكل الأشياء حاضرة عنده.
الثانية: تعدد مراتب الأجر والثواب.
الثالثة: ثبوت تقدم الأنبياء والرسل رتبة في الأجر والثواب، ومن يشاء عز وجل من عباده كالشهداء.
لقد جمعت صفة القرب في الآية بين الأنبياء والصالحين من جهة وبين خاصة الملائكة، كما قال تعالى [لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ] ( )، في اشارة الى التقاء المؤمنين الصالحين مع الملائكة في مرتبة الكمالات والقرب، فبعد ان سأل الملائكة عن خلافة الإنسان في الأرض مع افساده فيها، جاءت الآيات لتخبر بان طائفة من الناس ستكون مع الملائكة في ذات المنزلة والمقام الرفيع والقرب وعلو الشأن.
والآية أعلاه هي الآية الوحيدة التي ورد فيها وصف فرقة من الملائكة بالمقربين وجاء ذكر عيسى معهم في نفس الآية وبجامع مشترك هو العبودية لله تعالى في تنبيه وتحذير من اتخاذه او الملائكة ارباباً، ودعوة للناس للإقتداء بالرسول البشارة الذي تغشت انواره أقطار الأرض وآفاق السماء.
نظرية جديدة “انشطار النعم”
لقد أنعم على الناس بنعم كثيرة، وكل نعمة تتفرع منها نعم عديدة وتنشطر الى نعم متعددة من وجوه:
الأول : ذات النعمة مركبة، فمن عظيم احسانه سبحانه ان نعمه ليست بسيطة بل هي مركبة، وكل جزء منها نعمة، فتكون من عدة نعم.
الثاني : ما يترشح عن النعمة الإلهية من النعم الإضافية.
الثالث : ما يتعقبها من النعم.
الرابع : عدم انحصار النعم الإلهية بالعطاء والزيادة في الرزق، بل تشمل النعم التكاليف الإلهية، فالصلاة نعمة لما فيها من الإمتثال والطاعة وتهذيب الأخلاق، والزكاة نعمة لما فيها من النماء والبركة واعانة الفقراء والمحتاجين والصيام نعمة لأنه سبب للصحة ونيل المراتب العالية في الآخرة.
الخامس : عدم انحصار النعم الإلهية بأهل زمان مخصوص بل تنبسط على الأزمنة اللاحقة، والأجيال المتعاقبة.
السادس : النعم الإلهية عون على أداء التكاليف، والإنتفاع الأمثل من الدنيا.
السابع : فيها طرد للكدورات الظلمانية وأسباب اليأس والقنوط.
الثامن : تذكر النعم الإلهية بوجوب عبادته وشكره تعالى، فتكون مقدمة ومناسبة للأجر والثواب.
التاسع : تسد النعم حاجة الإنسان وتجعل عنده زيادة وفضلاً سواء في المؤونة او العمل او الوقت لينتفع من النعم الأخرى.
فالنعم الإلهية لا تنحصر بموضوعها بل تكون سبباً لحصول نِعــــــم
أخرى تتولد وتتفرع عنها ويمكن تسمية هذه القاعدة بقاعدة “انشطار النعم”.
ووفق هذه القاعدة يمكن تقسيم النعم الى قسمين:
الأول : النعم الأصلية.
الثاني : النعم الفرعية.
فتظهر في هذه الآيات الإفاضات والهبات التي خص بها آل ابراهيم وآل عمران منها التي جاءت بخصوص مريم، والتي تتعلق بعيسى ، وكل نعمة هي فضل على الناس جميعاً وتتفرع عنها نعم متعددة في كل ميدان من ميادين الدنيا بالإضافة الى موضوعيتها وأثرها في النشأة الآخرة.
الإعراب واللغة
ويكلم الناس: الواو: عاطفة، يكلم: فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير تقديره هو يعود لعيسى والجملة معطوفة على وجيهاً فهي في محل حال، وان جاءت الجملة فعلية، والتقدير ومكلماً الناس، قال الفراء: والعرب تضع يفعل في موضع الفاعل اذا كانا معطوفين مجتمعين في الكلام.
الناس: مفعول به منصوب، في المهد: جار ومجرور،
كهلاً: معطوف على المهد، أي ويكلم الناس وهو كهل.
من الصالحين: جار ومجرور معطوف على وجيهاً.
والمهد الموضع والفراش المعد للرضيع.
في سياق الآيات
افتتحت الآية بحرف العطف (الواو) الأمر الذي يدل على اتصالها بما قبلها، وهو أمر ظاهر لأن الآية في بيان صفات عيسى التي نزل الملائكة مبشرين بها مريم.
وبينما جاءت الآية السابقة بالبشارة بعيسى وذكر أسمه وما سيكون له من الشأن والمقام الرفيع، جاءت هذه الآية بذكر آية اعجازية ملازمة له من ساعة ولادته، وهو أمر يمكن للإنسان ان يصدقه كاخبار مستقبلي ولأنه جاء ببشارة الملائكة وعلى التي أصطفاها مما يدل على مكانة مريم في منازل الإيمان والتقوى، وسيأتي في الآيةالتالية انها لم تسأل الا عن كيفية علوق الولد باعتبار انها لم تتزوج مما يدل على تصديقها بالخصائص الإعجازية التي سيكون عليها عيسى تلك التي ذكرتها الملائكة في بشارتها.
ومن إعجاز القرآن أن إخبار الملائكة عن ولادة عيسى إتصف بأمور:
الأول : إنه بشارة تقوم الملائكة بنقلها إلى مريم، وهو شرف عظيم لعيسى وأمه بأن تحمل الملائكة خبر ولادته من عند الله عز وجل.
الثاني : نقل خبر ولادة عيسى عليه السلام مشافهة من الملائكة.
الثالث : عيسى عليه السلام كلمة من عند الله لأنه منشأ في الرحم بكلمة من الله، وهو مظهر لمشيئة الله بقوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، خلافاً للأسباب وقانون العلة والمعلول، ولبيان قدرة الله على خوارق الأقدار حتى بخصوص الأرحام والولادة.
الرابع : مجئ الآية السابقة بثلاثة أسماء لعيسى عليه السلام متعاقبة وهي:
الأول : المسيح.
الثاني : عيسى.
الثالث : ابن مريم.
الخامس : تقدم ذكر اسم المسيح لإرادة أنه مسح بالبركة وطهره من المعاصي والذنوب، ولا فادة جهاده في سبيل الله بالسياحة في الأرض.
السادس : البشارة المتكررة عن عيسى وأنه وجيهاً في الدنيا بالنبوة والرسالة والمنزلة الرفيعة في الدنيا، وتجلت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق النصارة والمسلمين برسالته، ونزول القرآن بهذه الآيات وتلاقف أيدي المسلمين له إلى يوم القيامة.
السابع : وجاهة عيسى عليه السلام في الآخرة، ونيله مرتبة الشفاعة، وحسن الأقامة للذين آمنوا به وصدقوا برسالته البشارات التي جاء بها.
بحث قرآني
اذا كانت الآيتان تجتمعان في ذكر صفات عيسى فلماذا لم يكونا آية واحدة، وهل الفصل بينهما من النبي او الصحابة الذين كتبوا القرآن ام من عند ، الجواب ان الفصل منه تعالى وبأمر جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولابد للفصل بينهما مع اتحادهما في الموضوع ونظمه من دلالات عقائدية منها:
الأولى : التباين بين البشارات الواردة في الآية السابقة وهذه الآية، فبينما جاءت الآية السابقة بذكر لقب واسم عيسى ووجاهته وقربه من رحمته تعالى، جاءت هذه الآية في بيان صفة عيسى الجهادية في المجتمع وبين الناس.
الثانية : جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الفعلية، وهي اشارة للتجديد والإنتقال الى صيغة بلاغية أخرى، علماً بان الإنتقال البلاغي مقدمة ومظهر كريم لمدلولات كلامية وشرعية.
الثالثة : للتوكيد على موضوعية مضامين هذه الآية واعتبارها على نحو مستقل وانها آية بذاتها.
وهل لهذا التقسيم من اثر ساعة نزول الملائكة، وان الملائكة ومريم ملتفتون الى هذا التقسيم واسبابه ودلالاته، الجواب نعم وهو من اعجاز القرآن وفيه دعوة للزوم استقراء الدروس والعبر من فواصل الآيات وموضع انتهاء الآية وبداية أخرى سواء كانتا متحدتين في الموضوع والحكم او في احدهما او متغايرين فيهما، وتأتي الآية التالية لتتضمن مناجاة مريم وتفضله تعالى باجابتها، وتعود التي بعدها في ذكر صفات كريمة أخرى لعيسى .
اعجاز الآية
في الآية اعجاز متعدد، كما ان موضوعها التحدي والبرهان القاطع على صدق نبوة عيسى وقدرته على الكلام وهو في المهد، وتكليمه للناس اعجاز متجدد الى جانب آية الكلام الباهرة اذ ان الصبي حينما يبلغ الخامسة او السادسة من العمر يكون قادراً على الكلام ولكنه يعجز عن مخاطبة الناس وحينما يبدأ بمخاطبتهم يبدأ بجواب مقتضب غالباً ما يكون نعم أو لا، اما عيسى فهو في المهد يبدأ الناس بالكلام وبما يقيم الحجة على صدق نبوته ويدعوهم الى التصديق به وتتصف الآية بقلة كلماتها، وكل كلمة منها موضوع اعجازي مستقل وبرهان اضافي بضمه الى الكلمات الأخرى، مما يؤكد عظيم قدرته تعالى ولطفه ورحمته بالناس ببعث عيسى وملازمة الآيات له من ساعة ولادته.
الآية سلاح
لقد أراد عز وجل لإنبيائه العز والمقام الرفيع في الدنيا والآخرة، ولما كان عيسى ليس له اب فقد رزقه عز وجل ما يكون واقية له من الناس وسبباً لإتباعه ومناسبة للإلتفات الى ما يقوله وما يفعله فليس من السهل ان ينقاد الناس الى انسان لم يعرف أبوه، فكيف بمن عرف بان امه لم ينكحها رجل، فجاءت الآيات لبيان القدرة الإلهية في خلقه والأسرار التي تتضمنها ولادته، والتي يتجلى شطر منها ساعة الولادة.
لقد كانت الآية والبرهان الدال على الإعجاز في خلقه ضرورة عقائدية واجتماعية وأخلاقية ساعة الولادة، فتفضل سبحانه وجعل الآية جارية على لسان عيسى نفسه وبأمر خارق للعادة منذ ان هبط الإنسان الى الأرض والى يومنا هذا، وهل في الآية بشارة واخبار عن امكان الإستنساخ البشري والإرتقاء العلمي بما يجعل الصبي يتكلم وهو في مرحلة المهد، وفي السنتين الأولى والثانية من حياته، لا يبعد هذا، وهو أمر لا يتعارض مع آية عيسى التي جاءت عن اعجاز بلحاظ الزمان بل انه توكيد لآية عيسى، التي تبقى تنفرد بخصوصيات في كيفية ومواضيع كلامه للناس ودعوتهم للتوحيد ولزوم نبذ الشرك.
ويمكن تسمية هذه الآية الكريمة آية (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) ولم يرد لفظ (يكلم) في القرآن إلا في هذه الآية.
مفهوم الآية
لم يولد عيسى كباقي الصبيان، فهو حالة حصلت لمرة واحدة في تأريخ الدنيا، فكما ان آدم ليس له شبيه في كيفية خلقه، فكذا عيسى في تكونه ونشوئه وحينما نفخ في آدم من روحه، عطس ثم تكلم فكذا عيسى فانه تكلم في المهد بعد ان وضعته مريم عليها السلام، في آية تكوينية ملازمة للخلق الخارق للطبيعة والعادة، وفي الآية مسائل:
الأولى : كلام عيسى في المهد.
الثانية : تكليمه للناس والأهلية لهذا التكلم وهو لم يزل في المهد.
الثالثة : سبق الكلام والنطق على الحركة والمشي وما له من دلالات في باب الدعوة الى .
الرابعة : تكليمه الناس كهلاً، وكل كهل يكلم الناس، وذكره في البشارة يدل على وجود اعجاز وخصوصية فيه.
الخامسة : التوكيد على صفة الصلاح عند عيسى لبعث الطمأنينة في نفس مريم، وللإشارة بان تكليمه الناس في كهولته يتضمن اعجازاً ولابد ان الملائكة تعلم مضامينه، وتبين الآية ما سيكون لعيسى من الشأن العظيم بلحاظ كلامه في المهد ومع عموم الناس والكثرة منهم.
السادسة : لابد من آيات وأسرار ومضامين نافعة في كلام عيسى ذاتاً وموضوعاً وأواناً.
افاضات الآية
بعد سجود الملائكة لآدم حرصوا على دوام الصلة معه ومع الصالحين من ذريته لأنهم خلفاء الأرض، ويبين موضوع البشارة الصلة الدائمة بين سكان الأرض وسكان السماء وتظهر وظائف الملائكة وكيف ان ما يحصل في الأرض من الوقائع تعلمه الملائكة قبل حدوثه، تجلى في هذه الآيات للبشارة لمريم بهذا الحدث العظيم الذي يغير مجرى التأريخ الإنساني في باب العقائد والأخلاق والصلات بين الأمم والجماعات.
لقد استبشر الملائكة ببعثة عيسى وقرب زمانها لأنها سبب لإيمان الكثير من الناس ومقدمة لنزول القرآن وتوطئة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما انها مناسبة كريمة لإصلاح الناس ليس في زمان عيسى فحسب بل في كل زمان ومكان الى يوم القيامة، ولو جرى تحقيق عام ومتعدد الوجوه لتبين وجود آثار مباركة لبعثة عيسى في الميادين العقائدية والإجتماعية والعلمية والمفاهيم الأخلاقية ونحوها مما يدخل في ملاكات الأعمال والحياة الإنسانية اليومية.
لذا أرادت الملائكة الفوز بالتبشير بعيسى وان يكونوا اول من ينطق باسمه في الأرض ويذكر معالم الإعجاز في حياته وبعثته، فمن وجوه الغيب ما في الآيات من الأخبار عن نزول الملائكة بالبشارة، واصطفاء مريم باخبارها عن أحوالها، وولادة عيسى قبل حصول النفخ والحمل، وبيان جانب من صلة أهل السماء بأهل الأرض ومواطن الرضا والإستبشار التي تجمع بينهم والتي تتقوم باعلاء كلمة والجهاد في سبيله تعالى.
التفسير
قوله تعالى [وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ]
لقد جعل عز وجل الخلائق مظهراً لجلاله وجماله وبديع صفاته، وشاهداً على ربوبيته فترى الشمس والقمر يسيران وفق نظام كوني دقيق تعجز العقول عن درك ماهية القوة المسخرة لحفظه وتعاهد دقته وضبطه، ومع هذا فانهما يتعرضان للكسوف والخسوف، وهو من وسائل الحفظ والقوة والتسخير لمنع الإفتتان بهما والأخبار عن كونهما مخلوقين لله تعالى خاضعين لإرادته، ولا يجوز اتخاذهما الهين، وبالنسبة لخلق الإنسان اراد عز وجل ان يري الناس آية في قدرته وعظيم سلطانه، ولإكرامه للإنسان جاءت الآية على نحو المعجزة والتشريف بان ولد عيسى خلاف النواميس والعلل المادية المتعارفة والتي يتسالم الناس جميعاً على استحالة تجاوزها فالوطئ والنكاح جزء علة ضروري لتكون الولد في رحم المرأة.
فجاءت ولادة عيسى خارقة لقوانين العلة والمعلول فمع انعدام المقتضي ووجود المانع ولد يحيى من غير ان يصل ماء الرجل الى رحم أمه، ولابد لهذا المولود من آيات متفرعة عن الكيفية السماوية لولادته فهو:
الأول : ملكوتي انساني، وسماوي أرضي، اجتمعت به خصائص الإبداع.
فترشح عن هذا الإجتماع كلامه في المهد، أي ان آية كلامه في المهد لم تأتٍ لإثبات الحجة ومنع الطعن بمريم فقط، بل هي مسألة يجتمع فيها الأمران التكويني والتشريعي، فهو من عالم الأمر والخلق ولابد للمولود بهذه الكيفية وفق المشيئة الإلهية من الكلام حال الخلق والخروج الى عالم الدنيا.
فقيد (في المهد) جاء للإشارة الى قدرة وأهلية عيسى للكلام بعد الولادة باذنه ومشيئته تعالى لأنه ولد بالنفخ من روح وليس عن طريق الأسباب المادية الإنسانية المتعارفة، وهو جزء من الماهية التكوينية لخلقه ومادة نشوئه.
وجاء الألف واللام في (الناس) لإفادة الجنس والإستغراق، ومن الذين يكلمهم:
الأول : أمه مريم ذاتها لأنها من أفراد الناس وأقربهم اليه.
الثاني : المسلمون من بني اسرائيل.
الثالث : أهل الجحود والشك والريب.
الرابع : الرهبان وأهل العلم.
وجاءت الآية بذكر جنس الكلام من غير ذكر لتفصيله وموضوعاته، وفيه وجوه:
الأول : اظهار الإعجاز بالقدرة على النطق والكلام وهو في الفراش الذي اعد له عند ولادته ومدة الرضاعة.
الثاني : في كلامه بيان ومضامين ذات معانِ تتعلق بولادته ونبوته.
الثالث : حصانة مريم بدنياً وعرضاً ومنزلة اجتماعية، فكلامه في المهد مانع شرعي وأخلاقي وعقلي من قذفها والطعن بها.
الرابع : دعوة بني اسرائيل والناس الى الإيمان وتعاهد مبادئ التوحيد.
الخامس : مخاطبة الناس بما يدل على انه يسمع الكلام ويعيه وهو قادر على الرد عليه بما يناسبه ويلائمه من الجواب من غير تعرض لمسألة رسالته، لأن القدر المتيقن من وظيفته حينئذ اثبات طهارة أمه، والإعجاز في ولادته.
السادس : الكلام في المهد معجزة بذاته، وهو مقدمة وتوطئة لإعلان نبوته ومناسبة لتصديقه.
وهل يعتبر الكلام في المهد من أجزاء ومصاديق النبوة الجواب لا، الا مع القرينة الدالة عليه، وقد تجلت بآية اعجازية وكانت من أول كلامه مع الناس ونطق بها ابتداء، فبدل الخوف والفزع امتلأت مريم ساعة ولادته عزاً وفخراً ووهبها قوة تستطيع معها الجهاد والصبر والإجهار بعظيم نعمته تعالى بولادة عيسى.
فجاءت الى قومها تحمله على نحو ظاهر وحاولوا الطعن بها على نحو الإستفهام الإنكاري والتعريض [مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا]( )، لم تجبهم على تعديهم، بل إكتفت بالإشارة اليه ليقوم بالذب عنها وتبرئة ساحتها، فكان من ساعة ولادته ناصراً للمظلوم مبيناً للحق وليعلن نبوته في اول كلامه مع الناس بعد ان حرص على تقديم الإقرار بالعبودية والخضوع لله تعالى [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ( )، أي انه لم يقل يجعلني بصيغة المضارع، بل أكد حصول بعثته والظاهر انها ملازمة لحال ولادته ووضعه في هبة الهية لأهل الأرض جميعاً بقرينة ان كلامه في المهد وحي، “وقيل كان ذلك على التأسيس والإرهاص لنبوته، ونسبه الطبرسي لابن الأخشيد”( ).
والأصح ان كلامه مع الناس مستمر لم ينحصر بحال المهد، بل جاء المهد كمثال أمثل ولإقامة البرهان، فيشمل الكلام مراحل حياة الصبا كالحضانة من باب الأولوية القطعية واتصال الحجة.
لقد كانت ولادة عيسى آية دائمة تدعو الى الإقرار بعظيم قدرته سبحانه وتبعث الأمل في النفوس لرجاء رحمته تعالى خارج قوانين العلة والمعلول والسببية فلا يخضع الإنسان للأسباب القاهرة في المرض وقلة الرزق والإبتلاء الطارئ والمستديم ولا يستسلم للقواعد الكلية في الحياة اليومية بل يتطلع الى نزول رحمته تعالى بما يخترق هذه القوانين والقواعد ويفتح أبواب الأمل والنجاة والمندوحة والسعة وصرف البلاء بآية منه تعالى، وهو دعوة متجددة للإيمان بالأنبياء.
وكلام عيسى في المهد آية حسية تدرك بالوجدان ولا يستطيع الشك والريب الوصول اليها، وجاء القرآن ليجعل منها آية حسية عقلية خالدة الى يوم القيامة يتلوها المسلمون في صلاتهم اليومية، وفيها التزام عملي نوعي من المسلمين بالإيمان بالأنبياء والرسل، وهو باب من الود مفتوح مع النصارى ومانع من طغيان النفس الغضبية والشهوية، وفيه دلالة على وجود جامع مشترك بين الملل السماوية وضع صرحه الأنبياء بفضل وعون ومدد منه تعالى، فمن منافع خلق عيسى من غير أب ايجاد سبل من الوفاق بين المليين، والإخبار عن لزوم الإشتراك في مواجهة ظاهر الشرك والضلالة في الأرض.
وقيل المراد من المهد في الآية حجر أمه، وليس من تعارض بينه وبين المهد وبينهما عموم وخصوص مطلق، فحجر الأم من مصاديق المهد ومدة الرضاعة، لذا ذكرت الآية المهد لوجوه:
الأول : افادة المعنى الأعم وان عيسى يتكلم مع الناس وهو في حجر أمه وعندما يكون في المهد، وهي الى جواره او مشغولة في شؤونها وعبادتها.
الثاني : فيه دليل على استقلاله في مخاطبة الناس وانه لا يحتاج ان تكون امه بجواره فصحيح ان وجودها الى جانبه عنوان القوة والسكينة، الا ان الآية أخبرت عن اهليته لتولي مخاطبة الآخرين ووظائفها على نحو الإنفراد.
الثالث : امتلاك عيسى الأهلية الشخصية على مواجهة الوقائع والأحداث منذ ساعة ولادته.
الرابع : اعتبار المهد موضع اشعاع لنبوته والمقام الذي تبدأ منه رحلة الرسالة والدعوة الى تعالى.
الخامس : في الآية شاهد على حاجة الناس الآنية لنبوة عيسى وانها ضرورة بالذات والعرض، فولادة عيسى من غير اب ودعوته الناس للتوحيد وهو في المهد، حرب على الكفر، وقد تكون في أثرها اقوى من السيف لأنها خطاب مباشر للعقول من غير واسطة واستحضار ما يحتاج الى التدبر والتفكر.
وهو حجة ومقدمة لإستعمال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيف ضد من أصر على الكفر والشرك وأبى الإقرار بالتوحيد والربوبية لله تعالى، ومع هذا فان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يلجأ الى السيف الا بعد اقامة الحجة والبرهان وظهور الآيات الباهرات الدالة على نبوته، واتباع صيغ الإنذار والتخويف.
وقد استعمل السيف من قبل الإمبراطور كونستانتين قبل الإسلام بأكثر من مائتي سنة لحمل الناس على دخول الديانة المسيحية بالقوة، فأعتنق الكثير منهم النصرانية ومعهم أفكارهم الوثنية المتوارثة، وجاء الإسلام للتدارك ومنع الغلو، وليكون القرآن برزخاً دون تسرب الشرك الظاهر والخفي الى احكام ومجتمعات الإسلام.
ولقد بشر عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد ذكره في الإنجيل، وجاء القرآن ليثبت والى الأبد الإعجاز في ولادة عيسى بوثائق سماوية، وشواهد ملكوتية تكون وسيلة جذب للإسلام فقد خاطب عيسى الناس وهو في المهد، لدعوتهم الى التوحيد وهذه الآيات من علم الغيب تخاطب العقول وتدعوها للمبادرة الى الإسلام والتسليم بما جاء به عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند لتظهر لنا آيات بينات بين ثنايا قصص الأنبياء التي جاءت في القرآن وان كل قصة منها مدرسة للهداية، وسبيل للرشاد، وحرز وواقية للمسلمين من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم الى يوم الدين، وفيها تنمية للمدارك العقلية وهي باب للإستنباط والإستنتاج النافع ودعوة للإرتقاء العلمي والتدبر بالآيات ومظاهر القدرة الإلهية في عالمي الأمر والخلق.
وهل يمكن قراءة الآية بمعنى آخر اضافي وهو تكليم عيسى للإطفال والرضع، وان قيد (في المهد) متعلق بالناس وشطر منهم وهم الأطفال أي يكلم عيسى الطفل الذي في المهد، خصوصاً وان لفظ (الناس) عام يشمل الصغير والكبير، الجواب لا، لأن الآية بصدد بيان معجزة عيسى ساعة ولادته، ولما ورد من الآيات التي تؤكد كلامه وهو في المهد ولأن الكبار يلاعبون الأطفال في المهد، والطفل ينظر او يبتسم فلا حجة فيه.
وبقرينة عطف (كهلا) على في المهد، بالإضافة الى النصوص والأخبار، تدل على ارادة عيسى وهو في المهد وهل كان عيسى يكلم الأطفال وهم في المهد وسن الرضاعة وانهم يكلمونه، الجواب لادليل عليه ولم يرد فيه خبر، بالإضافة الى ان الكلام في المهد معجزة خاصة لعيسى فلم يشركه بها غيره.
والقدر المتيقن من لفظ (الناس) الوارد في الآية هو عامة الناس والذين يفقهون الكلام ويتدبرون معانيه، وقد وردت آيات قرآنية عديدة بلفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] ومنها ما تضمن الإنذار والوعيد والتخويف، وجاءتهم آية عيسى حسية متقدمة في زمانها وفيها دعوة الى التوحيد والإيمان، وكلام عيسى في المهد رحمة منه تعالى، لبني اسرائيل ونعمة وفضل عظيم منه تعالى، وهو من مصاديق قوله تعالى [اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] ( ).
فبعد ان جاءهم موسى بالآيات البينات وكانت عصاه آية حاضرة تتولد وتتشعب عنها آيات عديدة، جاءت آية ولادة عيسى وتتفرع عنها آيات عديدة بالكلام مع الناس فكل كلمة تخرج من عيسى وهو في المهد آية مستقلة وحجة وبرهان قائم بذاته ودعوة للإيمان والتصديق بنبوته، وهذا من فضله ورحمته تعالى على بني اسرائيل وانتفع منها من آمن بعيسى ونبوته ثم الذين صدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد عصا موسى وكلام عيسى في المهد جاء القرآن وهو جامع لأكثر من ستة آلاف آية وكل آية مدرسة عقلية وعلمية وحسية تؤكد لزوم عبادة والتصديق بالنبوات.
بحث تأريخي
ذكرت بعض الكتب اليهودية والمسيحية ان ولادة عيسى كانت سنة (4004) من عمر الدنيا في عهد القنصلية الثانية عشرة لأغسطس امبراطور الرومان، في قرية بيت لحم من قرى فلسطين ولا زالت على أسمها التأريخي الى هذا الحين وأصبحت مدينة كبيرة وورد في الكتب المسيحية ان أمه هربت به برفقة يوسف النجار الى مصر لينجوا من المذابح في ايام حكم (هيرود) الروماني، وعندما رجعا الى ناصرة الجليل خوفاً عليه من بطش (ارشيلاوس) وجاءت امه الى بيت المقدس وهو في الثانية عشرة من عمره للإحتفال بعيد الفصح فوقف يجادل أحبار اليهود في أمور الدين ويقيم الحجة بالبرهان والدليل.
وفي ايام الأمبراطور (تيبير) اقام يوحنا المعمدان وهو النبي يحيى بن زكريا عليهما السلام، على شواطئ نهر الأردن وهو يعظ الناس ويحثهم على التوبة ويعمدهم ويبشرهم بقرب ظهور المسيح فقصده عيسى ليعمده، فعمده وبينما عيسى خارج من النهر واذا بروح القدس نزل عليه في صورة حمامة، حينئذ أعلن يوحنا ان عيسى هو المسيح الموعود به والمذكور في الكتب المقدسة ويتطلع اليهود الى ظهوره.
فلما علم عيسى قصد الفلاة فصام أربعين يوماً ليتطهر ويخلص من سلطة الشيطان، فعاد وأخذ يطوف بين اليهود وفي الجليل ليخبرهم انه المسيح المنتظر ونزول العفو الإلهي على المذنبين وتظهر الآيات الباهرات على يديه كاحياء الأكمه والأبرص واخراج الجنة ـ بكسر الجيم- من أجساد الملموسين واحياء الموتى، واتبعه جماعة من الناس فأختار منهم اثني عشر تلميذاً ليكونوا دعاة له في الأقطار.
وفي السنة الرابعة من رسالته حضر الى بيت المقدس، وهي آخر مرة يحضر فيها وأدى الصلاة فيه هو وتلامذته وكانت دعوته قد أثارت ضده أحبار اليهود فأخذوه وقادوه الى كبير أحبارهم ثم الى (بونسبيلات) محافظ البلاد من قبل الرومان، فحوكم عيسى وحكم عليه بالجلد والتعذيب والصلب وان الحكم نفذ عليه، ولما مات أكفهرت السماء وزلزلت الأرض وأنشق حجاب الهيكل وفتحت القبور، وبعد موته بثلاثة أيام حيي عيسى وظهر لتلاميذه ليعطيهم آخر التعليمات.
وجاء القرآن بالحق وأخبر بان عيسى نطق بمفاهيم النبوة وهو في المهد، واقام الحجة عليهم، وظاهر الآيات انه يعرف نبوته منذ أول ايام حياته، ولا تعارض بين هذه المعرفة الشخصية وبين اوان اعلان النبوة وتأخره.
ولقد منع القرآن من الغلو والمبالغة في شخص عيسى وحياته الخاصة، وحال دون اللبس الذي يؤدي الى تشويه قصص الأنبياء ويكون حاجباً دون الإنتفاع الأمثل من قصصهم وسنن حياتهم العامة والخاصة.
لقد دعا عيسى الى الزهد والتجرد عن الدنيا وزينتها واجتناب الثروة والسعي لجمع الأموال والإنقطاع الى ، وجاء الإسلام بالجامع المبارك لحاجات الروح والبدن وفق قوانين الوسط ولتكون الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وولادة عيسى من مصاديق علم الغيب التي تلقى المسلمون اخبارها من السماء وبذات الطريق المبارك وهم الملائكة الذين جاءوا بالبشارة الى مريم بولادته، ليبقى المسلمون علماء بما رزقهم وفي غنى عن الآخرين في معرفة احوال الأنبياء.
وقد ورد لفظ المهد خاصاً بموضع الصبي ثلاث مرات في القرآن كلها تتعلق بعيسى ، فمن كرامته ان انفرد بذكره القرآن في حال المهد وبموضوع اعجازي وهو كلامه ونطقه وهو في المهد.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً فاذا ذكرت هذه الآية موضوع الإعجاز وهو كلامه في المهد جاءت آية اخرى في القرآن، تبين موضوع الكلام وهو اقراره بالعبودية لله واعلانه النبوة [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( )، وليس هذا الكلام من باب الحصر، بل هو من باب المثال الأمثل لقرائن منها:
الأول :مجيء الفعل بصيغة المضارع (تكلم) وهو يفيد التجدد والتعدد.
الثاني : لفظ الناس الذي يدل على اسم الجنس والكثرة.
الثالث : الكلام في مقام اقامة الحجة والبرهان فلابد انه يتكرر مع الجماعات لدرء شرهم وأذاهم ولدعوتهم للإيمان والتصديق برسالته.
وتدخل مريم ضمن الناس أي انه يكلمها ايضاً بما يدخل الغبطة والبهجة على نفسها ويدرء عنها أسباب الخوف والفزع.
قوله تعالى [وَكَهْلاً]
بعد ان أخبرت الآية عن البشارة بقيام عيسى بمخاطبة الناس وهو في المهد باذن ومشيئة منه تعالى، مع الإقرار عقلاً وشرعاً بانعدام القدرة عند الإنسان في تلك الحال على الحركة والنظر والتمييز بين الأشياء جاءت بأمر ثان وهو كلامه مع الناس وهو في الكهولة، والعطف بينهما ليس لغوياً فقط بل بالمعنى والدلالة أي ان كلامه في تلك الحال والمرحلة من العمر انما هو نوع اعجاز.
وفيه بشارة اضافية لمريم عليها السلام وهي بقاء عيسى حياً الى حين الكهولة مع الظهور التلقائي للخشية عليه واستحواذ الخوف على النفس من الإيقاع به من قبل أهل الحسد والدنيا عندما يتكلم في المهد خصوصاً وان الفوضى كانت تنتشر في تلك الديار بين الحين والآخر ويكثر القتل في الناس أي هناك آفتان وخطران يهددان عيسى أحدهما نوعي والآخر شخصي، ولكن الملائكة جاءت بالبشارة ببقائه الى حال الكهولة وانه يتقلب في الأحوال من الصبا الى الكهولة وهذه البشارة ليست مجردة، ووظيفة الملائكة ليست منحصرة بموضوع نقلها، فقد يتدخلون لحفظ عيسى ويكونون واقية له باذن .
والكهل: الرجل اذا وخطه الشيب، وفي الكهل اقوال عديدة ومسائل منها:
الأولى : انه الذي جاوز الثلاثين وظهر عليه الشيب.
الثانية : من زاد عمره على ثلاثين سنة الى الأربعين، عن ابن الأثير( ).
الثالثة : هو من ثلاث وثلاثين الى تمام الخمسين، نسبه ابن منظور الى القيل( ).
الرابعة : من أربع وثلاثين الى احدى وخمسين.
الخامسة : يكون شاباً ما بين الثلاثين والأربعين من العمر ثم كهلاً الى ان يستوفي الستين.
السادسة : الكهل الحليم العاقل.
السابعة : يقال: رجل كهل وامرأة كهلة، اذا انتهى شبابهما، وذلك عند استكمالهما ثلاثاً وثلاثين سنة.
الثامنة : الشاب عند اكتمال قوته، قال ابن الإعرابي: يقال للغلام مراهق ثم محتلم، ثم يقال تخرج وجهه، ثم اتصلت لحيته، ثم مجتمع، ثم كهل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولكن حال الغلام تسبق مرحلة المراهقة وتقع تحته عدة تسميات منها ناشيء وهو الذي قارب عشر سنين، ويافع وهو الذي بلغ الحلم او اصبح قريباً منه.
والأقوال متعددة في معنى الكهل، وتتباين في تحديد هذه المدة من العمر فمنها ما ينتهي عند عمر ثلاث وثلاثين سنة ومنها ما يبدأ عند أربع وثلاثين او الحادية والأربعين، والظاهر ان لهذه الآية الكريمة ووصف عيسى بانه كهل أثراً في مثل هذه التحديدات بدليل انك ترى المراتب والأقسام الأخرى ليس لها في الغالب مدة محدودة من أيام العمر، فيقال للرجل: اذا اتصلت لحيته مجتمع، وحال الإحتلام مرتبة معروفة أي تقاس غالباً بلحاظ النمو الجسدي وليس العمر لمعرفة التباين فيها بين الأشخاص.
وفي الملازمة والتداخل في الكلام بين الحالين وجوه:
الأول: ان حاله في الكلام والقدرة عليه واقامة الحجة واحدة حال المهد والكهولة.
الثاني: جاءت الآية للرد على وفد نصارى نجران ومن أدعى ان عيسى اله.
الثالث: في الآية اشارة الى نزوله من السماء في آخر الزمان كما أخبر الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واخبار عن رفعه وعدم صلبه، وفيها سكينة لأمه فبينما هي تخاف مدة الحمل ان يقتل عندما تضعه، تأتي هذه البشارة لتطرد هذا الخوف قبل ان يأتي أوانه، أي عندما يقوم الظالمون بصلبه تكون مريم قد تلقت البشارة قبل ولادته بانه لن يصلب بل يرفع وسيعود في آخر الزمان ليكلم الناس ويدعوهم الى التوحيد، وانكر طائفة من النصارى كلام عيسى في المهد واعتبروه امراً غريباً مما يؤكد الحاجة الى القرآن ولزوم الجهاد ولتثبيت مفاهيمه في الأرض وبيان علومه وكشف كنوز آياته فمع ورود القرآن بقصة عيسى كمصداق من مصاديق علم الغيب فانه ورد التكذيب ومن اتباع عيسى الذين يحق لهم ان يتفاخروا بما ورد في القرآن بخصوص عيسى, وان لا تكون علة هذا التكذيب دعوة اتباعهم للعزوف عن القرآن.
وفي رواية عن ابن عباس في لقاء جعفر بن ابي طالب ووفد المسلمين في الحبشة مع النجاشي لما قيل له: انهم يشتمون عيسى وأمه، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه فما تقولون في عيسى وأمه قرأ عليهم سورة مريم، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى، رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين وقال و ما زاد المسيح على ما تقولون هذا ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال أذهبوا فانتم سيوم بأرضي، يقول آمنون من سبكم واذاكم غرم، ثم قال ابشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب ابراهيم فقال عمرو يا نجاشي، ومن حزب ابراهيم، قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن أتبعهم( ).
وفي سورة مريم دليل على تكلم عيسى واعلان لنبوته وهو في المهد، وتصديق النجاشي لمضامين السورة يدل على وجود أمة من النصارى تؤمن بآية نطق عيسى وهو في المهد، ومن الإعجاز في القرآن انه لم يكتف ببشارة الملائكة لمريم، بل جاءت سورة مريم بما يؤكد حصول البشارة في الواقع الفعلي وهو شاهد قرآني على صدق الملائكة ومانع من سوء التأويل وتحريف الكلم وتفسير كلام عيسى بمعان أخرى غير الظاهر والمتبادر منه، خصوصاً مع وجود من ينكر حصول الآية في المهد، فلولا الآية لكان الناس ثلاث فرق:
الأولى: تؤمن بكلام عيسى في المهد.
الثانية: تنكر الأمر وتعده امراً عجيباً وغريباً.
الثالثة: تأول الكلام في المهد بما يضعف الآثار العقائدية المترتبة على الآية عند أكثر الناس على مر الأجيال فجاء القرآن بأمور:
الأول : ما يمنع من وجود الفرقة الثالثة.
الثاني : فضح الفرقة الثانية.
الثالث : تقوية وشد عضد الفرقة الأولى ويجعلها هي الغالبة والمنتصرة.
وفيه دليل على المنافع العقائدية للقرآن وان كل آية من آياته حرب على الكفر والضلالة ويلازمها النصر دائماً والى يوم القيامة ومن أسباب جحود بعض فرق النصارى لكلام عيسى في المهد انه قال [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ] وهم يقولون بانه ابن والعبودية عنوان الذل والخضوع والخشوع لله.
والبشارة بكلام عيسى وهو كهل فيها ثلاثة وجوه:
الأول: انه يبقى حياًُ ويكلم الناس وهو كهل ايضاً بمعنى ان عمره يطول الى سن الكهولة.
الثاني: يكلم الناس في المهد من باب الإعجاز والحجة ثم يعود ويكلمهم وهو كهل بالنبوة وآيات الرسالة التي تجلت معالمها بابرائه الأكمه والأبرص واحيائه الموتى، فكل من حالتي التكليم من الإعجاز لذا استحقا نزول الملائكة بالبشارة بهما.
الثالث: يكلمهم عندما ينزل الى الأرض في آخر الزمان.
الرابع: الجامع بين الدنيا والآخرة وهو ان يكلمهم بصفة النبوة والرسالة قبل ان يأمروا بصلبه ويرفع من الأرض، وعندما ينزل في آخر الزمان في اشارة الى انه ينزل في ذات الحال التي غادر بها الأرض وانه من نواميس الغيبة والصعود في السماء ان يبقى الإنسان على حاله سواء على نحو القاعدة الكلية، أو انه أمر خاص بعيسى واكرامه من عند ، لأن البقاء في ذات السن والحال اكرام وتشريف وفضل الهي عظيم عليه.
والوجه الرابع والأخير هو الأرجح وان لم نجد من قال به، وتدل عليه اصالة الإطلاق وعموم اللفظ وتعدد الروايات، وألأسرار القدسية المستقرأة من بشارة الملائكة وما فيها من المضامين السامية، ولابد ان حال الكهولة تستمر لعدة سنوات ولا ينحصر موضوعها بسنتين او ثلاث، وقد وردت الأخبار ان مدة بعثته ثلاث سنوات أي ان سن الكهولة أعم من فترة ادائه لوظائف النبوة، نعم ينطبق عنوان الكهولة على المسمى وصرف الطبيعة، أي يكفي ان عيسى كلم الناس لسنة او أقل في حال الكهولة فيتحقق مصداق البشارة ولكن اصالة الإطلاق هي الأولى خصوصاً مع لحاظ الإعجاز وتعدده.
وكما انه لم يرد في القرآن لفظ المهد كموضع يمهد لنوم الصبي الا لعيسى، فانه لم يرد لفظ (الكهل) الا لوصفه، مرة في هذه الآية وأخرى في سورة المائدة لتوكيد عدم صدور كلامه باختياره على نحو مستقل بل كان بتأييد وتوجيه واعانة من روح القدس، قال تعالى [إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً] ( )، واختصاص ذكر عيسى في القرآن بحال الرضاعة والكهولة دون غيره من الأنبياء والناس جميعاً اكرام له، ودعوة للتدبر في قصته، والآيات الإعجازية في خلقه، وعظيم فضله تعالى عليه وعلى أمه، ومن خلالهما على المسلمين والناس جميعاً.
قوله تعالى [وَمِنْ الصَّالِحِينَ]
خاتمة كريمة للآية وجزء من بشارة الملائكة لمريم، ووصف كريم لعيسى ومع ان الملائكة جاؤوا بالإخبار عن صفات كريمة لعيسى ، وكل واحدة آية مستقلة فانها أخبرت في ختام قولها بانه من الصالحين، وفيه مسائل:
الأولى : انه دليل على شرف منزلة الصلاح وألأخلاق الحميدة، وان نيل هذه الصفة من أعظم الهبات.
الثانية : الصلاح عنوان اكرام وبشارة نجاة في النشأتين، فوصف الملائكة بان عيسى من الصالحين دليل على احرازه الدرجات العلا في الآخرة، وهو أمل كل مؤمن.
الثالثة : تبعث الآية السكينة في نفس مريم بخصوص سيرة وأفعال المولود المبشر به، وان كلامه في المهد كله نفع وهداية ورشاد، وكذا سيرته في ايام حياته كلها.
الرابعة : لن يصدر عن عيسى ما يضر الناس.
الخامسة : لقب المسيح من مصاديق الصلاح والهدى.
السادسة : لا ضير في نسبته لأمه، لأن الصلاح هو ملاك أفعاله وأقواله، ولابد ان اللقب متداخل مع مضامين هذا الصلاح.
وقد أختتمت البشارة بيحيى بانه من الصالحين مما يدل على موضوعيته واعتباره عند أهل السماء، وفيه توكيد لأهلية الإنسان للخلافة في الأرض وان الصالحين ليسوا من الذين يفسدون في الأرض ولا يسفكون الدماء الذي فزع الملائكة منهم ومن أفعالهم، بل انهم يحاربون الفساد لأن الصلاح ضد الفساد، أي ان أعطى درساً للملائكة بأن سيخلق اناساً صالحين يحاربون الفساد ليبقى موضوع الخلافة.
لقد تكرر وصف من الصالحين في القرآن وجاء بخصوص عدد من الأنبياء وفيه دعوة للناس للحاق بهم واقتفاء آثارهم والسعي لنيل ما أعد لهم من الثواب العظيم، وحرف الجر (من) يفيد التبعيض، وفيه اشارة الى كثرة الصالحين وتعددهم، وهذا التعدد يحتمل أمرين:
الأول: التعدد الطولي في الأزمان المتعاقبة.
الثاني: التعدد العرضي في زمان واحد وهو ينقسم الى شعبتين:
الأولى: تفرق الصالحين في البلدان، وان الكثرة والتعدد بلحاظ جمع المتفرق.
الثانية: الإتحاد والكثرة في البلد الواحد.
والأصح هو الشعبة الثانية أعلاه في الغالب لإصالة الإطلاق، ولفضله تعالى على الناس، وللمشقة والحرج على المؤمن حينما ينفرد في بلده بالدعوة الى وطلب الإصلاح، وهذا القول لا يمنع من وجود مصلحين يبدأون بالجهاد بأنفسهم لإصلاح المجتمعات ثم يجتمع اليهم الأعوان والأنصار، خصوصاً بالنسبة للأنبياء فانهم يشرعون بالدعوة الى ، وتكون مادة جهادهم صلاح الذات والسريرة والمدد والفيض الإلهي بالوحي، وتظهر الآية اكرام الملائكة للصالحين واستبشارهم بهم وان ولادة الصالح من أفراد البشر يدخل البهجة في عالم الملكوت.
والصالحون سور جامع لا ينحصر موضوعه بالأنبياء بل يشمل المؤمنين الذين يعملون الصالحات، كما انه من الكلي المشكك بمعنى ان الصالحين ليسوا على مرتبة واحدة في اتيان الصالحات من جهة الكم والكيف والنوع، والأنبياء هم القادة والأسوة والمثل الأعلى في المبادرة الى الصالحات وتحدي الكافرين والمفسدين والحرص على تنقية النفوس من الأدران والأخلاق الذميمة، وتنزيه المجتمعات من الكفر والضلالة ومعالم الشرك.
وجاء وصف عيسى بانه من الصالحين خاتمة لبشارة الملائكة لمريم باعتبار انها ام مؤمنة، وفيه دعوة للأمهات المسلمات ان يبذلن الوسع في جعل ابنائهن من الصالحين.
لقد أراد عز وجل للمسلمين والمسلمات الإنتفاع الشخصي من البشارة بعيسى واقتباس بعض الصفات التي جاء بها الملائكة فان تعذر عليهم الكلام في المهد باعتباره آية فبامكانهم دعوة الناس الى التوحيد واحكام الشريعة في حال الكهولة ومدة أيام العمر، وفي مقدورهم ان يكونوا ممن يؤدي الفرائض ويعمل الصالحات فتشملهم مضامين بشارة السماء ليكونوا عوناً للأبوين ويبعثوا البهجة في النفوس، ويجعلوا الملائكة تفرح بوجود اتباع للأنبياء في الأرض يتحلون أعظم صفة يتشرف بها ابن آدم وهي الصلاح.
والصالحون جمع صالح، وهو اسم فاعل أي انه يتصف بالصلاح ذاتاً وتقييداً، ولكن المعنى أعم فهو يشمل اتيان الصالحات واصلاح الناس، وهذا امر يتجلى من مضامين البشارة ذاتها،
فان كلام عيسى في المهد اصلاح للناس وتذكير بالله عز وجل وعظيم قدرته كما ان ابراء عيسى للأكمه والأبرص سبب للصلاح والهداية لمن يتلقاها وينتفع منها وأسرته ومن يرى تلك الآية حال حدوثها وفيما بعد، فقد بقي الذين ابرأهم عيسى لعشرات السنين وهم يخبرون الناس عن حالهم وتوارث الخبر منهم ابناؤهم واقاربهم وجيرانهم، وكان هذا الأمر سبباً لإنتشار النصرانية وانصات الناس للدعوة اليها، ولقد حرص عيسى ان لا يمسح على ذي عاهة الا ويذكر بصيغة الدعاء اثناء المسح، ويخبر صاحبها بانه يبرئه باذن لمنع الشرك ولجعل الشفاء مناسبة للإيمان والصلاح فقد كان عيسى صالحاً في ذاته وفعله، وجعل أمة من الناس صالحين يعملون الخيرات.
الإعراب واللغة
قرأ ابن عامر بالنصب (فيكون) على ان الفاء للسببية، وما مرسوم في المصاحف هو الأصح.
ولم يمسسني بشر: الواو حالية، لم: حرف نفي وقلب وجزم، يمسسني: فعل مضارع مجزوم بلم، والنون: للوقاية، الياء: مفعول به، بشر: فاعل.
قال: فعل ماض، كذلك: جار ومجرور، اسم الجلالة مبتدأ.
يخلق: فعل مضارع، والفاعل ضمير تقديره هو يعود لله عز وجل، والجملة الفعلية خبر.
ما: اسم موصول مفعول به، جملة يشاء لا محل لها، لأنها صلة الموصول، وجملة ( يخلق) مقول القول.
اذا قضى امراً: اذا: ظرف للزمان لإرادة المستقبل.
قضى: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود لله تعالى، وجملة قضى في محل جر بالإضافة، امراً: مفعول به منصوب بالفتحة.
فانما يقول له: الفاء رابطة لجواب الشرط، لأن (اذا) تتضمن معنى الشرط وجملة انما يقول جواب شرط غير جازم لا محل لها من الإعراب.
كن فيكون: كن: فعل أمر تام، الفاء: استنئافية، يكون: فعل مضارع تام مرفوع بالضمة، والفاعل هو أي الأمر والفعل، والجملة خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهو يكون.
في سياق الآيات
بعد ان جاءت الملائكة بالبشارة بعيسى والآيات التي يأتي بها بما يفوق عالم التصور والواقع المسموع مع ما في السمع من الزيادات والإضافات في الأخبار والوقائع، سألت مريم عز وجل على نحو الدعاء والمناجاة وبما يؤكد نبأ الولادة المباركة، وفي الآية اخبار عن صدق البشارة بتفضله تعالى باخبار مريم بالقطع بحصولها بأمره ومشيئته تعالى.
اعجاز الآية
تبين الآية سؤال مريم وما فيه من معاني الإستفهام والتعظيم للقدرة الإلهية، وعرض حالتها وتثبيت حقيقة شرعية الى يوم القيامة وهي ان مريم لم يطأها رجل وانها عذراء طاهرة.
وتبين الآية انحصار عالم الأمر والخلق به تعالى وعدم تقيدهما بشرط او سبب بل يتعلقان بمشيئته وقدرته، والأشياء جميعها مستجيبة لأمره، خاضعة لمشيئته سبحانه منقادة لأمره، ومن الإعجاز في الآية عدم استعصاء مسألة عليه سبحانه.
وفيها مصداق عملي لقولها لزكريا [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ].
لم تذكر هذه الآيات رد مريم على بشارة الملائكة باصطفائها وأمرها بالقنوت ولطاعة والسجود والركوع لله عز وجل مع الراكعين، وفي تقواها وسيرتها شاهد على حسن تلقي البشارة قال تعالى[وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ]( ). وعندما جاءت البشارة بعيسى عليه السلام سألت الله عز وجل عن كيفية ولادته ولم يطأها أحد من الناس، ليدل هذا السؤال بالدلالة التضمنية على تصديقها بالبشارة وقبولها لها، إنما سألت عن كيفية الولادة شكراً لله عز وجل وكما في إبراهيم عليه السلام حينما سأل عن كيفية إحياء الموتى قال الله تعالى[أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
لقد جاءت هذه الآية بسؤال مريم والإجابة عليه من عند الله عز وجل وفيه بيان وتفضيل وقطع بتحقيق البشارة التي نزل بها الملائكة.
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات أن الملائكة نزلوا بالبشارة، ولكن قوس الصعود جاء مباشرة من مريم إلى الله عز وجل[قَالَتْ رَبِّ] فجاءها الجواب من عنده تعالى ومن غير واسطة الملائكة[قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ]( ). وفيه إكرام وتشريف إضافي لمريم عليها السلام.
ثم جاءت الآية التالية لبيان أن نعم الله عز وجل على عيسى أعم من أن تختص بولادته بالمعجزة بل تشمل العناية به وإرتقاءه في مقامات النبوة بقوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
وإيتدأت هذه الآية بقول مريم , ولم تقل الآية سألت مريم بل ذكرت كلامها بلفظ القول، مما يدل على إرادتها البيان مع تسليمها بالنعمة والمعجزة ومن إكرام الله لمريم أنه سبحانه أجابها على نحو التفصيل وبما يدفع الجهالة والغرر وأسباب الضرر والأذى النفسي، وهو من المدد الإلهي لها في عبادتها وإنقطاعها إلى التبتل، وفي عدم الخشية من قومها عند الولادة.
الآية سلاح
في الآية عون مركب من قسمين:
الأول: شخصي لكل من مريم وعيسى عليهما السلام.
الثاني: نوعي لجميع المسلمين على مر الأزمنة وتعاقب الأجيال وتبعث الآية على التوكل على الله تعالى وعدم الوقوف عند الأسباب الظاهرية والقدرات الشخصية، وتجعل الإنسان يتطلع الى فضله ونزول رحمته تعالى في الليل والنهار , لأن الأمور والوقائع مرهونة بمشيئته ومفتاحها الدعاء والمسألة والإخلاص في العبودية والتقوى وهو اللباس الذي اتخذته مريم فكان طريقاً للإرتقاء في مراتب العز والرفعة.
وتدعو الآية المؤمنين والمؤمنات إلى حسن التوكل على الله ، ورجاء سعة رحمته، والتسليم بأن هباته ونعمه من اللامتناهي، وهي خارقة لقانون الأسباب والأقدار.
وفي الآية سلاح ضد أهل الإفتراء على عيسى وأمه، وكنز من ضروب الإحتجاج، وهي برزخ دون الشك والريب في مريم وأمه، وفي المؤمنات المحصنات , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( )، ولحاظ وحدة الموضوع مع الفارق الرتبي في عظيم منزلة مريم , خاصة وأن آيات القرآن وصفتها بأنها[أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا]( ).
مفهوم الآية
لقد أظهرت مريم العبودية والخضوع لله عز وجل والتسليم لأمره ومشيئته، ورأت الآيات الباهرات التي تدل على مجيء الرزق والفضل الإلهي بكيفية خارقة للعادة خالية مجردة من الأسباب الظاهرية المتعارفة، كما في مجيء الرزق لها من السماء، وتحديث الملائكة لها بالإصطفاء وحينما سمعت البشارة من الملائكة بعيسى تلقتها بالقبول والرضا، استصحاباً وثقة ولما لمسته من الشواهد الحسية والفعلية والإفاضات المتتالية فلا يمكن ان يكون ردها جحوداً او استنكاراً فهي تستبعد ادنى شيء من أفراد البشارة.
وحينما بشرتها الملائكة بالإصطفاء على نحو متكرر لم ترد ولم تسأل وكذا حينما أمرتها بالقنوت والسجود مما يعني تقيدها بالأحكام والأوامر التي جاءت بها الملائكة ليكون القنوت والسجود المتصلان والمتداخلان مقدمة لتلقي هذه البشارة العظيمة وتحمل مسؤولية الحمل بكلمة المسيح .
لقد ارادت مريم بيان حقيقة ثابتة في الأرض منذ هبوط آدم من الجنة وهي ان الولد لا يكون الا عن مفاعلة بين الرجل والمرأة، لتتلقى ما يؤكد الخروج عن هذه القاعدة بقدرته تعالى، كما حصل الخروج عن القواعد في مجيء الرزق لها وهي في المحراب من غير كسب او عناء او سعي منها او من الكفيل او غيره.
وتدعو الاية الى العفة والتقوى كمقدمة ووسيلة لنيل الولد الصالح بالزواج وفق الصيغ الشرعية لأن بشارة مريم أمر خاص نازل من السماء ليكون آية ويحث النساء على الصبر والصلاح.
افاضات الآية
بعد ان تضمنت الاية السابقة بشارة الملائكة لمريم واخبارها بما ينتظرها من ولادة الرسول الذي جاءت به البشارات وظهرت المعجزات على يديه وهو في المهد، توجهت مريم الى تعالى بقولها (رب)مما يعني انها لم تنس مقامات العبودية ولم يشغلها الفرح والغبطة بالبشارة عن ذكره تعالى واللجوء اليه ولم تتوسل بالملائكة او تجعلهم وسطاء لينقلوا كلامها الى مثلما جاءوا بالبشارة من عنده تعالى خصوصاً وانهم قريبون منها، بل فزعت الى تعالى سائلة متضرعة بخشوع وإستفهام يدل على التسليم بعظيم قدرته تعالى وانه يهب الولد لمن يشاء لا عن استنكار بل لإرادة معرفة الطريق والكيفية.
ان مناجاة مريم درس عرفاني يبين لزوم المبادرة الى اللجوء اليه تعالى في المهمات وعند مواجهة المشكلات، وتوالي الأمور دفعة وان كانت خيراً محضاً، وتتضمن نزول البركات، وفي الآية جذب للنفوس المؤمنة والمستضعفة الى مقامات الربوبية لتعلق قضاء الحوائج بمشيئته تعالى تلك التي تكون على نحو دفعي او تدريجي.
التفسير
قوله تعالى [قَالَتْ رَبِّ]
لقد تلقت مريم البشارة وأدركت مضامينها القدسية ولابد انها أصبحت عندها من البديهيات والقطعيات التي لا تقبل النسخ والتغيير
والتبدل، ومع هذا فانها توجهت الى تعالى بالمسألة والإستفهام.
ولم توجه مريم خطابها الى الملائكة الذين نقلوا البشارة بل توجهت الى تعالى.
وبلحاظ اوان الدعاء والسؤال بالنسبة لزمان البشارة وجوه:
الأول: جاء هذا القول بعد حين ومدة من سماع البشارة وليس بعده مباشرة.
الثاني: لقد تلقت مريم البشارة بالقبول والشكر والثناء عليه تعالى ثم أرادت ان تعلم كيفية ولادته كي تتهيأ وتستعد لها، وتجتنب الموانع التي تحول دون حصولها.
الثالث: جاء السؤال مباشرة بعد البشارة في توكيد على انجذابها الى مقام الربوبية وانقطاعها الى عبادة تعالى.
والأصح هو الثاني والثالث ولا قرينة تدل على وجود فترة ومدة بين تلقي مريم للبشارة وتوجهها بالسؤال ومجيء السؤال في أول الآية، وعدم وجود حرف عطف او نحوه يربطه مع الآية السابقة لا يكفي لإعتبار وجود فترة بينهما، وفي الآية درس عقائدي وهو التوجه الى تعالى في المسألة والدعاء حتى في حال حضور الملائكة بالبشارة، وحضورهم في الموضع ليس لأن وظيفة الملائكة نقل البشارة دون الإجابة على سؤال مريم ورفع سؤالها فحسب، بل لأن مريم تدرك قربه تعالى وانه أقرب من الملائكة اليها، لعناوين الإصطفاء، ولأنه سبحانه حاضر وقريب يسمع دعوة الداعي اذا دعاه وسأله.
لقد أظهرت مريم الإنقطاع اليه تعالى في المسألة مثلما أخلصت في عبادتها وأعطت درساً للمسلمين والمسلمات في لزوم سؤاله والتضرع اليه تعالى، ان سؤال الملائكة واتخاذهم واسطة ليس شركاً او ضلالة، بل انها أظهرت استحقاقها للإصطفاء بسؤاله من غير واسطة سماوية او بشرية فلم تستعن في سؤالها بالملائكة ولا بزكريا النبي.
وورد لفظ (قَالَتْ رَبِّ) في القرآن اربع مرات، ثلاثة منها في سورة آل عمران اثنتين في امرأة عمران وهي حنة ام مريم، وواحدة في مريم في هذه الآية، والرابعة في بلقيس [قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي]( ).
وكل آية من هذه الآيات دعوة للنساء للتوجه الى في المسألة واظهار حسن العبودية، والإنسان كائن ممكن، وكل ممكن يلازمه الإحتياج فلقد شعرت مريم بالحاجة الى الغير في بيان فقدان الأسباب والعلل المادية التي يكون منها الولد والتي تسمى (ما به الشيء)، ولكنها لم تتوجه الى من حولها أو ترجع الى كفيلها وهو نبي، والى الملائكة الذين نقلوا البشارة مع ما للمسألة من أهمية بل بثت أمرها وما يخالجها الى طالبة البيان بما يؤكد صدق الآية ويظهر عفتها ونزاهتها، ويكون برزخاً دون الطعن بها.
وهل من فرق بين اتخاذ الملائكة وزكريا وسائط وبين التوجه الى تعالى، الجواب نعم، وانه سبحانه أقرب الينا من حبل الوريد ويسمع الدعاء والكلام قبل ان يسمعه المخاطبون سواء كانوا من أهل السماء او أهل الأرض، كما جاء في حديث ابراهيم انه خاطب الملائكة [إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ
عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ] ( ).
ان عز وجل واسع كريم، والظاهر ان بشارة الملائكة لمريم جاءت على نحو الرسالة والنقل [أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ] وكذا في بشارة زكريا بيحيى، لذا جاء السؤال منهما الى تعالى من غير واسطة، اما في قصة ابراهيم فانه التقى معهم كما في قوله تعالى [ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ]( )، لذا سألهم عن موضوع البشارة، والأقرب ان التباين يتعلق بموضوع الخلة وان ابراهيم رسول من أولي العزم فتحدث مع الملائكة مباشرة، مع بيان سعة فضله ولطفه تعالى بآل ابراهيم وآل عمران.
وتظهر الآية تفويض مريم أمورها لله تعالى وتوجهها اليه في الإستفهام بصيغة التعظيم والتنزيه لمقام الربوبية والإقرار بقدرته على فعل ما يشاء من غير لحاظ للأسباب والعلل، وتبين الاية ان مريم منشغلة بالذكر ولم تغفل عن ذكره تعالى حتى عند تلقي البشارة.
قوله تعالى [أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ]
لقد تلقت مريم البشارة كاملة مما يدل على ان الملائكة حينما يؤمرون بنقل رسالة الى بني آدم فانهم يقومون بالوظيفة احسن قيام بما يفيد حصول العلم والفقه بالموضوع والحكم، وفيه اشارة الى مطابقة آيات القرآن التي يتلوها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل به جبرئيل من عنده تعالى.
وقد جاء القرآن ببشارات عديدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ولم يسأل النبي محمد عز وجل أنى يكون لنا الفتح والنصر والمسلمون قلة ومستضعفون، بل تلقاها النبي بالقبول والتصديق وفيه دلالة على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الا انه لا يعني ان سؤال مريم خال من التصديق، بل انها صدقت بالآيات وسألت عن كيفية نشوء الولد كي تتعاهده وتحفظه ولا تفرط فيه غفلة او سهواً.
لقد بشر بنو اسرائيل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم
حينما بعث ورأوا الآيات وانه ليس منهم جحدوا صفاته وحرفت الأخبار الخاصة ببعثته.
لقد أرادت مريم ان لا تفوتها البشارة بعيسى بالظن انه ليس البشارة للزوم الأب والوطئ في علوق الولد، وحال الفزع والخوف من ولادة مولود ليس له أب، مع ان خفف عنها باعاذتها من الشيطان، فأرادت التأكد واحراز شهادة السماء بان عيسى لن يكون له أب، وجاء سؤالها كسؤال أبيها ابراهيم [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
ولا يختلف اثنان بعظم المسؤوليات التي ألقيت على عاتق مريم وهو من الإصطفاء والإجتباء، ومنها:
الأول : المواظبة على التقوى والإنقطاع الى .
الثاني : انتظار الحمل بكيفية مجهولة وخلاف العادة.
الثالث : الإطمئنان والتأكد بان يرزقها الولد وهي على حالها من البكارة والعزوبة، وعدم الزواج أعم من عدم الولد، فقد يحصل الولد من غير زواج بوجوه:
الأول : وطئ الشبهة كما لو ظن الواطئ ان المرأة زوجته وأشتبه عليه الأمر، وليس فيه حد وعقاب عليه، ويلحق الولد به ويغرم للمرأة وتعتد.
الثاني : الإكراه وما يسمى في هذا الزمان بالإغتصاب واجبار المرأة على الوطئ قهراً ومن دون رضاها.
الثالث : الزنا والوطئ الحرام والسفاح سواء كان من طرف واحد او من الطرفين.
فأرادت مريم التأكد من عدم حصول الوجوه الثلاثة أعلاه ولا تضطر للزواج من أجل التخلص منها، وليأتي الولد عن طريق شرعي كما انها أرادت الإستعلام هل البشارة مقدمة للزواج وتدل بالدلالة التضمنية على التوجه للزواج بغية الحمل وحصول الولد.
ومن الإكرام والإصطفاء ان يتفضل عز وجل فيكون هو مؤدب مريم، اذ ترى في هذه الآية تخلف الكفالة عن موضوع البشارة وتفاصيلها واعانتها عليها، لقد أدركت مريم انها في حال لا يقدر على هدايتها وارشادها وانجاز موضوع البشارة وما تضمنه من الأوامر والأحكام الا تعالى، خصوصاً وان كيفية ولادة عيسى من الغيب الذي لا يحيط به الكفيل زكريا ولا غيره من الناس، ولايعلمه الملائكة أنفسهم وقد قالوا في حديث خلق آدم [لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( )،
فكان سؤال وتوجه مريم عليها السلام الى من باب الحصر وليس اختيار الطريق الأفضل لأنه سبحانه وحده الذي يعلم الغيب ومنه كيفية علوق عيسى وولادته، فتوجهت اليه تعالى فجاءها الجواب منه على نحو الخطاب المباشر الخالي من الواسطة المباركة ملكوتية كانت او نبوية، فابراهيم سأل الملائكة لأنهم تولوا أخباره بالبشارة، اما مريم فقد نقل لها الملائكة البشارة وليس عندها ما يدل على علمهم بكيفية نشوء الولد.
وتدل هذه الآيات على جهاد مريم وصبرها وتوليها على نحو الإنفراد تلقي البشارات والأوامر والتصدي للفعل والإمتثال بصبر وجهاد بلطف واعانة منه تعالى وهو من أفراد قبوله سبحانه لمريم، فلقد قامت امها بنذرها وتسميتها واعاذتها وذريتها من الشيطان، ودفعتها الى الكنيسة والرهبان ولكن هو أنبتها وتعاهدها وأطعمها الغذاء والفاكهة من السماء لتواجه أهل الحسد والريب، وتجعل المسلمين يجتمعون ويتحدون خلف آية المولود الذي تكلم في المهد، يدعو الناس للتوحيد.
ومن مصاديق علم الغيب في الآية الكريمة اثبات طهارة ونقاء مريم وانه لم يصل اليها رجل، وفي الآيات شواهد بانها في معزل عن الرجال وكانت ملازمة للمحراب لم يكلمها أحد الا من وراء حجاب، وما ذكرته الآيات في نذر امرأة عمران ودعاء زكريا وعقم امرأته يدل على الإستقرار الإجتماعي والتقيد النوعي العام بمفاهيم العفة والطهارة، لقد أخبرت مريم بنزاهتها وعدم وصول أي رجل اليها.
والمس كناية عن الجماع، ويقال مس الرجل امرأته مساً، ويأتي المس بعنوان المخالطة والإصابة يقال مس الماء الجسد، والمس واللمس بمعنى وقيل بالتفصيل بلحاظ الإحساس.
لقد أظهرت مريم تفقهاً في الدين وعلوم الحياة وان الجن ليس سبباً لعلوق الولد، وان ملامسة الرجل للمرأة هي السبيل الوحيد المتعارف عقلاً وشرعاً لنشوء الولد، وفيه اشارة الى انفرادها بالولد بكلمة منه تعالى، ومع ان موضوع البشارة خاص بزمان معين وان القدر المتيقن من أوان وموضوع الوطئ هو المدة المحتملة للحمل فالتي لم يقربها رجل في شهر محرم مثلاً وما بعده من الشهور تكون متأكدة بانها لا تضع ولداً في شهر رمضان وهو التاسع من الشهور القمرية، من غير التفات لما قبل محرم من الأيام أي لو كانت المرأة متزوجة ووطأها زوجها قبل أكثر من سنة ولم تحبل ثم لم يقاربها فانها متأكدة من خلو بطنها وانعدام احتمال الحمل والوضع لقيد نمو الجنين في أشهر معدودة.
اما مريم فانها أخبرت عن اطلاق نزاهتها وانه لم يقربها رجل في مختلف أيام حياتها أوان البشارة وما قبله، وذات العفة والطهارة ترجوها وتظنها في قادم أيامها.
وفي كلام مريم مسألتان:
الأولى: انه جاء بصيغة المس وهي وان كانت كناية عن الجماع الا انها تفيد المعنى الأعم الشامل لنفي القرب والملاعبة والضم ونحوه في توكيد على العفة المطلقة والثقة بالعزلة والحجاب.
الثاني: ورد بصفة (البشر) واللفظ وان كان منصرفاً الى الرجال وعدم حصول الزواج والإقتران بشخص ما، الا انها تؤكد عدم وجود الواسطة والإحتمال البعيد للعلوق وفيه اشارة الى عدم اعتيادها الإختلاط مع النساء ايضاً.
وما ورد في سيرتها وقيامها في المحراب حتى تورم قدماها دليل على انقطاعها الى تعالى واجتنابها المحافل والمنتديات العامة والخاصة.
لقد تضمن سؤال مريم الشهادة بالعفة والوثوق من خلو ساحتها من الدنس وأسباب تكون الولد، ونسبت فعل المس الى غيرها، ولم تقل (لم ألمس بشراً) بصيغة الفاعل لأن فعل الوطئ ينسب عادة للرجل، ولوثوقها بانها لم تقصد اللذة والشهوة وانها حرصت على العيش بمعزل عن الرجال وغيرهم ولبيان الشكر له تعالى والإعتراف بانه طهرها ولم يجعل احداً يصل اليها، ولم يرد عنها في القرآن الا موضوع المحراب وحديث الملائكة والرزق السماوي، وكل فرد من هذه الأفراد الثلاثة يعني العزلة والإنفراد والإنشغال بالذكر مقدمة وملازمة وأثراً، بالإضافة الى نذر أمها لها وتعويذها من الشيطان.
وهل البشارة بعيسى من القبول الحسن والإنبات الحسن، فيه وجوه:
الأول : أنهما مقدمة للنفخ فيها من روح .
الثاني : ولادة عيسى هي القبول والإنبات الحسن.
الثالث : هما أمران مستقلان عن ولادة عيسى.
الرابع : ولادته هي القبول الحسن منه تعالى لمريم.
الخامس : الحمل به وولادته هي الإنبات الحسن لمريم عليها السلام.
السادس : الحمل بعيسى جزء ومصداق القبول والإنبات الحسن لمريم عليها السلام.
والأقوى هو الأول والسادس معاً، فهما مقدمة للحمل بعيسى ، والحمل جزء من القبول والإنبات الحسن، أي ان الحمل جزء من كل منهما، بلحاظ النظر اليه بالإنضمام الى النعم المتوالية عليها، وهو نعمة مستقلة جاء القبول والإنبات وكفالة مريم والرزق السماوي مقدمة للحمل بعيسى في وعاء طاهر، وبدن نقي منقطع الى العبادة، تغذى بغذاء ملكوتي، ليكون مؤهلاً لتلقي النفخ من روح ، وكان من شرائط هذا النفخ وجود حوراء انسية نمى بدنها على الغذاء السماوي.
بحث بلاغي اصطلاح مستحدث “النقاء”
من بدائع القرآن (النزاهة) وهي خلو ألفاظ الهجاء مما فيه فحش وقبح، وكما جاء في المدح والثناء في القرآن على الأنبياء والصالحين في جهادهم، ومنهم مريم اذ أخبرت هذه الآية عن نزول الملائكة باصطفائها فان الذم والهجاء جاء فيه نقياً وخالياً من الفاظ الفحش، في آية لتأديب المسلمين والناس في تنزيه ألسنتهم من فاحش القول، لأن المسمى والموضوع واحد، ولكن اللفظ يختلف وقد يكون في اجتناب الفحش تعريضاً بالكافر ودعوة له للإسلام ومنعاً من اتخاذ الإصرار والعناد.
ويمكن ان نأتي بوجه آخر من وجوه النزاهة وهو ما يتعلق بالوصف الذاتي في موضوعات خاصة تتعلق بالوطئ والنكاح ونحوهما بأحسن الألفاظ البعيدة عن القبح والفحش والألفاظ المتعارفة , فهو لا يتعلق بالهجاء للعدو وفاعل المنكر , ومن يستحق الهجاء بل فيه عرض للحال وبيان لموضوع شخصي يستلزم معرفة حكمه وكيفية العمل فيه، او اظهار التقوى والصلاح بخصوصه، كما في هذه الآية اذ جاءت مريم عليها ألسلام بالكناية الخالية من القبح او الفاحش من القول اذ قالت [وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ] وفيه عفة لفظية وأدب في مخاطبة مقام الروبية من وجوه:
الأول : جاءت بالمس اشارة للوطئ.
الثاني : يحمل الكلام ايضاً على ظاهره وانها تؤكد عدم اقتراب رجل منها، وليس من شخص قد لمس يدها او وجهها او غيره من أعضاء جسمها، فيكون المعنى الأصلي المكنى عنه مقصوداً من باب الأولوية القطعية، بمعنى لم يمس يدها وبدنها رجل، فمن الأكيد انها طاهرة، ولم يطأها أحد.
الثالث : في الآية بيان على حرص مريم على عفتها.
الرابع : التفات مريم المتصل الى موضوع الطهارة التي تفضل بها سبحانه عليها ببشارة الملائكة بمعنى انها تقول انك سبحانك جعلتني مطهرة، فلابد ان يتفرع عليه عدم الدنس او النجاسة التي تحصل بالوطئ وان كان شرعياً لذا يترتب عليه وجوب غسل الجنابة.
الخامس : جاءت الآية بالإطلاق في صفة (البشر) الجامعة للكبير والصغير, والحر والعبد.
ويمكن ان نسمي هذا الباب من البديع (النقاء) وموضوعه ليس الهجاء، بل وصف الحالة الخاصة بصيغ الإشارة والكناية وبما يدل على العفة والرفعة والأخلاق الحميدة.
قوله تعالى [قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ]
تتجلى آيات الرحمة والرأفة الإلهية في الإستجابة والجواب الإلهي على مراتب متعددة:
الأول : على نحو القضية الشخصية، وهو على شعبتين:
الأولى: بخصوص مريم وتفضله تعالى باجابتها بما يثبت قلبها على الإيمان.
الثانية: تعاهد عيسى قبل النفخ والحمل به، بجعل أمه مهيأة لقبول الحمل والولادة برضا واستبشار.
الثاني : ارادة الجنس البشري والتكاثر فيه عن طريق النكاح وتهيئة مقدمات الولادات بالأسباب المادية.
الثالث : التخلص من الآفات والموانع التي تحول دون الخلق والإيجاد في عالم الإنسان، كما في بشارة زكريا اذ انها جمعت في دفع وازالة مانعين قاهرين احدهما من طرف الزوج وهو الشيخوخة، والآخر من طرف الأم، وهو العقم.
الرابع : مصاديق الإرادة التكوينية وعالم الموجودات مطلقاً.
الخامس : استدامة الخلق والإيجاد لذا جاء الفعل بصيغة الفعل المضارع (يخلق).
والكاف في (كذلك) تفيد التشبيه لبيان عظيم قدرته تعالى وان الأمر بيده يفعل ما يريد من غير تقييد وحصر بقوانين الأسباب والعلل، فانه سبحانه يخلق هكذا من غير لحاظ للأسباب التي يظنها البشر ضرورية وان المقتضي المادي جزء علة لحصول الفعل في الخارج.
فجاءت الآية لتجعل العقول تسبح في بحار قدرته وتخضع لسلطانه مقهورة مذعنة، تحصل آية في الخلق والإبداع فتؤدي الى ايمان الملايين من البشر في كل زمان، الأمر الذي يدل على ان ولادة عيسى من غير أب رحمة بالناس الى يوم القيامة انتفع منها المسلمون اذ تلقوها بالتصديق والتسليم.
بحث تأريخي
لقد مرت آية خلق عيسى بمراحل متعددة تجلت انباؤها في مصاديق علم الغيب التي تفضل سبحانه واظهر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عليها وهي:
الأول : اصطفاء آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران، وهل من موضوعية واعتبار لإصطفاء آدم ونوح في ولادة عيسى ، الجواب نعم ليكون الطهر متصلاً في الأصلاب والأرحام.
الثاني : نذر جدته امرأة عمران للحمل الذي في بطنها وجعله خالصاً لله تعالى وخدمة الكنيسة.
ومن خصوصيات عيسى انه ليس له جد او جدة من جهة الأب لأنه لا اب له، وبينه وبين آدم عموم وخصوص من وجه، فمادة الإشتراك عدم وجود أب، ومادة الإفتراق ان عيسى له أم بعكس آدم فلم يولد في رحم، وبين عيسى وابناء آدم الصلبيين كهابيل وقابيل عموم وخصوص من وجه ايضا، مادة الإجتماع ان كلاً منهم له أم، وليس له جد او جدة من جهة الأب، ومادة الإفتراق ان عيسى ليس له أب وله جد وجدة من جهة الأم، وأولاد آدم لهم أب وهو آدم وليس لهم جد او جدة من جهة الأم لأن حواء لم تولد في رحم.
الثالث : شموله بالإستعاذة ساعة ولادة أمه، وانتفاعه من هذه الإستعاذة على نحو مركب من وجوه:
الأول : قيام جدته بالإستعاذة وما له من دلالات تتعلق بالنسب وصلة الرحم وحب الأم لولدها، الذي تجلى هنا بالنذر واعاذة المولود والذرية من الشيطان فلذا تشمل الأبوة والأمومة الآباء والأمهات وان صعدوا، أي الأجداد وآباءهم وأمهاتهم.
الثاني : صدور الدعاء والنذر والإستعاذة من البيت الذي ولد فيه، وهو شاهد على ولادته في منازل الإيمان والتقوى.
الثالث : تعقب الإستعاذة بتقوى وعفة مريم عليها السلام لتتعاهد هذه الإستعاذة على نحو مركب من شعب:
الأولى: وقاية الذات من شرور الشياطين من الإنس والجن.
الثانية: ليأتي الحمل بعيسى عن طهر ونقاء.
الثالثة: امتلاء النفس بالسكينة والطمأنينة، لأن الرزق السماوي من عنده تعالى وان الشياطين لن تصل اليها والى حملها.
الرابعة: حرصها المنبعث من مقامات الإصطفاء في لزوم حفظ عيسى، ويمتاز عيسى بان حفظه منبسط على الأزمان الأربعة:
الأولى : قبل الحمل به.
الثانية : مدة الحمل.
الثالثة : عند وضعه.
الرابعة : ما بعد الوضع.
وبالنسبة للزمان الأول أعلاه فانه لا ينحصر بالأيام والأشهر القليلة من ولادته، بل انه يتعلق بأيام وحياة مريم من ساعة وضعها، فلذا جاءت الإستعاذة من أمها حال وضعها، وتفضل تعالى وجعل كفيلها نبياً من أنبياء .
الأول : تفضله تعالى بقبول مريم وتعاهدها والعناية بها في صغرها وصباها بان انقطعت اليه بالعبادة، وينزل عليه رزقها من السماء ولم يرد وصف (الإنبات الحسن) في القرآن الا لمريم عليها السلام، وفيه اشارة الى الخصوصية التي أتصفت بها وهي ان الرزق الذي كان يراه زكريا عندها في المحراب هو من عند .
الثاني : كفالة نبي من أنبياء لأمه في صغرها، وهو شرف عظيم لعيسى ومريم معاً فلا غرابة ان تأتي آية لتصفهما مجتمعين بانهما آية قال تعالى [وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ]( ).
الثالث : من علوم الغيب والإعجاز البياني في القرآن انه أوضح صورة وحالة من حالات الكفالة، وهي تعدد دخول زكريا على مريم المحراب، مع تجلي الآيات والبراهين عند دخوله، فأي امرأة هذه التي يندهش النبي مما يراه عندها من الآيات، وكم هي عظيمة تلك المنزلة التي نالتها عند ربها وبين عموم أهل الأرض رجالا ًونساء.
الرابع : حسن توكل مريم على تعالى وثقتها بعظيم فضله وقدرته فحينما سألها زكريا عن مصدر وجهة الرزق وفاكهة الصيف التي يراها عندها في الشتاء، وفاكهة الشتاء التي تأتيها في الصيف قالت انه من عند ثم أعلنت عن قاعدة كلية وهي أن [اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
وفيه اشارة الى استعدادها لتلقي أمر الحمل بعيسى من غير وطئ او نكاح، فالمرأة تتهيأ للزواج وتحسب له الأيام والليالي ومقدمات النكاح الأخرى كي يكون عندها ولد فيأتي الرزق السماوي مرة أخرى ولكن ليس على نحو الطعام والمائدة اليومية، بل الولد المبارك الذي تشع معه أنوار الرسالة لتملأ ربوع الأرض مقرونة بالآيات، وهو من عمومات قوله تعالى [كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ].
الخامس : تلقي النبي زكريا البشارة بولادة نبي ليكون مصدقاً بعيسى ، فمن علوم الغيب والرزق الإلهي في المقام ان جعل مقدمات وتوطئة لولادة عيسى لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، ان جاءت البشارة بولادة يحيى النبي ليكون عضداً وعوناً لعيسى في نشر رسالته وأحكام الشريعة التي جاء بها من عند ، ومع تعدد الصفات التي ذكرتها الآية الكريمة ليحيى فانه شاهد صدق على نبوة عيسى، وفيه دلالة على أهليته للشهادة واعلان التصديق والتأييد لعيسى في رسالته قال تعالى [أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( )، فان التصديق بعيسى جاء أول صفة وكأنه ملازم لشخص يحيى كملازمته لأسمه في الآية الكريمة.
وقد تدل الآية على الترتيب الزماني بمعنى ان التصديق بعيسى سابق للسيادة والحصر والنبوة، وان عمل يحيى التصديق بعيسى وكأنه الوظيفة الجهادية الأساسية ليحيى، ومن الأخبار التي تدل عليه ما ورد في خصوص امرأة زكريا وانها قالت لمريم وكل منهما كانت حاملاً “اني وجدت ما في بطني يسجد للذي في بطنك”( ).
السادس : نزول الملائكة ببشارة الإصطفاء واجتباء مريم لتكون سيدة نساء العالمين “وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسيا امرأة فرعون”( )، ولم تتضمن البشارة الإصطفاء وحده بل جاءت بالإخبار عن تفضله تعالى بطهارة مريم ونقائها من الذنوب والأدران والخطايا، ولعله شرط للحمل بروح ، لما له من خصائص سماوية تتنافى وذمائم الأفعال.
السابع : تنافس أهل العلم والرهبان على كفالة مريم وجدالهم ولجوئهم الى القرعة للفوز بهذه النعمة، وفوز زكريا النبي بها.
الثامن : نزول الملائكة بالبشارة بولادة عيسى قبل الحمل به مع ذكرها لصفاته الملكوتية والآيات التي تجري على يديه.
التاسع : سؤال أمه عن كيفية ولادته مع طهارتها وعفتها وعصمتها لتوكيد خصائص الولادة وما فيها من الإعجاز.
ولما سال زكريا عز وجل كيف يكون له ولد مع طعنه في السن وعقم أمرأته جاءه الجواب منه تعالى [كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ] والفرق بينه وبين ما جاء في هذه الآية من وجوه:
الأول : ورد الجواب في هذه الآية بصيغة الخلق وليس الفعل [كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ] وبين الفعل والخلق عموم وخصوص مطلق، فكل خلق هو فعل وليس العكس، وتدل الآية على التباين في الأصل وان عيسى خلق جديد مغاير للخلق وفق قوانين العلة المادية وعلوق الولد من وطئ الرجل للزوجة، قال تعالى [وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً] ( )، فجاء ذكر آدم وحواء بلغة الخلق والإبداع، اما الذرية من بني آدم فوصفتهم الآية بالبث وهو التفريق والنشر، وان كان الخلق عاماً وشاملاً للناس قال تعالى [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ] ( ).
الثاني : وجود اضافة وبيان تفصيلي في تفضله تعالى بالإجابة على دعاء واستفهام مريم يتضمن سرعة تحقق ووجود ما يأمر به.
لقد أشارت الآية الى الخلق في تكون مريم والإبداع فيه بما يجعله آية في الأرض.
بحث فلسفي
لقد ثبت عقلاً وشرعاً ووجداناً ان عز وجل منزه عن القبيح، وقوله تعالى [يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ] أي يخلق ما فيه النفع والمصلحة والفائدة لعموم الناس، وما يؤدي الى درء المفاسد ودفع الضرر، فانه سبحانه لا يترك الأمور تجري وفق عللها المادية اذا لم تستوف المنافع التي من أجلها خلق الإنسان وهي عبادته تعالى في الأرض، بل يخلق ما يؤدي الى تثبيت الإيمان في النفوس، وطرد الشيطان واغوائه عن القلوب لتبقى القلوب كالرياض الناضرة تزدان بذكره وتسبيحه.
جاءت آية الخلق هذه وتعلقها بالمشيئة في قصة عيسى والبشارة به في اشارة الى انه عبد مخلوق، ولا يجوز اتخاذه الهاً وانه ليس ابناً لله تعالى بل يلتقي مع كل انسان في كونه خلقاً من خلق ، وجاءت الآية بصيغة المضارع في دلالة على عدم انقطاع الخلق ومصاديق الإبداع بعيسى ، وتدل عليه قرينة اسم الإشارة (كذلك) التي تفيد التكرار والثبوت، وتوكيد استجابة الأشياء كلها لمشيئته تعالى وتطرد الآية عن الناس الظن بان عالم الخلق الإنساني ثابت وفق قواعد النكاح والوطئ، لأن مشيئته تعالى نافذة في كل الأشياء، وأبى الا ان يرى الناس الآيات في الآفاق وفي أنفسهم.
ومن الآيات في الأنفس ان خلق عيسى من غير أب، وفيه تذكير للناس بخلق آدم من غير أب وتدل الآية بالدلالة التضمنية على انه تعالى عالم بأحوال الناس وما ينفعهم وما يضرهم، لأن الخلق فرع العلم والقدرة، ومن يخلق الشيء يعلم موضوعه ولم تشر الآية الى كيفية مخصوصة للإبداع والخلق بل جاءت على نحو الإطلاق كما انها لم تتقيد بماهية وجنس المخلوق بل بالمشيئة الإلهية والذات المقدسة مما يؤكد ان الخلق وايجاد المخلوقات عنوان للرحمة الإلهية وباب من أبواب فضله سبحانه، وان خلق عيسى نعمة ورحمة تتغشى أهل الأرض.
كما انها تؤكد عدم امتناع شيء عن امره ومشيئته تعالى ايجاداً واعداداً وتغييراً وتبديلاً من غير ان يكون للملائكة والناس شأن في الخلق والإبداع ليس لأنهم مخلوقون فحسب، بل لأنه تعالى جعل الخلق والإبداع فيه من مختصاته وأنفرد به منذ الأزل والى الأبد ومن غير ان تكون للأسباب والعلل فيه موضوعية، ولقد أراد سبحانه ان يكون خلق عيسى جذباً للناس الى نوره وجلاله والتدبر في آياته ليكون هذا التدبر مقدمة للإيمان وسلاحاً للمسلمين والى يوم القيامة.
وفاعل (قال) في الآية هو تعالى فهو القائل والمجيب على استفهام مريم عليها السلام، ومع هذا فلم يقل سبحانه اني اخلق ما أشاء بل قال [اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ] في تثبيت قاعدة كلية ومنع للوهم والشك والظن بتأويل الكلام والترديد هل القائل أو أحد الملائكة او عيسى او جبرئيل بتقريب ان قول الملائكة [قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ] انما هو قول لواحد منهم وهو جبرئيل.
فللمنع من هذا الترديد ولتثبيت حقيقة انحصار الخلق به تعالى جاءت الآية صريحة باسمه تعالى ومن الآيات في المقام ان عز وجل يريد ان يعلم ويقر الناس جميعاً بان الخلق بيده وحده.
قوله تعالى [إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]
أصل القضاء الفصل والقطع وجاء هنا بمعنى الإرادة والمشيئة، فاذا أراد عز وجل امراً فلا يستلزم تدبراً وتفكراً واستحضار وسائط ومقدمات وفيه بيان للفرق بين الخالق والمخلوق، والمعبود والعبد، فانه تعالى لا يهم بالشيء ولا يتخلف امر عن ارادته.
والمراد من الأمر في الآية الشيء وجمعه أمور وجاء لفظ الأمر في الآية بصيغة التذكير ويفيد الإطلاق والشمول فلا ينحصر موضوعه بحال او جهة او موضوع دون آخر، ولا يقضي سبحانه الا ما هو خير محض وان عيسى خلق حادث بمشيئته وأمره سبحانه، وقد بينّا في البحوث الفلسفية والمنطقية والكلامية للاية السابعة عشرة بعد المائة من سورة البقرة النظريات والأقوال الخاصة بعالم الخلق.
وكما جاءت الآية بالبشارة بخلق عيسى فانها اكدت على لزوم عدم الإفتتان بخلقه واتخاذه الهاً، وبينت انه مخلوق مثل سائر البشر الا ان الماهية والكيفية التي خلق بها تختلف عن غيره من الناس، وجعل مسألة خلق آدم آية اعجازية اخرى تكون عوناً للتفقه في خلق عيسى باعتباره آية من آيات وفيضاً ورشحاً من رشحات ارادته ومشيئته.
وهذه الآية من علم الغيب بالمعنى الأعم فموضوعها لا ينحصر بقصص الأنبياء والصالحين بل جاءت ببيان القواعد الكلية التي تخبر عن حدوث العالم وسائر الموجودات سوى تعالى، وان الأشياء جميعها متساوية في الإستجابة لأمره تعالى وانه ينفرد بالقدرة والإختيار في عالم الخلق والإبداع وعلى نحو الإطلاق في الفعل والزمان والمكان ولا تستعصي عليه مسألة.
وقوله تعالى [كُنْ] يتكون من حرفين الكاف والنون، وهما مظهر للإيجاد وعنوان للخلق، والواسطة التي تنقاد معها الاشياء لله تعالى، فالموجودات كلها متوثبة لسماع (كن) لتستجيب صاغرة من غير ابطاء، ولابد من حذف في الآية والتقدير (كن ايها الأمر الذي قضينا فيكون كما اردنا) استحداثاً وابداعاً وتغييراً وتبديلاً واعداداً في اشارة الى شمول المشيئة للمعدوم ايضاً وعدم انحصاره بالموجود.
وعدم وجود أب لعيسى أو حصول الوطئ الذي هو مادة لعلوق الولد لا يعتبر جزء علة مفقود لخلق الولد، وان عيسى خلق بمشيئته تعالى من جهة الأم فقط، لموضوعية النفخ من روح في علوق عيسى .
فعيسى خلق من طرفين وأختص من بين الناس بان أحد الطرفين ملكوتي.
لقد جاءت الآية قاعدة كلية ثابتة في عالم الخلق والإبداع ومثالها ومناسبة الموضوع والحكم هي ولادة عيسى فلابد ان لها شأناً في مفاهيم الإبداع والخلق وأنها آية باقية الى يوم القيامة تدل على عظيم قدرته تعالى، فالخطاب في الآية وان جاء متوجهاً الى مريم الا انه دعوة للناس للتفكير في خلق عيسى وهذا لا يعني الإفتتان والكفر بسبب خلقه.
لقد أراد عز وجل ان يكون عيسى سبباً وعلة لإيمان الناس وانحسار الكفر، فلا يجوز التفريط والإفراط في المقام، بمعنى ان الآية تحذير من الجحود بآية خلق عيسى ورسالته فهذا الجحود تفريط وتضييع واعراض عن آية عظمى من آيات خلقه تعالى، وزجر عن الإفراط والغي فكون الإنسان مخلوقاً ينفي عنه صفة الإله، لذا حرص عيسى ان يعلن انه عبد وخصه بالكتاب والرسالة، ليكون داعية للتوحيد والإيمان ومما لا يخفى ان قادر على خلق عيسى من طرف مريم فقط من غير النفخ فيها من روحه، وقد خلق آدم من غير اب ولا أم، فلماذا نفخ فيها من روحه، الجواب ليكون عيسى ملكوتياً بشرياً تجتمع السماء والأرض في تكونه وخلقه.
وتدل الآية على ان عيسى خلق بمشيئة وأمره وفيها تحذير من القول بانه ابن كما زعمت فرقة من النصارى بل هو خلق حادث، ولكن ذكر هذه القاعدة الكلية في قصة خلق عيسى يدل على موضوعيته في عالم الخلق واصلاح النفوس والمجتمعات، ومجيء الآية بلغة الشرط (اذا) وبصيغة المضارع يدل على عدم انقضاء آيات الخلق التي هي فوق عالم العلل والأسباب، ليتوجه المؤمنون والمستضعفون الى عز وجل للإتيان بالآيات التي تبعث الإيمان في النفوس وتهدي الأمم وتصلح الأحوال وتكون سبباً في دفع البلاء والأذى، وهل يمكن استقراء قصر مدة الحمل بعيسى من مضامين هذه الآية، الجواب من وجوه:
الأول : نعم، لعظيم قدرته تعالى، ولعدم وجود فاصلة زمانية او فعلية بين كن فيكون، فلا يستلزم الأمر المرور بمراحل نشوء الجنين بقيودها الزمانية في التحول الى علقة أربعين يوماً والى مضغة اربعين، وكمال خلقة الجنين في أربعة اشهر وولوج الروح له في خمسة شهور، ووضع الحمل بعد تسعة شهور أو أقل.
الثاني : القدر المتيقن من قوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ] الأمر والقضاء بخلق عيسى من غير أب، اما تفاصيل وأحكام الخلق فتكون مشتركة من الإعجاز في النفخ في مريم من روحه، ونشوء الحمل والوضع وفق قوانين الخلق العادية والبدنية.
الثالث : المراد من الأمر في الآية هو ولادة عيسى لأن المدار والملاك على الوضع وليس على علوق الحمل، فلا يمر الحمل بعيسى بمراحل ومدة الحمل المتعارفة لقاعدة نفي الحرج وللتخفيف عن مريم التي اصطفاها ولأن سلامة عيسى في سرعة الحمل به ووضعه بيسر وأمان وفيه منع للأقاويل والإفتراءات بالإضافة الى ورود الإخبار به.
الرابع : الآية قاعدة كلية في الإرادة التكوينية، وجاء خلق عيسى شاهداً ومصداقاً، وكذا الأخبار عن موضوعه ضمن علوم الغيب في القرآن.
والوجوه الأربعة كلها صحيحة ولا تتعارض مع مضمون الآية.
وليس من امتناع في المقام أي ان المحمول لا يستحيل قبوله لذات الموضوع، فالحمل والوضع في يوم واحد ولكن وفق المشيئة الإلهية، فكما ان آدم حينما نفخ فيه من روحه عطس وقال الحمد لله، وكذا في خلق عيسى فلابد من خصوصية لمسألة النفخ من روحه في مريم تتجلى في قصر مدة الحمل.
وفي باب خلق السماوات والأرض يرد تساؤل لماذا كان في ستة أيام مع انه سبحانه اذا قضى أمراً يقول له[كُنْ فَيَكُونُ] والجواب عليه ان السماوات والأرض خلقت بذات الأمر، ولكنه أمر متعدد.
فقوله تعالى [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ] لا يتعارض مع قوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ] بتقريب ان أجزاء وأقسام السماوات كل واحد منها يخلق بكن فيكون، ولكن الأوامر الإلهية التي جاءتها متعددة ومتعاقبة وعلى مدا يومين فالسماء في لحظة من ساعات اليوم الأول.
والشمس في طرفة عين من اليوم الثاني، وهكذا القمر والنجوم وغيرها، كما تقول اني بنيت داري في سنتين انما هو شهر للأسس وشهر للسقف، وشهر للأرضية وهكذا.
وقال تعالى [خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ] “وفي الخبر انه خلق الأرض يوم الأحد، وخلق دواب البر والبحر يوم الإثنين”، ويصدق عليه هذه النظرية التي طرحناها، فكل فرد منها خُلق بقوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ] هذا مع قدرته تعالى على الخلق على نحو تدريجي وعلى مراتب والله قادر على كل شيء.
ومن فضله تعالى ان يختتم هذا الجزء من التفسير بقوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ] الذي هو باب لعشق المحبوب والتعلق برشحات فضله، والتطلع الى جمال صفاته وعظيم احسانه.
وتبعث الآية الأمل في نفوس المؤمنين جماعات وأفراداً، وتبعد القريب ذا النفرة والأذى، وتقرب البعيد ذا البهجة.