المقدمة
الحمد لله الملك القدوس العظيم الذي تنزهت صفاته عن النقائص، وجعل العقول قاصرة عن معرفة كنه حكمته، والأبصار عن إدراك بديع آياته، والألسن اللافظة عن احصاء نعمه، وعالم التدوين عن الإحاطة بفضله وجوده , تعالى عن صفة المخلوقين، وأراد للقلوب ان تبقى منجذبة الى مظاهر كمالاته وتجليات صفاته.
وتفضل وجعل الخلائق مجتمعة ومتفرقة تدرك الآيات التي تدل على وحدانيته.والبراهين الواضحة التي تشير الى ربوبيته، واحاطها بأسوار لا منتهية من الرأفة والرحمة، وكانت حصة الإنسان منها أعظم وأكثر من غيره اذ انها تنبسط على حياته في النشأتين، في عالم العمل وعالم الحساب، في الدار المؤقتة والأخرى الدائمة.
وقد بعث الله خاتم النبيين وخير الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين وأنزل عليه هبة الملكوت ومائدة السماء وكنز الدنيا وذخيرة الآخرة كتاب الله المصباح المتقد بضياء الإعجاز، وفرائد البرهان.
وجعله الله العروة الوثقى والإمام الهادي، والصراط المستقيم، والأصل الذي تتفرع عنه العلوم، وتقتبس منه المسائل، وتضمنه علم التوحيد وأحكام الحلال والحرام في العبادات والمعاملات، وأحسن القصص والمواعظ، لتستقرأ منه القوانين والقواعد التي تجعل الإنسان سابحاً في فيوضات رحمته، وآلائه المتظاهرة ونعمه المتصلة الباقية.
وهذا هو الجزء السادس والخمسون من معالم الإيمان في تفسير القرآن ويتضمن تفسير أربع آيات من سورة آل عمران واطلقنا عليه اسم “جزء القوانين والنظريات” لأنه يتضمن تأسيس ثلاثة وخمسين قانونا ونظرية وقاعدة كلها في علوم القرآن وعجائبه التي لا تفنى، ومقتبسة من رياض علومه وأنوار كلماته بفضل من الله تعالى، وليبدأ معه التعدد والوفرة في القوانين في هذا التفسير , ويكون فريدة الدهر وكتاباً لم يشهد له التأريخ مثيلاً بلطف واحسان من الله عز وجل , وهو الرزاق ذو القوة المتين، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وقد قمت بمفردي بتأليف ومراجعة وتصحيح مائة وسبعة أجزاء صدرت إلى الآن من هذا الكتاب متوكلاً على الله شأن كتبي الأخرى الفقهية والأصولية، فأحمده حمداً دائماً ابداً، وأسأله تعالى المزيد من الهبات والنعم لي وللمسلمين جميعاً [إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
قوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ]
الآية 48.
الإعراب واللغة
قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب (ويعلمه) بالياء، والباقون بالنون (ونعلمه).
ويعلمه الكتاب والحكمة: الواو: حرف عطف، يعلمه: فعل مضارع مرفوع، والفاعل: ضمير مستتر يعود لله تعالى، والهاء: مفعول به أول، الكتاب: مفعول به ثان.
والحكمة والتوراة والإنجيل عطف على الكتاب وقيل جملة(يعلمه الكتاب) في محل جر معطوفة على جملة [اسْمُهُ الْمَسِيحُ] ( ).
في سياق الآيات
بعد بشارة الملائكة بعيسى بصفاته الملكوتية وما يأتي به من الآيات الباهرات واستفهام مريم وتفضله تعالى بقضاء وحتمية أمر عيسى كفرد من مصاديق قدرته تعالى المطلقة.
جاءت هذه الآية لبيان خصائص كريمة اضافية يتفضل بها الله سبحانه على عيسى لإصلاحه للنبوة وقيادة الأمم في سبل الرشاد والفلاح، كما تبين الآية التالية صفة النبوة التي يحملها عيسى.
لقد جاءت الآية السابقة بان عيسى يكلم الناس في المهد وكهلاً، وتبين هذه الآية موضوع وماهية كلامه وانها علوم سماوية وحكمة وتنزيل.
لقد جعلت الآية تعليم التوراة والإنجيل لعيسى بعرض واحد , مع ان التوراة أنزلت على موسى والإنجيل نزل ابتداء على عيسى مما يدل على موضوعية معرفة عيسى بالتوراة، وفيها مقدمة لقيامه بنسخ بعض أحكامها، فلا يمكن الإتيان بالناسخ من غير معرفة المنسوخ.
ووفق قاعدة ما عند الأنبياء السابقين هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فان الآية شاهد سماوي على احاطة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم علماً بالتوراة والإنجيل.
وتضمنت الآية التالية ذكر المعجزات الحسية التي جاء بها عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، وقد سبقتها هذه الآية بذكر الآيات العلمية التي رزقه الله والتي تكون سلاحاً مصاحباً للنبوة، ويتصف عيسى عليه السلام بأن الله عز وجل رزقه المتعدد من العلوم مثلما رزقه المتعدد من المعجزات الحسية.
إذ تبين هذه الآية أن الله عز وجل علّم عيسى عليه السلام من الفيض وذخائر العلم :
الأول : الكتاب.
الثاني : الحكمة.
الثالث : التوراة.
الرابع : الإنجيل.
ويحتمل أصل الآيات الحسية التي ذكرتها الآية التالية من النفخ في الطين وصيرورته طيراً باذن الله وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى باذن الله وغيرها وجوهاً:
الأول : إنها فرع تعليم عيسى الكتاب والحكمة.
الثاني : إنها من تعلم عيسى للتوراة.
الثالث : هي من تعلم عيسى عليه السلام الإنجيل.
الرابع : فيها آية مستقلة ومعجزة قائمة بذاتها.
والصحيح هو الأخير من جهات:
الأولى : موضوعية العطف بين الآيات لإبتداء الآية التالية بقوله تعالى[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ].
الثانية : هذه المعجزات الحسية جزء من رسالة عيسى وشاهد على صدق نبوته.
الثالثة : إختصاص عيسى عليه السلام بالتعليم الوارد في هذه الآية، أما المعجزات التي تتضمنها الآية التالية فهي لبني إسرائيل لقوله تعالى حكاية عنه[وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
إعجاز الآية
مع قلة عدد كلمات هذه الآية فان كل كلمة منها مدرسة عقائدية مستقلة تبين عظيم فضله واحسانه على عيسى ومن بعده على الناس جميعا، وتجلت معاني العطف بأبهى صور البلاغة اذ تعطف كل كلمة واحدة على أختها مع ان مضامين كل منها يحتاج بيانه الى تفسير وتأويل وتفصيل بما يؤكد وجود خزائن للعلوم في كل كلمة من كلمات القرآن، وان عطاءه سبحانه متصل ولا ينحصر بموضوع دون آخر لقد أخبرت ألآية عن حقيقة وهي مع تفضله سبحانه بانزال التوراة والإنجيل وانه علمهما لعيسى عليه السلام.
ومن الإعجاز في نظم الآيات انعدام الفترة والمدة بين خلق عيسى وتعليمه أعظم الآيات، فبعد خلقه بكن فيكون الذي ختمت به الآية السابقة أفتتحت هذه الآية بتعليمه الكتاب والحكمة، وان قلتَ ان الفترة معلومة بلحاظ النشوء والنمو ومراحل حياة الإنسان من الرضاعة والصبا ثم البلوغ.
قلتُ: ان مسألة المراحل غير موجودة في المقام، وتدل على انعدامها القرائن والآيات القرآنية، فعيسى تكلم في المهد ونطق بالحكمة وبدأ مع أقرب الناس اليه حال وضعه، وأمر أمه بان تهز النخلة قال تعالى [وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا] ( ).
فمن الحكمة اختيار الموضوع وكيفية الفعل ومقدمات الحصول على الطعام الأنسب والأصلح عند النفاس ومعرفته بان هز النخلة مع كبر حجمها وثبات أصولها في الأرض يجعلها تجود بالرطب عند محاولة مريم عليها السلام هزها.
ويمكن تسمية الآية بآية (يعلمه الكتاب) ولم يرد لفظ (يعلمه الكتاب) الا في هذه الآية في تشريف لعيسى وبيان لعظيم منزلته عند.
الآية سلاح
مثلما تبدو مظاهر الجلال والبهاء في مفردات وكلمات هذه الاية فان كل كلمة منها هبة ونعمة عظيمة على عيسى وأمه عليهما السلام وعلى بني اسرائيل والمسلمين جميعاً والى يوم القيامة.
وتبين الآية ان تعليم التوراة والإنجيل حصل لنبي من أنبياء الله مما يعني تفضله تعالى بتوثيق موضوعات وآيات كل منهما بالإضافة الى نزولهما وتلاوتهما من قبل المسلمين، وانه تعالى لا يريد من الناس تلاوة الكتب المنزلة فقط بل لابد في تعلمهما.
والآية حرب على تحريف الكتب المنزلة وعون سماوي لتثبيتها والمنع من سوء تأويل أحكامها.
مفهوم الآية
لقد جاءت الآيات السابقة بذكرمصاديق من علوم الغيب التي تفضل الله سبحانه باطلاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليها وفي الآيتين الأخيرتين ذكرت بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بعيسى لتكون هذه البشارة عيداً للمسلمين في كل زمان لما تدل عليه من الفيض والبركات.
وجاءت هذه الآية لبيان عظيم احسانه على عيسى وعلى الناس جميعا بواسطته.
ولم تأتِ النعم والآيات التي ذكرتها هذه الآية متصلة مع البراهين العظيمة التي ذكرتها الآيات السابقة والبشارات الخاصة بعيسى ووجاهته في الدنيا والآخرة وقربه من رحمة وتكليمه الناس في المهد وعند الكهولة بل جاءت بعد استفهام مريم وسؤالها عن كيفية حصول البشارة واعتبار الأسباب فيها، وهذا من الآيات العقائدية والبلاغية في القرآن
فصحيح ان كل آية علم مستقل الا انه لايمكن فصلها عن الآيات السابقة اذ كانت تلتقي معها بوحدة الموضوع والحكم كما في المقام الجامع بين هذه الآية والآيات السابقة هو الصفات القدسية لعيسى ليكون هذا الإلتقاء آية أخرى, وحصول الفصل بسؤال مريم عليها السلام فيه وجوه:
الأول : جاءت الآيات السابقة بخصوص بشارة الملائكة لمريم عليها السلام، ونقلوا ما أمرهم به، وحينما ناجت مريم عليها السلام جاءها الجواب من عنده، فالآية تبين اختتام بشارة الملائكة بقوله تعالى [مِنْ الصَّالِحِينَ].
الثاني : في الآية مصداق لما ورد في التنزيل في قصة خلق آدم وخلافته في الأرض وتعليم آدم الملائكة الأسماء بأمره تعالى [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]، فقد جاءوا بالبشارة ومضامينها، وهناك آيات قدسية لا يعلمها الا تعالى فأحاط مريم بها علماً، وتفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأظهره عليها باعتبارها من علوم الغيب مما يمكن معه استنباط قاعدة كلية، هي ان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وريث للمصطفين والصالحين والمحدثين , وليس للأنبياء فقط، وان وراثته للصالحين نال منها المسلمون اذ اطلعوا من خلال آيات القرآن على العلوم النازلة عليهم.
الثالث : الجمع بين خاتمة الآية السابقة وهذه الآية يفيد ان خلق عيسى امر مقضي وحتمي وخارق للقواعد والعادات [يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ] وفيه اشارة الى علم عيسى بالكتاب من حين ولادته أي ان كلامه في المهد أعم من بيان القدرة على النطق، بل يتضمن الحكمة، ومن أهم مصاديقها الدعوة الى تعالى والتقيد بالأحكام الشرعية وسنن الأنبياء.
الرابع : نبذ الشرك ومقدمات الكفر والضلالة ومعرفة ما فيها من وجوه القبح، مما يساعد على اجتناب النفرة منها ومن أهلها.
الخامس : سميت حكمة لأنها مانعة من الجهل, منه قوله تعالى [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا] ( ).
وفي الحديث ان المراد من الحكمة في الآية طاعة فتكون الحكمة أعظم ثروة يحصل عليها الإنسان في حياته، كما انها تنفعه في النشأتين وتكون واقية له من الزلل والخطأ، ووسيلة لجلب النفع والخير.
السادس : المراد من الحكمة النبوة ومفاهيمها، فتدل الآية بالدلالة التضمنية على البشارة بنبوة عيسى، واذ جاء وصف (نبياً) ليحيى صريحاً في بشارة الملائكة لزكريا، فان الوصف جاء بالدلالة التضمنية لأن أفراد الآيات الخاصة بعيسى متعددة ومتكثرة وكل واحدة منها شاهد على النبوة , بالإضافة الى اعلانه لرسالته .
السابع : الفقه والمعرفة والإحاطة بالعلوم والنظر والإستدلال علم موهبة، ولقد قام عيسى بتعليم تلاميذه واعدادهم لقيادة الأمم من بعده وهو أمر يستلزم أهلية علمية وهمة عالية.
لقد جاءت الحكمة على نوع الهبة وليس الكسب فقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]، أي ان هو الذي تفضل وتولى تعليمه وارشاده، وفيه تشريف لعيسى واكرام له , ولمن تبعه من اصحابه وانصاره والمؤمنين به من المسلمين الى قيام يوم الدين، لأنه جاء بمضامين الحكمة الإلهية وكان مرآة للتعليم الإلهي.
وتملي الآية على المسلمين الأخذ والإقتباس منه ومن سيرته وأقواله وهذا الفرد من علوم الغيب التي أطلع عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون لما فيه من التنبيه على الكنوز السماوية في سيرة وأقوال عيسى ولزوم تعاهدها وحفظها والعمل بها.
ان الغلو بعيسى والقول انه ابن يجب لا يكون حاجزاً دون الأخذ من سيرته التي وردت عن طريق القرآن والسنة النبوية الشريفة مما لم يأت في الشريعة الإسلامية ما يفيد نسخه وتغييره والإتيان ببديله.بل مطلقا لانها ثروة وتركة النبوة .
وتبين الآية ان رزق المسلمين أعظم مصاديق الحكمة بالقرآن كما ان سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي الحكمة والعلم والمعرفة ولم يأت الأنبياء بشيء لم يأتِ بالقرآن والسنة النبوية الشريفة، فالحكمة التي رزق عيسى عند المسلمين وبين ظهرانيهم،
ومن الآيات في تفضيل عيسى ان تعليمه لم ينحصر بالحكمة بل علمه الحكمة والتنزيل، وجعله ينطق وهو في المهد، فما ان وضعته أمه الا وكان عالماً متعلماً ليحاكي بذلك آدم في خلقه وزاد فضله تعالى عليه بوجوه:
الأول: ان تعليمه جاء ابتداء منه تعالى وليس بعد ان سأل الملائكة وعجزوا عن معرفة الأسماء وعلمها آدم.
الثاني: لم ينحصر تعليمه بالأسماء بل بالحكمة والكتاب والتنزيل ولو كان عيسى يخبر الناس بأسمائهم وهو في المهد لكان آية عظمى، ولكنه أستثمر الكلام لهداية الناس وصلاحهم أما آدم فأنبأهم بأسمائهم لأن الملائكة عنوان للايمان والصلاح المحض ولا يفعلون الا طاعة .
الثالث: التعدد في وجوه ومصاديق العلم، وهي الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وكل علم منها تتشعب عنه علوم عديدة.
الرابع: لقد كان تعليم آدم في السماء ومع الملائكة، اما تعليم عيسى ففي دار الإبتلاء ومع مجتمعات فيها المعاند والحاسد ونحوه.
ولابد للترتيب في أفراد التعليم الإلهي لعيسى من دلالات ويستلزم التحقيق والإستقراء لإستنباط العلوم والإشارات منه فلقد بدأ بالكتاب ثم الحكمة ثم التوراة فالإنجيل , وكأن كل واحد من العلوم السماوية الأربعة مقدمة للآخر , وعون على معرفته ,واتقان العلم به.
الا ان يقال ان الواو هنا لا تفيد الترتيب ولكن القرائن تدل على افادتها الترتيب بالإضافة الى المعية.
افاضات الآية
لقد أراد لعيسى ان يكون سابحاً في بحار الفيض الإلهي ومستقراً في حضرته بتلقيه العلوم منه تعالى على نحو مباشر ومتصل، وظاهر الآية يفيد ان عيسى يأخذ الكتاب والحكمة منه سبحانه , ووجود واسطة ملكوتية لا يضر في صدق الأخذ منه سبحانه.
وتبين الآية درجة الإصطفاء التي يتصف بها عيسى ومراتب العلم التي نالها من رحمته تعالى وهي شاهد على انتفاء الجهل عن المصطفين الأخبار من آل ابراهيم وآل عمران ودعوة للناس للإقتداء بهم، وواو العطف بين كل من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل تفيد المغايرة بينها وان تعليم كل واحد منها فضل وفيض مستقل.
التفسير
قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ]
من قرأ (وَنعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ) بالنون أراد مجيء الآية بصيغة المتكلم,والحاق الآية بموضوع الآية السابقة وانه خطاب لمريم وجواب على سؤالها عن كيفية صيرورة الولد عندها مع انها طاهرة نقية.
ولكن المرسوم في المصاحف (يعلمه) وله دلالات عقائدية أخرى منها:
الأولى : توجه الخطاب والخبر في الآية للناس جميعاً على نحو مباشر ليكون حجة عليهم.
الثانية : جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية لتوكيد نزول الإفاضات على عيسى بالذات.
الثالثة : موضوع الآية هو تفضله تعالى بتعليم عيسى أشرف أنواع العلوم ومصاديق الحكمة فجاءت الآية بصيغة الخبر لبيان فضله تعالى وبلغة المدح والثناء عليه سبحانه فلا يقدر احد على اعطاء ومنح هذه العلوم غيره سبحانه، وقال الإمام الرازي (والأقرب عندي ان يقال: المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة) ( )،
ولم يرد لفظ الكتاب في القرآن بهذا المعنى، كما ان لفظ الكتاب يتباين مع فعل الخط والكتابة، وأكثر الناس يعلمون القراءة والكتابة ولا يتجرأ أحدهم ويقول علمني الله الكتاب للمغايرة ولموضوعية حدوث التعليم منه تعالى وبفضله، والمليون جميعاً ينظرون الى لفظ الكتاب اذا كان نازلاً من السماء بعين الإجلال والإكرام ويتبادر الى الأذهان الوحي والتنزيل ومن مصاديق الآية الكريمة كلامه في المهد، فهو من الكتاب لأن عيسى أفتتح كلامه عند وضعه وخروجه الى الدنيا [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ] وبقرينة ان الكلام في المهد فلابد ان الكتاب هو العلم والوحي.
وقد ورد عن ابي سعيد أنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عيسى بن مريم سلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب، فقال: ما اكتب؟ قال: بسم ، قال عيسى: وما بسم قال المعلم: ما أدري قال له عيسى: الباء بهاء والسين سناؤه، والميم مملكته، و إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة”( )،
وفيه ان تسليم مريم عيسى للكتاب يدل على ارادة تعلمه القراءة والكتابة، وان كان هذا التسليم لا يدل على عدم معرفته الكتابة والقراءة حينئذ.والقول بارادة الكتابة ورد عن ابن جريج وقال: اعطى عيسى تسعة أجزاء من الخط وسائر الناس جزء، ولكنه لم يثبت كبرى وصغرى أي لم يثبت ارادة الكتابة والخط من قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ] ولا انفراد عيسى بتعلم تسعة أجزاء الخط ابتداء.
وقال الجبائي “بعض الكتب التي أنزلها تعالى على انبيائه سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وقال الطبرسي: وهو اليق بالظاهر”( ).
ولكن لفظ الكتاب أعم، وان الأمر لا يتعلق بالتنزيل وحده بل بالتعليم، والتعليم أعظم وأعم من التنزيل.
وجاء قوله [آتَانِي الْكِتَابَ] بصيغة الماضي أي وهو في المهد قبل أوان النطق شاهد ومبرز خارجي على اتيانه الكتاب، وعلى فرض تعلق الآية بالخط والكتابة فهل كان بمقدور عيسى الخط والكتابة وهو في المهد لأنه أخبر عن اتيانه الكتاب من عنده تعالى حينئذ، الأقوى لا، وانه لا يقوى على الخط وهو في المهد.
ويعجز عنه بلحاظ ضعف قدراته البدنية فمن الآيات انه ينطق بابهى الألفاظ وأعذب الكلمات وأصدق المعاني وهو لايزال في المهد عاجزاً عن الحركة، ولو تردد الأمر بين قيامه بالخط والكتابة وعدمهما.
وهذه الآية الكريمة من الشواهد القرآنية على وراثة المسلمين للأنبياء عليهم السلام.
وقد ورد لفظ (يعلمه الكتاب) في هذه الآية فقط وتمثل جذبة بين المعبود والنبي، وان يتفضل على النبي فيعلمه وجوه الحكمة ويصلحه للنبوة ويهديه لسبل الرشاد وكيفية الإمامة والرئاسة في أمور الدين والدنيا.
وجاء اللفظ بصيغة الجمع ثلاث مرات في القرآن قال تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ] وكلها في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعليمه للمسلمين آيات التنزيل وأحكام الشريعة، مما يدل على تعلم المسلمين للكتاب ومواريث الأنبياء وأحكام التأويل، ومصاديق الوحي والتنزيل بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ كل آية من القرآن ولم يخف كلمة واحدة منه مع ان عدد كلماته هو (77430) كلمة.
وهذا لا يمنع من التباين في فضل وموضوع التعليم، فما تفضل سبحانه بتعليمه لعيسى أرقى مرتبة وأسمى درجة بلحاظ أنه جاء مباشرة منه تعالى، ولأنه تعليم لنبي، فهو أصل تتفرع عنه صيغ من التعليم، وقد ورد تفضله تعالى بالكتاب على اليهود والنصارى بصيغة الإيتاء، قال تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ] ( ).
مما يدل على ورود صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتاب الذي تلقاه أهل الكتاب بواسطة الأنبياء في التوراة والإنجيل والزبور واخبار السماء.
قاعدة جديدة
ان قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ] فيه بشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان تفضل وأخبر عيسى برسالته وبعثته في آخر الزمان ليكون هذا الإخبار مقدمة وسبباً لتبشير عيسى به واعلان تصديقه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تلقى التصديق من يحيى، لتتجلى مفاهيم اتصال سلسلة النبوة.
ويمكن استنباط قاعدة جديدة منها وهي التعضيد بين الأنبياء في أفراد الزمان الطولية، فالسابق يعضد ويصدق اللاحق، واللاحق يصدق السابق ويثبت نبوته، لتكون الآيات والبراهين عند كل نبي سلاحاً بيد الآخر، والنبوة سور مبارك جامع ينهل منه الأنبياء والمسلمون والناس جميعاً.
ومن العلوم والآداب التي يعلمها لكل نبي تصديقه بالأنبياء السابقين واللاحقين، وأنفرد آدم بطرف الإبتداء فليس من نبي قبله، وأنفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطرف الختم فهو يصدق الأنبياء السابقين وليس من نبي لاحق له، بالإضافة الى خصوصية اخرى فاز بها وهي تصديق جميع الأنبياء في الدنيا لنبوته، فلم يغادر نبي الدنيا الا وبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولتصبح نبوته في كفة معادلة للنبوات الأخرى في باب التصديق، أي كل النبوات تبشر وتصدق بنبوته، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يصدقها جميعاً.
علم المناسبة
من الآيات في موضوع البشارات السماوية ان ترد آية بالبشارة وتأتي آية اخرى تخبر عن حصول البشارة في الواقع سواء بالإخبار عن أفعال تدل على المصداق العملي لموضوعها، او لغة الشكر والثناء عليه تعالى لثبوت حدوثها او بمجيء شاهد قرآني يدل عليه، كما في المقام فقد جاءت آية قرآنية تدل على حدوث البشارة كما في قوله تعالى [وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ] ( )، فانها جاءت مخاطبة لعيسى بعد ولادته، ونشوئه، وبصيغة الفعل الماضي مما يدل على حصول البشارة واقعاً، وتأكد عيسى منها، وشعوره بان الذي عنده هو رزق كريم ونعمة منه تعالى.
لقد أنفرد عيسى من بين الأنبياء بان علمه الكتاب وهو من باب المثال وليس الحصر لأن العلم بالكتاب من مستلزمات النبوة فكل نبي يعلم الكتاب ولابد للإنفراد هنا من خصوصية وتشريف لعيسى في المقام ومن وجوهه:
الأول : ان عيسى لم يتلق التعليم من أحد سواء من الأم او الرهبان بل نطق بكلمة التوحيد وهو في المهد مما يعني عدم الواسطة في التعليم، وان اراد له ان يولد عالماً، وتلك آية اعجازية أخرى، وهي تعلم الكتاب والحكمة من غير وسائط بشرية او اعتبار لأيام العمر، فالآية تنفي الأسباب المتعارفة والعادية في كسب العلم بخصوص عيسى، كما أنتفت تلك الأسباب في موضوع ولادته.
الثاني : ان الأخبار عن تفضله تعالى بتعليم عيسى اكرام خاص له، ودعوة الى تصديقه، وتلمس سيرته وأقواله المباركة لأنها من عند .
الثالث : لم تنقطع الصلة بين المعبود والعبد بعد نزول آدم الى الأرض، فكما تفضل سبحانه وعلم آدم الأسماء كلها فانه سبحانه علم عيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
ترى أيهما أكبر وأهم وأعظم تعليم الأسماء لآدم ام ما علمه لعيسى ، والتي يمكن ان نطلق عليها اصطلاح (العلوم السماوية الأربعة) وهي الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، الجواب هو الثاني لأن مواضيع التعليم التي رزق الله عيسى بأمور النبوة والأحكام الشرعية وأفراد التنزيل والحكمة وليس بموضوع الأسماء فقط، لذا فان عيسى من الرسل الخمسة أولي العزم، نعم لقد آتى آدم النبوة والوحي، وان ما رزقه من العلم ومقامات النبوة من فضله فالمقارنة بخصوص أفراد التعليم , وما علمه لعيسى هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي شرفه بنزول القرآن الجامع للعلوم والأحكام.
تعتبر الآية اشراقة ملكوتية تشع على النفوس فتملأها بهجة وغبطة لأنه سبحانه يعلم عيسى بنفسه ليكون هذا التعليم ملكاً للمسلمين في كل زمان وينمي الحب لعيسى عند أجيال المسلمين سواء لأنه نال شرف تلقي التعليم مباشرة منه تعالى، او لأنه الواسطة المباركة لنقل هذا التعليم البناء ولقد تشرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي كما تلقي الأمر منه تعالى في ليلة الإسراء.
لقد جـــاءت الآية بشـــارة الى مريم ومن خـــلالها الى بني اسرائيل والناس كافة، لأن تعليم عيســـى الكـــتاب مقدمة لهداية وصلاح الناس.
والكتاب اسم لما يقع بين دفتين من الكتابة والتدوين، وهو مصدر كالقتال، وقد يراد بالمصــدر المفعــول به أي المكتــوب وله معان عديدة منها:
الأول : اللوح والمحفوظ.
الثاني : القرآن.
الثالث : الكتب السماوية المنزلة سواء على نحو الاطلاق والعموم الاستغراقي او الخاص.
الرابع : عنوان التنزيل الخاص على النبي الرسول.
الخامس : الاجل كما في قوله تعالى [وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ] ( ).
السادس : الفرض والواجب.
السابع : الاحكام الشرعية.
الثامن : ما يحتاج اليه من احكام الحلال والحرام.
التاسع : العلم الخاص الذي يكون مع الانبياء ويعلمون به الوقائع والاحداث باذن الله.
والاقوى ان المراد في المقام هو الرابع والسادس والثامن والتاسع، فالكتاب مرتبة من العلم وحصانة من الوقوع بالزلل.
ان العطف والمغايرة في الآية الكريمة بين الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل لايمنع من انطباق بعض الموضوعات على اكثر واحد منها، كما لوجاءت بعض احكام الحلال والحرام في كل العلوم السماوية الاربعة، وتكون في بعضها مجملة وفي الاخرى مفصلة.
قوله تعالى [وَالْحِكْمَةَ]
لقد آتى عيسى آيات باهــرات اختـــص بها مــن بين الناس وجعله يتكـــلم في المهــد وهذا الكلام لم يكن مع الذات او من غير تبيان للمعاني بل كان دعوة الى تعالى فلابد ان يكون من مصاديق الحكمة وبما ينتفع الناس من آيته انتفاعاً عاماً، ولو كانت آيته خاصة بالقدرة على النطق في حال المهد، لأمكن تأويلها من قبل الأطباء أمس او اليوم او غداً ولأعتبرت حالة نادرة وشاذة، ولكن الآية جاءت مركبة من:
الأول : القدرة على الكلام حال الولادة.
الثاني : النطق بالحكمة وأسباب الهداية والإيمان.
الثالث : مخاطبة الناس والتمييز في الكلام بينهم , ومعرفة لغة التخاطب وأوان الحاجة للكلام.
الرابع : عدم انقطاع الكلام أو انحصاره بأيام المهد، او أيام مخصوصة منه، بل هو ملازم لجميع أيام عيسى ، اتماماً للحجة والبرهان، وزجراً لأهل الريب والشك.
وجاءت الحكمة التي رزق عيسـى له بالذات وللغــير، فالمقصود من تعليمه الحكمة الناس جميعا ًسواء أهل زمانه او غيرهم، والآية دعوة لتلمس وجوه الحكمة التي علم عيسى بسنته القولية والفعلية لأن هذا التعليم رحمــة بالناس وبــاب من العلـم يفتحه عليهم ليكون عوناً على النفس وسبيلاً لهداية الناس، ومادة لتثبيت الإيمان في الأرض .
وتبين الآية حبه تعالى لعيسى والناس جميعاً بتفضله بتعليمه الحكمة وعدم ايكال الأمر الى غيره، فهو سبحانه لم يترك مريم تعلمه ولم يتكفله أحد الأنبياء او الرهبان كما حصل مع أمه مريم، وان وردت بعض الأخبار بدخول عيسى في صباه الكتاب, وهذا الدخول له غايات سامية بعد ثبوت انتفاء الحاجة له.
لقد كان دخوله الكتاب حجة على الناس ووسيلة لتعليم الكبار والصغار لزوم التصديق بنبوته واتباعه, و مناسبة للإلتقاء بالصبيان وهدايتهم الى سبل الرشاد.
وهو شاهد على عدم ترفعه عن طلب العلم مع ان آتاه الكتاب والحكمة وفيه إشارة بان العلم الهبة لا يمنع من السعي والتحصيل في العلم الكسبي، بل ان اتيان الحكمة منه تعالى يكون على وجوه متعددة , ومنها تلقي المعارف النظرية من خلال الصلات مع الناس, والسعي في مسالك العلم والتقوى.
لقد اراد للناس الإرتقاء في ميادين العلم لأن هذا الإرتقاء مقدمة ومناسبة للمعرفة والإقرار بالعبودية لله تعالى، وباب لتيسير وفهم الآيات العقلية الكونية والذاتية .
وما آتاه من الحكمة لعيســى والأنبياء لم يكــن لهم على نحــو الحصــر والتقيــيد، بل هو فضــل منه تعالى على النــاس جميعاً، ليقتبســـوا من أفراد الحكمــة النبوية ولو على نحو الموجبة الجزئية.
لذا ترى آيات التقوى والصلاح تظهر جلية على أصحاب واتباع الأنبياء، فما يغادر النبي الأرض الى الرفيق الأعلى الا وتجد أصحابه ينهضون بالمسؤوليات الشرعية ويحرصون على تعاهد المبادئ والأحكام التي جاء بها من عند .
ولا يمكن حصـــول هذا الإنقياد للنبي بعد وفاتــه، او بعد رفعه كما في عيسى الا لأن أكثر مبادئ الحكمة التي عند النبي ورثها أصحابه وأعوانه، فقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] بشارة للمسلمين واخبار عن الهبات التي منحها لهم بواسطة عيسى وهو من بركات عيسى في الدنيا والآخــرة، أمــا في الدنيا فللإنتفــاع النوعـي العام مما آتاه تعالى في الأقـوال والأفعال والعقائد واتيــان الواجبات واجتناب السيئات.
قانون التركة
لقد صاحب التعليم الإنسان منذ بداية خلقه وقبل ان يهبط الى الأرض، فكان تعليم تعالى لآدم الأسماء آية تكوينية وكأنها جزء من خلقه وتهيئته للسكن في الأرض وأعمارها، وورثت ذريته منه اللغة وصيغ التخاطب والتفاهم, والنسبة بين اللفظ والمعنى بحيث يتبادر الموضوع بمجرد سماع اللفظ الخاص به، فما تلقاه آدم في السماء وصار فخراً له على الملائكة موجود عند ذريته وأجيالها المتعاقبة.
وسيبقى التعليم من تركة آدم ومن ذخائر السماء التي أنزلت واستقرت في الأرض، ولم تغادرها الى يــوم القيامة، وهــي عنوان لتمييز الإنسان عن غيره من الخلائق، ويطلق عليه في علم المنطق الحيوان الناطق اشارة الى انفراده بالنطق كشاهد عز وفخر ورفعة، ولكنه أسمى من هذا الوصف لأنه لم ينفرد بالنطـق وحده بل أتخذ اللغة سلاحاً وعوناً وسبـيلاً للهداية وطريقاً لأداء العبادات، فالإنسان ورث اللغة، وما تلقاه آدم في السماء، ليستعين به على العبادة، ويستحق معه الخلافة في الأرض.
ولم تنحصر التركة التي ورثها الناس باللغة والأسماء التي تعلمها آدم بل تفضــل سبـــحانه وعلم الأنبــياء الحكمـــة وأنزل عليهم الكتب وعلمهم كيفــية عبادتـه وأداء الفرائض وصيغ التقرب اليه.
ومنها تعليمه تعالى لعيسى الحكمة ومضامينها، وأجتهد عيسى في جعل الحكمة التي تلقاها تراثاً للإنسانية، وتلك صفة ثابتة من صفات الأنبياء بان يحرصوا على ابقاء ما تعلموه وما أفاض عليهم ثروة وذخيرة للناس جميعاً، لينهل منها المسلمون، وتكون وسيلة لجذب الأنصار والإتباع، وباباً للتوبة ومادة للهداية والصلاح، ومنها أنزال الكتب السماوية التي يتوارث المسلمون آياتها وتفسيرها والعمل بها، وكذا سنن الأنبياء وسيرتهم، فينتقل الأنبياء الى الرفيق الأعلى ليخلفوا من ورائهم أعظم ثروة، ويمكن ان نسمي هذا القانون (قانون التركة).
وتتصف تركتهم عليهم السلام بانها لم تتشتت ولم تنقص وتتبدد بخلاف أي تركة أخرى سواء كانت بالمال او الجاه او الملك والسلطان فتركة الأنبياء من خزائنه تعالى كلما يأخذ الناس منها تزداد وتنمو وتتسع، ولقد تشرف المسلمون وفازوا بوراثة هذه التركة العظيمة بالقرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي باب المواريث يرث الناس بعضهم بعضاً بطريقين:
الأول: النسب كالبنوة والأبوة والأخوة والعمومة والخؤولة وفق مراتب الأرث.
الثاني: السبب وهو الزوجية والولاء.
اما بالنسبة لتركة التنزيل فيرثها المسلمون بالإيمان وليس فيها سهام وحصص متباينة بل كلهم شرع سواء وبعرض واحد، وللصغير والعبد ان ينهلا منها أكثر من الكبير والسيد، والمرأة اكثر من الرجل او العكس , وكل على خير وفي نعمة منه تعالى.
واما في الآخرة، فللثواب العظيم الذي يترتب على فعل الصالحات وما يكتسب المسلمون من آداب النبوة , لذا ورد في التنزيل حكاية عن عيسى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ]( ).
ومن الحكمة ان اوصاه تعالى بالصلاة والزكاة لأنهما من مصاديق الإيمان ومعرفة وجوب عبادة الخالق شكراً وطاعة له، ومن الحكمة الإلتزام بالوصية الإلهية والتقيد بها في جميع أيام الحياة من غير تفريط بجزء او فرد من أفرادها أي ان الحكمة مركبة من:
الأول : الأمر بالشيء.
الثاني : اتيانه والتقيد به.
والأول من التعليم والثاني من التعلم والتأديب، ان سيرة وجهاد عيسى دليل على صدق تعلمه.
وفي (الحكمة) الواردة في الآية وجوه:
الأول : الفقه وعلم الحلال والحرام، عن ابن عباس.
الثاني : السنن وأحكام الشريعة وأستدل عليه بما ورد عن الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أوتيت القرآن ومثليه( ).
الثالث : جميع ما علمه من أصول الدين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الحكمة ولكن عطف الحكمة على الكتاب، وعطف التوراة والإنجيل على الحكمة يجعل خصوصية للحكمة ويؤكد ما لها من مضامين قدسية تنفرد بها، وتكون مقدمة لتعلم الكتاب والتوراة والإنجيل، وملازمة لتعلمها وثمرة لها، وللعلم الهبة والكسبي، والحكمة وسيلة لفهم التوراة والإنجيل ومعرفة عظيم منزلتهما ولزوم تعاهدهما وحفظهما وتعليم المسلمين لما فيهما من الأحكام والسنن.
قوله تعالى [وَالتَّوْرَاةَ]
التوراة هو الكتاب النازل على موسى ولا يزال معروفاً بين المليين ويحتل منزلة عظيمة عند اليهود والنصارى والمسلمين, والسبب من وجوه:
الأول : نزوله على موسى ، وتلقيه من قبل انبياء بني اسرائيل الذين جاءوا من بعده، لأن موســى رســول ذو شــريعة، والأنــبياء مـن بعده يعلمون بشريعته والكتاب النازل عليه الى حين نزول عيسى .
الثاني : تعلم عيسى التوراة وتقيده بالعمل بها الا ما شاء .
الثالث : اخبار القرآن عن صدق نزول التوراة من عند وضرورة الإيمان به ككتاب سماوي [كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ]( ).
وفي الآية اخبار سماوي عن موضوعية الحكمة في النبوة وتثبيت دعائم التوحيد في الأرض، لأن الحكمة عمل وفعل تتجلى فيه الدقة والضبط والسلامة من الزلل وهي نقيض الجهل، (وفي التوراة قال الله لموسى عظم الحكمة فاني لا أجعل الحكمة في قلب أحد إلا وأردت ان أغفر له، فتعلم ثم إعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة)( ).
وفي الآية توثيق ســماوي للتوراة ودعــوة للإلتــفات الى موضوعيتها في ميادين الإيمان والعمل، ولو لم تكن لها موضــوعية خاصة لما علمها الى عيسى وخصها بالذكر في أفــراد العلم التي آتاه , فهو سبحانه لم يكتف بذكر الحكمة وجعلها سوراً جامعاً يضم التوراة والكتب السماوية المنزلة من قبل ولم يجعلها من أفراد ومصاديق الكتاب بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ] بل خصها بالذكر في التعليم ومن وجوه تعليم التوراة:
الأول : العمل بأحكامها والتقيد بما فيها من الأوامر والنواهي.
الثاني : انها مقدمة لتعلم الإنجيل.
الثالث : معرفة النسبة بين التوراة والإنجيل وهل هي التساوي ام العموم والخصوص المطلق اوالخصوص من وجه، والصحيح هو الأخير لوجود تشريع جامع بينهما ووجود ناسخ في الإنجيل ومنسوخ في التوراة.
الرابع : الإحتجاج على اليهود في لزوم اتباعه والإنقياد الى شريعته لما في التوراة من البشارات بنبوته.
الخامس : من مصاديق الإرادة التكوينية تعلم الرسول للكتاب النازل قبله، والتوراة نازلة على موسى ، لينفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصية وهي تعلم جميع الكتب النازلة قبله، بالإضافة الى القرآن وهو جامع لها.
السادس : ان الذين يكلمهم عيسى ويظهر نبوته بين ظهرانيهم هم اليهود، وكتابهم التوراة، فلابد ان يعلمه كي يستطيع اقامة الحجة والبرهان عليهم خصوصاً وانهم لا يفقهون غيره فكان تعلمه التوراة سلاحاً لإثبات نبوته ومواجهة اعدائه.
السابع : سيأتي بعد آيتين وفي الآية الخمسين من السورة ان عيسى يعلن لبني اسرائيل انه جاء بنسخ بعض أحكام التوراة، ولابد ان يكون النسخ عن علم بالتوراة مطلقاً وبالمنسوخ من أحكامها خاصة ليكون هذا العلم سلاحاً في الإحتجاج ومادة للبرهان ووسيلة لإقامة الحجة وابطال شبهة الخصم.
الثامن : لكشف التحريف والزيادات والنقص الذي طرأ على التوراة وقد تقدم في سورة البقرة، قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
وفي الآية تحد لبني اسرائيل، ومنع من العناد والإصرار والإكتفاء بشريعة موسى او الظن بان عيسى جاء بشيء جديد يبعث على التردد والتريث والدهشة، بل اخبرت الآية بان تفضل وعلمه التوراة والإنجيل مما يعني رجحان دعوته وصحة رسالته ولزوم اتباعه لأنه يعلم التوراة ولم يغفل عنها ومع هذا دعا رسالته فلابد ان دعوته صحيحة لأنها مقرونة بالآيات.
وذكرت الآية ان هو الذي تفضل وعلمه التوراة لطرد وهم ان عيسى لم يعلم مضامين وآيات التوراة وأختار الشريعة الجديدة، بل ان تعليم تعالى له يدل على نحو القطع والجزم بان عيسى يعلم التوراة أحسن من أي شخص من أهل زمانه، ومع هذا فانه يدعوهم الى رسالته والأحكام التي جاءت بها شريعته من عنده تعالى.
ان في تعليم عيسى للتوراة بعد قرون من نزولها على موسى فخر وعز للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة ان القرآن نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل مرة أخرى على غيره ولم تصل اليه يد التحريف كما انه الكتاب الوحيد الذي نسخ غيره ولم ينسخه كتاب الى يوم القيامة.
بحث كلامي
قد تقدم في تفسير قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ]( )، ان العقاب والعذاب على الإفتراء والتحريف لا ينحصر بالآخرة بل يشــمل الحياة الدنيا لأن المقــام مقام العقائد ومناهج العبادة في الأرض التي أراد تعالى لها البقاء وملازمة الإنسان.
ولقد أبى سبحانه الا عبادته واعانة الناس على التوجه الى سبل الهداية والرشاد، فمن يقوم باضلالهم ينصب العداوة لله ويحاول ان يجعل نفسه برزخاً بين رحمة وبين الناس ويمنع ما يحتاجون اليه من اسباب اللطف، والتقريب الى الطاعة، وهذا المنع أمر لا تقدر عليه الخلائق وان أجتمعت، فيأتي العذاب عاجلاً للكافر الذي يصد الناس عن الإيمان بالآيات بعد ظهورها واستبانتها لهم، ومن وجوه العذاب الفضح والخزي وأشد اقسامه ان يأتي على لسان نبي رسول علمه تعالى التوراة.
فمن مفاهيم هذا التعليم كشف الزيف والباطل والتحريف الطارئ عليها، فالآية عنوان جهاد لعيسى لصيانة الكتب السماوية وتهذيب النفوس والتمهيد لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اذ ان حفظ البشارات التي جاءت بها التوراة، والتي تؤكد بعثته وتتضمن صفاته أمر ضروري لإعانة الناس على الإيمان، ليس اليهود فقط بل غيرهم من الناس، فكان مشركوا مكة مثلاً يسألون اليهود وهم يسكنون يثرب عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبارهم أهل كتاب مما يعني ان التحريف لا يضر باليهود ويجعلهم يصرون على الجحود بل يشمل الذين يرجعون اليهم ويتأثرون بهم ويحاكونهم في عدم الإستجابة للدعوة الى .
وصحيح ان الدنيا دار عمل بلا حساب، والآخرة دار حساب بلا عمل، الا ان هذا لا يعني انتفاء العذاب على نحو السالبة الكلية.
ان العذاب في الدنيا فـــرع من الإبتــلاء والإمتحــان فيها باعتـبار انها دار ابتلاء واختيار، واذا كان العقــاب في الآخــرة مطــلوباً بذاته، فان العذاب والعقاب في الدنيا انذار وتحذير وعون على النجاة من الخــلود في عــذاب الآخرة ان اتخذه الإنســان مناســبة للإعــتبار والإتعاظ.
قانون “تعاهد التنزيل”
هذه الآية مدرسة عقائدية في باب الكتب السماوية اذ يتصف الرسول عن النبي بان له شريعة وينزل عليه كتاب من السماء ويرى الملك الذي يكلمه، وقد جاء القرآن بالإخبار بنزول الإنجيل على عيسى، قال تعالى [وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ] ( )، ولكن هذه الآية جاءت بتفضله تعالى بتعليم التوراة، فهل يعني هذا عدم حصول النسخ وان الإنجيل لم ينسخ التوراة، الجواب ان الأمر أعم من النسخ بالإضافة الى بيان منافع تعليم التوراة للإحتجاج واقامة البرهان على صدق نبوته، وانه سبحانه يتفضل على الأنبياء فيجعلهم محيطين بأمور التنزيل.
وهذه النظرية تؤكد تعاهد الرسول للكتاب السابق مع ان الكتاب النازل عليه غيره، ويمكن ان نسمي هذا القانون “تعاهد التنزيل” بان يقوم الرسول بحفظ شريعة من قبله من غير ان يتعارض هذا الحفظ مع ضرورة اتباع الناس له فيما جاء به من عند .
وهذه النظرية التي تتجلى من هذه الآية وما شابهها من الآيات الأخرى شاهد على عدم التعارض بين الكتب السماوية لأن تعالى لا يأمر بالمتناقض او المتضاد، فلابد من وحدة الموضوع والحكم، وهذا التعاهد للتنزيل على وجوه:
الأول : التعاهد السماوي.
الثاني : التعاهد الأرضي.
الثالث : الجامع بينهما.
الرابع : قانون التركة والتعاهد النوعي.
فمن الأول تفضــله تعالى بتعليم الأنبياء مضامين الكتب المنزلة كما في منطــوق هذه الآيــات، ومنه قيــام الملائكة بتثبــيت مفاهيــم الكتب المنزلة والوحي الى الأنبياء بما يؤدي الى التفقه فيها ومعرفة اسرارها.
ومن الثاني: جهاد الأنبياء والصالحين لبيان آيات التنزيل وما فيها من الأحكام.
اما الثالث: فهو تلقي الأنبياء للأحكام السماوية وقيامهم وأصحابهم بالإمتثال الأحسن وحفظ مبادئ الشرائع وعدم التخلي عن الكتاب السابق لنزول اللاحق.
أما الرابع فهو صيانة اصحاب واتباع النبي والمسلمين في كل زمان لحفظ التنزيل وميراث النبوة، والحرص على تركها ميراثاً للجيل الذي يأتي بعدهم من المسلمين.
وتدل الآية على ان التنزيل ملك لجميع المسلمين في التأريخ، وانه كنز ملكوتي في الأرض، وكل كتاب سماوي هو خزينة مستقلة، تستخرج منها الدرر واللآلئ.
ومن مضــامين هــذه الآية لزوم عــدم ضــياع فـــرد من العلوم التي جاء بها كل كتاب سماوي، فاذا فــرط الناس وأنشغلوا بالدنيا واتبــاع النفس الشــهوية، والعــناد واللجـــاج، يأتي النبي والرســول لبيانه وحفظه وتجديد حضوره وأفراد العلوم الأخرى التي جاء بها الكتاب الســماوي السابق، ليرث المؤمنون الأنبياء في حفظ مواثيق النبوة.
وتدل الآية على ان الآيات النازلة ذخــائر تبقى ملكاً للناس جميعاً لينتفع منه شطر منهم وتكون حجة على الشطر الآخر، ولا تنحصر هذه الملكية بزمــان دون آخــر او بأمــة دون غيرها، فحتى الكتاب النازل في ديانة وأمة مخصوصة كبني اسرائيل هو ملك للناس وهبة من لبني آدم.
والآية من مصاديق عمومات القاعدة التي تقول ان اذا أنعم نعمة على أهل الأرض فانه أكرم من ان يرفعها , ونظرية تعاهد التنزيل تتعلق بحفظ كنوز وآيات الكتب السماوية وتمنع الإنسان من التفريط بها وتضييعها، ومن منافــع آية تعاهد التنزيل احاطة الناس ولو في الجملة بعلوم وأسرار التنزيل لتكون هذه الإحاطة مقدمة ومادة للإيمان بها.
وهذه النظرية عنوان للكمالات العلمية التي ينالها الرسول اذ يظهره على أسرار الكتب النازلة من قبل ليحرز المراتب العالية في العلم ويتفوق على علماء زمانه بالإحاطة بها بالإضافة الى رجحان كفته وظهوره عليهم بالعلوم المستحدثة والآيات النازلة عليه ابتداء.
ومن مصاديق هذه النظرية القاعدة المعروفة وهي ما عند الأنبياء السابقين هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالرسول الأكرم علمه التوراة والإنجيل وجاهد في فضح التحريف ومنع اعتباره في العقائد.
بحث بلاغي
من وجــوه الاطــناب والبديــع التعديد، وهو الاتيــان بالالفاظ المفردة على ســياق واحــد ومنه قوله تعالى [الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ] ( )، فكل كلمة صفة ولها دلالة ومضمون خاص.
ومنه قوله تعالى[وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ] ( )، فكــل كلمة منها صــفة خاصــة وموضــوع للمدح والثناء.
وورد التعديد في هذه الآية في العلوم ووجوه التعليم، وكل كلمة من الآية تدل على علم مستقل وهبة عظيمة، فالانجيل غير التوراة وهي غير الحكمة، والحكمة غير الكتاب وان جاءت بعض الموضوعات والاحكام مصداقاً لاكثر من واحد منها.
وللتعديد الــقرآني مضــامين اخرى اعــم من البلاغــة فهو يدل على عظيم فضــله تعالى على عيســى والمسلمين فمن كرمه تعالى ان جاءت كل كلمة من الآيــة فريدة وكنزاً ونعـــمة مستـــقلة في موضوعها واحكـــامــها وآية تشــريفية لعيســى تؤءهلـــه لمسـؤوليات الامانة والرياسة الشرعية في المجتمع وبما يساعد الناس في ادائهم لوظائفهم وعباداتهم.
بحث بلاغي آخر
من البديع (الترتيب) وهو ذكر الذات باوصافها بحسب الترتيب في الخلقة الطبيعية من غير ان ان يذكر معها وصف زائد واستشهد عليه بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا] ( ).
اما في هذه الآية فان الترتيب جاء على نحو خاص ويتعلق بالآيات والهبات العظيمة التي رزق الله عزوجل عيسى عليه السلام وهل يمكن التفكــيك وعدم الملازمة بين ترتيب النعــم والهبات في الآية وبين مـا رزق الله عزوجل عيســـى في الواقع، بمعنى ان التــرتيب مطابق لما في الآية الجواب نعم وان تعليم الكتاب جاء قبل الحكمة وتعليمها قبل التوراة، وهي قبــل الانجــيل كحمله على الظاهــر وعدم وجود قرينة على الخلاف.
وللترتيب القرآني مضامين قدسية تتــعلق بذات النعم والعطايا وبأثرها والحاجة اليها اذ ان الترتيب في التعليم ليس قضــية اتــفاقية بل هو قانون سماوي دقيق يظهر حاجة عيــسى والناس اليه، ومن خلال هذا الترتيب يمكن استنباط الدروس والعبر ومعرفة موضوعات كل واحد منها.
وهل يكون للتدريج فيه اعتبار في اعداد عيسى للنبوة، الجواب نعم، لاصلاحه لمسؤوليات الرسالة وكيفية جذب الناس لمنازل الايمان واداء وظائف النبوة على اتم وجه، لان الغايات الحميدة لنبوته، لا تنحصر باهل زمانه ومن حوله من الناس، بل هي نهر جار الى يوم القيامة وضياء مستديم ينفذ الى القلوب.
بحث بلاغي آخر
من وجوه البديع الطرد والعكس، وهو الاتيان بكلامين يؤكد منطوق كل منهما مفهوم الثاني من غير تعارض او تزاحم بينهما، ولا تساوي يدل على التكرار والاعادة.
في اللفظ المعنى واستدل عليه بقوله تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، ولكن معــاني اللفـــظ القرآني أعم من الجانب البلاغي، فمع قلة كلمات الموضوع فانها تأتي جامعة مانعة، جامعة للحكم مانعة من الوهم واللبس والريب، فالآية اعلاه مثلاً تمنع من احتمال البرزخية بين الفعل وعدمه, فالملائكة مع عظيم قدرهم عند الله وقوتهم في الاداء والامتثال يحرصون على التقيد بالاداء على نحو التفصيل من غير زيادة او نقيصة.
ولقد جاءت الآية محل البحث لتبين كل كلمة منها مفهوم الاخرى، حتى ترى احياناً التقاءً وتشابهاً في تعريف وتفسير كل موضوع من موضوعاتها مع ان الاصل هو المغايرة والتعدد، ويدل هذا التعدد على عظيم فضله واحسانه تعالى، فاذا حصرت كلاً من معنى الكتاب والحكمةبانهما العلم بالحلال والحرام، فهذا خلاف مفهوم المغايرة والاثنينية الذي عليه الآية الكريمة.
نعم منطوق الكتاب يدل في مفهومه على ارادة الحكمة وكذا بالنسبة للحكمة والتوراة والانجيل فكل فرد منها هو حكمة في مفهومه ودلالته مع ان منطوقه آيات ونصوص، وهذا فضل الهي متفرع عن نعمة التعليم ان يبعث الفرد منها ضياء مباركاً على ابواب اخرى وكأنها مما اذا اجتمع افترق واذا افترق اجتمع.
قوله تعالى [وَالإِنجِيل]
وهو الكتاب الذي أنزله على عيسى وفيه من جهة اللغة ثلاث أقوال:
الأول : انه اسم عبراني.
الثاني : اسم سرياني.
الثالث : هو عربي.
“وقال ابن منظور: الإنجيل مثل الإكليل، الإخريط، وقيل اشتقاقه من النجل الذي هو الأصل، يقال هو كريم النجل أي الأصل والطبع”( ).
والإنجيل على وزن إفعيل، وقرأه الحسن بفتح الهمزة، وقال الزجاج: وللقائل ان يقول هو اسم اعجمي فلا ينكر ان يقع بفتح الهمزة لأن كثيراً من الأمثلة العجمية يخالف الأمثلة العربية نحو آجر وابراهيم وهابيل وقابيل( ).
ولكن المدار على التسمية حسب الرسم القرآني والنسق العربي المتعارف وقد يكون هذا من الإجتهاد في مقابل النص لأن الأمر لا يتعلق بالقواعد اللغوية، بل بالرسم واللفظ القرآني، والتقيد به أمر حسن وممدوح.
ومن الآيات ان يأتي الإنجيل رابعاً ومتأخراً في العطف على الكتاب والحكمة والتوراة ولابد له من دلالات منها:
الأولى : أراد لعيسى ان يحيط بالعلوم والمعارف الإلهية.
الثانية : ان يتعلم ما كان عند الأنبياء من قبله.
الثالثة : في الترتيب تشريف عظيم لعيسى بان يكون كل ما عند الآخرين عنده، وما عنده لا يوجد عندهم لا أقل بالإنجيل.
الرابعة : العلم بأسرار الكتاب ووجوه الحكمة مقدمة للفقه في التوراة والإنجيل.
الخامسة : جعل عيسى عالماً بالعلوم العقلية والنقلية لأنه سيواجه خصوماً في ميادين العلم والطب والفلك الى جانب التنزيل.
السادسة : جاءت الآية على نحو البشارة والإخبار لمريم، فقدم ما هو متعارف في ميادين العلم ومراتب المعرفة ثم جاء الأمر الرابع المستحدث الذي ينفرد به عيسى ولمنع اللبس.
السابعة : البشارة وانه ينال مراتب المتقدمين ويفوز بنعمة اضافية مستحدثة وهي نزول كتاب سماوي عليه.
الثامنة : في الآية اشارة الى مجيء عيسى بشريعة سماوية جديدة هذه الشريعة تستلزم الإحاطة بالعلوم والكتب المنزلة.
التاسعة : التحدي للعلماء والرهبان وإراءة الناس المائز العظيم الذي يتصف به عيسى .
وقد اختص عيسى بان رزقه تعليم الإنجـــيل الى جــانب اتيانــه وتلاوتــه، قال تعــالى [وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ] ( )، ولما كان الإنجيـــل يتضـــمن الهداية ويشــع بأنــوار الإيمان فلابـد ان يتعلمه عيسى، وهذا التعلم مقدمة لهداية الناس وتعليمهم الإنجيل، لتعم الفائدة.
والآية شــاهد على قيام عيســى بوظائــفه الشـــرعيـة خير قيام، اذ انه يتلـو الإنجــيل ويعلمــه للناس مثلما تعلمه من بتقريــب ان النــبي أمين وان اذا أمر بشيء جاء تاماً صحيحاً، فتعليم عيسى هو أفضــل وأشــرف أنواع التعليم ذاتاً وموضــوعاً وحكــماً وأثــراً، وأثر هذا التعليم لا ينحصـر بزمانه بل يشمل الأزمنة اللاحقة والى يوم القيامة.
ولقد جعل مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أرفع درجة اذ انه يعلم الناس الكتاب والحكمة مما يدل بالدلالة التضــمنية على ان علمه وهيء له الأسباب لتعليم الناس بالقرآن والسنة، وفيه مدح للمسلمين بأن هم يتلقون التنزيل بالقبول .
وفي الآية اخبار بان الآيات في خلق عيسى لم تنحصر بايجاده بالكاف والنون، بل برزقه ومنحه ما لم يكن عند أحــد من العالمين، والظاهر ان من خصائص الكائن الملكوتي الأرضي ان ينفرد بهذه الخصــوصية، فان قلت ان هذا يعني انفراده بعلوم خاصة وان النبي محمـداً صــلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في خلقه مثــل عيســى بل خلق من أب وأم معروفين ووفق قاعدة السبب والمسبب، وما به الوجود.
والجواب ان قاعدة ما عند الأنبياء السابقين عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي الحاكمة في المقام وهي مطلقة وشاملة لكل ما عند الأنبياء ومنهم عيسى لأن العلوم التي آتاها عيسى من ميراث النبوة، ومنحها له كي تنتفع الإنسانية عموماً والمسلمون خاصة منها ببركة عيسى وكيفية خلقه.
لذا فان العلوم التي تعلمها عيسى لم تختف او ترفع معه، بل هي باقية في الأرض فلم يرفع الا جسده وبدنه وروحه , واما العلوم والمعارف التي علمه فهي انحلالية بقيت عند الناس مثلما هي عنده , وتلك وظيفة الأنبياء، ان يتيقنوا من اقتباس ووراثة أصحابهم للعلوم التي عندهم، و سبحانه يتفضل مرة أخرى بان يبعث الرسول اللاحق بكتاب وشريعة.
ومع قلة كلمات هذه الآية فان كل كلمة منها تتفرع عنها علوم عديدة مما يدل على عظيم فضله تعالى على عيسى وانه سبحانه اعطاه أثمن وأغلى وأرفع العطايا التي نالها الإنسان، لتكون ولادته وبعثته ارتقاء في العلوم ومناسبة لرسوخ الإيمان وانتشار الإسلام وهو أمر يتجلى بوضوح في كل زمان.
لقد أراد لولادة عيسى ان تكون مقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأصلح سبحانه تلك المقدمة وجعلها كافية لهداية الناس وايجاد حالة من الإستعداد لقبول النبوة والتفكر في الآيات, وتعليم الإنجيل يتضمن بالضرورة نزوله مما يعني التوطئة لنزول القرآن وابطال نظرية بني اسرائيل في عدم الإخذ بكتاب آخر غير التوراة التي أنزلت على موسى .
وهل في آية البشارة تحد لليهود، الجواب: لا، لأن الآية بشارة لمريم وهو جزء من اصطفائها واكرامها ان اطلعها على ما لعيسى من المنزلة العظيمة وما سيرزقه من النعم والآيات التي لم ينلها أحد قبله من الناس، وموضوع الإصطفاء هنا مركب من:
الأول : اخبارها بالمراتب العالية التي سيكون عليها عيسى.
الثاني : انها أم الذي أكرمه تعالى بهذه المنزلة الرفيعة.
الثالث : تعاهدها لمضامين البشــارة بالكتمان والحفظ وعدم الإفشاء والتشـــريف بين الناس.
وانت تلاحــظ ان الرزق كان يأتي مــريم من عنده تعالى ولكنها لم تخبر أقرب الناس وهــو كفيلها مع كونه نبياً من أنبياء الى ان سألها هو بنفســه فأجــابته جواباً ايمانياً، وعدم اعتبار الاية تحد صريح لليهود لا يعني الخشية منهم او عدم مواجهتهم، بل ان أراد حفظ عيســى على مراتب متعاقبة وهي:
الأول : حفظه في أمه بعفتها ونقائها ونزاهتها وانقطاعها للعبادة، وفي هذه الآية تتجلى بعض منافع الإنقطاع الى بالعزلة عن الناس وعدم الإستئناس باخبارهم عما تكلمها به الملائكة، ومن يبتعد عن الناس او يحتفظ بسره يتبين له بعد حين صحة فعله وما اجتنبه من الأذى والحرج الذي نتج عن كشف الأسرار للآخرين.
الثاني : سلامته وهو حمل لذا إبتعدت مريم عن الناس مدة الوضع، وكأن حالة الوضع أحرج الحالات وأشقها على مريم لأنه بعد الوضع يتكفل عيسى حفظ نفسه بما رزقه من الآيات والنطق السليم وهو في المهد , ولابد ان الوضع تم بواقية منه تعالى.
وفي الإخبار بتعليم عيسى الإنجيل تهيئة لمريم لقبول العلوم والشريعة الجديدة التي جاء بها فعند اعلان عيسى شريعته قد يتجه اهل الريب والحسد الى مريم لتحريضها على عيسى او لإسماعها كلاماً قبيحاً او توبيخاً ولوماً كما في قولهم حين وضعه بما ورد في التنزيل [يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا] ( ).
فجاءت البشارة و اخبار مريم بتعليمه الإنجيل لتكون مؤهلة لتصديقه والتصدي لأهل الغواية والضلالة لاسيما وان هناك حالة معــروفة في التأريخ وهــي وجــود معــاندين لأي نبي يبعث من عنده تعالى الى الناس، مــع وجــود الآيــات والبراهين الدالة على صدق نبوته.
فالإخبار بتعليمه تعالى لعيسى الإنجيل لطف بمريم وببني اسرائيل وحفظ لعيســى ومنع من التعــدي عليه و علــى أمه، او محاولـة زرع الفتنة بينه وبين أمه بالإلحاح عليها باللوم والذم فبعد هذه البشارة لو جاءوا وطلبوا من مريم ان يبقى عيسـى على العمل بالتوراة مع اقرار بني اسرائيل بنبوته فان مريم لن ترضى بهذا العرض منهم وستكون عضداً لعيســى في دعوته الى الإنجــيل لذا مدحــها تعالى بوصـفها بانها مصدقة بكلماته سبحانه، وهو من الاصطفاء الخاص والعام ,اما الخاص فيتعلق بعيسى ومريم عليهما السلام ,واما العام فيشمل بني إسرائيل والمسلمين كافة.
نظرية الاصلاح للرياسة
لقد شاء الله ان تبقى صلته مع عبيده دائمة غير منقطعة، ومن فضله تعالى ان هذه الصلة متعددة الصيغ لا تنحصر بطريق واحد او زمان مخصوص، ومنها:
الأول : بعثة الانبياء ودعوتهم الناس للايمان.
الثاني : انزال الكتب من السماء, وفيها الاحكام والشرائع.
الثالث : الآيات الكونية الثابتة والمتغيرة التي تخاطب العقول وتدعوها للايمان.
وحين يتفضل سبحانه ويبعث الرسول فانه يجعله جامعاً لشرائط النبوة حائزاً لصفات الكمال الانساني، وان يكون افضل اهل زمانه في العلم والعقل والسخاء ومضامين الرحمة والشفقة، ولا يجعله بحاجة الى الناس وما في ايديهم من العلوم والمال والجاه، لذا تفضل سبحانه ورزق عيسى عليه السلام العلم وآتاه الحكمة، وعلمه التوراة مع ان كتابه هو الانجيل.
واصلاح النبي لوظائف النبوة والرياسة في امور الدين والدنيا قاعدة كلية تنطبق على كل الانبياء، ليكون من المشيئة ان النبي مؤهل لوظائف النبوة وامامة الناس في شؤونهم واحوالهم المختلفة.
فلا يكون النبي مرجــوحاً في العلم، بل يحتاجه الناس في مسائل الفقه والعلوم وفك الخصومات، ويسمو عليهم برفعة الخلق والمسارعة الى الخيرات والتقيد التام بما جاء به من عند ويكون منزهاً من الأخلاق الذميمة كالبخل والشح ومبتعداً عن القبيح كالظلم والتعدي على حقوق الآخرين، ولا يجعلها مقدمة لنيل غايات حميدة فالحسن والصـلاح ينبســطان على أقواله وأفعــاله ليترك للأجــيال ثروة مــن العلوم والأخلاق الحميدة التي تجذب طلاب الحقيقة وعشاق الصدق والنبوة.
قانون “الاتحاد والتعدد”
من وجوه البديع (حسن النسق) وهو ان يأتي المتكلم بكلمات متتاليات معطــوفات وبينها ترتيــب سليم يمكــن معها فــصل كل جملة على نحــو الاستــقلال فيكــون لها معنى خاص بها ذا دلالــة عند السامع، فهي لاتحتاج العطف الى غيرها من اجل افادة المعنى عند السامع.
واستشهد عليه في القرآن بقوله تعالى [وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ…]( )، لعطف جمله بواو النسق.
وآيات وجمل القرآن تنفرد عن غيرها بسر عقائدي وبلاغي في آن واحد، وهو ان كل جملة منه لها معنيان:
الاول: مستقل قائم بذاته، يستقرأ من خلال قراءة الآية او الجملة على نحو الانفراد.
الثاني: معنى آخر مشترك بلحاظ الانضمام الى الآيات الاخرى المجاورة او الجمل الاخرى في ذات الآية.
ولا تعارض بين هذين المعنيين بل كل واحد منها في طول الآخر وشاهد عليه ومصداق من مصاديقه، ويمكن ان نسمى هذه الباب نظرية (الاتحاد والتعدد).
وهذا المضــمون القدســي للفظ القرآني وجه من وجوه احاطة القرآن والفاظه المحدودة بعالم اللامحدود، وهو شاهد على اعجاز القرآن، وبــاب من ابواب الاقتباس والاســتقراء والاســـتنباط مـــن اللفظ القرآني.
نظرية “الفرائد”
من وجوه البــديع بــاب(الفرائد) وهو الاتــيان بلفــظ له دلالـة خاصة ينفـــرد ويتقــوم بها معنى الجملة لتعــذر الاتــيان بمثله لافـادة المعنى وقال السيوطي( بحيث لو اسقطت من الكلام عزت على الفصحاء) ( ).
اما بالنسبة للقرآن فان كل لفظ منه فريدة من عقد الآية والسورة، وجوهرة لايمكن ألاتيان بمثلها وان كان رديفاً ونظيراً لها، للتباين في المعنى والدلالة، وتبدو كل كلمة قرآنية فريدة في باب الفصاحة والبلاغة لايمكن ان تقوم كلمة اخرى مكانها، وهذا المعنى فرع لحقيقة كون الآية القرآنية جوهراً وعقداً متكاملاً , كل كلمة منه فريدة وموضوع مستقل وباب للمعرفة.
ان نظرية الفرائد دليل على اعجاز القرآن الدائم وعدم امكان حصول التحريف او التغيير فيه، ومن مضامينها انها دعوة لاكرام القرآن وتعاهد الفاظه والنظر اليها بعين التقديس، وهي مستقرأة من حقيقة تكوينية ثابتة وهي ان القرآن كلام الله ولابد أنه مباين لكلام البشر وان اجتمعوا واجتهدوا.
فلفظ التعليم الوارد في الآية (ويعلمه) لايمكن ان يأتي لفظ آخر بديلاً عنه، لانه غاية التشريف والاكرام ويدل على ارادته تعالى الاتقان النبي للعلوم.
وكذا بالنسبة للفظ الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل، وممن مضامين نظــرية الفـرائد القرآنية ان اللفــظ القرآني لا يمكن الاســتغناء عنه فكما لا يمكن نقص العقد لجــوهرة منه، فكذا بالنســبة للقـرآن فجزئية اللفظ القرآني للآية ظاهرة وحاجة للمسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم واكتساب المعارف الالهية، ولا ينحصر موضوعها بالبلاغة بل يشمل العقائد والاحكام والاجتماع والاعجاز بابهى مضامينه القدسية.
ا
القراءة
الأول : قرأ نافع (إِني أخلق) بكسر الألف، والباقون بالفتح، والمراد من الكسر وجهان:
الأول: استئناف الكلام.
الثاني: تفسير الآية في قوله تعالى (جئتنكم بآية) وهذا الوجه هو الأنسب وموافق لما مرسوم في المصاحف.
الثاني : قرأ حمزة وغيره (أني أخلق) بفتح الألف والمراد جعلها بدلاً من آية والتقدير وجئتكم بأني أخلق لكم.
الثالث : قرأ أهل المدينة ويعقوب (طائراً)، والباقون طيراً بغير ألف.
واعتبر بعض القراء رسولاً الى بني اسرائيل جزء من الآية السابقة لبيان تمام صفات عيسى وان التقدير معلماً ورسولاً، وفي المصاحف تبدأ الآية برسول، وقال الطبرسي (عدّ أهل الكوفة التوراة والإنجيل آية ولم يعدوا بني اسرائيل لتنكر الإستئناف بان المفتوحة( )).
ولكن رسم الآيات أخص من القواعد اللغوية الفرعية وقد قرأ نافع بكسر الهمزة كما والأصح ما هو مرسوم في المصاحف لرجحان اعتبار الكتابة توقيفية.
الإعراب واللغة
ورسولا الى بني اسرائيل: الواو: عاطفة، رسولاً مفعول به لفعل محذوف والتقدير : ويجعله رسولاً.
اني قد جئتكم: ان: حرف مشبه بالفعل، وهي وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي بأني قد جئتكم.
قد: حرف يفيد معنى التحقيق.
بآية: جار ومجرور متعلقان بـ(رسولاً)
اني أخلق: حرف مشبه بالفعل، والضمير اسمه، والجملة الفعلية خبره، وان وما في حيزها في تأويل مصدر بدل من آية، لكم: جار ومجـرور متعلقــان بمحــذوف في محــل نصــب على الحــال أي هــادياً لكم.
كهيئة: جار ومجرور، وقيل ان الكاف اسم بمعنى مثل، فتكون في محل نصب مفعول به، ولم يقل به سيبويه الا في الضرورة، ومال اليه ابن هشام.
الطير: مضاف اليه، فأنفخ فيه: الفاء: عاطفة،
أنفخ: معطوف على أخلق، الجار والمجرور: متعلقان بأنفخ.
فتكون طيراً: الفاء: عاطفة، يكون: فعل مضارع ناقص، معطوف على أخلق، طيراً: خبر يكون وأسمها مستتر.
باذن : جار ومجــرور متعلقان بـ(يكون)، اسم الجلالة: مضاف اليه.
وابرئ الأكمه والأبرص: وابرئ: الواو: حرف عطف، ابرئ: معطوف على اخلق، الأكمه: مفعول به.
وما تدخــرون: الــواو عاطــفة، ما: معطــوفة على (ما) في بما تأكلون.
ان في ذلك: ان: حرف مشبه بالفعل، في ذلك، جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (ان) المقدم.
لآية: اللام هي المزحلقة، آية: اسم ان المؤخر.
(وان) وما في حيزها: داخلة في حيز القول باعتبارها من كلام عيسى، وهو الأرجح بلحاظ الآية التالية التي تتضمن كلام عيسى، اما اذا كانت من كلام تعالى فهي مستأنفة.
ان كنتم مؤمنين: ان : حــرف مشــبه بالفعــل، في ذلك: جار ومجرور.
ان كنتم مؤمنين: ان: اداة شــرط، كــنتم: في محــل جـزم فعل الشرط.
كان: فعل ماض ناقص، التاء: اسمها، مؤمنين: خبرها، وجواب الشرط محذوف , والتقدير: ان كنتم مؤمنين اعتبرتم بالآيات.
وأصل تدخرون: تذخــرون، ولثـقل الذال مع التاء على اللسان ابدل بالدال وهو من مخـرج التاء ويشبه الذال (وقال الزجاج: ومن العرب من يقول تذخرون بذال مشددة) ( ).
(وقال ابن منظور وذخر الشيء يذخره ذخراً وأذخره اذخاراً: اختاره وقيل اتخذه) ( ).
في سياق الآيات
بعد البشارات العظيمة التي تلقتها مريم عليها السلام بخصوص عيسى وما سيكون عليه من المنزلة العالية وما خصه به من العلم والحكــمة من بين الناس، جــاءت هــذه الآية لتبين انه نبي رســول من يأتـي بالآيــات ويدعــو الى جهرة كما تــدل الآيــة التـــالية على تصديقه للنبوات من قبله، ولذا أكدت الآيــة الســابقة على اتــقانــه لعلــوم التوراة وتـدل هذه الآيات على عظيم منزلة عيسى ولزوم استعداد مريم للعناية به وعدم التخلي عنه ساعة الحمل والوضع والحضانة.
ولبيان موضوعية وأهمية اعلان عيسى هذا فقد جاء في ثلاث آيات متتاليات، ابتداء من هذه الآية، وهذا التفصيل في الآيات شاهد قرآني على التقسيم العقائدي للنبأ العظيم الذي جاء به عيسى لبني اسرائيل وللناس من خلفهم، وفيه اكرام لعيسى ودعوة للعلماء والباحثين للإلتفات الى نظم وسياق الآيات وما فيه من الإشارات والعلوم، خصوصاً وان كل آية من هذه الآيات الثلاث تتعلق بموضوع وشطر مستقل من النداء الرسالي الملكوتي لروح .
إعجاز الآية
تظهر هذه الآية البراهين والآيات العظيمة التي جاء بها عيسى والآية كلها اعجاز في كلماتها وموضوعها المتعدد وأحكامها ودقة معانيها, وتتقوم بقيدين:
الأول: انها من عند .
الثاني: الإذن الإلهي المقارن للمعجزة النبوية، وجاء ذكر الإذن مكرراً في الآية.
وهذه الآيات الحســية فضــل منــه تعالى على الناس جميعاً وعلى بني اسرائيل خاصة، وهي حجة عليهم، ومناسبة لزيادة الإيمان والهداية.
ومن الإعجاز في هذه الآية انها تتضمن آيات متعددة, كل آية تجعل الناس مبهورين منجذبين اليها وهي:
الأول : اعلان عيسى انه رسول وفيه نوع تحد الى بني اسرائيل، واحتمال تعرضه للأذى في الحال لذا أعقب اعلانه في نفس الوقت بذكر الآيات التي جاء بها ليكون المدار في الحكم عليها، ولزوم التريث الى حين الإتيان بها في الواقع الخارجي.
الثاني : لقد كان بنو اسرائيل متمسكين برسالة موسى ومكتفين بما فيها من الأحكام مع طرو التحريف على التوراة، فجاءهم عيسى بأمر جديد لا يطيقونه اذ ظنوا انهم مأمــورون بترك شـريعة موسى والتوراة ولكنه جاء للتخفيف، وتثبيت ما هو صحيح ولبيان فضله تعالى على الناس في النسخ في الشرائع وعدم وقف بعث الأنبياء والرسل الا حيث يشاء اذ جاء الختم بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : انه جاء من عند وان اعلانه وتبليغه ليس عن امره، بل هو بأمر ومشيئة تعالى وكما يبحث الملك والسلطان رسولاً الى أهل المدائن الخاضعة لمملكته او للخارجين عليه في أطرافها، فان عيسى جاء رسولاً من عند الى:
الأول : المؤمنين ليزدادوا ايماناً.
الثاني : الجاحدين والمعاندين للرجوع الى جادة الحق.
الثالث : الناس جميعاً بالدعوة الى شريعته لإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : ان لا يترك العباد وشأنهم وانه يدعوهم باللطف والآيات والبراهين التي تثبت رسالة نبيه , وهي في الوقت نفسه تؤكد على عظيم قدرة وسلطانه وقوته وانه قادر على كل شيء، فآيات عيسى كلها رحمة وموعظة الا انها في مفهومها انذار ووعيد للذين يعرضون عنها، لأن البطش والإنتقام وجه من وجوه القدرة الإلهية، لذا فان خاتمة الآية [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ] تتضمن التحذير والإنذار.
الخامس : جملة اني أخلق لكم بدل من جملة جئتكم، وفيها بيان وتفسير للآية التي جاء فيها عيسى لبني اسرائيل ومن الإعجاز ان هذه الآيات بسيطة ليس مركبة لا تحتاج لإثباتها استحضار وسائط عقلية غائبة عن خواطر البعض، بل هي آيات حسية ظاهرة يدرك العقل ما فيها من التحدي والإعجاز وان الناس لا يمكن ان يأتون بها بالكسب والتعلم والطب والسحر والكهانة وغيرها، فكل انسان يدرك سلامة الآيات الأمر الذي يعني صدق دعوى عيسى انه رسول من عند مما يتفرغ عنه لزوم اتباعهم له والإيمان بكل ما جاء به من عند .
ومن الإعجاز تعاقب الآيات على لسان عيسى فلم يكتفِ باعلان آية واحــدة، ويقــوم باتيانها واقــعاً خصــوصاً وان كل آية من هذه الآيات حجــة ودليل على نبــوته وهل أعـلن كل آية في موضع ومناســبة منفصلة وجمعها القرآن مــرة واحدة، الأقوى حمل الكلام على ظاهره وهو اتحاد موضوعات الإعلان، ولابد انه كرر الإعلان بقرينة توجــه الخطــاب في الآية الى بني اســرائيل مع تأكيد بعثته رسـولاً لهم بهذه الآيات.
ومن إعجاز الآية أنها أطلقت صيغة المفرد (بآية من ربكم) على المتعدد من المعجزات، وهذا التعدد من وجوه:
الأول : كثرة أفراد معجزات عيسى عليه السلام التي ذكرتها هذه الآية وهي:
الأولى : خلقه من الطين كهيئة الطير، وهذا الخلق وإن كان ممكناً للناس، ولكن الإعجاز فيه تسميته بالخلق، ودلالة هذه التسمية على نسبة التساوي في الهيئة والشكل بين الطير حقيقة وبين الذي يخلقه عيسى، بحيث يقول الناس إنه لايحتاج إلا الحياة فينفخ فيه عيسى عليه السلام.
الثانية : نفخ عيسى في الطير الطيني فيصير طيراً.
الثالثة : نسبة عيسى الآية إلى الله عز وجل [فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ].
الرابعة : إبراء عيسى للأعمى.
الخامسة : إبراء عيسى للمبتلى بأمراض جلدية، ومن الآيات أن الطب مع إرتقائه في هذا الزمان فان أمراضاَ جلدية عديدة لا زالت مستعصية على الشفاء، بينما وردت الآية بالإطلاق في شفائها بالمعجزة وكذا الحال بالنسبة للعمى وفقد البصر.
السادسة : إحياء عيسى عليه السلام الموتى.
وبالإسناد عن السدي قال: لما بعث الله عيسى عليه السلام وأمره بالدعوة لقيه بنو إسرائيل فأخرجوه ، فخرج هو وأمه يسيحون في الأرض ، فنزلوا في قرية على رجل ، فأضافهم وأحسن إليهم ، وكان لتلك المدينة ملك جبار ، فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً ، فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها : ما شأن زوجك أراه حزيناً؟ قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم الخمر ، فإن لم تفعل عاقبه ، وإنه قد بلغت نوبته اليوم وليس عندنا سعة قالت : قولي له فلا يهتم فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك قالت مريم لعيسى في ذلك . فقال عيسى : يا أماه إني إنْ فعلت كان في ذلك شر قالت : لا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا . قال عيسى : قولي له املأ قدورك وخوابيك ماء . فملأهن فدعا الله تعالى ، فتحوّل ما في القدور لحماً ، ومرقاً ، وخبزاً ، وما في الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط . فلما جاءه الملك أكل منه ، فلما شرب الخمر قال : من أين لك هذا الخمر؟! قال : هو من أرض كذا وكذا . . . قال الملك : فإن خمري أوتى به من تلك الأرض فليس هو مثل هذا! قال : هو من أرض أخرى . فلما خلط على الملك اشتد عليه فقال : إني أخبرك . . . عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه ، وإنه دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً فقال له الملك : وكان له ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل بأيام ، وكان أحب الخلق إليه فقال : إن رجلا دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً ليستجابن له يحيي ابني .
فدعا عيسى فكلمه وسأله ان يدعو الله أن يحيي ابنه فقال عيسى : لا تفعل فإنه ان عاش كان شراً قال الملك : لست أبالي أراه فلا أبالي ما كان قال عيسى عليه السلام : فإني حييته تتركوني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ فقال الملك : نعم . فدعا الله فعاش الغلام . فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه . فاقتتلوا وذهب عيسى وأمه وصحبهما يهودي ، وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف . فقال له عيسى : تشاركني؟ فقال اليهودي : نعم . فلما رأى أنه ليس مع عيسى عليه السلام إلا رغيف ندم ، فلما ناما جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف . فيأكل لقمة فيقول له عيسى : ما تصنع؟ فيقول له : لا شيء . . . حتى فرغ من الرغيف .
فلما أصبحا قال له عيسى : هلم بطعامك ، فجاء برغيف فقال له عيسى : أين الرغيف الآخر؟ قال : ما كان معي إلا واحد . فسكت عنه وانطلقوا ، فمروا براعي غنم فنادى عيسى : يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك . قال : نعم . فأعطاه شاة فذبحها وشواها ، ثم قال لليهودي : كل ولا تكسر عظماً . فأكلا فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله . فقامت الشاة تثغو فقال : يا صاحب الغنم خذ شاتك فقال له الراعي : من أنت؟! قال : أنا عيسى ابن مريم قال : أنت الساحر؟ وفر منه .
قال عيسى لليهودي : بالذي أحيا هذه الشاة بعدما أكلناها كم كان معك من الأرغفة أو – كم رغيف كان معك – فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد فمر بصاحب بقر فقال : يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلاً . فأعطاه فذبحه وشواه وصاحب البقر ينظر فقال له عيسى : كل ولا تكسر عظماً . فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ، ثم ضربه بعصاه وقال : قم بإذن الله تعالى ، فقام له خوار فقال : يا صاحب البقر خذ عجلك . قال : من أنت؟ قال : أنا عيسى قال : أنت عيسى الساحر؟ ثم فر منه .
قال عيسى لليهودي : بالذي أحيا هذه الشاة بعدما أكلناها ، والعجل بعدما أكلناه كم رغيفاً كان معك؟ فحلف بذلك ما كان معه إلا رغيف واحد . فانطلقا حتى نزلا قرية ، فنزل اليهودي في أعلاها ، وعيسى في أسفلها ، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى وقال : أنا اليوم أحيي الموتى . وكان ملك تلك القرية مريضاً شديد المرض . فانطلق اليهودي ينادي : من يبغي طبيباً؟ فأُخْبِرَ بالملك وبوجعه فقال : ادخلوني عليه فأنا أبرئه ، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه فقيل له : إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك! قال : ادخلوني عليه ، فأُدْخِلَ عليه ، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات ، فجعل يضربه وهو ميت ويقول : قم بإذن الله تعالى . فأخذوه ليصلبوه ، فبلغ عيسى فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة فقال : أرأيتم أن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي؟ فقالوا : نعم . فأحيا عيسى الملك فقام . وأنزل اليهودي فقال : يا عيسى أنت أعظم الناس علي منة والله لا أفارقك أبداً ( ).
ويمكن ان تسمى هذه الآية بآية (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) ولم يرد لفظ ( ورسولا ) في القرآن إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تعتبر كل آية من الآيات الكونية والإنسانية حجة ودعوة للإقرار بالربوبية لله تعالى، وكل فريق من هذه الآيات ينقسم الى ما لا يمكن احصاؤه من الآيات الباهرات، وكل فرد منها برهان متعدد الجوانب والحيثيــات ومــع هــذا فان تفضـل على الناس ببــعــثة الأنبياء ومع كل نبي آيات وشواهد تدعو الى الإيمان بالله وتمنع من الجحود بربوبيته ولكن الذي جاء به عيسى أمر يفوق حد التصور، ويجعل النفوس تنقاد له وان كان الغالب عليها الشهوة والغضب والحسد والعناد والإصرار.
لقد كان خلق عيسى آية واعجازاً فكذا ما جاء به آية أخرى وعبرة ومدرسة عقائدية باقية الى يوم القيامة تجعل المؤمنين يفرحون باختيارهم الإيمان وتبعث في نفوسهم الأمل والغبطة، والإحساس بقربه تعالى منهم والتسليم بعظيم قدرته وعظمته.
مفهوم الآية
لقد كان خلق عيسى آية تجتمع فيها صفات القدرة والعظمة والرحمة ، ولابد ان تتجلى معاني الحسن على عيسى وينال أعلى المراتب في تأريخ الإنسانية، لذا جاءت هذه الآيات بالإخبار عن نيله لدرجة الرسالة، وتبين الآية ان اتيان عيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل لم يكن لذاته بل لبني اسرائيل ومن ورائهم الناس جميعاً، لأن النبي يبعث في قومه ويكون نبياً لغيرهم من الأمم سواء كان رسولاً للناس كافة، او نبياً لقــومه لأن صــلاح امة مناسبة ومقدمة لهداية وصلاح غيرها.
لقد جعل الناس يؤثــر بعضهم ببعض مع ضــوابط العقــل والقيم والأعراف السائدة فتأتي النبوة لتمنع الإنحراف والزلل وتجدد الإيمان في الأرض بملة بهية قوامها الآيات التي يأتي بها النبي، ومن مفاهيم الآية ان بني اسرائيل يحتاجون الرسول، لأن فعله تعالى حكم وعزم وجد، وهو سبحانه منزه عن القبيح، وهذه الحاجة على فرض ثبوتها لا تخلو من لوم لبني اسرائيل لأنهم لم يتعاهدوا رسالة موسى واحتاجوا الى رسالة وبعثة نبوية جديدة الا ان يقال بانه لا تفريط وأهمال، وان النبوة المســتحدثة لزيــادة الإيمان, وهـذا القول يدفعه العناء او الأذى الذي لاقاه عيسى من بني اسرائيل، وموسى ايضاً اوذي ولاقى البلاء من بني اسرائيل، وكذا باقي الأنبياء تحملوا الأذى من قومهم.
وفي الآية وجوه وأحكام هي:
الأول : ان عيسى ليس نبياً فقط بل هو رسول من عند .
الثاني : مع تعليمه بني اسرائيل الحكمة والتوراة والإنجيل فانه جاءهم بالآيات والدلالات الواضحات على رسالته.
الثالث : أراد عيسى ان يبين لهم المنافع الحاضرة والعاجلة من الرسالة بابراء المرضى والزمنى واحياء الموتى ليعلموا ان المنافع الآجلة أعظم وأكبر.
الرابع : مصاحبة الآيات والبراهين للتعليم أفضل وسيلة للكسب العلمي والتحصيل لإقترانه بالإيمان.
الخامس : ان التعليم والإرتقاء العلمي والأخلاقي مضافاً الى الآيات والبراهين حجة على الناس ودعوة للتصديق برسالته واتباع ما جاء به من الأحكام من عنده تعالى.
لقد بدأ عيسى بآية الطير, وفيه وجهان:
الأول: ان التقديم لا يدل على الأولوية والشأنية الخاصة.
الثاني: لابد للتقديم من موضوعية واعتبار.
والأصح هو الثاني فكل حرف وكلمة ونظم في القرآن له دلالات واشارات عقلية وايمانية ومنها في المقام :
الأولى : ان آية الطير عامة وخطاب عملي للناس جميعاً وأمر يجذب الإنتباه ويملي على الجميع الإصغاء والترقب والشوق الى رؤية تمام آية الطير.
الثانية : صيرورة الطين طيراً يراه الجميع حجة على الكبار والصغار، لا يمكن لأحد دفعها.
الثالثة : تمر آية الطير بمراحل تبدأ من أخذ عيسى لمقدار من الطين من الأرض وجعله على هيئة الطير، والناس كلهم يجتمعون في متابعة تفاصيل الآية وأحكامها، بينما ابراء الأكمه والأبرص يحصل على نحو الخصوص في الزمنى ومواضع وجودهم، وكذا بالنسبة للموتى فان احياءهم يحصل في المقابر وأماكن الدفن.
الرابعة : في كل مرة يأتي عيسى بآية الطير فانه يجعل المكان موضعاً لحشر الناس واجتماعهم من غير فرق بين الغني والفقير , والرجل والمرأة ,والولد وابيه.
الخامسة : آية الطير وسيلة للجذب السريع للإنصار والأعوان، وعنصر السرعة والمبادرة يحتاج اليه عيسى في مواجهة اهل الحسد وأصحاب الجاه والسلطان الذين يخشون زلزلت مقاماتهم، وكثرة الأنصار والأتباع واقية وحرز وشهادة على صدق النبوة ودعوة للآخرين للإلتحاق بهم.
السادسة : رؤية آية الطير تنمي ملكة العدالة عند الناس، وتجعلهم يحرصون على الشهادة والإخبار عما رأوه من غير زيادة او نقيصة.
السابعة : تبطل آية الطير السحر وتأتي على الشعبذة, وهي دعوة للناس لنبذ الخداع والتظليل, والإعراض عن السحرة وخداعهم.
الثامنة : تستحدث هذه الآية مقامات جديدة بين الناس قوامها الإيمان بالله والتصديق برسالة عيسى، وفيها العز والفخر.
التاسعة : تجعل آية الطــير منزلــة اجتماعــية وجاهاً لعيسى بين الناس لا يرقى اليه غيره وان كان ملكــاً او وزيــراً، بهذه الآيــة العامـة أصبح عيسى هو سيد المجتمع، فلا غرابة ان يسعى اهل الحسد للمكر به.
العاشرة : تعدد مراحل آية الطير وسيلة للتصديق واقامة الحجة وبرزخ دون الشك والريب.
ولقد حرص عيسى على بيان قيد الإذن الإلهي مع أول آية ذكرها. وبعد آية الطير جاءت آية ابراء الأكمه والأبرص لأن فيها شفاء لداء العمى وسلامة لمن حرم من نعمة النظر.
وقد قدمت آية ابراء الأكمه على الأبرص وفيه وجوه:
الأول: العمى داء أشد وأكثر من البرص.
الثاني: أولوية وموضوعية البصر عند الإنسان.
الثالث: البصر حاسة من الحواس يفقدها الإنسان بالكمه , وقد قيل في الفلسفة من فقد حساً فقد علماً، وقد تقدمت مناقشة هذا القول، أما البرص فانه لا يصيب أحدى الحواس.
الرابع: عودة البصر عون للإنسان على تدبر الآيات الكونية والتفكر في عظيم خلق .
الخامس: شفاء العمى أكبر اعجازا من شفاء البرص.
والى اليوم تجد العلم عاجزاً عن اعادة البصــر لمن ولد فاقداً له مع ان الآية دعوة للإطباء للإجتهاد في علاج امراض البصر.
لقد جاءت هذه الآية بمضامين قدسية هي:
الأول: اخبار المسلمين بان عيسى رسول من عند .
الثاني: بيان عظمة الآيات والمعجزات التي جاء بها.
الثالث: اقامة الحجة على بني اسرائيل في لزوم تصديق عيسى والإيمان برسالته.
الرابع: اكرام وتنزيه عيسى وأمه من كل افتراء.
الخامس: تحمل المسلمين لمسؤوليات تثبيت معجزة عيسى تأريخياً ودراستها واستنباط العبر منها.
ومن فضله تعالى ان أطلق لفظ الآية بصيغة المفرد على المتعدد من الآيات، فقال عيسى اني جئتكم [بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] مع ان الآية انحلالية على أقسام:
الأول: التحدي والإعلان عن الرسالة.
الثاني: الإخبار عن الآيات التي جاء بها على نحو القطع واليقين.
الثالث: تعدد الآيات المتباينة في موضوعها وماهيتها وهي:
الأولى : قيام الرسول بصنع طائر من الطين لا روح فيه، ولكن هذا الصنع بأمر منه تعالى.
الثانية: النفخ فيه. وتصوير الطير من الطين وقيام عيسى بالنفخ فيه ليسا مطلوبين بذاتهما بل هما مقدمة للآية العظمى، الا انهما جزء من آية، لأن الذي يقوم بهما نبي رسول لم يولد الا بنفخ روح في فرج أمه، فلابد ان كل فعل من أفعاله يتصف بالبركة ويشع بأنوار القدسية والإيمان.
الرابع: ذكره للفظ الخلق وانه يخلق من الطين مع ان الخلق له تعالى، ولم يقل عيسى افعل او اصنع او أصور او أقدر بل قال اخلق وفيه مسائل:
الأولى: محاكاة الخلق لأنه مقدمة له بانتظـار مرحلة النفخ والطيران.
الثانية: الثقة والقطع بعظيم فضله تعالى على عيسى بان ســيجعل من هذا التـمثال المصور طائراً على نحو الحقيقة والواقع.
الثالثة: ان الخلق لهم، ويلاحظ تكرار الضمير الكاف في جئتكم، ربكم، لكم، لتنبيه بني اسرائيل على تفضيله تعالى لهم وتوالي النعم عليهم ولزوم مقابلتها بالشكر الذي يتجلى بالإيمان والتصديق بها.
الرابعة: لبيان الفارق بين خلق وخلق الإنسان، فالله يخلق الآيات ويبعث الروح في المخلوق، ويجعل من المعدوم كائناً حياً حساساً، اما الإنسان فانه يخلق من الطين فمع ارتقائه يكون فعله بسيطاً سهلاً في متناول الصبيان الا ان يشاء .
الخامسة: لتوكيد حقيقة وهي ان الرسول يحتاج الى المدد والعون منه تعالى، وان عيسى مخلوق وممكن الوجود، والحاجة ملازمة للمكن في اشارة الى منع الغلو فيه.
الخامس من المضامين القدسية للآية: ان الآية جاءت بخصوص جنس الطير ولم تأتِ في ذوات الأربعة من الدواب ولابد له من دلالات عقائدية واحكام وضعية منها:
أولاً: ان الطائر أبين للحجة.
ثانياً: ان هذا المخلوق له خصوصية سماوية فلذا يغادر الناس حال خلقه.
ثالثاً: لقد خلق ناقة صالح فأجهزوا عليها فعقروها قال تعالى [إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ]( ) فجاءت آية الطير تخفيفاً عن بني اسرائيل وبعد حجب آية الدواب وما فيها من المنافع العظيمة.
رابعاً: ارادة اثــبات الآية ببعــث الروح بما يخلـقه عيسـى من الطين.
السادس: لابد ان الناس غير مؤهلين لبقاء الآية بين ظهرانيهم فان قلت ان عيسى هو الآية العظمى الذي تجري على يديه الآيات قلت انه قياس مع الفارق، ومع هذا فان بقاء عيسى بينهم لم يدم طويلاً اذا مكروا به وصلبوه وأرادوا قتله.
السابع: للتعدد بالآيات.وبيان عظيم قدرة وفضله على انبيائه وبني إسرائيل.
الثامن: فيه توكيد لنظرية (التباين الموضوعي) وان كل نبي جاء بآية غير التي جاء بها غيره من الأنبياء، فجاء صالح عليه السلام بآية الناقة وهي من الدواب، وجاء عيسى بآية الطير وهذا التباين شاهد على عظيم قدرته تعالى.
التاسع: تنبيه الناس الى لزوم الإلتفات الى قدرته تعالى في خلق الطيور وأصنافها وأهليتها على الطيران وقطع المسافات وكيفية حصولها على أرزاقها.
العاشر: لعل في الآية اشارة الى صنع الإنسان للطائرات والمركبات التي تطير في السماء كما أصبح متعارفاً في هذا الزمان، مع الفارق وهو ان عيسى يخلق باذن الله ما فيه الروح ويقلب ماهية الشيء من الطين الى اللحم والدم.
الحادي عشر: من المضامين القدسية قياس عيسى بالنفخ في الطائر الطيني.
الثاني عشر: صيرورة الطين طيراً بعد نفخ عيسى فيه من غير مدة، في اشارة الى ان الخلق منه تعالى ومن عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) فبعد النفخ تأتي الإرادة الإلهية ليتحول الطين في طرفة عين الى لحم ودم وطائر يطير في الهواء، والظاهــر ان هذا الطائر لا يلمسه أحد من الناس.
الثالث عشر: توكيد عيسى بان الآية منه تعالى ابتداء وبقاء، وان الطين لم يصبح طيراً الا باذنه وفضله ومشيئته تعالى.
الرابع عشر: ابراء عيسى للأكمه واعادته البصر للأعمى وهذه الآية انحلالية من أفراد متعددة هي:
أولاً: اعلان عيسى لهذه الآية.وبدئه الدعوة على نحو علني ,
ثانياً: قيامه بابراء الأكمه والأعمى.
ثالثاً: تفضله بالمسح على عين الأعمى.
رابعاً: الدعاء له باعادة البصر.
خامساً: تكرار هذه الآية واعادة نعمة البصر لجماعات واعداد كثــيرة من الذين فقــدوا البصــر ليفتحوا عيونــهم على آيــة الإعادة والخلق لتكون مقدمة لإطلاعهم وتدبرهم بالآيات الكونية.
ليكون هؤلاء دعاة الى وان ترك عيسى قريتهم وغادر الى قرى أخرى أو رفعه اليه.
ولا تنحصر الدعوة لعيسى وشريعته بهم بل تشمل ذويهم وأقاربهم واصدقائهم وأهل القرى التي هم فيها وما حواليها لذا فان الذين تعدو على عيسى سرعان ما تعرضوا للوم والذم من الناس.
وهذه الوجوه في ابراء الأكمه يمكن ان تنطبق ايضاً على الآيات الأخرى التي جاء بها عيسى من ابراء الأبرص او احياء الموتى وغيرها.
الخامس عشر: ابراء عيسى للأبرص وفيه مسائل:
الأولى : لقد اراد لرسالة عيسى ان تكون وسيلة سماوية للنجاة من الأمراض الجلدية والمعدية منها خاصة.
الثانية : تكون بشارة لإيجاد العلاج لهذه الأمراض بما فيها سرطان الجلد.
الثالثة : الآية دعوة للعلماء للبحث عن العلاج الناجح لهذه الأوبئة واخبار بانه قريب وممكن وليس امراً مستعصياً.
الرابعة : الآية دعوة للإلتفات الى هذا النوع من الأمراض خصوصاً في هذه الأيام وان طبيعة الحياة في زمن الثورة الصناعية الثالثة والتقنية الحديثة يجعل الإنسان عرضة لأمراض جلدية مستحدثة وضارة والأصل ان يكون الطب متقدماً على حال الأمراض وناظراً الى المحتمل والطارئ منها بتهيئة العلاج والشفاء العام والتام.
الخامسة : بيان لطفه ورحمته تعالى وانه سبحانه لا ينسى الزمنى والمصابين بالأمراض الجلدية والعاهات، ولم يرد لفظ الأبرص في القرآن الا في هذه الآية، وقد لا يظن كثير من الناس ورود هذا اللفظ والموضوع في الكتاب السماوي الذي هو ميثاق اهل الأرض الى يوم القيامة والذي قوامه الأحكام الشرعية ومسائل التوحيد والحلال والحرام.
تفضل سبحانه وذكر فيه هذا الإنسان الذي يعاني من الوضح والبرص ليعلم ان لم ينسه وجعل كلمة يعالجه في بشارة لتخلص البشرية من هذا النوع من الأمراض الذي يفتك بجلد وببدن الإنسان ويأتي على حالته وقواه النفسية فيهدها، لقد أراد ابراء عيسى ان يكون الشفاء منه مناسبة لذكره تعالى بلحاظ الآية وعلة الشفاء وهو الرسول باذن ، وفيه تذكير للأجيال اللاحقة بعدم جعل الشفاء من المرض وسيلة للطغيان والغرور.
السادسة : لقد أشتهر وتقدم الطب في أيام عيسى فجاء بالمعجزات التي تثبت عجز الأطباء وتكون باب رحمة وأمل للناس، وتكون مناسبة لتأديبهم وتعليمهم الدعاء واللجوء الى تعالى.
السادس عشر: مثلما كانت سياحة عيسى لشفاء المرضى واقامة الحجة على الناس ودعوتهم للإيمان، ونجاتهم من القيود التي يضعها الطواغيت وأهل الحل والعقد الذين يملأ نفوسهم الحسد، فانها دعوة للناس للبحث عنه في القرى والمدن سواء المرضى منهم او ذويهم او الإصحاء وطلاب الحقيقة.
لقد أحدث عيسى ثورة في مجتمعات المدينة والــقرية في آن واحد، فهو يســيح في المدن والقــرى ومعه الآيات وكنوز المعجزة، والناس يبحثون عنه لتلمس النجاة والسلامة في الدين والبدن، فلا غرابة ان يثير الأمر السلطان وأصحاب المناصب لأن ألأمر أصبح يهددهم بالثورة الإجتماعية المتقومــة بالآيات والبراهين، فكل من يرى عيسى لابد وان يأخذ منه ويتزود من علومه وينتفع من معجزاته التي جاء بها.
السابع عشر: كثرة وتعدد الآيات التي جاء بها عيسى من عند لتكون حجة دامغة وحرباً على الكفر والضلالة.
الثامن عشر: احياء عيسى للموتى، هذه الآية والمعجزة التي تتحدى العقل والعلم الى يوم القيامة.
وتذكر الإنسان بعالم البرزخ والنشور، وتبين عظيم فضله تعالى على رسله وعلى الناس وانه سبحانه يأبى ان يترك قانون العلة والمعلول والنظام الكوني هو الثابت دائماً بل يقطعه بآيات تشير الى جلاله وجماله تعــالى وتبين ان الكون مخلوق حادث يقهره تعالى بآيات تخرج من قواعــده ولكنها تلتقي معه بانها تحــدث بمشيئته وارادته سـبحانه وتعالى.
التاسع عشر: استيعاب الإذن الإلهي لجميع معجزات عيسى, وفيه دلالة على التوكيد على العبودية لله تعالى.
العشرون: إخبار عيسى بني اسرائيل بما يأكلونه في غذائهم وعشائهم وهو أمر خاص بالعوائل والأسر، ولابد من خصوصية لهذا الأمر نتعرض لها في تفسير الآية ان شاء .
الحادي والعشرون: لقد أراد عيسى الإخبار عن احاطته بعلم الغيب على نحو محدود ومقيد بالأحوال اليومية الخاصة لبني اسرائيل باذنه تعالى.
الثاني والعشرون: ختم الآيــة والإعلان بالإخبار بان الذي جاء به حجــة ودلالة على صـدق نبوته ودعوة بني اسرائيل الى لزوم التصديق به.
قانون التباين الموضوعي
لقد بينت الآية تفاصيل رسالته والآيات التي جاء بها بصيغة المضارع أي انه لم يأتِ بالآيات واقعاً ثم يتكلم عنها ويجعله حجة على الناس، بل أخبر عنها قبل حدوثها وهذه آية اعجازية اخرى لما فيها من التحدي، فحينما يسمع الناس قوله يقولون قد حكم بينكم وبينه، لأنه لا يستطيع ان يأتي بهذه الآيات إلا رسول من خصوصاً وان موسى ومع كثرة الآيات التي جاء بها لم يأتِ بمثل الذي جاء به عيسى للتباين الموضوعي في آيات الأنبياء .
والمتعارف في علم الكلام ان كل نبي يأتي بالمعجزة المناسبة لأهل زمانه وما هو المشهور في وقته , ولكن هذه الآيات تظــهر لنا قاعدة كلامية وقرآنية جديدة وهي ان آيات كل رسول تختلف موضوعاً وحكماً عن الآيات التي جاء بها الرسول الذي قبله بل مجموع الرسل الذين جاءوا قبله، وفي هذا التعدد عون للأنبياء وحث للناس على تصديقهم، ومنع من الإفتراء عليهم او اظهار الشــك والريب في نبوتهم وتفــشــيه بين الناس.
كما يدل هذا التعدد على كثرة خزائن وعدم نفاذها وانه الواسع الكريم، فيجعل كل رسول يأتي بآيات جديدة تبهر العقول وتدعو الناس الى الإسلام قهراُ وانطباقاً، بالإضافة الى صفة أخرى لهذا الترتيب الطولي للآيات وهي ان الآيات التي يأتي بها النبي اللاحق أعظم من الآيات التي يأتي بها السابق ولو في الجملة مما يدل على عظمة الآيات العقلية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ ان القرآن آية عقلية وهي مقدمة على الحسية.
والتباين الموضوعي في معجزات الأنبياء مصداق لسعة رحمته وكرمه وقدرته تعالى، وحجة على الناس بان خزائنه تعالى لا تنفذ، كما يبعث الشوق في النفوس على الإلتفات الى الآيات والإصغاء الى سماعها ولو بعد انقضاء زمانها، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] فمن حسن قصص الأنبياء ان يأتي كل رسول بآية بكر لم يأتِ بها رسول من قبله، وهو شاهد على عظمة القرآن لأنه خاتم آيات النبوة والجامع والوثيقة السماوية لحفظها.
نظرية “الدفاع”
لقد رزق الإنسان العقل وبعث له الأنبياء والرسل وأنزل معهم الكتب التي تبقى مائدة وحرزاً سماوياً بين أهل الأرض وجعل الحياة الدنيا دار امتحان للناس في أقوالهم وأفعالهم وانتماءاتهم، وجعل النبوة والمعجزة عوناً لهم في اختيار السبيل الأمثل وطرق النجاة في الدارين.
ومن قواعد اللطف الإلهي عدم جعل أسباب الإيمان بعرض واحد مع أسباب الكفر والضلالة، فقد جعل حائطة وواقية لمقدمات الإيمان لتكون في مأمن من التعدي والإفتراء، وتبقى قريبة من كل انسان لينهل منها من غير ان تكون الكدورات الظلمانية غشاوة تحول دون رؤيته الحقائق، ومن مصاديق هذه الواقية دفاع المسلمين عن الأنبياء وكتبهم ومعجزاتهم وعن مبادئ الإيمان ويمكن ان نسميها “نظرية الدفاع” وهي أعم من ان تنحصر بالقول فتشمل الأفعال وتأليف الكتب والإعلام والأحكام القضائية والجنائية.
ومنها صيانة القرآن من التحريف، لما في مفهومها من توثيق قصص الأنبياء، ومنع ما طرأ عليها من التحريف والتغيير في الكتب الأخرى من التأثير على الناس في عقائدهم ونظرتهم الى النبوة.
فهذه الآية وان جاءت بلغة الخبر وبلسان عيسى الا انها عهد وأمر للمسلمين بحفظ تراث المعجزة , والدفاع عنها وعن الأنبياء وتنزيه ساحتهم والدعوة للإيمان بهم على نحو العموم المجموعي، ومن الآيات والمدد الإلهي للمسلمين انهم مع دفاعهم عن أنفسهم وأموالهم وإعراضهم وديانتهم فانهم يذبون عن الأنبياء بتلقي قصصهم في القرآن بالتصديق، وابطال كل قول مخالف لما في القرآن عن عصمتهم ورفعتهم وحيازتهم للكمالات وجريان البركة والرحمة على ايديهم.
افاضات الآية
تظهر في الآية أسمى معاني الإصطفاء، وأبهى صور الخلافة في الأرض، ليكون عيسى جوهراً نورانياً يجذب الناس الى سماء الإيمان ويجعل قلوبهم ترتبط بعالم الشهادة والغيب.
لقد أصبح الإنسان يباهي الملائكة بما رزقه من مظاهر والتجليات اذ أصبح واسطة الفيض الإلهي ومحل الإبداع بالإذن له باحياء الموتى، وتبعث الآية الحب في القلوب المنكســرة ومن أبتــلي بداء , خصــــوصاً وان المرض عرض لازم الإنسان في وجوده على الأرض , فمع الإكتشافات العلمية والإرتقاء الطبي يبقى المرض آفة تبعث الخوف في النفس , وتجعل الإنسان يلجأ طوعاً وقهراً الى رجاء الشفاء والنجاة من الأمراض.
ولا ينحصر الرجاء هنا بمن أصيب بالمرض لأن كل انسان يدرك بما رزقه من عقل وبصيرة انه في معرض الإصابة به، وجعل المبتلى عبرة وموعظة للآخرين، فجاءت بعثة عيسى للتخفيف عن الطرفين، وازاحة هموم وآثار المرض عن صاحبه ومن يقوم بالعناية به, وقضاء حاجته والذي يخاف ان يحل المرض بساحته لأنه يدرك قرب العلاج وهذا من البركات التي نزلت مع عيسى .
التفسير
قوله تعالى [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ]
أفتتحت الآية بنعمة أخرى على عيسى وعلى بني اسرائيل، وجاء ذكر هذه النعمة المركبة بصيغة بسيطة واضحة جلية يمكن لكل انسان معرفة موضوعها , اما أحكامها فتحتاج الى التدبر والتفكر، وفي بعثة عيسى منافع ونعم متعددة من وجوه:
الأول : نعمة على عيسى لما ناله من المنزلة الرفيعة والشأن العظيم بين أهل السماء والأرض، وانه أصبح واحداً من الرسل الذي يبلغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً.
الثاني : فضل الهي ونعمة على بني اسرائيل، ولقد تقدم تعداد النعم التي رزق بني اســرائيل , ولكن هــذه الآيــة نعــمة اضــافية عليــهم بان يأتيهم رســول من عنــد بالآيات الحســية، وهذه الآيات ذات نفع شخصي ونوعي، وقد جاء موسى بالآيات التي أنتفع منها بنو اسرائيل مثل جريان الماء بضربه الحجر بعصاه، وجاء عيسى بابراء الأكمه والأبرص، واحياء الميت وهي آيات ذات منافع شخصية، ولكنها عبرة ودرس للناس جميعاً.
ويلاحظ في الآية ان اليهود لم يذكروا الا بصفتهم بني اسرائيل, وهو يعقوب النبي, وفيه مسائل:
الأول: عدم ثبوت اسم اليهود لهم آنذاك وأنهم لم يعرفوا الا بانهم بنو اسرائيل.
الثاني: في الآية اشارة الى عدم وجوب الإلتزام التام بالتوراة، بل عليهم باتباع ما يأتي به الأنبياء والرسل، فالملاك والمدار على ما يأمر به تعالى وما ينزل مع الأنبياء.
الثالث: جاء عيسى ليدعوهم لإتباعه في شريعته، وليس البقاء على ما هم عليه.
الرابع: فيها تذكير لهم بصلة القربى والنسـب الذي يجمعه واياهم، واذا كانوا جحدوا برسالة عيسى مع قربه في النسب منهم والآيات الحسية الباهرات التي جاء بها لهم وعلى نحو الكثرة والمتعدد، فعلى المسلمين ان لا يستغربوا جحودهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: الإنتســاب الى يعقوب النبي عنوان تشريف لبني اسرائيل وحث لهم على البقاء على عقيدة الإيمان والتصديق بالتنزيل.
السادس: في النــداء تذكـير بالموثــق الذي أخــذه يعـقــوب على بنيــه [إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُــدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُــوا نَعْبُدُ إِلَهَـكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ].
السابع: تدل الآية على الخلق الرفيع لعيسى اذ دعاهم بالاسم والنسب الذي يفتخرون ويعتزون به.
الثامن: انه سور جامع وأبوة تشمل جميع المخاطبين في الآية.
التاسع: بيان لنعمه تعالى على بني اسرائيل، وتوالي النعم على لسان الأنبياء.
نظرية “النعم والرغائب”
يلاحظ من خلال سنن وقصص الأنبياء الذين بعثهم الى بني اسرائيل انهم يميلون الى الآيات التي تكون ذات نفع مباشر وأثر في حياتهم اليومية، وكأن الآيات ذات النفع هي الوسيلة التي تجذبهم الى مقامات الرسالة واتباع الأنبياء، فتتجلى قاعدة أخرى وهي ان ينزل عليهم النعم بما تهوى أنفسهم، وما يحبون نيله من الرغائب التي تعجز عنها الأسباب والوسائط المادية المتعارفة.
فجاءت ولادة عيسى خلاف النواميس والأسباب لتكون سبباً لجذبهم لنبوته، واستجابة لطبائعهم, وقهراً للنفوس الشهوية والغضبية، ولتكون آياتها ذات صبغة ملكوتية ويمكن ان نسمي هذه القاعدة قاعدة “النعم والرغائب” لتكون أعم في موضوعها وأحكامها فتشمل النعم الإلهية على الناس، ومدا مناسبتها للرغائب وموافقتها للطبائع، وأثر كل منهما أي الرغائب والطبائع في تلقي هذه النعم بالقبول والإستجابة لها والإنتفاع منها كوسيلة للإيمان كما تتضمن هذه القاعدة اشراقة جديدة في باب آيات الأنبياء.
والمعروف ان كل رسول يأتي بالآيات التي تتضمن تحدي ما هو مشهور في زمانه، فجاء موسى بما يفضح السحرة، وعيسى بالطب وابراء الأكمه والأبرص، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يقهر اساطين البلاغة والفصاحة، ولكن هذه القاعدة تثبت امراً آخر وهو ان آيات الأنبياء تأتي مناسبة لحاجات ورغائب اهل زمانها، وفيه لطف الهي لتقريبهم الى الطاعة وجذبهم الى الآية والإلتفات اليها، وهو دليل صدق النبوة لأن الدعوة لم تبق حصراً على جماعة قليلين بل انها تحث الناس جميعاً بالإلتفات اليها والرغبة فيها والإلتجاء اليها كمصدر يبعث ضياء الأمل في النفوس ويطرد اليأس والقنوط.
وبينت هذه الآية علة التعليم الإلهي لعيسى , والموضوع الذي تتجلى فيه هذه العلوم، وان لم يعلم العبد لنفسه وذاته بل لتنتفع منه الأمم، ويكون واسطة ملكوتية لنقلهم من الضلال الى الهدى، وليحافظ المؤمنون على ايمانهم ويزدادوا ايماناً اذ ان بني اسرائيل لم يكونوا كفاراً وثنيين ايام بعثة عيسى ولم يقولوا بربوبية موسى ، بل شهدوا له بالنبوة والرسالة ولكن آيات التوراة لم تبق على حالها، وكذا بالنسبة لأحكام الشريعة.
وأراد ان يبعث عيسى ويمتحن اليهود بالتصديق بنبوته واتباعه ومن فضله ونعمه عليهم ان جاء عيسى بالآيات الباهرات التي تمنع طرو الشك على النفس الإنسانية وتثبت صدق نبوته بذاتها من غير استحضار وسائط للتدبر والتأمل والتفكر.
فاحياء عيسى للموتى واعلانه بانه باذن امر يقود الى اتباعه، لذا أعلن بانه رسول بالإضافة الى كونه مصدقاً للرسول من قبله، فلقد جاء الى بني اسرائيل انبياء عديدون بعد موسى، وكلهم يدعون الى شريعة موسى ، اما عيسى فانه صدّق بموسى وشريعته وجاء عالماً بالتوراة ولكنه دعا الى اتباعه في ديانته والتصديق بالكتاب الذي أنزل عليه، ليتجدد الإيمان عند بني اسرائيل وتكون رسالته امراً لاحقاً ومتقدماً زماناً على التعدي المستمر والتمادي في التحريف لرسالة موسى، والتفريط بافراد العبادات اليومية.
وظاهر الآية ان رســالة عيسى الى بني اسرائيل وتحتمل أمرين:
الأول: انها خاصة بهم، وليس حجة على غيرهم , وعن الباقر في الآية: انه أرسل الى بني اسرائيل خاصة وكانت نبوته ببيت المقدس.
الثاني: ان أصل البعثة لبني اسرائيل لأنه أرسل بين ظهرانيهم وفي مجتمعاتهم، اما الرسالة فهي عامة، لأن الرسول يمتاز على النبي بانه يبعث للناس جميعاً، خصوصاً وان عيسى من الرسل الخمسة اولي العزم.
والأرجح هو الوجــه الثاني لعمومات التبليغ والرســالة وعــدم وجود تخصيص لها ,وبدليل الآيات وإظهار الحجة والبرهان وحثه على الدعوة الى ولتكون رســالته مقدمــة عالميـة لرســالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم التي جاءت للناس جميعاً، ومنهم المليون من اليهود والنصارى.وتمتاز خطابات القرآن بأنها موجهة للناس جميعاً.
ولكن لماذا لم تقل الآية (ورسولا ً الى الناس ) فيه وجوه:
الأول : بيان النعمة على بني اسرائيل وتشريفهم ببعثة الأنبياء والرسل لهم على نحو الخصوص.
الثاني : جاء الخطاب بلحاظ موضع البعثة في بني اسرائيل وقراهم.
الثالث : توكيد اعتبارهم وموضوعيتهم في تأريخ العقائد السماوية.
الرابع : في الآية حجة ودليل على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان أصل بعثته للناس جميعاً، ومن المصاديق الواقعية لهذا التفضيل وجوه:
الأول : إطلاق الدعوة وعدم وجودمخصص في القرآن يدل على بعثته لخصــوص أهـل مكة او العرب.
الثاني : دعوته لليهود لدخول الإسلام، وعــدم اعتراض أحد من كبراء اليهود بان لرسالته لقوم معينين او لأمــة مخصوصة او بلد معين، نعم ورد قــول لرأس المنافقين في المدينة بتقســيم الناس بلحاظ العزة والذلة [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( )، فوقع الحــق وخـــلافـــاً لما أراد المنافقون، فما لبث ان أخــرج المســلمون الكفار والمنـافقين من المدينة.
الثالث : وجود نفر من كبار صحابة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من غير العرب واحتلالهم المنزلة الرفيعة في الإسلام وعند عامة المسلمين مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي.
الرابع : رسائل الدعوة التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى ملوك ورؤساء الأرض مثل ملك الروم وكسرى وقد أرسل دحية الكلبي الى ملك الروم ولم يحتج الأخير بان رسالته صلى الله عليه وآله وسلم للعرب بل قابل أنباءها بالتصديق.
قانون “التسمية السماوية”
الاسم لفظ يدل على معنى مخصوص سواء كان جوهراً او عرضاً، ليبقى ملازماً له هادياً اليه في الوجود الذهني، والمعنى الواقعي، وتقدم أصل اشتقاق الاسم وتعريفه ومفهومه( )،
ولقد فاز الإنسان بكرامة وتشريف خاصين بان تفضل سبحانه وأختار بعض الأســماء منه تعالى كما في اسم يحيى وجاء الإختيار صريحاً بقوله تعالى [لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا]( )، وزاد في عيسى في تســميته ولقبه وانه المســيح ليكون هناك مائــز للرسالة وللنفـخ الملكوتي وموضوعيته في أصل خلقته، وصحيح ان المدار على المسمى والذات، وان الاسم لفظ دال عليه، الا ان التسمية الإلهية للشيء مدرسة عقائدية مستقلة، وأصل لأحكام ومسائل متعددة.
فتعيين الاسم منه تعالى نعمة مستقلة وخزينة وكنز سماوي ومائدة نازلة للأرض لينهل منها العلماء الدروس والعبر، وشاهد على حضور فضله وتوكيد لحقيقة في الإرادة التكوينية وهي لزوم اعتبار الاسم والعناية به ان كان مختاراً منه تعالى او عند استحداث اختياره للأشخاص وغيرهم، لأن التسمية الإلهية جاءت من باب المثال والإعتبار وهذاا لمثال ووقوعه بخصوص أفراد وأمور مخصوصة له دلالات ومضامين عامة وخاصة،
ومن هذه الأفراد تسمية الدين الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام بالإضافة الى ثبوت صبغة الإسلام للشرائع السماوية السابقة وهو منهاج الأنبياء السابقين وكل واحد منهم يفتخر ويتباهى بانه مسلم فهو العنوان الجامع للموحدين، وفيه دليل على وراثة المسلمين للأنبياء السابقين.
ومن الآيات ان أسماء الكتب السماوية كلها من عنده تعالى فهو الذي سمى التوراة والإنجيل والقرآن، اما بالنسبة للأديان فان اسم الإسلام ورد بالتنزيل , ولم يرد اسم دين آخر في القرآن بل ورد ذكرهم كملة وأمة وباسم اليهود والنصارى والصابئة والمجوس، كما ورد لفظ المسلمين وينفرد أسمهم بانه باختيار منه تعالى , قال تعالى [هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ) لتكون هذه التسمية شاهداً على انفرادهم بالتقيد بأحكام النبوة والشرائع السماوية.
ولم تكن رسالة عيسى الى بني اسرائيل علة تامة لتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل لذا جاءت الآية بحرف العطف (ورسولاً) وفيه دلالات:
الأولى : ان رسالته أعم من بني اسرائيل لأن النكرة في مقام الإثبات لا عموم لها.
الثانية : ان الرسالة لبني اسرائيل أعم من التعليم الذي تفضل به سبحانه تعالى، اذ ان الرسالة موضوع مستقل بذاته ويبعث النبي رسولاً ليأمر الناس بالإمتثال لما جاء به.
الثالثة : تفيد الآية التعدد والإثنينية , فالجمع بين هذه الآية والآية السابقة يؤكد بأن رسالة عيسى فرد خامس من النعم الإلهية التي آتاها عيسى .
الرابعة : العطف الوارد في الآية واستقلال موضوع الرسالة في آية منفصلة عن النعم الأربعة التي جاءت في الآية السابقة يدل على ما للرسالة من خصوصية، ولمنع الإنتقاص من درجة الأنبياء الآخرين الذين لم يؤتوا مثل الذي رزق عيسى كما في منطوق هذه الآيات وان كان يصلح كل نبي للنبوة والبعثة بالعلم والحكمة والوحي.
الخامسة : لم يكن عيسى نبياً فقط بل نبياً رسولاً في حجة على بني اسرائيل وتحذير من الإعراض عن نبوته والإصرار على البقاء على شريعة موسى .
قوله تعالى [أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]
انتقلت الآية الى كلام عيسى وموضوع خطابه مع بني اسرائيل، وهذا الإنتقال له دلالات كما سيأتي في البحث البلاغي العقائدي، لقد تكلم معهم عيسى وأخبرهم بوظائف النبوة التي جاء بها من عند .
وهذه الآية أحد أهم مصاديق قوله تعالى [تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً] ومنها انه “عبد ”
وأخبرت الآية بان عيسى أعلن نبوته من غير خوف او وجل او تردد، وليس من السهل على الناس ان يأتيهم رسول وهو في المهد ويدعوهم لإتباعه والإنقياد له، مع اصرارهم على البقاء على رسالة موسى، ولكن آية الكلام في المهد حجة دامغة وبرهان ساطع يمنع من الشك والريب.
لقد بدأ عيسى بكلامه عن نفسه (أني) وفيه عز وتفاخر بعظيم فضله تعالى عليه، وهذا الفخر لا يخرجه عن منازل العبودية بدليل سبق قوله (ورسولاً) أي ان الفخر بالرسالة والبعثة وهذا الفخر ليس مطلوباً بذاته بل يأتي عرضاً لأن القصد الإخبار عن الرسالة، وهي عنوان العبودية والتفضيل الإلهي، كما ان عيسى في مقام البيان والتحدي ودعوة الناس للتصديق برسالته فلابد من التعريف بوظيفته السماوية، والعز والفخر بالرسالة من الكلي الطبيعي الذي يتغشى المسلمين في كل زمان وهو ملك لهم جميعاً, وعون على مواجهة الكفر والضلالة ومناسبة للشكر والثناء عليه تعالى واقرار بانه سبحانه لم يترك الناس سدى.
وتقديم ياء المتكلم في (أني) اخبار لبني اسرائيل عن البركات التي جاء بها، والنعم التي يحملها لهم سواء الدنيوية أو الأخروية، واذا علم الناس ان شخصاً جاءهم بالبشارة فانهم يستقبلونه بالحفاوة والغبطة ويكون محل اكرامهم.
فقوله (اني جئتكم) أي أبشركم بخير الدارين، وأنقل لكم ما يسركم ويبعث الرضا في نفوسكم ويجعل ابناءكم يلتزمون بالأحكام التي جئت بها لما فيها من التخفيف والصدق.
ويظهر أدب النبوة والخضوع لله تعالى بنسبته الآية التي جاء بها الى تعالى بمعنى انه ليس ابن ولا يجوز الغلو فيه، فهو رسول منه تعالى، والرسالة عنوان العبودية وقد سبقه كثير من الرسل والأنبياء من البشر، لقد حرص عيسى ومن أول كلامه مع بني اسرائيل ان يمنع الغلو في شخصه لأنه شرك وضلالة وحاجب دون معرفة فلسفة الرسالة والإنتفاع منها.
قانون “ملازمة الآيات للنبي””ص”
لقد جعل الآيات ملازمة لعيسى في أيام حياته اذ ان آية الكلام في المهد مقيدة بزمان مخصوص وأيام محدودة هي مدة المهد سواء كانت سنتين أو أكثر قليلاً، وهل تجتمع آيتا الكلام في المهد وآية خلق الطير من الطين في زمان واحد، بمعنى هل يخلق الطير وهو في المهد أم ان النسبة بينهما التعاقب وعدم التداخل الزماني الأصح هو الثاني، فان آية عيسى أيام المهد هي الكلام مع الناس.
اما آية النفخ فجاءت لاحقاً وعقب آية النفخ فلو أنقطعت آية الكلام في المهد قهراً وانطباقاً بانتهاء مدة المهد وليس من آية تتعقبها، لأرتفعت أصوات الحسد والريب, وتعددت وجوه التأويل الخاطئ، وقلّ التفات الناس للآيات التي جاء بها عيسى ولكانت هناك فترة قد يتعرض خلالها عيسى ومريم عليهما السلام للأذى.
فتفضل سبحانه ورزقه آية اعلان نبوته والنفخ في الطين وخلق الطير باذن ليبقى على صلة مع الناس بصفة الرسالة وفيه تخفيف ورحمة بهم، لأن اتصال وتعاقب الآيات رحمة بالناس ودعوة لهم للإسلام وبرزخ دون الجحود والريب ويمكن تسمية هذا القانون “ملازمة الآيات للنبي” لأن المعجزة مظهر تجليات النبوة ودليل صدق دعوى الرسالة والوسيلة الملكوتية المباركة لدعوة الناس للإسلام وفق قواعد اللطف الإلهي واقامة الحجة عليهم.
وتبين الآية حقيقة في الإرادة التكوينية وهي ان الرسول لابد وان يأتي بآية منه تعالى وفيه اخبار متقدم عن شرط رسالة خاتم النبيين ولزوم مجيئه بآية من عند ، وتصديق الناس للآية وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن فكان آية مصاحبة وملازمة له في مدة نبوته، تنزيلاً ووحياً واستدامة.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفق هذه القاعدة ان آيته باقية غضة طرية الى يوم القيامة، لأنها ليست آية حسية تنقطع بانتهاء موضوعها ومدته بل هي آية عقلية لغة وشرعاً وبرهاناً وحجة, وتفتح الأبواب لعلوم متشعبة، ومن الآيات ان معجزات الأنبياء إحتاجت القرآن لتثبيتها وتأييدها والشهادة على صدق وقوعها، ليكون القرآن سلاحاً للنبوة والأنبياء يطرد الوهم ويدفع الشك ويمنع اهل الجحود من الإفتراء والتعدي.
قانون “الإتحاد” البلاغية
من البديع الإلتفات، وهو الإنتقال في صيغ الكلام من حال الى حال، كما في الإنتقال من لفظ المتكلم الى الغائب او المخاطب، وفيه تفنن في الكلام واظهار لأسرار اللغة , ويبعث على انجذاب السامع للكلام , ويطرد الملل والسأم من النفوس، ومن أمثلته [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
اما في هذه الآية فقد جاء نوع آخر من البلاغة لم يلتفت اليه وهو تداخل جهة الصدور في الكلام ليقوم السامع بما رزقه من العقل بالتمييز والتفكيك في الكلمات والفصل بينها ومعرفة الصدور بلحاظ الموضوع والمعنى.
ويمكن ان نطلق اسم “الإتحاد” على هذا الباب من البديع، والقرآن ينفرد به وهو الذي أسسه في اللغة العربية مما يعني استقراء نظرية جديدة في البلاغة وهي ان القرآن أسس علوماً جديدة في البلاغة لم يعهدها العرب في لغتهم وفصاحتهم، لذا يجب ان لا يقف علماء البلاغة عند الأبواب والوجوه المتعارفة،
فلابد من الغوص في أعماق آيات ومفاهيم القرآن لإستنباط وتأسيس قواعد بلاغية جديدة، وبالإمكان توسعة علم البلاغة ومضاعفة أبوابه ومسائله باستقراء واقتباس قواعد وعلوم بلاغية مستحدثة من القرآن لتتجلى لنا حقيقة فضل القرآن على العربية، وانفراده باسرار وعلوم جديدة.
ومن مصاديق قاعدة (الإتحاد) هذه الآية، اذ جاء الكلام عن الباري ثم أتصل به كلام عيسى [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ] فلقد أخبر بانه بعث رسولاً الى بني اسرائيل ثم نطقت الآية بكلام وحديث عيسى مع بني اسرائيل لتبين وحدة الموضوع وتحقق الوعد والبشارة الإلهية وعدم تخلف الواقع عن المشيئة الإلهية.
قانون “قوس الصعود لبلاغة القرآن”
تحرص كل أمة وملة على اختيار الإلفاظ المناسبة لبيان المعنى وظهور العلاقة بين اللفظ والمعنى بما يمنع من اللبس والغرر وتلك حاجة انسانية، ومن الإعجاز في المقام ان ترى أول وظيفة لآدم هي تعلمه أسماء مسميات مخصوصة، وان تلك التسمية ما كانت لتتم لولا تفضله تعالى بتعليمه خصوصاً وان الملائكة أظهروا عجزهم عن معرفتها كما جاء في قوله تعالى [أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا] ( ).
مما يدل على ان تعليم الأسماء وتثبيت حال اللغات وايجاد قواعد ثابتة للتخاطب بين الناس امر ليس سهلاً، ويستلزم تدبيراً وعلماً وفقهاً ثم تأتي مرحلة تهذيب اللغة وتخلصها من الشوائب.
وتتباين وجوه الحسن والدقة والبراعة في اللغات وليس المدار فيحسنها وعذوبة ألفاظها على كثرة الناطقين بكل لغة بل على العناية والجهود المضنية المبذولة في اصلاح تلك اللغة على فرض ان الإنسان والجماعة هي التي وضعت اللغة، اما على القول بان هو الذي وضع اللغة فانه جعل لكل لغة خصائصها.
وتتصف لغة القرآن بالفصاحة والبلاغة، والفصاحة هي وضوح معاني الإلفاظ ووضوحها وسهولة جريانها على اللسان، وموافقتها للقواعد وصيغ التداول والتخاطب بين الناس، اما البلاغة فهي مطابقة الكلام لمقتضى حال الخطاب وفهم المخاطبين مع التقيد بأحكام الفصاحة ومطابقة اللفظ للمعنى، فمعاني البلاغة تشمل اللفظ والمعنى لذا بين البلاغة والفصاحة عموم وخصوص مطلق، فكل بلاغة هي فصاحة وليس العكس، فقد يكون الإنسان فصيحاً ولكنه ليس بليغاً.
ولقد بلغ العرب أوان البعثة النبوية أعلى درجات الفصاحة وأبهى أساليب البلاغة واعذب صيغ البيان، وأتقان المناسبة بين صدر الكلام وعجزه مع جمال اللفظ, والكلمة متحدة او مجتمعة مع غيرها، فجاءت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتخرس شقاشق العرب، وتجعلهم متحيرين منقادين لما في القرآن من الإعجاز والبيان والبديع، ولكن هذا الإعجاز البلاغي لم ينحصر بزمان النزول بل انه مستمر ومتصل ومتجدد مع الزمان.
ففي كل زمان ترتقي علوم البلاغة والبيان في العربية لتتجلى آيات جديــدة من الإعجاز البلاغــي للقــرآن، مع ان أكــثر ارتـقاء علوم العربية لا يكون الا بالقرآن فهو الوسيلة والموضوع المبارك والعلة لهذا الإرتقاء، وهذا من الإعجــاز المتجدد الذي ينفرد به القرآن ولا يمكن لأي جهة او أمة أن تقوم به، بمعنى ان القرآن يأخذ بيد العربية نحو مراتب عالية في الفصاحة والبلاغة وقواعد النحو والصرف حتى اذا ما أستقرت بها, أســتقرئت وأســتنبطت قواعد بلاغية وعلوم مســتحدثة من القرآن.
لتبقى اللغة في ازدهار مستمر وهذا هو الإعجاز البلاغي للقرآن وليس فقط اعجازه أيام التنزيل، ويمكن ان نسمي هذه النظرية “قوس الصعود لبلاغة القرآن” وهذه النظرية وان كانت خاصة في علوم البلاغة الا انه يمكن استقراء واقتباس قواعد أخرى مشابهة لها في علم الأخلاق والعقائد وتهذيب النفوس والعلوم النظرية كما يأتي ان شاء ، فمن الغايات والمقاصد الحميدة في نزول القرآن ايجاد الكمالات الإنسانية واصلاح الفرد والجماعة للوراثة في الأرض.
نظرية “المضامين العقائدية في بلاغة القرآن”
من خصائص البلاغة القدرة على تأليف كلام مطابق لمقتضى الحال ومناسب لأحوال المخاطبين، ومن علوم البلاغة البديع وتعرف به وجوه تحسين اللفظ مع رعاية المعنى، ويدرك المتعلم والعالم في البلاغة حاجته للجوء الى القرآن وأخذ القواعد والمصاديق منه، والإستشهاد بآياته لتبدوالمعاني البلاغية في القرآن بابهى صورة ولكن القرآن يختلف عن مصادر وشواهد البلاغة الأخرى.
فقد يستشهد ببيت من الشعر او كلمة لأحد فصحاء وبلغاء العرب، وهو كثير في اللغة وميادين الدراسة والمنتديات الأدبية، ولكن القرآن يتصف بخصوصية غير موجودة في غيره فان بلاغته لها دلالات عقائدية ومضامين قدسية تتجاوز مفاهيم البلاغة.
فلكل باب من أبواب البلاغة في القرآن وجوه مشرقة أخرى أكثر أهمية ودلالة من البلاغة وتبين الإعجاز الذي تنفرد به آيات القرآن ,وهو اجتماع البلاغة والمقاصد العقائدية في آن واحد لعرض اصلاح النفوس بأعذب الإلفاظ وأجمل الكلمات وأحب صيغ الكلام الى الأسماع.
ولابد في دراسة بلاغة القرآن من الإلتفات الى الحيثيات المتعددة للفظ القرآني وان بلاغته تتولد عنها علوم متشعبة , وتتفرع عنها مسائل وأحكام في أبواب أخرى كالكلام والفقه والتأريخ والسياسة والأخلاق، ويمكن ان نسمي هذه النظرية “نظرية المضامين العقائدية في بلاغة القرآن”.
وفيها تثوير لعلوم القرآن، وعدم الإستمرار بالوقوف عند المعنى البلاغي بل النظر والتفكر لإستنباط علوم ومفاهيم أخرى لتساهم في النفع الأعم من اللفظ القرآني وتساعد على اخراج درر وعلوم مستحدثة منه , ولتكون مصاديق هذه النظرية من الشواهد على عدم نفاد خزائن علوم القرآن.
ومن المضامين العقائدية في هذه الآية ان كلام عيسى جاء متعقباً للبشارة والوعد والإخبار الإلهي من غير حرف عطف وفاصلة لفظية تدل على التعدد والتباين في جهة صدور الكلام، مع ظهوره وامكان التفكيك عقلاً بينهما، واعتبار قدرة السامع على التفكيك وارجاع كل كلام الى جهته.
ولهذا الإتحاد والتداخل في جهة الصدور معانِ وأسرار منها:
الأول : ان كلام عيسى وحي وان اذن له باعلانه، فكما اذن سبحانه له ان يخلق من الطين كهيئة الطير، فمن باب أولى ان يكون قوله [أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] بإذن منه تعالى, خصوصا ً وانها اعلان واخبار عن الآية التي جاء بها , ومقدمة لها .
الثاني : عدم وجود فترة ومدة معتد بها بين البشارة واعلان عيسى لبني اسرائيل لما جاء به من الآيات، ومدة المهد ونحوه لا تعتبر فاصلة وفترة خصوصاً وانه جاء اثناءها بآية الكلام ومخاطبة الناس وهو في المهد، وكأنه من التعقيب بالفاء اذ يكون ما بعدها واقعاً عقب الذي قبلها بغير فاصــل بينهما، كما يقال “كـبر الإمام فالمأموم” او ان مجيء الثاني يحتاج الى مهلة وفترة طويلة، كما يقال “تزوج فولد له” فمدة الحمل تسعة أشهر، وهي مدة طويلة بلحاظ المثال الأول، ولكنها مدة متعارفة اذ لابد للحمل من مدة، الا بالنسبة للحمل بعيسى فقد ورد ان مدته ست ساعات، وكذا الآيات التي جاء بها فليس من فاصلة في حياة عيسى خالية من الآيات والبراهين الدالة على رسالته.
الثالث : الآية حكاية عن حال بني اسرائيل جاءت متقدمة على زمان وقوعها، وهي جزء من البشارة بعيسى وهذا من اعجاز القرآن وشاهد على أمرين:
الأول: سبق علمه تعالى بالحوادث، فان يعلم بالوقائع قبل حدوثها.
الثاني: عدم تخلف الأشياء والحوادث عن مشيئته تعالى.
الرابع : في الآية دعوة لبني اسرائيل للتصديق بعيسى , وان الملائكة بشرت به وأخبرت عن قرب أيامه وبعثته.
الخامس : لكل رسول وظيفة ومسؤوليات جهادية وآية اعجازية يأتي بها للناس، وقد أخبرت الآية عن موضوعات ومضامين آية عيسى لتهيئة الأذهان لقبولها والتدبر في معانيها، وتحدي أهل العناد والشك والسحرة، ومن يتصل بالجن.
قانون التثبيت
لقد جعل علوم القرآن مباحة للمؤمنين والناس جميعاً، ولم ينحصر الإنتفاع بها بجماعة دون أخرى او أمة او طبقة من الناس، بل جاءت ظاهرة للعيان وفي متداول الجميع، يطلع الناس عليها من خلال المصاحف والتلاوة والترجمة والتفسير والتأويل، ليأخذ الناس منها كل حسب اختصاصه وعمله بمقادير وكيفيات مختلفة، وهذا الأخذ له منافع عرضية متعددة على الفرد والجماعة وفي ميدان الإجتماع والأخلاق والإقتصاد وغيرها كما انه لا يتعلق بزمان الأخذ والإقتباس بل يشمل الأجيال اللاحقة لتنتفع هذه الأجيال من تعلم الآباء من القرآن وما تأخذه منه مباشرة.
والتعاقب في الأخذ والتزود من علوم القرآن يؤدي الى تثبيت علومه بين أهل الأرض ويمنع من تعرضها للضياع والنسيان او التفريط بشطر منها، ويمكن تسمية هذه النظرية (بنظرية التثبيت) أي تثبيت علوم القرآن بين الناس من خلال الأخذ منها والعمل بمضامينها وتوظيفها في الحياة اليومية والعلوم العامة.
وهل هذه النظرية من وجوه حفظه تعالى للقرآن وعمومات قوله تعالى [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، الجواب نعم، فان الرجوع الى القرآن لإستنباط الأحكام والمسائل العلمية سبيل لحفظ الآيات في الصدور , وفي المصاحف والكتب العلمية وهو وسيلة لصدور الناس عنه.
لقد قدم عيسى الأخبار عن الآية قبل ذكرها او وقوعها وهو شاهد صدق على قوله وانه واثق من نفسه بانه سيأتي بالآية وان سيرزقه المعجزة ومن غير تأخير في وقتها وأوانها.
نظرية التحدي
تعتبر آيات القرآن سلاح التحدي في المبادئ والأحكام، وهذا التحدي لا ينحصــر بزمان او أمة او موضــوع معين بل هـو شامل للأزمنة الثلاثة وللمواضيــع المختلفة, ويمكن تقســيم هذه النظرية الى عدة أقسام بحسب اللحاظ والموضوع فمن جهة الزمان تنقسم الى ثلاثة أقسام:
الأول: التحدي السابق لزمان النزول الخاص بمصاديق الإرادة التكوينية وعلوم الغيب التي يظهرها القرآن وقصص الأنبياء، ويتجلى التحدي فيه من وجوه:
الأول : الإخبار عن اسرار من الغيب لا يعلمها الا .
الثاني : فضح التحريف والتبديل الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة.
الثالث : لغة الإعجاز التي جاءت فيها هذه العلوم.
الرابع : كشف خفايا وحقائق لا يعلمها الا سواء الخاصة بقصص الأنبياء والصــالحين، او ما يكيده الكافرون في خلواتهم ومنتدياتهم.
الثاني: التحدي المقارن لزمان التنزيل، الذي يتجلى ببلاغة وفصاحة القرآن والآيات الحسية التي وثقها والإنتصارات التي حققها المسلمون, ونزول الملائكة لنصرتهم كما في معركة بدر، وحتى حال نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها تحد لما يصيبه من الكرب والشدة وان كان الحال شديد البرودة.
الثالث: التحدي المتأخر عن أيام التنزيل ,اذ ان آيات القرآن مستمرة ومتصلة، تعقب بعضها بعضاً، وهو على أقسام:
الأول: الإقتباس والأخذ من القرآن.
الثاني: شهادة آيات القرآن على الوقائع والأحداث على نحو الدلالة المطابقية او التضمنية.
الثالث: اخبار القرآن عن حوادث في المستقبل , تأتي الوقائع والأيام لتكون شاهداً عليه، وتكون سبباً لزيادة ايمان الناس وتوجههم للقرآن للإنتفاع الأمثل منه، وسيبقى التحدي عنواناًَ وصفة دائمة لآيات القرآن بجعل ارباب العقول يقرون مذعنين بنزوله من عند .
ومن خصائص هذا التحدي انه نفع وخير محض في ميادين الحياة الدنيا وهو باب للثواب في الآخرة لأنه مقدمة للإيمان والتسليم بالربوبية لله تعالى وعنوان تصديق نبوة صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يقل عيسى (جئتكم بآية من ربي) بل قال من ربكم، واضاف الرب الى بني اسرائيل , وفيه وجوه:
الأول : الآية شاهد على بعثته لبني اسرائيل كافة، وفيه نفي لما أدعاه بعض اليهود بانه مبعوث الى قوم مخصوصين منهم.
الثاني : في الآية دعوة لإتباعه والعمل بالإنجيل , وعدم الوقوف عند التوراة وما فيها من الأحكام، وعدم انقطاع الرسالة والسفارة من السماء.
الثالث : بيان نعمة أخرى على بني اسرائيل وهي بعثة رسول من عند بعد بعثة موسى، لبيان ان نعمة الرسالة لم تنقطع خصوصاً وان كل رسول يأتي بآيات من عنده تعالى، وتساهم نبوته بتثبيت الإيمان لما فيها من الإعجاز والدلالات على لزوم عبادة .
الرابع : اضافة الرب الى بني اسرائيل تدل على ان بعثة عيسى رأفة منه تعالى، ورحمة لبني اسرائيل خاصة تستلزم منهم الإمتثال لما جاء به الرسول من عند .
الخامس : هذه الإضافة شاهد على حبه تعالى لبني اسرائيل.
السادس : الرسالة حجة وإنذار، لأن الإخلال بالوفاء للرسالة وعدم الإنقياد لأحكامها سبب في انتقال النبوة إلى غيرهم من الأمم ممن يستطيع تعاهد الرسالة والتصديق بالنبي والجهاد تحت لوائه لتثبيت دعائم التوحيد، فهذه الآية تتضمن البشارة والإنذار، البشارة لمن يصدق بالرسالة، والإنذار والوعيد لمن يكذب بها ويخالف ما جاء به عيسى من الأوامر والنواسخ والأحكام.
السابع : تمنع الآية من الإفتراء على عيسى وتنفي الشرك عنه، وفيها تنزيه لبني اسرائيل من الشرك والإلحاد بالإخبار عن عدم وجود رب الا رباً واحداً هو تعالى، والآية شاهد على ان عيسى نزل في مجتمع موحدين يقرون بالنبوة , وامكان حصول الرسالة يفيد المعجزة وشاهد التصديق.
الثامن : في الآية تنبيه الى مسألة كلامية وهي ان لعيسى وظائف عقائدية وهو يحمل رسالة الى بني اسرائيل فلابد لهم من الإنصات له والإستماع اليه كرسول وقبول ما جاء به من عند في التنزيل والأحكام.
التاسع : لقد أخبر عيسى بانه جاء بآية، وهذه الآية شاهد على انه رسول من عنده تعالى، فلقد ذكر عيسى الآية وهي دليل على الرسالة كما أخبر انه رسول الى بني اسرائيل.
العاشر : لم ينسب عيسى الآية الى نفسه، ولم يجعلها نكرة، بل نسبها الى تعالى وأخبر بان الآية من عند ، أي هو الذي اختارها لتكون لبني اسرائيل خاصة وهذه النسبة تتضمن معاني العبودية وان عيسى لم يأتِ بآية من عنده بل هو رسول من تجري الآية على يديه لتكون مقدمة للتبليغ ودعوة لإتباعه.
لقد قدم عيسى لمعجزته بالإخبار عن الآية والمعجزة، وفيه وجوه:
الأول: تهيئة الأذهان لها وجعل الناس يلتفتون لموضوعها وماهيتها، وقد ورد في الحروف المقطعة في القرآن انها دعوة للناس للإلتفات لآيات القرآن والإصغاء لها.
الثاني: تحصيل الإنتفاع الأعم والأمثل منها، فكلما كان عدد الذين يطلــعون على الآيــة أكثر تكون الحجة والنفع والفائدة أكبر.
الثالث: الحصانة والسلامة من أهل الشك والريب، ومعرفة الناس بالآية وقاية من شرهم وكيدهم ومحاولات الإجهاز على النبي قبل شيوع أمره ورسالته والآيات التي جاء بها من عند .
الرابع: اظهار التحدي، فكل من يسمع بالآية انها لا تكون الا من قبل نبي ارسله للناس رسولاً وداعياً الى الحق.
قوله تعالى [أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ]
لم يترك عيســى فاصــلة بين اعلانه عن الآيــة وبين بيانهــا وموضوعها وكيفيتها بل جاء بالإخبار عن تفاصيلها بما يبهر العقول ويجعل الناس يدركون عدم قدرة أحــد على الإتيان بهذه الآية والمعجزة الا ان يكون نبياً.
ومن الآيات انه توجه بندائه وخطابه الى عموم بني اسرائيل الشامل لعلمائهم ورهبانهم ورؤسائهم , ورجالهم ونسائهم ,وكبارهم وصغارهم.
لقد أراد لدعوته ان تدخل كل بيت لعدم وجود ملازمة بين المقامات الإجتماعية وبين مراتب ودرجات قبول الإيمان , فقد يقبل الآيات ويستجيب لدعوة عيسى الفقير قبل الغني، والعبد قبل السيد، والمرأة قبل الرجل، والابن قبل أبيه.
لقد أراد للناس الإنتفاع من آية عيسى بالإضافة الى الحجة عليهم.
ان قراءة هذا الشطر من الآية يبين ان هذا خلق عيسى لا يعدو ان يكون تقديراً وفعلاً مقدوراً لكل انســان ولكنه يكتسب أهميته وموضوعيته من كونه مقدمة لآية عظمى بالإضافة الى كونه فعلاً مباركاً لمقام نبوة عيسى .
بحث اصولي/ مقدمة الواجب
المقصود من مقدمة الواجب هي ما يتوقف تحقيق الواجب والإمتثال عليها من غير ان يكون لها شأن او دخل في ايجاب الواجب كما في الوضوء فهو مقدمة للصلاة ولا تتم الصلاة الا به لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ] ( )، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا صلاة الا بطهور، وليس للوضوء موضوعية في وجوب الصلاة لأن الأمر بها جاء بالذات وليس بالعرض.
واعتبرت مسألة مقدمة الواجب من البحوث اللفظية ولكنها تتعلق بوجود دلالة التزامية بين ايجاب الشيء وايجاب مقدماته من جهة الشرع، وهل يدرك العقل هذه الملازمة و أنها ملازمة عقلية محضة، ولامانع من اعتبارها ومن المسائل الأصولية لأن ضابطها هو وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي الفرعي وكونها جزء أخيراً لعلة الإستنباط وكبرى لقياس ينتج حكماً كلياً فرعياً.
وما هو واجب تجب مقدماته، والحج واجب فمقدمات الحج من قطع المسافة ونحوها واجب.
والواجب لا يمكن اداؤه الا عند وجود مقدماته ولا يجب السعي لتحصيل مقدماته، والمقدمة لغة تقرأ بكسر الدال وفتحها، والأول أفصح وأظهر، وفي التهذيب: مقدمة البحث بكسر الدال أوله الذين يتقدمون الجيش.
ونسب ابن منظور فتح الدال الى القيل وهو تضعيف له: وفي لسان العرب وقيل انه يجوز مقدمة بفتح الدال ويكون المعنى بالفتح ان غيره قدمه( ).
الأول : مقدمات الوجوب: وهي الأمور التي يتوقف عليها الفعل وتحقيق الملاك ولها دخل في وجوب الشيء بحيث لو أنتفت هذه المقدمات لم يحصل ملاك الوجوب سواء تحققت مقدمات الواجب او لم تتحقق.
ومن مقدمات الوجوب البلوغ او العقل والإختيار وهي من مقدمات التكليف العامة والإستطاعة والمال من مقدمات الوجوب، ولابد من التمييز بين مقدمات الوجوب ومقدمات الواجب فالوضوء مقدمة للواجب وهو الصلاة ولكن هذا الواجب لا يتوجه الخطاب التكليفي به الا بعد البلوغ، ومسألة المقدمة تشمل الواجب المطلق والمقيد، وكذا بالنسبة للحج، فالحج واجب ولكن هذا الوجوب لا يتوجه الى المكلف الا بعد حصول الإستطاعة.
الثاني : مقدمة الحرام: وهي المقدمة التي يتمكن المكلف معها من ارتكاب الحرام ولولا تلك المقدمة لم يتمكن من ارتكاب الحرام، كما لو أراد السرقة وأحتاجت السرقة الى السفر او الى التواطئ مع جماعة آخرين، او أراد قتل النفس المحرمة وأستلزم شراء سلاح للفتك والقتل.
ومن مقدمات الحرام ما ينتج عنه الحرام تلقائياً وبلا واسطة، وكأنه من قانون العلة والمعلول والسبب والمسبب فهي من المقدمات التوليدية بحيث لو جاء بها المكلف يأتي بعدها بالحرام، وهذه المقدمة على فرض وجودها حرمتها ذاتية.
ومن الحرام ما يكون مقدمة لحرام آخر غيره فتكون حرمته نفسية وغيرية ومنها ما يأتي بها المكلف باختياره وقصد جعلها واسطة الى فعل الحرام وهو حرام بالحرمة النفسية بلحاظ انه محرم شرعاً والا فان حرمتها غيرية لثبوت الملازمة بين ايجاب الشيء وايجاب مقدماته وايجاب الحرام وايجاب مقدماته.
نعم قد يقال ان الملازمة في الحرام غير تامة، فقد يحصل إختيار للمكلف يحول دون فعل الحرام لذا وردت النصوص بمن هم بالسيئة ولم يفعلها فتكتب له حسنة، ومع ان الهم العزم والنية إرادة فعل الشيء الا انه يلحق به تهيئة مقدمات الحرام من باب الأولوية القطعية، وان لم تكن تلك المقدمات محرمة بذاتها، بمعنى انه لو هيئ مقدمات الحرام ثم أستدرك ولم يأتِ بالحرام يكتب له حسنة، الا ان تكون تلك المقدمات محرمة بذاتها.
ومن الشواهد القرآنية [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، فان امرأة العزيز همــت بالفاحشة ولكن يوسف معصوم، والفاحشة نوع مفاعلة بين طرفين، فلم يحصل الحرام وان هيئت امرأة عزيزاً مقدماته، وهي تؤثم في هذه الحالة لسوء الفعل والتجرأ.
وتقسم المقدمة بلحاظ الماهية الى:
الأول : المقدمة الخارجية: وهي الفعل والأمــر الخارج عن ماهية المأمور ذاتاً وتقييداً، وليســـت من الشرائط او الموانع ولكن المأمور به يتوقف عليها، فالطهارة مثلاً ليست من المقدمات الداخلية بل هي شرط خارجي للصلاة، وقيد داخلي لها لوجوب استدامة الطهارة في الصلاة وتشمـــلها عمومات “لا صلاة الا بطهور” بمعنى ان الطهور شرط ومقدمة للصلاة وهو ايضاً قيد داخلي اثناء الصلاة لذا لم يجعل بعضهم الطهارة من المقدمات الخارجية، ولكن الطهارة كلي طبيعي، فبلحاظ التوضأ وذات الفعل تعتبر الطهارة مقدمة خارجيـة وبلحـــاظ استـــدامتها تعتبر قيداً ومقدمة داخلية على القول بها.
الثانية : المقدمة الداخلية: وهي أجزاء المأمور به التي تكون جزء منه , باعتبار ان المركب يتكون من أجزاء ولا يتقوم الا بتمامها، ويتقيد بها، ولكن هذا التعريف والإقرار بانها جزء من الواجب يخرجها من مفهوم المقدمة تخصصاً، فالجزء غير المقدمة واعتبروا القراءة في الصلاة مثلاً من المقدمة الداخلية.
نعم يمكن اعتبار تطهير الثياب او الوضوء مقدمة داخلية بلحاظ دخوله جزء في ماهية الفعل العبادي تقيداً لا ذاتاً، فالطهور غير الصلاة لأن الصلاة أفعال عبادية مخصوصة، ومن وجوه خروج أجزاء الفعل عن معنى المقدمة انها خارجة عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، ومن لا يأتي بالقراءة في الصلاة لا يقال عرفاً انه لم يأت بمقدماتها.
نعم القائل بالمقدمة الداخلية بهذا المعنى جعل الجزء مقدمة للكل وأراد من المقدمة مطلق ما يكون وجود ذي المقدمة متعلقاً بوجوده بغض النظر عن التباين بين وجود المقدمة ووجود ذيها أو عدم حصول التباين والتغاير، لذا تصدق المقدمة على جزء المركب لأنه يتوقف عليه، والأقوى الأول وان المقدمة ما يكون وجودها مغايراً خارجاً عن وجود ذي المقدمة، وهو المشهور لأن البحث في مقدمة الواجب يتضمن البحث عن الملازمـة بين وجوب الشــيء ووجوب مقدمــته, وان الأجزاء عين الكل، والمركب متكون من ذات الأجزاء فتنحصر المقدمة بالخارجية ولا يتصور الداخلية، وتقسم المقدمة الخارجية بحسب منشئها الى أقسام:
الأول : المقدمة العقلية: وهي التي يكــون منشــؤها الأمـــور التكـــوينية ويلتزم العقل باستحالة حصول ذي المقدمة دون حصولها كالعلة والمعلول، فمع عدم وجود العلة لا يوجد المعلول.
الثاني : المقدمة الشرعية: وهي المقدمة التي نص عليها الشـــرع وجعل المأمور به متوقفاً عليها ولا يكون جامعاً للشرائط وصحيحاً الا بها، ووصفها بالشــرعية لأن الشارع هو الذي جعلها مقدمة للواجب مثل ثبـــوت رؤية هلال رمضـــان كأوان للصــيام، والوضوء للصلاة.
الثالث : المقدمة العادية: وهي المقدمة التي تقتضي العادة الإتيان بها من أجل تحصيل ذيها، دون ان يكون لها دخل في تحصيل ذي المقدمة حتى مع عدم وجودها.
ومنهم من جاء بمثال على المقدمة العادية وهو السفر الى الحج ولكن السفر مقدمة عقلية لإستحالة تحقيق الحج بالنسبة للآفاقي الا بالسفر الى مكة لذا جعل جزء من الإستطاعة ومنهم من جعل العادة والعرف في اصطلاح الفقهاء واحداً.
وعرفه الجرجاني بانه ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول، والظاهر ان العادة أعم من العرف، فملاكها الإعتياد والتعاقب والتوالي في الفعل والوجود، اما العرف فهو أخص، والتبدل والتغيير أسرع اليه من العادة وهو سور ملاحظ عند الفعل، أما العادة فتتعلق بذات الفعل.
الرابع : المقدمة المفوتة: وهي المقدمة التي يؤدي تركها وعدم تحصيلها الى فوات الواجب وعدم الإمتثال وان لم يتوجه الخطاب التكليفي في حينه، فاذا كان أداء الواجب يستلزم فعلاً معيناً لتكون فعلية للحكم ولكن المكلف تخلف عنه عن تصور او تقصير فانه يسمى المقدمة المفوتة، وهي أعم من الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، لذا قيل ان وجوب المقدمات المفــوتة عقــلي لأنه متعــلق القدرة على التحفظ على موضوعه قبل توجه الخطاب التكليفي كما لو كان عند المكلف ماء في وقت السحر من ليلة رمضان وكان عليه غسل جنابة ولكنه أهرقه، ويلحق به اعتبار الطهارة ساعة طلوع فجر يوم الصيام ولكنه أجنب عمداً في وقت لا يسعه معه الغسل او التيمم.
والأقوى ان وجوب عدم تفويت المقدمة وجوب شرعي عقلي ايضاً للملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ولعمومات وجوب المقدمة لوجوب ذيها فليس من دليل يحصر وجوب المقدمة بما اذا توجه الخطاب التكليفي فعلياً بعد العلم بكونه في معرض الحدوث مع دوران الساعات وطرو وقت التكليف.
ومنها مثلاً اجراء اوراق التقديم للحج وجواز السفر ونحوه قبل الأوان لأن تركها في هذا الزمان تفويت للحج في أوانه، وقد تعددت الأقوال في مقدمة الواجب منها:
الأول : انها واجبة شرعاً.
الثاني : انها واجبة عقلاً وليس شرعاً.
الثالث : ترشح الوجوب من ذي المقدمة، فاذا كان واجب نفسياً فتجب المقدمة والا فلا تجب.
الرابع : عن السيد المرتضى في الذريعة والشافي حكى فيهما اطلاق القول بان الأمر بالشيء امر بما لا يتم الا به وقال بالتفصيل: ان كان الذي لا يتم ذلك الشيء الا به سبباً فالأمر المسبب يجب ان يكون امراً به، وان كان غير سبب وانما هو مقدمة للفعل وشرط فيه لم يجب ان يعقل من مجرد الأمر انه أمر به.
والاقوى انها مقدمة شرعية وعقلية ولم تصل النوبة الى استقلال العقل بالملازمة بين ارادة الشيء وارادة مقدماته.
الخامس : ومنهم من أطلق لفظ المانع على ازالة النجاسة عن الثوب للصلاة ويمكن ان نستحدث له عنواناً (المقدمة السلبية للواجب) منها عدم لبس النجس وازالة الموانع عن الجسم في الوضوء
وهل كانت الآيات التي جاء بها عيسى مقدمة لاداء بني اسرائيل للعبادات، ام انها آية مستقلة، الجواب ان موضوع المقدمة يتعلق بفعل العبد كالوضــوء بالنسبة للصلاة، ولكن عزوجل لطيف بالعباد فيأتي بالآيات التي تقربهم الى الطاعة وتساعدهم على اتيان الواجبات واجتناب المعاصي فتكون الآيات هبة واعانة على الامتثال .لتشمل قاعدة اللطــف المقدمات التي تســاعد العبد على إتيان الفعل .
ومن الإعجاز القرآني النسبة بين مضامين هذه الآيات وخاتمتها التي تتجلى في هذه الآية، فقد ذكرت هذه الآيات معجزات عيسى على نحو التفصيل والبيان الذي يبهر العقول ثم ختمت بسؤاله لهم بعبادة ، لأنها العلة الغائية لخلق الإنسان، لتضاف هذه المعجزة الشخصية الى الآيات الكونية والبراهين المنتشرة في الآفاق التي تدل على التوحيد وتدعو الى الإيمان وتترشح عن الآية صيغ العبادة التي يريدها من بني اسرائيل وهي التي جاء بها عيسى لحجية الآيات التي جاء بها، والإخبار بانه ينشخ شطرا مما حرم على بني اسرائيل في التوراة , وهو علامة على مجيئه بشريعة وأحكام متكاملة.
وظاهر الآية ان عيسى دعاهم الى المبادرة الى عبادة من غير فترة او تراخِ، فالأمر من المضيق وليس الموسع ولا يجوز التسويف والتأخير عنه.
نظرية “حرز المعجزة”
لقد رزق الله الأنبياء معجزات تؤكد صدق نبوتهم ولا ينحصر موضوع المعجــزة بذاتها بل يشــمل مقدماتــها وأســبابها وما يحيط بها من الأحوال، لتأتي جامعة للنفع والدلالة والحجة، ومانعة من طرو الشك والريب عليها، ومحــاولات الكفار والمشــركين لردهـــا ومنع الناس من تصديقها، فمع المعجزة تكون هناك واقية سماوية لها ويسخر جنوداً وانصــاراً يشهدون بصحتها وصدقها ويدعون الناس لإتباع النبي، كما ان المعجـــزة نفسها تفند وتبطل كل ضلالة وجحود بها.
وقد ترد بعض الأخبار عن السحرة وانهم يفعلون ما هو أكبر من هذا ولكنها مجرد حكايات محدودة لا أصل لها يتناقلها بعض الناس للميل الى عالم الخيال وسرعان ما نراها تتبدد ولا تثبت امام الواقع، ومن الآيات انها لا تضر بمعجزات الأنبياء التي تأتي عن صدق وحق، ويمكن تسمية هذه النظرية بنظرية “حرز المعجزة”
وهل قام عيسى بفعل الآية مع نفسه قبل ان يعلنها على الناس الأقوى نعم، لا للتجربة والإختبار بل لشكره تعالى على هذه النعمة والرؤية الشخصية للآية، ومن القرائن عليه صيغة الماضي في كلامه واخباره (قد جئتكم)
ومع ان مادة (خلق) وردت في القرآن نحو مائتين وسبع وثلاثين مرة فانه لم يرد لفظ (أخلق) الا في هذه الآية.
والخلق من مختصــاته تعالى، ويراد منه التــكوين والإبــداع والإنشـــاء والمراد من الخلق في الآية التقدير والتسوية بقرينة التشبيه، وبقاؤه على هيئته من الطين، وعدم صيرورته طيراً الا بعد النفخ والإذن الإلهي.
نظرية أدب النبوة
لقد رزق الأنبياء ما لم يرزق أحداً من العالمين، فكل نبي جاء بآية تثبت نبوته وتكون شاهداً على صدق دعوته، وعلى تفضيله على الناس بالنبوة والوحي والآية، ومع هذا فان الأنبياء يحرصون أكثر من أي احد على مضامين العبودية، والإنقياد لأوامره تعالى، ويجتهدون في كل مناسبة لتوكيد حقيقة وهي ان ما عندهم هو من عند ، وبفضل منه عليهم وعلى الناس، وأول ما يجاهــد الأنبياء لتحقيقه هو منع الإفراط والتفريط.
ومن الأول محاربة الغلو باشخاصهم واعطائهم اكثر من مقاماتهم كمنذرين ومبشرين، ومن الثاني أي التفريط الأعراض عن الآيات التي جاءوا بها، وقد تفضل سبحانه واعانهم عليه بان جعل الآيات التي يأتون بها مناسبة لحال المجتمع وما يمثل الأولوية عند الناس أوان النبوة كما في مجيء موسى بالعصا لتحدي وقهر السحرة.
ومجيء عيسى بابراء الأكمه والأبرص لمواجهة الأطباء، ومجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة الخالدة “القرآن” كآية عقلية باقية الى يوم القيامة.
لقد حرص كل نبي على الإخبار بان الآية التي جاء بها هي من عند ، وانه عبد الله وداعية له، ويمكن ان نسمي هذه النظرية “نظرية أدب النبوة” وقد تجلت في عيسى اذ كان أول كلام نطق به وهو في المهد انه قال [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ] كما ظهرت معالم هذه النظرية واضحة في هذه الآية من وجوه:
الأول : قول عيسى [أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] فقد ذكر فيها انه جاء بآية وانها من عند واضافة الرب اليهم في دعوة لهم لإصغائهم وتحبيب الأمر لهم وعدم تفرقهم او حسدهم له.
الثاني : التشبيه في (كهيئة الطير) وكل انسان يستطيع فعله.
الثالث : الطين لا يكون طيراً الا باذنه تعالى.
الرابع : ان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى باذن ، ولا يمكن ان يفعله الا باذن منه تعالى.
الخامس : انه آية لكم وحجة وبرهان على نبوته وفضل منه تعالى.
السادس : إختتام الآية بذكر الإيمان.
لقد كرر عيسى القول (أني) لتكون الجملة بدلاً من الآية وللتوكيــد بان الآية من عــنده تعالى، وانها تجري على يده فالقدرة والخلق والإيجــاد له تعالى، وانه واسـطة لبيان الآية باعتبارها دليلاً وحجة على النبـوة، وهو من أدب النبوة وبرزخ دون الغلو بعيسى .
لقد كانت الآيات التي جاء بها عيسى باهرات ولم يسبقه اليها نبي او رسول، فحرص على تكرار مضامين العبودية , وان الآية منه تعالى لمنع الإفتتان به وبرسالته، ومعنى الخلق هنا ظاهر وهو التصوير وليس الإيجاد والإبداع، لتعلق الخلق بالطين، وهو من خلق وأمر موجود ومحسوس فأراد عيسى ايجاد صورة كصورة الطير، وهو أمر يفعله الصبيان في كل زمان يتخذونه للعبهم، ولكن عيسى جعله موضوعاً لمعجزة لم يشهد التأريخ لها مثيلاً، فهل من صلة لفعل الصبيان في الأمر، فيه وجوه:
الأول : ان عيسى جاء بالآية وهو في سن الصبا.
الثاني : فيه توكيد على ان عيسى لم يلعب ولم يأتِ اللهو، بل أتخذ مما يفعله الصبيان آية وحجة وبرهاناً.
الثالث : فيه دعوة للإتجاه بتوجيه الأبناء نحو الكسب العلمي , وعدم ضياع الوقت باللهو واللعب.
الرابع : جعل الآيات السماوية حاضرة عند الصبيان في أماكن لعبهم ولهوهم , والى يومنا هذا يفعل الصبيان والأولاد أشكالاً وهيئات من الطين بهيئة الطير والحيوان وهم يتذكرون آية عيسى، ونفخ الروح في تلك الطيور.
ومن الإعجازارادة التشبيه المركب في قوله تعالى [كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ] اذ ان الآية من وجهين:
الأول: حرف الكاف في قوله تعالى [كَهَيْئَةِ].
الثاني: ذكر موضوع الهيئة فلم تقل الآية أخلق لكم من الطين كالطير، وهذا التشبيه فيه مسائل منها:
الأولى: لقد أراد عيسى ان يظهر ويعلن عبوديته لله تعالى.
الثانية: ان الخلق والإبداع من مختصاته سبحانه، وهو وحده القادر على الخلق.
الثالثة: قبل النفخ والإذن الإلهي ليس من شيء يذكر سوى أخذ مقدار من الطين وعمل ما يشبه هيئة الطير وهو أمر يفعله الصبيان ويقدر عليه كل انسان.
وفي هذا التشبيه تحد لهم، اذ يلتقي الناس معه في هذا الخلق الطيني ويستطيعون ان ينفخوا فيه , ولكنه لا يكون طيراً الا ان ياذن الله، ولم يأذن للطين ان يصــير طــائراً في الســماء الا للــذي نفــخ فيه عيسى من ريقه المتكون من النفخ الملكوتي ولكن لماذا لم يجعل من الطين طيراً من غير ان يخــلقه بهيئة الطير و ينفــخ فيه , الجواب من وجوه:
الأول : وجود موضوعية لفعل النبي في صنع الآية وايجاد المعجزة، فبالنسبة لموسى كان يقوم بالضرب بعصا وان قام غيره بالضرب بها فلن تحصل المعجزة، فالنفخ دليل على ان الآية خاصة بالنبي.
الثاني : انها مناسبة ودعوة للتصديق بنبوته.
الثالث : فيها دلالة لحاجة الناس للنبي ووجوده بين ظهرانيهم، وقيام النبي بفعل المعجزة مناسبة واشارة للإنتفاع منه , ومن آياته , ولزوم عدم التفريط بها.
الرابع : فيه منع من الإفتراء والكذب وسوء تأويل الآية , فاذا لم تكن موضوعية للنبي في الآية قد يقال انها من فعل غيره او حدثت بأثر آخر من الطبيعة او السحر او غيرهما.
ولو قام الآخرون بجعل الطين كهيئة الطير كما يفعل عيسى ، وطلبوا منه ان ينفخ فيه، فهل يكون طيراً الجواب لا، لأن القدر المتيقن ان الخلق وصنع تمثال طائر من الطين أمر خاص بعيسى كما نصت عليه الآية الكريمة، فمراحل الفعل كلها من عمل عيسى ومع هذا فان الخلق الحقيقي للطير لا يتم الا باذن ، واذنه سبحانه متوقف على اتيان عيسى كل مراحل العمل.
نظرية “اطلاق المعجزة”
تعتبر المعجزة التي يأتي بها كل نبي ملكاً للإنسانية جميعاً سواء ابناء ملته او أهل زمانه او الأجيال المتعاقبة من الأمم المختلفة في اصولها وانتماءاتها، لأن أرادها رحمة للعالمين ليتذكر ويتعظ شطر من الناس ويهتدوا الى سبل الإيمان، فقد ينتفع من الآية جماعة من جيل يأتي بعد النبي بألفي عام ومن أمة غير أمته وتكون الآية سبباً لإيمانهم، ونسمي هذه النظرية “اطلاق المعجزة” أي ان نفعها عام يشمل الناس جميعاً، والإنتفاع منها على مراتب تشكيكية متفاوتة فمنهم من ينتفع منها على نحو الموجبة الكلية ومنهم على نحو الموجبة الجزئية، ومنهم من تكون المعجزة واقية من شره وكيده واذاه.
وطريق عموم المعجزة هو القرآن فهو الذي ثبت معجزات الأنبياء باعتباره شاهداً سماوياً خالياً من التحريف والتبديل، ومن عموم المعجزة ان جاء عيســى بآية يســتحضرها الصبيان في لعــبهم، فيدخل ذكر الله تعالى الى قلوب الصبيان في ساحات اللعب وتراهم يقومون بالنفخ فيه، محاكاة للآية التي جـاء بها عيسى ، ويكون تداركاً للغفــلة عن تأديبهم بذكره تعالى في بيوتــهم ومن قــبل الآباء والأمهات او يكون تعضيداً لما تعلموه في البيت والمدرسة من الذكر وآداب العبودية.
فهذه الآية تبين وصول المعجزة الى ملاعب الصبيان، وتعلق النبوة والمعجزات في أذهانهم لتكون واقية من تأثير السحر والشعبذة , واذا أخذنا بنظر الإعتبار موضوع معجزة عيسى وانه الطب وشفاء المرضى والزمنى وأحياء الموتى علمنا ان معجزته عامة تشمل الناس جميعاً , وتلح عليهم بلزوم الإيمان بالرسالة لتكون مقدمة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الأول : لقد جاءت الآية من مادة الطين وهي متيسرة لكل انسان وبامكان أي شخص ان يصور فيها على شكل الطير ولكنه لا يستطيع ان يجعله طيراً بل يبقى على حاله من الجماد وعدم الحركة , والآن في زمن الصناعات الحديثة، هل تصلح الآية على ما يصنع بهيئة الطيور من ألعاب الأطفال او انها كانت موجودة آنذاك، الجواب ان الآية جاءت بقيود:
الثاني: ان الذي يخلقه ويصنعه هو عيسى بنفسه مما يعني وجود موضوعية لعمل يده المباركة، وانه ليس كل تمثال من الطين بهيئة الطير ينفخ فيه عيسى يكون طيراً، فالآية محصورة بما يخلقه عيسى بيده، مما يعني انها آية حسية تنقضي بانقضاء أيامه.
الثالث: مادة الخلق هي الطين , وهو القدر المتيقن فلا يصح من الفخار او الخشب او المعدن، ولا من غير الطين الذي يصنعه عيسى بيده.
الرابع: ان الخلق لبني اسرائيل ومن خلالهم للناس جميعاً، وليس لعيسى لأنه مؤمن بالآيات.
الرابع: هذه الآية من عند وليس من عيسى او من الملائكة بدليل قوله [بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ].
ولابد من علة لإختيار الطين وهي ان آدم خلق من الطين ونفخ فيه من روحه فدبت فيه الحياة، فآية الطير تذكير بأول الخلق، وجواب لمن يسأل كيف خلق الإنسان، ومن الآيات ان نفخ عيسى في الطين فرع تولده من النفخ، اذ انه لم يولد من زواج ونكاح بل حملت به مريم، لنفخ روح فيها، فتجلى هذا النفخ في قدرته على النفخ في الطين ليكون طائراً في السماء.
والظاهر انه من نواميس الخلق والإرادة التكوينية بان الإنسان اذا خلق بالنفخ من روح فانه يقدر على خلق طير بالنفخ في الطين، وهذا الخلق لا يحصل الا ان ياذن .
أي ان تكون وعلوق الولد من النفخ لا يكفي وحده لخلق الطائر بل لابد من اذن جديد منه تعالى لخلق الطير، ولعل من شروطه الإعلان عن موضوعية الإذن الإلهي أي ان النعمة لا تدوم على النبي بآية خلق الطير الا باقراره واعلانه بان هذا الخلق باذن ومشيئة ، والنبي أعلم بوظائفه الشرعية ويحتل أسمى المراتب في العبودية المحضة لله تعالى، الا ان هذا لا يمنع من لزوم تقيده بالإعلان عن عائدية الآية لله تعالى.
تدل الآية على بركات النبوة وانها تجعل من الجماد والمتيسر كائناً حياً وطائراً في السماء.
وقرأ نافع (فيكون طائــراً) بارادة اسم الجنس الذي يقــع على المتحد والمتعدد، ولكن المعنى واحد، فحــتى على ارادة الواحــد من الطير فانه يتعلق بالواقعة الواحدة والفرد الواحد من هيئة الطير من الطين.
وجاء لفظ الطير بصيغة التنكير، والإطلاق من غير تقييد بنوع مخصوص منه، وتتكون الآية من وجوه:
الأول : الإخبار عنها قبل حدوثها واعلان عيسى انه قادر على الإتيان بآية خلق الطير من الطين.
الثاني : ايجاد وتقدير الآية مما هو متيسر للجميع، فكل انسان كبيراً او صغيراً، ذكراً او أنثى يستطيع ان يصنع تمثالاً وصورة من الطين بهيئة الطير.
الثالث : استمرار وبقاء اعجاز هذه الآية فحتى بالنسبة للإستنساخ في عالم الحيوانات فانه لا يكون من الطين ومباشرة من غير واسطة.
الرابع : يلاحظ في الآية عدم وجود وسائط ومقدمات في خلق الطير، وليس من استعانة بأسباب وأدوات وأعوان بل تكون مقدمة الآية من أمرين:
الأول: الطين. الثاني: نفخ عيسى فيه.
ويلاحظ في الآية ان الخلق مركب , وان عيسى لا يستطيع ان يخلق طيراً بالنفخ في الهواء، بل لأنه رحم ووعاء فكانت القديسة مريم.
ان فانه يخلق بالكاف والنون فخلقه سبحانه للأشياء بسيط ومن غير آلة ووسيلة، ومن اذن له تعالى ان يخلق ويقدر شيئاً فلابد من التركيب والإثنينية في مادة الخلق والإيجاد، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ] ( ) فأختص سبحانه بالخلق من الشيء البسيط غير المركب.
ومن الإعجاز في الآية ان الخلق يتعلق بهيئة الطائر الطينية وليس الطائر المتكون من لحم ودم، أي ان الخلق خاص بما قبل النفخ، لأن بعث الروح لا يكون الا منه تعالى.
بحث روائي
أخرج عن ابن عباس قال: انما خلق عيسى طيراً واحداً وهو الخفاش( ).
ولكن الاية أعم اذ جاءت بصيغة المضارع وظاهرها التحدي، كما انها جاءت بصيغة التنكير من غير تعيين لطائر مخصوص، وأخرج ابن جرير عن ابن اسحاق : ان عيسى جلس يوماً مع غلمان من الكتاب فاخذ طينا ثم قال أجعل لكم من هذا الطين طائرا قالوا وتستطيع ذلك قال نعم باذن ربى ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ثم قال كن طائرا باذن الله فخرج يطير من بين كفيه وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم فافشوه في الناس( ).
ولم يرفع الحديث الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو احد الصحابة ويمكن مناقشته دلالة ايضاً، اذ ان الآية تتضمن خطاب عيسى الى بني اسرائيل وانه يخلق لهم ويراد من الخطاب الملأ والناس عموماً وظاهره تكرر الفعل بين الناس ليكون حجة ووسيلة سماوية مباركة للنفع العام، ولو أنحصر طريق الآية بغلمان الكتاب لقيل نقل صبيان لا يكفي في الشهادة والحجة.
فالأصح ان آية خلق الطير حدثت أمام الملأ من بني اسرائيل وانها من المتكرر والمتعدد لأن الآية تخبر بان عيسى يمتلك هذه العجزة , وان منحه تلك الآية المقيدة باذنه تعالى.
قوله تعالى [فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ]
انتقل عيسى من الإخبار عن حال التقدير من الطين الى بيان المعجزة والتحدي السالم من المعارضة، ليكون المعدوم كائناً حياً تبعث فيه الروح من بينهم فيراه كل واحد من الحاضرين.
وتتجلى الآية على مراحل وهي:
الأول : اعلان عيسى الى بني اسرائيل بقدرته على الإتيان بآية الطير.
الثاني : تصوير طير من الطين.
الثالث : قيام عيسى بالنفخ في صورة الطير.
الرابع : يصبح الطين طائراً.
الخامس : لا يكون طائراً الا باذن تعالى.
ويلاحظ ان المراحل الثلاثــة الأولى بمقــدور أي انســان عملها، الا ان الآية تتجلى بصيرورة الطين طائراً من لحم ودم، لذا قيدها بانه باذن .
وقيل المراد من الإذن هنا هو الأمر أي بأمر ) ولكن الكلام يحمل على ظاهره ويدل على اكرامه تعالى لعيسى وانه يخلق بهيئة الطير وينفخ ولا تحتاج صيرورة الطين طيراً الا اذنه تعالى , وهناك مرتبة ودرجة بين الإذن والأمر، فالأمر يدل على حصر الموضوع والحكم كله بالله تعالى، اما الإذن ففيه شأن وموضوعية لعيسى في خلق هذا الطائر وانه ينفخ وهو يرجو الإذن منه تعالى ليكون طائراً حقيقة.
وتبين الآية المضامين القدسية والإفاضات الملكوتية لنفخ عيسى وما يبدر من ريقه , فيقع في جوف صورة الطائر فينقلب طيراً , ويقال نفخ بفمه ينفخ نفخاً اذا أخرج منه الريح، وسواء خلق عيسى طائراً واحداً وهو الخفاش او أكثر وهو الأرجح، فان الآية جاءت على نحو التحدي واثبات الرسالة ولابد لهذا النفخ من منافع اذ انه ليس مطلوباً بذاته فحسب بل هو مقدمة ووسيلة مباركة لغايات سامية، ومن منافع هذه الآية:
الأول : قدرة الرسول على الإتيان بآية خارقة سالمة عن المعارضة.
الثاني : فيها جزاء لمريم عندما تلقت النفخ في فرجها فكان عيسى مولوداً ملكوتياً أنسياً مباركاً.
الثالث : تجلي آثار نفخ روح الذي خلق منه عيسى في افعال ومعجزات عيسى.
الرابع : هذه الآية خاصة لعيسى لأنها فرع خلقه من غير أب.
الخامس : فيها تثبيت وتوكيد لصدق ولادته بالنفخ في مريم من روح .
السادس : من المنافع الإضافية لآية النفخ انها واقية وحصانة لمريم عليها السلام ومانع من الإفتراء عليها وعلى عيسى في ولادته.
نظرية جديدة “الحصانة”
لقد جعل الإنسان آية في خلقه ونشأته وصفاته الأخلاقية والنفسية وصلاته الإجتماعية ومعاملاته، وأستحق عنوان الخلافة في الأرض, وجعل عنده العقل ليتصارع مع سلطان الشهوة والشيطان، ثم تفضل سبحانه وعضد العقل بعون خارجي وهو النبوة والتنزيل, فبعث الأنبياء لتثوير العقل وجعله يسعى لتكون له الريادة في القول والفعل، وتوجيه اللسان والجوارح واختيار الأحسن وفق موازين الشريعة، ولم يجعله يتخبط في عالم التجربة والمادة، بل أضاءت له النبوة طرق الهداية، ولابد ان تتوجه المساعي الشريرة للشهوة والشيطان الى مواجهة دعوة الأنبياء لأنهم قادة الناس الى السلامة في النشأتين.
ومن هذه المساعي الإفتراء على الأنبياء والمصلحين، والإساءة لهم والإنتقاص من شــأنهم ومحاولــة نفي وتكذيب الآيات التي جاءوا بها من عند ، واشد ما لاقى في هذا الباب عيسى لأن الآيات ابتدأت معه منذ ساعة ولادته من غير أب، فقالوا به وبــأمـــه قبيح القول، فاراد له ان يأتي بالآيات الباهرات التي لا يقدر عليها السحرة والكهنة, وحتى علوم الإستنساخ الحيواني الحــديث فانها لا يمكن ان تجعل من الطين طائــراً في الهواء، ومن منــافع هذه الآيات انها واقية للأنبياء والصالحين , ويمكن ان نــسمي هذه النظرية “نظرية الحصانة”.
ومن أهم مصاديق هذه النظرية آيات القرآن التي تنزه ساحة الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين , وتبين الحقائق الناصعة التي تدل على امتلاء حياتهم بالطهارة والجهاد في سبيله تعالى , والإخلاص لكلمة التوحيد، وهذه الحصانة حرب على الشرك والإفتراء والقذف والقول القبيح الذي لا أصل او موضوع له.
ومن الإعجاز والفضل الإلهي ان هذه الحصانة مستمرة وباقية مع الأيام لا يطــرأ عليها التغيــير ولا تضــعف او يقل أثــرها بين الناس، لأنها مبنية على الحق والصــدق، ووسـائل وصيغ الحصانة متعددة أهمها:
الأول : القرآن وهو السلاح السماوي الباقي الى يوم القيامة , والذي ينطق في كل مكان بحصانة الأنبياء ولزوم اكرامهم والتصديق بالنبوات, وقد جاء بحصانة مريم بما يفوق التصور، ويبهر العقول ويعطي رسالة للناس جميعاً بلزوم اكرامها وتنزيهها وتبرئة ساحتها من كل دنس او عيب او نقص.
الثاني : سيرة وسنن الأنبياء الذاتية التي يملؤها الإيمان والصدق والأمانة والعفة وهي خالية من كل سوء, فقصة كل نبي مدرسة أخلاقية مستقلة تساهم في ترسيخ القيم والمعارف الإلهية في الأرض.
الثالث : الكتب السماوية السابقة للقرآن والتي تحكي قصص الأنبياء، تلك القصص الخالية من التحريف والزيادة والنقصان.
الرابع : مجتمعات المسلمين ومنتدياتهم وسيرتهم وسعيهم للإقتداء بالأنبياء بالأخلاق الحميدة والسلوك الحسن , قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ) والدعوة الإلهية للإقتداء بهم دليل على سلامة سيرتهم ومدخل لمعرفة تلك السيرة لمحاكاتها والأخذ منها.
الخامس : أصحاب الأنبياء وما ينقل عن سيرتهم وآدابهم المقتبسة من سنن الأنبياء.
السادس :آيات القرآن التي تحث على الأخلاق الحميدة وتزجر عن الظلم والفواحش والذنوب.
السابع : ذب ودفاع المسلمين عن الأنبياء والصالحين، واظهار سننهم بما يكون رادعاً عن الإفتراء والتعدي عليهم، ويحرص الملوك والسلاطين على ايجاد الحصــانة والتوقي من الســنة وأذى الناس، والتبــعات القانــونية والجزائية ضدهم، ولا ينالونها الا على نحو الموجبة الجزئية وبالإكراه ولمدة محدودة ثم يكونون عرضة للمدح او الذم بحسب الأفعال.
اما الأنبياء والأولياء فليس عندهم الا ما يستحق المدح والثناء، وتأتي الواقية والحصانة السماوية من أهل الشك والريب، وشياطين الإنس والجن والذين يشوهون الإخبار ويحرفون التأريخ فتمنعهم من ان ينشبوا اظفارهم في السجلات النقية لحياة وسيرة الذي أصطفاهم تعالى من آل ابراهيم وآل عمران
لتبقى مدرسة النبوة منهلاً وملكاً للإنسانية يتزود منها كل فرد وجماعة وأمة ما ينير له دروب الحياة، ويضي له سبل الرشاد، وبلوغ أسمى المقامات في الآخرة، فنظرية الحصانة كنز ينتفع منه الناس جميعاً، فالحصانة وان كان موضوعها سيرة وحياة الأنبياء الا ان منافعها عامة للناس جميعاً تمنع من وجود الغشاوة على الأبصار، وتدعو الى الصلاح والإقتداء بسنن أشرف الناس فمن الإصطفاء والإجتباء ان دفع عنهم الإفتراء والتعدي , وترى الفرق المتناحرة والمتقاتلة كل واحدة منها تنظر بعين التقديس والإكرام الى الأنبياء والأولياء، وهذه النظرة وسيلة من وسائل الصلح والوفاق ونبذ الفرقة.
واختلف في لفظ الخالق على قولين:
الأول: عدم جواز اطلاقه الا على تعالى، وأحتج عليه بقوله تعالى [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ].
الثاني: لا يجوز اطلاق لفظ الخالق على في الحقيقة قال ابو عبد البصري: لأن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية وهو ظن وحسبان.
ولكن من أمهات الأسماء الحسنى “الخالق” والله وحده الذي يصدق اطلاق لفظ الخالق عليه حقيقة وليس مجازاً.
وقول عيسى (أخلق لكم) من المجاز لوجود قرائن تصرفه عن الحقيقة هي:
الأول : ان الخلق من الطين الى الطين بمعنى انه يبقى طيناً ولو أختلفت الهيئة، ولا يكون طيراً الا باذن .
الثاني : ارادة التشبيه في الآية بقوله [كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ].
الثالث : أني أخلق لكم مع ان المتبادر والمتعارف عند المخاطبين ان هو رب العالمين , بدليل قوله في التنزيل [وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] أي ان هذا الخلق رحمة وفضل منه تعالى وحجة عليكم.
الرابع : توقف الطيران على الإذن الإلهي.
الخامس : العلم النوعي العام ان بمقدور كل انسان صنع هيئة طائر او حيوان من الطين.
السادس : انحصار الآية بقوله تعالى [فَيَكُونُ طَيْرًا] فالآية التي جاء بها من عند بسيطة وتتجلى بجعل الطين طيراً من لحم ودم، وفيه ريش متعدد على فرض ان الخلق تعدد ولم ينحصر بالخفاش وهو الأرجح، لورود لفظ (خير) على نحو التنكير، ولما عرف من بني اسرائيل من الترديد وكثرة السؤال وطلب التعدد في الآية كما في آية ذبح البقرة وأوصافها.
علم المناسبة
وردت مادة (نفخ) في القرآن تسع عشرة مرة منها:
الأول : اثنتا عشرة مرة في نفخ الملك في الصور في الحشر ويوم
القيامة.
الثاني : ثلاثة في النفخ من روحه تعالى في آدم عند خلقه في الجنة.
الثالث : اثنتان في النفخ في مريم من روح ، وأنفرد هذا الموضوع بمجيء النفخ بصيغة الجمع [فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا] ( ) في آية لتنزيه مقام الربوبية.
الرابع : اثنتان في نفخ عيسى في هيئة الطير من الطين.
الخامس : واحدة في ذي القرنين وقصته مع يأجوج ومأجوج كما ورد في التنزيل [حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا] ( ) وهي الآية الوحيدة التي جاءت بصيغة المخاطب والجمع فليس في القرآن “أنفخ” مما يدل على ارادة فعل النفخ ذاتاً.
فجاء النفخ في:
الأول : بداية خلق الإنسان.
الثاني : علوق عيسى في رحم أمه من غير أب.
الثالث : نفخ عيسى في الطين ليكون طيراً باذن .
الرابع : النفخ في الصور يوم القيامة من قبل الملك المأمور به، ليكون النفخ عنوان الحياة ابتداء وبقاء.
قانون “تسمية المعجزة”
لقد أراد للمعجزات الخلود كعلامة للنبوة ودلالة على عظيم قدرته تعالى في الخلق والإبداع خلافاً لقواعد الأســباب والمسببات، والعلة والمعلول، مع ان الجميع بارادته وقدرته تعالى، والمعجزة دعوة آنية حاضرة لجذب الناس للإيمان ودعوتهم لإتباع الأنبياء لأن المعجزة مقدمة لبيان أحكام الشريعة , ووسيلة سماوية مباركة لتقيد الناس بمسائل الحلال والحرام وأداء الفرائض باعتبارها حجة ظاهرة عقلية كانت او حسية تخاطب العقول وتدعو للتفكر والتدبر وتطرد الغفلة, ولقد لازمت المعجزة الإنسان منذ هبوط آدم من الجنة وسكنه الأرض وكأنها مواساة كريمة لمغادرة الإنسان الجنة وآيات السماء والبراهين الساطعات.
وقد تقدم ذكر القاعدة التي أسسناها في التباين الموضوعي لمعجزات الأنبياء التي تدل على التعدد والكثرة، مما يملي علينا تعيين اسم لكل معجزة من معجزات النبي الواحد، ليكون الاسم عنواناً ودلالة على المسمى والمعجزة خصوصاً وان الاسم مشتق من السمو والعلو، ويعطي موضوعية وشأناً للذات والجوهر او العرض الذي وضع له على نحو الحقيقة او المجاز، لذا ترى الإنسان يشعر بالغبطة اذا ناديته باسم هو محبب عنده، وقد يتأذى لو ناديته باسم الإشارة يا هذا.
وايجاد اسم لكل معجزة من معجزات الأنبياء مدرسة كلامية مستقلة لدراسات عقائدية وعلمية لكل آية على نحو الخصوص، وفيها بيان وايضاح للمعجزات وعون على احصاء ومعرفة عدد المعجزات الشخصية والنوعية، وتسهيل للعلماء والباحثين للتحقيق في علم المعجزة واستنباط الدروس والأحكام منها.
ونسمي هذا القانون “تسمية المعجزة” بان نختار اسماً مناسباً لكل آية ومعجزة يكون شــاهداً ورمــزاً للآية والإعجــاز من غير لحاظ للزمان، باعتبار ان كل معجزة هي ملك للإنسانية جمعاء، وعبرة وموعظة لكل انسان لذا تفضل بذكرها بالقرآن لأن الآية والمعجزة العقلية باقية الى يوم القيامة , فجاء تخليد آيات الأنبياء بالقرآن ليكون مناسبة للإتعاظ والإعتبار مما فيها من المعاني القدسية والإشارات والمعارف.
وفي هذه الآية تتعدد المعجزة التي جاء بها عيسى في آية لبني اسرائيل وحجة عليهم اذ ان موسى تعددت منه المعجزة خصوصاً وان عصاه معجزة توليدية , كما انه ضرب الميت ببعض البقرة فعاد حياً، والآيات في هذه الآية ووفق قانون التسمية هي:
الأول : آية الطير: لقد جعل النبوة رحمة للناس، وبعث النبيين منذرين ومبشرين، وانزل معهم الآيات ليكون النفع من بعثتهم عاماً وشاملاً للميادين المختلفة، واذ جاءت عصا موسى في ضرب الحجر لينفجر منه الماء، وضرب البحر لفتح ممر لعبور ونجاة بني اسرائيل فان عيسى جاء بآية تطير في السماء.
وفيه مسائل:
الأولى : اعتبار ماهية خلق عيسى الروحانية، ونزول الملك من السماء ليشترك بالنفخ في خلقه، فجاءت آية عيسى بخلق طائر يطير في السماء.
الثانية : موضوعية النفخ مثلما نفخ الملك في مريم وكان عيسى ، فاراد ان يظهر موضوعية النفخ في معجزات عيسى كي ينتفع منه الناس، أي ان نفخ الملك جاء خاصاً لخلق عيسى ولكن الناس جميعاً انتفعوا منه على نحو مركب:
الأول: بولادة عيسى رسولاً نبياً ومن غير أب.
الثاني: نفخ عيسى في الطين ليصبح طائراً في السماء.
الثالث: التذكير بالنفخ في الصور للنشور والحساب يوم القيامة، فالله الذي جعل عبده يصنع من الطين ما يكون طائراً قادراً على بعث الأجساد وارجاع الأرواح لها، واعادة الخلق أسهل من الخلق ابتداء حتى بلحاظ الفرق في الذات والجنس.
ولم ترد آية الطير في القرآن لغير عيسى وهذا الإختصاص تشريف عظيم ,وليتحمل المسلمون مسؤولية تصديق النبوات وتعاهد معجزات الأنبياء , وفيه ارتقاء علمي للمسلمين بمعرفة آية كل نبي واستنباط الأحكام والدروس منها.
الرابع: قيد (باذن الله) المنبسط على مصاديق الآية المتعددة، فهذا القيد ملازم لكل مرة يصور فيها عيسى الطين وينفخ فيه.
ولآية الطير طرفان:
الأول: عيسى الذي يقوم بأخذ مقدار من الطين ثم يصنع منه على هيئة الطير وينفخ فيه.
الثاني: اذنه تعالى بان يصبح هذا الطين طيراً قادراً على التحليق في السماء.
واي الطرفين أكبر في حصول الآية الجواب هو اذنه تعالى , كما ان النفخ هبة وآية منه تعالى لعيسى .
ولو قدر وخلق انساناً بذات الكيفية التي خلق فيها عيسى وان ينزل روح لينفخ في أمه فهل يكون قادراً على ذات الآية الجواب لا الا ان ياذن سبحانه، فأصل وماهية الخلق ليست علة تامة لحصول هذه الآية مع موضوعيته فيها، بل هما جزء علة , والجزء الأكبر فيها هو اذنه تعالى.
آية “باذن الله”
للإذن في اللغة عدة معان هي:
الأول : العلم: يقال اذن به اذنا، علم به، قال تعالى [فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( )، أي كونوا على علم( ).
الثاني : اذن اليه اذناً: أستمع، وفي الحديث ما اذن لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن( ).
الثالث : الإباحة: يقال اذن له في الشيء اذناً: اباحه له.
الرابع : الأمر، قال ابن منظور , ويكون باذنه بأمره( ).
ولقد ورد لفظ الإذن في القرآن سبع وثلاثين مرة كلها تتعلق باذنه تعالى، وورد مرة بخصوص نكاح المؤمنات باذن اهلهن( ).
والمراد من الإذن في آية الطير هو الأمر والإباحة من غير تعارض بينهما، نعــم هو للإذن أقــرب منه للأمــر لغة وموضــوعاً وحكماً، فالله هو الذي أمر عيســى بآية الطير وهــو الذي أباح للطـين ان يكون طيراً بنفخ عيسى به واباحة خلق الطير فضل منه تعالى على عيسى.
وهل كان الإذن مطلقاً حاضراً دائماًَ بحيث يستطيع عيسى ان يخلق الطير بالإذن الإلهي الأول، ام لابد من اذن في كل مرة يخلق فيها طيراً، الأصح هو الثاني، وهو ظاهر لغة المضارع الواردة في الآية , فالإذن ينبسط ويتعدد بعدد المرات التي يخلق بها عيسى الطير، ولأن الإرادة التكوينية من مختصاته تعالى.
ومع تعدد مراحل خلق هذا الطير ابتداء من صنعه وتصويره بيد عيسى ثم النفخ فيه ثم الإذن الإلهي، فهذه المراتب ليست على درجة واحدة من الأثر والتأثير بل ان علة الخلق هي اذن تعالى، فتكوين وخلق الطائر بأمره ومشيئته تعالى، ومن الدلالات العقائدية في آية (باذن ) منع الغلو في عيسى وتأليهه، فهي رحمة وبرزخ دون الغلو الذي يؤدي ايضاً الى عدم الإنتفاع من الآية والمعجزة.
وقال الطبرسي: “وانما وصل قوله باذن بقوله فيكون طيرا دون ما قبله لأن تصور الطين على هيئة الطير والنفخ فيه مما يدخل تحت مقدور العباد , فاما جعل الطين طيراً حتى يكون لحماً ودماً وبعث الحياة فيه فمما لا يقدر عليه غير فقال باذن ليعلم انه من فعله تعالى وليس بفعل عيسى”( ).
ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد ورد في سورة المائدة قوله تعالى [وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي] وقال ايضاً [فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي] ( ) مما يدل على ان صنع عيسى لهيئة الطير من الطين لا يبدأ في كل مرة الا باذنه تعالى، والإذن متجدد وخاص بكل مرة يخلق بهاالطير من الطين.
ومن الآيات ان الإذن الإلهي في المقام على وجوه:
الأول: اعلان عيسى للقدرة على الإنسان بالمعجزة.
الثاني: اخذ عيسى لمقدار من الطين وتصويره كهيئة الطير.
الثالث: نفخ عيسى فيه، أي انه لا ينفخ في الطين الا ان يأذن له بالنفخ, وهذا من الآيات.
فلا يستجيب عيسى للناس في جعل الطين كهيئة الطير الا ان يأذن له ، ثم لا ينفخ فيه الا بالإذن الإلهي، وقد رزق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أعظم اذ جعله لا يتكلم الا بالوحي والتنزيل , قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]،
الرابع: صيرورة الطين طائراً من لحم ودم يطير في السماء باذن ، فالنفخ غير كافِ لهذه الآية.
وهل تحتاج كل مرحلة من هذه المراحل اذناً مستقلاً، ام انه اذن واحد للخلق من الطين والنفخ وصيرورته طيراً، بمعنى انه قبل النفخ او بعده لا يأتي الإذن للمرحلة التالية إلا مع الشروع فيها، او لا
الأصح هو الثاني فكل طير اذن واحد ينبسط على مراحله الا ان يشاء ، من وجوه:
الأول : ان عيسى نبي رسول لا يفعل الا ما يأمره تعالى.
الثاني : توكيده في أول الآية بانه جاء بآية من عند ، ثم ذكر مراحل الآية كلها وما ورد في التنزيل حكاية عن عيسى [أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] يتطلب أموراً:
الأول: اطلاق الآية وتعدد مراحلها من الخلق من الطين , والنفخ فيه والطيران.
الثاني: صيرورة الطين طيراً.
الثالث: طيران الطير في السماء، اذ ان مسألة الطير مركبة من أمور هي بعث الحياة في الطين وجعله طيراً على هيئة الطين التي صورها عيسى
فظاهر الآية ان الطير لا يكون الا بالصورة والهيئة التي صورها وقدرها عيسى وهو قرينة على ان مراحل خلق الطير كلها باذنه تعالى سواء على نحو القضية الشخصية او النوعية العامة، والمراد من الشخصية أي الإذن الخاص في كل مرة بهيئة ونوع الطير، اما النوعية فصدور الإذن الإلهي لعيسى بخلق جنس او أجناس مخصوصة من الطير دون سواها.
والمشهور ان الآية خاصة ببعث الحياة في الطين باعتبار ان صيرورة الطين على هيئة الطير والنفخ فيه بمقدور كل انسان.
وتدل الآية على عنايته ولطفه تعالى بعيسى وانه مؤيد وناصر له ورحمته لا تغادر عيسى، فلو ان عيسى جعل الطين على هيئة الطير امام الناس ثم نفخ فيه ولكن لا يأذن له في بعض المرات فتكون النتيجة عكسية خصوصاً عند أهل الحسد والريب، الذين يقومون بالتشكيك حتى في الحالات التي حصلت فيها الآية وطار الطائر بعد النفخ أمام شهود عدول او حتى امام هؤلاء بالذات.
ترى ما هي حال الطائر الذي خلقه عيسى فيه وجوه:
الأول: ان يكون مثل باقي الطيور , وأفراد جنسه في طيرانه ومدة بقائه حياً.
الثاني: تحقق مسمى الطيران كما لو أرتفع في الجو لمتر او أمتار معدودات.
الثالث: قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه، فاذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً، ولم يرفع وهب الحديث.
ومما هو ثابت شرعاً وعقلاً ان الحياة والموت أمران بيد تعالى، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ] ( ).
وفي خلق عيسى للطير باذن وجوه:
الأول: انه بأمر باعتبار ان المراد من الإذن هو الأمر فلا يتعارض مع عمومات انحصار الخلق والحياة به تعالى.
الثاني: على القول بان المراد بالإذن هو الإباحة فانه تعالى اذن لعيسى بخلق الطائر على نحو الحصر والتعيين كمعجزة له ودعوة لعبادت الله تعالى.
الثالث: المراد من الإذن في المقام المعنى الجامع للأمر والإباحة، لتكون معجزة عيســى بمشيئته تعالى وضمن عمومات انحصار الخلق به سبحانه وهو الأصح , ومن الآيــات في المقام ان عيسى لم يقل فاجعل طيراً او اخــلق طيراً بل اخــبر عن أمرين متلازمين:
الأول: صيرورته طيراً.
الثاني: انه لا يكون طيراً الا باذن .
وفي الآية اشــارة الى خلق آدم من طين وكيف ان بعث الحياة فيه , وتذكير للإنســان بسنــخيته وقــدرة علـى الإبداع ولزوم شكره تعالى.
قوله تعالى [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ]
مع قلة كلمات هذا الشطر من الآية فانه يبين معجزتين لعيسى تتجلى فيهما القدرة الإلهية والإفاضات العظيمة على عيسى والناس جميعاً، ومنزلة عيسى عند وأهل السماوات والأرض، والمنافع الكريمة المترشحة عن ولادته بالنفخ الملكوتي في أمه القديسة مريم، كما انها تؤكد انفتاح باب الإصطفاء والتفضيل لآل ابراهيم وتظهر خصوصية وهي اجتماع تفضيل آل ابراهيم وآل عمران في شخص عيسى ، أي ان الإصطفاء على وجوه:
الأول: لآدم ونوح عليهما السلام على نحو القضية الشخصية.
الثاني: لإبراهيم وآل ابراهيم.
الثالث: لآل عمران.
الرابع: الجامع المشترك لآل ابراهيم وآل عمران الذي يتجلى في كل من مريم وعيسى عليهما السلام، لذا جاءت آيات عيسى على نحو المتعدد في أصل الآية, وكل آية تتفرع منها آيات متعددات،
فالأصل في آية الطير خلق من الطين ليطير في السماء، وكل طائر منها هو معجزة قائمة بذاتها.
فان قلت ان عيسى رزق التفضيل والإصطفاء لكونه من آل ابراهيم وآل عمران معاً, بينما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رزق الإصــطفاء عن طــريق واحد وهو آل ابراهيم، والجواب من وجوه وهي:
الأول: ان ما عند عيسى والأنبياء الآخرين هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو وارثهم وخاتمهم.
الثاني: تعدد طريق الإصــطفاء لا يعني الكــثرة والترجيح، فاذا كان هناك مصــداق مشــترك لآل ابراهــيم وآل عمران فانه يصــدق عليه الإصطفاء ذاته الذي يناله الذي من آل ابراهيم ويأتي بطوله.
الثالث: عظيم الآيات التي رزق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كانشقاق القمر ونبوع الماء من أصابعه، ورجوع الشمس، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى وكلام الذئب.
بالإضافة الى القرآن وهو المعجزة العقلية الخالدة
آية “ابراء الأكمه”
الأكمه هو الأعمى وفيه وجوه:
الأول: الذي ولد وهو أعمى، عن ابن عباس( )، (قال ابن منظور: الكمه في التفسير العمى الذي يولد به الإنسان، كمه بصره بالكسر، كمهاً وهو أكمه اذا اعترته ظلمة تطمس عليه) ( ).
الثاني: الذي عمى بعد ان كان بصيرا، نسبه الرازي الى الخليل وغيره( ).
الثالث: المعنى الأعم والجامع للذي يولد أعمى والذي يفقد البصر فيما بعد الولادة، (وفي لسان العرب: وذكر اهل اللغة ان الكمه يكون خلقة ويكون حادثاً بعد بصر) ( ).
الرابع: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، قاله مجاهد( ) وابن الإعرابي.
الخامس: الأعمى الذي يبصر فيتحير ويتردد قاله ابو الهيثم ( ).
السادس: الأعمى الممسوح العين، عن ابن عباس( ).
السابع: الأكمه الأعمش، عن عكرمة( ).
الثامن: الأعمى، عن الحسن والسدي( ).
والأصح هو الثالث والثامن , من وجوه:
الأول: اطلاق الآية من غير تقييد في أوان اصابة الأكمه بالعمى.
الثاني: وقوع الإبراء على حال الكمه عند الإبراء، الشامل لكل من كان أعمى.
الثالث: المعنى الأوفى والأعم للآية والفيض الإلهي.
قانون “الأوفى”
غالباً ما تكون الموضوعات والهبات من الكلي المشكك الذي تتفاوت مراتبه بين القوة والضعف، والكثرة والقلة، والسرعة والبطئ، والنسب الإضافية، ولقد أنعم على الأنبياء والناس بنعم كثيرة متصلة، وهي على مراتب ودرجات متعددة وتحتمل وجوهاً متباينة في العدد او الكثرة او الزيادة ولكنها تحمل على المعنى او الوجه الأمثل والأبهى والأكثر، لأنه تعالى يعطي بالأوفى والأحسن فمن صفاته انه كريم، كما ان خزائنه لا تنفد.
فلو دار مقدار الهبة والنعم الإلهية بين الأكثر والأقل، فيحمل على الأكثر، بخلاف أحكام القاعدة الأصولية التي تفيد كفاية الأقل من الواجبات لو دار الأمر بين اشتغال الذمة بالأكثر منها او الأقل، ففي التكاليف يجزي الإتيان بالأقل.
اما بالنسبة للنعم النازلة فيعتبر الأكثر والأعلى من مصاديقها ويمكن تسمية العطاء بالأكثر والأحسن (بقانون الأوفى) أي ان لا يعطي الا ما هو تام وكامل ويفي بالحاجة ويلائم الرغائب وحسن ظن العباد بعطائه وجوده واحسانه تعالى، ويترشح عن هذه النظرية ما يأتي به الأنبياء والرسل من عنده تعالى.
ولو تردد الأمر بين الأقل والأكثر يحمل على الأكثر، فلو دار الأمر بين ابراء عيسى للمتحد او المتعدد ممن أصيب بالكمه والعمى، فيحمل على المتعدد، ولو تردد الموضوع بين ابرائه لكل من فقد بصره، أم انه خاص بمن ولد على العمى، الجواب هو الأول لقانون الأوفى، ويناسبه حكم العقل، فلا يمكن ان يقول عيسى لجماعة العميان، اني ابرء من كان كمه خلقة دون ما كان حادثاً بعد بصر.
ومن خصائص الآية انها تأتي للتحدي والبرهان واثبات الرسالة فلابد ان تأتي آيات الأنبياء بالأعم والأوفى الذي تكون فيه الحجة عامة وشاملة بالإضافة الى انها رحمة وفضل الهي على الناس كافة وعلى الذين ينتفعون منها على نحو الخصوص.
نظرية أقسام النعم
تعتبر النعم الإلهية من اللامنتهي لأنها تتغشى الخلائق كلها وتنبسط على جميع آنات الحياة الدنيا والآخرة، كما انها لا تنحصر بموضوع او حال دون آخر، وصفة اللامنتهي للنعم الإلهية مظهر لجمال وجلال صفاته تعالى وعظيم احسانه ورحمته للناس جميعاً، وجاء في التنزيل [ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وهذه الآية يشترك فيها الطرفان النقل والعقل، اذ انها تتحــدى الناس في مسألة احصاء النعم , وتخبر عن عجزهم عن عد افرادها متفرقين ومجتمعين، وتدعو العقول الى الإلتفات الى هذه الآية، والإقرار بالصانع.
ويمكن تقسيم النعم الإلهية الى شعب متعددة:
الأولى: ما يكون للناس كافة , وهي على قسمين:
الأول : ما ينتفع منه جميع الناس كنزول المطر من السماء.
الثاني : ما يأتي عاماً ولكن الذين ينتفعون منه الخاصة لأن الآخرين يحجبون عن أنفسهم الإنتفاع منه، فالتقصير منهم لأن الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، ومنه بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية.
الثانية: ما يكون للمسلمين والموحدين خاصة، من البركات والنماء والرزق الخاص، وجلب العز ودفع البلاء , قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالثة: ما تكون خاصة للأنبياء والمرسلين من المعجزات والوحي والإصطفاء.
الرابعة: ما تأتي لشخص أو أسرة او جماعة على نحو الخصوص، كالجاه والمنصب والثروة والعافية والنجاة من البلاء ونحوها، ولقد جاءت نعمة ابراء الأكمه والأبرص على يد عيسى لتكون نعمة مركبة من وجوه:
الأول: انها نعمة على عيسى في الدلالة على صدق نبوته.
الثاني: رحمة ونعمة على الذين تشملهم هذه الآية وينتفعون منها كما في الشخص الذي يبرء بدعاء عيسى من الكمه والعمى ويعيد له بصره.
الثالث: انها رحمة لأهل الأرض جميعاً.
لقد كانت آية ابراء عيسى للأكمه رحمة للناس جميعاً وباباً من الأمل وضياء يتلألأ للزمنى والمرضى ودعوة لهم للجوء اليه تعالى، وتلمس طريق الإنتفاع من المعجزة، (وأخرج ابن جرير عن وهب قال: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة أوحى الله إلى أمه وهي بارض مصر وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر ان اطلعي به إلى الشام ففعلت, فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة , وكانت نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله إليه , وزعم وهب انه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى فمشى إليه وانما كان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى( ).
ومن الآيات انه مع الإرتقاء العلمي في هذا الزمان فان العمى لم يحصل له علاج، بل ان الطب لم يمنع من حدوث العمى، او تدارك ضعف البصر ومنع فقدانه.
ومن الآيات في المقام ان الأكمه يشمل من ولد وهو أعمى، ليكون في تلك المعجزة تحد للطب حتى في قرون قادمة من السنين, ولا يستبعد ارتقاء الطب في هذا المقام , ولكن هذا الإرتقاء لا يؤثر سلباً على المعجزة بل انها طريق الإهتداء اليه.
لقد أبتلى بعض عباده بالمرض والنقص وفقد الحاسة ليكون مناسبة لهم للإتعاظ واجتناب القبيح والمكروه طوعاً وقهراً، وهو عبرة للإمتحان والإبتلاء ومعرفة صبر العبد وتلقيه الداء بالشكر لله والتوسل، كما ان العمى آفة تهدد الأحياء، فأهم حاسة يحرص عليها الإنسان هي نعمة البصر، واذا رأى أعمى التفت الى ما عنده من النعمة مما يملي عليه الشكر لأن لم يبتله بمثل الذي أصاب غيره.
وجاءت آية عيسى بشارة للأعمى وغيره، وفي زمن الآية وما بعدها، أما الأعمى فانه أكتسب البصر بآية عيسى ودعائه الى ، وهو من البركات والفيض الذي لازمه في حياته، وأما الذي يخاف ويخشى العمى ,فانه وجد حرزاً وأماناً في بعثة عيسى .
وأما في الأزمنة اللاحقة فان آية ابراء الأعمى ضوء مبارك يبعث الأمل في النفوس , وفيه اشارة الى توصل العلماء والأطباء الى مستوى محمود في علاج العمى وتداركه.
قوله تعالى [وَالأَبْرَصَ]
لقد أعلن عيسى لبني اسرائيل انه يبرء الأبرص مثلما يبرء الأكمه، وتلك نعمة اضافية عليهم، والبرص: داء معروف ويصيب جلد الإنسان ويؤثر في جسمه يقال برص برصاً، والأنثى برصاء.
والبرص من الكلي المشكك فهو على مراتب متفاوتة، فمنه الوضح, ومنه الصدفية , ومنه الأمراض الجلدية ذات المضــاعــفات والآثار السلبية على الــبدن، وجاء اخبار عيســى على نحــو الإطلاق ليشـــمل كل من يصــدق عليه انه أبرص ســـواء كان صغيراً، او كــبيراً، رجـــلاً او امرأة.
وهل ينحصر الإبراء ببني اسرائيل الجواب لا، فصحيح ان عيسى وجه نداءه لبني اسرائيل [أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ] ولكن موضوع الإبراء جاء مطلقاً شاملاً لكل حالات الكمه والبرص، وهذا من مصاديق المعجزة وشاهد على النبوة لأنه فرع عموم الرحمة الإلهية.
فلو كان مع بني اسرائيل أكمه او أبرص من غيرهم، او ان عيسى مرّ على قرية من قرى الفلسطينيين، وفيها أكمه أو أبرص فانه يشمله بعنايته وقد قدر بعضهم هجرة العرب الفلسطينيين من جزيرة العرب الى أرض الشام وبلاد بيت المقدس بالمدة المحصورة بين (3500-2500) قبل الميلاد، وقد ورد ذكرهم في مواضع عديدة من التوراة , وزمان نزولها متقدم على أيام عيسى والمعجزات التي جاء بها.
فالإبراء يتعلق بذات المرض والإصابة به بغــض النظــر عن الديانة او الجنس او القومية، وهذه الآية دعوة للجــميع للإيمان بالتوحيد ورسالة عيسى والإبــتعاد عن الكـــفر والجحود، فالإبــراء مقـدمــة للإيمان وسبب لهداية الناس، ومجيء معجزات عيسى بلحاظ الحاجة فيه وجوه:
الأول : تفشــي الأمــراض بين الناس في زمــانه والكـمه والبرص منها خاصة.
الثاني : عجز الأطباء عــن معالجة هــذين المرضين مــع ارتقاء الطب في زمانه.
الثالث : اراءة الناس المعجزات في الأبواب التي حصل فيها تقدم وتطور, وقد ذكر ان الطب في زمان عيسى شهد تحسناً وتقدماً فأراد ان تكون معجزة عيسى في ذات الباب الذي انتفع منه الناس لتبدو جلية معالم النبوة وما يلازمها من الآيات والمنافع العامة.
الرابع : حاجة الناس الى الهداية وظهور الإنقطاع الى الدنيا والإفتتان بزينتها، والنقص في التوجه الى العبادات والواجبات الشرعية فيتفضل سبحانه ببعثة الرسل لجذب الناس الى الإيمان ويجعل معهم واقية وهي المعجزة.
ومن الآيات عدم انحصار آية عيسى في ابراء الأكمه والأبرص بل انه يشفي السقيم كما جاء في خبر طويل في الدر المنثور( )، وهو من باب الأولوية لأن الأمراض كلها او أغلبها آنذاك أدنى درجة من العمى، وما تستلزمه للشفاء أقل مما يحتاجه بعث البصر في عين الأكمه فجاء ذكر الأكمه والأبرص من باب المثال الأصعب، وليس من باب الحصر، وقد تقدم عن وهب بن منبه: “ربما أجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألف”، وان كان اثباته يحتاج الى دليل، وفي رواية ان عيسى يدعو للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم( ).
آية ابراء الأبرص
لقد جاء ذكر الأبرص وشفاؤه معطوفاً بالواو على ابراء الأكمه , وهذا يعني استقلاله كآية ومعجزة خاصة لعيسى حتى على القول بان عيسى يبرء المرضى والزمنى مطلقاً، ويشمل البرص حالات الجرب والأمراض الجلدية المختلفة لقانون الأوفى، ولصدق عنوان البرص عليها جميعاُ.
لقد شاء ان يقوم عيسى بشفاء الأبرص ونجاته من مرضه، ولابد لذكر هذا المرض على نحو الخصوص من أسباب منها:
الأول : انه من الأمراض الخطيرة.
الثاني : كان متفشياً بين الناس.
الثالث : عجز الأطباء عن شفائه والتخلص منه، فجاءت المعجزة لتحديهم وتوكيد رسالة عيسى .
الرابع : الآية فضل ورحمة منه تعالى بالناس، وبعث للأمل في نفوس البرص والزمنى، ودعوتهم للإسلام رجاء الشفاء.
الخامس : نجاة الناس من استيلاء روح اليأس على نفوسهم.
السادس : نقاء المجتمعات وتنزيهها من حالات الدرن والأمراض المزمنة، وما في كثرتها من الضرر في باب العقيدة والمجتمع والإقتصاد.
السابع : التصدي للبرص باعتباره مرضاً معدياً في شطر من حالاته، والتخلص من استدامة ظهوره في أعقاب المصابين بخصوص الأصناف الوراثية منه.
لقد أراد عيسى ايجاد مجتمع صالح يتصف بخصائص النباهة والفطنة ويستطيع معرفة الآيات واتباع الحق، وعدم الإنخداع بالأكاذيب والحيل التي يقدم عليها الملأ لأغواء الناس.
وستبقى آية (ابراء الأبرص) نوراً يشع على القلوب المنكسرة وشاهداً على حضور المعجزة عند الحاجة الشخصية والنوعية، ومصداقاً لقاعدة اللطف وان يتعاهد الناس في ابدانهم وصحتهم، مثلما يتعاهدهم في عقائدهم.
ان آية ابراء الأكمه والأبرص من مصاديق البركة التي تتغشى وجود عيسى في كل موضع يحل فيه وفي التنزيل حكاية عن عيسى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ] ( ).
وفي هذه الآية اشارة الى سياحة عيسى في الأرض كي ينتفع الناس وأهل القرى والمدن المختلفة مما حباه من الفيض والبركة وما يأتي على الناس وأرزاقهم بسببه من النماء والسعة.
نظرية “عموم المعجزة”
تنقسم المعجزة بلحاظ المُدرك الى قسمين:
الأولى : المعجزة الحسية: وهي التي تعرف بواسطة الحواس، ولا يعني هذا انحصار ادراكها بآلة الإدراك كحاسة البصر والسمع بل هي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحس.
الثانية : المعجزة العقلية: وهي التي يدركها العقل بإعتباره مناط التكليف، ولا يتوقف ادراكها على العقل المستفاد وبلوغ درجات كمال النفس ومشاهدة النظريات، بل انها تأتي ظاهرة جلية العقل الذي يدرك المعقولات الأولية أي البديهيات والعلوم الضرورية, والذي يكون عند الإنسان بلا اكتساب وتحصيل ، ويتوجه اليه الخطاب التكليفي بالإسلام وأداء الفرائض والعبادات، وهذا مــن التخفيف على الناس واقامة الحجة عليهم ان تدرك عقولهم جميعاً المعجزة حسية كانت او عقلية.
فتأتي المعجزة امام عدد من الناس تتباين مداركهم وقدراتهم العقلية ومنازلهم ومناصبهم جميعاً، تجعلهم يعلمون انها خارقة للعادة والأسباب، نعم قد يمتنع بعضهم عن التسليم بالآية بسبب ما يطرأ عرضاً على ادراكه للأمور كحب الجاه والمال وارضاء السلطان ونحوه، وقد يصدر هذا الإمتناع وهو أمر وجودي من الملأ وذوي الشأن فيؤثر على غيرهم من الأتباع والأعوان، ويكون وسيلة للتضليل والأغواء، ولكن هذا التأثير ينحصر بموضوع الإستجابة وعدمها، دون الإقرار والتسليم بالآية فان الإقرار أمر عقلي بسيط يتلخص باعتقاد المعجزة على حالها وحقيقتها بحسب الدليل.
فالنفس الإنسانية مطلقاً تسكن الى المعجزة وتسلم بها لوجود المقتضي وفقد المانع ولكن العوارض الطارئة وسلطان النفس الشهوية والغضبية يحولان دون الإنقياد لمضامينها العقائدية فليس من انسان ينكر المعجزة حين رؤيتها والسماع بتفاصيلها بالدليل والبينة والشاهد، ويمكن ان نسمي هذه النظرية “عموم المعجزة”.
أي ان المعجزة للناس عامة وان أنتفع منها عدد قليل، فصحيح ان الحسية منها خاصة بزمانها وموضوع وقوعها الا ان منافعها تدخل كل بيت وتبقى حية مع الأجيال يتوارثها المؤمنون ويستعرضها الناس موضوعاً وحكماً وأثراً.
نظرية “منافع المعجزة”
تأتي المعجزة على يد النبي دليلاً على نبوته، وبرهاناً على صدق دعواه، وللمعجزة منافع متشعبة لا تنحصر بشخص دون آخر، وكما انها تشمل جميع نواحي الحياة فانها تتعلق بالنشأتين ولا يمكن للإنسان احصاء منافع المعجزة وهي على أقسام منها:
الأول: النفع العام، وفيه وجوه:
الأول : التذكير بالله ولزوم عبادته.
الثاني : تحصيل العلم اليقيني بان النبوة حق.
الثالث : التفصيل والترجيح بين الناس بلحاظ المنصب الإلهي التشريفي وهو النبوة ثم أصحاب وأهل بيت وأتباع النبي.
الرابع : الإطلاع على حقيقة في الإرادة التكوينية وهي اختراق قوانين السببية والعلة والمعلول بالمعجزة.
الخامس : المعجزة شاهد على عظيم قدرته تعالى.
الثاني: النفع الخاص، وهو على أقسام:
الأول : انتفاع النبي في توكيد نبوته.
الثاني : مضامين العز والشرف والإكرام التي ينالها النبي بمعجزته.
الثالث : المصالح والمنافع الشخصية من المعجزة، كما في الأعمى الذي يصبح بالمعجزة بصيراً، والأبرص الذي يصبح سليماً، والسقيم الذي يصبح صحيحاً، والميت الذي يرجع حياً، وهكذا.
الرابع : أصحاب وأتباع النبي الذين يتخذون من معجزته حجة لهم في دعوة الناس لتصديقه.
الخامس : المؤمنــون في كل زمــان لأن المعجــزة ضيــاء ينــير لهم دروب الهداية.
السادس : الناس جميعاً لأن المعجزة بذاتها دعوة للإيمان والإنجذاب الى الرشاد والتسليم بربوبيته تعالى وفيها اصلاح للنفوس، ووعد ووعيد، وعد بالجنة لمن يصدق بها، ووعيد بالعذاب لمن يكفر بها، لأن الكفر خلاف حكم العقل الذي جاءت المعجزة لمخاطبته ومناجاته وحثه بصيغ المنطق التي يفهمها على الرجوع الى .
ولم يرد لفظ الأبرص في القرآن الا مرتين وكلاهما في ابراء عيسى له، وقد ورد الآية الثانية في بيان فضل على عيسى [وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي] ( )وليس في القرآن اتفاق، وصحيح ان موضوع الأبرص نادر الا ان هذا لا يمنع من الآية القرآنية في عدم ذكر الأكمه والأبرص الا في قصة عيسى وابرائه لهما للإشارة الى انفراده بهذه الآية كما أنفرد بماهية خلقه ونفخ روح القدس في أمه.
قوله تعالى [وَأُحْيِ الْمَوْتَى]
بعد ان ذكر عيسى الآية الإلهية التي تفضل بها عليه وعلى بني اسرائيل في شفاء المرضى والزمنى، والإتيان بما عجز عنه اطباء زمانه، بل والأطباء الى يومنا هذا لتوكيد لزوم امتثال الناس لأحكام النبوة، أعلن الآية العظــمى والحجــة الدامغة، وما لا تظن العقول الإنســانية امكان حصــوله في عالم الدنيا ان يأتي رجل من الناس ليس بملك ولا وزير ولا صــاحب أمــوال وأمــلاك ليقــول انا احيي الموتى، وقيد باذن لا يمنع من تصور عظم الآية وأهميتها.
ويبعث اعلان عيسى الفزع والخوف والأمل في النفس من غير تزاحم بينهما، ولابد من أسرار ومعارف الهية في هذه الآية، خصوصاً مع كفاية آية ابراء الأكمه والأبرص في توكيد صدق النبوة، او الإتيان بما يكون بمرتبته او قريباً منه فلماذا جاءت هذه الآية، فيه مسائل:
الأولى: الآية من فضله تعالى الذي لا يحده حد او مقدار.
الثانية: انه نعمة واكرام لعيسى .
الثالثة: احياء عيسى للموتى باذن مصداق لتفضيله تعالى لبني اسرائيل, وهذا المصداق مركب من وجوه:
الأول: في تشريف عيسى واختصاصه بهذه الآية وهو من بني اسرائيل.
الثاني: رؤية اليهود للأية العظيمة التي لا يمكن ان يطرأ معها الشك او الريب على الإنسان وان كان معانداً.
الثالث: اكرامهم باحياء بعض الأفراد منهم واخراجهم من قبورهم، وهذا الإكرام متعدد فهو خاص باشخاص الموتى، وعام يشمل ذويهم واقاربهم وأهل بلدهم.
الرابعة: الآية شاهد بان المعجزة غير محدودة بقيد معين من جهة الماهية والكيفية.
الخامسة: تتصدى الآية لأهل الريب والشك، ومحاولاتهم ابطال اثر المعجزة عند الناس سواء أهل زمانها او الأجيال اللاحقة، فجاءت هذه الآية قاهرة مانعة.
السادسة: الآية ناظرة الى الإرتقاء العلمي في زمان العولمة والإستنساخ البشري وزراعة الأعضاء، فجاءت المعجزة بما يعجز عنه العلم والى يوم القيامة، فلا يستطيع العلماء في يوم ما اخراج العظام البالية واعادتها لذات الشخص ببدنه وعقله وذكرياته، ولو تنزلنا وقلنا انه يأتي يوم يكون فيه هذا الفعل قريب المنال على نحو النظرية فان الآية اخبار عن حصوله بالمعجزة.
وأخرج ابن ابي الدنيا عن معاوية بن قرة قال: سألت بنو اسرائيل عيسى فقالوا ان سام بن نوح دفن ههنا قريبا فادع الله أن يبعثه لنا فهتف فخرج أشمط قالوا انه قد مات وهو شاب فما هذا البياض قال ظننت أنها الصيحة ففزعت( ).
وبلحاظ تقادم الزمنى وطول المدة بين وفاة ابن نوح وبعث عيسى فانه من المتعذر ايجاد اثر يدل على الميت الذي لم تحفظ جثته بواقية منه تعالى او بالعلاج.
نظرية “حياة المعجزة”
لقد أراد لمعجزات الأنبياء ان تبقى حية في أذهان المؤمنين والناس كافة بما فيها من مضامين التحدي للعقل الإنساني وعالمه المقيد بقوانين الأسباب والعلل، فتأتي المعجزة لتجعله يســيح مندهشاً صاغراً في مصــاديق القدرة الإلهية، وتجعله يشــعر بضــعفه وعجــزه، فكما يؤدب الجبابرة والطواغيت بألوان المرض والإبتلاء ويقهر الإنسان بالموت.
فان المعجزة تؤدب العقول الإنسانية وتجعلها تدرك محدودية عملها وتصوراتها في دعوة لها للرجوع الى خالقها وبارئها، ولا يمكن ان تبقى المعجزة حية في الأذهان والمنتديات والواقع الإجتماعي من غير ان تمتلك مقومات هذا البقاء.
واذا أستعرضت هذا العالم عالم البقاء الفكري والواقعي للأشياء لم تجد الا المفاهيم الإلهية والأحكام السماوية والا فان قوانين وممالك وأنظمة اجتماعية وأمم وملل عديدة ظهرت وأتسعت دائرتها وأمتلكت القلوب ولكنها سرعان ما تآكلت وأضمحلت وغابت عن الواقع ولم يبق منها الا الذكرى لتكون موعظة وعبرة.
اما معجزات الأنبياء فان موعظتها تستقرأ من بقائها حية خالدة، يتلقاها الناس بالقبول والتدبر والرضا لتكون طريقاً ولهذيه الإيمان، وترى العلماء يأتون باكتشافات تبهر العقول ويدين لهم الناس بالتفوق والنبوغ ويأخذون منهم وينتفعون من علومهم ولكن سرعان ما يأتي اكتشاف آخر أكثر ارتقاء وأكثر نفعاً فيتوجه الناس اليه وغالباً ما يكون هذا التوجه بدرجة أقل لأن الفارق في المرتبة ولإعتياد الناتج الإنساني، ووحدة الموضوع في تنقيح المناط.
اما معجزة النبي فهي فريدة في بابها لا ترقى اليها العلوم الإنسانية وتجعل الناس عاجزين امامها مبهورين منها، وتدخل البيوت في كل زمان ومكان، تخالط الناس في معاملاتهم وتكون مقدمة عقلية لتوجههم الى العبادات وتمنع من الغلو في الرؤساء وقادة أهل الدنيا وما يأتون به من الأعمال والإنتصارات والمكاسب، للتباين الموضوعي بينها وبين المعجزة التي هي أمر يفوق القدرات البشرية وتتحدى العقول في كل زمان لبقائها سالمة عن المعارضة بلحاظ اوانها واستغنائها عن الأسباب والمقدمات المادية وليس لها من علة الا اذنه وفضله تعالى.
ان حياة المعجزة مدرسة لإستلهام العبر واستنباط الدروس واقتباس العلوم فلقد اراد للإنسانية جمعاء والى يوم القيامة ان تنتفع من كل آية ومعجزة من معجزات الأنبياء بالذات والعرض،
اما الذات فماهية وموضوع تلك المعجزة وامتلاكها أسباب الحياة واما العرض فانها تبعث الحياة في غيرها كما ان الأحداث والوقائع تأتي مصداقاً لها وشاهداً على الحاجة المستديمة لها في كل الأزمنة ويمكن ان نسمي هذه النظرية “حياة الآية” كعنوان لإستدامتها وديمومتها، وشاهد على استمرار الإعجاز وعدم انحصاره في زمانه وان كان الموضوع والكم والكيفية تختلف .
وهذه النظرية شاهد على بقاء المعجزة بذات الخصوصية وعدم انتقالها الى عالم الإخبار والأحداث، بل انها تحافظ على استقلالها وشأنها الملكوتي وماهيتها السماوية في الكتب والمجتمعات والأذهان، لتساهم في بقاء عالم الروح والعبادة في منأى عن الخلافات والخصومات والتناحر والنقض والإبرام.
ومن الشواهد على حياة المعجزة ان الذين صــدقوا بعيســى بعد رفعه الى السماء أضعاف من صدق به في حياته، وان المسلمين في ازدياد وهم يستحضرون معجزات الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد نسب عيسى احياء الموتى الى نفسه وقال [وَأُحْيِ الْمَوْتَى] وصحيح انه قيده باذن تعالى الا ان هذا لا يمنع من موضوعيته ومكانته في حصول المعجزة لأنها تجري على يديه، لقد أراد عيسى ان يبين لبني اسرائيل فضل عليه على نحو الخصوص واثبات نبوته واقامة الحجة بلزوم اتباعه.
ولم يقل أحد من الأنبياء اني احيي الموتى ويلتقي ابراهيم الخليل مع عيسى بان كل واحد منهما من الرسل الخمسة أولي العزم، ومع هذا فان ابراهيم قال [رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى] ( )، لتكون آية ومعجزة لإبراهيم ان أراه احياء الموتى بواسطة الطير اما عيسى فقال وامام الناس ان احيي الموتى باذن ، مما يدل على عظيم منزلة عيسى وان آيات الأنبياء في ارتقاء متصل، كل نبي يأتي بآية أكبر من أختها في رحمة للناس وتنبيه لهم للرجوع الى سبل الهداية، وعدم الصدور الا عن الأنبياء والرسل.
ولا يتوقع احد من الناس ان يأتي من يقول لهم اني احيي الموتى خصوصاً وان الأنبياء من قبل لم يأتوا بهذه الآية، فلابد ان تكون آية عيسى سبباً في دخولهم في شريعته على نحو العموم المجموعي والإستغراقي، ولكنهم قابلوه بالصدود والعناد الا قليلاً منهم، وأبى الا ان يكون أنصار معجزة النبي بما يناسبها موضوعاً وحكماً وان تخلف أهل زمانها عن واجباتهم ووظائفهم في نصرتها والتصديق بها.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر من طريق اسمعيل بن عياش عن محمد بن طلــحة عن رجــل ان عيسى بن مريم كان إذا أراد أن يحيى الموتى صلى ركعتين يقرأ في الركعة الاولى تبارك الذى بيده الملك، وفى الثانية تتزيل الســجدة فإذا فــرغ مدح الله وأثنى عليه ثم دعا بســبعة أسماء يا قديم ياحى يا دائم يا فرد ياوتر يا أحد يا صمد( ).
ولكنه ضعيف سندا ً وقال البيهقي: ليس هذا بالقوي، وأخرج ابن جرير بالإسناد عن ابن عباس قال: لما بعث الله عيسى عليه السلام وأمره بالدعوة لقيه بنو اسرائيل فاخرجوه فخرج هو وأمه يسيحون في الارض فنزلوا في قرية على رجل فاضافهم وأحسن إليهم وكان لتلك المدينة ملك جبار ذلك الرجل يوما حزينا فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لهاماشأن زوجك أراه حزينا قالت ان لنا ملكا يجعل على كل رجل منا ما يطعمه هو وجنوده ويسقيهم الخمر فان لم يفعل عاقبه وانه قد بلغت نوبته اليوم وليس عندنا سعة.
قالت قولى له فلا يهتم فانى آمر ابنى، فيدعو له، فيكفى ذلك، قالت مريم لعيسى في ذلك فقال عيسى يا أمه انى ان فعلت كان في ذلك شر قالت لاتبال فانه قد أحسن الينا وأكرمنا .
قال عيسى قوله له املأ قدورك وخوابيك ماء فملا هن فدعا الله تعالى فتحول ما في القدور لحما ومرقا وخبز وما في الخوابى خمرا لم ير الناس مثله قط فلما جاءه الملك أكل منه فلما شرب الخمر قال من أين لك هذا الخمر قال هو من أرض كذا وكذا قال الملك فان خمرى أوتى به من تلك الارض فليس هو مثل هذا قال هو من أرض أخرى فلما خلط على الملك اشتد عليه.
فقال انى أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا الا أعطاه وانه دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا فقال له الملك وكان له ابن يريدان يستخلفه فمات قبل ذلك بايام وكان أحب الخلق إليه فقال ان رجلا دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا ليستجاب له حتى يحيى ابني فدعا عيسى فكلمه وسأله ان يدعو الله ان يحيى ابنه فقال عيسى لا تفعل فانه ان عاش كان شرا قال الملك لست أبالى أليس أراه فلا أبالي ما كان.
قال عيســى عليه السلام فانى ان أحييته تتركــوني أنا وأمــي نذهب حيث نشــاء فقال الملك نعم فدعــا الله فعـــاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد ان يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا وذهب عيسى وأمه( ).
وتبين الآية سراً من أسرار فلسفة الموت المفاجئ والهلاك المنخرم الذي يأتي على الإنسان قبل الهرم والشيخوخة فهلاك الابن هذا كان برزخاً دون الإقتتال والفتنة وسبباً للأمل في النجاة من الطاغوت، وعبرة وموعظة له في الكف عن اضطهاد واستضعاف الرعية، فان قلت لم احياه عيسى، الجواب من وجوه:
الأول: ان آيته مطلقة في احياء الموتى من غير تقييد بميت دون آخر.
الثاني: تكون الحجة أبين في بعث الحياة في ابن الملك.
الثالث: لقد اشار يحيى الى الأضرار والإفتتان في اعادة الحياة لابن الملك وانذر الملك من الأمر، بل انه أخبر امه عن الشر حتى في المقدمات البعيدة لهذا الإحياء في موضوع الرجل الذي أحسن ضيافتهم وفي الخبر مسائل :
الأولى : ان بني اســرائيل أخرجوا عيســى وأمه مــع ما جاء به من الآيات.
الثانية : وجود حكام وملوك ظالمين يفرضون على الناس مالايقدرون عليه.
الثالثة : اشتراط عيسى عليه السلام الخروج من ارض الملك الظالم لانه طلب مالاينبغي.
الرابعة : تبين الآية نكتة عقائدية في احياء الموتى ومنافع الاذن الالهي وانه لا يكون الا لما فيه المصلحة والنفع، وخلو مسألة احياء الميت من الضرر والاضرار بالناس.
الخامسة : توظيف عيسى للآيات لقضاء حوائج الناس ودفع الحرج عنهم.
السادسة : طاعته لامه مريم وقبول شفاعتها.
السابعة : كان الأولى بهم ان يحافظوا على وجوده بين ظهرانيهم والإنتفاع الأعم من الآيات التي جاء بها بان لايصر الملك على طلب مالاينبغي.
الثامنة : كما يبين الخبر شيوع الظلم بين الناس وحاجة البشرية الى منقذ.
التاسعة : وتدل مســألة اخراج بني اسرائيل لعيسى وأمه، وحرصه على الخروج من ســلطان الملك الظالم مع انه أحيى له ابنه على الحاجة الى مجيء الرسول يأخذ الناس بالقوة ويمنعهم عن اخراجه واصحابه من البلدة التي فيها، فكــانت بعــثــة النبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم.
ومع هذا فقد أخرجه قومه من مكة وهــي أقرب الأماكــن الى الإيمان لوجــود البيـــت الحرام فيها وهاجر الى المدينة، وحاول المنافقون اخراج المؤمنين، [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ) فكأن السيف وسيلة ضرورية من أجل الدفاع والبقاء، بقاء النفوس والشريعة السماوية.
لقد كان خروج عيسى وسياحته في الأرض مليئ بالمواعظ والعبر ليؤكد ان سيرة النبي ملك الإنســانية جمعاء وان فــات اهل زمانه الإنتفاع الأمثل منها فان المؤمنين في كل زمان يتلقفونها ويجعلونها قدوة وأسوة فلقد التزم الملك بشرطه لعيسى وتركه يخرج هو وأمه وصحبهما يهودى وكان مع اليهودي رغيفان ومع عيسى رغيف فقال له عيسى تشاركني فقال اليهودي نعم فلما رأى انه ليس مع عيسى عليه السلام الا رغيف ندم فلما ناما جعل اليهودي يريد ان يأكل الرغيف فيأكل لقمة فيقول له عيسى ما تصنع فيقول له لا شئ حتى فرغ من الرغيف فلما أصبحا قال له عيسى هلم طعامك فجاء برغيف فقال له عيسى أين الرغيف الآخر قال ماكان معى الا واحد فسكت عنه وانطلقوا فمروا براعى غنم.
فنادى عيسى يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك قال نعم فاعطاه شاة فذبحها وشواها ثم قال لليهودي كل ولا تكسر عظما فاكلا فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه وقال قومي باذن الله فقامت الشاة تثغو فقال يا صاحب الغنم خذ شاتك.
فقال له الراعى من أنت قال أنا عيسى بن مريم.
قال أنت الساحر وفر منه، قال عيسى لليهودي بالذى أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها كم كان معك رغيف فحلف ما كان معه الا رغيف واحد.
فمر بصاحب بقر فقال يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلا فاعطاه فذبحه وشواه وصاحب البقر ينظر فقال له عيسى كل ولا تكسر عظما فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه وقال قم باذن الله تعالى فقام له خوار.
فقال يا صاحب البقر خذ عجلك قال من أنت قال أنا عيسى قال أنت عيسى الساحر ثم فر منه.
قال عيسى لليهودي بالذى أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها والعجل بعدما أكلناه كم رغيف كان معــك فخلف بذلــك ما كــان مـعه الا رغيف واحد فانطلقا حتى نزلا قرية فنزل اليهودي في أعلاها وعيسى في أسلفها.
وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى وقال أنا اليوم أحيى الموتى وكان ملك تلك القرية مريضا شديد المرض فانطــلق اليهــودي ينــادى من يبغى طبيبا فاخبر بالملك وبوجعه فقال ادخلوني عليه فانا أبرئه وان رأيتموه قد مات فانا أحيــيه فقيــل له ان وجـع الملك قد أعيا الاطباء قبلك قال ادخلوني عليه فادخل عليه فاخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات فجعل يضربه وهو ميت ويقول قم باذن الله تعالى فاخذوه ليصلبوه.
فبلغ عيسى فاقبل إليه وقد رفع على الخشبة فقال أرأيتم ان أحييت لكم صاحبكم أتتركون لى صاحبي فقالوا نعم فاحيا عيسى الملك فقام وأنزل اليهودي فقال يا عيسى أنت أعظم الناس على منة والله لاأفارقك أبدا قال عيسى أنشدك بالذى أحيا الشاة والعجل بعدما أكلنا هما وأحيا هذا بعدما مات وأنزلك من الجذع بعد رفعك عليه لتصلب كم كان معك رغيف فحلف بهذا كله ما كان معه الا رغيف واحد .
فانطلقا فمرا بثلاث لبنات فدعا الله عيســى فصيرهن من ذهب قال يا يهودي لبنة لى ولبنة لك ولبنة لمن أكل الرغيف قال أنا أكلت الرغيف( ).
ويظهر الحديث التباين الكبير بين الآيات وموضوع الرغيف لتتجلى مفاهيم النبوة وان عيسى زاهد في الدنيا وزينتها ويرضى منها بالقليل في دعوة للناس لعدم الإندفاع واللهث في مباهج الدنيا وان جمع الأموال مآله الى التلف والضياع، كما تبين حال الجحود عند الإنسان، ومشروعية الجعل والجائزة لإستظهار الحق وإلإخبار الصادق.
لقد جاءت الآية بصيغة الجمع [وَأُحْيِ الْمَوْتَى] وفيه دلالة على التعدد وتكرار آية احيائه للموتى، وهذا مــن فضله تعالى على عيسى وهــو من عمومــات قانون الأوفى فانه تعالى لم يهــبه الإحــياء لمرة واحدة بل جاءت الآية على نحو التكرار والكثرة ولا تقتصر مدة بقاء الميت على المسمى وصرف الطبيعة فمن يحييه عيسى قد يبقى حياً الى سنوات ليكون آية حاضرة تدعــو الناس لإتباع عيسى وفيه آية وهي ان يعلم ان الناس سيجهزون على عيسى ويأمرون بصلبه والتخلص منه.
فأراد ان تبقى الآيات حية تدعو الى اتباع عيسى في كل مكان وبلدة وصل اليها وبما يحول دون طمس السلاطين والرهبان لهذه الآيات او تشويهها وتحريفها سواء كان في ابراء الأكمه والأبرص والسقيم او في احياء الموتى وسئل الإمام جعفر الصادق هل كان عيسى ابن مريم أحيى أحدا بعد موته حتى كان له أكل ورزق ومدة وولد فقال نعم انه كان له صديق مواخ له في الله تعالى وكان عيسى ( عليه السلام ) يمر به وينزل عليه وان عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت إليه امه فسألها عنه فقالت مات يا رسول الله قال افتحبين ان تريه قالت نعم.
فقال لها فإذا كان غدا فأتيك حتى أحييه لك بإذن الله تعالى فلما كان من الغد أتاها فقال لها انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتى اتيا قبره فوقف عيسى ثم دعا الله تعالى فانفرج القبر وخرج ابنها حيا فلما رأته امه وراءها بكيا فرحمهما عيسى فقال اتحب ان تبقى مع امك في الدنيا فقال يا نبي الله بأكل ورزق ومدة ام بغير اكل ولا رزق ولا مدة فقال له عيسى بأكل ورزق ومدة تعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك قال نعم إذا فدفعه عيسى إلى امه فعاش عشرين سنة وولد له.
وهذه الحياة والرزق من عمومات قانون الأوفى فان أجرى على يد عيسى الكرامات والنعم للناس لتكون مناسبة ووسيلة للهداية والإيمان، ولم يقل عيسى انه يبعث الموتى لأن البعث عنوان خاص بالآخرة بل انه يحيي الموتى باذن ، وهذا القيد يمنع من التعارض مع مصداق الإرادة التكوينية بان الموت والحياة بيده تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى]( ).
فاحياء عيسى للموتى باذن منه تعالى أراد له ان يكون حجة على الناس وهو محدود في عدده ومكانه وزمانه، وعيسى نفسه يعلن انه ميت ولا يستطيع دفع الموت عنه وانه يؤمن بالبعث كما ورد في التنزيل [وَالسَّلاَمُ عَلَيَّيَ وْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا] ( )، وهل الإذن لعيسى باحياء الموتى عام أو خاص، الجواب انه خاص، ففي كل مرة ينزل اذن الهي خاص للإحياء وان لم يسجل التأريخ حالات عجز فيها عيسى عن احياء ميت معين.
ولم يكن احياء عيسى للميت خاصاً بالإنسان بل كان شاملاً للحيوان ايضاً وليس هو من باب الأولوية باعتبار ان احياء الحيوان أسهل من الإنسان، بل لعموم الآية اذ ان احياء الحيوان آية مستقلة وقائمة بذاتها، ولم يذكر لنا تأريخ النبوة احياء بعض الأنبياء الحيوانات لتكون آية في احياء الإنسان ودلالة على الإرتقاء في ذات الموضوع كما ان قوم صالح حين أقدموا على قتل الناقة المعجزة لم يسألوه احياءها وتدارك الأمر.
نعم قد ورد في موسى احياؤه للقتيل في آية اعجازية لفك الخصومة ومنع الإقتتال وبيان الآيات، لتكون هذه القضية في واقعة والتي جاءت على نحو القضية الشخصية مقدمة لإعلان عيسى بانه يحيي الموتى ولتكون حجة على بني اسرائيل وتوكيداً لوحدة موضوع النبوة وتشابه الآيات بين موسى وعيسى , ومجيء عيسى بالإحياء ابتداء ومن غير واسطة مادية كما في ضرب موسى للميت بذيل البقرة [فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا] ( ).
وتعتبر اماتة عزير مائة عام وبعثته بعدها معجزة له ودليلاً على نبوته( )، وكان ينظر لكيفية دبيب الحياة في حماره [وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ…] اما عيسى فانه يحيي الموتى، ويخرجهم من قبورهم باذن بعد يأس اهلهم منهم، لتكون الآية عامة وشاملة للذين أخرج لهم ميتهم الذي ينقل لهم أهوال القبر وضغطته وما عاناه من سكرات الموت في دعوة للإقرار بالبعث والنشور, والإستعداد للموت بالعمل الصالح.
ترى كيف كان عيسى يحيي الموتى فليس عنده عصا كعصا موسى بل حتى عصا موسى مع ما فيها من الآيات فانه لم يستعملها لإحياء الموتى وعندما اراد احياء الميت لسؤاله عمن قتله امر بني اسرائيل بان يذبحوا بقرة , كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً] ( ) الجواب ان عيسى كان يحيي الموتى بالدعاء ولم يكلف بني اسرائيل ذبح بقرة أو تقريب قربان.
نظرية “الملازمة”
لقد خلق الإنسان وسخر له أسباب البقاء والحياة، وهذه الأسباب مركبة ومتعددة وعلى وجوه منها:
الأول: سماوي، وهي مقومات الحياة النازلة من السماء كنزول المطر.
الثاني: الأرضي، وما تخرجه الأرض من الحبوب والثمر بالحرث والزراعة وجريان الأنهار بالماء.
الثالث: الإنساني، وهو الخاص بالتجارة والمعاملات والكسب.
الرابع: اليدوي، وهو الصناعة والحرث والعمل.
الخامس: الكنوز التي تستخرج من باطن الأرض كالذهب والنفط والمعادن الأخرى، ويلاحظ تعدد وكثرة مصادر النعم وأسباب البقاء لتكون هذه الكثرة والتنوع حجة على الإنسان في اجتناب اتخاذ الباطل وسيلة لنيل الرغائب، وتحذيراً من الإنشغال عن ذكره وعبادته تعالى، فليس للإنسان ان ينقطع الى الكسب والسعي بعد ان سخر له هذه الثروات والنعم، وجعله قادراً على توفير حاجاته ومؤونته بالأدنى والأقل من الجهد والسعي، وفيها دعوة لنبذ الخصومة والتنازع على الدنيا.
ولم ينحصر فضله تعالى بالأسباب أعلاه مع انها شاملة للجهات المتعددة للإنسان، فيأتيه الرزق من فوق رأسه ومن حواليه ومن تحت قدميه، فجعل سبباً آخر أعظم منها مجتمعة ومتفرقة، يأتي بواسطته الرزق الممتنع بالأسباب ومن غير جهد ولا تعب، الا وهو الدعاء وهو سلاح الأنبياء ووسيلة الكسب وسبيل الإحتراز والوقاية من الشرور والكيد الظاهر والخفي.
واذ تحد أسباب النعم بحد معين بلحاظ جهد الإنسان وطاقته ومدى سلطانه وشأنه، فان الكسب بالدعاء ليس له حدود او تقييد، كما انه ينفرد بعدم تعلقه بالشرط والعلة وعدم حصول المشروط الا بشرطه والمعـــلول الا بعلته، فبالدعاء يتخــطى العبد عقبة الســبب المادي والمقدمة الضرورية لذي المقدمة والبغية، ولأن الأنبياء أفضل البشر وأصحاب الكمالات الإنسانية فقد أهتدوا بفضله تعالى الى سلاح الدعاء وجعلوه ملازماً لحياتهم وعشقوا التعلق به وأبوا مغادرته في الكبيرة والصغيرة من أمورهم، وكان شاهداً على صدق نبوتهم، وفي اتخاذ الانبياء الدعاء وسيلة لقضاء الحاجات دعوة للناس لإجتناب الغلو بالأنبياء.
وفيه اخبار عملي بان الذي عند النبي من المعجزة هو من عند ، فلا يأتي بأفراد المعجزة الا مع الدعاء والذكر ويمكن تسمية هذه النظرية “الملازمة” أي ملازمة الدعاء للمعجزة، ولم يستعمل عيسى العصا او الضرب لقيام الميت، بل كان يدعو بمرأى ومسمع من الناس.
وأخرج عن ابن عباس قال: كانت اليهود يجتمعون إلى عيسى ويستهزؤن به ويقولون له يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد فيخبرهم فيسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف انما هو سائح في الارض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهى تبكى فسألها فقالت ماتت ابنة لى لم يكن لى ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي باذن الرحمن فاخرجى فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر ثم نادى الثالثة فخرجت وهى تنفض رأسها من التراب فقالت يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لى في الدنيا يا روح الله سل ربى ان يردنى إلى الآخرة وان يهون على كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الارض( ).
فيلاحظ في الحديث مسائل:
الأولى: ان عيسى صلى ركعتين، والصلاة مناجاة ودعاء بل من أفضل وأسمى مصاديق الدعاء، ومن وجوه اشتقاق اسم الصلاة الدعاء.
الثانية: مناداة صاحبة القبر، ولم ينادها الا بعد الصلاة.
الثالثة: تقييد الأمر بخروجها من القبر بانه باذن .
الرابعة: تكرار النداء للميتة لتخطي مراحل انشقاق القبر، واستجابته هو الآخر لدعاء ونداء عيسى، فمن الآيات انه يأمر الميت بالخروج، والقبر ينشق وينصدع.
الخامسة: تعدد نداء عيسى للميتة بالخروج.
السادسة: دعاؤه لأعادة الميتة بناء على رغبتها، وموضوع الإماتة والإعادة خاص بالتي أحياها عيسى باذن دون غيرها من الأحياء.
وفي الحديث القدسي: ” يا موسى سلني كل ما تحتاج حتى علف شاتك وملح عجينك” مما يعني موضوعية الدعاء في حياة وكسب الأنبياء،
ومدرسة الدعاء عند الأنبياء دعوة الى عبادته تعالى ومانع من الغلو فيهم خصوصاً عند رؤية الآيات ولعظم الآيات التي جاء بها عيســى فانه حرص على الدعاء اثناء الآية والإخــبار بان المعجــزة فرع قـدرته ومشيئته سبحانه ودعوة لقهر النفس الشهوية والغضبية وجعل الناس ينقطعون الى لا تشغلهم المعجزة عنه سبحانه بل يجعلونها وسيلة للإيمان بربوبيته سبحانه، ويعتبر الدعاء واقية وحصانة وتثبيتاً للمعجزة وبرزخاً دون الغرر والجهالة والإفتتان الذي قد يصيب بعضهم عند رؤية الآية.
وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه قال: كان دعاء عيسى الذى يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم :اللهم أنت اله من في السماء واله من في الارض لا اله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الارض لاجبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الارض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في السماء كقدرتك في الارض وسلطانك في الارض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم انك على كل شئ قدير قال وهب هذا للفزع والمجنون يقرأ عليه ويكتب له ويسقى ماؤه ان شاء الله تعالى( ).
ويلاحظ في الدعاء التوكيد على صفات الجلال والعظمة لله تعالى ومن دلالته الزجر عن الشرك او الغلو، لقد أراد عيسى أن يستثمر المعجزة لتثبيت دعائم التوحيد وجعل الإيمان يملأ الجوانح، ويزداد الناس توكلاً على فاذا غابت عنهم آية الإحياء برفع عيسى فيبقى عندهم الدعاء لأنه سلاح حاضر في كل زمان وبميسور كل انسان.
لقد أراد لمعجزة عيسى ان تكون سبباً للتذكير بالنشأة الآخرة وعالم القبر , فالناس تأتي عليهم أيام وسنين ينشغلون بالدنيا ولا يلتفتون الى الآخرة، ويعرضون عمن يقوم بتذكيرهم بما بعد الموت ولزوم الإستعداد له، بسبب لهثهم وراء الدنيا والإنقياد الى السلاطين وغيرهم، فجاء عيسى بفلسفة التذكير العملي بالموت وجعله امراً حاضراً في أذهانهم بصورة يومية متصلة ولكن ليس على نحو الفزع والتخويف في الآخرة، بل باللطف على بني اسرائيل وما يكون شاهدا على تفضيلهم ومصداقاً من مصاديق اصطفاء آل ابراهيم وآل عمران.
ويبدو ان التذكير بالموت حاجة عقائدية لصلاح النفس وتنزيهها من شوائب الشهوة.
نظرية “اطلاق المعجزة”
تنقسم الأحكام بلحاظ الموضوع والأثر الى قسمين:
الأول: المطلق وهو ما دل على شائع في جنسه والأمر المرسل، كما يقال دابة مرسلة أي انها مطلقة العنان، ليس من مانع لحركتها فالإطلاق يعني عدم وجود وصف زائد على المعنى.
الثاني: المقيد الذي يأتي مقيداً بلحاظ شيء اضافي مع طبيعة الأصل يكون خارجا ًعن ماهيتها، فالمطلق هو المعنى الكلي الذي له قابلية الصدق على المتعدد من أفراده.
ومن الآيات ان كل مطلق تراه مقيداً من جهة او حيثية معينة، ليبقى الإطلاق وعالم اللامنتهي خاصاً بمشيئته تعالى ووقفاً على ارادته لا تنازعه فيه الخلائق، وترى معجزات الأنبياء مقيدة بالإذن والإرادة الإلهية الا ان هذا القيد تشريفي وفيه سلامة للمعجزة وتوكيد لصدقها وانها من عند فالنبي اذا لم ينسب آيته الى تعالى امراًَ واذناً ومشيئة فان الناس لا يصدقون به، فمن معاني الأمانة والصدق الإخبار عن أصل المعجزة وانها من عنده تعالى لذا ابتدأ عيسى كلامه مع بني اسرائيل بانه جاء بآية من عند يحملها لبني اسرائيل.
كما ورد في هذه الآية[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ] أي ان عيسى ليس أكثر من واسطة مباركة بين وبينهم، لأن الآية مقـــرونة بالدعــوة الى واتباع الكتاب الــذي جاء به وهو الإنجيل.
ومن الآيات في باب المعجزة انها تكون مطلقة غير مقيدة بشيء اضافي يؤدي الى الإنتقاص منها او يجعلها في مرتبة معينة من ذات الموضوع الذي جاءت به، فعيسى لم يبرء الأكمه الذي فقد بصره بعد الولادة بل يبرء الأكمه مطلقاً، وكذا لم يحيي الميت الذي مات حديثاً وقبل ان يدفن فقط ,بل يخرج الميت من قبره باذن .
ولو انحصرت معجزة عيسى بمن لم يوار في التراب بعد، لأبقت كل أسرة ميتها في جوف الدار تنتظر مجيء عيسى او انها تقوم بحمل جثمانه له ليدعو ويحييه من الموت، ولا يخفى ما في هذا الفعل من الأذى والضرر العام والخاص وتعطيل الأعمال وتفشي الأمراض ,ولم يبعث عيسى إلا ليخلص الناس من الأدران فاطلاق الآية رحمة ونعمة وحائل دون حصول اضرار عرضية من المعجزة، و اذا أراد شيئاً فانه يحسن صنعه ويجعله خالياً من الأضرار لتبقى المعجزة خيراً محضاً ونهراً يجري على الدوام لتطهير من يشرف عليه او يشرب منه من دنس الشك والريب والضلالة.
ويتجلى اطلاق المعجزة بمنطوق هذه الآية الكريمة ومجيئها بصيغة الإطـــلاق في ابراء الأكمــه والأبرص ولغة الجمع في احــياء الموتى، وكذا بالنسبة لمعجزات الأنــبياء الآخرين في اطـــلاقها وعــدم انحصارها بموضوع او حالة دون أخــرى، ومن الإطــلاق في المعجــزة الكريمة ومجيئها بصيغة الإطلاق في ابراء الأكمه والأبرص، ولغة الجمع في احياء الموتى.
وكذا بالنسبة لمعجزات الأنبياء الآخرين في اطلاقها وعدم انحصارها بموضوع او حالة دون أخرى، ومن الإطلاق في المعجزة، شمول الإعجاز للفظ القرآني على نحو الإطلاق الشرعي أي الإستغراق والإستيعاب لكل كلمات وآيات القرآن بحيث يكون حكم الإعجاز فيه منحلاً بعدد كلماته البالغة (6323) فيتعدد حكم الإعجاز بتعدد الكلمات والآيات، وحتى في الآيات الحسية فان النصر كان حليفاً للمسلمين في الغزو والدفاع بآية منه تعالى وبما يتعارض وقوانين العلة والمعلول وأسباب الكرة والقلة والعدة ونحوها.
نظرية “مقدمات المعجزة”
تعتبر المعجزة امراً خارقاً للعادة يخترق العادات والأعراف بأمر مبارك يشع منه ضياء الإيمان ومعالم التوحيد، ولابد للمعجزة من مقدمات تساهم في بيانها واطلاع الناس عليها والإنتفاع الأحسن والأتم منها،
وقد تكون المقدمات ذاتها معجزة اضافية، فاحياء عيسى للموتى يستلزم انشقاق الأرض وازاحة التراب من الميت اذ انه بقدرته حتى في حال بعث الحياة فيه يعجز عن الخروج وشق طريقه الى سطح ألأرض بعد مواراته وإهالة التراب ليخرج الميت حياً، ومن مقدمات المعجزة ان يسيح عيسى في الأرض ليلتقي بالناس ولا ينتظر قدومهم اليه، وجعل آية ابراء الأكمه والأبرص مقدمة لسماع الناس لدعوته، أي ان المعجزة ذاتها تكون مقدمة لما هو أعظم وهو جذب الناس للهدى وجعلهم مؤمنين بالتوحيد والنبوة، ولو لم تكن هناك مقدمات للنبوة او يتعذر وجودها فهل تتوقف المعجزة عليها كتوقف المشروط على شرطه الجواب لا، لأن أراد للمعجزة ان تكون موجودة وحاضرة مع النبي وملازمة له في دعوته، والمقدمات في وجودها او عدمها شاهد على صدق المعجزة وحتمية حدوثها، وهي على أقسام منها ما تكون مقدمة بعيدة ومنها ما تكون قريبة ومنها امر يخص الناس امر يخص النبي نفسه ودعوته، فمن مقدمات بعثة عيسى والآيات الباهرات التي جاء بها طهارة وعصمة مريم وانقطاعها الى العبادة.
وقد تكون المعجزة ذاتها مقدمة لغيرها من المعجزات سواء كانت مقدمة لمعجزة صاحبها او لغيره من الأنبياء، فكلام عيسى في المهد معجزة ومقدمة لإحيائه الموتى بلحاظ انها واقية لحفظه والعناية به.
ونزول الرزق الى مريم من السماء مقدمة لمعجزة زكريا في رزقه يحيى وهبة وفضلاً منه تعالى وعمره مائة وعشرون سنة.
نظرية “تعدد المصاديق”
وتتعلق بكثرة أفراد الآية وانحلالها، والإنحلال يعني تعدد الفروع والأٌقسام من الأصــل والذات لتكون أفراده متــكثرة في الخارج وتأتي الآية والمعجزة بارادة الجنس والموضوع ولكن مصــاديقها تتعدد وتزداد في الخارج وقد لا تكـــون هذه المصــاديق متشــابهة بل هي متباينة في القوة والضعف والحيثية والخصوصيات لتعم الفائدة من المعجزة لذا جاء اخبار عيسى بانه جاء بآية من ولكن الآية تقع تحتها عناوين عديدة هي:
الأول : ابراء الأكمه والأعمى.
الثاني : شفاء الأبرص والسقيم.
الثالث : احياء الموتى.
الرابع : قيد باذن .
الخامس : الإخبار عما يدخرون في بيوتهم.
وكل فرد من هذه الآيات هو معجزة مستقلة وتقع تحتها مصاديق متعددة كل واحدة منها معجزة وآية لا يرقى اليها العلم او السحر او الكهانة، ومن آيات عيسى انه كان يسيح في الأرض ليلتقي بالمرضى ويقوم بابرائهم وفيه تصد لمحاولات التشويه ومنع الناس والزمنى من الوصول الى عيسى ، لقد منع المشركون الناس من الوصول الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات الدعوة وجعلوا رصداً حولها لصد الناس وامتناعهم بعدم دخول المدينة ولقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم لم يفلحوا.
فكان المسلمون يجاهدون من أجل ايصال الدعوة الى القبائل المحيطة بالمدينة، وكان القرآن سفيراً وداعياً للقلوب ورسولاً الى العقول وحجة على الناس في لزوم المبادرة الى الإسلام، وقد جاهد عيسى بنفسه فأخذ يسيح بنفسه ويحول دون تأثير أهل الريب والشك والغواية عليهم ولكن هذا الأمر أدى بالأعداء الى المكر والكيد به.
لقد كان أمام طريقين اما ان يبقى في قريته ومكانه ويتلقى الأذى من الجاحدين والمعاندين، واما ان يسيح في الأرض ويتقي مع المستضعفين والزمنى وتنعدم الحواجز بينه وبين الناس عموماً وأهل الحاجة منهم، من غير ان ينقطع الكيد والمكر به، فأختار الثاني وجاهد في سبيل بنفسه وفي حديث لابن عباس او كان عيسى عيسى ليس له قرار ولا موضع يعرف انما هو سائح في الأرض.
والسياحة في الأرض مناسبة لإنحلال الآيات وانشطار المعجزات وكثرتها وزيادتها، ومن رأفة ورحمة الرسول بالناس انه يقصدهم في قرارهم ومواضع سكناهم كي يروا الآيات عن قرب، ولو كانت آية عيســـى في زمان وســائل الإعلام المرئية والمقروءة فهل يستغني عيسى عن سياحته في الأرض ويكتفــي بوسائل الإعلام، الجــواب لا، لقد سماه المســيح وجعل وظيفته نقـــل المعجزة الى الناس ودخولها الى الأسواق والمنتـــديات ومحلات تجمـــع الزمنى والفقراء للانتفاع الأعم.
لذا كان كثير من أتباعه من المستضعفين والفقراء، ويمكن ان نسمي هذه النظرية “نظرية تعدد المصاديق” وان المعجزة لم تأتِ على نحو القضية الشخصية او صرف الوجود بل بالإعداد الكثيرة وان النبي يسعى جاهداً لكثرتها والإنتفاع من وجوده في الحياة الدنيا لجعل المعجزة واقعاً في الوجود الذهني والخارجي وتتجلى هذه النظرية بأبهى صورها بمعجزة القرآن فكل آية هي مصداق للإعجاز وكل تلاوة هي مصداق للمعجزة، وكذا كل نسخة من نسخ المصحف الشريف، الى جانب ما في هذه الأفراد من خصوصية الحياة المتصلة، فاذا كانت معجزات الأنبياء برهاناً وحجة فان كل آية في القرآن تنبض بالحياة وتكون حاضرة في كل زمان ومكان.
ومن أفراد الآية التي جاء بها عيسى الى بني اسرائيل هي ازالة الخوف من الموت وبعث الأمل في النفوس لما بعد الموت، فكل فرد من بني اسرائيل اصابه مقدار من الأمل بالظن بانه اذا مات يستطيع ان يعود الى الحياة ببركة عيسى .
وفي الآية اثبات عملي للبعث والنشور وان الحياة بعد الموت حقيقة وامر لابد منه، والذي يدرك ان بعد الموت نشور لابد وان يعمل على الإستعداد له وتجهيز مقدماته التي تنحصر بالعمل الصالح واجتناب الظلم والأذى.
ولقد كانت آية احياء الموتى واقية لعيسى وزجراً عن ايذائه من وجوه:
الأول: عظم المعجزة، وعدم امكان وقوعها الا بآية منه تعالى.
الثاني: ظهور فضله تعالى على بني اسرائيل وتفضيلهم ان بعث الله لهم رسولاً يحيي بعض موتاهم.
الثالث: تعلق الآية بموضوع يبعث الخوف والأمل في النفوس.
الرابع: خروج الموتى من قبورهم في الحياة الدنيا أمر لم يطرأ على بال أحد من البشر الا الذين تلقوا هذه البشارة في التوراة والكتب السماوية الأخرى وعن طريق الأنبياء واخبارهم.
الخامس: في الآية حجة دامغة على بني اسرائيل ودعوة لإتباع الرسل من بعد موسى، ومعجزات عيسى مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
واتخاذ السيف واقية من كيدهم ومكرهم، فالذين تجــرأوا على عيسى مع الآيات التي جاء بها واحيائه الموتى وهو واحد منهم، قد يعتــــدون على النبـــي الذي من غيرهم، والشـــواهد التـــأريخية في هذا الباب غير خـــافية على أحد وتصل حد التواتر ويوثقها القرآن بآياته.
بحث أصولي
لقد جاءت الآية بصيغة الجمع وهي تحتمل أمرين:
الأول: الإطلاق الشرعي: ويعني الإستغراق والإستيعاب لجميع الموتى باعتبارهم أفراد الطبيعة التي يشملها اطلاق اللفظ وان الحكم ينحل بعدد أفرادها، ومثال هذا الحكم مجيء النكرة في سياق النهي مثل “لا تقرب فاحشة” فالنهي مستغرق لمطلق وجود الطبيعة.
الثاني: الإطلاق البدلي: وهو الذي يكون فيه الحكم على صرف الوجود، وان المطلوب هو ايجاد مسمى الشيء وفرد من أفراد الطبيعة، ويجزي في تحققها وجود فرد من أفراد الطبيعة، وصيغة الجمع لإرادة التكرار والتعدد ضمن أفرادها.
واحياء عيسى للموتى من الثاني وهو الإطلاق البدلي، فالآية وان جاءت بصيغة الجمع الا انه يكفي صرف الطبيعة فيه، فيصح في احياء عيسى لأقل عدد من اعداد الجمع فيصدق عليه احياء الثلاثة او الأربعة مجتمعين أو كل واحد على نحو الإنفراد.
قوله تعالى [بِإِذْنِ اللَّهِ]
آية قرآنية اعجازية في موضوع معجزة عيسى اذ يتكرر قيد باذن مرتين في هذه الآية وخطاب عيسى لبني اسرائيل.
وكان في مقدوره لغة وموضــوعاً وحكماً ان يجعل الجـــملة متصلة ولا يفصـــلها بقيد باذن ولكنه لم يقـــل (فانفخ فيه فيكــون طيراً وابرئ الأكمه..) بل قطع بين الآيتين بقيد باذن مع انه ينوي ذكره مرة أخرى، وهذا من انباء الغيب اذ تبين الآية دقة اللفظ وخطاب عيسى الى بني اسرائيل، وفي الآية مسائل:
الأولى : كان عيسى حريصاً على استحضار عظيم فضله تعالى عليه.
الثانية : لزوم عدم الغلو فيه، ليس في زمان الآية فحسب بل أوان نزول القرآن فمن منافع هذا التكرار زجر النصارى عن الغلو في عيسى وأمه والمنع من اتخاذ هذه الآية مقدمة لتأليهه.
الثالثة : بيان استقلال آية الطير والتوكيد على موضوعيتها والمضامين الإعجازية فيها.
الرابعة : التأديب والتعليم والإرشاد لإستحضار ذكره تعالى وان المعجزة المتحدة والمتعددة لا تتم الا بأمره ومشيئته تعالى.
الخامسة : منع التأويل الخاطئ وحصر قيد باذن باحياء الموتى وان الطير يكون بنفخ عيسى في صورة الطين.
السادسة : الإنتفاع من الإعادة والتكرار فاعادة قيد باذن لمنع اللبس والجهالة والغرر.
السابعة : لبيان كثرة الآيات التي جاء بها من عند .
الثامنة : عصمة عيسى من رميه بالسحر والكهانة ونحوها.
علم المناسبة
ورد لفظ (الإذن) في القرآن سبع وثلاثين مرة كلها لله تعالى، ولم يرد مكرراً في آية الا مرتين:
الأولى: في هذه الآية على لسان عيسى بان ما عنده من المعجزات هو من عند .
الثانية: وروده أربع مرات بلفظ (باذني) في خطاب منه تعالى الى مريم في آية واحدة( )، وهذا من الآيات ان تجد لفظاً وشبه جملة وقاعدة كلامية تتكرر في آية واحدة اربع مرات، فالتكرار بلفظ الإذن في لم يحصل في القرآن الا بخصوص عيسى وآياته وكأن الإذن الإلهي ملازم له وفيه توكيد على معرفة مقامات رسالته من غير غلو فيه او صدود عنه.
لقد جاءت موضوعات هذه الآية في سورة المائدة على نحو التفصيل في القيد وملازمة الإذن الإلهي لكل آية على نحو الإستقلال بلحاظ ان ابراء الأكمه والأبرص آية واحدة لأن الجامع بينهما هو موضوع الإبراء، وما ورد في سورة المائدة يؤكد بان اذنه تعالى لا ينحصر باحياء الموتى بل هو شامل لإبراء عيسى والأبرص، قال تعالى [وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي] ( ).
نظرية “الفرع اللاحق”
يأتي النبي بالآية والمعجزة منه تعالى، وينشر أمرها بين الناس ويعظم قدره وتكون وسيلة للدعوة الى والتصدي لمفاهيم وأقطاب الكفر، وتجعل الناس ينشغلون طوعاً وكرهاً بالآيات ويتوجهون صوب سبل الطاعة.
وتعمل المعجزة على تجديد الإيمان وبناء صرح للتوحيد منذ أول اشراقة لها في الواقع، ومن الآيات ان منافع المعجزة لا تقف عند زمانها او الأشخاص الذين جاءت بين ظهرانيهم وشاهدوا ما فيها من الأمر الخارق للعادة بل تشمل الأزمان اللاحقة والأمكنة الأخرى، وهذا الأمر من الآيات الإعجازية التي تحتاج الى دراسات وتحقيق في الشواهد التي تؤكد أثر الآية حتى بعد انقضاء زمانها.
وظهور افاضــاتها على الواقع الإجتماعي واليومي للناس من وجوه:
الأول: تنامي حالة الندم على عدم الإنتفاع من وجود الرسول وآيته بينهم، وهذا الأمر لا ينحصر بجيل الرسول والناس الذين حواليه، بل يشمل الأجيال اللاحقة فتراهم يتدارسون الأمر بصيغة اللوم والأسف.
الثاني: ذم الذين جحدوا برسالة النبي بعد قيام الحجة عليهم ومجيئه بآية سالمة من المعارضة تؤكد صدق نبوته، اما في الحالات التي يتعرض لها الرسول للقتل فان الأثر العكسي يأتي حاداً وغاضباً وسريعاً ويجتهد الناس والشباب منهم خاصة في اظهار الولاء والإخلاص له بعد زمانه ليكون هذا الولاء في مفهومه براءة من الكفر وأهله.
الثالث: الأثر الإيجابي لمصاديق الآية كما في نجاة بني اسرائيل من فرعون وملئه.
وبذا يظهر الإختلاف بين نظرية حياة المعجزة، وهذه النظرية التي تبين الحوادث والآثار المتفرعة للمعجزة.
وقيام الأشخاص الذين أنتفعوا من معجزة عيسى والأنبياء الآخرين ببث ونشر معالم الإيمان بين أقرانهم وفي عوائلهم ليتركوا أخبار النبوة ميراثا لأبنائهم ولو وفق مرتبة الخبر التي تنطبع بالولاء الذهني لتكون مصدراً للهداية الذاتية من داخل النفس وحرزاً من تسرب مفاهيم الضلالة اليها.
فتأتي المعجزة في زمان مخصوص ولكن منافعها العقائدية والإجتماعية والأخلاقية تظهر وتتجدد فيما بعد ولا تقف عند حدود الذين آمنوا بها او حضروها.
ومن مصاديق هذه النظرية الزمنى والمرضى الذي برئوا على يد عيسى، والموتى الذين بعثوا بدعائه فهم نواة لمجتمع مؤمن واتباع لعيسى في شريعته ولو في الجملة ولا ينحصر الأمر بهم بل بذويهم واصدقائهم ومن عرف حالهم السابق وما بهم من العاهات، ورآهم بحالة الصحة والسلامة ببركة الرسالة ومنزلة عيسى عند ،
ومن مصاديقها امتلاء نفس الزمنى بالأمل والنجاة، وحسرتهم وذويهم على فقد عيسى، ونقمتهم على الذين صلبوه وكادوا به وأفشوا أمره الى السلطان حسداًَ وبغياً، أي ان جيشاً من الأنصار لعيسى تكّون بعد رؤية هذه الآيات وساهم في نشر المسيحية والذب عن عيسى واعلان صدق رسالته بالمثال العملي الحسي.
لقد أعلن عيسى عن معجزته ابتداء ومن قبل ان يسئل، وفيه وجوه:
الأول: انه نبي صاحب رسالة ولابد من تبليغ رسالته، والمعجزة مقدمة للإستجابة لهذه الرسالة.
الثاني: هذه المعجزة نعمة منه تعالى، فأراد عيسى المبادرة الى الإعلان عنها.
الثالث: للإنتفاع الأمثل وألأكثر من هذا المعجزة اذ ان تعلق الخطاب بعموم بني اسرائيل [قَدْ جِئْتُكُمْ] ويفيد اباحة المعجزة للجميع للإستفادة منها من غير حصر ببني اسرائيل وان توجه الخطاب لهم، فهو لم يقل اني ابرئ الأكمه والأبرص منكم على نحو الحصر والتقييد، بل قال انه يبرء الأكمه والأبرص على نحو الإطلاق.
الرابع: لقد رزق عيسى هذه الآيات والله يحب ان يرى النعمة على عبده كما ان هذه النعمة ملك له وللناس جميعاً لذا أظهرها عيسى .
الخامس: المبادرة والتعجيل باعلان الآية واقية لعيسى من المعاندين وأهل الحسد والمكر.
السادس: انه وسيلة لجذب الأنصار والأعوان، فمع رؤية الآيات الباهرات يقبل الناس على التصديق بعيسى .
وبما ان خطاب عيسى عام لبني اسرائيل فقد أختار السياحة في الأرض والطواف على القرى والوصول الى الناس في مساكنهم ومحلات تجمعهم.
وقد يقال ان هذه الطريقة في التبليغ والدعوة سهلت على أعدائه التخلص منه لأنه لم يبق في بلدة واحدة ويجمع الجيوش ويعد العدة لمواجهة الأعداء والدفاع عن النفس والأصحاب كما فعل رسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجواب انه قياس مع الفارق فان الواقع والحال التي بعث فيها عيسى تختلف عن الحال التي بعث بها رسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل رسول منهج خاص في تبليغ الرسالة وفق ما يأمره به.
ولقد أراد سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأسيس دولة الإسلام وتثبيت أحكام الشريعة وحفظ كلمات القرآن من التحريف، وهذه الأمور لا تتم الا بدولة ونظام ثابت متوارث باسم الإسلام، ولقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجزيرة العربية بعيداً عن الدولة الرومانية والفارسية وسلطانهما المباشر.
أما عيسى فانه بعث في ظل نظام حكومي، ومؤسسات للديانة اليهودية ذات تأثير وقرار يمكن استقراؤها من مسألة القرعة على كفالة مريم، لأنها نوع حكم وكذا عدم التعدي على نتيجة القرعة بعد حصولها ووقوع الكفالة لزكريا ، بالإضافة الى أحوال وميول الناس، فمع الآيات التي جاء بها عيسى فانه لم يجد الا عدداً قليلاً من الحواريين.
لقد أظهر عيسى حبه للناس وشفقته على المرضى وحرصه على دعوة الناس للإيمان بسياحته في الأرض والإنتفاع من عنصر الزمن وكل ساعة تمر عليه، وكأن النبي يتسابق مع الأيام لبث دعوته وجمع الأنصار والأتباع.
والأرجح ان عيسى يعلم قصر مدة بقائه مع بني اسرائيل، ولكن السياحة في الأرض وروح التواضع وحسن الخلق مع الناس لم تكن سبباً في هذا القصر، والعكس هو الصحيح فان بقاء عيسى في بلدة واحدة يسهل على أهل الحسد الإجهاز عليه، فأختار التنقل في القرى والظهور في مواطن اجتماع الناس في غفلة من السلطان ورؤوس المكر خصوصاً وانه يظهر بالآيات البينات، فيغادر المكان والكل يتحدث عن معجزته التي رآها وأدركها بما لا يقبل الشك او الترديد.
وكثير من المصلحين والدعاة يتوجهون الى المستضعفين ويعدون منهم جيشاً لمواجهة الحكام والطواغيت، ولكن عيسى ومع ما عنده من الآيات لم ينظم من الفقراء والذين رأوا الآيات تجري على يديه جيشاً لمحاربة الحكام والملأ واكراههم على حكم الشريعة، بل كان يلقي الإنذارات ويبلغ البشارات مقرونة بالآيات والمعجزات ويترك المكان ليخلف من بعده نفراً من المؤمنين، ويكون المجموع جيشاً من الدعاة الى ، بالكلمة والموعظة الحسنة من غير ارادة التجمع للحرب او القتال او منافسة الحكام في مناصبهم فقد استغنى عيسى نفسه عن الأمر وتجنب هذه المنافسة وجاهد لتثبيت أركان النبوة ومصاديق المعجزة لتكون درساً للمسلمين وتمنحهم الصبر والعزم، ولتبقى الآيات التي جاء بها عيسى راسخة في أذهانهم، فمن خصائص المعجزات التي يأتي بها الأنبياء انها تثبت في الذاكرة والخاطر موضوعاً وهيئة وحكماً بما يمنع من طرو اللبس والإشكال على من حضرها او تيقن منها بواسطة السماع من العدل والثقة.
وسيبقى قيد (باذن الله) تأديباً دائماً للعلماء والقادة باستحضار اللطف والعناية الإلهية في التوفيق لإنجاز فعل، كما انه حصانة من الغلو ومانع من القول في عيسى بأكثر من النبوة والرسالة.
ان اخبار عيسى عن الآيات آية مستقلة لأنه يجمع البشارة والأمل ويمنع من الغلو فيه، فهو لم يترك مسألة الغلو والزجر عنه الى أجل ومناسبة أخرى وعندما يرى حالات من الغلو فيه، بل جاء بالواقية والحرز منه قبل وقوعه مما يدل على ان كلامه وحي، وأنه لا يريد لنفسه الا صدق العبودية لله تعالى، ومشاركة الناس له في هذه العبودية، والتقيد بأحكام الشريعة، فيأتي قيد (باذن ) ليمنعهم من السياحة في عالم المعجزة على نحو مجرد والنظر اليها بالذات، بل أراد ان تكون مقدمة للإيمان وادراك انها من فضل وانه تعالى قادر على كل شيء، ولقد بدأ عيسى كلامه بهذا المعنى بنسبة الآية الى ، [جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ثم ختم الكلام بان ما يقوم به باذن وفي بداية الآية ورد ذكره تعالى باسم الرب وهو من امهات الأسماء المقدسة وباضافته لبني اسرائيل اما في هذا المقام فانه لم يقل (باذن ربكم) او باذن الرب، بل قال باذن في بيان وتفسير بانه ليس من رب الا تعالى، ومع هذا فتجد بعضهم الى الآن يكثر من ذكر الرب ويتجنب مع شبهة الغلو التي عنده ذكر اسم الجلالة، وفي ذكر باسمه تعالى منع من اللبس وتخرصات اهل الشك والريب.
وآية احياء الموتى أعظم من ابراء الأكمه والأبرص ومع هذا جاءت متأخرة عليها، وفيه وجوه:
الأول: السعة والإبتداء بالأعلى ثم الأدنى من الآيات والإرتقاء للأعلى، والأدنى هنا بلحاظ المقارنة مع الآية الأخرى والا فانه ليس في آيات عيسى الا الأمر العظيم الخارق للقواعد والأسباب.
الثاني: بدأت الآية وبيان المعجزات بآية الطير لأنها عامة تنفع الناس جميعاً في الهداية والدعوة الى الإيمان واثبات رسالته.
الثالث: لم يصل العلم او السحر والكهانة الى خلق طير يطير في السماء.
الرابع: شفاء الزمنى والمرضى امر يخص المخاطبين من بني اسرائيل على نحو عام وخاص اما العام فهو على شعب:
الأولى: انها آية للناس كافة وحجة على الجميع.
الثانية: التخفيف عن الناس في موضوع الأعمى فبعد ان كان يحتاج الى قائد ومنفق عليه اصبح قادراً على اعالة نفسه وغيره واستغنى عن الغير في حوائجه.
الثالثة: تنقية المجتمعات والمنتديات والبيوت من آفة الأمراض الجلدية.
الرابعة: الأمل والرجاء الذي يملأ النفوس بالعافية وغياب شبح الخوف من العمى والأمراض المزمنة.
الخامسة: آثار ومصاديق الهداية العامة التي أحدثتها هذه المعجزات، اما الخاص فهو على وجوه:
الأول: معالجة كل مصاب بمرض مستعصي.
الثاني: دخول السعادة والغبطة الى بيوت المصابين ولجوئهم الى شكره تعالى طوعاً او انطباقاً.
الثالث: تعلق المعافين من هذه الأمراض بعيسى وحرصهم على اتباعه والإمتثال لما جاء به من عند .
الخامس: تأخر آية احياء الموتى لعظمتها واهميتها.
السادس: الإشارة الى بقاء مراتب آيات النبوة وصولاً الى آيات خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع: جاءت الآية بالإبتلاء والعناء القريب الذي يصيب السامعين وذويهم بالذات، اما احياء الموتى فهو أمر يتعلق بالعالم الآخر، مع الإقرار بان أكثر الناس سالمين من الأمراض المزمنة، وأكثرهم يشتاق الى احياء والديه ومن غادره من احبائه.
وأخرج أحمد في الزهد عن خالد الحذاء قال: كان عيسى بن مريم اذا سرح رسله يحيون الموتى يقول لهم قولوا كذا قولوا كذا فاذا وجدتم قشعريرة ودمعة فادعوا عند ذلك( ).
ولكن الحديث ضعيف من جهة الصدور والدلالة، فهو لم يرفع، بالإضافة الى ان احياء الموتى أمر خاص بعيسى بنص الآية الكريمة اذ يقول [وَأُحْيِ الْمَوْتَى] ولو قام غيره من رسله باحياء الموتى لأفتتن الناس بهم، ولأدعاه غيرهم.
وحينما بعث أحد الملوك الجبارين الى عيسى للمسير اليه فقال عيسى لأصحابه ألارجل منكم ينطلق إلى المدينة فينادى فيها فيقول ان عيسى عبد الله ورسوله فقام رجل من الحواريين يقال له يعقوب فقال أنا يا روح الله قال فاذهب فانت أول من يتبرأ منى فقام آخر يقال له توصار وقال له نا معه قال وأنت معه ومشيا فقام شمعون فقال يا روح الله أكون ثالثهم( ).
وعندما جيء بالمنادى وهو توصار بان عيسى عبد ورسوله عذبوه أشد العذاب من غير ان يتخلى عن قوله، وجاء شمعون وأخذ يسأله لإقامة الحجة عليهم وحينما قال توصار ان عيسى يحيي الموتى، أتخذها شمعون حجة وبرهاناً وقضاء فصلاً لأنه لا يقدر على احياء الموتى الا وقد اذن به لعيسى مما يدل على ان أصحابه لم يكن عندهم الإذن الإلهي باحياء الموتى وهو أمر خاص بعيسى ولا يقدر ان يفوضه الى غيره ســواء في حياته ووجــوده معهم او بعد رفعه الى السماء.
ولم يكن احياء عيسى للموتى خاص بالإنسان بل يشمل الحيوان ليس للأولوية وان احياء الحيوان أسهل من احياء الإنسان، بل لأن يعطي بالأوفى والأتم ولإقامة الحجة على الناس.
لقد كانت المعجزة تمشي مع عيسى وترافقه لأن الناس بحاجة لها ولأن أعطاه آية احياء الموتى وجعله يدعو الناس الى رسالته كل بحسبه فبالنسبة للراعي تكون الآية احياء الحيوان الذي رآه أمامه يذبح ويؤكل في دعوة له للإيمان.
بحث كلامي
لقد جاء قيد (باذن ) مستغرقاً لجميع المعجزات التي جاء بها عيسى من غير استثناء مصداق واحد من مصاديقها وهل جاء حرص عيسى على اعلان هذا القيد والتوكيد عليه خشية ان لا تحصل الآية خارجاً في بعض الأحيان فيكون الضرر حاضراً وهو ان لم يأذن بالآية في تلك الساعة خصوصاً وان كل مصداق من آية الطير او ابراء الأكمه والأبرص او احياء الميت لا يكون الا باذن منه تعالى الجواب لا، لأن مقتضى الإطلاق في الآية عموم أفراد الطبيعة وان الإذن الإلهي جاء سابقاً للآيات بدليل ان عيسى أعلن عنه، وهذا السبق لا يتعارض مع اعتبار اذن خاص لكل فرد من أفراد المعجزات التي جاء بها عيسى. وانه لا يتأخر او يبطئ عن عيسى وهو ملازم لدعاء عيسى عند قيامه بابراء السقيم او احياء الميت.
ومن اكرامه تعالى لعيسى ان جعله واثقاً من مصاحبة الإذن الإلهي له في جهاده وسياحته لا يتخلف عنه، بل هو مصاحب وملازم له وهو عضد له في نبوته كما ايده سبحانه بالملك [وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ].
نظرية الإحياء
مع التضاد والتنافي بين الحياة والموت فان كلاً منهما أمر وجودي، له شأن وموضوع وأحكام مستقلة، والإحياء مطلوب بذاته الا انه مقدمة واجبة للإماتة فمن خصائص عالم الدنيا عدم الخلود والبقاء ولابد لأهله من الفناء والموت.
والأرض والعالم المحيط بها كل دائب في حركته وانتظامه، وأجيال الناس في تعاقب على هذا العالم دون ان يلتفت اليهم , وهذه الأجيال والطبقات لا تأتي دفعة واحدة بل ان أفرادها يدخلون او يغادرون الدنيا على نحو شخصي، كل انسان كيان مستقل بذاته في قدومه على الدنيا او خروجه منه وفق العلل المادية وما به الوجود.
ولقد دخلها عيسى من أشرف الأبواب لإشتراك عالم الملكوت في ماهيته وليكون للملائكة حصة ونسب في ابن آدم بنفخ روح القدس في مريم ليتولد من هذا النفخ عيسى .
ويبدو ان منافع هذا النفخ تستديم في عيسى باحيائه للموتى في اشارة الى وظيفة الملائكة في عالم البرزخ وفي النفخ في الصور يوم البعث.
ويعتبر الإحياء آية اعجازية في اذن لعيسى فيها لتكون هبة للإنسان وشاهداً حاضراً على قرب عالم الآخرة ودنو الحساب ورداً على اولئك الذين يشككون في البعث كما ورد في التنزيل [أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ] ( ).
فكان إحياء عيسى للموتى جهاداً ضد الضلالة، وبرزخاً دون انصات الناس لإفتراءات أهل الريب والجحود.
آية الأثر الملكوتي
لقد خلق الملائكة وجعلهم أجســاماً لطيفة لا يفــعلون الا الخير المحض ويقدرون على الأعمال الشاقة، وليس لهم الا الطاعة لله تعالى، والإنقطاع الى طاعته وخلق الجن اجساماً رقيقة ولها تأثير في الأجسام العنصرية وقادرة على التشكل بهيئات مختلفة ثم خلق الإنسان من الطين بأبهى وأحسن صورة ليكون خليفته في الأرض في دار التكليف.
ومن خصائص التكليف ان الإنسان لا يطلع على عالم الآخرة الذي هو حساب بلا عمل ولم يأت أحد منها ليخبر أهل الدنيا بما لا قى من الحساب الإبتدائي ومقدمات السعادة أو العذاب، ولكنه جاء بواسطة الأنبياء والكتب السماوية وهي أهم وأكثر توثيقاً واعتباراً من القضايا الشخصية ولكن الناس أنشغلوا بزينته وتراكمت أقوال المشككين من غير زجر عقائدي لهم، فتفضل سبحانه ببعث عيسى بآية إحياء الموتى.
وأنفرد عيسى بهذه الآية من بين الأنبياء، بالإعلان عنها وصيغة التعدد التي جاء بها لينال صفة محيي الموتى باذن ، ولابد من خصوصية عند عيسى نال هذه المرتبة والشأن العظيم تترشح من عناصر علوقه وجزئية نفخ روح القدس في أصل نشأته وعلة ولادته وخروجه الى الدنيا، والظاهر وجود ملازمة بين احياء عيسى للموتى وبين العلة الملكوتية في خلقه.
قانون “الإعلام”
المعجزة النبوية فضل ولطف إلهي عظيم على الناس كافة، سواء كانت عقلية او حسية وصحيح ان المعجزة تنزل بزمان ومكان مخصوص، الا ان يهيء ويقيض لها أسباب الحفظ والتعاهد ليتوارثها الناس، ولم يكن في زمان النبوة وسائل توثيق مرئية ولا إعلام ينقل خبر الآية الى أصقاع الأرض المختلفة ومع هذا فتجد معجزات الأنبياء جزء من تراث وعقائد كل أمة وشعب وهذا من الآيات والمعجزات الإضافية للمعجزة، وافاضات النبوة وفضله تعالى في الإنتفاع العام من المعجزة.
ومن الآيات ان الرسول نفسه هو الذي يقوم بالإعلام والترويج للآية التي جاء بها من عند فهذه الآية القرآنية شاهد بان عيسى قام بالإعلان عن معجزته، مع الإقرار بان الحواريين قاموا ايضاً بالإعلام ومنهم من تحمل بسبب هذه الوظيفة الأذى والتعذيب،
ولما دعا أحد الملوك الجبارين سأل عيسى الحواريين للدخول الى المدينة قبله للإعلان عن قدوم روح ، فتبرع اثنان فقام شمعون فقال يا روح الله أكون ثالثهم فائذن لي ان أنال منك ان اضطررت إلى ذلك قال نعم فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبا من المدينة قال لهما شمعون ادخلا المدينة فبلغا ما أمرتما وأنا مقيم مكاني فان ابتليتما أقبلت لكما فانطلقا حتى دخلا المدينة وقد تحدث الناس بامر عيسى وهم يقولون فيه أقبح القول وفي أمه.
فنادى أحدهما الا ان عيسى عبد الله ورسوله فوثبوا اليهما من القائل ان عيسى عبد الله ورسوله فتبرأ الذى نادى فقال ما قلت شيئاً فقال الآخر قد قلت،
وأنا أقول ان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا به يا معشر بنى اسرائيل خيرا لكم فانطلقوا به إلى ملكهم وكان جبارا طاغيا فقال له ويلك ما تقول قال أقول ان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قال كذبت فقذفوا عيسى وأمه بالبهتان ثم قال له تبرأ ويلك من عيسى وقل فيه مقالتنا قال لاأفعل قال ان لم تفعل قطعت يديك ورجليك وسمرت عينيك فقال افعل بنا ما أنت فاعل ففعل به ذلك فالقاه على مزبلة في وسط مدينتهم ثم ان الملك هم أن يقطع لسانه،
إذ دخل شمعون وقد اجتمع الناس فقال لهم ما بال هذا المسكين قالوا يزعم ان عيسى عبد الله ورسوله فقال شمعون،
أيها الملك أتاذن لى فادنو منه فاسأله قال نعم قال له شمعون أيها المبتلى ما تقول قال أقول ان عيسى عبد الله ورسوله قال فما آية تعرفه قال يبرئ الاكمه والابرص والسقيم قال هذا يفعله الاطباء فهل غيره قال نعم يخبركم بما تأكلون وما تدخرون قال هذا تفعله الكهنة فهل غير هذا قال نعم يخلق من الطين كهيئة الطير قال هذا قد تفعله السحرة يكون أخذه منهم فجعل الملك يتعجب منه وسؤاله قال هل غير هذا.
قال نعم يحيى الموتى قال أيها الملك انه ذكر أمرا عظيما وما أظن خلقا يقدر على ذلك الا باذن الله ولا يقضى الله ذلك على يد ساحر كذاب فان لم يكن عيسى رسولا فلا يقدر على ذلك وما فعل الله ذلك أحد الا لابراهيم حين سأل ربه أرني كيف تحيى الموتى ومن مثل ابراهيم خليل الرحمن( ).
ويمكن مناقشة الحديث دلالة وسنداً , فمن حيث الدلالة يعجز الأطباء عن ابراء الأكمه والأبرص والى يومنا هذا، ولا يستطيع الكهنة ان يخبروا الناس بما أكلوا وما يدخرون وان حصل فعلى نحو الموجبة الجزئية، اما صيرورة الطين طيراً فلا يقدر عليه الا ، وهو حجة دامغة, والشاهد من الحديث هو بعث عيسى للرسل والأنصار للتبليغ والدعوة وتحملهم المشاق من أجل اعلاء كلمة التوحيد، ويلاحظ حرصهم على الإعلان العام والإجهار برسالة عيسى وما جاء به من الآيات من عند .
وهناك خصوصية للمعجزة في باب الإعلام وهي الأهلية الذاتية للإنتشار السريع، اذ ان الأخبار على أقسام من جهة الأهمية والموضوع والحكم وطرائق التبليغ والإيصال الى السامعين، ومنهم من ينفق الأموال ويسخر الأعوان ويقيم الولائم ويرسل الوفود ويكتب الكتب والرسائل لتبليغ أمر وقد يكون الأثر محدوداً والنفع قليلاً، أما معجزة النبوة فانها تنتشر بذاتها لما فيها من التحدي للعقل الإنساني وقهره على الإلتفات اليها والإصغاء الى دلالاتها فان قلت ان عيسى قد أرسل أصحابه كما في الرواية أعلاه فالجواب من وجوه:
الأول: ان الملك هو الذي دعا عيسى الى مدينته بحجة المراجعة.
الثاني: بادر بعض الحواريين الى التبرع.
الثالث: ان هذا الإعلام تعظيم لشعائر ورجاء انتفاع الناس من قدوم عيسى.
الرابع: ارادة عيسى جذب الناس الى شريعته وان يكونوا واقية دون ايذائه.
الخامس: فيه حجة على الناس عامة، واعدائه خاصة.
السادس: ليتهيء المؤمنون ويجتمعوا لتأييده ونصرته.
السابع: الإعلام باب من أبواب نشر العلوم ومفاهيم الحق، فلابد من الإنتفاع منه واتخاذ أفضل السبل لتوظيفه في سبيل اعلاء كلمة التوحيد، وعدم تركه لأفكار الضلالة والغواية، فالى جانب المقومات الذاتية للمعجزة ينتفع من الإعلام ويستثمر لإظهارها وتوكيدها.
وفي زمان الفضائيات والسلطة الرابعة لابد من بذل الوسع لبيان مضامين الإعجاز وجعل الإعلام الحديث وسيلة لنشر العلوم الإسلامية والمعارف الإلهية.
فنظرية الإعلام لا تنحصر بالمعجزة بل تشمل بيان مبادئ الإسلام وعلوم القرآن الجهاد وبالحكمة والموعظة الحسنة ومحاربة أسباب الفرقة بين المسلمين وأفكار الكفر والإلحاد وتضع على المسلمين وأهل الحل والعقد خاصة في هذا الزمان أعباء ومسؤوليات اضافية.
وأفضل وأرقى وأسمى صيغ ومصاديق أعلام المعجزة هو القرآن الكريم الذي قام بتثبيتها بين دفتيه وفي أذهان المسلمين ومنتدياتهم وأقوالهم وأفعالهم الى جانب تلاوتهم له، خصوصاً وان القرآن ندب الى موضوعية واعتبار المعجزة بقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ].
قوله تعالى [وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ]
بعد ذكر آية احياء الموتى ذكر عيسى آية الإخبار عما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ولقد بدأت الآية بذكر ابراء الأكمه والأبرص، ثم احياء الموتى ثم الإخبار عما في بيوتهم، والظاهر ان احياء الموتى هي أعظم الآيات وأكبرها وأكثرها في باب الإعجاز وجاءت متأخرة عن آية الطير وآيتي الإبراء.
ومعنى الإدخار متعدد ويشمل الخزن والإحتفاظ وهو أعم من الإختيار، فقد يكون عند أحدهم طعام، فيأكل الأحسن ويحتفظ بالأردء، وهذا الحفظ يصدق عليه الإدخار.
انتقل عيسى الى ذكر آية أخرى أعم من الآيات والمعجزات المتقدمة بلحاظ متعلقها من الناس، فالكمه والبرص داء موجود في كل زمان ومكان ويندر ان يمر على قرية ليس فيها أعمى او أبرص نحو الشخص والشخصين، أو انه مر عليها سابقاً وأبرء من كان فيها سقيماً ثم عاد مرة أخرى وأستحدث مرض او لا وقد أستعد أهل القرية لإستقباله لما سمعوا عنه من الآيات فأعطاه آية تشمل كل بيت وتقيم الحجة على أفراد الأسرة الواحدة داخل بيوتهم، بان يقوم عيسى باخبارهم عما طعموه من الزاد.
وهذا الإخبار من علم الغيب ولا يعلمه الا وفيه فضح للسحرة وطرقهم، والمنجمين الذين يتوسلون بعلم النجوم وأحوال الكواكب والكهنة الذين قد يدعون معرفة ما أكل وأدخر الناس، وان حاولوا السعي فيه فالخطأ فيه اكثر من الصواب، ولم يحدثنا التأريخ ان ملكاً استدعى السحرة والكهنة وقال لهم ما أكلت يوم أمس وماذا تغذيت، لا لسهولة الموضوع بل لأنه من علوم الغيب التي لم يجرأ السحرة واشباههم الغوص فيه.
لقد جاء الإعلان والإخبار لبني اسرائيل ومن مفاهيمه ومنافعه انه تحدٍ للسحرة والكهنة والملوك الذين يستمعون اليهم، وهذا من الأسباب التي تؤلب هؤلاء على عيسى لذا سعى جاهداً للإحتراز بعامة الناس والفقراء وأهل القرى وغاب عن أعين السلاطين ليحدث ثورة في الكيانات السياسية والإجتماعية والروحية.
آية الأكل
يعتبر الأكل من المباحات فقد اذن للإنسان ان يأكل الطيبات من الرزق الحلال، وسخر له أسباب ومصادر الكسب، وخلقه بهيئة تساعده على السعي وطلب الرزق، وجعل العقل وسيلة للتمييز والإختيار والإنتقاء.
والأكل حاجة لنفس وبدن الإنسان وبه يتقوم وجوده اليومي، وهو شاهد حاضر على لزوم الخضوع والخشوع لله تعالى لأن الحاجة ملازمة للإمكان وما كان ممكناً فهو حادث، و هو الذي خلق الإنسان وسخر له أسباب الرزق الأمر الذي يملي عليه الشكر لله تعالى على نعمة الخلق وتهيئة أسباب البقاء وتوفير نعمة الأكل والتمكن منه .
واذ جاءت المعجزات السابقة بخصوص خلق الطير وابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى، جاءت هذه المعجزة لتدخل كل بيت وتجعل العوائل والنساء والأولاد اطرافاً في المعجزة وشهوداً على صحتها ومخاطبين بالإقرار برسالة عيسى .
لقد أخترقت الآية الحواجز التي يجعلها الرجال بين عوائلهم وبين شؤون التدبير والسياسة لتدخل العقيدة الى قلوبهم وتجعل النساء بعرض واحد مع الرجال في الإنصات الى دعوة عيسى، فبعد هذه المعجزة لم يعد بمقدور الرجال ان يجعلوا النساء بمعزل عن الدعوة، وليس باستطاعة الامرأة ان تعرض عن هذه الآيات ومضامينها القدسية.
ولقد نقلت آية الأكل نساء وصبيان بني اسرائيل الى مرتبة عالية في الفقه والمعرفة وكانوا حصناً ومنعة وحرزاً من تحريف الآيات، والتعتيم على حقائق النبوة ومصاديق التنزيل.
والظاهر ان المراد من الآية اخبارهم عما أكلوا في يومهم ونحوه وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع (تأكلون) ولم يقل لهم عيسى (انبئكم بما أكلتم) ولو قلنا قد يؤتى بالفعل المضارع ويراد منه الزمن الماضي فانه يحتاج الى قرينة صارفة عن معنى المستقبل من دلالات ذات الآية او من آية قرآنية أخرى، او نص من السنة، وقد ورد قوله تعالى في يوسف [فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ] ( ) في الإخبار عما يفعلون في المستقبل.
وظاهر اللفظ أعم من الماضي وهو شامل للأزمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل.
ومن القرائن الدالة على الماضي:
الأول : الإخبار عن الإدخار وارادة الزمن الحاضر.
الثاني : الإنباء حجة آنية دامغة , فلابد ان يتعلق بفعل قد جاؤا به ويتعذر على من لم يطلع عليه معرفته خصوصاً وان عيسى يدخل القرية، وليس له معرفة بأهلها ولم يتصل باحد منهم ثم يقوم باخبارهم عما أكلوه وإدخروه.
الثالث : لو تعلق الأمر بالزمن المستقبل لقام أهل الحسد والريب بالسعي في مخالفة ما قال فيما يخصهم ويخص غيرهم ببذل المال وشراء أطعمة جيدة لهم، وأخذ ما في ايديهم مما قال عيسى بانهم سيأكلونه، وكذا لو أخبر عن أكلهم للطعام الجيد فانهم يفعلون ما يخالفونه فيه، فجاء الإخبار عن أمر واقع وحاصل ولا يمكن التحريف والتبديل فيه.
لقد جاءت هذه الآية ليكون كل فرد من بني اسرائيل شاهداً على الآخر في ثبوت صدق نبوة عيسى ، وليحصل الإجماع في داخل الأسرة على مجيء عيسى بما لا يكون الا عن أمره تعالى، وهذه الشهادة والإجماع حصانة وحرز من تغيير أفراد الأسرة رأيهم وواقية من أستحواذ أهل الريب وأعوان الشيطان على نفوسهم.
لقد أراد لمعجزة عيسى البقاء في داخل البيوت وفي القلوب وبما يعجز السلطان وقواده والملأ من قومه عن حجبه ولتستقر نبوته في الأرض بشواهد الإعجاز وآيات التنزيل.
قوله تعالى [وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ]
لقد جعل عند الإنسان غريزة التملك وحب الذات، والخوف من المجهول والحذر من الغد الذي يترشح عنه الإحتراز والإستعداد له، وهذا الإحتراز متباين بين الناس بحسب مقاماتهم وأحوالهم وقدراتهم كما انه يختلف في الكثرة والقلة والموضوع، الا ان مسألة ادخار الطعام والزاد للغد والجدب امر يكاد يكون عاماً عند الناس بلحاظ الحاجة اليومية والطارئة وأحوال التجارة وموسم الزراعة ونحوه، كما انه شأن عائلي خاص لا يعرفه بعض أفراد الأسرة فقد يكون من مختصات ربة البيت،
وقد يطلع بعضهم عليه على نحو الموجبة الجزئية من حيث النوع والكم، فتأتي المعجزة لتدخل الى بيوت بني اسرائيل وتتعلق بشؤونهم الخاصة التي يعلم الجميع انه لم يطلع عليها احد ولم يلتفت اليها، لتجتمع هذه الآية مع آية الأكل اليومي في ذات الموضوع والحكم باعتبار كل منهما فرداً من أفراد علم الغيب يقوم عيسى بإخبار الناس عنه كشاهد على نبوته.
وجاء قيد (البيوت) للإشارة الى ان الأمر خاص غير معروف من قبل الآخرين ولو كان شيء مدخراً خارج المنزل ويعلمه جماعة لقيل بان احدهم أفشى الخبر، ولكن الآية جاءت بما يخص البيوت والشأن العائلي ,وفي خصوص أمور صغيرة من الإهتمام اليومي للإسرة وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في قوله تعالى [وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ] قال: بما اكلتم البارحة من طعام وما خبأتم منه.
وأخرج عن سعيد بن جبير قال: “كان عيسى يقول للغلام في الكتاب ان أهلك قد خبؤا لك كذا وكذا فذلك قوله وما تدخرون”( ).
آية الإدخار
لقد شاء ان تتعدد مواضيع معجزات النبوة لتشمل نواحي الحياة المختلفة، وتأتي بما يبهر العقول ويجعل الناس في دهشة وانجذاب اليها لتستولي على شطر من أحوالهم الخاصة، وتأتي آية الإدخار ملازمة لآية الأكل لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، فكل منها يتعلق بالأسرة والواقع اليومي والمعاشي، وتظهر الآية ان بني اسرائيل كانوا في سعة من العيش بحيث يكون غذاؤهم متنوعاً، ويستطيعون الإدخار منه الى اليوم التالي والغد مطلقاً.
وقال الرازي: في هذه الآية قولان:
وروى السدي انه كان يلعب مع الصبيان، ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم وكان يخبر الصبي بان امك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي الى اهله ويبكي الى ان يأخذ ذلك الشيء، ثم قالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع الساحر…) الخبر.
والقول الثاني: ان الإخبار عن الغيوب انما ظهر وقت نزول المائدة، وذلك لأن القوم نهوا عن الإدخار، فكانوا يخزنون ويدخرون، فكان عيسى يخبرهم بذلك( ).
ولكن الآية أعم وخطاب عيسى فيما موجه الى بني اسرائيل عموماً وفي مقام التحدي واقامة البرهان والدليل على صدق نبوته، وقال (وانبئكم) وليس أخبر صبيانكم بما تدخرون، أي ليس من تباين وتعدد في شخص الذي ينبئه عيسى والذي يدخر الزاد، بل هو متحد فيقول للشخص أكلت كذا، وأدخرتم كذا , ويخبر الكبار والصغار، والرجال والنساء لعموم الآية والبرهان.
اما بالنسبة للقول الثاني أعلاه, وان الآية تتعلق بوقت نزول المائدة فهو بعيد، لأن المائدة نزلت على نحو القضية الشخصية وهي آية ومعجزة مستقلة جاءت عن سؤال من الحواريين.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاصى قال “كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لاحدهم تريدان أخبرك بما خبأت لك أمك فيقول نعم فيقول خبأت لك كذاوكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها اطعميني ما خبأت لى قالت وأى شئ خبأت لك فيقول كذا وكذا فنقول من أخبرك فيقول عيسى بن مريم فقالوا والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت واغلقوا عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال يا هؤلاء كأن هؤلاء الصبيان , قالوا لا انما هؤلاء قردة وخنازير قال اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك”( ).
نعم ورد قول منسوب لابن عباس في قوله تعالى [تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا] ( ) أي يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم.
والأرجح القول بان المراد هــو العيد لأهــل زمانها ومن يأتي بعدهم، كما انه لا ملازمة بين الأكل منها والإدخار لأن كلام عيسى جاء على نحو التحدي الشامل لكل بني اسرائيل فتشمله نظرية عموم الآية، وانه أراد ان يجعل بني اسرائيل يلتفتون الى نبوته وما فيها من الإعجاز.
لقد جعلت هذه الآية صبيان بني اسرائيل يحفظون هذه المعجزات ويصدقون بها ويتركونها ارثاً كريماً لأبنائهم فمن فاته الإيمان منهم فان ابنه يؤمن بعيسى ويصدق برسالته.
فآية عيسى عامة من وجوه:
الأول: لغة الخطاب وتوجهها الى بني اسرائيل من غير تقييد بسبط او جماعة ولو أهل قرية منهم.
الثاني: ان هذه الآيــة تأتي ابتــداء بخصــوص الطــعام المخزون وقد تكون مجتمعة مع ما يؤكل في ذات اليوم او ما قبله لتمام الحجة.
الثالث: اختيار آية وموضوع للمعجزة لم تصل اليه اخبار السحرة والمنجمين سواء باذنه او بشموله وسعته.
ولم ترد مادة أدخر الا في هذه الآية وكذا مسألة الإخبار عن الأكل والإدخار مما يدل على عظيم منزلة عيسى عند وفضله سبحانه على بني اسرائيل في تعدد الآيات والإنذارات والنعم.
اذ ان مسألة الإنباء عن الأكل والإدخار نعمة عظيمة من عنده تعالى لجذب بني اسرائيل لمقامات العبودية والخشوع لله تعالى.
نظرية الإستيعاب
تأتي المعجزة النبوية لهداية الناس، ودعوتهم للإيمان، وترى أسباب التكامل ظاهرة فيها، ولا يستطيع أحد الإشكال او التشكيك بموضوع صدورها من عنده تعالى، فيسمع بها الملك والأمراء او يرونها فيقابلونها بالتسليم والخضوع، وتكون في احيان كثيرة علة لإيمان أمة وشعب ودولة وان جاء هذا الإيمان لاحقاً، ومن أجل ان تكون المعجزة ثروة عقائدية وتركة وارثاً للأجيال المتعاقبة تأتي شاملة لموضوعها فلا تحصل في طرف وصفة او فرد دون آخر، فاخبار عيسى عن الإدخار مستوعب لكل ما يدخره بنو اسرائيل من وجوه:
الأول : ما يدخره رب الأسرة.
الثاني : ما تخزنه وتحفظه الزوجة من الزاد والطعام.
الثالث : ما تشترك العائلة في حفظه وادخاره لأن الصبيان ايضاً يحبون الإدخار والخزن، سواء الزائد عن المؤونة اوغيره، وان كانوا في موضوع الحاجة الآنية أقل صبراً وأكثر ميلاً للأكل في الحال منه للإدخار، ولإستيعاب المعجزة لموضوع الإدخار فانها تشمل ادخار الحنطة والشعير واللحوم المجففة ونحوها، كما يشمل الإنباء بيوتات الأغنياء والفقراء على حد سواء، اذ أن الإيمان وتلقي الآيات بالقبول لا ينحصر بفئة دون أخرى، ويمكن ان نسمي هذه النظرية نظرية الإستيعاب ومثلها مسألة ابراء الأكمه والأبرص وشمولها لكل أعمى وأبرص يأتي الى عيسى او يذهب له عيسى في قريته وبلدته، وحديثه مع الراعي وإحياؤه الشاة والبقرة يدل على وصوله في دعوته ورسالته الى ما هو أعم من القرية , وقيامه بقصد الأشخاص في المراعي.
ان سياحة عيسى في الأرض دليل وشاهد على ارادته تعالى لإستيعاب المعجزة لأفرادها ومصاديقها، وهي رشحة من فضله واحسانه ورأفته بالناس جميعا.
ولا يتعارض قيد (في بيوتكم) مع هذه النظرية بل هو قيد توضيحي بياني لمعرفة موضوع الآية وانها لا تتعرض للسلطان وما يدخره في مخازنه وما يعده لحروبه وغزواته ودفاعه، اجتناباً للفتنة والتشكيك وأقاويل أهل الحسد.
وتجعل آية الإدخار النساء وربات البيوت ضمن المخاطبين في دعوة عيسى الى الإيمان، لقد اراد عيسى اشراكهن وتوجيه الخطاب التكليفي لهن، للإقتداء بمريم عليها السلام في الصلاح والإيمان والتقوى ولكن هناك حواجز اجتماعية وعرفية بينه وبينهن.
فجاءت آية الأكل والإدخار، لتبادر المرأة الى الإيمان وتحث زوجها على التصديق بنبوة عيسى وتمنعه من الجحود والإنصات للجبارين والمعاندين، ولتكون المرأة حرباً عليهم تنقض ما يكيدون وتفضح بصلاحها ما يمكرون لا أقل في بيتها وبين صويحباتها، وبآية الطير والإدخار وصلت المعجزة الى ربات الحجال وجعلتهن عضداً للنبوة وحربا على الطواغيت، فاذا عاد الرجل الى بيته متأثراً بافتراءاتهم فان صلاح المرأة وايمانها يعيده الى الرشد لأنها لم تقع تحت تأثيرهم, وليس لها عندهم حاجة مباشرة كما انها بعيدة نوعاً ما عن سلطانهم.
والخطاب بلحاظ قيد (في بيوتكم) يحتمل وجوهاً:
الأول: انه خاص بالرجــال، وما يقـومون بخزنه وحفظه في بيوتهم.
الثاني: فيه اخبار عن اشياء خزنوها في بيوتهم على نحو الخفاء والستر.
الثالث: ان عيسى وجه خطابه الى الرجال والنساء من بني اسرائيل وانه كان يجتمع بالرجال والنساء في وقت واحد، ويخبر كلاً منهم بما يدخر في بيته، ويفاجئ الرجل بان امرأته تحتفظ بزاد وطعام لا يعلم به من جهة النوع او المقدار، وهي على يقين ان لا احد يعلم بموضوع الإدخار الا ، وكذا بالنسبة للرجل فان له خصوصياته التي يخشى ان يطلع عليها غيره، فيأتي عيسى بالمعجزة ليجعل كل واحد من الزوجين يقر بالآية ويذعن للمعجزة ويستجيب لعيسى في دعوته.
الرابع: ان عيسى يخبرهم بما هو مدخر في بيوتهم مما يعلمون به وما لا يعلمون فيأتون الى أزواجهم وأمهاتهم ويخبرونهن بما محفوظ ومدخر عندهم وعندما يسألون عن كيفية معرفة الأمر يقولون ان روح هو الذي أخبرهم بالأمر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ويمكن حصولها على نحو الإنفراد او الإجتماع، ويبدو ان الإدخار في البيوت أمر يوليه بنو اسرائيل آنذاك عناية خاصة سواء باعتباره من التدبير بتقسيم الطعام اليومي واختيار وعزل بعضه لليوم التالي او بالإستعداد في توفير مؤونة الشهر او السنة، وقد وردت نصوص باستحباب توفير مؤونة سنة في البيت.
ومن الآيات والعلامات في هذه الآية ان قيد (باذن ) لم يأتِ في خاتمة الآية وبعد ذكر جميع المعجزات، فمع تكرر قيد الإذن الإلهي في الآية، فان معجزة عيسى في اخبار بني اسرائيل عما يأكلون وما يدخرون جاءت بعدها معاً، وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن الأكل والإدخار أمر رزقه تعالى لعيسى على نحو الإبتداء والإطلاق وان كل فرد من الأخبار لا يتوقف على اذن خاص، فألإذن موجود اصلاً فهو من الإذن العام بحسب (قانون الإذن) الذي أسسناه في هذه الآية.
الثاني: شمول قيد الإذن الإلهي لهاتين المعجزتين وكل فرد منهما بلحاظ نظم الآية، وعمومات الإذن الإلهي، فيشملهما بالتبعية والإلحاق ولابد من اذن خاص بكل واقعة يخبر بها عيسى شخصاً او جماعة بما أكلوا او ما أدخروا.
الثالث: العنوان الجامع للعام والخاص , فيأتي اذن عام مقارن للإذن الخاص في أفراد الإخبار عن الأكل والإدخار.
قانون “الإذن”
لقد خلق السماوات والأرض بمشيئته وارادته، ومن ربوبيته وسلطانه انه لم يفوض أمرهما الى أحد من الخلائق، ليبقى التوحيد في الإرادة التكوينية وعائدية التصرف المطلق في الخلائق له تعالى واختصاصه بتعاهد وحفظ الحياة والكائنات.
ولقد خلق الإنسان من أجل عبادته والإمتثال لأوامره، لتكون هذه العبادة علة مادية لحفظه ونزول الرزق والنعم له، وارشاد الإنسان للعبادة لم ينحصر بالخلق والفطرة بل تفضل سبحانه وبعث الأنبياء وأنزل الكتب للهداية والبشارة والإنذار، ولازمت المعجزة الأنبياء لتكون شاهد صدق على نبوتهم، وسبباً لإنقياد الناس لما جاءوا به من عند .
ومن خصائص المعجزة انها أمر خارق للعادة لا يمكن ان يحصل بالأسباب المادية والعلمية المتعارفة، وتظهر فيها مفاهيم القدرة والمدد الإلهي، فهي ليست من عند النبي او مبتكراته بل سلاح روحاني من عالم الغيب جعله في يد النبي فلابد ان يكون باذن وبرخصة وأمر منه سبحانه، وهذا القيد للمعجزة نسميه (نظرية الإذن) ولا ينحصر موضوعها بالأنبياء بل يشمل الملائكة في نزولهم الى الأرض بالتبليغ والكتاب والآية كما في نزول جبرئيل بآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزولهم متعددين بالبشارة كما في نزولهم بالبشارة على مريم وزكريا عليهما السلام او نزولهم بالعذاب كما في قوم لوط وصالح عليهما السلام.
ان هذا القانون عام وشامل للآيات والبراهين التي يأتي بها الأنبياء سواء جاء على نحو الوحي او التنزيل ويمكن ان نقسم الإذن في المقام الى قسمين:
الأول: الإذن العام: ويتغشى هذا الإذن جميع أفراد المعجزة، وبامكان النبي ان يأتي بمصاديقها بالإذن الأول العام من غير حاجة الى اذن خاص.
الثاني: الإذن الخاص: ويتعلق بكل فرد من أفراد المعجزة، اذ ان هذا الإذن انحلالي يحتاج كل مصداق من مصاديق المعجزة اذناً خاصاً به سواء يأتي متقدماً وسابقاً او مقارناً له.
ويمكن القول ان معجزات عيسى في هذه الآية من القسمين وان صيرورة الطير من الطين وابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى من القسم الثاني.
اما الإخبار عن موضوع الأكل والإدخار فهو من الإذن العام الذي تفضل به سبحانه على عيسى، ولا يعني هذا التقسيم التباين التام بين القسمين والله أعلم بالمصالح والمفاسد.
وكل من القسمين تشريف واكرام للنبوة وشاهد على تفضيل الإنسـان من بين الخــلائق، وتوالي النعم ومــصاديق اللطف الإلهي عليه.
وقد يجتمع القسمان في فرد واحد من أفراد المعجزة فيكون لها اذن عام واذن خاص كما هو ظاهر في اعلان عيسى وخطابه لبني اسرائيل الذي يعني على الظاهر اذناً عاماً بابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى، ثم يأتي الإذن الخاص في واقعة وآية أخرى , لأن الأمر من الإرادة التكوينية ومن مختصاته سبحانه اذن به لعيسى لهداية الناس، بالإضافة الى ما في اعلان عيسى للإذن والتوكيد عليه والمنع من اتخاذه الهاً او نعته بالسحر ونحوه.
قانون الحاجة
من الإعجاز في الآية العرض التأريخي والتوثيق القرآني لمعجزات عيسى ، وهي مناسبة وشاهد على حاجة الأمم الى توثيق تأريخها ومواثيقها وليس من جهة لهذا التوثيق الا القرآن من وجوه:
الأول : انه كتاب نازل من السماء، ولا يمكن للناس ان يركنوا الا له لما فيه من بعث للثقة والسكينة في النفس، واذا كان الموثق قانوناً او كتاباً وعهداً، كتبه ملك وسلطان او جماعة او قبيلة فانه لا يلبث ان ينسى ويعرض عنه الناس مع أو قبل انقضاء دولة كاتبه، او ان يرمى بالضعف والميل الى جهة مخصوصة، فاقتضت مصلحة ومنفعة الناس ان يكون الموثق سماوياً لقطع الشك ودفع الوهم وجذب النفوس اليه.
الثاني : عدم طرو التحريف والزيادة والنقيصة على القرآن مما يعني ان مضامينه صحيحة وتامة وفيها العبرة والموعظة.
الثالث : لقد جعل الإنسان محتاجاً، والإحتياج من خصائص الإمكان فكل ممكن محتاج، وتفضــل ســبحانه مرة أخرى وجعل حاجة الإنسان اليه دون غيره، ثم أنعم عليه وهيء له أسباب كفايته وسد حاجته وجعله يستغني عما سواه , قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) وجعل بينه وبين العباد واسطتين هما النبوة والتنزيل، وأفضل مصاديق النبوة والكتاب، خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، اذ جاء القرآن جامعاً لمواثيق الأنبياء وشاهداً على الأمم وجاعلاً من قصصها عبرة وموعظة، عبرة للذات والغير، للمؤمنين والكافرين.
ان دراسة تأريخ الأمم حجة ومناسبة لإقتباس الدروس واستنباط الأحكام وتهذيب النفوس ومانع من التردي في مسالك الضلالة، وليس من طريق لمعرفتها على الوجه الأتم والصحيح الا من التنزيل فهو حاجة لصلاح المجتمعات ووسيلة لإختيار سبل الرشاد والإيمان، وتشمل الحاجة الى القرآن أمور العبادات والمستحبات، ومعرفة الأوامر والنواهي التي جاء بها لذا فان كل انسان يحتاج الى القرآن.
ونسمي هذه القانون (قانون الحاجة) أي الحاجة النوعية العامة للقرآن، ويمكن تأسيس فروع متشعبة لهذا القانون بلحاظ الموضوعات والأحكام.
وتبدو الحاجة للقرآن في هذه الآية متعددة لتشمل:
الأول : الأنبياء بتوثيق وذكر قصصهم وجهادهم في سبيل .
الثاني : الإخبار السماوي عن معجزات الأنبياء وفيه امضاء لها وتصديق لاحق في زمانه لما جاء به الأنبياء من عند ، فعندما ينتقل النبي وأصحابه الى الرفيق الأعلى قد تتسع دائرة الشك والريب وتظهر الغلبة لأهل الضلالة والكفر، فجاء القرآن لمنع هذه الغلبة وابقاء الكافرين مدحورين خائبين، وعاجزين عن ابطال أي معجزة من معجزات الأنبياء.
الثالث : الحجة على بني اسرائيل فيما رزقهم من النعم.
الرابع : فضح أعداء عيسى ومن تصدى للمعجزة.
الخامس : الإخبار عن عدم امكان التعتيم على المعجزة او ستر الآيات التي جاء بها الأنبياء.
السادس : انتفاع المسلمين والأجيال اللاحقة والى يوم القيامة من معجزات الأنبياء، فالقرآن يضعها امام أعينهم ويجعلها حاضرة عندهم.
والآية وثيقة تأريخية فيها مسائل:
الأولى: ان عيسى بعث الى أمة ومجتمع حضــري مستقر، فهو لم يبعث الى مجتمع بداوة، وفيه اشارة الى جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في التبليغ في الجزيرة ,والمدد الإلهي في انتصار الإسلام في مجتمعات الحضر والبدو على حد سواء.
الثانية: استطاع عيسى ان يلتقي مع الناس وجهاً لوجه من غير حواجز من السلطان او الرهبان او الرؤساء والمليين، وما عنده من الآيات يجعل من المستحيل على جهة دنيوية وبشرية ان تقف برزخاً ومانعاً بينه وبين عموم الناس، خصوصاً وانه بادر الى السياحة في الأرض واستباق الزمن والتواري عن عيون الظالمين والحاسدين لأن الذي يكون بحاضرتهم وبجوارهم سرعان ما يتلقى أذاهم وشر حسدهم وكيدهم لغلبة النفس الغضبية والشهوية عندهم ,اما لو كان بعيداً عنهم فان الأخبار تأتيهم على نحو الموجبة الجزئية لإنشغالهم بواقعهم اليومي , وغيابه عن أبصارهم ,ومع هذا فان كيدهم ومكرهم بعيسى لم يفتر او يسكن.
الثالثة: وجود موضوع للإدخار بمعنى انه لا يقول لأفراد منهم انكم تدخرون شيئاً وعلى نحو الكثرة، اذ ان الآية أخبرت عن حصول الإدخار على نحو عام ومتعدد ومستغرق لأفراد وأسر بني اسرائيل مما يدل على ان عيسى جاء على أمة تتصف بالسعة والثراء وهو ظاهر من قراءة بعض أسفار التوراة , ومن آيات القرآن في كثرة النعم على بني اسرائيل , وهذه السعة قد تجعل الإنسان يبتعد عن أسباب الهداية والإيمان فكانت رسالة عيسى فضلاً الهياً على بني اسرائيل لإعادتهم الى الهدى ولمنعهم من جعل النعم برزخاً دون الذكر والعبادة.
الرابعة: الآية اعلان رسالي بان الإيمان والإعجاز دخل البيوت وأستقر فيها بالإخبار عما يأكل أهلها ثم ما يدخر فيها من الزاد، اما ايمان أهلها بالنبوة والرسالة فهو فرد لاحق لهذا الحضور والدخول، وعليه يتوقف العقاب والثواب، فآية الأكل وآية الإدخار دخلتا كل بيت من بيوت بني اسرائيل سواء التي أخبر عيسى أهلها او لم يخبرهم بل سمعوا بالآيات بشواهد الجيران والقرى القريبة وآمنوا وصدقوا بها.
واخبار عيسى على وجوه:
الأول: اخبارهم بما أكلوا.
الثاني: إنبائهم بما أدخروا.
الثالث: الإخبار عن الأكل والإدخار معاً، فيأتي الشخص او الأسرة ليقول لهم أكلتم اليوم كذا وأدخرتم عندكم او للمستقبل كذا.
الرابع: عدم شمول الإخبار لكل بيت من بيوت اسرائيل، لا لوجود المانع من طرف الآية، بل ان بعضهم لم يلتقِ بعيسى ولم يسأله ولكن هذا الفرد قامت عليه الحجة من خلال أخوانه وجيرانه وأقاربه واصدقائه الذين أخبرهم عيسى وصدق ما أخبر به ومطابقته للواقع, والذي لم يختلف معه بشيء قل او كثر في الكم او الكيف اوالنوعية.
قوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ]
اعجاز آخر في اعلان عيسى , وفي هذه الآية القرآنية من جهة نظمها ودقة مضامينها وصدق كلماتها وعدم تفويق آية من الآيات التي يتضمنها اخبار عيسى لبني اسرائيل، لقد جاء القرآن لبيان حقائق وعلوم الغيب وما هو خاص بالأنبياء ليكون وثيقة سماوية لتشريف الأنبياء وعونا على احياء معجزاتهم موضوعاً وحكماُ والإنتفاع العقائدي والأخلاقي منها.
لقد ذكر عيسى أموراً عظيمة لا يقدر عليها الا لذا حرص على التقييد بأمور:
الأول: أنها آية من عنده تعالى، وجــاء بصــيغة المــفرد آية من ربكم مع تعدد ألآيات ومصــاديق النعم للإخبــار عن عظيم قدرته تعالى وانه سبحانه يهب الكثير والعظيم من غير ان تنقص خزائنه.
الثاني: ان هذه الآيات والمعجزات باذن وأمره ومشيئته.
الثالث: تكرار ذكر اذن وجعله شرطاً وقيداً لازماً للآيات.
والإخبار عن عدم امكان حصول الآية الا بمشيئته تعالى ولابد من مقابلة الإذن ببعث هذه الآية لبني اسرائيل بالشكر والصلاح والإستجابة منهم أفراداً وجماعات.
الرابع: تحذيرهم من البطش والكيد به لوجوه:
الأول: انه رسول، والرسول مأمون في جميع الشرائع والقوانين والأعراف الوضعية في الممالك وعندالجماعات، فيقوم بتبليغ رسالته ونقل ما أمر بايصاله الى الطرف الآخر.
الثاني: ان الرسالة من عنده تعالى وتقتضي موازين العبودية اكرام الرسول، وهي دليل على أهليته وعظيم منزلته عند وانه أفضل اهل زمانه.
و(ذلك اسم اشارة للبعيد ويراد منه هنا أمران:
الأول: التفخيم والتعظــيم للمعجزات التي جــاء بها عيســى .
الثاني: الإشارة الى الآيات والمضامين القدسية التي جاءت بها وقد تقدم ذكرها في مفهوم الآية اذ بلغ عددها على نحو الإستقراء إثنين وعشرين مضمونا بما فيها اعلانه هذا ,وبيان ان هذه المعجزات آية منه تعالى.
ولقد إبتدأت الآية الكريمة بإعلان عيسى انه جاء بآية من عنده تعالى وختمها بلفظ آية، واللفظ واحد، وهل المعنى متحد ام متعدد فيه وجوه:
الأول: اتحاد المعنى في الموضعين والمراد آية من عنده تعالى.
الثاني: التعدد وان المعنى المراد من لفظ آية في خاتمة الآية غير المعنى الأول.
الثالث: المعنى الجامع للمتحد والمتعدد، وهو الأرجح، وفيه مسائل:
الأولى: المراد من الآية في أول هذه الآية ذات المعجــزة وموضوعها، اما الثاني الذي جاء في خاتمة الآية فيعني حكم ودلالة المعجزة.
الثانية: توكيد نبوة عيسى وان هذه المعجزات شاهد عليها.
الثالثة: لزوم التصديق بنبوته وكأنه من المعلول الذي لا يتخلف عن علته.
الرابعة: الآية دعوة لنصرة عيسى وتأييده، والتصدي لمن يعاديه ومن وظائف الناس أزاء الآية صيانتها وحفظها وتعاهدها وعدم السماح بالتعدي عليها.
ولكن الناس ينقسمون أزاء الآية الى أقسام متعددة هي:
الأولى : المصدق بها، والذي يكتفي بمرتبة التصديق.
الثانية : الناصر لها، الذي يجمع مع التصديق النصرة والعون.
الثالثة : المكذب والمشكك بها.
الرابعة : المعادي لها والذي يحارب الآية وأهلها حسداً وعناداً.
الخامسة : المتردد الذي لم يتخذ موقفاً.
ولكل قسم من الأقسام مراتب تشكيكية متباينة قوة وضعفاً، لقد أراد عيسى في هذا الشطر من الآية أموراً:
الأول : ان يكون بنو اسرائيل انصاراً واعواناً له.
الثاني : جاءت الآية للتذكير والتنبيه والتحذير من الإعراض عن الآيات.
الثالث : للتوكيد على المضامين القدسية , والغايات السامية التي جاءت من أجلها هذه الآية.
ولم ينتقل عيسى الى الشطر الآخر فيما آتاه وهو التصديق بالتوراة مع انه اعجاز ايضاً، بل وقف عند الآيات الحسية التي تؤكد نبوته فأخبر انها حجة وعبرة وموعظة.
وقوله (لكم) سور جامع وخطاب موجه الى:
الأول : بني اسرائيل كافة.
الثاني : كل فرد من بني اسرائيل باعتبار ان الخطاب انحلالي , ينحل بعدد الذين يسمعون النبأ ويرون الآيات.
الثالث : الى الأجيال المتعاقبة من بني اسرائيل.
الرابع : الى الناس كافة بواسطة بني اسرائيل ولأن الآيات ملك للبشرية عامة.
والأصح هو الوجه الرابع من غير ان يتعارض مع خصوصية كل وجه من الوجوه الثلاثة الأخرى التي تتداخل معه.
قانون “المشتركات”
بفتح الراء وهي التي يشترك فيها الناس ولا تكون ملكاً خاصاً، والتي تكون منافعها عامة، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الناس شرع سواء في الماء والنار والكلأ.
فكما ان الناس جميعاً بعرض واحد في الإنتفاع من المباحات الثلاثة أعلاه، فكذا بالنسبة للآيات والمعجزات التي يأتي بها الأنبياء فانها ملك عام للناس كافة وان كانت بعثة النبي صاحب الآية لقوم مخصوصين او قرية معينة او بلد ما، وتتجلى عموم الملكية للآية في وجوه:
الأول : انها هبة وفضل منه تعالى، وهو سبحانه يعطي بالأوفى والأتم والأعم.
الثاني : تخاطب الآية العقل والنفس البشرية سواء كانت من اللوامة او الشهوية او الغضبية باعتبارها عنواناً للذات الإنسانية لإقامة الحجة والبرهان وهذا الإطلاق في الخطاب يتجلى أحياناً في انتقال أشد الناس جحوداً وكفراً الى منازل الإيمان.
الثالث : الآية النبوية جزء من تراث الإنسانية، يتناقلها الناس كواقعة وحالة نادرة تتصف بالسمو والإرتقاء عن عالم الأسباب والعلل والمعلولات.
الرابع : تجعل الآية لنفسها منزلة في النفوس وتنتزع لها مكانة في المبادئ والتصورات لما تتضمنه من الأسرار وما تفتحه من الكنوز باعتبارها موعظة خالدة يحتاج كل علم وجيل ان يأخذ منها.
ان النفع من الآية النبوية والمعجزة سواء كانت حسية او عقلية لا ينحصر بزمان دون آخر، ولا أمة دون غيرها، بل هو باقِ ما دامت السماوات والأرض، ويمكن ان نسمي هذا القانون قانون “المشتركات” أي ان كل آية من آيات الأنبياء هي ملك مشترك للناس جميعاً ينهل منها كل شخص وجماعة وأمة، ومن الآيات في المقام انك لم تجد من يقول على سبيل التعيير ان تلك الأمة أقتبست واستقرأت علوماً وأحكاماً من آيات نبيهم، بل انه محط فخر واعتزاز لكلا الفريقين.
والإشتراك في آيات النبوة يختلف عن الإشتراك في الماء والنار والكلأ، والتي تنفد وتنقص عند الإستعمال ووقوعها ملكاً للأفراد ,ومن صارت في حيازته لا يجــوز منافســته فيها , فالماء والكلأ حينما يقوم شخص بحيازتــه والإنتفاع منه لا يجـوز انتزاعه منه الا بدليل شرعي.
اما بالنسبة لآيات النبوة فان الأخذ والإقتباس منها لا يسبب النقص فيها، بل يؤدي الى تثبيتها، ويؤكد اشاعتها وملك الجميع لها وهذا من الآيات في ذات الآية والمعجزة النبوية ولينتفع اللاحق والمعدوم منها مثلما انتفع منها السابق , وتكون حجة حاضرة على كل من يصل سن التكليف والبلوغ.
قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]
آية اعجازية أخرى من وجوه:
الأول: صدور الكلام من رسول بعثه بآيات باهرات.
الثاني: بعد الإخبار عن الآيات والتحذير من الإعراض عنها ذكر عيسى موضوع الإيمان وما يترتب عليه من الأحكام.
الثالث: جاء ذكر صفة الإيمان بصيغة الشرط بحرف الشرط الجازم (إن) في اشارة الى ضرورة الإيمان كمقوم لمعرفة الآيات والتصديق بها.
الرابع: الآية تذكير بالإيمان، ولزوم احياء مضامينه بين الناس ليكون مقدمة ونتيجة للآية والمعجزة.
الخامس: يختلف المؤمن عن غيره في تلقي الآيات، اذ انه يقابلها بالتصديق ولغة الفقاهة والفهم، اما الكافر فيبقى مصراً على الجحود والعناد، ومن مفاهيم خاتمة الآية ان غير المؤمن لا ينتفع من هذه الآيات.
السادس: في الآية تعريض ببني اسرائيل، وتفسيره ظاهر بالوجدان اذ ان الملأ منهم قابلوا الآيات بالإفتراء على عيسى وأمه، وقد تقدم ان الراعي يرى آية احياء الشاة بعد ذبحها، ويجحد بها، انها سنة أهل الضلالة والكفر قال تعالى [فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ]( ).
السابع: لابد من الإيمان بالله كشرط ومقدمة لإستحقاق تلقي الآيات والمعجزات والتصديق بالنبوات وانه سبحانه لن يترك العباد بل يبعث لهم الرسل للأخذ بايديهم الى سبل النجاة في النشأتين.
الثامن: في الآية تذكير لما جاء به موسى من عند ولزوم التقيد بأحكام الكتب المنزلة والإيمان ببشارة موسى برسالة عيسى التي جاءت بالبراهين القاطعة والآيات التي تتلألأ من بين ثناياها مفاهيم الإصطفاء والحب.
التاسع: الإيمان هو ارتباط خاص بين العبد والخالق يتقوم بالأمر بإالإقراربالربوبية والوحدانية لله تعالى.
علم المناسبة
ورد لفظ (الطير) في القرآن تسع عشــرة مرة، أربع منــها في آية الطير، اثنتين في هذه الآية، واثنتــين في آية واحدة ايضاً من ســـورة المائدة، وثلاث في داود وكيف ان الله عز وجل حشر له الطير وجعلها منشغلة بالتسبيح والذكر، وثلاث في سليمان اذ جعلها الله من أفراد جنوده.
وجاء لفظ (الطير) مرة في آية ابراهيم عليه السلام وسؤاله بعث الحياة فيهن، كما ورد مرتين في سورة يوسف في موضوع الرؤيا التي رآها الغلامان اللذان كانا معه في السجن.
كما جاءت ست مرات في بيان بديع خلق الطير واختصاصه بالطيران في السماء وانقطاعه الى التسبيح وكيف ان الله عز وجل يجعل لحم الطير من طعام أهل الجنة.
ويلاحظ في ورود موضوع الطير في القرآن كثرة عدد المرات التي يرد فيها ضمن معجزات الأنبياء عليهم السلام، لما يتصف به الطير من التحليق في السماء وعدم وجود سلطان للإنسان عليه ومع هذا فانه يسخر للأنبياء بآية منه تعالى.
وينفرد عيسى من بين الأنبياء بانه يحلق الطير باذن الله وفيه اكرام وتشريف له.
بحث بلاغي عقائدي
من وجوه البديع والبلاغة “اللف والنشر” بأن يذكر لموضوعين على نحو الإشتراك والتداخل والإجمال، ثم يأتي البيان التفصيلي وبيان الحكم او المحمول المتعدد، ويترك للعقل الفصل واعادة كل فرد الى ما يليق به، وكما ورد في قصة يوسف [إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ] ( ).
فجاء جواب يوسف ببيان تأويل كل رؤيا، وترك للسامع والقارئ ان يفصل بينهما وان يرجع كل رؤيا الى صاحبها، وانما ساغ اللف والنشر لإعتبار مضامين كل رؤيا فالأولى فيها عصر للخمر، والثانية فيها أكل للطير من الرأس ومن المنافع العقائدية لهذا التأويل انه ينمي ملكة التأويل عند المسلم ويجعله يدرك موضوعية الرؤيا وامكان وجود مصداق خارجي وتحقق واقع عملي لها من غير ترك لعمومات اعتبار الدعاء لمحو رؤيا الإنذارات.
ومع ما للف والنشر من الحسن والبلاغة وجزالة الإلفاظ فان الآية جاءت بالبيان التفصيلي الذي يمنع من اللبس ويحول دون قيام أهل الشك والريب بتحريف كلام عيسى عند عامة بني اسرائيل من يسمعه منهم ومن ينقل له الكلام، فقد أعلن عيسى صراحة ان موضوع رسالته هو جملة من الآيات البينات والدعوة الى تعالى وذكر كل آية على نحو مستقل، من غير ان تتداخل مع غيرها فلم يأتِ بلفظ يتضمن الكثرة والتعدد، وبعده يأتي بالتفصيل وذكر المحمول ويفوض الى عقول السامعين رد كل فرد الى موضوع آيته، فلقد حرص عيسى على تقديم الإخبار بانه رسول من عند ثم ذكر آية الطير، ولم يذكرها بمراحلها الأخيرة وموضوع الإعجاز والمركب من أمرين:
الأول: جعل الطين طيراً.
الثاني: تحليق هذا الطير في السماء.
بل قام بذكر مراحل الفعل الإبتدائية اولاً، ليبين لهم النسبة بينهم وبينه في المقام وهي العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء ان كلاً منهم يستطيع ان يخلق من الطين كهيئة الطير، وان ينفخ فيه، اما مادة الإفتراق فان الطير الذي يخلقه وينفخ فيه عيسى يكون طيراً باذن وهو أمر لا يستطيعه الناس وان اجتمعوا.
وجاءت صيغة المذكر فأنفخ فيه ولم يقل فانفخ فيها، لبيان ان هيئة الطير عرض وموضوع الآية هو صيرورة الطين طيراً، وفيه نكتة وهي عدم تعلق الآية بهيئة الطير وحيثية خاصة بها لمنع اللبس والريب وليكون الناس على بينة من الإعجاز، فمع الحسن والبهاء في السبر والتقسيم فان الآية جاءت بالبيان التفصيلي وهو في المقام ذو حسن وقوة في المعنى والدلالة.
وصيغة المذكر للاسم المجرور في قوله تعالى [فَأَنفُخُ فِيهِ] يحتمل أمرين:
الأول: ارادة مقدار الطين الذي جعله عيسى كهيئة الطير.
الثاني: الطير الطيني من قوله تعالى [كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ].
والأصح هو الأول لقرينة قوله تعالى [فَيَكُونُ طَيْرًا] للتوكيد بان الآية لم تتضمن قسمين من الطير مجازي وهو الذي خلقه عيسى، وحقيقي وهو الذي صار طائراً في السماء، بل انها جاءت بذكر طائر واحد على نحو الحقيقة لبيان الإعجاز في آية الطير وفضله تعالى على بني اسرائيل واعانتهم على الوصول الى مراتب اليقين بالآية ورسالة عيسى وان تباينت مداركهم، ومع امكان المجيء بقيد باذن الله في خاتمة الآية وانبساطه على جميع موضوعاتها أي الإجمال في النشر بان يذكر المتعدد، ثم يؤتى بالحكم والقيد الذي يشمل الجميع وهو حسن ويزيد الكلام انسجاماً، ولكن المقام يستلزم التوكيد على ان الخلق بيده تعالى ولزوم عبادته.
ومنع الغلو بعيسى وانه رسول يبين لبني اسرائيل الآيات لتكون برهاناً على رسالته ودعوته الى شريعته والاحكام التي جاء بها لصالح ومنفعة بني اسرائيل في الدنيا والآخرة لذا تكرر قيد (باذن الله) في الآية ليضفي هذا التكرار عليها صبغة تأديبية ارشادية لا تنحصر بموضوع الغلو وعدمه، بل انها دعوة لإظهار الخشوع لله والتسليم بعظيم قدرته وسلطانه.
الإنسجام
من وجوه البديع “الإنسجام” وهو ان يأتي الكلام سهلاً منسجماً خالياً من التعقيد، وتراه منحدراً سائغاً لا يرهق الأسماع، عذب الألفاظ كأنه الماء الجاري، يكاد يشيد الشعر في أوزانه مع انه نثر ويتجلى الإنسجام بأبهى صوره في لغة القرآن، وكل آية منه مدرسة في البديع وباب الإنسجام , وقد قام بعض علماء البلاغة بالإتيان بآيات تشبه موزون الشعر من بحر الطويل والبسيط والوافر والكامل وغيرها، ولكنه قياس مع الفارق وان التقت الآية معه فهو على نحو الإتفاق والصدفة ودليل على عمومات إعجاز القرآن، كما يختار اللفظ القرآني بعذوبة خاصة ومضامين قدسية وعقائدية متعددة، وينفرد بأثر مبارك في النفوس.
الإعراب واللغة
ومصدقاً: الواو: حرف عطف، مصدقاً: حال من فعل محذوف والتقدير أرسلت مصدقاً.
لما بين يدي: لما: اللام حرف جر، ما: اسم موصول مجرور.
بين: ظرف مكان، صلة ما، وهو مضاف، يدي: مضاف اليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه مثنى، الياء: مضاف اليه.
ولأحل لكم: الواو: حرف عطف، اللام: للصيرورة وتسمى لام العاقبة، ولام المآل، ويمكن ان تكون ايضاً للتعليل، أحل: فعل مضارع، منصوب بان مضمرة جوازاً بعد لام التعليل، لكم: جار ومجرور، متعلقان بأحل، بعض: مفعول به، الذي اسم موصول، مضاف اليه، وجملة عليكم لا محل لها لأنها صلة الموصول.
وجئتكم: الواو: حرف عطف، جئتكم: فعل ماض، وفاعل ومفعول به، والميم: علامة جمع الذكور.
بآية: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
فاتقوا : الفاء للإستئناف، وقيل انها الفصيحة.
اتقوا: فعل أمر، الواو: فاعل، اسم الجلالة: مفعول به، وأطيعون: عطف على أتقوا.
في سياق الآيات
بعد ذكر الآيات بولادة عيسى من غير أب، ومجيئه الى بني اسرائيل نبياً ورسولاً ويحمل الآيات الباهرات وكأنه ليس من فترة ومدة بين :
الأول : بشارة الملائكة لمريم بولادته.
الثاني : وضعها له.
الثالث : توليه لوظائف الإمامة والنبوة.
الرابع : اعلانه للآيات التي ملأت الآفاق والى يوم القيامة بطيب وعطر المعجزة وما تبعثه في النفوس من الشوق الى المعبود.
وجاءت هذه الآية لتتضمن شطراً آخر من نداء وبلاغ عيسى لبني اسرائيل.
وبعد الإخبارعن الآيات الحسية العظيمة التي جاء بها، أعلن عيسى آيات الأحكام التي أرسله بها، ومن الدلالات في نظم الآيات ان عيسى لم يقف عند اعلان الآيات الحسية التي جاء بها ولم ينتظر حدوثها في الواقع وتصديق الناس لها كي يخبر عن المضامين العقائدية لرسالته، بل أعقب الإخبار عنها بالإعلان عن رسالته ولزوم اتباعهم لهم، لقد جاء اخبار عيسى عن المعجزات قبل اعلانه الأحكام الشرعية، لأن الآيات الحسية مقدمة لقبول الأحكام وحجة على الناس ودعوة للتصديق بالرسول والإمتثال لما جاء به من الأحكام، وفيه اشارة الى مضامين الرحمة والتخفيف في الأحكام باستصحاب ما في الآيات الحسية من شفاء الزمنى واحياء الموتى والإخبار عن أشياء لا يعلمها الا ، وبعث الحياة في الطين.
ولم يأتِ الإخبار عن التصديق بالتوراة بعدذ كر الآيات المتتالية بل وقف عيسى عند آية الإدخار لينذرهم ويحذرهم من الجحود والإعراض عن هذه الآيات ويذكرهم بصفة الإيمان التي يجب ان يكونوا عليها، وهي عون على قبول الآيات والتسليم بها، وفيه نكتة وهي ان التصديق بالتوراة أمر يقدر عليها كل انسان، ولكن النبي يمتاز عن غيره في تصديقها لأن شهادته سماوية وكأنها تجديد لنزول التوراة ولا يتم هذا القول الا باستحضار كبرى كلية وهي اثبات نبوته اولاً، فلذا جاء بالآيات التي تؤكد نبوته وصدق دعواه ثم قام بالتبليغ وبيان الأحكام الشرعية وهو أمر لا يتعارض مع اعتبار التصديق اعجازاً مستقلاً يتجلى بالإخبار عما فيها من البشارات والعلوم.
وهذا الترتيب في ذكر الآيات اعجاز قرآني في عالم نظم الآيات، ودليل على نزوله من عند وان كنوزه لم تستخرج بعد، وانها لا تنحصر في باب واحد بل ان أبواباً كثيرة من العلم لم تفتح بعد، وكل باب منها له مصاديق وفروع لا يعلم عددها الا .
إعجاز الآية
تؤكد الآية اتحاد موضوع وأحكام النبوة وان كل رسول يأتي مصدقاً للرسول الذي قبله فيما جاء به من عند .
وتوكيد عيسى على تصديقه للتوراة يبين موضوعية التنزيل والأحكام الشرعية في حياة الناس، وان الآيات الحسية شاهد اثبات للتنزيل المقارن والسابق لها، اما المقارن فهو الإنجيل الذي تتجلى الإشارة اليه باعلان عيسى انه يحل لبني اسرائيل بعض الذي حرم عليهم، وأما السابق فذكره للتوراة على نحو التعيين.
وكما ان الآيات الحسية رحمة للناس فان التخفيف في الأحكام ونسخ الحرام بالحلال رحمة أخرى مستديمة ودائمة، وجاء التحليل بعد التصديق والإمضاء.
ومن الإعجاز ان التحليل جاء على بعض المحرمات وليس كلها، لبقاء شطر من المحرمات على حالها في كل الشرائع مثل القتل والزنا والسرقة والكذب، وهذا التبعيض وامضاء شطر من المحرمات شاهد على التصديق بالتوراة.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية “ولأحل لكم” ولم يرد هذا اللفظ الا في هذه الآية.
الآية سلاح
لقد جاء اعلان عيسى لبني اسرائيل واضحاً جلياً ويتضمن الإخبار عن مجيئه باحكام جديدة ولكنها لا تتعارض مع التوراة ولا تتنافى مع مضامينها القدسية في بعض مسائل الحلال والحرام ولقد حرص عيسى على ذكر ماهيتها وهي نسخ بعض أحكام التحريم مما يعني انها فضل منه تعالى وفيه ترغيب لهم للإنصات لعيسى واتباعه بالإضافة الى لزوم اتباعه بلحاظ الآيات الحسية التي جاء بها.
ان آية الطير وابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى حجة دامغة لوجوب اتباعه في كل ما جاء به من عند من غير ابطاء او تردد وان كانت الأحكام التي جاء بها تتضمن التشديد واستحداث فرائض تكليفية على بني اسرائيل من الصلاة والصوم والزكاة ونحوها من العبادات، فكيف وقد جاء بالتخفيف والتيسير ورفع بعض الأحكام عن كاهل بني اســرائيل جماعات وأفـراداً، وفي الآية عــون للمؤمنــين وحث لهم على التقيد بما جاء به عيسى واخلاص النية لقبول الإنجيل كما ان خاتمة الآية سلاح نبوي مبارك لما فيه من الدعوة الى طاعة والخشية منه.
مفهوم الآية
في الآية دلالة على عدم مجيء نبي من غير ان يصدق بالذي من قبله، وكأن هذا التصديق وفاء للنبوة وشكر للنبي السابق على جهــاده في سبيل ومناسبة لبعث الحزن والأسى في قلوب الذين كذبوه، ولم يصدقوا برسالته، ووعيد للذين غادروا الدنيا منها وهم على الجحود برسالته، فيأتي النبي اللاحق ليخبر عن خسارتهم وتضييعهم لما في الرسالة من نعمة النجاة في النشأتين وفيه ايضاً شكر وثناء على الذين تلقوا آيات الرسالة بالتصديق والنصرة والتأييد واخبار بانهم فازوا وربحوا الدارين، ولكن الأمر لا يقف عند التصديق بالرسالة السابقة بل يتضمن التصديق والتسليم للنبوة الحاضرة وطاعة الرسول بكل ما أتى به من عند .
لذا ختمت الآية بقوله تعالى حكاية عن عيسى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ].
وفي الآية مسائل:
الأولى: اخبار عيسى عن أحكام رسالته مع اعلانه عن الآيات والمعجزات التي جاء بها.
الثانية: دعوة الناس للإنتفاع من الآيات الحســية التي رزقه وفي نفس الوقت اخذ أحكام الشريعة منه، وتلقيها بالقبول والعمل.
الثالثة: جاءت خاتمة الآية بالأمر بتقوى وطاعة عيسى وهي طاعة لله تعالى، والجمع بينها حث على الإمتثال الأحسن والتام لما جاء به عيسى .
الرابعة: ان النبي لن يكذب نبياً آخر، بل يعلن تصديقه له وامضاء سنته وشريعته.
الخامسة: في اعلان عيسى التصديق بالتوراة ورسالة موسى بعث للسكينة في نفوس بني اسرائيل واجتناب لنفرتهم.
السادسة: اعلان عيســى عن احاطــته علماً بالتوراة وانه يحل بعض الأحكام مع علمه بمضامينها وجــزئيتها من التوراة، وفي هذا المفهوم مصداق لقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ]( ).
لقد أخبر عيسى بانه لم يغادر التوراة وانها موجودة عنده , وفيه زجر عن الجدل في مبادئ الرسالة، ولدفع وهم بان عيسى لم يطلع على التوراة، واخبار عن حضور التوراة، ودليل على تلقيه العلم بها والتفقه بأحكامها.
السابعة: الإشارة الى ان بعثة عيسى رحمة وتخفيف عن بني اسرائيل سواء الذي كان موجوداً في زمان نبوته، أوالمعدوم الذي سيأتي فيما بعد.
الثامنة: في نقض بعض أحكام التوراة مقدمة وتوطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا بالنسبة للإتيان بالإنجيل، فان تلقيه بالقبول يؤكد وجود استجابة للتنزيل.
التاسعة: توكيد عيسى لوجود قسمين متضادين من الأحكام وهما الحلال والحرام، وفضله تعالى بانتقال بعض المصاديق من طرف الحرام والترك الى الحلية والإباحة.
العاشرة: التخويف والتحذير من الصدود والعناد والكفر بالآيات التي جاء بها عيسى او مقابلته بالمعصية.
لقد حرص عيسى على توكيد حقيقة وهي انه لم يأتِ لنسخ التوراة فمع عظيم الآيات التي جاء بها فانه يجاهد من أجل تثبيت التوراة ككتاب نازل من عنده تعالى.
افاضات الآية
لقد جاء عيسى بالآيات التي تستولي على مجامع القلوب، وتجعلها غارقة بأنوار جلاله وبهائه، ومستعدة لتلقي الأوامر والنواهي، فبعد ان قام باعلان الآيات التي جاء بها من لم يخطر على بال أحد كاحياء الموتى، وصيرورة الطين طيراً أتجه نحو دعوتهم للفرار الى والإستقرار في حضائر القدس بتصديقه في رسالته، والتحلي بالفضائل التي تجعل الإنسان يصعد في مراتب السمو والرفعة.
لقد جاءت آيات عيسى عنواناً لتفضيل جنس الإنسان على الخلائق الأخرى ولتشريف واكرام بني اسرائيل على نحو الخصوص بمضامين الإصطفاء من وجوه:
الأول: خاص بنيل عيسى لدرجة الرسالة.
الثاني: عام، لبني اسرائيل، وهو على شعب:
الأولى: ان عيسى منهم من جهة الأم.
الثانية: يعتبر عيسى فخراً لهم من جهة عدم وجود أب له من وجوه:
اولاً: ان بني اسرائيل أتصلوا بعالم الملكوت من خلال مريم وعيسى، فلهما فضل عظيم على جميع بني اسرائيل يقتضي مقابلته بالشكر والإحسان.
ثانياً: ان أختار مريم لتكون وعاء للحمل بكلمة .
ثالثاً: ليس على وجه ألأرض مثل عيسى في ماهيته القدسية وتكوينه وولادته المباركة.
الثالثة: ان عيسى جاء بآياته ورسالته الى بني اسرائيل وفي مجتمعاتهم سواء أرسل لهم خاصة او للناس عامة، فانه بعث نبياً بينهم وتوجه لهم في شريعته ورفع بعض النواهي عنهم.
الرابعة: ان الإصطفاء فيض متصل لم ينقطع في يوم ما، وهو دعوة سماوية للصلاح والهداية والرشاد، ويمكن استنباط حكم ومسائل من الإصطفاء وهي ان يرأف بالمصـطفين وذراريهم ويبعث لهم بوسائط لإنقاذهم ونجاتهم، وآيات تتعاهد صلاحهم.
الثالث: الإصطفاء رحمة للناس عامة، فالآيات التي جاء بها عيسى ملك للبشر في مختلف أجيالهم وبلدانهم، ينهل منها المستضعفون ويسبح في غمراتها أهل الإيمان والعرفان، فان جحد بها أفراد وجماعات ممن رأوها بأعينهم وأدركت عقولهم انها حق وصدق وحجبوا عن أنفسهم الإيمان بها بسبب سلطان أهل الجحود والعناد
فان جعل أفئدة المسلمين في كل زمان سائحة في آيات عيسى كما ساح في الأرض لنشر الفضيلة واظهار الآية وتثبيت دعائم التوحيد، صدق بآياته الآف الملايين من أهل الأرض لتثبيتها في القرآن والإنجيل، وظهور رد فعل وانصاف مضاد لصدود أهل الكفر والضلالة.
نظرية الوظيفة
لقد بعث الله مائة وأربعة وعشرين ألف نبي الى أهل الأرض وابتدأت الحياة عليها بنبي من انبياء هو آدم وأختتمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد هبط آدم وحواء الى الأرض، وفي هبوطهما بلحاظ الترتيب الزماني وجوه:
الأول: هبوط آدم ووصوله الأرض قبل حواء للنبوة ولأنه الرجل والزوج، والمرأة تابعة لزوجها.
الثاني: هبوط حواء قبل آدم.
الثالث: هبوطهما ووطئ اقدامهما الأرض معاً.
والظاهر والمتبادر هو الثالث الا ان تكون قرينة صارفة عنه ولم تثبت، فالنبوة لازمت الإنسان في وجوده على الأرض وهــذه النبوة تتمثل بأشخاص الأنبياء وتعاقبهم في أممهم ورسالاتهم والآيات التي يأتي بها كل واحد منهم، فأزمنتهم متباينة متعددة تفصــل بينها عقـــود وحقب تأريخية، وكذا بالنسبة لأماكن بعثتــهم،فهي منتشــرة ومــتفــرقة في أصقاع الأرض وان شهدت بعض المناطق والبلدان زيادة في عدد الأنبياء فضلاً منه تعالى ولإقامة الحجة ولأنه سبحانه أعلم بالمصالح والمفاسد.
ومع هذا التباين الزماني والمكاني يجمع بين الأنبياء ما يمنع من أي اعتبار وتأثير سلبي لهذا التباين، ومن موارد الجمع بينهم:
الأول: شرف النبوة، وسمو ورفعة مرتبتها والإختيار لها.
الثاني: الإمامة والزعامة للأمم كافة.
الثالث: المسؤولية العامة للناس جميعاً بلزوم ألتصديق بنبوتهم وليس أحد من أهل الأرض عنده من المسؤوليات والوظائف العقائدية والأخلاقية والإجتماعية أكثر من النبي، ولم يستطع أحد القيام بما قام به كل واحد منهم فلا غرابة ان يتحملوا الأذى والبلاء من أهل الحسد والريب .
فلو كان النبي يترك الناس وشأنهم او يكتفي بالإتيان بالآيات لتركه الناس وشأنه، ولقربه السلاطين والملوك وأغدقوا عليه، وسخروه وما عنده من العلوم لخدمتهم وتثبيت سلطانهم وتوسعة ملكهم ومن باب المثال بالأدنى والأقل تراهم يقربون السحرة والكهنة ويجرون لهم العطايا الجزيلة مع ثبوت كذبهم وعدم صدقهم في مواطن عديدة بالتجربة والوجدان.
ولكن الأنبياء مأمورون بوظائف خاصة وسعي حثيث نحو أهداف ومبادئ سامية، والآيات التي معهم تملي على الملوك والرؤساء الإنقياد لهم واتباعهم، وهم مأمورون باصلاح الناس ودعوتهم الى الإيمان بالله واتيان الفرائض والواجبات واجتناب المحرمات.
ونسمي هذه النظرية (نظرية الوظيفة) ويمكن من خلالها الكشف عن أسرار التناحر والخلاف بين الأنبياء والملأ والملوك من أهل زمانهم، للتعارض في الغايات ولعدم تسليم الأنبياء لأهل الدنيا والسلطان، وقد عرضت قريش الأموال الكثيرة والجاه العريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ان يترك الدعوة الى ، فأبى ورفض لأن رسالته من السماء فأخذوا يكيدون له ويمكرون به ويحاولون قتله والتخلص منه كما هو معروف ومتواتر.
ومن مصاديق نظرية الوظيفة هذه الآية الكريمة فبعد ان ذكر عيسى الآيات التي جاء بها من عند ، بين لهم بما لا يقبل الشك والترديد وظائفه الجهادية، وأكد لهم انه ماضِ في السعي في سبيل وتبليغ الرسالة وحذرهم من الصدود بدعوته لهم بتقوى ولزوم الإمتثال والطاعة.
قانون “التوثيق”
من آيات الخلق والحياة الدنيا ان النبوة كيان حاضر في العقائد والمجتمعات والأخلاق والنفوس، يعرف الناس جميعاً موضوع النبوة وهي الرسالة من عند الى الناس، فيشترك في هذه المعرفة الرجل والمرأة، والمؤمن والكافر، وان كان الكافر يجحد بها لكن هذا الجحود متعدد من جهة موضوعه وأصله، فقد يكون جحود طاعة مع تحقق المعرفة عنده بعثة الأنبياء فينقسم الناس بلحاظ الإيمان بالنبوة الى:
الأول : مؤمن بالنبوة والأنبياء على نحو العموم المجموعي.
الثاني : مؤمن بالنبوة، وببعض الأنبياء دون البعض الآخر كما في اليهــود الذين لا يؤمنون بنـبوة من جاء بعد موسى من الرسل.
الثالث : كافر بالنبوة والأنبياء، وهذا على قسمين:
الأول: ان كفره بالنبوة فرع كفره بالربوبية والتوحيد.
الثاني: يقول بعدم الحاجة لبعثة الأنبياء وان لا يجعل وسائط بينه وبين خلقه، ويقع تحت هذا العنوان من يخشى الإجهار بالكفر.
وجاهد الأنبياء في مواجهة هذا الكفر وتحديه ومنع سلطانه وتأثيره على الناس، بان يقوم كل نبي بتوثيق وتصديق نبوة من سبقه من الأنبياء والرسل وما جاء به من الكتاب من عنده تعالى، وهذا التصديق يدل على اتحاد السنخية واخلاص الأنبياء بعضهم للبعض الآخر في جنب الله وطلباً لمرضاته.
كما انه تكليف وأمر إلهي للأنبياء وفيه تثبيت لنبوتهم، فمن أجل ان يثبت النبي نبوته يأتي بالآيات والشواهد الإعجازية التي بعث بها ثم يؤكد نبوة الأنبياء السابقين ويدعو الناس للإيمان بهم وتصديقهم، وفيه شهادة بصحة عمل من اتبعهم من المسلمين وخسارة من عصاهم وخالفهم من الكافرين.
وقد تقدم في علم التصديق ان الكتاب النازل شاهد على صدق الكتب الأخرى، اما قانون التوثيق هذا فيتعلق بالنبوة وان كل نبي من الأنبياء مصدق للأنبياء السابقين ومؤيد لهم ومدافع عنهم، كما انه مصدق بالكتب السماوية النازلة وشاهد على صحة نزولها من عند ، وداعية لها من غير تعارض بين هذا التصديق واعلانه للنسخ الجزئي في الأحكام.
قانون “البشارة”
لقد أراد ان يكون الأنبياء أمة في الخـير ليس بين أفرادها فصل وعزلة مع التباين الزماني والمكاني بينهم، فقد يكون بين النبي والآخر أكثر من ألف سنة ولكن الصلة بينهما تظهر جلية في التشريف الإلهي والصفة السامية والفعل الجهادي والإمامة، وتصديق اللاحق للسابق فيما جاء به من عند كما تقدم في قانون التــوثيق، ويقـوم النبي بالبشارة للنبي والرسول اللاحق ويدعو الى تصديقه بما يأتي به من عند .
وهذا علم يختص به الأنبياء وهو جزء من وظائفهم الجهادية والرسالية بين أهل الأرض، فما ان يظهر النبي آياته الا ويقوم بالتبشير بالرسول الذي يأتي من بعده لتكون هذه البشارة مقدمة لأداء الرسول اللاحق وظائفه وقيامه بالتبليغ على أحسن حال.
وفيها واقية وحفظ له ولو على نحو الموجبة الجزئية، كما تأتي هذه البشارة بواسطة الكتب السماوية لتكون حجة دائمة وعوناً لمن ينزل عليه الكتاب وللانبياء الذين هم على شريعته للبشارة بالرسول اللاحق، ولقهر أهل العناد ومنع النفس الشهوية والغضبية من الأستحواذ على الناس وتحريف الحقائق، فان قلت ان التحريف في البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد وقع في الكتب الأخرى، فالجواب من وجوه:
الأول: ان هذا القانون عام يشمل النبوات مطلقاً والرسالات كلها.
الثاني: حصول التحريف في الكتب لا يمنع من تقدمها رتبة وأثراً على الإخبار القولي من النبي، فالبشارة في الكتاب المنزل أطول عمراً، وأقوى في التأثير.
الثالث: لم يطرأ التحريف على البشارات الكتابية الا بعد مدة ليست قصيرة.
الرابع: بقاء هذا التحريف معلوماً سواء لوجود نسخ من الكتب السماوية لم تصلها يد التحريف، او لتوارث علماء تلك الملة النص الصحيح الخالي من التحريف.
الخامس: التحريف امر عرضي طارئ، خلاف الأصل والواقع، ولا يمكن ان يكون مانعاً لفضل والقوانين والقواعد التي تتفرع عن الإرادة التكوينية.
السادس: لقد جاء القرآن وفضح التحريف وأثبت بذاته صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وصار عوناً وعضداً للبشارة والله واسع كريم، فالأصل ان تكون الكتب السماوية السابقة بشارة للقرآن ودليلاً على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعندما حصل التحريف جاء القرآن ليفضح هذا التحريف ويعيد للتوراة والإنجيل نظارتهما، وكأن التحريف لم يحصل، وان قانون البشارة لم يتأثر به، ولكن الذين أرادوا تعطيل هذا القانون خسروا وخابوا وأصابهم الذل والهوان.
ولا تنحصر مواضيع وأحكام قانون البشارة بالأنبياء والكتب المنزلة بل تشمل المؤمنين من الأولين والآخرين لأنها عون لهم، فالسابقون يتطلعون الى الرسول البشارة، واللاحقون يبادرون الى التصديق بالرسول بلحاظ صفاته التي أخبر عنها الرسل السابقون و الكتب المنزلة منضمة الى الآيات التي يأتي بها وما يؤكد صدق نبوته وانه الرسول الموعود به.
وهذا القانون على وجوه وأقسام متعددة منها:
الأولى : البشارة القولية: وهي عبارة عن قيام النبي او الرسول بالإخبار عن صفات الرسول الذي يأتي من بعده , والآيات التي يأتي بها ويدعو للزوم تصديقه.
الثانية : البشارة العملية: بان يقوم النبي بما يكون مقدمة للنبي اللاحق ويمكن القول ان اخبار عيسى عن حلية بعض الذي حرم على بني اسرائيل توطئة لمجيء النبي محمد بما ينسخ بعض الأحكام في الإنجيل ويدعو الى شريعة جديدة هي الإسلام.
التفسير
قوله تعالى [وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ]
بعد ذكر آيات التحدي التي تتضــمن أرقى مفاهـــيم الإعجاز وتبين ان عالم النبوة شأن سـماوي خاص لا يمكن حصــول اللبس فيه، وان رزق عيسى ما جعل الناس يصغون اليه ويقبلون عليه بشغف وحاجة لينتفعوا من آياته للسلامة والعافية ويتلقوا دروس التوحيد ومفاهيم النبوة عن قرب.جاءت هذه الآية لتبين الماهية الشرعية لرسالته.
ولقد بدأ عيسى امامته ووظيفته الشرعية باعلان تصديقه بالتوراة وفيه مسائل:
الأولى: توكيد نبوة عيسى، والإخبار عن جانب من رسالته.
الثانية: الشهادة على صدق نزول التوراة من عند .
الثالثة: التصدي للمنكرين والمعاندين، وابطال شبهاتهم بخصوص نزول التوراة.
الرابعة: تجديد الإيمان بالتوراة ونبوة موسى .
الخامسة: منع تحريف التوراة والإخبار عن كشف ما وقع منه أي ان الآية فضح للتحريف وتحذير للذين يحاولون تغيير الأحكام الشرعية ومضامينها.
السادسة: ان كان قوم او جماعة أرادوا التحريف من أجل التخفيف في أحكام التوراة، فان التخفيف جاء من السماء بواسطة صاحب الآيات والبراهين الساطعة عيسى .
السابعة: الآية من مصاديق قانون التوثيق فمن وظائف النبي ان يصدق ما جاء به من سبقه من الأنبياء ليطرد الشك والريب فيه، ويقذف اليأس والقنوط في قلوب المنكرين والجاحدين، ويهدم كل ما أسسوه من الشبهات والشكوك
فيأتي النبي بالآيات وتنحســر مفاهيم الشــرك والجحود وينزوي رواد الضلالة، ولكن بعد معــادرة النبي للرفيق الأعلى، يعـود هؤلاء مرة أخرى بواسطة الرياء للملوك والسلاطين وخداع الناس والسعي لإيجــاد منازل لهم بين الناس بالتشــكيك بالآيات ومحــاولة تحريف الكتب السماوية ومحاولة الإجهاز على الصرح الذي خلفه النبي من ورائه في مجتمع ايماني وعقائد حق، فيأتي النبي الاحق ليبطل عملهم ويعز المؤمنين ويرجع الناس الى ايام النبوة، ومن فضل تعالى على بني اسرائيل ان عاد ذكر التوراة من جديد ككتاب أحكام ومواعظ نازل من السماء.
ومن مفاهيم تصديق عيسى للتوراة أمور:
الأول : هو الحكم والقاضــي في الكتب والرسائل الموجودة بين ايدي الناس.
الثاني : انه يكذب كل دعوى باطلة واخبار كاذب عن السماء سواء نسب الى احد الأنبياء او السحرة او الكهنة او الملوك.
الثالث : دعوة الناس للجوء اليه لمعرفة الدعوى الصادقة من الكاذبة، وفيه دلالة على اتصال نعمه تعالى على المصطفين من آل ابراهيم وآل عمران، وعلى بني اسرائيل خاصة بان جعل عندهم اماماً يتلقى العلوم من السماء ويميز لهم بين الحق والباطل.
الرابع : التوراة كتاب نازل من السماء لا يعرف كنهه وماهيته ويثبت سنخيته الا من يشاء وقد نال عيسى مقام العلم بالتوراة آيات وأحكاماً اذ علمه التوراة بنص آيات القرآن الكريم.
وقوله [وَمُصَدِّقًا] هل يعتبر من ضمن الآية التي جاء بها لبني اسرائيل كما ذكر في صدر الآية السابقة [أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] فيه وجوه:
الأول: ان التصديق بالتوراة الآية التي جاء بها عيسى ، لوحدة السياق والموضوع والحكم لغة وعقلاً.
الثاني: ليست من التصديق للفصل والتعدد في الآية، وللقدر المتيقن من معنى الآية, وهو الأمر الخارق للعادة المتعلق بما ورد ذكره في الآية السابقة من صيرورة الطين طيراً وابراء الزمنى واحياء الموتى.
الثالث: اخبار عيسى عن تصديقه بالتوراة امر مستقل بذاته قائم على صيغة الإيمان، وانه يجب على كل مؤمن ان يصدق بنزولها من عند , لذا ختمت الآية السابقة بقوله تعالى حكاية عن عيسى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ].
الرابع: اعلان التصديق بالتوراة فرع ونتيجة للآيات التي رزقها عيسى، فمن تكون عنده هذه الآيات لابد وان يدرك بالعلم اليقيني صدق نزول التوراة.
الخامس: جاء الإخبار بجذب اليهود الى رسالته ومنع نفرتهم منه وتعديهم عليه لأنهم كانوا متمسكين بالتوراة، فحرص عيسى على الإخبار عن علمه بها , وذكر ايمانه بمضامينها، وهو أمر واقع وصحيح أمر عيسى باعلانه وعدم التردد فيه لكسب ود اليهود واجتناب غضبهم وجحودهم الأمر الذي سيحول دون رؤيتهم للآيات والبراهين التي جاء بها من عند .
السادس: مما يعلمه بنو اسرائيل ان من خصائص الرسول الذي يأتي بعد موسى التصديق بالتوراة الخالية من التحريف، فأعلن عيسى عن امتلاكه لهذه الصفة، ولابد حينئذ من حملها لمعاني التحدي باظهار علوم من التوراة لم تكن معلومة قبله .
لقد أعلن عيسى انه مصدق لما بين يديه من التوراة ترى ما هي الكيفية والطريقة التي يبين فيها هذا التصديق، فيه وجوه:
الأول: هذا الإخبار والإعلان وحده هو تصديق ولا يحتاج الى بيان ومؤونة زائدة، باعتبار ان التصديق أمر بسيط.
الثاني: دعوة الناس للرجوع اليه في معرفة التوراة وأحكامها بدليل قوله [لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ].
الثالث: البيان اللاحق واخبار الناس بتفاصيل وموضوع التصديق.
لقد جاء هذا الإعلان في نظم الإعجاز واقامة البرهان على نبوته، فلابد ان يكون التصديق فرداً من أفراد الآية التي جاء بها عيسى من عند [قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] وهو عنوان اكرام لبني اسرائيل واعانة لهم على الرجوع الى التوراة على التنزيل والخالية من من التحريف وشوائب الزيادة والنقيصة.
وهذا الإعلان شاهد على ان عيسى لم يرد ابطال العمل بالتوراة، وانه كان يتجنب حصول نفرة عند بني اسرائيل أزاء دعوته ونبوته، ولكنه يفضح التحريف ويدعو الى نبذه والتخلي عنه، وعدم الرجوع الى أهله والصدور عنهم لأنهم بالتحريف وتشويه التنزيل يضعون الحواجز دون وصول الناس الى سبل الرشاد وطرق الهداية.
لذا جاء عيسى بالآيات البينات لمنعهم من صد الناس عنه وتنبيههم بلزوم القيام بوظائفهم العبادية الفردية والنوعية العامة التي نزلت من عند وتصديق التوراة حاجة نوعية لبني اسرائيل.
وهو فضل منه تعالى عليهم في تصديق التنزيل بالرســالة السماوية بعد مرور زمان طــويل على نزول التوراة، فهذه الآية نعمة أخرى على بني اسرائيل وان لم يلتفت اليها في باب تــعداد نعمه تعالى على بني اسرائيل ولكن القرآن أشار الى تلك النعـم العظيمة بقوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ومن مفاهـيم الآية انها مدح وثناء على المســلمين لأنهم آمنــوا بالقرآن وتعاهدوا آياته وجاهدوا من أجل عدم تحريفه، وهذا النوع من الجهاد إشترك فيه علماؤهم وعامة المسلمين وكانت صدورهم وعاء لحفظ آياته، و جاءت الصلاة مبرزاً خارجياً لتجديد الحفظ واتساعه وتعاهده.
ان قول عيسى انه مصدق للتوراة دعوة للإعراض عن كل ما خالف الذي جاء به من عند ، ومناسبة للتخلص من التحريف والى الأبد، وجاء القرآن لينجو التنزيل من التحريف، ويكون التصديق بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ] ( ).
فبعد ان جاء عيسى بتصديق التوراة جاء القرآن بتصديق التوراة والإنجيل مع العلو والرفعة عليهما بالنسخ والبيان، وتصديق القرآن للتوراة كفرد من الكتاب فيه وجوه:
الأول : جاء بديلاً عن تصديق عيسى والإنجيل لها لعدم اصغاء بني اسرائيل لعيسى .
الثاني : يعتبر متمماً لتصديق عيسى له.
الثالث : مصدقاً لعيسى في تصديقه بالتوراة.
الرابع : نعمة اضافية على بني اسرائيل وحجة عليهم.
الخامس : توكيد نزول الكتب السماوية السابقة.
السادس : تصديق القرآن للتوراة امر مستقل قائم بذاته لا صلة له بموضوع تصديق عيسى لها وهو رحمة لبني اسرائيل وحجة عليهم.
والصحيح هو الثاني والثالث والرابع والخامس من غير تعارض بينها لبيان عظيم فضله تعالى على الناس، وعلى بني اسرائيل خاصة وحاجتهم للقرآن كما تقدم في نظرية الحاجة.
ومن المضامين القدسية لهذه الآية تصدي الأنبياء للتحريف الطارئ على التوراة، ودعوة بني اسرائيل الى عرض ما عندهم من نسخ التوراة على عيسى وما عنده من التوراة ولا ينحصر العرض بنسخ التوراة بل يشمل الأفعال والعادات والأعراف، وهل يبعثهم عيسى على العمل بالتوراة، الجواب نعم ،الا فيما جاء به من عند من الأحكام في الإنجيل ومنها حلية بعض ما حرم على بني اسرائيل سواء كان المراد ما حرم في التوراة او ما حرمه اسرائيل على نفسه.
قانون “الوحدة”
لقد انعم عزوجل على الناس بالكتب السماوية النازلة على الأنبياء على نحو التعاقب والتعدد، ومن الآيات ان كل كتاب ينزل من السماء له اسم خاص، و يرتبط أسمه بالنبي الذي نزل عليه في آية لبيان فضله تعالى، وتعليم الناس المعارف الإلهية.
وما يدل عليه التعدد والكثرة من الإعتبار والتشريف، ولزوم الإلتفات الى التنزيل وموضوعيته في الحياة اليومية العامة.
ومع تعدد الكتب المنزلة والأنبياء الذي أنزلت عليهم تكون صلة وارتباط الناس بالتنزيل على وجوه:
الأول: التخيير، وانه لكل شخص وجماعة اختيار الكتاب والنبي الذي أنزل اليه والعمل بأحكامه.
الثاني: كل كتاب نزل الى أمة مخصوصة وليس لها ان تعمل بكتاب آخر غيره.
الثالث: الرجوع الى الكتاب المنزل والرسول في كيفية تلقي الأحكام الواردة فيما أنزل عليه، ومن هم الذين يجب عليهم ان يتبعوه.
الرابع: التعيين من السماء وفي الكتاب المنزل بان تذكر اسم الأمة التي يجب ان تعمل بأحكامه.
الخامس: العنوان الجامع والتعدد في الحكم فمرة يكون التنزيل لأمة مخصوصة وأخرى للناس جميعاً.
السادس: ارادة الناس جميعاً من التنزيل والحق ان اتباع الناس للتنزيل جزء من الغايات القدسية والمضامين التي يتضمنها الكتاب المنزل وليس لهم الإختيار والإنتقال من أحكام كتاب الى آخر الا بأمر منه تعالى بواسطة انبيائه والكتب المنزلة عند نسخ شريعة لأخرى سابقة ويكون هذا النسخ مقروناً بالآيات وتصحبه المعجزات لتكون كافية لدعوة الناس ونقلهم من الشريعة السابقة التي أعتادوها الى الشريعة الجديدة.
ولكن هذا النســخ لا يــعني وجــود تضــاد وتبـاين بين الشــريعتين او بينهما وبين الشــرائع السماوية الأخرى، فكلها تدعو الى التوحيد وتأمر بطاعته تعالى وتحث على اجتناب المعصية، ومن الإعجاز في التنزيل وحدة الموضــوع والحكم وظهور المنافع العظيمة في التقيد بأحكامه مع اعتبار الأحوال الزمانية والمصالح والمفاسد وملاكات الأفعال.
ان وحدة التنزيل وثبوت وجوه الشبه والإتحاد بين القرآن والكتب الأخرى يدل على صدق نزولها من عنده تعالى.
ومن منافع قانون الوحدة القضاء على التحريف والمنع من اتصاله ودوامه في الكتب السابقة، والإحتراز من حصوله في اللاحقة.
قانون “عدم التعارض”
مما هو ثابت في الفلســفة استحالة اجتمــاع الضــدين بلحاظ الذات، وقد يحصل تعــدد وتعارض في المراد من اللفــظ بلحاظ أحواله المتباينة من الحقيقة والمجاز والنقل الى معنى آخر والإشــتراك اللفظي والتخصيص والتقييد، ويزول هذا التعارض باعتبار اصالة الظهور وما يراد من اللفظ اما بالنسبة للتنزيل فلا تضاد ولا تعارض بين أفراده من الكتب المنزلة.
ويمكن اعتبار الوحي والتنزيل ملازماً للنبوة ,وهي ملازمة للوجود الإنساني في الأرض لأنها ابتدأت بآدم وأختتمت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى نبوته حاضرة بين الناس بالقرآن، فللتنزيل تأريخ خاص، وكل كتاب منه وثيقة سماوية وجوهر نوراني يملأ الأرض بضياء الإيمان، وبين الكتاب السماوي والآخر عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي:
الأول : النزول من عنده تعالى.
الثاني :
الثالث : ا يكون نزول الكتاب الا على نبي من أنبياء .
الرابع : صدق التنزيل واسم الكتاب عليها جميعاً.
اما مادة الإفتراق فهي:
الأول : التعدد في جهة النزول، اذ ينزل الكتاب على نبي غير الذي انزل عليه الكتاب الآخر.
الثاني : لكل كتاب اسم خاص يعرف به.
ومن الآيات في التنزيل وحدة الموضوع والحكم فليس فيها تناقض او تعارض او تنافِ، وكما ترى القرآن خال من التعارض فانك لا تجد أي تعارض بين القرآن والكتب السماوية الأخرى خصوصاً وان التعارض يؤدي الى التناقض، وهو أمر مخالف لغايات التنزيل ومضامين الرحمة والهداية النوعية فيها.
لذا ورد لفظ التصديق في هذه الآية وآيات أخرى عديدة وهو نوع اعجاز وتحدِ واخبار عن انتفاء التعارض والتضاد بين الكتب السماوية، وكأن النسبة بين القرآن والكتب السماوية الأخرى مثل التي بين البديهي والنظري، فكما ان القضية النظرية لا تثبت باخرى مثلها والا للزم الدور او التسلسل بل تحتاج النظرية الرجوع الى الأمر البديهي فيكون التصديق به بمجرد تصور طرفيه من غير استحضار وسط آخر فكذا بالنسبة للقرآن فان نزوله من السماء امر ثابت بذاته من غير حاجة الى الرجوع الى الكتب الأخرى، ومعرفة أحكامها وكيفية تهذيبها من التحريف تحصل بالرجوع الى القرآن، كرجوع النظرية الى البديهي.
ومن مفاهيم انتفاء التعارض بين الكتب السماوية وحدة الصدور والدليل والغاية، ويمكن ان نسمي هذا القانون الذي يتغشى الوحي والتنزيل والكتب السماوية المنزلة بقانون “عدم التعارض” لإنتفاء أي تضاد او تنافِ بين الكتب المنزلة سواء كان التعارض المستحكم او التعارض البدوي الذي يزول بالتحقيق او يحصل معه الجمع العرفي، اما موضوع النسخ فليس من التعارض والتباين والتضاد بين الكتب , لأنه عبارة عن ابدال حكم بحكم آخر لأنتهاء مدته ووقته، وللتخفيف والرحمة ودعوة العباد الى التصديق بالتنزيل واتباع الرسل.
ولفظ [لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ] يحتمل وجوهاً:
الأول : ان التوراة على التنزيل عند عيسى وبين يديه.
الثاني : ما موجود عند بني اسرائيل وما يعملون به من أحكامها، وان المراد من بين يديه أي الموجود المتعارف والشائع منها.
الثالث : من بين الآيات التي جاء بها من عند التوراة التي أنزلت على موسى فيكون تصديق عيسى بها كالتنزيل الثاني لها بعد ان طالتها يد التحريف، وهذا الفرد بعيد اذ ان نزول التوراة واحد وخاص بموسى .
قانون “التفسير الذاتي”
تتوزع كلمات القرآن على آياته البالغة(6236)آية، وكل عدد من الآيات في سورة من سوره البالغة 114 سورة، وهذا العدد من الكلمات والآيات يحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث، ويتضمن الأحكام التكليفية الخمسة ومصاديقها في الواقع العلمي.
ومن اعجاز القرآن تفسير آياته بعضها للبعض الآخر بما يمنع اللبس ويدفع الجهالة والغرر ويمنع من التأويل الخاطئ، ويكون برهاناً في الإحتجاج , وسلاحاَ عقائدياً للإحتراز من التحريف والتغيير والتبديل في ألفاظ القرآن او في معانيها فحينما يعجز أهل الريب والإنكار عن تحريف الفاظ وكلمات القرآن، لأن عدد حراسه بعدد المسلمين وعلمائهم، فانهم يتجهون الى التحريف في التأويل وتشويه الحقائق والأغراض السامية، ولا يدخل في هذا التحريف محاولة كل فرقة من فرق المسلمين الكلامية او الفقهية اختيار الآيات التي تناسب مذهبهم وتؤيد أقوالهم لأنه أمر مختلف ويتعلق بالفروع والإجتهاد.
فيأتي تفسير الآيات بعضها للبعض الآخر لتنزيه القرآن من التحريف، والحيلولة دون تضييع الثواب بالتقيد التام بأحكامه وفيه سلامة لنص الآيات وتثبيت لألفاظها، واستدامة لمدارس التفسير والإرتقاء في عالم التأويل وبرزخ دون القول بالرأي في القرآن , ويمكن ان نسمي هذه النظرية “نظرية التفسير الذاتي” فليس من مطلق في القرآن الا وله تقييد في آية أخرى، وما من عام الا وتجد آية تخصه كما تجد فيه المجمل والمبين , والناسخ والمنسوخ.
وفيه دعوة لعدم تفسير الآية الا بالرجوع الى آيات القرآن كلها، ولكن العلماء أتعبوا أنفسهم في الجمع بين الآيات ذات الموضوع او الحكم الواحد وذكر النسبة والصلة بينها، ومع هذا فان باب هذا العلم يبقى مفتوحاً، ويحث العلماء على استخراج كنوزه ودرره، وهو سلاح لمنع الفرقة والخلاف والتفريط والإفراط.
ومن مصاديق هذا القانون في المقام الاخبار عن تصديق عيسى للتوراة، وورود قوله تعالى [ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] فيه نكتة وبيان لفرد ونعمة من النعم التي خص بها بني اسرائيل وتتجلى بأمور:
الأول: ان الذي علمه من التوراة هو الذي بين يديه فيكون المراد مما بين يديه هو العلم اللدني الجازم والذي يحتاج الناس الرجوع اليه.
الثاني: افادة ظاهر الآية للتعدد وان التصديق غير الذي بين يديه فلابد ان التعليم الذي تفضل تعالى به على عيسى على شعب:
الأولى: انه خاص بالتصديق بالتوراة.
الثانية: ناظر الى ذات التوراة وان جعل التوراة الصحيحة.
الثالثة: ارادة المعنى الأعم من التعليم الجامع للتصديق ولما بين يديه من التوراة وهذا المعنى هو الأرجح فأراد عيسى ان يخبر بني اسرائيل بما عنده من التوراة وان علمه التوراة وجعله مصدقاً لها.
الثالث:: وجود تصديق سماوي للتوراة.
الرابع: عون وتخفيف عنهم بوجود التوراة صحيحة ومصدقة بن ظهرانيهم.
الخامس: توكيد نزول التوراة من عند ، ومنع التعدي والإفتراء على موسى ، فمن الناس من يتعدى في الإفتراء والتشكيك ولا يقف عند مرتبة معينة بل يتجرأ ويفتري على الأنبياء مطلقاً، فجاء التصديق دفاعاً عن موسى واكراماً لاحقاً من له.
السادس: تصديق عيسى بالتوراة مقدمة لتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بها، ومنع من الإفتراء على القرآن سواء من قبل المشركين الذين يصدون عن التنزيل مطلقاً، او من قبل اليهود باضفائهم صفة الشرعية على التحريف الذي لحق بالتوراة، او من النصارى كما ورد في قوله تعالى [وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ] ( ).
السابع: الآية دعوة لليهود والنصارى بالرجوع الى عيسى فيما يخص التوراة، ويتقوم هذا الرجوع بالإقرار بها كتاباً نازلاً من عند .
لقد اراد سبحانه نقاء التوراة من التحريف، فمن الآيات التي جاء بها عيسى فضح التحريف ليجعل بني اسرائيل يأخذون التوراة من عين صافية، ومن مصدر الآيات الباهرات من النبي الذي جاء باحياء الموتى وخلق الطير من الطين باذنه تعالى.
وهل يحتمل ان المراد من التوراة التي قصدها عيسى هي ذاتها التي عند الناس ويتداولها الرهبان , ولم تصلها يد التحريف والتشويه وان المراد (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) أي النسخ المتداولة بين عموم الناس، الجواب لا، لإرادة المعنى الأخص من بين يديه،
ولظهور أدلة على التحريف والتبديل لا أقل في البشارات التي جاءت في التوراة فيما يخص عيسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون في تصديق عيسى للتوراة أمران:
الأول: صدق نبوته، وان التوراة أخبرت عن بعثة عيسى وبهذا المعنى يكون التصديق هو الآيات التي جاء بها من عند والتي أخبر بها بني اسرائيل، فعلامات نبوة عيسى التي ذكرت في التوراة تظهر على يديه، ويكون كلامه هنا تذكيراً بما في التوراة، وحجة عليهم، ودعوة لتصديقه وعدم اظهار الدهشة من الآيات التي جاء بها، بل عليهم ان يفرحوا بفضله تعالى وان الذي وعــد به موسى ونزلت به التوراة قد تحقق فعلاً، فآيات عيســى تدل على صـــدق نــزول الـتوراة من عند .
الثاني: تعتبر بعثة عيسى شهادة سماوية على صدق نزول التوراة من عنده تعالى.
ولا تعارض بين الأمرين وهو من المعنى المتعدد للآية القرآنية، وجاء قيد (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) للإخبار عن نبذ التحريف , وإشارة لنسخ التوراة التي طرأ عليها التغيير والتبديل.
والتوراة هو الكتاب الذي أنزله على موسى وجاء متقدماً في زمانه على عيسى، وحرف الجر (من) فيه وجوه:
الأول: التبعيض، أي ان الذي بيد عيسى من التوراة هو بعض التوراة والتصديق اقرار وشهادة، فلا يكون تبعيضاً الا مع القرينة التي تدل عليه، وهي مفقودة في المقام.
الثاني: بيان الجنس، كما في قوله تعالى [مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا].
الثالث: البدل: فالذي بين يديه هو بدل التــوراة كمــا في قوله تعالى [أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ] أي ان الدنيــا بـدل الآخرة، والتوراة واحدة وجاء عيسى لتصديقها وليس للإتيان ببدل لها.
الرابع: مرادفة عن: فما عند عيسى بيان وحكاية عن التوراة وان عيسى يصدقه.
الخامس: حرف جر زائد، ويفيد التوكيد وارادة العموم، ولمجيء (من) حرفاً زائداً شرائط منها ان يتقدمها نهي او استفهام، وان يكون مجرورها نكرة، وهو منتفِ في الآية.
والأصح هو الثاني فمن فضله تعالى ان يبعث عيسى لتصديق التوراة , وفيه زجر عن الإعراض عنها وهذا الزجر لا يتعارض مع النسخ الذي جاء به عيسى في بعض أحكام الشريعة.
قوله تعالى [وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ]
أظهر عيسى جانباً وموضوعاً ذا أهمية من وظائف رسالته التي جاء بها الى بني اسرائيل، فآيات الطير وابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى مع انها برهان ذاتي الا انها مقدمة للإخبار عما جاء به من الأحكام التشريعية سواء التكليفية او الوضعية وما يتعلق بالوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة، وفي الآية مسائل:
الأولى: ليس لأحد يحل حراماً او يحرم حلالاً من التنزيل الا ان يكون نبياً رسولاً من عند مؤيداً بالآيات والبراهين.
الثانية: لم يأتِ موسى بما يحل حرام التوراة او يحرم حلالها لأنها نزلت عليه، بل جاء الرسول اللاحق بالنسخ والتخفيف، ويمكن استنباط مسألة وهي عدم قيام النبي محمد بنسخ آية وحكم من القرآن سواء في سنته القولية او العقلية او التقريرية او التحريرية خلافاً لمن أدعى الإجماع على حصول نسخ السنة للكتاب( ).
الثالثة: ان عيسى يؤكد بان الحكم السابق هو الحرمة وأنه جاء بالحلية في ذات الموضوع الذي تعلقت به الرحمة , وهذه آية عظيمة منه تعالى تفيد التخفيف على بني اسرائيل وتؤكد بركات النبوة وان الرسول الذي يبعث ينزل بالتخفيف في شطر من الأحكام.
وبلحاظ علة حلية بعض المحرمات وجوه:
الأول: انه شاهد على تقيد بني اسرائيل بأحكام التوراة لأن الحلية لا تأتي في حال ترك الناس للإحكام. فلابد انهم متقيدون بأحكام الحلال والحرام، ويعرفون تلك الرحمة يرد عليها النسخ والمحو.
الثاني: جاء التحليل لإبطال وازالة التحريف الذي طرأ على التوراة.
الثالث: لمنع التشديد على النفس عند بني اسرائيل والذي ظهر مثاله بموضوع ذبح البقرة وتردد وكثرة سؤال بني اسرائيل عنه.
الرابع: هذا التحليل مقدمة لمجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحكام وشريعة جديدة، فجاء النسخ على نحو الموجبة الجزئية، ليأتي النسخ التام بلزوم الرجوع الى ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أحكام العبادات والمعاملات ولتدخل السنن التي جاء بها الأنبياء في ثناياها كتاباً وسنة.
علم “تأريخ العبادة”
لقد خلق الإنسان ليقوم بعبادته تعالى والخشوع له، لا عن حاجة منه سبحانه ولكن ليؤدي وظائف الخلافة في الأرض , وليفوز بمراتب السعادة والخلود في الآخرة، وجعل الأنبياء وسائط مباركة بينه وبين الناس في بيان الأحكام الشرعية وأنزل معهم الكتب لتدخل كل بيت وتقوم الحجة على الناس، ويكون بميسور كل واحد أخذ الحكم الشرعي من الكتاب الذي معه وكأن النبي مصاحب له وموجود معه.
وهذه الآية الإعجازية لا يقدر عليها الا ، اذ حالت بين التحريف والتشويه وتصرف الملوك الرؤساء بماهية وكيفية ومقدار العبادة، ومن الآيات ان العبادة متصلة في الآرض فنزل آدم وحواء الى الأرض بعد ان خلقا في الجنة وشاهدا انقطاع الملائكة للعبادة وأدركا ان العبادة هي الطريق الوحيد الذي يعيدهما الى الجنة، وهذه العودة تعني الخلود ويتعذر حينئذ على الشيطان المكر بهما او محاولة خداعهما او اخراجهما من الجنة وهذا المفهوم بقي ثابتاً عند الأجيال المتكثرة من بني آدم ويترجل الى الخارج طوعاً وانطباقاً ويبعث الشوق في النفوس الى العبادة مع الحرص على أدائها.
ويتعدد كم ومقدار العبادة بحسب النبوة والأمر الإلهي النازل وهو سبحانه أعلم بالملاكات والمنافع، وكل كتاب سماوي يؤكد على العبادة ولو بصــيغة الحكم والمواعــظ، ومن القــواعد الثابــتة ان العبادة لم تغادر حياة الإنسان في الأرض، نعم مرت فترات على الإنسان قل فيها عدد العباد والمؤمنين المنشــغلين بالفرائض، فيتفضل سبحانه ببعث الأنبياء ليكون هؤلاء المؤمــنون النواة والعصبة التي تبادر الى نصرة الأنبياء ونشر دعوتهم وجذب الأنصار والأعوان، وهذه الآية تؤكد على أمور منها:
الأول : بقاء العبادة في الأرض وان بني اسرائيل يعرفون التوراة ويعملون بأحكامها.
الثاني : حصول النسخ في الأحكام الشرعية سواء كان في العبادات او المعاملات.
الثالث : لزوم أخذ الناس بما جاء به عيسى ولقد شهد تأريخ العبادة في الأرض الإستقرار والثبات بنزول القرآن لأن الإسلام هو الشريعة الناسخة وللبيان الوارد في القرآن بخصوص عبادات الأمم السابقة.
ان (تأريخ العبادة) علم مستقل تستقرأ منه مفاهيم الرحمة الإلهية وتستنبط منه دروس عقائدية واجتماعية وأخلاقية وهو عون على التفقه في الحياة الإنسانية منذ أيامها الأولى، ومناسبة لإصلاح النفوس ودعوة الناس الى الهداية والإيمان.
وتبدأ موضوعات وأحكام هذا العلم من أول يوم هبط فيه الإنسان الى الأرض الى يوم النفخ ونهاية الحياة الدنيا، وصحيح ان شطراً من الحياة لا زال مجهولاً ومعدوماً الا انه في العبادة معلوم لأن أحكام الإسلام هي الباقية والملازمة لوجود الإنسان مع حرمة طرو التغيير والنسخ وعدم حصول التبديل والتحريف.
قانون النسخ
النسخ هو الإزالة والتغيير والتبديل، وهو في الإصطلاح تبديل او رفع حكم كلي شرعاً ومجيء آخر بديلاً له بدليل معتبر، وهو على قسمين:
الأول: النسخ بين الشرائع، فالشريعة اللاحقة تنسخ الشريعة السابقة.
الثاني: النسخ ضمن الشريعة الواحدة، فيأتي حكم يعمل به ثم يرفع ليأتي حكم آخر بديلاً له.
الثالث: النسخ في الكتب السماوية، وهو مجــيء الكــتاب السماوي اللاحق بأحكام بديلة للأحكام التي وردت في الكتاب السابق.
الرابع: النسخ ضمن الكتاب الواحد، وتضمنه للناسخ والمنسوخ كما في القرآن الكريم.
ولا يحصل النسخ الا على نحو الموجبة الجزئية وفي بعض الموضوعات والأحكام , وملاكه التخفيــف والرأفة والتيســير وتثبــيت العبــادة وللتدبر بعظيم فضله تعالى على الناس وقد تقدم عدم نسخ الكتاب بالسنة والرد على القائلين به , ويأتي النسخ ليجعل الواجب مستحباً، او المستحب واجباً، او التقليل من أفراد الواجب، كما في صلاة احدى وخمسين ركعة في اليوم وجعلها بفضله تعالى سبع عشرة ركعة في خمس أوقات.
وللنسخ تأريخ خاص وعلوم تتفرع عنه، وهو مدرسة عقائدية ملاكها حب للعباد وجذبهم لموارد الطاعة ومسالك العبادة وتتقوم بالتيسير واسقاط ما فيه مشقة وعسر، ومن مفاهيم هذا القانون ان وجود الناسخ شاهد على وجود المنسوخ، ودليل على استجابة المسلمين للأخذ بالناسخ وترك المنسوخ طاعة له تعالى، فقانون النسخ باب للإبتلاء والإمتحان، ومن خصائص مدرسة الإمتحان في الشرائع ان يكون الأفضل والأحسن للعبد مع الناسخ والمأمور به مطلقاً.
وتتضمن الآية اعلان وإخبار عيسى لبني اسرائيل عن أمور هي:
الأول: تصديقه وامضاؤه لما بين يديه من التوراة.
الثاني: اهليته لتصديق الكتاب الكتاب المنزل من عند .
الثالث: علمه بالتوراة وامكان معرفة التنزيل ونفي التحريف والتغيير عنه.
الرابع: تثبيت التوراة والعمل بها الا ما جاء عيسى بنسخه.
الخامس: توكيد البشارات التي جاءت بها التوراة من نبوته ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس: التخفيف عن بني اسرائيل برفع بعض المحرمات والنواهي عنهم.
السابع: جاءت الحلية عامةً شاملة لبني اسرائيل جميعاً وليس النصارى منهم خاصة.
الثامن: ابدال الحرمة بالحلية من مضامين وافراد تصديق التوراة لأنه شاهد على وجود الحكم الشرعي في التوراة بالحرمة.
التاسع: تكرار الإخبار بانه جاء بآية من عند .
العاشر: الدعوة الى تقوى على نحــو التعــدد والإنفراد، والحث على التصديق بنبوته وما جاء به من عند ، وفيه اشارة الى لزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم معصيته.
واعتبار اللام في (ولأحل) للصيرورة يعني ان عيسى جاء بحلية بعض الموضوعات الى يوم القيامة وانه ليس لبني اسرائيل البقاء على أحكام الشريعة السابقة فيما يخص الذي أحله وفيه توطئة ومقدمة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم اتباعه فيما يأتي به من أحكام الحلال والحرام.
وهل في مجيء عيسى بحلية بعض المحرمات خاصة تفضيل لنبوته على نبوة موسى ، الجواب لا من وجوه:
الأول: ان كلاً من موسى وعيسى عليهما السلام رسول من الخمسة أولي العزم.
الثاني: التوراة كتاب نازل من عند وفيه فضل عظيم وتشريف لموسى .
الثالث: يتعلق النسخ بالشرائع وانتهاء زمان حكم شرعي كلي فلا صلة له بالتفضيل، وقد تجد النسخ في ذات الشريعة كما في أحكام الناسخ والمنسوخ في ذات القرآن.
الرابع: ان هذا التحليل اتمام لرسالة موسى ودعوة للتقيد بأحكامها فيما يخص الذي لم يطرأ عليه النسخ.
الخامس: الآية تأديب لبني اسرائيل في لزوم اتباع الأنبياء فيما يأتون به.
لقد جاء النسخ والتبديل في الأحكام على نحو الموجبة الجزئية في جزء من أفراد الأحكام الشرعية التكليفية، اذ ان الأحكام التكليفية خمسة، ولم يأتِ النسخ الا في باب الحرمة والترك وفي بعض مصاديقه وابداله بجواز الفعل مع بقاء مجمل أحكام التوراة على حالها.
لقد جاء اول الآية باعلان عيسى التصديق بالتوراة، ثم أعقبها بانه يحل بعض الذي حرم على بني اسرائيل، وليس من تعارض في الأمر من وجوه:
الأول: لقد أخبر عن تصديقه بالتوراة في أول الآية، وهذا التصديق يحمل على العموم المجموعي الشامل لكل أفراد وأحكام التوراة، وأحكامها من الوجوب والحرمة والإستحباب والكراهة وانها نازلة من عند .
الثاني: ان تحليل بعض المحرم شهادة على كونه من عند .
الثالث: لقد نسب عيسى الحلية الى نفسه بالقول (ولأحل) وفيه مسألتان:
الأولى: ان هذه الحلية فــرد مــن أفراد الآيــة التي جــاء بها من عند .
الثانية: من بركات بعثة عيسى مجيؤه بالآيات الحسية، وايضاً آيات الأحكام بابطال بعض أفراد المحرمات.
وهل يمكن إعتباره تفويضا من للنبي في التحليل والتحريم او التحليل خاصة ,الجواب لا , بقرينة قيد بإذن فلا غرابة أن يقوم عيسى بالتوكيد عليه .
وفي أصل التحريم الذي أزاله وأبطله عيسى وجوه:
الأول: انه جاء في التوراة وأبدله عيسى مثل رفعه للسبت وتعطيل الأعمال فيه، وجعل الاحد في محله.
الثاني: بحسب نظرية التفسير الذاتي المتقدمة فان التحريم مذكور في قوله تعالى [فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ]( )، فجاءت بعثة عيسى للتخفيف عنهم.
الثالث: من خصائص الكائن الملكوتي ومن ولد بنفخ روح ان يأتي بتحليل بعض ما حرم ، وهو جزء من بركات عيسى وبعثته قال تعالى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ] ( )، فالآية من افراد ومصاديق هذه البركة والرحمة الإلهية.
وفي جهة صدور المحرمات المنسوخة وجوه:
الأول: انها جاءت في التوراة وشريعة موسى، كما تقدم.
الثاني: المحرمات التي نسخت من التحريف الذي لحق بالتوراة من الأحبار ورؤساء اليهود.
الثالث: التشديد الذي طرأ في الشريعة وأحكامها بتعاقب السنين والإجتهاد في مقابل النص.
الرابع: ما جاء في تحريم اسرائيل على نفسه، واسرائيل هو يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم قال تعالى [كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ]، وأختلف فيما حرمه يعقوب على نفسه فقيل ان يعقوب اخذه وجع عرق النسا فنذر ان شفاه ان يحرم العروق ولحم الإبل وهو أحب الطعام اليه، كما عن ابن عباس , وذكر انه حرم على نفسه زائدتي الكبد والكليتين والشحم الا ما حملته الظهور، عن عكرمة.
الخامس: انكر اليهود تحليل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الإبل فأحتج عليهم بانه كان حلالاً لإبراهيم، وردت اليهود بأن كل شيء نحرمه فانه محرم على نوح وابراهيم.
السادس: لم يأتِ في التوراة تحريم نسخه الإنجيل، ولكنهم حرموا على أنفسهم ما حرم اسرائيل على نفسه خاصة اتباعاً له ونسبوا التحريم لله تعالى، فجاء عيسى ليخبرهم بحليته فان قلت لماذا لم يذكر عيسى علة هذا التحريم وعدم مشروعيته ليسهل عليهم الأخذ بما أحله لهم.
قلت : ان تعدد وجوه ما أحله عيسى وموضوعاته آية ودليل على ان بعثة عيسى رحمة لبني اسرائيل وتصحيح لأعمالهم وتخفيف عنهم، فوضع بعض الآصار التي كانت عليهم، ومنع من تعدي الرهبان وقيامهم بالتحريف ,او افراط الزهاد من بني اسرائيل وميلهم الى التشديد ودعوة الناس لإتباعهم بالفعل والقول.
ومن الآيات في المقام ان موضوع التحريم جاء بصيغة المبني للمجهول وفيه وجوه:
الأول: أدب العبودية.
الثاني: نسبة التحليل الى نفسه نوع مجاز بقرينة ان الآية السابقة قالت انه رسول الى بني اسرائيل وكلام عيسى في هاتين الآيتين متصل ونظمه واحد، وتحليل الرسول يعني ان الحلية لما هو محرم جاءت من الله تعالى.
الثالث: في الآية اشارة الى ان التحريم ليس في التوراة , وان صدر الآية قرينة عليه واخبار بالتصديق بها، وجاء التحريم مجملاً وبصيغة البناء للمجهول في دلالة على تعدد وجوهه، وان عيسى جاء ليعيدهم الى التوراة كما انزلت على موسى .
الرابع: ان التحريم المقصود هو في التوراة وجاء من غيرها سواء من تحريم يعقوب على نفسه لحم الإبل او ما أضيف فيما بعد في سنن وأعراف بني اسرائيل.
والجواب فيما يتعلق بوجوه جهة صدور المحرمات: ان القدر المتيقن من موضوع الحلية والحرمة هو الشرائع السماوية، وان عيسى جاء بشريعة وكتاب جديد، وهذه الشريعة ليست مطابقة تماماً لشريعة موسى لأنها تكون تحصيلا لما هو حاصل، بل تضمنت بعض التخفيف وبيان الأحكام بما يناسب تأريخ النبوة والرسالة أما مسألة إضافات الرهبان ومسائل التشديد اللاحق من الزهاد ونحوهم وصيغ التحريف، فان عيسى أخبر عن ابطالها بصدر الآية ,اذ قال [وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ].
فهو في مفهومه يدل على وجود التوراة عنده كما أنزلت وان قد علمه اياها وجاء موثقاً لها مانعاً من تركها والإعراض عنها مع فضح كل زيادة او نقيصة عليها.
ففي الآية طرفان يتجلى فيهما الإعجاز مجتمعين ومتفرقين، والطرفان هما التصديق وحلية بعض ما حرم فليس كل طرف منفصلاً عن الطرف الآخر بل ان الموضوع واحد يتعلق بالأحكام الشرعية، وينظم الصلة ومناسبة الحكم والموضوع بين التوراة والإنجيل والقرآن.
وأحكام النسخ بين هذه الكتب الثلاثة فاذا كان عيسى قد قام بنسخ بعض أحكام التوراة بما جاء به من عند ، فان القرآن ينسخ شطراً مما جاء به عيسى ، أي ان عيسى يؤدب بني اسرائيل وغيرهم على قبول نسخ القرآن للإنجيل والتسليم بما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات , وقد ورد في الإنجيل: ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها)، فرفع الحكم الشرعي عن بعض الموضوعات المحرمة تثبيت لغيرها , وبقاؤها على الحرمة بالشهادة السماوية.
وتبين الآية شمول الأحكام الشرعية التي جاء بها عيسى لعموم بني اسرائيل ووجوب الرجوع اليه، لأن أحكام الحلية هذه من باب العزيمة وليس الرخصة.
فلا يمكن ان ينقسم الناس الى قسمين، قسم يعمل بأحكام الحلية الجديدة وقسم يبقى على التحريم في ذات الموضوع، وهنا تتجلى مضامين جهاد الأنبياء، اذ يأتي خطاب عيسى لعموم بني اسرائيل ومع انه جهاد وتحدِ فان فيه منافع متعددة منها جــذب الأعــوان والأنصار من المستضعفين وعامة الناس الذين ينظرون الى الآيات التي جاء بها عيسى مجردة من دون غشاوة المصالح الدنيوية التي تظهر عند الرؤساء والرهبان، والقاء الحجة وتبليغ رســالة رب العالمين، والإنباء عن بــزوغ فجــر شــريعة جديدة مــلاكها الآيات الباهـــرات والتخفيف في الأحكام.
ويتجلى الإصطفاء فيه من وجهين ان الذي يجمع في انتسابه بين آل ابراهيم وآل عمران يكون واسطة لنقل الأحكام السماوية الى ذرية ابراهيم ممن أصطفى ومن وفى بعهده، ومن ظلم نفسه واختار الجحود , وفي مرتبة الإمامة ورد قوله تعالى في قصة ابراهيم [وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ].
ومن أسرار هذا التحليل والتخفيف دوام العمل بالشريعة السماوية، ورفع الأوزار عمن يفرط في التقيد بأحكام المنع المنسوخة ويأتي بالفعل وان كان محرماً، فجاء عيسى بالتيسير الذي يساعد الناس على العمل بأحكام التنزيل.
بحث بلاغي
من البديع ما يسمى الاحتباك وهو نوع من انواع الحذف لذا سماه في البرهان الحذف المقابلي واستشهد عليه بقوله تعالى [وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ]( )، والتقدير ان يده تدخل غير بيضاء، ولكنها حين الاخراج تخرج بيضاء فحذف من الاول وهو موضوع الادخال وصفها بانها غير بيضاء، ومن الثاني وهو ألاخراج(واخرجها).
وفي هذه الآية ورد اعلان عيسى عليه السلام بانه يحل لهم بعض الذي حرم عليهم والتقدير: ان بعض الحرام اصبح عليكم حلالاً، اما البعض الآخر منه فاني اثبت حرمته وابقيه على المنع كما كان في التوراة.
وهل تعني الآية ان عيســى قال بتبعيض العمل بين الانجيل والتوراة الجواب لا , فان المسألة ليســت من باب التبعيض في الكتب المنزلة ولكنها جزء من التكامل بين الكتب السماوية ولبيان ان الانجيل لم يأت ضداً ونقيضاً للتوراة بل هو متمم لها ومثبت لاحكامها الا ما ورد فيه النسخ.
والآية شاهد على عظمة القرآن واستقلال الاحكام فيه وعدم حاجته لغيره في نيل مراتب الكمال والتمام.
فلم يأت فيه النسخ لغيره من الكتب السماوية على نحو الجزئية والتبعيض بل جاء بالنسخ التام والاستغناء عن الكتب الاخرى، وهذه الآية تشهد على حاجة الناس لكتاب يكون ناسخاً للكتب السماوية، فلقد جاء عيسى عليه السلام بالنسخ الجزئي للتوراة مقروناً بالآيات الباهرات ولكن بني اسرائيل قابلوه بالجحود والصدود.
فجاء القرآن جامعاً للاحكام متضمناً النسخ التام للشرائع الاخرى من غير ان يمحو احكامها على نحو السالبة الكلية، فتضمن احكام التوراة والانجيل غير المنسوخة في ثنايا آياته , من التوحيد والايمان بالملائكة والرسل ولزوم عبادته تعالى واجتناب معصيته واتيان الصالحات وصلة الرحم والقصاص واجتــناب السيئات واجتناب الظلم, وهذا الامر من أهم مسائل وقواعد(قانون الحاجة) أي حاجة الناس الى القرآن كتاباً جامعاً للاحكام، مانعا من الضلالة والجهالة واللبس والغرر.
قوله تعالى [وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]
لقد أراد عيسى ان يبين نعمة عليه وعلى بني اسرائيل وهذه النعمة مركبة من وجهين:
الأول: تشريف عيسى بالرسالة وانه يتولى نقل الأحكام الشرعية الى بني اسرائيل، وهل في الكلام فخر، الجواب على شعبتين:
الأولى: نعم، اذا كان الأمر يتعلق ببيان فضله تعالى واحسانه على عيسى وبني اسرائيل والناس جميعا، لذا ورد جعل نزول المائدة وحده عيداً، فكيف بالبعثة النبوية.
الثانية: انه ليس فخراً بل بياناً للوظيفة الجهادية للنبوة، ويدل عليه الوجدان والتأريخ وما عاناه عيسى من الأذى وما لاقاه من الإفتراء والتعدي من بني اسرائيل.
الثاني: لقد تكرر قول عيسى انه جاء بآية من والتكرار بلحاظ وحدة نظم هذه الآية والآية السابقة وان موضوعهما هو خطاب عيسى مع بني اسرائيل.
وفي النسبة بين معنى الآية التي جاء فيها عيسى المذكورة في هذه الآية والآية السابقة وجوه:
الأول: الإتحاد والتساوي, فالمراد من لفظ الآية التي جاء بها عيسى في الآيتين واحد، والمقصود ذات الآية التي تتكون من أفراد متعددة هي آية الطير، والإبراء، والإحياء، والإدخار، والتصديق والحلية.
الثاني: التعدد والمغايرة وان المقصود من الآية هنا غير الآية التي قال عيسى انه جاء بها لبني اسرائيل وأفرادها أعلاه.
الثالث: العموم والخصوص المطلق، فالآية التي ذكرها عيسى هنا هي فرد وجزء من الآية التي ذكرها في الآية السابقة.
الرابع: الإشارة الى الإنجيل وانه آية من عند ، الا ان عيسى لم يشأ ان يذكره بالاسم منعاً لنفرة بني اسرائيل، وجعل آية الطير والإبراء والإحياء مقدمة له.
الخامس: التوكيد والإعادة والتنبيه والحث على عدم الغفلة.
السادس: اعتماد صيغة الإجمال والإبهام خشية البطش والفتنة والقذف والإفتراء.
السابع: التدريج والإخبار بالآيات على مراتب متعددة ومتباينة زماناً لعدم استطاعة عامة الناس ادراك هذه الآية جملة واحدة (وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: انا معاشر الأنبياء امرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم).
وكان اخبار عيسى بالآيات واتيانه بها متصلاً وعلى مراحل، كنزول القرآن على نجوم وخلال عدة سنوات، من جهة حفظ القرآن وبيان آياته والتفقه في علومه، فكذا آيات عيسى سواء كانت الحسية , ونزول القرآن وأحكام الشريعة، فانه ينزل على مراحل وأيام متفرقة ليتمكن الناس من معرفة أحكامه وآياته وما فيه من الأوامر والنواهي والمواعظ مع لحاظ الفارق الزماني والسعة في نزول القرآن , لأن عيسى رفع وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
الثامن: التحدي وبيان عجز الآخرين عن الرد عليه وظهور هذا العجز مقدمة وحجة لحث الناس للجوء الى عيسى والصدور عنه.
التاسع: لفظ الآية الذي ورد في الآية السابقة جزء من اخباره تعالى عن عظيم نعمته ببعثة عيسى، والتقدير: ونبعثه رسولاً الى بني اسرائيل ان أنبئهم بأني قد جئتكم بآية من ربكم، فيكون المعنى المراد من لفظ الآية في هذه الآية اخبار من عيسى لبني اسرائيل بما أمره تعالى ان يقوله وتوكيد بان الآية التي جاء بها عيسى هي من عند .
العاشر: اخبار عيسى بان مصاديق الآيات التي جاء بها تترى.
الحادي عشر: تجديد النداء في مرات متعددة واماكن مختلفة خصوصاً وان عيسى كان يتنقل بين القرى ويدعو الناس الى التوحيد والإيمان برسالته.
الثاني عشر: الإخبار عن آيات أخرى مصاحبة لعيسى في نبوته، تظهر بحسب الحال والمقام من باب الأولوية، فان الذي يرزقه تعالى احياء الموتى ينعم عليه بآيات أخرى في حله وترحاله كما تقدم انه جعل القدور ملأى بالخمر , وما يطلبه الملك حين سألته أمه مريم قضاء حاجة مضيفهم المستضعف.
الثالث عشر: الترغيب والجذب لما عند عيسى من الآيات.
الرابع عشر: العنوان الجامع للإتحاد والتعدد والتداخل من غير تعارض بينها، وهو الأرجح فهو اعادة وتوكيد، واخبار عن آيات أخرى جاء بها عيسى في دعوة الى بني اسرائيل لإتباع عيسى ومتابعة ما يأتي به من عند ، باعتبار الذي يأتي به هو فيض منه سبحانه .
ومن القواعد الكلية الثابتة عند المليين جميعاً ان خزائنه تعالى لا تنفد، وما يأتي به الأنبياء والرسل من فضله واحسانه وكرمه على الناس سواء الذين خصهم بالتفضيل او غيرهم، لقد جاء هذا التكرار واعلان عيسى بمجيئه بآية من للإشارة الى عدة آيات يأتي بها متتابعة, منها:
الأول : الإنجيل وهو الكتاب الذي جاء به عيسى، فأراد عيسى اقامة البرهان على نبوته اولاً بالمعجزة ثم يعلن كتابه وشريعته التي جاء بها، وقد أشار اليه ضمناً بتحليل بعض الذي حرم على بني اسرائيل.
الثاني : تكرار كل آية من آيات الطير والإبراء والإحياء وغيرها، فكل مصداق عملي يأتي به عيسى من هذه الآيات هو آية مستقلة وفضل منه تعالى على بني اسرائيل.
الثالث : البينات والدلالات المصاحبة لنبوة عيسى.
الرابع : الإخبار عن نبوة صاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر صفاته لبني اسرائيل.
واخبار عيسى بمجيئه بالآيات لا يعني انحصارها به، فكل نبي يأتي لقومه بالآيات، وهذه الآيات من الكلي المشكك تختلف كثرة وقلة، وقوة وضعفاً، وموضوعاً وأثراً.
ولقد أخبر القرآن عن الآيات العظيمة التي جاء بها عيسى من عند وفيها دعوة لتصديق المسلمين بالأنبياء على نحو العموم المجموعي من غير ان يتعارض هذا الإيمان مع الإلتفات الى الإكرام الذي أختص به عيسى .
الخامس : جاء ذكر الآية قرينة ومناسبة للأخذ بالتبديل والنسخ الذي جاء به بتقريب ذهني، وهو ان الذي يأتي بالآيات الباهرات من عند لابد وان يكون ابطاله لبعض النواهي بأمره سبحانه , وكما يجب تصديقه في نبوته بواسطة الآيات الحسية العظيمة فلابد من تصديقه في التشريع الذي جاء به.
وتجمع هذه الوجوه كلها حقائق من الإرادة التكوينية وهي:
الأول : لطفه الدائم بالناس واعانتهم على العبادات والإمتثال لأوامره سبحانه.
الثاني : اتصال ودوام الآيات منه تعالى.
الثالث : عظيم فضله تعالى على بني اسرائيل بالآيات التوليدية وتعاقب الأنبياء ومجيئهم بالآيات التي لا يمكن نقضها عقلاً وشرعاً.
لقد كان عيسى نفسه آية، قال تعالى [وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا] ومن فضله تعالى ان الآيات تجري على يديه، وهي غير الآية الآتية في خلق عيسى وماهيته الملكوتية وتكوينه وعبادته وانقطاعه الى وجهاده في سبيله.
نظرية المعنى المتعدد
تحيط الإلفاظ المحدودة بالمعاني اللامحدودة، مما يدل على استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى وهو ظاهر في النقل من المعنى الحقيقي الى المجازي وما له شبه وعلاقة بالمعنى الذي وضع له اللفظ أصلاً، ومن المصطلحات البلاغية : المشترك اللفظي وهو اللفظ الموضوع او المستعمل في معنيين او أكثر، كل واحد منها مغاير في موضوعه وذاته للمعنى الآخر كما في لفظ العلم مثلاً ويراد منه:
الأول : الجبل.
الثاني : الجبل الطويل.
الثالث : العلامة.
الرابع : رسم الثوب.
الخامس : المنار.
السادس : شيء ينصب في الفلوات تهتدي به الضالة.
السابع : الشق في الشفة العليا فيقال هو أعلم.
الثامن : الراية التي يجتمع اليها الجند، وقد تقدم في بحث أصولي استعراض أسباب المشترك اللفظي والأقوال فيه( ).
ان المشترك اللفظي ثروة لسانية وعقلية لعموم البشرية، تضمنها القرآن باعتباره سيد اللغة وحافظ كنوزها، فيأتي اللفظ ويحمل على عدة معانِ، وهذا التعدد في القرآن لا ينحصر باللفظ بل يشمل معنى الجملة وشطر الآية والموضوع والحكم والمصداق من غير تعارض بين المعاني المتعددة بل ان كل فرد منها شاهد وقرينة وامارة تدل عليه ولا تصل النوبة الى التفسير بالرأي او القول بالباطن،
ويمكن ان نسمي هذه النظرية نظرية (المعنى المتعدد) الشاملة للمشترك اللفظي والمعنوي والتأويل المتعدد لذات الكلمة والآية بما يؤكد تعدد فرائد كل لفظ وآية قرآنية وتفرع العلوم المتشعبة عنها واحاطتها بعالم الوقائع والأحداث على نحو مستقل لكل منها من غير تعارض بين أفرادها المتشخصة في الخارج سواء يكون جامعها المشترك اللفظي او المعنوي الذي يوضع لمفهوم ومعنى كلي على نحو متحد , ولكن مصاديقه متعددة تجمعها ماهية وصفة وحيثية مشتركة تتبادر الى الذهن عند اطلاق اللفظ وتكون مقدمة للإستنباط والإقتباس من الآية الكريمة.
قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ]
بعد ذكر الآيات والشواهد الإعجازية الدالة على نبوة عيسى توجه الى بني اسرائيل بدعوتهم الى تقوى والخشية منه والحرص على طاعته وعبادته والتقيد بالأوامر والنواهي التي جاءت من عنده تعالى.
والأمر بتقوى وظيفة كل نبي لنفسه وأصحابه وقومه والناس جميعاً ولكن الإستجابة والرد متباينان، فتجد القبول والرضا من قوم ويقابله الصدود والجحود من آخرين , مع كثرة او قلة في هذا الطرف او ذاك، وحتى الإستجابة والصدود فكل منهما له درجات متفاوتة في القوة والضعف.
وجاءت آيات عيسى وآيته الذاتية لجذب الناس الى منازل التقوى، وتجلى هذا الجذب باعلانه ومناشدته الناس بخشية والخوف من عقابه ومعصيته لأن الآيات التي جاء بها حجة عليهم.
والأمر بتقوى خطاب رسالي يوجهه نبي الى قومه، ويتضمن الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب , والتذكير بالوظائف الشرعية، والحث على فعل الصالحات، والزجر عن المعاصي والذنوب.
والخشية من سبيل لمعرفة آيات النبوة والإقرار بما جاء به عيسى وطريق للإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن تقوى الأخذ بما جاءه عيسى من كتاب منزل وأحكام شرعية، ومنها الشهادة على الآيات التي جاء بها وعدم تكذيبها او نكرانها او الإعراض عنها.
فدوام كل آية حسية يتوقف على توثيق من حضرها وشهادته على حصولها ونقل خبرها الى الآخرين، وان كانت آيات الأنبياء لا تتوقف على هذا الأمر فالله غني عن العالمين، لا يحتاج في تثبيت الآيات الناس، بل أنزل القرآن ليكون الشاهد السماوي على تلك الآيات لا سيما وان تعاقب السـنين وتباين الأحوال على الناس، يجعلهم لا يلتفتون الى لزوم توارث نقل تلك الآيات كما يطرأ عليها التحريف والتغيير الذي يسبب عزوف الكثير عنها بســبب منافاة التحريف لحكم العقل.
فجاء القرآن ليكون وثيقة ملكوتية لا يرقى اليها الشك، تدون قيام الأنبياء بحث قومهم على الخشية منه تعالى.
ان الأمر بتقوى سلاح شرعي يخاطب العقول ويمنع النفوس من الكبر وينزه المجتمعات من الرياء، وفيه حجة على بني اسرائيل في مجيء الأنبياء لهم بالدعوة الى تقوى مع مصاحبة الدعوة بالآيات والبراهين الحسية والعقلية , فصدق النبي في دعواه حجة على الناس بتقوى والخشية منه قبل ان تصل النوبة الى دعوته لهم بتقوى ، انها مدرسة النبوة التي تخفف عن الناس وتحبب لهم الإيمان وتمنعهم من الجحود والضلالة والشرك، وهي فرع قاعدة اللطف بتقريب العباد الى الطاعة واعانتهم عليها ومنع المعوقات والحواجز التي تحول دونها.
لقد أظهر الخطاب بتقوى حب عيسى لبني اسرائيل وسعيه لنجاتهم من العناد وأسباب الإنكار فأراد لهم السعادة الأبدية بقبول ما جاء به من عند وتلك من أهم خصائص الأنبياء لأنهم رسل الإنقاذ والنجاة في النشأتين.
وتقوى من مصاديق شكره تعالى على نعمة الآيات وهو باب من أبواب حفظها والإعتبار منها وعدم التفريط بها، فلابد ان تترتب آثار عملية في الخارج على الآيات تتمثل بصلاح الناس وتوجههم للعبادات واتباع النبي، ولقد جاء عيسى بآيات تبهر العقول وتفوق حد التصورات مما يعني انقياد الناس له والإنصات لما يأمرهم به.
ومن كنوز النبوة ان عيسى وبعد ان أخبر بالآيات العظيمة التي جاء بها, لم يطلب منهم جاهاً وأموالاً وملكاً، بل أمرهم بتقوى والخشية منه، وهذا الأمر لمنفعتهم في النشأتين وهو مصداق اضافي لنبوة عيسى ودليل على عدم ارادته الدنيا، وشاهد على الغايات السامية لبعثته , وهي نجاة بني اسرائيل من الضلالة والغي.
قوله تعالى [وَأَطِيعُونِ]
بعد قيام عيسى بأمر بني اسرائيل بتقوى وحثهم على قبول ما جاء به من الأحكام والتي تتضمن التخفيف والتيسير خاطبهم بصيغة الأمر بطاعته، وهل يستفاد العلو من صيغة الأمر هذه أم انها لا تتعدى مضامين الطلب والسؤال، الجواب هو الأول، فهذا الأمر لم يصدر عن المساوي او الداني الى العالي، بل ان النبوة مرتبة تشريف ورفعة بالإضافة الى اقتباس معاني العلو من الآيات التي جاء بها , ومن موضوع الأمر وهو تقوى و الصلاح والانقياد لإمامة عيسى في سبل التقوى.
لقد أظهر عيسى ثقته بنبوته وانه رسول من عند وتقتضي وظيفة الناس الشرعية اتباعه والامتثال لما جاء به، وجاءت لغة الخطاب بصيغة الجمع وتحمل على العموم، فيشمل الخطاب الملوك والأمراء والرهبان، والذكور والإناث , فليس لأحد من بني اسرائيل الحق التخلف عن أمره وطاعته، وهو دليل على نسخ شريعته للتوراة وتبين الآية لزوم جذب الناس الى الإيمان ودعوتهم بحزم وصيغة الأمر واقتران هذه الدعوة بالآيات التي تكون عضداً وعلة لهذه الصيغة كي لا تذهب سدى.
وفي طاعة الناس لعيسى وجوه:
الأول: انها مطلوبة بذاتها، وفيها نفع وعلو مرتبة لعيسى .
الثاني: جزاء وشكراً لعيسى وثناء عليه لما جاء به من الآيات من عند .
الثالث: تعتبر طاعة لله تعالى.
والصحيح هو الأخير , فمراد عيسى هو أطيعوني بما جئت به من عند ، وما آمركم به من عبادته سبحانه وهو الذي يتجلى بوضوح في الآية التالية , اذ قال [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ] فطاعة عيسى تعني طاعة تعالى واتيان ما أمرهم به بواسطته.
وامر عيسى لبني اسرائيل انحلالي من وجوه:
الأول : اتباع الناسخ الذي جاء به وترك المنسوخ الوارد في التوراة.
الثاني : التقيد بأحكام العبودية والخشوع لله تعالى.
الثالث : الإنصات لعيسى فيما يأتي به من الأحكام، فمدة نبوة عيسى لم تستمر الا ثلاث ســنوات كما ذكر، وأشــتد الكيد والمكر له فتم صلبه، ولو بقى عيسى بين بني اسرائيل، لأبلغهم أحكاما أخرى , ولرأوا آيات عظيمة من سنخ الرسالة وأسرار ماهيته وخلقته الملكوتية.
ولكن سرعة غيابه ورفعه الى السماء جعل القرآن حاجة للناس ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى الا بعد ان تم نزول القرآن وترســخت مضامين العبادة في الأرض, وأتقن الناس أداء الصلاة وفــق الكتاب والســنة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: صـــلوا كما رأيتموني أصلي)( )، في خطاب لجميع أجيال المسلمين ليحرصـوا على حفظ أركان وأجزاء وشرائط الصلاة.
فدعوة عيسى لبني اسرائيل بطاعته لا تنحصر بما تنجز من التبليغ بل تشمل ما سيقوم بتبليغه مدة رسالته.
وهل خشي الملأ والرهبان من بني اسرائيل ان يأتي عيسى بأكثر مما أحله لهم وظنوا انه يريد نسخ شريعة عيسى ، الجواب من وجوه:
الأول: لقد جاء عيسى بآيات تفيد القطع والجزم عقلاً وشرعاً انه رسول من عند فلابد من تصديقه.
الثاني: ان التوراة كتاب جاء به موسى من عند فاذا اراد إنزال كتاب آخر غيره ينسخ أحكامه فليس للناس الإمتناع والإنكار والجحود.
الثالث: لم يأتِ عيسى الا بما فيه التخفيف ورفع النهي والحرمة عن بعض الموضوعات في اعانة سماوية لبني اسرائيل في تيسير أداء العبادات والفرائض.
الرابع: ان يفعل ما يشاء , ولا يسئل عما يفعل , وهو أعلم بالمصالح والمفاسد وملاكات الأحكام، ومن صدق العبودية الإلتزام بأحكام الناسخ والمنسوخ ضمن الكتاب والشريعة الواحدة، والنسخ بين الشرائع المتعددة.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [واتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] عشر مرات في القرآن، ومن الآيات ذات المضامين القدسية ان ثمانية منها جاءت في سورة واحدة هي الشعراء، وجاءت في خطاب كل من انبياء ونوح وهود وصالح وعيسى، وكل واحد منهم وردت دعوته وأمره بهذه الصيغة مرتين، كما ورد مرة على لسان لوط، وأخرى لشعيب.
وجاءت مرة واحدة بقوله تعالى حكاية عن نوح [أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ] ( )، مما يدل على ارادة الأنبياء طاعة واقامة الحجة بالآيات وحمل قومهم على التقيد بالشرائع التي جاءوا بها وعدم تضييعها، او التفريط بها الذي يسبب نزول البلاء، مما يعني ان نداء عيسى يتضمن الإنذار والتحذير.
واذ جمعت سورة الشعراء ثمان دعــوات من الإحدى عشــرة الواردة في القرآن فان دعوتي عيسى لبني اسرائيل بتقوى جاءتا في غيرها، احداهما في هذه الآية من ســورة آل عمران، والأخــرى في سورة الزخرف، وفيه اشارة الى الخصوصية في دعوة عيسى من وجوه محتملة:
الأول: انه رسول من الخمسة اولي العزم.
الثاني: ان ترتيب ومواضع الآيات في السور المتعددة لا يدل على خصوصية ما في دعوة عيسى لبني اسرائيل.
الثالث: تعلق فصل دعوة عيسى عن دعوات الأنبياء الآخرين ببني اسرائيل وليس بذات الدعوة والفاظها وموضوعها.
الرابع: الملازمة بين خصوصية خلق عيسى ومنشأ تكوينه الملكوتي السماوي وبين فصل دعوته في آيات مستقلة في سورة غير السورة التي جمعت دعوات الأنبياء الآخرين.
الخامس: توكيد جهاد عيسى في ذات والحجة الدامغة التي جاء بها كآية الإحياء والطير والإبراء، والأصل ان ينقاد له الناس لرؤية هذه الآيات.
اما بالنسبة للأول فان نوحاً من الرسل الخمسة أولي العزم , ومع هذا ورد ذكره ودعوته مع الأنبياء الآخرين في سورة الشعراء.
اما الثاني فهو بعيد، لأن آيات القرآن ليس فيها صدفة او اتفاق, ومواضعها في السور توقيفية , ومنه تعالى.
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس , فلقد أراد بيان عظيم فضله على بني اسرائيل وجهاد عيسى من أجل نجاتهم وتهيئة أذهانهم لبعثة خاتم النبيين، وتشريف عيسى واظهار اعتبار أصل خلقه في ترتيب ومواضع الآيات.
علم الخطاب النبوي
لقد أختار الإنسان ليكون خليفة في الأرض ويترشح من هذه الخلافة وجود صلة بين ومن أستخلفه في جزء مهم من أجزاء الكون، وهذه الصلة على وجوه:
الأول : ان يكون الناس فيها جميعاً بعرض واحد , أي فيما يخص هذه الصلة.
الثاني : اختيار فريق وجماعة من الناس لهذه الصلة في كل زمان.
الثالث : ارادة القضية الشخصية في الخلافة وهي خاصة بآدم .
الرابع : جعل انسان معين خليفة ويكون من المعمرين احقاباً كثيرة.
الخامس : تفضله تعالى بالوحي الى نفر من عباده لينالوا درجة النبوة ويقوموا بتبليغ الأحكام الى الناس.
والصحيح هو الأخير، فلقد أختار خير الناس ليكونوا رسلاً يبلغون الأحكام ويتلون آيات التنزيل، وفيه تشريف للناس جميعاً وعدم انحصار التشريف بالأنبياء، لأن النبوة اكرام لبني آدم جميعاً ورفعة لهم وصلة دائمة بين وبين العباد.
ومن مصاديق الإكرام النوعي العام للناس في النبوة الخطاب النبوي، وما ورد على لسان الأنبياء في دعوة قومهم وصيغ التخاطب والحديث معهم، والخطاب النبوي ملك للإنسانية جمعاء وان جاء بخصوص قوم او موضوع معين.
ويمكن تأسيس علم مستقل أسمه “علم الخطاب النبوي” ويتفرع الى فروع عديدة مع استقراء مسائله وأحكامه ومنها:
الأولى : خطابات التوحيد والإنقطاع الى .
الثانية : تضمن الخطاب النبوي لصيغ البشارة والإنذار.
الثالثة : الوعيد والتخويف في الخطاب النبوي.
الرابعة : الآيات القولية واللسانية والبلاغية في الخطاب النبوي.
الخامسة : البيان والوضوح وعدم اللبس في دعوة ونداء النبي.
السادسة : لغة العموم والإطلاق في دعوة الأنبياء.
السابعة : المضامين التأديبية في الخطاب النبوي.
الثامنة : النسخ في الخطاب النبوي , ويمكن تقسيم النسخ الى قسمين:
الأول: الذاتي، أي في ذات الشريعة والنبوة المتحدة.
الثاني: العام، أي النسخ بين الشرائع، بمجيء الرسول اللاحق بحكم ينسخ ما جاء به الرسول السابق كما في مجيء عيسى بحلية بعض ما حرم موسى .
الثالث : مفاهيم الحب في الخطاب النبوي , وهي على اقسام:
الأول: حب الأنبياء لله ، اذ يتجلى فيه أسمى معاني الحب.
الثاني: حب وتعلق الأنبياء بالعبادات والأحكام الشرعية وظهور هذا الحب بالتقيد التام بأدائها.
الثالث: حب الأنبياء للناس والذي يظهر باجتهادهم في دعوتهم للحق والهدى وتحمل الأذى منهم في سبيل صلاحهم.
الرابع : مضامين الإخلاص والعبودية في الخطاب النبوي.
الخامس : خطابات الأنبياء الى بني اسرائيل.
السادس : بيان النعم الإلهية وتعداد شطر منها في الخطاب النبوي.
السابع : النداءات الشخصية والخاصة.
الثامن : مدرسة الخطاب النبوي في القرآن.
التاسع : الحياة الآخرة والمعاد في الخطاب النبوي.
العاشر : موضوعية الجنة والنار , والحث على الفوز بالجنة , والزجر عما يؤدي الى النار في الخطاب النبوي.
الحادي عشر : الخطاب الإلهي الذي يرد على لسان الأنبياء.
الثاني عشر : مناداة وسؤال وموضوع خطاب الناس للنبي وموضوعاته.
الثالث عشر : مناجاة الأنبياء لله تعالى.
الرابع عشر : وساطة النبي بين وبين الناس فيما يسألون.
الخامس عشر : ادعية الأنبياء وموضوعاتها وظهور الإستجابة فيها.
السادس عشر : الوعد والوعيد في الخطاب النبوي.
السابع عشر : خطابات الأنبياء الخاصة بالأذى الذي لاقوه من قومهم، ومضامين هذه الخطابات وما تحكيه من صبر الأنبياء وجهادهم من أجل نجاة قومهم والناس جميعاً.
الثامن عشر : صيغ الإحتجاج ولغة البرهان في خطابات الأنبياء.
التاسع عشر : كيفية تلقي الناس للخطاب النبوي وهي على وجوه:
الأول: النصرة والتأييد.
الثاني: التصديق المجرد الخالي من النصرة والإعانة.
الثالث: الإعراض وعدم الإكتراث.
الرابع: الإنكار والجحود.
الخامس: اظهار العداء والحرب على الدعوة النبوية مع رؤية الآيات او على حين غفلة من الناس.
السادس : علم الأخلاق في الخطاب القرآني.
السابع :
الثامن : لغة الحوار والحديث في الخطاب النبوي.
التاسع : النبوة وآياتها في الخطاب النبوي، اذ انه طريق وسبيل لبيان الآيات والإخبار عنها كما في خطاب عيسى عن هذه الآيات فان أول ما بدأ كلامه مع بني اسرائيل بان ذكر لهم الآيات التي جاء بها من عند .
العاشر : إقتران الفعل بالقول في الخطابات النبوية وموضوعاتها.
الحادي عشر : تأريخ الخطاب النبوي من أبينا آدم الى أيام خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني عشر : الخطاب النبوي وأثره في هذا الزمان.
الثالث عشر : خطابات الأنبياء في القرآن , باعتباره الشاهد السماوي على التأريخ , والوثيقة الملكوتية لقصص الأنبياء.
الرابع عشر : الآيات والمعجزات في الخطاب القرآني، وهي على أقسام:
الأول: الآيات التي يتضمنها الخطاب القرآني ودلالاته العقائدية.
الثاني: المعجزات الحسية التي يخبر عنها الخطاب النبوي سواء كان سابقاً او لاحقاً لها.
الثالث: المعجزات العقلية التي جاء بها الأنبياء وصدقوا بها.
الرابع : المطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمبين، في الخطاب النبوي.
الخامس : أهلية المسلمين للخلافة في الأرض بالتزامهم بالأحكام الواردة في خطابات الأنبياء.
السادس : شواهد العصمة في الخطاب النبوي.
السابع : الخطاب النبوي دليل على صدق النبوة.
الثامن : تدوين المسلمين للسنة النبوية واعتبارها المصدر الثاني للتشريع.
التاسع : مرتبة الإستغفار والحث عليه وأبواب العفو وعدم القنوط واليأس من رحمة في خطابات الأنبياء لقومهم.
العاشر : البشارة بالأنبياء اللاحقين وتصديق الأنبياء السابقين في الخطاب النبوي.
ان هذا العلم يفتح آفاقاً من المعرفة الإلهية , ويضيء سبل التحقيق والإستنباط للعلماء, وييسر لهم استخراج الدرر الكامنة في خطابات الأنبياء بما يساعد على استظهار مضامين قدسية , وعلوم متجددة من آيات القرآن لتكون شاهداً على اعجازه، وتوكيداً لجهاد الأنبياء في سبيل الله، وبياناً تفصيليا لما حباهم الله به من الفيض الملكوتي , ولتعم الفائدة من الوحي والتعليم السماوي.
الإعراب واللغة
ان: حرف مشبه بالفعل، اسم الجلالة اسمها.
ربي: خبرها، وهو مضاف، والياء مضاف اليه.
وربكم: الواو: حرف عطف، رب: معطوف , والكاف: مضاف اليه.
فاعبدوه: الواو للإستئناف، وقيل هي الفصيحة.
اعبدوه: فعل أمر مبني على حذف النون، وفاعل , والهاء مفعول به، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم.
في سياق الآيات
بعد ان أعلن عيسى على الملأ وجميع بني اسرائيل الآيات التي جاء بها من عند من غير تردد أو خوف، ودعاهم الى تقوى وطاعته والإمتثال للأحكام التي جاء بها، قام بتفسير التقوى والطاعة الواردين في خاتمة الآية السابقة، فأمرهم بعبادة ورغبهم بها وحبب اليهم مضامين الهداية والصلاح، وحذرهم من المعصية والضلالة والشرك وأقام عليهم الحجة مركبة ومتعددة من:
الأول: الآيات السالمة من المعارضة والتي تؤكد صدق نبوته.
الثاني: المنافع الخاصة التي نالوها ببركة عيسى من شفاء المرضى واحياء الموتى وبركات الأرض التي تشير اليها بالدلالة الإلتزامية آية الاكل والإدخار , وعمومات قوله تعالى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ].بالإضافة الى إنعكاسها على الصلات الإجتماعية.
الثالث: دعوتهم الى الإيمان التي تصاحبها الآيات التي تقترن بالدعوة الى , وتكون حجة على الناس في لزوم تصديق الدعوة , وعدم الإعراض عنها.
الرابع: موضوع وأحكام الدعوة ذاتها فانها نصيحة بالغة، وارشاد الى ضرورة من ضرورات الحياة.
الخامس: حرص عيسى على تكرار نسبة الرب الى بني اسرائيل للتذكير والموعظة.
إعجاز الآية
لقد أنتقل عيسى الى الموضوع الذي خلق من أجله الإنسان، والوظيفة الأساسية لوجوده على الأرض، وأراد ان يؤكد ان الآيات التي عنده انما هي من جاءت على نحو الطريقية لإصلاحهم وارشادهم الى الواجبات التي تلزم كل واحد منهم على نحو عرضي من غير ان يكون أداء بعضهم لها مانعاً من أداء الآخرين، لأن العبادة واجب عيني على كل مكلف ذكرا او انثى.
فمن اعجاز الآية ان جاءت بالأمر بعبادته تعالى على نحو قاطع وبسيط ليس مركباً من أطراف ووسائط، او مقدمات وذيها.
ومنه حرص عيسى عليه السلام على تكرار اسم الرب ونسبته الى بني اسرائيل لتذكيرهم بمسؤوليات العبودية ولزوم الطاعة لله تعالى، وانه هو الذي أرسله بتغيير بعض من أحكام التوراة، وما يأتي منه تعالى يجب طاعته جملة وتفصيلاً، تحليلاً كان او تحريماً، فرضاً او نفلاً.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية “هذا صراط مستقيم” ومن الآيات ان هذا اللفظ لم يأتِ في القرآن الا ثلاث مرات( )، كلها حكاية عن عيسى في دعوته لله تعالى.
الآية سلاح
لقد أارد عيسى تثبيت دعائم التوحيد في الأرض بان يجذب القلوب الى مفاهيم التوحيد ويجعل الآيات التي جاء بها واسطة كريمة، وبيان حقيقة وهي ان العبادة واجب على الناس على نحو العموم الإستغراقي وان الإنسانية الكاملة تتجلى بتوظيف العقل للمعرفة الإلهية،
والآية عز وفخر للمسلمين في كل زمان بانقيادهم لما أمر به عيسى ، وشاهد على ان المسلمين هم ورثته وحملة لوائه والمصدقون بالآيات التي جاء بها وتبين الآية سلامة سبل العبادة والتوحيد وخسارة المشركين والمعاندين والمنكرين.
افاضات الآية
تبدو واضحة تجليات النبوة وتمسك عيسى بمفاهيم العبودية لله، وافتخاره بانه عبد ولا فرق بينه وبين بني اسرائيل في العبودية لله، ومن أهم صيغ جهاد النبوة اعلان العبودية لله , ودعوة الناس للفرار اليه تعالى، لقد أراد عيسى ان تكون صلة كل انسان مع ربه خالية من الوسائط فيما يخص العبودية واظهار الخشوع له تعالى، فجاءت الآيات لتكون مقدمة لهداية الناس بعبادته تعالى.
لقد أراد عيسى ان يظهر الإيمان والإعتقاد الصحيح على عالم الأفعال وواقع الأعمال بأداء الفرائض والتقيد بما جاء به للفوز في دار النعيم، لقد أراد عيسى لبني اسرائيل الفناء في مرضاته تعالى ونزع الكدورات الظلمانية، ورفع الغشاوة عن البصائر.
مفهوم الآية
في الآية منع من الغلو في الأنبياء وعيسى خاصة، اذ انه بدأ كلامه وحجته وإحتــجاجه باعـلانه العبودية لله تعالى, وهــو أول ما نــطق به وهو في المهد [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ]( )، ومن منافع هذا التكرار وجوه:
الأول: دعوة بني اسرائيل الى الإقرار بالعبودية لله تعالى.
الثاني: رجاء ظهور مفاهيم العبودية في اقوالهم وأعمالهم وسنن حياتهم اليومية , والتلبس بالطاعة وأداء الواجبات واجتناب النواهي والمعاصي.
الثالث: الإخبار بان هذه الآيات ومنها خلق الطائر من الطين واحياء الموتى لم تخرج عيسى عن مقامات العبودية , ولم تجعله برزخاً بين الخالق والمخلوق بل انه بقى بذات المرتبة من العبودية التي هم فيها.
الرابع: توكيد لقيد (باذن ) في الآيات التي جاء بها عيسى .
الخامس: زجر بني اسرائيل عن الغفلة , والإنصات لأقوال الجاحدين والمعاندين.
السادس: اعلان عيسى العبودية لله برزخ دون افتراء الحاسدين والمنكرين على عيسى ، اذ اكد انه عبد وداعية اليه.
السابع: لقد أضاف عيسى الآيتين السابقتين اسم الرب الى بني اسرائيل وانه تعالى (ربهم) فجاءت هذه الآية لدفع وهم، ولتوكيد ان رب عيسى ايضاً.
الثامن: حصر الإستقامة والسلامة في عبادة ، فليس أمام بني اسرائيل الا طاعة عيسى .
التاسع: من أفراد عبادته تعالى قبول ما جاء به عيسى من النسخ وعدم الإصرار على البقاء على الحكم المنسوخ الذي جاء في التوراة، وهذا القبول اعتراف بنبوة عيسى وهو جزء من عبادته تعالى، لأن التصديق بالأنبياء فرع الإقرار بالربوبية.
وفي الآية مسائل:
الأولى: اقرار عيسى بانه عبد الله تعالى.
الثانية: التوكيد بلزوم عبادة بني اسرائيل لله لأنهم ربهم وخالقهم وإلههم.
الثالثة: وجوب عبادته تعالى واتيان ما أمر به.
الرابعة: التمسك بمضامين العبودية طريق ومنهج في الحياة.
الخامسة: حصر الإستقامة والسلامة بعبادته تعالى، فمن أراد النجاة في النشأتين فعليه بالإخلاص في عبادة ، وعدم تضييع ما جاء به عيسى عليه السلام.
التفسير
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ]
لقد بدأ عيسى كلامه ونداءه لبني اسرائيل بانه جاء بآية من عند ثم ختمه بانه عبد لإيجاد الملازمة وعدم الإنفكاك بين النبوة والعبودية، والإخبار عن ارتقاء النبي في سماء العبودية باظهاره أخلص معاني الخشوع والخضوع لله تعالى.
ولقد قدم عيسى نفسه على بني اسرائيل في عناوين العبودية ونسبة الرب ,وفيه وجوه:
الأول: شوق وعشق عيسى لاعلان عبوديته لله تعالى.
الثاني: اخبار عيسى بانه أمام بني اسرائيل في مفاهيم العبودية والذل والمسكنة والإنقياد لأمره تعالى وقد تجلت هذه المعاني في سنة عيسى وسياحته في الأرض وصلاته مع الفقراء والمساكين والزمنى وأهل الحاجة وأصحاب الفاقة.
الثالث: منع الغلو بشخص عيسى والنهي القولي والفعلي عن اتخاذه الهاً او القول انه ابن .
وفي أسباب النزول للواحدي قال: ان وفد نجران قالوا رسول صلى الله عليه وآله وسلم: مالك تشتم صاحبنا ؟ قال ، وما أقول ؟ قالوا: تقول إنه عبد ، قال : أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب ، فإن كنت صادقا فأرنا مثله ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية( ).
الرابع: لقد نفــى عيســى وجــود برزخــية ومرتــبة وســط بين الخالق والمخلوق، وان النبي شأنه شــأن الناس جميعاً فهو عبد داخر لله تعالى , وقد جــاء الإسلام ليؤكــد عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً] كما أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسمى مضامين الخشوع والخضوع لله تعالى ومن مقامات العبودية.
الخامس: لقد يسر عيسى للمسلمين الرد على النصارى في غلوهم به ، وقد أحتج عليهم رسول صلى الله عليه وآله وسلم بان آدم عبد ويأكل ويشرب وليس له أب وكذا بالنسبة لعيسى، فانعدام الأبوة ليس سبباً لدعوى الربوبية او البنوة لله تعالى.
السادس: بعد ذكر عيسى للآيات العظيمة التي جاء بها حرص على ان يختم كلامه باعلان عبوديته لله تعالى , وبيان حقيقة تكوينية وهي ان الأنبياء واسطة مباركة تجري على ايديهم الآيات لطفاً منه تعالى بالعباد لدعوتهم لسبل الهداية والرشاد.
السابع: ان عيسى لم يدع زيادة في الرتبة والمقام على موسى والنسخ أمر الهي وتخفيف عن بني اسرائيل فلا يجوز لهم الصدود عنه.
الثامن: الآية دعوة للملوك والرؤساء والرهبان لإظهار صيغ العبودية في أقوالهم وأفعالهم من باب الأولوية فالرسول الذي يحيى الموتى ويبرء الأكمه والأبرص يعلن انه عبد ، فعليهم ان يأتوا بما يدل على صدق عبوديتهم لله تعالى والذي يتجلى باتباع عيسى بما جاء به من عند وتصديقه في احكام النسخ والبشارة بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع: الآية مقدمة لمنع الغلو في عيسى عند رفعه من الأرض حياً.
العاشر: توكيد عيسى على التساوي بين الناس في مراتب العبودية بين الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء , فالجامع هو الخشوع والخضوع لله تعالى.
الحادي عشر: تظهر هذه الآية نتائج تعليم لعيسى الحكمة فان اعلان العبودية لله تعالى هو عنوان العلم وشاهد على تلقي المعارف الإلهية.
لقد جاء في أول نداء عيسى وفي وسطه لبني اسرائيل بانه جاء (بآية من ربكم) وعاد في هذه الآية وقال لهم بان ربكم , وفيه وجوه:
الأول: التوكيد على موضوع الربوبية.
الثاني: التذكير به كوسيلة لجذب بني اسرائيل للإيمان.
الثالث: منع الغلو بعيسى لأن الآية تدل بالدلالة التضمنية على ان كل ما عند عيسى هو من فضل .
الرابع: اللجوء الى تعالى وذكــره للوقاية من كيدهم وحسدهم.
الخامس: الجمع في مقامات العبودية بينه وبين بني اسرائيل.
السادس: منع استيلاء النقس الشهوية والغضبية , ونزع رداء الكبر عن بني اسرائيل، فمتى ما أدرك الإنسان انه عبد تعالى فانه يتجنب الكبر والطغيان.
السابع: لقد تكرر الإقرار بالربوبية لله من عيسى وامه وجدته، في شهادة على اخلاصهم في العبودية.
الثامن: جاءت الآية مقدمة لأمرهم بعبادة ، للملازمة الشرعية والعقلية بني الربوبية ووجوب العبادة.
قوله تعالى [فَاعْبُدُوهُ]
جاءت صيغة الأمر في خطاب عيسى واضحة جلية، وتفيد الحصر بعبادته تعالى واجتناب الشــرك، ولم تقتــصر الآيــة على الإيمــان بل لابد وان يترجل بالفعل العبادي المتمثل بأداء الفرائض واجتناب النواهي.
لقد أخبر عيسى عن الغايات الحميدة لإتيانه بالآيات وهي جذب بني اسرائيل الى عبادة بقوة، ومن مفاهيم هذه القوة هي صيغة الأمر بعبادته تعالى فمع الآيات تقوم الحجة على بني اسرائيل ويحق لصاحب الآيات والبراهين القاطعة ان يأمرهم بواجباتهم التي لا يجوز التخلف عنها.
ومن اعجاز القرآن ان تكون الكلمة الواحدة لها حيثيات وجوانب علمية متعددة، فقوله تعالى [فَاعْبُدُوهُ] فيه مسائل:
الأولى: الإشارة الى حصول تقصير في العبادات، وتخلف عن أداء الواجبات، فجاءت رسالة عيسى تجديداً للآيات والنبوة، ونعمة على بني اسرائيل وأقترنت بالتخفيف في بعض الأحكام، وهذا الأمر ظاهر من الآية التالية , وقوله تعالى [فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ].
الثانية: الأمر بعبادة شاهد على نبوة عيسى وانه جاء رسولاً منه تعالى فهو لم يدع لنفسه او يطلب الملك والرياسة بهذه الآيات، خصوصاً وان الناس تنقاد لصاحب الآيات ساعة رؤيتها، ولكنه أراد الإنتفاع من الآيات واعلانها بالدعوة الى عبادة .
الثالثة: عبادته تمنح الإنسان بصيرة وعلماً يستطيع معه التمييز بين الأشياء ومعرفة صدق الآيات التي جاء بها عيسى ومالها من المضامين القدسية.
الرابعة: لقد أراد عيسى محاربة الكفر والنهي عن ترك العبادات والفرائض والإبتعاد عن الدين وما جاء به موسى ، وتجمع هذه المقاصد السامية عبادة لأن فيها السلامة من أدران الضلالة.
الخامسة: من وظائف النبوة تعاهد التوحيد في الأرض، لذا أمر عيسى بني اسرائيل بعبادة تعالى.
السادسة: بتقييد بني اسرائيل بالعبادة تدوم عليهم النعم والبركات، وتدفع عنهم الشرور، أي ان عيسى أراد نفعهم ومصلحتهم وحذرهم من الأذى والبلاء الذي يجلبه الكفر والصدود.
السابعة: لقد اراد عيسى نجاتهم من الشرك وآفاته الإجتماعية والأخلاقية.
الثامنة: عبادة هي الطريق الوحيد لنيل الفوز في الآخرة، فأراد عيسى لبني اسرائيل الأمن من عذاب النار واهتدائهم الى الأعمال التي تدخلهم الجنة وهي أداء العبادات والتصديق بالأنبياء والإمتثال لما جاءوا به.
التاسعة: وردت كلمات هذه الآية على لسان عيسى في القرآن ثلاث مرات( ). وفيه بيان لجهاد عيسى في سبيل , والحاحه على بني اسرائيل في لزوم عبادته تعالى , وما كان يعانيه من ابتعادهم عن أحكام الشريعة، فهم مع التقصير في الإمتثال لما جاء به موسى لا يرضون بالنسخ في بعض أحكام شريعته وبما فيه الفائدة والنفع لهم.
العاشرة: يبحث في علم الأصول عن الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده، وهل يستلزم الأمر بالشيء النهي عن ضده، وحرمة الضد هنا ظاهرة سواء كان الضد العام او الضد الخاص، والأمر الوجودي المنافي، او العدمي فلا يجوز ترك العبادة، ولا تصح عبادة الأنداد والشرك بالله.
الحادية عشرة: الإقبال على عبادة وطاعته والإنقياد لأوامره عنوان الشكر على النعم , ومنها بعث الأنبياء بالآيات الباهرات، واقرار بالضعف والفقر والحاجة الملازمة للإنسان في وجوده, وهي أي العبادة أفضل مقدمة لقضاء الحوائج وحيازة الرغائب.
الثانية عشرة: العبادة شاهد على تعظيم من مقامات الذل والخضوع, وشاهد عملي على انفراد تعالى باستحقاقها والإقرار بربوبيته, وفيها اظهار للإستجابة لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام.
ان الآيات التي جاء بها عيسى جعلته يحتل مكانة قدسية سامية في تأريخ بني اسرائيل , وليس لهم ان يعرضوا عن رسالته وما جاء به من عند ، والإنتساب اليه والإقرار بنبوته عنوان شرف وفخر وباب للأجر والثواب.
الثالثة عشرة: العبادة مدخل للإستعانة بالله واللجوء اليه في المهمات، وقد فاز بهذه المنزلة الرفيعة المسلمون وأخذوا يكررون سبع عشرة مرة في اليوم، [اياك نعبد واياك نستعين ] وفيه طرد لغشاوة الشرك واصلاح للنفوس وتهذيب للأفعال، واحتراز من سلطان النفس الشهوية والغضبية.
قوله تعالى [هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]
بعد بيان الآيات التي جاء بها عيسى ومضامين الدلالة الموصلة الى المطلوب ولزوم عبادته تعالى، لقد أراد عيسى تثبيت الإيمان في نفوس بني اسرائيل وجعل أركانهم وجوانحهم تشترك في طاعة ببصيرة ومعرفة .
وتؤكد الآية ان الصراط أعم من ان ينحصر بعالم الآخرة فيشمل الدنيا ويتجلى بطاعته تعالى والإمتثال لما جاء به الأنبياء، وما صراط الآخرة الذي هو جسر على جهنم والعبورعليه الا عنوانا لجزاء العمل في الدنيا، والأمان من النار.
لقد منعت الآية الجهالة والغرر ,وساعدت بني اسرائيل على معرفة دروب الرشاد والهداية.
وقد ذكرت في الجزء الأول من الكتاب اثني عشر وجهاً لمعاني الصراط( ).
واسم الإشارة (هذا) يفيد وجوهاً:
الأول : يتعلق بالآيات التي جاء بها عيسى والأمر بعبادته تعالى.
الثاني : ما جاء به من آيــات من عند كــآية الطير والإبراء والإحياء.
الثالث : تصديقه للتوراة , وقيامه بحلية بعض ما حرم في التوراة.
الرابع : اعلان التوحيد وان رب العالمين.
الخامس : الأمر بعبادته تعالى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وان كان الوجه الأخير هو الأصح والأنسب والأقرب منها لمناسبة الحكم والموضوع وبقرينة اسم الإشارة (هذا).
لقد أخبر عيسى عن حكم شرعي يشمل الناس جميعاً على نحو العموم الإســتغراقي، وجاءت الآية بصــيغة التنكــير في مقام الإثبات، وعدم الإيجاد اعم من عدم الوجود فهل تعني وجود صراط مستقيم غير العبادة، الجواب لا، فليس من سبيل للنجاة والصلاح الى العبادة .
وتدخــل الوجوه الأخــرى لمعنى الصــراط كلها في العــبادة موضــوعاً وحكماً، فاختيار الإسلام عقيدة والعمل بأحكام الكتاب والإقتداء بالنبي كلها من مصاديق العبادة، وجاءت في خطاب عيسى على نحو الإجمال الذي يكفي للبيان والحكم، كما جاء مقيداً بالإستقامة.
ويتوجه المسلمون في تلاوتهم وقراءتهم وصلاتهم وأدعيتهم كل يوم بسؤاله تعالى للهداية الى الصراط المستقيم.
لقد أراد عيسى اتصال النعم على بني اسرائيل بالتزامهم بأحكام الصراط المستقيم , بدليل قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] أي ان المســلمين يذكــرون كل يــوم وعلى نحو التكرار والإعادة في صلاتهم أسلافهم من المسلمين الذين التزموا بعبادة ، وأراد عيسى ان يحظى بنو اسرائيل بدعاء المسلمين وثنائهم.
لقد بدأ عيسى باعــلانه مجيئه بآيــة من عند ثم ختـمه بتكرار انه جاء بآية من عند وبعد هذا التكرار أمــرهم بعبادة فهذا الأمر هو ايضاً آية من عند منضماً الى غيره ومستقلاً أي انه آيتان.
اما الإنضمام فلأن الدعوة جاءت مقرونة بالآيات التي تتحد القوانين والعلل، مما يضفي عليها طابع الصدق والحق، ويجعلها حجة شرعية وعقلية تلزم الناس باتباع صاحبها الرسول عيسى وإما الإستقلال فان الدعوة الى عبادة آية بذاتها لأنها جهاد في سبيله تعالى وتذكير الناس بوجوب العبادة، وفيها منع من تفشي الضلالة والكفر الظاهر والخفي.
فيكون التقدير: اني جئتكم بآية من ربكم ان أتقوا وأطيعون، ان ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، أي ان أفراد الآية التي ذكرها عيسى في أول الآيات هي:
الأول : صيرورة الطين طيراً باذن بعد نفخ عيسى فيه.
الثاني : ابراؤه لمن اصيب بالعمى وفقد بصره.
الثالث : ابراؤه للأبرص المبتلى بالأمراض الجلدية.
الرابع : احياؤه لبعض الموتى واخراجهم من القبور بالدعاء وباذن .
الخامس : اخبار بني اسرائيل عما يخزنون في بيوتهم من المؤون.
السادس : شهادة عيسى الرسول من عند على صدق التوراة والعمل بأحكامها.
السابع : مجيؤه بالنسخ وهو مخصوص بباب واحد وجعل بعض مما حرم عليهم حلالاً.
ثم أعاد عيسى الكلام بانه جاء بآية من عند ولم يذكر بعده آيات حسية من الإرادة التكوينية ولكنه ذكر قوانين وقواعد من الإرادة التشريعية وهي ايضاً آية اعجازية.
ومصاديق هذه الآية هي:
الأول : الدعوة الى الخشية من واجتناب المعاصي.
الثاني : لزوم طاعة الرسول لما جاء به من الآيات من عند .
الثالث : جهاد عيسى باعلانه كلمة التوحيد , فكما تتحدى الآيات الحسية العلل والأسباب المادية، فان دعوة عيسى هذه تحدِ لأهل الكفر والضلالة.
الرابع : أكد عيسى ان ربه كما هو رب بني اسرائيل في نفي منه للولدية والربوبية عنه فكما انه يدعو بني اسرائيل للإيمان فانه يدعو انصاره والى يوم القيامة الى عدم الغلو فيه، بل يجب الحرص على الإيمان بانه عبد كباقي الناس .
الخامس : بعد امر عيسى الناس بطاعته كما في الآية السابقة , أمرهم هنا بعبادة على نحو الوجوب، مما يدل على انه لا يقصد في طاعته الا طاعة واتيان ما جاء به رسولاً منه سبحانه وفيه زجر عن الجحود بما جاء به, ولزوم إكرام النبي لعظيم منزلته عند .
وساعة اتيان عيسى للآيات دعوة للملوك والرؤساء بالتواضع والخشــوع لله واجتناب دعــوى الربوبية، وأثــر هــذه الدعــوة بقــى في الأرض، وكــلماتــه لا زالت حــية في الأذهــان فلــم تجــد من يدعي الربوبية من الملوك والرؤســاء وان جــاءوا بأفعــال طاغوتية تدل على التجــبر والتكــبر, وتتضــمن التعــدي والظـلم النوعي العام.
السادس : لقد أمر عيسى بني اسرائيل بالعبادة على نحو عام فليس لأحد منهم ان يعرض عما جاء به عيسى فمن مصاديق العبودية لله قبول ما جاء به عيسى .
السابع : من الآيات ان عبادته تعالى طريق الحق والهداية وتنحصر السلامة والنجاة به.
ويلاحظ في الآيات تشابه العدد بين الآيات التي ذكرت بعد اخباره الأول بانه جاء بآية من عند ، واخباره الملكوتي الثاني.
ومن الآيات ان آية خلق عيسى في تكوينه ونشوئه تتجلى في كلامه مثلما تبدو في أفعاله والآيات التي تترى على يديه، والكثرة والتوالي في مصاديق وأفراد الآيات التي جاء بها من عند آية أخرى يتضف بها عيسى فقد جاء صالح بالناقة آية الى قومه ثمود وهي آية عظمى ولكنها جاءت لمرة واحدة في كفاية المرة للحجة , ونزول العذاب على العصاة، اما الآيات التي جاء بها عيسى فانها متعددة بالذات والموضوع والمصاديق والأفراد، وهذا التعدد المركب والمطرد في الآيات شاهد على منزلة عيسى عند وعلى موضوعية الجوهر الملكوتي في خلقه.
قانون الإتحاد الزماني للإيمان
لقد جعل العبادة هي الغاية من خلق الإنسان، ولم يجعل غاية أخرى معها سواء بعرض واحد او أدنى منها مرتبة، وهذا من الآيات التكوينية في الخلق، ولابد ان تترجل هذه الغاية في الواقع العملي في سلوك وعمل أفراد الجنس البشري، ليس من باب الإكراه والجبر بل بحكمته تعالى , وما رزق الإنسان من العقل وبقواعد اللطف ومنها بعثة الأنبياء التي لها منافع متعددة في هذا الخصوص منها أمر عيسى لبني اسرائيل بعبادة .
و لهذا الأمر تأثير مبارك من وجوه:
الأول: اعتبار الآيات التي جاء بها عيسى .
الثاني: وجود مصاديق العبادة عند بني اسرائيل قبل بعثة عيسى لما جاء به موسى .
الثالث: دعوة عيسى وجهاده من أجل جذب الناس وجمع الأتباع والأنصار.
الرابع: وظيفة العقل الذي جعله رسولاً باطناً عند الإنسان فيهديه لعبادة الخالق.
الخامس: الآيات الكونية والشواهد اليومية التي تؤكد وجود الصانع ولزوم عبادته.
السادس: جهاد أصحاب وأتباع الأنبياء في كل زمان.
ولا تعارض بين هذه الوجــوه فكلها تتعــاون من أجــل بقاء الإيمان في الأرض واقامة الصــلاة وأداء الفرائض الأخــرى, واســـتدامة ذكر وتعاهد الكتب السماوية، فيصدق على من أتبع آدم في أولاده وأحفاده انه مؤمن، ويصدق على المسلم في هذا الزمــان انه مسلم بعرض ومرتبة واحدة , وان تباينت الوظيفة العبادية ما دام الإمتثال والمأتي به موافقاً للمأمور به, فالإيمان واحد في الأحــقاب المتباينة والأفراد الطولية الزمان وهو شــاهد على اســتدامة الإيمان وعدم مغادرته الأرض، والأخوة التي تربط المسلمين مع اختلاف الأزمنة والأمكنة.
بحث بلاغي
من اقسام البديع(التفسير) وقال السيوطي قال اهل البيان: وهو ان يكون في الكلام لبس وخفاء، فيؤتى بما يزيله ويفسره، ومن امثلته إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا.
ويمكن مناقشة هذا الباب من جهة الاسم والمسمى، اما الاسم فهو صحيح لان التفسير لايدل على الابهام، فليس كل ما جيئ له بتفسير مبهماً, واما من جهة المسمى فليس في القرآن ابهام وخفاء، فيأتي التفسير فيه للبيان والتفصيل.
فآيات القرآن يفسر بعضها بعضاً, ويشمل العموم والخصوص، والاطلاق والتقييد، والاجمال والتبيين والناسخ والمنسوخ وليس فيه مبهم، لذا تجد اسئلة الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مضامين الآيات وتفسير كلمات القرآن على ظاهر للفظ والموضوع والحكم، وافــادته المعنــى الملازم والمتبادر, خصوصاً في المسائل الابتلائية.