المقدمة
الحمد لله الذي دلّ على ذاته بذاته، وجعل الممكنات مفتقرة الى رحمته، ومستجيبة لقدرته وخاضعة لسلطانه، ولا يتخلف أحد عن الإستجابة لمشيئته , نستعينه على الحاجات ما دقّ منها وما كبر، ونلجأ اليه لكشف البأساء ودفع الضراء، وصلى على النبي محمد صاحب الآيات والكمالات وعلى آله وسلم.
ولقد تفضل الله سبحانه بالمدد والفيض لإتمام هذا الجزء وهو السابع والخمسون من معالم الإيمان , ويتضمن تفسير الآيات (52- 55) من سورة آل عمران، رحمة منه سبحانه علينا وعليكم ولتفتح أبواب علوم القرآن أمام الباحثين لينهلوا من كنوز القرآن.
واذ لا تزيد التفاسير الكبرى للقرآن في تأريخ الإسلام وعموم امصاره المباركة على ثلاثين جزء لكل واحد منها ,فان هذا التفسير المبارك صدر منه مائة وعشرة أجزاء , ولا زلت في سورة آل عمران , وكلها تفسير واستنباط وتأويل من غير خروج عن ظاهر القرآن , وفيها بحوث قرآنية في الفقه والقراءات والبلاغة وصلتها مع علم الكلام , ووجوه مستحدثة للإعجاز , وقوانين ونظريات وعلوم قرآنية جديدة، وتناول لمعنى ألفاظ القرآن، وبيان الأحكام، ومبادئ علم الأخلاق والأصول والمنطق، من غير جرح او ذم او تعريض باي مذهب من مذاهب المسلمين , فهذا التفسير ملك للمسلمين جميعاً , وباب عز وفخر لهم , وشاهد عقائدي في زمن العولمة على صدق التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا].
وإبتدأ هذا الجزء بذكر جهاد عيسى عليه السلام وهو نبي ومن الرسل الخمسة أولي العزم وصبره في طاعة الله، لقوله تعالى[فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ]( )، فمع أنه نبي يعلم بالوحي إلا أن معالم الكفر والجحود بنبوته ظهرت على ألسنة وأفعال القوم.
ولم ينتقم منهم عيسة، بل توجه بالنداء العام لذب الناس على نصرته والصدق في إتباعه في مرضاة الله.
وأختتم هذا الجزء بأخبار الله عز وجل لعيسى عليه السلام بقوله تعالى[إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، لبيان نصرة الله عز وجل للأنبياء وجعل الكفار في نية وظلمة بعد عدم الإنتفاع من معجزات النبوة.
وقد تفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دحر كفار قريش وخزيهم ومفاهيم الضلالة وإلى يوم القيامة [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
الإعراب واللغة
الفاء: استئنافية، ويجوز ان تكون عاطفة، لما: حرف وجود لوجود وتسمى الحينية، أحس: فعل ماض، عيسى: فاعل، منهم جار ومجرور متعلقان بأحس.
الكفر: مفعول به.
قال: فعل ماض، والفاعل ضمير يعود لعيسى، والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وهو (لما)
من: اسم استفهام مبتدأ، انصاري: خبر وهو مضاف والياء: مضاف اليه، الى : جار ومجرور.
قال الحواريون: فعل ماض، وفاعل مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم.
نحن انصار : مبتدأ وخبر، واسم الجلالة مضاف اليه.
آمنا بالله: آمنا: فعل ماض والضمير فاعل والجملة خبر ثان لنحن، بالله: جار ومجرور.
واشهد بانا مسلمون: الواو حرف عطف.
اشهد: فعل أمر، بأنا: حرف جر وان واسمها.
مسلمون: خبر مرفوع بالواو، وان وما في حيزها مصدر في محل جر , والتقدير واشهد باسلامنا.
في سياق الآيات
لقد جاء عيسى بآيات لم يشهد لها تأريخ البشرية مثيلاً، وكان من سعادة وجد أهل زمانه ومن عاصره ان يحظوا بهذه النعمة , ويروا القدرة الإلهية تتجلى ببراهين خارقة للعادة وقوانين السببية على يد عيسى، ثم يقوم مرة أخرى بدعوتهم الى عبادة .
وجاءت هذه الآية لبيان مدى الاستجابة، والاعراض عن هذه الدعوة لتظهر الآيتان التاليتان حال الانصار وحسن ايمانهم، وجحود اكثرهم بدعوة عيسى.
وإبتدأت الآية بالحرف [فَلَمَّا] والفاء يفيد العطف والتعقيب من غير تراخ , وقد تقدم جواز إفادتها الإستئناف أي حين أحس عيسى عليه السلام من أكثر القوم الكفر والجحود برسالته بادر إلى الدعوة الخاصة التي تكشف صدق الإيمان .
ومن الإعجاز أن هذه الدعوة لم تأت إلا بعد البيان بلحاظ الآيات السابقة من وجوه :
الأول :تجلي الآيات بولادة عيسى عليه السلام بمعجزة .
الثاني :إكرام مريم بنت عمران بشرف الحمل بعيسى لأنه معجزة أخرى قائمة بذاتها .
الثالث : تسمية عيسى بالمسيح من عند الله هذا الاسم بأمور :
الأول : ورود اسم أمه مريم ملازماً لإسمه من عند الله ، ليكون هذا الاسم بتمامه [عِيسَى ابن مَرْيَمَ] ( ) مكتوباً في اللوح المحفوظ.
الثاني :نعت عيسى بأنه وجيه عند الله عز وجل [وَجِيهًا] ثلاث مرات في القرآن إثنتين في عيسى عليه السلام والأخرى في موسى عليه السلام قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا]( ).
وفي الآية أعلاه دلالة على نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المرتبة وصفة الوجيه من عند الله عز وجل ، بالإضافة إلى قانون كلي وهو أن ما كان عند الأنبياء من النعم هو عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الإخبار عن كون عيسى ذا جاه ومقام رفيع في الآخرة لقوله تعالى [وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ) ومن الوجاهة وحسن الشأن في الآخرة الشفاعة بإذن الله .
الأمر الرابع : نيل عيسى مرتبة القرب عند الله يوم القيامة .
الوجه الرابع :حمل الملائكة إلى مريم البشارة بحملها وولادتها لعيسى عليه السلام من غير واسطة بشر كالنبي ينقل هذه البشارة , وهي ليست بنبية .
الخامس :إخبار الملائكة لمريم بأن المسيح يكلم الناس وهو في المهد إي في سن الرضاعة.
السادس : تكليم عيسى عليه السلام للناس وهو كهل أي في حال البلوغ وتمام النمو والشباب ،( مأخوذ من القوة من قولهم اكتهل البيت إذ طال وقوي) ( ).
وفي البشارة بأن عيسى يكلم الناس كهلاً وعد كريم من عند الله بسلامته ، وعدم لحوق الضرر به بسبب الإفتراء عليه وعلى أمه وجاءت الآيات بما يوكد أن كلامه في المهد يتضمن بيان التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل ، والدعوة إلى طاعته تعالى قال سبحانه [ لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ]( ).
السابع :إخبار مريم وبواسطتها الناس جميعاً بعظيم منزلة عيسى عليه السلام وما له من الشأن العظيم عند الله عز وجل ، لأن الملائكة أخبروا بأنه [مِنْ الْمُقَرَّبِينَ].
الثامن : بيان الإعجاز الذي لم يشهد له التأريخ مثيلاً بأن يكلم عيسى الناس وهو في المهد ، ومن الآيات أن هذا البيان جاء على نحو البشارة قبل أن يولد ليستعد الناس لتلك الآية ورحمة بهم للسلامة من الجحود .
التاسع :الوعد الكريم بأن عيسى عليه السلام يتصف بالصلاح والسمت الحسن ، وهل قوله تعالى [مِنْ الصَّالِحِينَ] من بشارة الملائكة لمريم عليه السلام , الجواب نعم، وفيه مسائل :
الأولى :ترغيب الناس بأتباع عيسى عليه السلام .
الثانية : الملازمة بين الصلاح والنبوة .
الثالثة : إتصاف البشارة من عند الله عز وجل بالتمام والكمال .
الرابعة : ملازمة المعجزة للذي تأتي به البشارة من عند الله عز وجل.
التاسع : بيان عظيم قدرة الله في خلق عيسى وعدم إستعصاء مسألة عليه سبحانه ، وفيه حث على الدعاء وسؤال النعم بالإيمان ، وإنذار من الكفر والجحود .
ويفيد الجمع بين الآية السابقة وهذه الآية أن وفاة ورفع عيسى عليه السلام من مكر الله الذي ذكرته الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، وفيه بيان لماهية مكر الله وأنه خير محض، ونفع للأنبياء والمؤمنين والناس جميعاً، ولا ينحصر مكر الله برفع عيسى إذ ينزل بآية في آخر الزمان، وهو من مصاديق [وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] بحيث يبقى حياً مع التنزه عن الصلة بالكفار، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده لَيُوشكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ( ).
ومن مكر الله العز والرفعة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهو من الخير المحض الذي يكون سبباً في أمور:
الأول : تثبيت قلوب المؤمنين، وبعث السكينة فيها.
الثاني : جعل الحياة الدنيا حديقة ناضرة للمؤمنين، ومقدمة للبثهم الدائم في النعيم.
الثالث : بيان قبح الكفر والنفاق، ودعوة الناس للتنزه منه.
إعجاز الآية
من اعجاز الآية التنافي بين الدعوة الى الله التي جاءت ضمن سياق آيات اعجازية وبرهان قاطع، وبين رد الفعل ذي صيغة الجحود والعناد، فالمتبادر الى الاذهان في كل زمان ان الرد ممن حضر آيات ومعجزات عيسى لايكون الا التصديق والمبادرة الى العبادة، ومن اعجاز الآية:
الأول : اخبارها عن مقابلتهم الآيات بالاصرار على الكفر.
الثاني : جاء هذا الاخبار بصفة الاحساس من عيسى ، لتوكيد بانه امر وجداني يدرك بالحواس ولاتصل النوبة الى الالهام والوحي.
الثالث : كان الجحود امراً ظاهراً غير خفي وان عيسى استمر بالجهاد معهم الى ان وصلوا الى هذه الحال التي يكون الانسان معها معذوراً عن مواصلة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن النبوة لها سننها وقوانينها الخاصة.
الرابع : عدم اليأس والقنوط من عيسى رغم ظهور معاني الكفر عند بني اسرائيل بل اتجه صوب البحث عن الانصار على نحو الموجبة الجزئية والافراد.
الخامس : اعلان جماعة وعدد من بني اسرائيل التصديق برسالة عيسى والالتزام بما جاء به من عند الله.
السادس : من الآيات ان مافعله بنو اسرائيل مع عيسى امر معروف عند المليين المؤمنين وليس امراً خفياً أو يمكن انكاره.
ومن اعجاز الآية استجابة الحواريين لنداء عيسى ، فهي شاهد على صدق دعوته، لان اقرب الناس له آمن بنبوته واعلن الولاء والاخلاص له، وهذا الاعجاز مركب لان الاجيال اللاحقة ستتخذ من هذه الاستجابة موضوعاً وحكماً عوناً على التصديق بنبوة عيسى .
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى ) ولم يرد لفظ احس في القرآن الا في هذه الآية.
الآية سلاح
في الآية درس وعبرة للمسلمين في دعوتهم الى الله وجهادهم في سبيله، اذ ان ايمان بني اسرائيل بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم امر ذو اعتبار عند اهل مكة والمدينة، لان اليهود اهل كتاب وعندهم البشارات بالانبياء، ويعملون على الظاهر بكتاب سماوي ويدينون بالعبودية لله.
فاي صدود منهم عن نبوته صــلى الله عليه وآله وسلم يؤثر سلباً على انتشــار الاسلام بين القبائــل في الجزيرة، والحضــر في المدينــة ومكة.
فجاءت هذه الآية لتسقط عن الاعتبار مايتخذونه ازاء الاسلام والقرآن لما سبق منهم من الجحود لنبوة عيسى والآيات التي جاء بها.
والآية عون على تحمل المشاق في سبيل الله ودعوة الناس للايمان وعدم الاحباط عند رؤية الصدود والجحود من عدد من الناس وان كان كثيراً.
مفهوم الآية
تخبر الآية عن قصور بني اسرائيل وتخلفهم عن الاستجابة لدعوة عيسى لعبادة الله بحسب ما جاء به، والحجة قائمة عليهم بان الذي جاء به مقرون بالآيات والبراهين القاطعة والتي تدل مجتمعة ومتفرقة على صدقه في نبوته، ومن الاوليات والبديهيات التي يدركها العقل ويعرفها كل المليين ضرورة اتباع النبي، فاذا ثبتت النبوة بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي فلا بد من الانقياد لما جاء به والامتثال للأوامر الالهية التي يحملها للناس مما يكون فيه صلاحهم ونجاتهم في الحياة الدنيا والآخرة، وفي الآية وجوه:
الاول: كان عيسى اثناء الاتيان بالآيات والمعجزات يلاحظ مدى استجابتهم لدعوته، وهو عنوان الفطنة والنباهة.
الثاني: لقد كان يرجو امتثالهم لما جاء به من الاحكام لوجود المقتضي وفقد المانع.
الثالث: تبين الآية حــالة مؤســفة وصــفحة قائمة في تأريــخ الانســـانية، ان يقابل أكثر الناس الآيات والمعجــزات المتعددة بالكفر والجحود.
الرابع: لم ييأس عيسى ، بل توجه بالنداء مرة اخرى رجاء جمع الانصار والاصحاب والمؤيدين من بين العامة التي اتخذت الإنكار رداء.
الخامس: لم تقف الآية عند نداء عيسى وطلبه الانصار، بل اخبرت بوجود استجابة واعوان , وهذا من الآيات والشواهد على صدق النبوة، وفيه حجة على الآخرين.
ليكون هؤلاء نواة الايمان وحفظة الشريعة وعضد النبوة، والذين يسلمون البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمن بعدهم من المؤمنين.
ولو لم يكن هناك انصار لعيسى فهل يعني هذا عدم الحاجة الى نبوته، الجواب لا، لان النبوة حجة وانذار ورحمة بالناس جميعاً من يستجيب ومن لم يستجب، كما ان الاستجابة اعم من ان تكون حال نزول الآيات وبعثة النبي فلو آمن جماعة من بعد انتقاله الى الرفيق الاعلى بما ورد اليهم من اخباره والمعجزات التي جاء بها لكفى في الحجة.
ولم ترَ أي ملة سماوية قبل الاسلام كثرة الانصار والأتباع مثل المسيحية اذ آمنت بعيسى امم ومدن وقادة وملوك، فكان جحود بني اسرائيل وما لاقاه عيسى منهم من اهم اسباب التصديق برسالته وانتشارها في اصقاع الارض.
السادس: لم يكتف الحواريون باعلان الايمان بل سألوا عيسى ان يشهد لهم بصحة اسلامهم وسلامة منهجهم، مما يدل على انهم قرنوا القول بالفعل طلباً لمرضاة الله وانهم اخلصوا العبادة له سبحانه.
السابع: لقد اصبح الحواريون شاهداً يومياً على بني اسرائيل , فكما احس منهم عيسى الكفر، فان ايمان الحواريين يجعلهم يحسون سوء ما ارتكبوه ازاء الرسالة السماوية ويشعرون باللوم الذاتي الشخصي والنوعي، أي ان كل واحد تحدثه النفس اللوامة عن الخطأ الذي اقدم عليه بالجحود بنبوة عيسى كما انهم يظهرون الاسف عن تخلفهم عن التصديق برسالته، لقد كان الانصار عنواناً للجهاد وحملة لرسالة عيسى بعد رفعه الى السماء وداعية الى الله لجذب المريدين والاعوان.
وكثيراً من الثورات والحركات الاصلاحية يلقى قادتها الصدود ممن حولهم من الناس ويبطش بهم السلطان، ولكن سرعان ما يتنامى الحس بلزوم اتباع نهجهم والثأر لهم والسعي لتحقيق ما منعهم الناس من الوصول اليه من الاهداف النبيلة , وتبقى سيرتهم مناراً للاجيال تستلهم منها دروس الصبر والعز والرفض للباطل.
ومع هذا فهذه الثورات لايصلح قياسها بالنبوة التي هي اعظم مرتبة نعم بعضها يكون لنصرة النبوة , ومن اجل تصديقها فينال اصحابها الثواب والاجر والعز في الدارين، ويبقى الشرف الاعظم للنبوة لانها جاءت من عندالله من غير واسطة بشر، ولان النبي موفق ومؤيد من الله عزوجل.
الثامن: الآية دعوة لبني اسرائيل لدخول الاسلام وعدم تضييع الفرصة على انفسهم وذراريهم، فالتذكير بالخطأ مناسبة لتداركه عند حصول الفرصة للتدارك فقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات والبراهين الدالة على نبوته ودعاهم الى القرآن باعتباره كتاباً نازلاً من السماء وامرهم بعبادة الله وفق ما جاء به من احكام.
التاسع: تبين الآية الحاجة الى القوة والمنعة لمواجهة صدود بني اسرائيل وجحودهم وللإحتراز من كيدهم.
وتحكي هذه الآية في مفهومها عدم استجابة بني اسرائيل لدعوة عيسى من وجوه:
الاول: الجحود بأصل الرسالة في قوله تعالى [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ].
الثاني: انكار الآيات التي جاء بها مع انها حقيقة واقعة.
الثالث: الاعراض والجحود بآية الطير وابراء الاكمه والابرص واحياء الموتى باذن الله، فحينما يكرر القول بانه يجعل من الطين كهيئة الطير لم يظهر على أكثر من يجتمع لرؤية هذه الآية الاعتبار والاتعاظ منها.
الرابع: عدم اعتبار آية الاكل والادخار في الدلالة على نبوة عيسى.
الخامس: عدم امتثالهم للاحكام الشرعية التي جاء بها عيسى مع انها تخفيف واسقاط لبعض التكاليف عن بني اسرائيل وهذا التخفيف مقرون بالآيات الباهرات والحجج الدامغات.
السادس: عدم تقيدهم بتقوى الله والخشية منه في السر والعلانية.
السابع: اعراض بني اسرائيل عن مناسك العبادة، وامر عيسى لهم الصريح بطاعته والانقياد لما جاء به.
إفاضات الآية
في الآية بيان لما لاقاه الانبياء والأولياء في جنب الله , والدعوة الى الاسلام، وبذلهم منتهى الوســع في جذب الناس الى الايمان بصيغ اللطف والود والاحسان، ومع هذا فان الآية تؤكد انجذاب نفر ممن صلحت سرائرهم للاسلام، وطهرت نفوسهم مما يشغلها عن ذكره تعالى، وتحلوا بالفضيلة والعلم ليكونوا شهداء على قومهم وتخلفهم عن نصرة الحق.
لقد سأل الحواريون عيسى الشهادة باسلامهم مما يدل على صدق ايمانهم واخلاصهم واحساسهم بالحاجة الى النبي وشهادته، فمن افاضات الآية ان جاء العوض من الاحساس بكفر هؤلاء، باحساس الحواريين بالحاجة الى الشهادة بالاسلام، والمبادرة الى دخوله ومخاطبة عيسى بمضامين الاجلال والتقديس.
قانون النصرة
لقد جاءت هذه الآية في إيجاد الانصار لعيسى وزيادة عددهم وظهور قوتهم ورفضهم للباطل والصدود الذي قابل به بنو اسرائيل دعوته، فقد كان يحرص ومع عظيم الآيات التي جاء بها على جمع الاعوان ولم يجد من بين الناس الا قلة ونفراً معدوداً من الانصار، فجاءت هذه الآيات لتجعل انصاره في ازدياد مطرد وباعداد يصعب احصاؤها بالإضافة إلى إنتشارهم في كل بقاع الارض.
ان دعوة كل نبي جهاد في سبيله تعالى , وهي تحتاج الى الاعوان الذين يظهرون التصديق بالدعوة ويقومون بتبليغ احكام النبوة وينشرون مضامين الشريعة ومسائل الحلال والحرام بين الناس، فيكون كل واحد منهم داعية لله تعالى، وقد تصل الدعوة بواسطتهم الى شخص يكون اكثر سعياً واجتهاداً في سبيله تعالى ,وهو شاهد على العون والمدد الالهي للنبوة , قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وانصار النبي لا ينحصرون بالرجال ولا الموجود من الناس بل فيهم النساء والمعدوم والذي لم يولد بعد، فمع النبوة تأتي النصرة، ومع الصدود يأتي ضده من التصديق والولاء، واذ يواجه قوم النبوة بالجحود، ويتلقى منهم النبي انواع الاذى، فان نصرته غير معدومة ولكنها تنشأ محدودة وقليلة ولا تلبث ان تتسع فتأتي على الجحود وتحاصره وتفضحه وتجعله خاسئاً.
ويمكن ان نسمي هذا القانون (قانون النصرة) وملاكه حتمية وجود الانصار والاعوان للنبي، ومن تتخلف عنه النصرة في حياته فانها تأتيه لاحقاً، لتبقى نبوته شمساً مضيئة في سماء الايمان، ودعوة دائمة للهداية والفلاح، ولينال المؤمنون الثواب بالتصديق بنبوته وان جاءوا الى الدنيا باجيال عديدة، لذا يمكن تقسيم الانصار الى قسمين:
الاول: الانصار في ايام النبي , وهم على شعبتين:
الاولى: من يعلن تصديقه بالرسالة.
الثانية: من يخفي تصديقه تقية وخشية من الظالمين.
الثاني: الانصار والاتباع بعد مغادرة النبي الدنيا، وهذا القسم هو الاكبر وتكون فيه سعة ومندوحة.
نظرية الرئاسة
لقد جعل الله عزوجل الناس في الدنيا على مراتب ودرجات، ويصل الى عالم الرئاسة افراد بحسب اللحاظ والموضوع، فمنها الحكم والسلطان وهو على مراتب متعددة متفرعة بالاضافة الى رئاسة القبيلة ورجل الدين وصاحب الثروة والمال والجاه.
اما النبوة فهي رئاسة لها سلطان على النفوس وعالم اللأفعال وتهدف الى اصلاح المجتمعات وايجاد الملك والسلطان النافع، وعند انتهاء ايام النبوة وختمها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هل انقضت رئاسة النبوة ليبقى سلطان الملك والدولة والقانون والقبيلة ونحوها، الجواب لا، فان النبوة رئاسة باقية وملازمة للوجود الانساني وان غابت اشخاص الانبياء،
واذ تنقضي ايام الملك بهلاكه او زوال سلطانه ودولته، ويبدل القانون ويحل بدله قانون آخر وتضعف رئاسة القبيلة وتكون معدومة في مجتمعات عديدة في العالم، فان سلطان النبوة باق وثابت وهذا سر من اسرار الدنيا، ونظام تتقوم به الحياة الانسانية.
لتبقى النبوة جوهراً نورانياً يضيء لاهل الارض مسالك العبادة، ويكون دعوة للحب الالهي، ومرآة لكمال لطفه واحسانه تعالى، وسلاحاً دائماً لمواجهة الاستكبار والعناد والجحود، وجذبة للايمان وحصناً من الضلالة واتباع اهل الغواية، فالذين تعدوا على حرمات الانبياء وقاموا بايذائهم وقتلهم ليس لهم انصار واتباع في الازمنة اللاحقة للنبوة، بينما تجد اتباع الانبياء في ازدياد مطرد، نعم تبدو آثار النفس الشهوية والغضبية في اقوال وافعال اهل الحسد والريب ولكن ليس بعنوان اتباع اعداء الانبياء، فلم تبق الا التبعية للنبوة ليكون لها النصر والغلبة.
قانون (الاعلان)
يتعلــق بيان ومعرفــة الكثير من الحقائق والوقــائع على انتشــارهــا بين الناس، فما دام الامر مســتوراً وخفياً عنهم فانهم لا يتخذون ازاءه ما يناسبه وان كان ذا شــأن موضوعاً وحكماً، ويحتاج الناس جميعاً النبوة ومســتلزمات وصــولها اليهم ومعرفـتهم بآياتها واحكامها، والمعرفة بالنبوة والاعلان عنها واجب يترشح الوجوب عليها من وجوب ذيها.
وهذا الوجوب على مراتب متفاوتة ولا ينحصر بشخص النبي او جماعة من اصحابه اواهل بيته بل هو وجوب كفائي ان أداه بعضهم سقط عن الآخرين الا ان يكون واجباً عينياً على النبي او غيره، كما انه يخضع لقواعد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ النفس والعرض والمال والوقاية من الاذى والشر الا لمن يختاره باباً للجهاد في سبيل الله.
ومن الآيات في النبوة ان الانبياء هم رواد الاعلان عن نبوته، والقادة في التبليغ عن الآيات التي جاءوا بها، فلم يبدأ الاعلان عن نبوتهم من قبل غيرهم بل هو من الممتنع، فلابد ان يخبر النبي عن نبوته وانه مبعوث من عندالله وهذا الاخبار على وجوه:
الاول: الاعلان بانه نبي بعثه الله للناس او امة او ملة منهم.
الثاني: تنظيم دعوة سرية للاخبار عن نبوته.
الثالث: مجيء النبي بالآيات العملية والمصاديق الدالة على نبوته.
الرابع: اقامة الحجة على نبوته والاحتجاج المقرون بالبرهان، والاجابة على ما يرده من الاسئلة والاشكالات وطلب البينة.
الخامس: ايجاد انصار واعوان وجعلهم وسائط بينه وبين الناس ويمهدون للقائه واتصاله بهم بصفة النبوة، فتارة يكون عمل النبي كواحد من الناس في باب المعاملات والكسب ولكنه يمتاز بالصدق والامانة والاخلاق الحميدة التي تكون عوناً له في نبوته، ولا تدخل في مصاديق الاعلان عن نبوته بل تكون توطئة لها، بحيث اذا أعلن نبوته فهي شاهد ابتدائي على صدقه لعدم معرفة الناس له بالكذب والافتراء.
وتتجلى مضامين (قانون الاعلان) بقيام عيسى بنفسه بالاعلان عن نبوته، ومن الآيات ان يأتي الاعلان على نحو دفعي وبصورة عامة بصيغة العموم وانه رسول الى بني اسرائيل وجاءهم بالآيات الباهرات ليكون الرسل والانبياء هم القادة في باب الدعوة الى الله والاخبار عن الوظائف العقائدية التي يتحملون اعباء القيام بها.
وفي السنة النبوية آيات تتجلى فيها مضامين قدسية لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس لاتباعه في نبوته، وقد قام بالهجرة المكررة مرة الى الطائف والاخرى الى يثرب وكل واحدة منهما في اتجاه غير اتجاه المدينة الاخرى، ولم تأت هذه الهجرة الا بعد اعلان نبوته وتعرضه للاذى والتآمر عليه لقتله في فراشه، ولم ينته موضوع الاعلان عن النبوة بانقضاء ايام الانبياء بل هو باق الى يوم القيامة، ويأتي القرآن ليكون اماماً في الدعوة للانبياء ورسالاتهم.
التفسير
قوله تعالى[فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ]
لقد جاءت الآيات السابقة باعلان عيسى للآية التي جاء بها من عندالله وافرادها الملكوتية المباركة في سياحة تجذب القلوب وتبهر العقول وتجعل الاسماع تصغي لها طوعاً وكرهاً، ثم انتقلت هذه الآية الى احساسه الكفر من بني اسرائيل، أي ان الآيات لم تذكر اتيان عيسى العملي للآيات التي ذكرها , وفيه وجوه:
الاول: بيان قاعدة كلية وهي ان قول النبي حق وصدق وما يخبر به لابد وان يحصل لان الله عزوجل هو الذي بعثه وايده بالوحي.
الثاني: جاء اخبار عيسى بصيغة الفعل الماضي مما يدل على وقوع الآيات في الواقع.
الثالث: تفسر آيات القرآن بعضها بعضاً وما اطلقنا عليه قانون تفسير الآيات الذاتي، فان القرآن جاء بما يدل على حصول هذه الآيات بفضل الله تعالى [وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي]( )، فاخبرت هذه الآية عن وقوع جميع هذه الآيات.
لذا فان قوله تعالى [فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ] أي ان الاحساس بكفرهم جاء بعد الآيات وحصول المعجزات.
فمن الاعجاز ان تأتي الآيات على نحو الاعلان وتتعقبها النتائج، وهذه النتائج مخالفة للقطع والظن، فكل انسان حينما يسمع اعلان عيسى النبي هذه الآيات ويعلم اتيانه بها امام الملأ فانه يتوقع تصديق الناس له.
ومن الآيات ان كل انسان يقرأ القرآن ويسمع باخبار عيسى يجعل نفسه في مقام السامع والحاضر لهذه الآيات، ويسلم بانه لايقابلها الا بالتصديق، وحين يعلم بما لاقى به بنو اسرائيل عيسى فانه يصاب بالخيبة والذهول.
والاحساس بالشيء فيه وجوه:
الأول : الحس: البصر والرؤية، وفي قوله تعالى ([هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ] قيل معناه، هل تبصر، هل ترى) ( ).
الثاني : الاحساس: الوجود ومعنى احس: وجد.
الثالث : قال الليث في الآية: أحس أي رأى، ويقال: هل احسست صاحبك أي هل رأيته.
الرابع : الحس والحسيس: الذي تسمعه مما يمر قريباً منك ولا تراه( ).
الخامس : ما يدركه الانسان المتحرك كما يقال : ما سمع حساً ولاجرساً: فالحس من الحركة والجرس من الصوت، قال ابن منظور : وهو يصلح للانسان وغيره.
السادس : الرنة، ويقال جاء بالمال من حسه وبسه، أي من حيث شاء.
السابع : يأتي الحس بمعنى القتل لان المقتول يحس بألمه، قال تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ].
تخاطب الآية الناس وتدعوهم للتدبر فيما سأل عيسى بني اسرائيل، وماجاء به من القرائن والآيات، فهو لم يسألهم سوى عبادة الله وتقــواه وطاعته وجاء ســؤاله بصيغة الترغيــب والحــث، وان العبادة هي النهج لقويم والسبيل الصحيح الذي يتضــمن الرشــاد والفوز والفلاح، فمن الآيات ان يأتي الامر بعبادة الله مقرونا بالمعجزات التي تدل على وجود الصــانع ولــزوم الامتثال لاوامــره واجتناب نواهيه.
وخلافاً لما يظنه العاقل من التصديق بالرسول والاستجابة لما جاء به فانهم واجهوه بالجحود وقد جاءهم عيسى بآية احياء الموتى لتكون حجة ودعوة للايمان.
ونسب الطبرسي الى القيل(إنه أحيا أربعة أنفس : عازر وكان صديقا له، وكان قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، ثم قال: اللهم رب السماوات السبع، ورب الأرضين السبع، إنك أرسلتني إلى بني إسرائيل، أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم بأني أحيي الموتى، فأحي عازر، فخرج من قبره، وبقي وولد له. وابن العجوز مر به ميتا على سريره، فدعا الله عيسى”عليه السلام”، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، ورجع إلى أهله، وبقي وولد له.
وابنة العاشر قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت، وبقيت، وولدت. وسام بن نوح: دعا عليه باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكني دعوتك باسم الله الأعظم)( ).
ولكن الآيات جاءت مطلقة، ولابد من دليل معتبر لتقييدها بعدد محدود، وان كان عدد الاربعة يصدق على جمع القلة.ولا يضر قلة عدد الذين أحياهم عيسى لكفاية صرف الطبيعة .
وجاءت هذه الآية لتخبر عن احساس عيسى بكفرهم وظهور علاماته على بني اسرائيل، والحس إدراك الجزئي بواسطة الحواس، وفي كيفية احساس عيسى بكفرهم وجوه:
الاول: معرفة عيسى لكفرهم بواسطة حاسة السمع بان سمعهم يتكلمون بالكفر والانكار.
الثاني: علم بكفرهم بحاسة البصر بان رأى صدودهم وجحودهم بدعوته الى عبادة الله، أي انهم اجتمعوا لرؤية الآيات وايقنوا بصدقها بدليل عدم وجود رد او انكار منهم، ولكنهم حينما سمعوا دعوة عيسى للإسلام والانقياد لما جاء به من عند الله اعرضوا عنه.
الثالث: عدم استجابتهم لدعوته، ورفضهم الانقياد لما جاء به من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة.
الرابع: معرفته بنيتهم الكيد به ومحاولة قتله .
الخامس: وصول اخبار عن تواطئهم على التخلص منه واغواء السلطان به.
السادس: اظهارهم التمرد، والمعصية لأوامره.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها اسباب لإحساس عيسى الصدود منهم، وجاءت الآية بنعتهم بالكفر على نحو صريح، ويتصور الكفر هنا على وجوه:
الاول: الجحود بالربوبية والشرك بالله.
الثاني: الكفر برسالة عيسى، وعدم التصديق بها، وفي تفسير قوله تعالى [فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ]( )، أي بالكتاب والحكمة والنبوة.
الثالث: كفر نعمة، اذ ان نبوة عيسى ودعوته بني اسرائيل الى الايمان وعبادة الله من اعظم النعم التي يفوز بها الانسان، ومن كفر النعمة قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]( ).
الرابع: كفر براءة من عيسى وتخلِِِِِ عما جاء به، واظهار عدم الاكتراث عند تعرضه لبطش الظالمين اوحصول اعتداء عليه.
الخامس: كفر نكران للآيات التي جاء بها عيسى ، مع انهم تيقنوا من صحتها وصدق وقوعها ومافيها من دلالات النبوة ومعاني الاعجاز.
السادس: أدرك اليهود ان عيسى هو المسيح الذي ينسخ دينهم فلما اظهر دعوته اخذوا يؤذونه، وطلبوا قتله.
وباستثناء الوجه الاول، فان الوجوه الاخرى كلها محتملة وواقعة، احس بها عيسى ولو على نحو الموجبة الجزئية، والأمر المتفرق، ويمكن تقسيم وجود عيسى مع بني اسرائيل الى مرحلتين:
الاولى: مرحلة ومدة الآيات وهذه المرحلة منبسطة على جميع أيام حياته منذ ولادته والى حين رفعه الى السماء، اذ انه كلمهم في المهد واستمرت الآيات تترى على يديه.
الثانية: مرحلة النبوة والتي تبدأ منذ اعلانه النبوة، وذكر ان مدة نبوته ثلاث سنوات اذ بعث في الثلاثين من عمره، وتتجلى هذه المرحلة بالآيتين السابقتين اذ أخبر عن اسقاطه بعض المحرمات عنهم، ودعوته في الآية السابقة الى عبادة الله، وهل يتعلق الكفر بالمرحلة الثانية أعلاه وهي النبوة ام انه جاء شاملاً للمرحلتين معاً، الجواب هو الأخير ولكن مراتب وكيفية ومقدار الكفر يختلف من حين الى آخر، فيكون عند رؤية الآيات أقل منه عند الدعوة الى طاعة الله فيما جاء به عيسى من الأحكام الشرعية.
واحساس عيسى منهم الكفر يحتمل على وجوه:
الأول: انه الحس العادي الذي يدركه كل انسان بآلة البصر او السمع ونحوهما.
الثاني: احساس خاص ينفرد به الأنبياء بحيث يعلمون قبل غيرهم مدى استجابة الناس او عدمها.
الثالث: مرتبة خاصة من الإحساس يتصف بها عيسى، لأنه مخلوق ملكوتي انسي، فكما انه يعلم ما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم فانه يعلم ما يبيتون ضده وما يخفون في صدورهم.
الرابع: ان احساس عيسى يقين وعلم سواء كان فرعاً للإحساس او للظن المتاخم لليقين او للإدراك بآلة السمع والبصر، وهذه الوجوه الأربعة تنطبق على حال عيسى وحصول الإحساس عنده، وهو من فضل الله عز وجل عليه وعلى المؤمنين ومع ان الآية جاءت بصيغة الإحساس الا انها ترقى الى اليقين من وجوه:
الأول: تعدد الصور الجزئية التي يترشح منها الإحساس، وهذا التعدد على شعب ثلاث:
الأولى: الكفر المصاحب للآيات على نحو الإمتداد الطولي فمع كل آية يأتي بها عيسى يحس منهم عدم الإيمان والتصديق اذ يقابلونه بنعته بانه ساحر.
الثانية: ظهور الكفر منهم دفعة واحدة، كما في حال دعوته لهم لعبادته تعالى وفق أحكام الشريعة التي جاء بها والناسخة لبعض أحكام التوراة.
الثالثة: الجمع للتدريج والدفع، وانهم كانوا يعرضون عن الآيات التي يأتي بها، كما انهم واجهوه بالكفر بدعوته لعبادته تعالى.
الثاني: اظهار بني اسرائيل مفاهيم الكفر بالقول والفعل، وانهم تكلموا بالكفر، واظهروا الإنكار لرسالته وما جاء به من عند الله.
الثالث: اعلانهم التمرد العام وعلى نحو الإجتماع كما لو أخذوا يجتمعون في منتدياتهم ويعلنون اصرارهم على الكفر.
ويمكن اعتبار وجه آخر وهو قيام بعض أصحاب عيسى باخباره عن كفر بني اسرائيل لنبوته , ويحتمل على شعبتين:
الأولى: ان هــذا الوجــه مســتقل وكافِ في احســاس عيســى منهم الكفر.
الثانية: انه منضم لغيره والصحيح هو الشعبة الثانية أعلاه على فرض حصول هذا النقل، فانه منضم لغيره وليس طريقاً مستقلاً وان كان ظاهر الآية والأرجح هو إدراك عيسى بنفسه لكفرهم .
كما ان احساس عيسى منهم الكفر تحقــق بصــورة مباشــرة من غير وســائط واعتماد نقل الآخرين والإستماع الى آرائهم، من وجوه:
الأول: ان عيسى نبي رسول ويتخذ ما يناسب وظائف النبوة.
الثاني: عدم اعتماد نقل وأقوال الآخرين فقد تكون ظناً غير معتبر اوحدساً او تقديراً لم يرتكز على أمور دقيقة.
الثالث: ان كفر بني اسرائيل ظاهر ومعلوم، ولا يحتاج من عيسى اللجوء الى الآخرين لوصفه وبيانه والإخبار عنه.
الرابع: ان عيسى أقرب الى بني اسرائيل من غيره خصوصاً في ساعة مجيئه بالآية والمعجزة الدالة على نبوته كآية الطير وابراء الأكمه والأبرص واخراج الميت من قبره باذن الله وبسلاح الدعاء، فقد لا يكون احد من أصحابه رافقه في جميع الآيات التي جاء بها، بينما هو يرى الناس ومدى استجابتهم وقبولهم للآيات بالإضافة الى الفراسة والملكة المترشحة عن النبوة والمقدرة الإضافية بمعرفة أحوال الناس.
والضمير في (منهم) يعود الى بني اسرائيل وفيه اعجاز بلاغي بلحاظ الترابط في اللفظ والمعنى بين الآيات السابقة وهذه الآية، وبين الأركان الثلاثة:
الأول: نداء واعلان عيسى لبني اسرائيل.
الثاني: الآيات الباهرات التي جاء بها عيسى والتي تدل على نبوته على نحو القطع والجزم.
الثالث: الأثر العام عند بني اسرائيل، وهذا الأثر نتيجة للجامع للآيات، والدعوة الى طاعته واتباعه في شريعته لعدم امكان التفكيك بينهما، فقد يؤمن بعضهم بالآيات والبراهين التي جاء بها عيسى والدالة على نبوته ولكنه حينما يسمع دعوة عيسى الى اتباعه والإنقياد لأوامره فانه يجحد ويظهر عزمه على العصيان والتمرد والصدود، وهذا يصدق عليه الكفر بدعوة عيسى.
ان كفر بني اسرائيل واعراضهم عن دعوة عيسى خيبة أمل للمؤمنين في كل زمان، وكذا أرباب العقول من الناس جميعاً، بمعنى ان كثيراً من الناس لو أتفق وحضروا الآيات التي جاء بها عيسى لأسلموا وأحسنوا اسلامهم، ولظهرت منافع اسلامهم على الأجيال المتعاقبة من ذراريهم كثرة وصلاحاً.
ولكن الله عزوجل بعث عيسى الى بني اسرائيل وبين ظهرانيهم لتقوم الحجة على الناس بالحاجة الى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فهذه الآية من مصاديق وأفراد النعم التي تفضل الله تعالى بها على بني اسرائيل قال تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
فبعثة عيسى نعمة منه تعالى واختصاصها ببني اسرائيل لا أقل في مدتها والآيات وشواهد الإعجاز التي جاء بها تفضيل لبني اسرائيل يجب ان يقابلوه بالشكر والثناء والحمد لله واكرام النبي بتصديقه واتباعه خصوصاً وان عيسى لم يأتِ الا بالدعوة الى الله تعالى.
وفي عائدية الضمير في [أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ] وجوه:
الأول: بنو اسرائيل جميعاً، من غير فرق بين الذكر والأنثى، والكبير والصغير.
الثاني: الملأ من بني اسرائيل من الرهبان والرؤساء والوجهاء.
الثالث: الذين حضروا الآيات ورأوا البراهين الدالة على نبوته.
الرابع: الذي إستمعوا له حين دعوته لعبادة الله.
الخامس: الأكثر الغالب منهم.
والوجوه كلها صحيحة باستثناء الوجه الأول اذ ان قول عيسى ، من انصاري الى الله يدل على الاستثناء ووجود من يوازره وينصره والمستثنى أقل من المستثنى منه.
فلقد جاء احساس عيسى منهم الكفر على نحو الاجمال والعموم، ولو دار الامر بين ارادة الكل او الجزء والشطر من الضمير، فالاصل ارادة الكل الامع القرينة الصارفة وهي موجودة في المقام بنداء عيسى وسؤاله النصرة والعون من بين بني اسرائيل.
قانون الجامع
من الآيات في خلق الانسان وحياته على الارض بعثة الانبياء وجعل وسائط مباركة بين الله وبين الناس من جنس البشــر ومن بين ظهـرانيهم، فيخرج احدهم ممن ينطق بلغتهم ويعيش معهم حياتهم اليومية ليقول انه نبي من عندالله , ومن الآيات ان الناس يسألونه الحجة والبرهان الذي يدل على صدق نبوته فيأتي بالشاهد الاعجازي الذي يؤكد صدق قوله.
لينتقل الى مرحلة التبليغ والدعوة الى الله، لان المعجزة تجعل افئدة من الناس تميل اليه ويعلن فريق من الناس موازرتهم له، ومما هو معروف أن عدد الانبياء هو مائة واربعة وعشرون الفاً أو مائة وخمسة وعشرون الفاً، على روايتين، وهذا العدد وليس قليلاً، وكل واحد من هؤلاء جاء بدعوة واخبر عن وحي يوحي اليه أوتنزيل يأتي اليه.
ولكن هذا الجم الغفير من الانبياء يجمعهم أمر واحد وهو (الدعوة الى عبادة الله) ويمكن ان نسميه (قانون الجامع)، فليس من نبي الا ويجعل هذه الدعوة اهم عمل له ويجاهد من اجل تثبيت عبادة الله بالقول والعمل ويبذل غاية مجهوده من اجلها ويتعرض بسببها الى الاذى والتعدي والطعن والطرد من الديار وربما القتل كما حصل لعدد من انبياء بني اسرائيل.
ومضامين الاجتماع في هذا القانون على نحو الافراد الزمانية الطولية، وبين بعضهم وبعضهم الآخر عشرات ومئات السنين وان جاء احياناً اكثر من نبي في زمان واحد.
ومع التباين الزماني في بعثتهم فانعهم مجتمعون على هذه الدعوة, وهذا الاجتماع لا ينحصر بالعنوان والاسم، بل يشمل التعاون بين اولهم واوسطهم وآخرهم في الغايات السامية للنبوة والدعوة الى الله والعبادة هي نهاية الخضوع والتنزيل للمعبود وهو الله عزوجل بافعال جاء بها الشرع على نحو مخصوص، وتتجلى في عالم الاقوال بالنطق بالشهادة المؤلفة من الكلمات الاربع، والحروف الاثني عشر [لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ]، وهي عنوان الشكر واشرف مصاديقه والمصداق الفعلي لتعظيم وتمجيد الله وطاعته والامتثال لما جاء به عباده المكرمون من الانبياء والمرسلين.
ومصاديق وافراد قانون الجامع متعددة، وكل واحد منها يصلح ان يكون قانوناً وعلماً مستقلاً وهي:
الأول : الامر بعبادة الله.
الثاني : الحث على تقوى الله.
الثالث : المعجزة الملازمة للنبي.
الرابع : الوحي والتنزيل ألمصاحب للنبوة.
الخامس : جهاد النبي.
السادس : الاخلاق الحميدة للنبي.
السابع : وجود الاتباع والاصحاب وان كانوا قلة.
الثامن : الأذى الذي يلقاه النبي .
التاسع : التحلي بالصبر والتحمل.
العاشر : عدم صيرورة الاذى برزخاً دون اتصال نصح النبي لقومه، وبذله الوسع من اجل نجاتهم في النشأتين.
والنسبة بين احساس عيسى النبي وغيره في المقام على وجوه:
الأول : التساوي في الامور الحسية، فكل انسان يدرك معاني الفعل، والرد من الطرف المقابل، باعتبار ان الاحساس ادراك جزئي مفتقر الى الآت بدنية حسية كألة السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
الثاني : احساس النبي امر خاص لانه يتوصل اليه بصحيح النظر ويكون نحو العلم بالمدلول عليه ومقدمة لاتخاذ الحكم والفعل المناسبين لقد توصل عيسى الى هذه النتيجة وادراك تلبسهم بالكفر والصدود قبل ان يراه يراه غيره او يقوم أحد باخباره ونصحه.
الثالث : الجامع من الامرين ان عيسى شعر بكفرهم بالحواس البدنية , و ادرك بخصائص النبوة ميلهم للكفر.
الرابع : اعتبار الحواس الباطنة، اذ ان الحواس على قسمين , الظاهرة خمسة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، اما الحواس الباطنة فهي الخيال والوهم والحس المشترك والحافظة والمتصرفة.
الوجوه الثلاثة الأولى صحيحة، ولا تصل النوبة الى الحس الباطن كما ان وضوع الكفر ظاهر للعيان ويدرك بالحواس الظاهرة وهي الأصل، وينصرف اليها اللفظ مع الإطلاق.
قوله تعالى [قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ]
من مفاهيم هذه الآية ان عيسى عليه السلام كان يجاهد بنفسه وبدنه مدة سياحته في الأرض، وان كان معه جماعة من أصحابه وحوارييه، أي انه لم يجمع جيشاً من الأصحاب والأعوان، والأنصار اثناء سياحته في الأرض المقرونة بالآيات، وفيه مسائل:
الأولى: كان عيسى يوجه خطابه ونداءه الى بني اسرائيل كافة ولا يقصد جماعة منهم دون أخرى.
الثانية: الأصل قبول جميع بني اسرائيل دعوته، لظهور الحجة والبرهان ومجيئه بالآيات الباهرات.
الثالثة: لقد حرص عيسى على تجنب غضب السلطان وحسد الرهبان والرؤساء من بني اسرائيل لأن جمع ألأنصار يجعلهم يخشون على منازلهم ويخافون على ما توارثوه من الجاه والعز وأسباب جمع الأموال.
الرابعة: قيام عيسى بالسياحة في القرى وتنقله الكثير بينها بحيث لا يستقر له قرار في بلدة ما , وهذا الأمر يجعل من الصعب وجود الأنصار والأعوان الكثيرين سواء ممن يستطيع التنقل معه او البقاء في مكانه مع تأمين الصلة الدائمة به.
الخامسة: قد تحجب الخاصة العامة وتحول دون اتصال الإمام بالكثير من الناس، ويبدو الأمر وكأنه حزب، فحرص عيسى عليه السلام على بقاء باب الصلة مع الناس مفتوحاً، ليتوجه الخطاب النبوي اليهم بعرض واحد.
ترى لماذا لم يدع عيسى الى نصرته الا بعد ان أحس منهم الكفر، فيه وجوه:
الأول: لقد جاءت رسالته الى بني اسرائيل عامة من غير فصل وتمييز بينهم كما تقدم في قوله تعالى [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ].
الثاني: لإقامة الحجة على الجميع، ومنع الإعتذار بعد التخلف وفوات الأوان.
الثالث: لا ينحصر الإيمان بالنبوة والمعجزات بجماعة او فئة مخصوصة، فقد يبادر اليه السيد والحاكم والغني او الفقير والمحكوم والمستضعف، او كلاهما معاً، فلذا جاءت الدعوة عامة.
الرابع: كان عيسى يطمع بايمان وتصديق بني اسرائيل كافة برسالته، لوجود المقتضي وفقد المانع.
ذكر ان احساس عيسى هنا من الإستعارة التمثيلية باعتبار ان الكفر ليس بمحسوس وانه يدرك ويعلم، وان الذي يحس هو ما كان متجسداً ، ولكن الآية شاهد على تجلي الكفر برسالة عيسى في أقوالهم وأفعالهم وانه أصبح امراً مدركاً بحاسة البصر والسمع اذ اظهروا الطعن به، وأخذوا في ايذائه، وسعوا في قتله.
قانون الدعوة العامة
من آيات خلق الإنسان بعثة الأنبياء لإنقاذ الناس من براثن الضلالة وتنزيه الحياة اليومية وتهذيب الأخلاق واصلاح النفوس، والسلامة في النشأتين الدنيا والآخرة.
والنبوة رحمة للناس عامة وليس المراد منها اصلاح طائفة او جماعة دون أخرى، فهي وان جاءت لخصــوص قوم معينين الا ان وظائفها عامة ومضامينها شاملة للناس جميعاً، الموجود منهم والمعدوم، وقد ينتفع من الرسالة من كان بعيداً أكثر ممن كان حاضراً الآيات، ومتيقناً منها، فمن قاعدة اللطف الإلهي عموم دعوة النبي وتوجهها الى الرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، فلا اعتبار للطبقات والمراتب في الخطاب النبوي لأنه مرآة التكليف الذي يقع على كل بالغ عاقل مختار، رجلاً كان او امرأة.
ويمكن ان نسمي هذا القانون “الدعوة العامة” ومضمونه توجه الخطاب والنداء النبوي الى الناس كافة، وان كان الحاضرون جماعة قليلة، وهذا القانون سماوي في تشريعه وتأسيسه، وليس هو من مبتكــرات النبي او بحكم الواقع وطبيعة الحياة الإجتــماعية، وفيه مسائل:
الأولى: ان الله عز وجل لطيف بالعباد، والنبوة من أصدق مفاهيم اللطف الإلهي.
الثانية: النبوة خطاب للعقول، ودعوة للتفكر في الخلق، واتخاذ البرهان الإني وهو الإستدلال من المعلول على العلة، والبرهان اللمي وهو الإستدلال من العلة على المعلول طريقاً لمعرفة وجوب عبادة الله عز وجل.
الثالثة: عموم البعثة النبوية شاهد على عظيم سلطانه تعالى وانه بصير بالعباد، فهو سبحانه يرى ما يلاقيه الناس من الفتنة والإفتتان وأغواء الشيطان.
والله سبحانه يرى من غير آلة باصرة، او حدقة وأجفان، بل ان الأشياء جميعاً حاضرة عنده.
الرابعة: يبعث الله الأنبياء لتكون هذه البعثة مقدمة لنجاة الناس يوم يبعثون من قبورهم وعودة الأرواح الى الأبدان، وتلك البعثة عامة وشاملة ولا يتخلف عنها انسان، لذا أراد الله سبحانه ان تكون بعثة الأنبياء للناس جميعاً.
كما ان آيات الأنبياء دعوة عامة على نحو تلقائي سواء قصد النبي العموم او الخصوص، لأن المعجزة تتضمن التحدي وجذب الناس للإيمان.
الخامسة: للإستجابة لدعوة النبي موضوعية واعتبار متجدد في كل زمان ومكان، ولاتنحصر الإستجابة بجماعة او أفراد دون غيرهم، وقد تجد أقرب الناس للنبي أشدهم عداوة له مع رؤيته الآيات عن قرب، وتجد أبعدهم عنه أكثرهم ايماناً بنبوته، واخلاصاً وولاء له، لذا فان عموم الدعوة يفتح باب الإيمان والتصديق بالنبوة، وهو من أهم أسباب بقائها غضة تنبض بالحياة، وحاضرة في النفوس والمجتمعات.
وتبين الآية ان عيسى توجه لعامة بني اسرائيل، وانه كان يقصد الأمراء والرؤساء والرهبان بعرض واحد مع الفقراء وغيرهم من غير فرق بينهم او خروج بعض الفئات والأفراد من دعوته بالتخصص او التخصيص، ترى أيهم أكثر تقصيراً في اظهارهم الكفر بدعوته فيه وجوه:
الأول: الرهبان والقائمون على التوراة ودور العبادة باعتبار انهم أعلم الناس ببشــارات التوراة وصدق الآيات التي جاء بها عيسى .
الثاني: الرؤساء والملأ وأصحاب الشأن والقرار بين الناس، فمن الناس من يؤمن فيتبعه خلق كثير، او يجحد ويصد، فيتأثر الناس به، وربما كانوا أشد منه في جحودهم فيصدر منهم الأذى والشر، لا لشيء الا لأن كبيرهم هذا أعرض عن الدعوة، وتلقاها بالصدود.
الثالث: الفقراء والمساكين الذين ليس لهم جاه وشأن يخافون فقده او ملك يحرصون على عدم ضياعه.
الرابع: الزمنى الذين نالوا نعمة الشفاء ببركة ودعاء عيسى ، فهؤلاء يجب ان يكونوا جنوداً لعيسى في دعوته سواء لمفاهيم الشكر والوفاء، او لليقين والإيمان بنبوة عيسى الذي صار مستقراً عندهم بسبب انتفاعهم منها على نحو محسوس وظاهر.
الخامس: عامة الناس الذين شاهدوا الآيات والبراهين.
الجواب ان التقصير شامل للجميع ممن تخلف عن دعوة عيسى لأن الآيات التي جاء بها تخاطب العقول وتقيم الحجة على كل انسان، ومن الآيات ان معجزة عيسى عامة وهي دعوة للإيمان لا يمكن ان يتخلف عنها الإنسان اذا فوض الأمر لعقله وسلطان الحكمة واجتنب الشيطان والنفس الشهوية والغضبية.
وهل يعني قول عيسى [مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ] توجه الدعوة الى الخاصة وانحصارها بجماعة معينين، الجواب لا، لأن هذا النداء موجه الى بني اسرائيل كافة من غير تمييز بين الغني والفقير، والقريب والبعيد.
والنصر: اعانة المظلوم، يقال نصره على عدوه ينصره نصراً، ورجل ناصر من قوم نصار وأنصار، قال الشاعر:
والله سمى نصرك الأنصارا
آثرك الله به ايثاراً( )
ومن أسمائه تعالى الناصر، وهو الذي ينصر اولياءه ويجعل الغلبة لهم في الدنيا والآخرة.
والنصرة: حسن المعونة، والتناصر: التعاون لتحصيل الغلبة والفوز، والأنصار في الإصطلاح: هم أهل يثرب الذين نصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأمره وقاتلوا معه، غلبت عليهم الصفة حتى جرت مجرى الأسماء، وأطلق على أصحاب النبي محمد من أهل المدينة وقيل الأنصاري.
لقد أراد عيسى من هذا النداء اقامة الحجة على بني اسرائيل، والتوجه بالخطاب لكل فرد منهم، والنصرة التي أرادها عيسى على وجوه:
الأول: تصديق عيسى في نبوته.
الثاني: تأييده في الدعوة الى الله.
الثالث: اعانته على اقامة أحكام شريعته.
الرابع: نصرته على القوم الظالمين الذين يريدون ان يبطشوا به.
الخامس: تولي الدعوة الى الله نيابة عن عيسى واعانة له، فكما يقوم هو بالسياحة في القرى، فانهم يقومون بالتبليغ والدعوة في القرى الأخرى، لدعوة الناس للإيمان بنبوة عيسى .
لقد أخذت دعوة عيسى منحىً جديداً قائماً على اشتراك الآخرين , وهذا الإشتراك على وجوه:
الأول: في التبليغ والدعوة لنبوة عيسى .
الثاني: نشر مبادئ الإسلام والقيم السامية والأخلاق الحميدة.
الثالث: الإخبار عن مجيء عيسى بتحليل بعض ما حرم على بني اسرائيل سواء في التوراة او غيرها.
الرابع: القيام بنقل انباء عيسى عليه السلام الى الناس، والإخبار عن الآيات التي جاء بها.
الخامس: ذكر الشواهد والمصاديق التي تؤكد معجزة عيسى عليه السلام، وجعل الناس يطلعون عليها ويسمعون عنها، لتكون وسيلة لجذبهم للإيمان.
السادس: الدفاع عن عيسى والذب عنه، ومنع وصول الأذى اليه او إلى أمه.
السابع: اظهار تقوى الله في القول والفعل، ليكون هؤلاء وسائط بينه وبين الناس للتبليغ
الثامن: من أعواني على هؤلاء الكفار مع معونة عن السدي وابن جريج( ).
والقدر المتيقن ان طلب المعونة ليس القتال.
التاسع: الإطلاق الزماني للنصرة وعدم انحصاره باحســاس عيســى منهم الكفر يعني قرب مغادرته وانقطاع أيامه بين أهل الأرض فسأل النصرة، وهي اعانة عيسى على نشر دعــوته بعد انقضــاء ايامه، ومغادرته بني اســرائيل بالرفع، وهذا اعجــاز اضــافي للآية، وان عيســى كان يجاهد ويتولى التبليغ بنفسه، والآيات ترافــقه في دعــوته وســياحته فهو لم يحس بكــفرهم فقــط بل أحس بدنو أوان انتهاء أيامه بينهم وقرب مغادرته، وأن النصرة باتمام رسالته.
وهل يعتبر الجهاد في سبيل الله من نصرة عيسى أي ان قوله تعالى [مَنْ أَنْصَارِي] أي من يخرج معي مجاهداً في سبيل الله، الجواب لا , من وجوه:
الأول : ان عيسى لم يخرج بالسيف.
الثاني : لم يطلب عيسى من أحد حمل السلاح لقتال الذين يكفرون برسالته ويصدون الناس عن دعوته.
الثالث : وجود قرينة تبين مضمون النصرة وهي القيد في قوله تعالى [مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ] أي انصاري في الدعوة الى الله تعالى.
الرابع : اعتبار أصل الإستصحاب، وهو ان عيسى وطيلة ايام نبوته كان يكتفي بالدعــوة الى الله بالمعجــزة والبرهان والكلمة والموعظة الحسنة.
وتبين الآية ان عيسى لم يطلب ما فيه تشديد على بني اسرائيل في أصل الدعوة وفي الفرع، فقد جاء بالتخفيف والعفو والآيات، وأسقط عنهم بعض المحرمات، فكذا بالنسبة للأنصار والأعوان فانه لم يطلب منهم ما يجعلهم في حرج وشدة وضيق او يعرضهم للبلاء ولكن هذا الأمر لا يمنع من احتمال تعرض بعضهم للأذى بسبب الدعوة وشدة بطش الظالمين، وهذا الإحتمال على نحو السالبة الجزئية، كما ان الإحتمال لايكون برزخاً ومانعاً دون دعوة عيسى لنصرته ولما فيه من الأجر والثواب ولأنه من تعظيم شعائر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة عيسى بلحاظ جهة الخطاب تحتمل وجوهاً:
الأول: ارادة بني اسرائيل كافة.
الثاني: الذين حضروا الآيات, ورأوا المعجزات التي جاء بها عيسى .
الثالث: الذين اصابتهم بركات عيسى وما رزقه الله من المعجزات كالبصير الذي كان أعمى , والسليم الذين كان سقيماً , والحي الذي أحياه عيسى باذن الله.
الرابع: أصحاب عيسى وممن أخذ يرافقه في سياحته في الأرض.
الخامس: الرهبان وبعض رجال الكنيسة.
السادس: مـن التقــى بهم عيســى في أيامــه الأخــيرة في الأرض وبعد ان أحس بما يضــمرونه له من الكيد وما يظــهرونه من التكــذيب لنبوته.
السابع: جميع من رأى عيسى وشاهد الآيات التي جاء بها ابتداء من تكلمه في المهد وجريان الآيات على يديه.
والأصح هو الوجه الأول، اذ ان الخطاب في الآية عام وانحلالي يتعلق بكل شخص منهم على حدة، فكأن عيسى يقول لكل واحد من بني اسرائيل: كن نصيري ومؤازراً لي في الدعوة.
ان دعوة عيسى أعم من ان تنحصر ببني اسرائيل من أهل زمانه بل هي باقية في أجيالهم وذراريهم، تلح اليهم بالإستجابة له، وتدعوهم الى تدارك الخطأ الذي أرتكبه اسلافهم بالجحود والصدود عن النبوة ولزوم دخول الاسلام، وتعتبر استجابة الحواريين حافزاً لهم وعـوناً وحثاً على الإقتداء بهم، كما ان الدعوة تشمل الناس في كل زمان للزوم التصــديق بنبوة عيســى وما جـاء به من البشــارات اذ انه دعا الى التصديق بنبــوة الرسول الأكرم محمـد صلى الله عليه وآله وسلم.
فان قلت: ان احساسه من أكثرهم الكفر يجعلهم يخرجون بالتخصيص عن مضمون الخطاب لأن الدعوة جاءت للنجاة منهم، والجواب على وجوه:
الأول: ان هذه الآية فرع قوله تعالى [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ] فمن أفراد الرسالة ان يدعوهم ليكونوا انصاراً له.
الثاني: جاءت الدعوة لإقامة الحجة على الناس.
الثالث: فيها تمييز للمؤمنين.
الرابع: الآية مناسبة لنيل الأجر والثواب.
الخامس: تؤكد الآية صدق دعوة عيسى لأن الإستجابة لها شاهد على وجود من صدّقه وآمن برسالته أيام نبوته.
قانون “انتفاء اليأس”
قد يعتري الإنسان اليأس من نيل بعض الرغائب، ويعجز عن الوصول الى الغاية المنشودة او يجد موانع تحول دون بلوغ هدفه، وربما كانت الغاية التي يقصدها أكبر مما بين يديه من الأسباب فيصاب باليأس ويصرف النظر عما أراد وان كان من قبل يظنه امراً سهلاً.
اما الأنبياء والمرسلون واصحابهم واتباعهم من المؤمنين فهم في جهاد مستمر لقهر النفس ومنعها من الركون الى اليأس والتسليم للقنوط وكانوا حريصين على اظهار الأمل وكسب النصر، وان يمدهم بأسباب ومقدمات الإستمرار بالجهاد في سبيل وايجاد الأنصار والأعوان وطرد أسباب اليأس ومصاديق القنوط عن النفس والجماعة.
ويمكن ان نسمي هذا القانون “قانون انتفاء اليأس”
ومن عمومات قاعدة اللطف ان يمنع من هيمنة اليأس على واقع الإيمان وحال المؤمنين لأن اليأس يجثم على الصدور ويشل الأيدي ويمنعها من الحركة ويجعل على الأبصار غشاوة فلا ترى خيوط الضياء التي يمكن ان تكون دليلاً للإهتداء الى الغاية والبغية.
فان قلت قد ورد قوله تعالى [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا]( )، فالجواب من وجهين:
الأول: اختلف في تفسير الآية على وجوه أهمها:
الأول : أيقنوا من تكذيب قومهم لهم على نحو العموم.
الثاني : ظن قومهم ان الرسل كذبوهم بخصوص قرب النصر وتحقيق الظفر.
الثالث : الذين وعدوهم بالإيمان من قومهم أخلفوهم ولم يفوا بوعدهم.
وعلى فرض ان المراد هو الأول، فان الآية تفيد تدارك اليأس وعدم وقوعه في الخارج والمنع من سلطانه على نفس الرسول وان يرزق النبي والمؤمنين ما يطرد عنهم اليأس الى الأبد فيكون درساً في الصبر والتحمل، وقد أنشد الإمام الباقر قول حاتم:
اذا ما عرفت اليأس الفيته الغنى
اذا عرفته النفس والطمع الفقر
الثاني: تثبت الآية قاعدة كلية وهي حتمية مجيئ النصر الإلهي، وهو طارد لليأس في ذاته، او مدة انتظاره، ومن مصاديق الاقتداء بالأنبياء ان يتطلع المسلمون الى النصر الإلهي ويعيشون الأمل بالفرج والظفر، وهذا التطلع ليس مجرداً او حلماً بل هو مستقرأ من قصص الأنبياء والوجدان، وهناك امارات وقرائن حالية ومقالية تتجلى للمسلمين تتضمن الاشارات بقرب حصول الظفر والنصر على الأعداء الى ان يكون حقيقة وواقعاً.
ترى متى قال عيسى هذا القول, وأطلــق هذه الدعوة فيه وجوه:
الأول: منذ بدايات دعوته الى ، اذ انه لم يلق من بني اسرائيل استجابة لما ورد عنه في التنزيل [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ].
الثاني: في آخر أمره عندما تظاهر اليهود عليه وأفشوا أمره وطلبوه.
الثالث: طيلة مدة نبوته.
الرابع: في كل مرة يرى فيها جحود وصدود بني اسرائيل.
الخامس: عندما يأتي بالآية والمعجزة ويرى من بني اسرائيل بدل الإستجابة الإعراض والإنكار.
السادس: بعد مجيئه بالنسخ في بعض أحكام التوراة.
السابع: عدم امتثال بني اسرائيل لما ورد في ندائه ودعوته لهم من عبادة وتقواه وطاعة عيسى فيما جاء به من عند ، والأخذ بالرخصة والتخفيف الذي أخبر عنه .
الثامن: عندما رأى الرهبان والوجهاء ميل العامة لعيسى وتصديقهم لنبوته، واتجاه الناس نحو الإنقياد لأوامره، بمعنى ان الملأ منهم خشوا على منازلهم والمنافع التي ترد عليهم بسبب هذه المنازل والشأنية.
التاسع: انتشار اخبار عيسى وانباء المعجزات التي جاء بها، واهتمام الناس بها في مجالسهم ومنتدياتهم وبيوتهم وشغفهم بها، وانتظار اهل القرى قدوم عيسى اليهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، الا ان ظاهر الآية وقوله تعالى [فَلَمَّا أَحَسَّ…] يفيد ظهور امارات الكفر في آخر أمره، لتكون الآية حجة في مغادرة عيسى الأرض، أي انه لم يتركها طوعاً واختياراً بل على نحو الإضطرار.
ومع ان عيسى جاء بالآيات البينات التي يجب ان تقابل بالتصديق والتسليم، ولاقوه بالجحود والكفر فانه لم يغضب ولم يخاطبهم بصيغ الذم والتقبيح، والوعيد بل كظم غيظه وسأل سؤالاً عاماً عن النصرة والمعونة، ولم يقل من ينصرني ويؤازرني على القوم الكافرين، بل جعل النصرة طريقاً الى الهداية وسبيلاً الى معرفة .
ان قيد (الى ) آية في احكام النبوة وملاكات الصبر والتحمل عند الأنبياء وعند عيسى خاصة، وهو دعوة واشارة الى المسلمين المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على الأذى، واظهار التحمل في سبيل والإستعداد للدفاع والإحتراز من الكافرين بغية مواصلة الدعوة، والسلامة الشخصية كمقدمة ضرورية لإتمام نزول سور وآيات القرآن.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”، والتأديب عام، ويشمل قصص الأنبياء والإعتبار والإتعاظ مما لاقاه الأنبياء من أممهم، ومنها نداء عيسى هذا وتوجهه الى الناس لطلب النصرة.
وفي قيد (الى ) مسائل:
الأولى: منع الغلو بعيسى او الدعوة له خاصة فقد حرص حتى في ساعة تلقي الأذى والشعور بالخوف من القوم الكافرين.
الثانية: ان الجهاد والصبر في جنب امر يلتقي به النبي وغيره من أصحابه، فمن أراد ان يجتمع مع النبي في فعل فليكن ناصراً له في مرضاة .
الثالثة: أراد عيسى الإشارة الى قرب مغادرته الناس ورفعه الى السماء.
الرابعة: تأتي الى بمعنى (في) كما في قول النابغة الذبياني:
فلا تشركني بالوعيد كأنني
الى الناس مطليُّ به القار أجرب
والمراد من (الى) في الآية الكريمة أي في سبيل وطلب مرضاته.
الخامسة: افادة (الى) معنى (مع) فيكون المعنى أي من انصاري مع معونة لي ولهم.
السادسة: تأتي (الى) مرادفة للام، والمعنى ان عيسى طلب النصرة لله، والجهاد في سبيله.
السابعة: تأتي (الى) لإنتهاء الغاية، فان غاية النصر هي الحب في والسعي لنيل رضاه وكسب الأجر والثواب.
لقد كانت دعوة عيسى هذه صرخة في وجوه الكافرين، وفرصة أخيرة ليلتفت الناس الى واجباتهم ووظائفهم أزاء النبوة، ولإقامة الحجة على الناس، والحيلولة دون انقيادهم واتباعهم للكافرين في التصدي لنبوة عيسى فالنبي والمصلح يخشى في هذه الحال تحريك الرهبان والرؤساء بعض الجهلة لتنفيذ مآربهم من غير علم وفقه، فجاءت دعوة عيسى لإستباقهم بالتوجه الى بني اسرائيل عامة، والسعي لكسب الأنصار والأعوان، ولإبطال دعوة الرهبان في حال حصولها لعدم أهليتها لمعارضة دعوة عيسى ، من وجوه:
الأول: جاءت المناشدة والدعوة مقرونة بالآيات والبراهين وموافقة العقل بينما تأتي دعوة الكافرين للتحريض على عيسى متخلفة ومخالفة للعقل والوجدان.
الثاني: دعوة عيسى في ذات وطلب مرضاته، اما دعوة هؤلاء فهي ضد الدين والنبوة.
الثالث: لقد جاء عيسى بالبركات، والسلامة من الأمراض والأدران مما يجعل الإستجابة له من العامة امراً سهلاً.
واذ لم يغضب عيسى عليه السلام ولم يذكر كفرهم صراحة فانه طلب النصرة حجة على الجميع، وتمنع من الإعتذار عن التقصير في التخلف عن معونته ونصرته، لقد جاء نداء عيسى هذا على نحو الإستغاثة ليكون شاملاً حتى لأولئك الذين أظهروا الصدود والعناد، لأن النبوة رحمة للناس، بالإضافة الى امكان حصول الإيمان في صدور هؤلاء بصورة دفعية ومن غير تدريج، فقد ترى التردد في الإستجابة للدعوة من أناس مقربين وأكثر الظن انهم يبادرون الى الإستجابة، ولكنهم عند طلب النصرة والمعونة يتخلفون عنها،
لقد جاءت دعوة عيسى على نحو التعدد والجمع ولم يقل من نصيري بصيغة المفرد، وفيه مسائل:
الأولى: ثقة النبي بوجود وإيجاد الأنصار والأعوان.
الثانية: مبادرة جمع من المؤمنين الى الإستجابة لنصرة عيسى.
الثالثة: معرفتهم لمضامين النصرة وما مطلوب منهم.
ويعتبر خطاب عيسى انحلالياً موجهاً الى جميع بني اسرائيل بما فيهم الذين أظهروا الكفر جماعات وأفراداً، وهل جاء خطاب عيسى لمرة واحدة أم كان متعدداً، الجواب هو الأخير، فكما ان عيسى طاف على قرى بني اسرائيل بالآيات فانه سألهم النصرة والأتباع، ليتسنى للناس جميعاً التدبر بالآيات واختيار الإيمان.
قوله تعالى [قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ]
في الحواريين وجوه:
الأول: القصارون الذين يبيضون الثياب.
الثاني: صفوة الأنبياء الذين قد خلصوا لهم، ونسبه ابن منظور الى بعضهم( ).
وعن قتادة والضحاك: انهم كانوا خاصة الأنبياء، ومال اليه الطبرسي وقال: كأنه ذهب الى نقاء قلوبهم كنقاء الثوب الأبيض بالتحوير، ويروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي( ).
وقال الزجاج: الحواريون خلصان الأنبياء وصفوتهم، وتأويل الحواريين في اللغة الذين أخلصوا او نقوا من كل عيب.
الثالث: سموا الحواريين لنقاء ثيابهم، عن سعيد بن جبير.
الرابع: كانوا صيادين يصيدون السمك، عن ابن عباس والسدي.
الخامس: كل مبالغ في نصرة آخر حواري، عن ابن سيده.
السادس: الحواريون اصفياء عيسى، وكانوا اثني عشر رجلاً,قاله الكلبي .
السابع: الحواري الناصح , وأصله الشيء الخالص.
الثامن: سموا حواريين لأنهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة ونورها وحسنها، كما قال تعالى (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) , عن عبد الله بن المبارك.
وتبين الآية وجود مستجيب متعدد لدعوة عيسى .
لقد جاءت استجابة الحواريين سريعة من غير ابطاء مما يحتمل معه عدم انحصار الإستجابة بهم، وان كانت هي القدر المتيقن والأغلب ان الحواريين هم أصفياء وخاصة عيسى، ولا مانع من اجتماع الأوصاف الأخرى من نقائهم من كل عيب واتصافهم بالنصح وظهور معاني العبادة عليهم وصفاء قلوبهم، وقد ذكرت في الحواريين وجوه:
الأول: ما ذكر عن الضحاك قال: مر عيسى بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب، فدعاهم الى الإيمان فآمنوا، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري، وهو القصاء فعربت هذه اللفظة فصارت حواري.
وقال مقاتل بن سليمان: الحواريون: هم القصارون، واذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار يعرف الإستعمال دليلا على خواص الرجل وبطانته.
الثاني: ان عيسى لما دعا بني اسرائيل الى الدين، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك، وكان فيهم شــمعــون ويعقــوب ويوحنا ابنا زيــدي وهــم من جملة الحواريين الإثني عشــر فقال عيســى الآن تصيد السمك، فان تبعتني صرت بحيث تصــيد الناس لحياة الأبد، فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما أصطاد شيئاً فأمره عيسى بالقاء شبكته في الماء مرة أخرى، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه، وأستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا السفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى .
الثالث: ان مريم سلمت عيسى الى صباغ، فكان اذا أراد ان يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه، وأراد الصباغ ان يغيب لبعض مهماته، فقال له: ههنا ثياب مختلفة، وقد علمت على كل واحد علامة معينة، فاصبغها بتلك الألوان، بحيث يتم المقصود عند رجوعي ثم غاب , فطبخ عيسى جباً واحداً، وجعل الجميع فيه وقال “كوني باذن كما أريد”، فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: قد أفسدت علي الثياب، قال “قم فانظر” فكان يخرج ثوباً أحمر، وثوباً أخضر، وثوباًَ أصفر كما كان يريد، الى ان خرج الجميع على الألوان التي أرادها فتعجب الحاضرون منه، وآمنوا به فهم الحواريون( ).
الرابع: كانــوا الحواريــون اثني عشــر رجلاً اتبعوا عيســى وكانـوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده على الارض – سهلا كان أو جبلا – فيخرج لكل انسان منهم رغيفين يأكلهما، فإذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشــنا، فيضـرب بيده على الارض – سهلا كان أو جبلا – فيخرج ماء فيشربون، قالوا: يا روح الله من افضل منا؟ إذا شــئنا اطــعمتنا، وإذا شــئنا سقيتنا، وقد آمـنا بك واتبعــناك، قال: افضــل منكم من يعــمل بيده، ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء فسموا الحواريين( ).
الخامس: انهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك ان واحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: تعرفونه، قالوا: نعم، فذهبوا بعيسى ، قال: من أنت؟ قال: انا عيسى بن مريم، قال فاني اترك ملكي واتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، قال القفال: ويجوز ان يكون بعض هؤلاء الحواريين الإثني عشر من الملوك فاولئك هو الحواريين( ).
ولا مانع من تعدد مهن وصنائع خاصة عيسى الا انهم يجتمعون بعنوان الحواري أي الخاصة والصفي، وهذا التعدد في الصنائع دليل على ظهور معجزات عيسى في كل ميادين الحياة وانه كان يصل الى كل فئات المجتمع.
وأوان اخذ هؤلاء صفة الحواريين فيه وجوه:
الأول: قبل استغاثة عيسى وندائه [مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ] فانهم كانوا خاصته وأصحابه.
الثاني: تجمعوا عند الإستغاثة والنداء، وكان عيسى قبلها يجاهد ويسيح في الأرض بمفرده، او انهم يرافقونه ولكن ليس بعنوان التعهد بالولاء والوفاء، فكثير ممن يتخذ الصحبة للنفع والإطلاع والتزود بالمعارف , وهو أمر يختلف عن النصرة والإعانة.
الثالث: تجمع الحواريون بعد نداء واســتغاثة عيســى وعلى نحــو تدريجي.
والأصح انهم كانوا مع عيسى ومصاحبين له، وعندما أعلن نداءه وطلب النصرة اعلنوا الإستجابة، وهو ظاهر اتحادهم بالقول والإستجابة “قال الحواريون” فكأنهم أجابوا بصوت واحد.
ان مجيء قولهم بصيغة الإتحاد شاهد على حال اليقين التي عندهم بصدق نبوة عيسى وهم حجة على غيرهم من بني اسرائيل لأنهم شهود على الآيات ويرون البراهين والمعجزات، فلذا لم يترددوا في اعلان نصرتهم لعيسى، وهذا الإعلان يعني الإستعداد لبذل النفس وتحمل الأذى والمكر والشر.
وبينما سأل عيسى النصرة بقيد (الى ) فان الأنصار لم يقولوا نحن انصارك الى ، كما هو مقتضى الحال بالمطابقة بين السؤال والجواب، والإستغاثة والإستجابة، بل قالوا نحن انصار وفيه دلالات منها:
الأولى: ايمان الحواريين واقرارهم بالوحدانية.
الثانية: ان عيسى واســطة نبوية مباركــة للإيمان بالله وعدم الشرك به.
الثالثة: التوكيد على عدم الغلو بعيسى وانه نبي من عند .
الرابعة: في الآية حذف، والتقدير: نحن انصار دين .
الخامسة: ان موضوع النصرة هو اعلاء كلمة التوحيد وعبادة .
السادسة: في الآية تأديب وتعليم لأجيال النصارى من بعد عيسى باجتناب القول بان عيسى ابن ، وبلزوم تعاهد عبادة والخشية منه.
وكما سأل عيسى بصيغة الجمع فان الجواب جاءه بذات الصيغة تفصيلاً ومؤازرة ولقانون الإمتثال، ولأن النصرة الفردية لا أثر لها يعتد به، ولبيان ان بعثة عيسى حققت ثمارها وان الإيمان برسالته سيبقى في الأرض، وكذا العمل بالأحكام التي جاء بها من عند ، ولم يقل الحواريون “نحن من انصار ” بل قالوا “نحن انصار ” بصفة الإطلاق وفيه وجوه:
الأول: حصر النصرة والعون بهم دون غيرهم.
الثاني: الإشارة الى عدم وجود انصار آخرين ,وإن كان عدم الإيجاد أعم من عدم الوجود .
الثالث: الثقة بالنفس وكفايتهم عدداً وقــوة في تحقيق الغايات السامية التي تتضمنها استغاثة عيسى ، وهــذا الأمر يدل عليه التأريخ، والوجـدان بلحاظ اعتبارهم النواة لإتساع دين النصرانية.
لقد أراد عيسى عليه السلام التمييز والفصل بين المؤمنين والكافرين، وان يعرف المؤمنون على نحو الخصوص والحصر، ليكونوا أمة معينة تتوجه لهم الخطابات النبوية ويعملوا على تنظيم صفوفهم لمواجهة تحديات الكفر، وللجهاد مع النبي وبعد مغادرته، وأراد ان يعرف اصحابه بأسمائهم وأشخاصهم، ويعرف كل واحد منهم الآخر، كما تدل عليه قرينة نطقهم بالنصرة على نحو متحد (نحن انصار )، فقد جاء خطاب عيسى متحداً وجاء جوابهم بصيغة الجمع (نحن) مما يدل على حصول اجتماعهم على الإيمان زماناً ومكاناً.
قانون “الإمتثال”
لقد بعث الأنبياء بأحكام وسنن وشرائع فيأتون الى أممهم وقبائلهم مبشرين بالجنة من أتبعهم وانقاد لأوامرهم، ومنذرين بالنار من تخلف عن دعوتهم وقابلهم بالكفر والجحود، وفي تلقي الأحكام منهم وجوه:
الأول: قبول الناس كافة لدعوة الأنبياء، واستجابتهم لهم.
الثاني: جحود الناس جميعاً لدعوتهم وصدودهم عنهم.
الثالث: الإيمان بما جاء به الأنبياء على نحو الموجبة الجزئية، فشطر من الناس يؤمنون، وشــطر يجحــدون، وهذا الوجه هو الصحيح، وهو من الكلي المشكك الذي له مراتب متفاوتة، فتختلف الحال من نبي الى آخر، ومن قوم الى آخرين غيرهم، والأصل ان تكون استجابة من كانوا على التوحيد أكثر من غيرهم كما في بني اسرائيل ومجيء عيسى بعد رسالة موسى وتعاقب الأنبياء عليهم، كما ان عيسى أمضى التوراة وشهد على صحة نزولها من عند وكما جاء بالمعجزات الباهرات فانه جاء بالتخفيف ولابد من ملازمة بين المعجزات والتخفيف , وكلاهما من فضله تعالى على عيسى وعلى بني اسرائيل والمصطفين من آل ابراهيم وآل عمران، وقد يكــون عدد المؤمــنين كثيراً وقد يكون قليلاً، والقلة هي الغالبة.
الرابع: الإيمان على نحو الموجبة الكلية، وهو خاص بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهي مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] وفيه توكيد لحقيقة أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
وسواء كانت الإستجابة على نحو الموجبة الكلية او الجزئية وكانت كثيرة او قليلة فانها تعني بالدلالة التضمنية وجود استجابة وامتثال للنبي في دعوته الى ، ويمكن ان نسمي هذا القانون “قانون الإمتثال” وفيه توكيد على عدم الخيبة وان النبي لابد وان يجد من يصدقه في نبوته ويؤازره في دعوته ويكون شاهداً على بعثته لينقل للآخرين ممن حوله ومن بعده معالم النبوة وأفراد المعجزة وهذا الإمتثال والإستجابة لطف منه تعالى بأنبيائه وبعث لروح الأمل في نفوسهم، ومنع للوحشة والوحدة والنفرة ودعوة لمواصلة الجهاد في سبيله تعالى.
قوله تعالى [آمَنَّا بِاللَّهِ]
هذا هو الأمر الثاني الذي أظهره الحواريون في امتثالهم واستجابتهم لإستغاثة عيسى ، فبعد ان بادروا باعلان نصرتهم لدين ومؤازرتهم لنبيه، نطقوا بشهادة الإيمان وأخبروا بانهم لم يقفوا عند حدود الصمت والإيمان القلبي، وفيه مسائل:
الأولى: بيان المرتبة الإيمانية الرفيعة التي نالها الحواريون.
الثانية: بعث السكينة والطمأنينة في نفس عيسى واخباره بوجود مؤمنين بالله في أيامه.
الثالثة: التعدد والسعة في مواطن تلقي الأذى من الكفار، فبدلاً من انحصار اذى الكفار بعيسى فانهم سينشغلون بغيره من الأنصار وعلى نحو الكثرة والتعدد.
الرابعة: تبعث الآية الفزع في نفوس الظالمين، لوجود المؤمنين الذين يبثون الدعوة الى بين الناس.
الخامسة: سلامة ايمان الأنصار، وعدم حصول الإفراط والتفريط عندهم بتأكيدهم عدم الغلو بعيسى، وعدم التفريط بمضامين الإيمان التي تتجلى بعبادة .
السادسة: ان طاعة عيسى طريق للإيمان بالله .
وكأن الجمع بين الجملتين نحن انصار وآمنا بالله، بيان وتفصيل للإستجابة لنداء عيسى لما فيه من الإخبار عن درجة التفقه والمعرفة الإلهية التي عليها الحواريون، وفيه حجة على بني اسرائيل ان عيسى لم يطلب منهم الا الإيمان بالله وان الدعوة لا تزال مفتوحة لهم مع استجابة الحواريين، فهذه الإستجابة لا تعني غلق باب الإيمان او حجب الآخرين عن الإيمان، بل ان استغاثة عيسى باقية ودائمة.
قوله تعالى [وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
لقد تضمن جواب الحواريين أقسام هي:
الأول: عدم الإبطاء في الجواب.
الثاني: تحدي الكافرين باعلانهم الإستجابة.
الثالث: التجاهر بالإيمان بالله , وما فيه من احتمال التعرض للأذى.
الرابع: التوجه الى عيسى بطلب الشهادة على اسلامهم.
وهذه الشهادة تحتمل وجهين.
الأول: الشهادة ساعة اعلانهم النصرة والتأييد.
الثاني: الشهادة أمام بني اسرائيل، ليضاف موضوع هذه الشهادة الى الآيات والبراهين التي جاء بها عيسى اذ ان آيات ومعجزات عيسى لم تنته ولم تقف حينما أحس الكفر من بني اسرائيل، بل ان استغاثة عيسى جاءت ملازمة للآيات المتصلة التي جاء بها.
وفيه عون للحواريين وغيرهم على الإيمان، وهو من عمومات قاعدة اللطف الإلهي، ان تكون معجزات النبوة ملازمة ومصاحبة لإعلانهم الإيمان وما فيه من التحدي.
قانون التضاد
لقد جعل الحياة الدنيا دار اختبار وامتحان، تتصارع فيها قوى الخير والشر، وتتدافع بها أسباب السعادة والحزن، واليسر والعسر، وتتجاذب الإنسان أطراف متعددة متفقة ومتنافرة، فتكون سبباً للإبتلاء ومقدمة للجزاء الأخروي ثواباً كان او عقاباً، وتواجه الإنسان يومياً امور وجودية تتقابل ذاتاً وموضوعاً، ولا يثبت احدها مع الآخر بل ينافيه، وينعكس هذا التضاد على أعمال الناس واختيارهم على أقسام ثلاثة:
الأول: من يفعل الصالحات.
الثاني: من يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
الثالث: من يفعل السيئات.
ان الصراع دائم في الحياة الدنيا بين الخير والشر , وينعكس هذا الصراع داخل النفس الإنسانية، بين النفس الإمارة والبهيمية والحيوانية من جهة وبين النفس المطمئنة واللوامة.
وهذا التضاد ثابت في الأرض , وهو جزء من سنخية الحياة الدنيا، ومن خصائصه ان طرفيه ليسا بعرض واحد، بل ان الرجحان يكون لجانب الخير والصلاح لعمومات قانون اللطف, بالإضافة إلى موضوعية العقل , إذ أن خفف عن الإنسان في مواجهة هذا التضاد، ومنع من اللبس والجهالة فيه، واعانه على اختيار الأمر الحسن، وهيء له فرصاً كثيرة للتدارك كما فتح له باب الإستغفار ومحو الذنوب.
لقد وجه عيسى نداءين كل منهما عام:
الأول: فيه آيات ومعجزات وأنتفع منه بنو اسرائيل، لما فيه من التذكير والموعظة ورؤية المعجزات , ولكن هذا النفع لم يرق لدرجة الإيمان.
الثاني: طلب النصرة، الذي كان فصلاً وتمييزاً بين الإيمان والكفر، فتصدى نفر من المؤمنين هم الحواريون وأظهروا الإستجابة ليدفعوا البلاء والسخط الإلهي عن بني اسرائيل في صدودهم وجحودهم عن نبوة عيسى ، مع انهم بايمانهم يعرضون أنفســهم للأذى، ويتوجه لهم أهل العناد والجحــود على نحو أقسى وأشد من باب الأولوية، فاذا كان النـبي الذي يأتيهم بالآيات يتعرض للأذى والشر منهم، فكيف يكون حال غيره من المؤمنين.
وهل كان الحواريون يتوقعون نزول الأذى بساحتهم، الجواب نعم بقرينة الحال والمقال، وانهم كانوا في صحبة عيسى ويرون الجحود وأسباب الكفر من الآخرين.
وتظهر آداب وتعليم النبوة على كلام الحواريين، وبما أظهروه من الثبات والعزم، وما أعلنوه من مفاهيم التوحيد والعقيدة من غير اخلال بمنزلة الرسول فقد حرصوا على بيان موضوعية وجود عيسى بين ظهرانيهم وسألوه الشهادة على اسلامهم، في اشارة الى لزوم التأسي بهم وأخذ أحكام الإسلام منهم بعد غياب عيسى وموته او قتله او رفعه الى السماء، وقول الحواريين [وَاشْهَدْ] خطاب موجه الى عيسى، وفيه اكرام له واظهار للثقة به، وبمنزلته عند في الدارين.
وفي أوان ومكان الشهادة وجوه:
الأول: الشهادة ساعة طلبها وسؤالها من عيسى.
الثاني: عند اجابتهم لعيسى .
الثالث: الشهادة أمام بني اسرائيل لتكون سبباً لإسلامهم واتباعهم للحواريين في ايمانهم واستجابتهم لسؤال عيسى، أي ان الحواريين أرادوا ان يكونوا أسوة لبني اسرائيل وعلى لسان عيسى ، ولينضم ايمانهم الى الآيات التي جاء بها عيسى ، فتكون استجابتهم آية ينطق بها عيسى ولكنها لاترقى الى المعجزة، لأن وظيفة كل انسان ان يقابل آيات عيسى بالإيمان والقبول.
الرابع: الشهادة عند الملوك والسلاطين في حال دعوة عيسى للمناظرة واثبات صدق نبوته من خلال وجود مصدقين برسالته، فيحضرون للشهادة على صدق نبوة عيسى .
الخامس: الشهادة عند المسلمين الآخرين ممن يؤمن برسالة عيسى من أهل القرى الأخرى، ومن يستجيب لدعوة عيسى بعد كلامهم هذا.
السادس: شهادة يوم القيامة عندما يؤتي بالأنبياء ليكونوا شهداء على أممهم، قال تعالى [وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الشهادة لإصالة الإطلاق وصدق موضوع الشهادة عليها، وفي الآية درس تأديبي وموعظة للمسلمين الى يوم القيامة لأن الحواريين لم يطلبوا شهادة النبي الا على اسلامهم.
ولم يأتِ في نداء عيسى لبني اسرائيل الطلب بان يكونوا مسلمين، بل أمرهم بتقوى وعبادته، واطاعة عيسى فيما جاء به من عند ، ثم توجه بالإستغاثة وطلب الأنصار والأعوان فاجابه الحواريون بانهم أنصار وزادوا بان سألوه الشهادة باسلامهم، وهذا من الفوز العظيم والمرتبة العالية ان يحظى الإنسان بشهادة النبي على اسلامه وبما يزكي أعماله، لذا جعلها الحواريون أمنية وفردا ً من جزاء نصرتهم لدين .
وتبين الآية عشق الحواريين لصفة الإسلام، وسعيهم لنيلها والتأكد من الوصول اليها بشهادة النبي عيسى ، وقد خفف عن المسلمين وجعل كل واحد منهم يستحق صفة الإسلام بالنطق بالشهادتين، فمتى ما تلفظ الإنسان بالشهادتين حقن دمه وصحت مناكحته، وقد ورد قوله تعالى [وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ] ( )، لذا قيل بانهم أصبحوا أنبياء اذا استجاب لدعائهم بما ورد عنهم في التنزيل [فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]، وان جعلهم أنبياء ورسلاً، فأحيوا الموتى وصنعوا كل ما صنع عيسى ( ), وهو بعيد .
والوحي أعم من النبوة فقد أوحى الى أم موسى كما في قوله تعالى [إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى] ( )، ولا ينحصر معنى الوحي بالإخبار الملكوتي، بل يشمل الإشارة والإلهام والإعلام، وقد ورد في تفسير الآية اعلاه الإلقاء في قلوب الحواريين وتوجه الأمر اليهم، الإيمان برسالة عيسى ، وهذا الإلقاء أدنى درجة من النبوة، ويبين آية اعجازية في ايجاد الصحابة للنبي.
قانون الصحابة
الصحابة جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة الا هذا، وهو عنوان الرفقة، وأختلف في تعريف الصحابي على وجوه:
الأول: من طالت مجالسته مع النبي بقصد الأخذ منه والإقتداء به، بخلاف من جاء اليه بوفد , وغادر من غير ملازمة ولا متابعة.
الثاني: كفاية مسمى الصحبة من غير تعيين لمدة معينة، كثيرة او قليلة، فيقال صحبت فلاناً سنة او شهراً او يوماً.
الثالث: من أقام مع النبي سنة او سنتين، وخرج معه في كتيبة او كتيبتين ، وبه قال سعيد بن المسيب، باعتبار ان صحبة النبي شرف عظيم لا تنال الا باجتماع طويل ينطبع فيه اثرها في القول والفعل.
وينقض من وجوه:
الأول: عدم وجود دليل عليه من عقل او نقل.
الثاني: انه مخالف للمعنى اللغوي للصحبة.
الثالث: على هذا المبنى لا يكون جرير بن عبد البجلي الذي أسلم في السنة التي قبض فيها رسول ووائل بن حجر الحضرمي، من الصحابة، وهو الذي بشر به النبي بمجيئه قبل وصوله، والإجماع على أنهما من الصحابة.
الرابع: من طالت صحبته، وروى عن النبي، حكي عن الجاحظ ولكن الصحبة أعم.
الخامس: البالغ الذي رأى النبي، ذكره الواقدي.
السادس: من أسلم ولا زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجوداً لم يغادر الدنيا وان لم يره ولم يسمع منه، واختاره ابن عبد البر وابن منده، وهو خلاف المتبادر من معنى الصحبة لغة وعقلاً وهي عنوان تشريف خاص.
السابع: الصحابي الذي جعله الرسول من خاصته، وأختص بالرسول، ولكن الصحبة أعم.
الثامن: كل مسلم رأى رسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأشكل على هذا التعريف من وجوه:
الأول: ان ابن ام مكتوم أعمى لم ير الرسول ومع هذا يعتبر صحابياً بالإجماع.
الثاني: لا يعتبر من الصحابة من كان كافراً عند رؤيته للنبي ولكنه أسلم بعد وفاة النبي كرسول قيصر، لقيد الإسلام الوارد في هذا التعريف.
الثالث: من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته وقبل دفنه كأبي ذؤيب بن خويلد الهذلي، فيصدق عليه انه رأى النبي، مع انه لا يعتبر من الصحابة.
ويرد على هذه الوجوه ان المراد من الرؤية اللقاء والحضور بين يديه فيشمل الأعمى، ويمكن ان يلحق به من أسلم فيما بعد بالتبعية.
كما يخرج منها بالتخصص الذي لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الشهود، والأصح هو الوجه السابع والأخير، وقد مات النبي عن مائة وأربعة عشر الفاً من الصحابة.
وهذا العدد الجم والكثير من الصحابة يدل على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الأنبياء بموضوع وأحكام الصحبة، فمع ان عيسى من الرسل الخمسة أولي العزم فان عدد أصحابه الحواريين اثنا عشر صحابياً، وان كان الذين رأوه آلالاف من بني اسرائيل، ولكن قوله تعالى [فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ] توكيد لعدم ايمانهم برسالته، أما أهل مكة والمشركون الذين أحس منهم النبي محمد صلى عليه وآله وسلم الكفر فهاجر الى يثرب فقد اصبح من بقي منهم حياً حين الفتح مسلماً.
وتدل الآية الكريمة على حصول الصحبة لعيسى وقد حبب للناس صحبة الأنبياء وندبهم اليها بالمعجزات والأخلاق الحميدة وانتهاج النبي لسبل الحق واجتنابه للذنوب، الصغائر منها والكبائر، ووردت الآيات القرآنية بدعوة الناس الى صحبة النبي وتحبيبها اليهم وطرد النفرة عن نفوسهم منها، قال تعالى [مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ]( )، وقال تعالى [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى]( )، كما ورد الذم لمن يعرض عن النبي من قومه, قال تعالى [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
وظاهر هذه الآية وما شــابهها، إرادة قــوم النبي عمـوماً وصدق اسم الصحابة عليهم وان كانوا كفاراً، ولكن المعنى الإصطلاحي أخص وجاء بقيد الإيمان، ويمكن ايجاد تفصيل بالتمييز بين لفظ (صاحبهم) الخاص بالنبي وارادة العموم فيه ولفظ (صحابة النبي) وارادة المؤمنين به منهم.
ومن خلال قصص الأنبياء فان كل نبي له عدد من الأصحاب وان تباينت اعدادهم بين كل نبي وآخر وكذا في حياة النبي فترى عددهم قليلاً في بدايات بعثته ولكنه يأخذ بالإزدياد والكثرة على نحو التدريج وليس من نبي يكون عدد أصحابه في بداية النبوة أكثر مما في آخر أمره وخاتمة أيامه في الدنيا.
والصحابة على مراتب متعددة بحســب الســبق في الإســلام والهجرة وملازمة النبي، والقتال معه، ومحاكاته في اعماله والإقتداء به، والرواية عنه ومكالمته، ومماشاته ورؤيته وصفة الصحبة شاملة لهم جميعاً.
وكل نبي له أصحاب يتصفون بالإيمان ويكونون شاهداً على صدق نبوته وورثة لعلمه ونواة ووســائط لدعوة الناس الى الهدى، وتلك قاعدة كلية ثابتة في تأريخ النبوة والإنسانية ويمكن ان نسميها (قانون الصحابة) فان قلت ان آدم نبي وليس معه صحابة , الجواب ان صحابته حواء وذريته واولاده، وفيه مصداق لما تقدم أعلاه من ازدياد عدد الصحابة وعدم حصول النقص فيهم مع مرور الأيام، وقد مات آدم وله عدد من الأولاد والذرية، وقيل انه لم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً.
لقد أثبتت هذه الآية حقيقة وهي وجود أصحاب للنبي ينتحلون الإسلام ويتقيدون بأحكامه ويحرصون على سننه، ويغادرهم النبي وعندهم الأهلية للقــيام بوظيفة حفــظ تركــة النبوة، وفيه شكر وجزاء من الباري للنبي بان أراه ثمرة جهاده وسعيه قبل مغادرته الدنيا.
لقد أراد الأنصار عرض دينهم على النبي، ونظره في مدى صحة أفعالهم العبادية وسننهم اليومية خشية ان يكون عندهم خطأ يبقى ملازماً لهم في حياتهم ويضرهم في دنياهم وآخرتهم، وكأنهم أدركوا قرب مغادرة عيسى الأرض فأرادوا اطمئنانه على سلامة الدين من بعده، وهذا الشطر من الآية شاهد على مسألة وهي ان احساس عيسى بكفر بني اسرائيل عنوان واشارة الى قرب مكرهم وكيدهم به، ورفعه من الأرض.
وجواب الحواريين لعيســى يبعث السكينة والرضا في نفسه من وجوه:
الأول: وجود مؤمنين بدعوته من بين الناس.
الثاني: حصول الأثر والإستجابة لدعوته.
الثالث: صيغة الجمع والتعدد في عدد المجيبين لدعوته، ونطقهم بالإستجابة.
الرابع: اتفاقهم في الإجابة موضوعاً وحكماً، فكلهم نطق بصوت واحد بالنصرة والإيمان والشهادة.
الخامس: لغة الثبات والتحدي التي تجلت في حال وكلام الحواريين، وتنطبق قاعدة الأهم والمهم وتقديم الأول منهما على موضوع الإستجابة للنبي، فالمهم ان يعلنوا ايمانهم والأهم ان يبقى الأصحاب على الإيمان ويتعاهدون الشريعة والسنن التي جاء بها الرسول، ويظهر من الآيات والتأريخ والوجدان ان الحواريين بقوا على ولائهم وصدق ايمانهم.
قانون المغادرة
ما يناله النبي من الاذى جهاد في سبيل لأنه يسعى لنقل الناس من حال الاعتياد على الكفر والتفريط، الى حال الامتثال والايمان، ويكون الاذى والضرر الذي يلاقيه أكثر من غيره ليس من باب الأولوية فقط، بل للوحي واستصحابه ومنه ما يتعلق بالإخبار عن موت او استشهاد النبي، ولموضوعية هذا الإخبار بصيغ التبليغ وتهيئة أسباب حفظ الشريعة والتنزيل بعد رحيل النبي ومغادرته كي يكون الذين من بعده من الأوصياء والأصحاب قادرين على أداء وظائف الإمامة ومؤهلين لبث الدعوة بين الناس.
فالنبوة شمعة مستديمة الضياء، لا تنطفأ بموت النبي بل ان موته او قتله مناسطــبة لإزدياد وهجها وما ينبعث منها من الضياء الإيماني المبارك، فيكون فقده علة لندم الناس وسعيهم للتدارك والتفاتهم لتضـييعهم لمناســبة وجــوده بين ظهرانيهم وما جــاء به من الفيض والبركة.
وعلم النبي بدنو أجله دعوة له لتهيئة أصحابه واصلاح شأن الأمة واعادة تثبيت قيم النبوة والمعارف الإلهية في النفوس والمجتمعات، فيتفضل سبحانه باشعار النبي بدنو أجله بالوحي والإشارات الملكوتية، وكأن هذا الإشعار والإخبار حاجة ومن لوازم النبوة وأسباب دوام مفاهيمها في الأرض
وتتجلى في هذه الآيات مضامين الإخبار بقرب دنو أجل عيسى او رفعه باحساسه بكفر بني اسرائيل واستغاثته وطلبه النصرة والتأييد فكأنه يخبر الناس بانه كان يتولى الجهاد بنفسه وبالآيات والبراهين، وان حفظ الإيمان أصبح يحتاج الرجال والجنود، وتلك الحاجة فرع تعطيل عمله بالمغادرة وعلى نحو الوحي او الظن المعتبر، وظن النبي يختلف في سنخيته عن الشك ونحوه.
ولابد ان تبدو واضحة هذه القواعد في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأبهى صورها، ولا تقف عند حدود النظرية بل تكون حقيقة ثابتة (وعن ابن عباس قال النبي صلى عليه وآله وسلم: لما نزلت (اذا جاء نصر ) : نعيت الي نفسي بانها مقبوضة في هذه السنة)( ).
وقيل لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها ضاحكاً مستبشراً، اما استنباط حكم النعي من آيات السورة , ففيه وجوه:
الأول: الوحي الملازم للسورة والذي يكون بياناً لآياتها وبرزخاً دون الخطأ في التفسير والتأويل.
الثاني: التقدير في الآيات والمعنى فسبح بحمد ربك فانك عن قريبا راجع اليه.
الثالث: الأمر الإلهي في الآية بتجــديد التوحيد، واتخــاذ الإستغفار وسيلة للتدارك، وهو عنوان قرب الإنتقال الى عالم الحساب بلا عمل.
الرابع: ما في الآية من بشارات اتمام العمل وبلوغ الدعوة لمراتب الكــمال، وتحقيــق اســباب النصــرة والظــفــر على نحــو مســتــديم.
وتفتح قواعد (قانون المغادرة) الذي يعني احساس وعلم النبي بدنو أجله ولو في الجملة أبواباً من العلم والمعرفة وتبين عظيم فضل على الناس وتهيئة أسباب انتفاعهم من النبوة حتى بعد رحيل النبي وانتقاله الى الرفيق الأعلى.
لقد جعل واسطة ملكوتية بينه وبين الأنبياء فيأتي الملك بالوحي والتنزيل، ويقوم بتوجيه اعمال النبي واصلاحه للرئاسة والتبليــغ، ويهديه لســبل النجاة من القــوم الظــالمين، وكيفية انتفاع الناس منه وجذبهم للإيمان والرشاد، وكما ان للوحي مقدمات واشــارات تكون مدخــلاً وعوناً للنبــي على تلقيــه، فان النبي يعلم بقرب مــغادرته الدنيا ولو عــلى نحو الإجــمال واجتمـاع أسباب الرحيل.
وهذا الأمر يحظى به ايضاً أناس عديدون من أهل الورع والتقوى، وممن حباه عقلاً راجحاً وبصيرة، مع الفارق في الرتبة والواسطة والكيفية، لأن طريق علم الأنبياء بالمغادرة هو الوحي والتنزيل ,وبقيد النبوة , وفيه تشريف لهم واكرام وبشارة بحسن المنقلب، ونوع جزاء عاجل لاخلاصهم في مرضاة ولتأتي مغادرتهم الدنيا عن آية ودليل يؤكد صدق النبوة والإنتقال الى عالم الخلود.
بحث منطقي
يعتبر القسم والقسمة من الامور الفطرية والمصاحبة للانسان في معاملاته، ويومه وليله، وهي من ثمرات العقل الانساني ومن مصاديق الحكمة والعلم.
وتصلح القسمة لكل مركب، وتتعدد بحسب اللحاظ والخصوصية، ولا تقف عند حد معين، فقد يكون القسم مقسماً.
وقسمة الشيء تجزءته وشطره، يقال: قسم الشيء يقسمه قسماً فانقسم، وجمع القسم اقسام.
وفي القسمة نوع تنظيم وحكمة، وهي آلة لفك الخصــومة ومنع الفرقة والخلاف، ووسيلة تدبير تعين الفرد والجماعة في الحياة العامة والاحوال المتباينة، وتمنع من الخلط واللبس والجهالة والإرباك، وبها تعرف ما للانواع من حدود ورسوم.
والحدود جمـع حد , وهو الوصف المحيط بالشيء وغيره بذاته, وحقيقته ويمنع غيره من الدخول معه، وهو على قسمين، حد تام، وحد ناقص.
والرسوم جمع رسم , وهو تمييز الشيء عن سواه تمييزاً غير ذاتي فيما يعرض للماهية، وينقسم الى قسمين، رسم تام، وناقص.
ومن شرائط القسمة التباين وعدم التداخل بين الاقسام وان كانت اجزاء للمقسم، فلا ينطبق كل واحد منها على الاخر، ولا يصح ان يكون قسم الشيء قسيماً له، فاذا اخذت الكلمة فانها تقسم الى اسم، وفعل، وحرف.
ويجب ان تكون القسمة جامعة مانعة، أي جامعة لجميع افرادها، مانعة من دخول غيرها ضمن اقسامها، والقسمة على نوعين:
الأول: القسمة الطبيعية: وهي قسمة الكل والمتعدد الى اجزائه، وتجري بحسب الاجزاء للمركب والنوع والصنف، وبلحاظ التحليل العقلي والصناعي والمائز في المفهوم والماهية كما في قسمة المركبات الى برية، وبحرية، وجوية، وكل واحدة منها تنقسم الى أقسام، فالبرية مثلاً تنقسم الى السيارة والقطار ونحوهما، وكل واحدة منها تنقسم الى اجزاء متعددة.
الثاني: القسمة المنطقية: وهي قسمة الكلي الى اجزائه كقسمة النامي الى الانسان والحيوان والنبات، والانسان الى مذكر ومؤنث، ومن خصائصها حملها على المقسم، وحمل المقسم عليها.
ولقد جاءت الآية الكريمة بقسمة الناس الى مؤمنين بعيسى وهم الحواريون، وكافرين أحس منهم عيسى الكفر والعداوة، وهذه القسمة تعني التباين والتنافي بين المؤمن والكافر، وان المجتمع أصبح بدعوة عيسى منقسماً الى قسمين.
ويعتبر حصول هذا التقسيم من بركات عيسى لما طرأ على المجتمع من تغيير وتاسيس مجتمع الايمان، وجعل افراده مع قلتهم قسيماً للكافرين مع كثرتهم.
بحث بلاغي
من وجوه البديع الإدماج، وهو ان يدمج المتكلم غرضاً في غرض، بحيث لا يبدو ظاهراً من الكلام الا احد الغرضين، ويمتاز القرآن بان الادماج جاء فيه على نحو المتعدد اللامنتهي، فليس من آية الا وفيها اغراض متعددة يندمج بعضها ببعضها الآخر، ويمكن شطرها وفصلها بحسب الخصوصية واللحاظ والجهة.
وقيد اللامنتهي للاشارة الى ان علوم القرآن توليدية متكثرة، وخزائن مدخرة، وعلوم مستقرأة، ففي هذه الآية اغراض واشارات متعددة منها:
الأول: بذل عيسى الوسع في التبليغ والانذار.
الثاني: استيفاء اداء الوظيفة الرسالية، وبلوغ الناس مرتبة الايمان او الاصرار على الجحود.
الثالث: ظهور معاني ودلالات الكفر عند القوم بالقول والفعل.
الرابع: لجوء عيسى الى الاستغاثة وصيغ الفصل والقسمة بين الناس.
الخامس: اعتبار الايمان وحده هو اساس القسمة، وليس القربى والصداقة والمحبة الشخصية.
السادس: جاء نداء عيسى دعوة للناس جميعاً للايمان، فمع احساسه بكفرهم فانه لم ييأس منهم، وفيه بالدلالة الالتزامية شاهد على عدم استيعاب الكفر للجميع، وان الآيات التي جاء بها عيسى وجدت من يستجيب لها بالاضافة الى وجود أمة مؤمنة مستعدة للانقياد الى الرسول الذي يأتي بالآيات من عند .
السابع: مجيء الاستجابة لعيسى بصيغة علنية ظاهرة من غير تردد ولا خوف، خصوصاً وانه لم يصدر من الكافرين الاذى والظلم المعتد به، اذ انها أخبرت عن احساس عيسى منهم بالكفر والجحود، وبين الكفر والمكر السيء عموم وخصوص مطلق، فالمكر من الكافرين كفر، وليس كل كفر هو مكر سيء، فمن أفراده العقيدة الفاسدة، ومفاهيم الضلالة.
الثامن: اختصاص الايمان بالحواريين، وتشريفهم الى يوم القيامة باعلانهم الايمان، بتوثيق القرآن واخباره عن ايمانهم، وهذا التوثيق أمانة تأريخية تحملها المسمون، وتتقوم باكرامهم والاقتداء بهم، ومن اغراضها دعوة لهم للاخلاص والامتثال لما جاء به النبي محمد صلى عليه وآله وسلم.
التاسع: لقد حرص الحواريون على الفوز بشهادة عيسى ، فاعطاهم ما لا يحيطون بعلمه من الثواب العاجل والآجل، فالى جانب شهادة عيسى لهم بالايمان فقد شهد لهم بالهداية والايمان والاستجابة للرسول [ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ]( )، كما شهد لهم جبرئيل عليه السلام في نزوله بالقرآن، وشهد لهم النبي محمد صلى عليه وآله وسلم، وأجيال المسلمين الموجود والمعدوم الى يوم القيامة.
العاشر: كما جاء ايمانهم متحداً وتتجلى فيه معاني الصدق والاخلاص والاتفاق وانعدام الشك او التردد، فكذا شهادة المسلمين لهم جاءت على نحو العموم المجموعي، فليس من مسلم الا ويكرم الحواريين.
الحادي عشر: لو دار الأمر بين اختصاص طلب الشهادة في الدنيا ام في الآخرة ام في الدنيا والآخرة، فالصحيح هو الأخير لاصالة الاطلاق، ولأن السؤال صدر عن مؤمنين وبقيد الايمان والاقرار بالتوحيد والتصديق بالرسالة.
لقد تضمن كلام الحواريين غرضين:
الأول: اجابة عيسى بالاستجابة واظهار الايمان والعون.
الثاني: سؤال شهادته على اسلامهم، وفيه دلالة على اعلانهم الثبات على الايمان والاستعداد للصبر وتحمل الأذى.
الإعراب واللغة
ربنا: منادى مضاف، والضمير (نا) مضاف اليه.
آمنا: فعل ماض وفاعل، والجملة خبر ثالث لنحن من قوله تعالى (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ).
بما: جار ومجرور، انزلت: فعل ماض وفاعل , والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
واتبعنا الرسول: الواو: حرف عطف، اتبعنا: فعل ماض وفاعل.
الرسول: مفعول به منصوب.
فاكتبنا مع الشاهدين: الفاء: استئنافية.
مع: ظرف مكان متعلق باكتبنا، الشاهدين: مضاف اليه مجرور بالياء لأنه جمع المذكر السالم.
في سياق الآيات
بعد استجابة الأنصار لنداء عيسى ، واعلانهم نصرته واعانته وسؤالهم شهادته على حسن اسلامهم، جاءت هذه الآية لتبين صدق اسلام الحواريين وارتقائهم في عالم الإيمان والعقيدة، واستعدادهم للجهاد في سبيله تعالى واتباع الرسول في نهجه ودعوته الناس لعبادة وليكون هذا الإعلان تحدياً للذين كفروا بنبوة عيسى ، واشارة لما قد يتعرضون له من الأذى والمكر، وبعد ان خاطب الحواريون عيسى وأكدوا انهم أنصار ، توجهوا الى الدعاء وفزعوا الى وأعلنوا التسليم والخضوع والإنقياد لأحكام الربوبية.
وتبين الآية مضامين الإسلام وشرائط المسلم، فالآية السابقة أخبرت عن اسلام الحواريين وجاءت هذه الآية لتبين انهم آمنوا بالتنزيل واتبعوا الرسول.
لقد تضمنت هذه الآية والآية السابقة أموراً:
الأول: ذكر الإيمان مرتين، احداهما الإيمان بالله، والثانية الإيمان بالتنزيل.
الثاني: الإنقياد والإتباع، ففي الآية السابقة استجابوا لنداء عيسى وقالوا نحن انصار ، وفي هذه الآية اعلنوا اتباعهم للرسول.
الثالث: موضوع الشهادة والتصديق فقد ســألوا عيســى ان يشهد لهم بالإســلام , وفي هذه الآيــة سألوا ان يكتبهم مع الشاهدين.
اعجاز الآية
تبين الآية ما أظهره الحواريون من العزيمة على الجهاد في سبيل ، والإستعداد للتضحية والصبر وتحمل أذى الكافرين، وحرصوا ان يعلنوا انقطاعهم الى تعالى، وانشغالهم بمضامين العبودية وفيه توكيد على تحقيق رسالة عيسى أغراضها ونشوء قاعدة بث المعارف الإلهية ومفاهيم التوحيد في أقسى الأحوال وأشد أسباب العنت والكفر والصدود.
لقد بعث الله سبحانه عيسى رسولا إلى بني إسرائيل بآيات متعددة وتتصف نبوته بأمور:
الأول: تعدد أشخاص المؤمنين بالرسالة، وهو أمر يدل على استمرار حصول الإنشطار وكثرة الفروع.
الثاني: صعوبة استحواذ الكافرين على النفوس والمنتديات لوجود الإيمان ومقوماته.
الثالث: انتشار مفاهيم الإيمان في الأسواق والمنتديات ومواطن اجتماع الناس.
الرابع: حضور معجزة عيسى في الأذهان والواقع اليومي، من خلال من تعافى من المرضى والزمنى بدعاء عيسى وآية ابراء الأكمه، وآية ابراء الأبرص، وآية الطير والأكل والإدخار.
الخامس: لجوء الناس الى الحواريين لمعرفة احوال عيسى وتفاصيل سيرته المباركة، والشواهد على صدق نبوته وهذا الأمر يظهر واضحاً في لجوء الناس والتابعين الى أصحاب النبي محمد صلى عليه وآله وسلم لمعرفة سنته القولية والفعلية.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (اتبعنا الرسول) ولم يرد لفظ اتبعنا في القرآن الا في هذه الآية.
الآية سلاح
الآية حجة وموعظة من وجوه:
الأول: معرفة المسلمين في كل زمان بوجود انصار واعوان لعيسى .
الثاني: درجة الإيمان والتفقه في الدين التي يتصف بها الحواريون.
الثالث: لزوم التوجه الى في اعلان الإيمان.
الرابع: بعد طلب الشهادة من الرسول قام الحواريون بالشهادة على أنفسهم على نحو الإقرار بانهم اتبعوا الرسول.
الخامس: الآية دعوة لإتباع المسلمين لما جاء به عيسى من عند ، وعدم الإعراض عن رسالته بسبب جحود الآخرين وصدودهم عنها,
السادس: حث المسلمين على السعي لإبتغاء الدرجات عند .
السابع: الآية دعوة للإيمان بالتنزيل على نحو العموم، فكل ما نزل من عنده تعالى هو حجة يقتضي الإقرار به.
مفهوم الآية
مع ان نداء عيسى جاء عاماً وعلى نحو القضية المهملة من غير ارادة قوم مخصوصين، جاء اعلان الحواريين لايمانهم على نحو التفصيل، وبما يرفع اللبس والشك، وأظهروا الإقرار بعالم التنزيل.
ومن مفاهيم الآية ان عيسى لم يأتِ بالآيات الحسية فقط من احياء الموتى وآية الطير وابراء الأكمه والأبرص ونحوها، بل انه تلقى التنزيل من عند تعالى، فجاء الإنجيل وحياً، وأخذه الحواريون من عيسى فالآية تثبت حقيقة كلية وهي وصول الإنجيل الى أصحاب عيسى وايمانهم به، والإيمان فرع الفهم والمعرفة والعلم بالشيء، فلا يحصل التصديق الا بعد المعرفة، وفي الآية مسائل:
الأولى: توجه الحواريين الى تعالى في المناجاة واعلان التسليم والخضوع لمقام الربوبية.
الثانية: خلو اعلانهم من التردد او الشك او الريب.
الثالثة: اظهار الحواريين لإتباعهم عيسى والإتباع اعم من الإيمان وهو نوع جهاد وسعي في سبيل ، فان قلت: انهم اعلنوا اتباعهم للرسول في مناجاتهم لله تعالى وعيسى امام الملأ فلا يصدق عليه انه اظهار واعلان، قلت: ظاهر الآية يفيد الإظهار والتجاهر بالإيمان بقرينة اتباع الرسول، فالإتباع اظهار عملي، والعمل أبين من القول، لما فيه من أداء المناسك والعبادات بالإضافة الى صيغ القول والتلفظ بمضامين الإيمان.
الرابعة: الإقرار برسالة عيسى وانه مبعوث من عند .
الخامسة: اكرام الأنبياء, فالحــواريون يظهرون ما لعيســى من المقام الرفيع ولم يذكروه باسمه، بل بصفة الرسالة التي شرفه بها.
السادسة: حرص الحواريين على التوثيق السماوي لإيمانهم والإخبار عن تثبتهم من الآيات التي جاء بها عيسى .
السابعة: العلم بوجود مؤمنين غيرهم وان التوحيد ثابت وباق في الأرض سابق لهم ومتأخر عنهم، لقد أراد الحواريون ان يفوزوا بشرف الإنضمام الى جماعة المؤمنين والذين أيقنوا بالآيات والتنزيل.
ومن البديع العقائدي في الآية انها تتكون من ثلاثة علوم، وكل علم له ثلاثة اطراف.
العلم الأول: الايمان واطرافه:
الأول : الاعتقاد بالقلب والجوانح.
الثاني : الحواريون.
الثالث : ما انزل من الكتاب.
العلم الثاني: الطاعة والامتثال واطرافه:
الأول : الإتباع.
الثاني : الانصار.
الثالث : ماجاء به عيسى من عند .
العلم الثالث: الكتابة والتدوين واطرافه:
الأول : الكتابة.
الثاني : شهادة الحواريين.
الثالث : تفضله سبحانه باكرامهم بتدوين اسمائهم مع الصالحين، ليكون سبحانه شاهداً على صدق ايمان الحواريين.
افاضات الآية
تبين الآية العشق الذي يملأ صدور الحواريين الواجب الوجود، وحرصهم على اعلان المبادرة الى الايمان، وتظهر الآية ان الايمان اهم موارد الافتخار والاعتزاز, مع ان الاعلان لم يأت الا في موطـن التحدي واحتمال الاذى من باب الاولوية، فاذا كان الرسول الذي جاء بالآيات المعجزات الباهرات يتعرض لمكرهم واذاهم، فكيف حال الذي يؤمن بنبوته، ومع هذا اظهر الحواريون فرحهم واستبشارهم بالهداية والايمان.
لقد اصبح الحواريون غرقى في نور جلال ، واخذوا يسبحون في بحر ما جاء به عيسى من الآيات والدلالات التي تؤكد وجود الصانع وتدعو الى عبادته.
وجاء اعلانهم ليبين استمرار الارتباط بين عالم الشهادة وعالم الغيب، ليكونوا انواراً تضئ لاهل السماء.
لقد اظهر الحواريون عشقهم لمنازل العبودية، وشوقهم للقاء تعالى وصدق ايمانهم بأن اتجوا صوب المناجاة وتوكيد حملهم للواء التوحيد وتعضيد الرسول بقولهم (ربنا أمنا) وهو وثيقة خالدة، تدعو الى الاخلاص في العبادة، وتجذب الناس الى الايمان والهداية.
التفسير
قوله تعالى [رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ]
بعد قيام الحواريين بالاستجابة لنداء عيسى ، واخباره بما يبعث على السكينة في نفسه على شريعته وبقائها في الارض، توجهوا الى الباري وقالوا (ربنا) وفيه مسائل:
الاولى: الاقرار بالربوبية لله, وعدم الغلو في عيسى, وإجتناب التفريط في المبادئ والسنن التي جاء بها.
الثانية: لقد حرص الحواريون على المناجاة والدعاء وذكره تعالى، وان شهادة النبي لهم بالاسلام امر يقربهم الى تعالى.
الثالثة: في الآية دعوة للتابعين والذين يلتحقون بهم من المؤمنين في لزوم الاقرار بالربوبية لله تعالى:
الرابعة: النداء بربنا مصداق لحصول الايمان في نفوسهم ومانع من الشرك والجحود.
الخامسة: افتتاح دعائهم بقول ربنا.
لقد اظهر الحواريون حبهم لله تعالى واستعدادهم لوراثة الشريعة والقيام بمسؤوليات حفظها بعد رفع عيسى واخبروا عن ايمانهم وتصديقهم بالتنزيل, وفيه وجوه:
الاول: اعلانهم الايمان بالانجيل وانه كتاب منزل على عيسى ، وهذا الايمان امر ضروري.
الثاني: الانجيل كتاب منزل على عيسى ، وهذا الايمان امر ضروري لبقاء شريعة عيسى وتعاهد ما انزل عليه من عند والمنع من ضياعه لانه ثروة وكنز وملك للانسانية جميعاً.
الثالث: اتخاذ اتباع الرسول منهجاً دائماً لهم.
قانون الذخائر
لقد جعل الارض مسكناً للانسان واصلاً لمعيشته وكسبه وقوته، واول ألاعمال التي باشرها الانسان الزراعة , ومن الآيات ان حاجة الانسان لها مستديمة وائمة ومع اجتهاد الاجيال في الانتفاع من الارض فان كنوزها لاتنفذ بل بالعكس فان ثروات جديدة تظهر فيها تناسب ارتقاء الانسان في عالم الصناعة ونحوها كما في ثروة الفحم والنفط والذهب والمعادن الاخرى.
وثروات الارض غذاء للابدان ودوام للحياة، ولان حاجة الانسان اعم وعلى مراتب متعددة اشرفها واسماها العبادة والطاعة لله تعالى، فان سخر للانسان الاسباب التي تساعده على اداء الفرائض والتقرب اليه زلفى باحسن الوسائل وبين له الاحكام بصيغ تتناسب ومداركه العقلية وبما يمنع من اللبس لقبح العقاب بلابيان وجاء البيان عن طريقين.
الاول: بعثة الرسل والانبياء.
الثاني: انزال الكتب من السماء، وبما ان الانبياء يغادرون الارض باجسادهم واشخاصهم فان الكتب السماوية تبقى شاهدة على جهادهم، وتدعو لاقتفاء اثرهم.
وكأن الارض خزائن لها، وصدور المسلمين اوعية لحفظها وتوثيقها، وهذا البقاء لم يحصل اتفاقاً وصدفة، بل هو آية الهية، وسر من اسرار الخلق، وما هية التنزيل، فلقد اراد الكتب المنزلة ان تبقى في الارض، ولا تغادرها، وهو جزء من الارادة التكوينية والتشريعية.
ونسمي هذا البقاء ( قانون الذخائر) باعتبار ان كل كتاب منزل هو ذخيرة في الارض، ومن خصائص هذا القانون قهر التحريف, لذا جاء القرآن جامعاً للكتب السماوية وبحصانة تحول دون طرو التحريف والتبديل عليه, لتبقى كنوز السماء في متناول أهل الأرض, ينهلون منها العلوم ويأخذون من آياتها ألأحكام الشرعية, والإخبارالمتحد والمتعدد عن بعثة خاتم النبيين محمد صلى عليه وآله وسلم وتكون عوناً على الانتفاع الامثل من كنوز الارض وماجعله فيها من الخيرات.
ان بقاء كلمة التوحيد وظهور معالم الصلاح على الناس سبب لنزول البركات واتصالها، فكل كتاب سماوي هو ذخيرة وكنز، وهذا لا يمنع من التباين في الافضــلية والنفع كثرة وقلة، اذا ان القـرآن هو الذخيرة الباقية التي تشع بانوارها على القلوب وتملأها ايماناً وتزيدها بصيرة.
واظهر الحواريون ايمانهم مجتمعاً متحداً مع انهم جماعة وجاء تصديقهم بالتنزيل على نحو الاطلاق, والمراد منه وجوه.
الاول: الانجيل باعتبار انه الكتاب الذي جاء به عيسى من عند ، فجاء اللفظ على نحو العموم ولكن المراد منه هو الخاص.
الثاني: الكتب السماوية السابقة كالتوراة بالاضافة الى الانجيل.
الثالث: المعنى الاعــم للكتب المنزلة والوحــي باعتــبار ان الوحــي تنزيل.
الرابع: الوحي وجميع الكتب التي نزلت من السماء وماسينزل لاحقاً وهو منحصر بالقرآن.
والاصح هو الوجه الرابع والاخير الجامع لمصاديق التنزيل، فقد حرص الحواريون على التوكيد على تصديقهم بما جاء به عيسى وما اخبر عنه ممايتعلق بما مضى من النبوات , وما سيأتي من البشارة بالنبي محمد صلى عليه وآله وسلم ولزوم التصديق به، وبذا يكون الحواريون داعية للاسلام، وورثة لعيسى بالبشارة بالنبي محمد صلى عليه وآله وسلم.
كما ان اعلانهم الايمان بالتنزيل على نحو الاطلاق يدل بالدلالة التضمنية على استعدادهم للايمان برسالة النبي محمد صلى عليه وآله وسلم عند بعثته، فان قلت: ان الآية جاءت بلغة الماضي آمنا بما انزلت، ولم تقل الآية (بما تنزل) ,فالجواب: ان الايمان بالنبي محمد صلى عليه وآله وسلم والقرآن فرع الايمان بالانجيل والتوراة لان كلاً منهما يتضمن البشارة ببعثته ولزوم التصديق بنبوته, والكتاب الذي يأتي به ومافيه من الاحكام.
فلغة الماضي لا تمنع من التعدد والشمول, لان التنزيل وحدة متكاملة السابق منه يبشر بالقادم والتالي، واللاحق يصدق بالسابق والماضي في آية منه تعالى .
قانون النسبة
لقد تفضل سبحانه وانزل الكتب السماوية على الانسان منذ ان وطأت اقدامه الارض، ومن سنن الخلافة في الارض ان لا يترك الانسان من غير صلة متصلة مع الســماء، يأخذ منها احكامه وسننه، وفيه تشريف عظيم للانسان لم ينله جنس من الخلائق، وقد نال آدم قسطاً من الوحي والتنزيل، ثم توالت الكتب السماوية على الانبياء من الناس خاصة, الى ان اختتمت بالقرآن كتابا جامعاً للاحكام هادياً للناس جميعاً, وكانت بين كتاب وأخر فترة وعدد غير قليل من السنين, اما النسبة بينها فهي على وجوه محتملة:
الاول: التساوي وان كل كتاب يشبه الكتاب الأخر.
الثاني: العموم والخصوص من وجه، فكل كتاب يلتقي مع الآخر في وجوه, ويفترق عنه في وجوه.
الثالث: العموم والخصوص المطلق، فمن الكتب ما يكون متضمناً لاحكام الكتاب الآخر ومعها زيادة.
الرابع: التنافي بين كل كتاب وآخر.
والصحيح هو ان النسبة بين الكتب السماوية على قسمين: الاول عام والأخر خاص.
اما الاول فهو العموم والخصوص من وجه الشامل للكتب السماوية كلها عدا القرآن، اذ انها تلتقي في امور واحكام وتفترق في آخرى، أي الثاني وهو الخاص فهو النسبة بين القرآن والكتب الاخرى اذ ان النسبة بينها العموم والخصوص المطلق فكل مافي الكتب الاخرى في القرآن، وما في القرآن ليس في كتاب آخر منها، ونسمي هذا القانون (قانون النسبة).
وفيه بيان لعظمة القرآن ورحجانه على الكتب الاخرى في بيان الاحكام والسنن، وتحقيق الامتثال للاوامر الالهية والنسبة بين الكتب السماوية جزء من قواعد اللطف الاهلي لاعانة العباد على الطاعة ولتوكيد وحدة السنخية واتحاد ماهية التنزيل، ولموافقته لوجوب التصديق بكل الكتب السماوية المنزلة من غير فرق بين النازل على النبي السابق او اللاحق.
قانون الاشارة
لقد اراد لآيات التنزيل البقاء في الارض، وعدم تعرضها للزوال او المحو، لينتفع منها الناس في كل زمان ومكان، لقد أنزل الآيات لتكون أوتادا في الأرض ,ولاتبقى الا بقدرته تعالى من وجوه:
الاول: انه تعالى واسع كريم.
الثاني: بيده سبحانه تعالى مقاليد الامور.
الثالث: لاتستعصي على مسألة.
الرابع: ان هو الرؤوف الرحيم فبقاء الآيات والكتب السماوية من لطفه ورحمته تعالى بالناس.
ويتحقق البقاء بعدة طرق وصيغ منها ما تقدم ذكره في قانون التصديق( )، وقانون الوحدة، وعدم التعارض وغيرها، ومنها تضمن الكتاب النازل الاشارة الى الكتاب الآخر وهذه الاشارة متباينة في كيفيتها وزمانها, ومتحدة في مضمونها وغاياتها.
وهو من اعجاز التنزيل مطلقاً، فالكتاب السابق يخبر بالكتاب اللاحق, ويدعو إليه, ويهيئ ألأذهان لقبوله وعدم النفرة منه، والكتاب اللاحق يصدق بالكتاب السابق ويدعو للايمان به، وهذه الدعوة لا تتعارض مع احكام النسخ ولزوم العمل باللاحق نفسه، والنسخ على نحو الموجبة الجزئية بالنسبة للاحكام كما في الانجيل إذ جاء بنسخ شطر من احكام التوراة وليس كلها، وهذا من اللطف الالهي ليكون النقل الى الشريعة الجامعة الناسخة وهي الاسلام تدريجياً وعلى مراحل، ونسمي هذا القانون قانون (الاشارة) وفيه فروع متقابلة:
الاول: يتضمن البشارة بالكتاب اللاحق، ولاتنحصر الاشارة والبشارة بالكتاب التالي بل تشمل غيره ايضاً، كما في بشارة التوراة بالانجيل والقرآن، فالإنجيل هو الكتاب التالي والقرآن هو الكتاب الجامع الذي فيه تبيان كل شئ، ويجب العمل به الى يوم القيامة، فاراد التخفيف عن الناس واقامة الحجة عليهم بان اخبرت الكتب السابقة بالقرآن.
الثاني: تضمن الكتاب اللاحق التصديق بالكتاب السابق وامضائه، والاخبار بانه نازل من عند , وهذا التصديق على قسمين:
اولاً: التصديق الخاص بالكتاب السابق مباشرة كما في تصديق الانجيل للتوراة.
ثانياً: التصديق المطلق الذي يشمل الكتب السابقة على نحو العموم، كما في تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة، والفرق بينهما صغروي، اذ ان التصديق الخاص يكون عاماً، لان الكتاب السابق شاهد صدق للذي قبله ايضاً فيلزم التصديق بالكتب السابقة بالواسطة.
الثالث: مجئ الكتاب السماوي بالبشارة والتصديق معاً فهو يصدق بالكتاب السابق، ويبشر بالكتاب اللاحق، كما في الانجيل اذ جاء بتصديق نزول التوراة والبشارة بالقرآن ونبوة محمد صلى عليه وآله وسلم .
الرابع: الكتاب الذي يصدق الكتب السابقة ولا يبشر بكتاب لاحق يأتي من بعده، وينفرد القرآن بهذه الخصوصية وهي شاهد ودليل على تفضيله على الكتب الاخرى.
ولم يقل الحواريون بانهم صدقوا بعيسى في دعوته نزول الكتاب عليه بل انهم اطلقوا صفة التنزيل على الانجيل، وفيه امضاء وتصديق بنبوة عيسى، فالآية تخبر عن اجتياز الحواريين لاهم مراحل الايمان، وبلوغهم درجات اليقين، وتجاوزهم لحال الشك والريب، وبينما اختتمت الآية السابقة باعلان اسلامهم في حضرة الرسول توجهوا الى ليكون اعلانهم مستديماً، وفيه نكتة وهي ان الحواريين ادركوا بان عيسى سيغادرهم , وهذا الادراك من وجوه:
الاول: احساس عيسى بالكفر، ومعرفة الحواريين به، سواء باخبار عيسى لهم، اوبملاحظتهم بالحواس الظاهرة لمضامين الكفر الصــادرة عن بني اسرائيل ازاء دعوة عيسى وشخصه الكريم.
الثاني: مبادرة عيسى لسؤال النصرة وطلب الانصار , وهو شاهد على الحاجة الى التأييد والعون والتعضيد.
الثالث: عدم ظهور الاستجابة العامة لدعوة عيسى في طاعته، كما ورد في قوله تعالى [فَاتَّقُوا وَأَطِيعُونِ] فالاعراض عن دعوة عيسى وعدم اطاعته جحود ومعصية، واذ ما استمر عيسى في دعوته،فقد لا يقف القوم عند درجة الاعراض.
لقد اظهر الحواريون درجة من الفقاهة بعدم حصر ألايمان بالانجيل بل ورد ذكره بالاسم الموصول (ما) ومافيه من الاجمال والتعدد، ليكون في ايمانهم تأديب لبني اسرائيل من وجوه:
الاول: ايمانهم بالانجيل.
الثاني: تصديقهم بالبشارات التي جاء بها الانجيل واشارة الى نبوة محمد صلى عليه وآله وسلم .
الثالث: شهادتهم على نزول التوراة من عند، لان عيسى اخبر عنها.
لقد التفت الحواريون الى موضوع في باب الأهم، وهو تمسك اليهود بالتوراة واصرارهم على عدم التخلي عنها، فاجتنبوا ذكر الانجيل والايمان به على نحو الخصوص خشية أيحاش اليهود واثارة حفيظتهم فقالوا [آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ] فكل ما يثبت انه نازل من عند فان الحواريين مؤمنون به، كما انهم حرصوا على التقية منهم واجتناب أذاهم بصيغة الإجمال من غير ان يفرطوا بلغة التحدي واعلان الحق والإيمان لأن التقية منهم يجب ان لاتؤدي الى تضييع الاحكام والتفريط بالسنن واغراء الكافر والعاصي في بقائه على معصيته، وتخلفه عن الايمان.
لقد اراد الحواريون تعليم اليهود والناس جميعاً درساً في الايمان، كما انهم بينوا للناس ماهية تقوى التي آمر بها عيسى بني اسرائيل، فاظهروا الايمان بالتنزيل واتباع النبي ولم يتخلفوا عن طلبه النصرة والمعونة.
قوله تعالى [وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ]
يتكون هذا الشطر من الآية الكريمة من ثلاثة اطراف:
الاول: الاتباع والانقياد.
الثاني: قيام الحواريين بالاتباع عن اختيار ومن دون اكراه.
الثالث: اتباعهم وانقيادهم للرسول الذي بعثه لبني اسرائيل, بقوله تعالى[وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ].
لقد حرص الحواريون على اظهار ايمانهم وبيان نهجهم في دعائهم ومناجاتهم لله تعالى , وفيه مسائل:
الاولى: الآية عهد بالاخلاص في الدين، والصدق في اتباع الرسول.
الثانية: في الآية اشارة الى اقامة الحواريين الصلاة وتعاهدهم لها، وفيها قوام الدين، وهي دعوة لله مستقلة بذاتها .
لقد امر عيسى باقامة الصلاة، وحفظ مفاهيم العبادة، فالتزم بالامر على نحو تام وصحيح ليرى منه الحواريون التقيد التام باحكام الصلاة ودفع الزكاة واعانة الفقير والمحتاج.
جاءت الآية بصيغة الماضي، مما يدل على الثبات وتحقق الاتباع، وانه ليس عرضاً اونية ورغبة فقط، بل ان اتباع الرسول قد تم واقعاً.
علم الجمع
يعتبر تقسيم القرآن الى سور وآيات سراً خاصاً به وشاهداً على اعجازه، وفيه علوم لم تكتشف بعد ومنافع عظيمة تستقرأ بالتحقيق والتأويل ,وبالوسع في البحث في علوم القرآن , وكشف الغطاء عن كنوزه وخزائنه، ومنها اتخاذ الجمع بين الآيات منهجاً للتفسير وسبيلاً لإظهارالحقائق المشتركة وعوناً على استنباط الاحكام الشرعية،
وهذا الجمع يختلف عن قانون (التفسير الذاتي) ففي التفسير تكون احدى الآيتين مفسرة للاخرى ليفيدا معنى مشتركاً وقاعة كلية اوحكماً فرعياً، ويدفع هذا لجمع اللبس ويمنع من التأويل الخاطئ، ويساعد في اقامة البرهان، وهذا الجمع موجود من أيام الصحابة، وهو حجة في الاستدلال وسبيل مبارك للاحتجاج، فمن الاحكام مايكون مجملاً فيأتي الجمع ليبين مضامين الآيات ويجعل الحكم بيناً ظاهراً،
ويمكن توسعة هذا الجمع وجعله علماً مستقلاً بذاته, وتسخير قدرات وطاقات علمية بالاختصاص فيه لتكون الفائدة اكبر وتتسع ابوابها، وتتجــلى من خلالها علــوم جــديدة تؤكـد صدق اعجاز القرآن.
وعلم الجمع له ابواب متعددة ويمكن تقسيمه وفق حاجة الاستنباط ومنهج البحث، فمنه ما يحتاج الى استحضار آيتين، أو ثلاث آيات او اكثر، ومنه مايكون الجمع من نفس السورة القرآنية, ومنه مايكون من سور متعددة، وكذا التباين والتعدد في الموضوع.
ومن الامثلة على الجمع ما ورد عن عيسى في التنزيل (وامرني بالصلاة والزكاة مادمت حيا)، وجاءت هذه الآية لتخبر عن اتباع الحواريين لعيسى ، والجمع بين الآيتين يفيد تثبيت حقيقة شرعية وهي تعاهد الحواريين للصلاة وبقائها في الارض وان قيل ان عمر الصلاة يومئذ مقرون بحياة عيسى، فالجواب ان هذه الآية تخبر عن استمرار بقاء الصلاة في الارض وان الحواريين اتبعوا الرسول في اقامة الصلاة وتعاهدها وتركها ارثاً عبادياً للمؤمنين من بعدهم.
لقد أتعب الفقهاء انفسهم في الجمع بين آيات الاحكام وكذا الاحاديث النبوية الشريفة واستطاعوا جعلها في ابواب منفصلة بحسب الموضوع من الطهارة الى الديات.
وتجد الحديث احياناً مكرراً في باب الصلاة والزكاة والارث، بلحاظ الحاجة اليه، وعموم المنفعة، وتركوا لاجيال المسلمين عامة وللعلماء خاصة ثروة علمية عظيمة وخففوا عنهم عناء البحث والتحقيق الابتدائي، وحالوا دون حصول الارباك واللبس وساهموا في منع الشبهات، فكذا بالنسبة لعلم الجمع في القرآن فان منافعه اكثر من ان تحصى.
قانون البداية
لقد انزل القرآن تبياناً لكل شئ وجعله يتضمن علوم الاولين والآخرين، ومحيطاً بعالم اللامحدود مع ان كلماته محدودة، ليتجلى الاعجاز منه في كل ابواب العلم وشؤون الحياة، ويكون التحدي صفة ثابتة له, ويعجز الناس عن كشف اسراره ومضامينه القدسية، يطل على الناس في كل يوم بعلم مستحدث، وموضوع مركب، اوحكم مستنبط من غير أن يبتعد عن الواقع , وكل انسان يشعر بحاجته له , ولما فيه من المضامين القدسية.
ومما هو ثابت عقلاً ووجداناً ان الزمان يأتي على الجديد فيجعله بالياً , والاستعمال والاخذ من الشئ يؤدي الى نفاذه خصوصاً في باب الثروات فمن كانت عنده ثروة وينفق منها لاتلبث ان تنفد, ولا يستطيع ان يترك منها شيئاً لورثته.
وكذا بالنسبة لافراد المعادن في الارض، فانها تنضب في اجل محدود بحسب مقدار ألاخذ منها، ثم يبحث الانسان عن غيرها، اما القرآن فان علومه لا تنضب ولاتنفد وهي ثروة باقية للاجيال، تتجدد من عدة جهات وهي:
الاولى: أخذ امة وفريق من العلماء منها.
الثانية: ادراك اللاحق لزوم الرجوع الى المعين الذي لا ينضب، والثروة الدائمة والاقتداء بمن سبقه بالاخذ من القرآن.
الثالثة: اللجوء الشخصي والنوعي الى القرآن والتزود بالعلوم واسباب الاهتداء به وبضياء انواره.
الرابعة: الحاجة العامة الى القرآن في ميادين العلوم المختلفة.
الخامسة: مطــابقة الوقائــع والحـوادث لما في القــرآن من الانبــاء والاخبار.
السادسة: تضمن القرآن لعلوم الغيب والاشارة لتقلبات الزمان.
السابعة: القرآن كنز الآخرة وطريق النجاة فيها، وما من انسان الا ويحتاج العلم بالاسباب التي تخلصه من العذاب الاخروي، فيرجع الى القرآن لينهل منه سبل الاحتراز من الاذى.
فان قلت: انه يكفي الرجوع الى الآيات القرآنية, وما بلغه علم التفسير في هذا الزمان , وان المسألة لا تتعلق بقانون البداية.
قلت: ان خزائن القرآن مطلقة، وعلومه بخصوص عالم البرزخ واليوم الآخر وسبل النجاة فيه اكثر من ان تحصى، وصحيح ان ما ظهر منها بالآيات والتفسير كاف للاهتداء والنجاة حينئذ، الا ان دررها متصلة وكنوزها مفتوحة، ويعتبر هذ الامر قانوناً وليس نظرية، وهو لاينقطع وينتهي في زمان مخصوص، فلا يأتي زمان على القرآن يتجاوز فيه الناس مراتب البداية في كشف علومه، وهو من الاعجاز الذي ينفرد به القرآن ويفوق حد التصور واوهام البشر،
ان قانون البداية ســور شــامل لكثير من القوانين والنظريات والعلوم التي نؤسسها في هذا الكتاب منها مثلاً علم الجمع الذي تقدم في الصفحات السابقة، اذ ان اتخاذ الجمع بين آيات القرآن للاستدلال باب مفتــوح وكــنز مدخر ودعــوة للعلمــاء لينهلوا منه، وثــروة تتــحدى العقل الانســاني وتحثه على الاستقصاء والاتعاظ، وآية دائمة تجعل الناس يعــتبرون من التنزيل ويلتفــتون الى وظائفهم ازاءه ولزوم الايمان به والتســليم بصدق نبوة الرسول الاكرم محمد صلى عليه وآله وسلم.
وهذا القانون من المضامين القدسية لخلود القرآن، وسر من اسرار بقائه بإعتباره المعجزة الخالدة، واستغناء الناس به وعدم حاجتهم لغيره وان تعاقبت الدهور والاجيال، فبعد الف سنة يبقى علم التفسير والتأويل في بدايته وكذا بعد الفين اواكثر.
بعد اعلان الحواريين التصديق بالانجيل، والاقرار بنزوله من عند ، اظهروا العزم على اتباع الرسول والمراد منه عيسى ، والالف واللام في (الرسول) للعهد وافادة فرد مخصوص من الرسل، تدل عليه القرائن ونظم الآيات،ولقد سأل عيسى الناس طاعته، والانقياد لما جاء به بقوله تعالى [فَاتَّقُوا وَأَطِيعُونِ] فاعلن الحواريون انهم اتبعوا الرسول ولم يقولوا اطعناه, وفيه مسائل:
الاولى: انهم في مقام العبودية ومناجاة تعالى , وفي موطن لا يصح اطلاق لفظ الطاعة والانقياد المطلق الا له تعالى.
الثانية: التساوي بين الاتباع والطاعة اذا كان المراد منها طاعة الرسول اما لو كانت الطاعة لله تعالى فلا يصح القول بالاتباع، وبذا تظهر المرتبة العالية من الايمان التي عليها الحواريون.
الثالثة: أراد الحواريون الاخبار بان عيسى ادى رسالته ولم يدع لنفسه بل دعاهم الى محاكاته في طاعته لله.
الرابعة: في الآية تزكية لعيسى ، وشهادة على حسن ادائه لرسالته، وعدم تقصيره في الدعوة الى وادائه لوظائفه العبادية.
الخامسة: تطرد الآية الغلو وتؤكد معرفة الحواريين لعظيم منزلة عيسى عند ولزوم اتباعه.
السادسة: لقد اعلن الحواريون مواجهتهم للكفر والجحود، بالتصديق بالرسول.
قانون ((البقاء))
لقد جاء الاخبار الالهي عن خلق آدم خليفة لله في الارض، ولكن الروح نفخت فيه وهو في الجنة، وهذا لا يتعارض مع الخلافة الارضية، ولابد له من دلالات عقائدية منها السنخية السماوية للانسان في روحه واول خلقه، لتكون هذه الســنخية صفة وملكة ثابتة في المجتمعات الانسانية تتجلى بالهداية والايمان، فلا يغادر الايمان الارض، بل تبقى معالمه ظاهرة في الاقوال والافعال الشخصية والنوعية، يتوارثه الناس جيلاً بعد جيل.
وتارة يكون التوارث بين الأب واولاده من الذكور والأناث، واخرى بين الناس بالصحبة والمحاكاة والصلات الايمانية، كما جاء في هذه الآية اذ ان عيسى لم يتزوج وليس عنده ذرية ومع هذا فان جعل له اصحاباً وحواريين يقومون بحفظ احكام شريعته ونشرها بين الناس، فدوام وجود عقيدة التوحيد في الارض فرع الارادة التكوينية وهو امر حتمي وقطعي ويمكن ان نسميه (قانون البقاء) ويتم بوسائط وطرق متعددة منها:
الأول : حفظ وتوارث الكتب السماوية المنزلة.
الثاني : تعاهد احكام الشريعة، بالحرص عليها، والعمل بمضامينها واجتناب تركها او الجحود بها.
الثالث : وجود المؤمنين الذين يقومون بتعظيم شعائر وأداء الفرائض والعبادات.
الرابع : استعداد المسلمين للتضحية في سبيل .
والشواهد التأريخية في هذا الباب كثيرة ومتعددة، ويمكن استقراء هذا الامــر من هذه الآية اذ ان اعلان الحواريين اتباعهم الرسول جهاد في سبيله تعالى واســتعداد لتحمل الاذى, وعزم على عدم التراخي او التراجع او التفريط كما ان العبادة هي علة خلق الانسان، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) مما يعني ان اراد للانسان ان لا ينقطع عن عبادته، وان العبادة ملازمة لوجود الانسان على الارض.
وتبين هذه الآية ايجاد امة ذات عقيدة متكاملة، وظهور اثر مبارك لدعوة عيسى لم ينحصر بقول اوفعل مخصوص، بل انه تأسيس مجتمع مسلم يتقوم بالايمان وتقوى ، فقد بادر الحواريون الى التوجه الى تعالى واعلنوا انهم سيبقون على الايمان وان فارقهم عيسى، وانهم لن يتركوا الشريعة التي جاء بها، أي اذا رفع عيسى فان شريعته لن ترفع بل تبقى امانة عندهم، تتجلى باتباعهم لنهج عيسى وتقيدهم باحكام شريعته، واتباع الحواريين لعيسى على وجوه:
الاول: في سيرته الشخصية وافعاله اليومية من المباحات ونحوها .
الثاني: اتيان الآيات والمعجزات اذ يستطيع الحواريون النفخ في الطائر الطيني فيحلق في السماء، ويبرئون الاكمه والابرص.
الثالث: اتباعه في شريعته، وعبادة وطاعة عيسى فيما جاء به.
والصحيح هو الثالث, فالاتباع عقائدي ايماني.
ومن الاعجاز في الفاظ الآية ان ذكر عيسى جاء بعنوان الرسول، فالآية السابقة ذكرت عيسى باسمه الصريح [فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى] اما الحواريون فلم يذكروه باسمه , وفيه مسائل:
الاولى: انه دليل على اكرام الحواريين لعيسى واجلالهم لشخصه الكريم ومقامه السامي.
الثانية: ان ذكره بصفة الرسالة شاهد على اعترافهم بنبوته وتصديقهم لرسالته.
الثالثة: فيه تأديب للمسلمين باكرام عيسى والأنبياء مطلقاً.
الرابعة: تقيد الحواريين بآداب الاسلام بذكر الانبياء والاولياء بافضل واحسن اسمائهم.
الخامسة: في الآية دعوة لبني اسرائيل للحوق بهم في تصديق عيسى عليه السلام.
السادسة: الآية جهاد ومواجهة للكافرين، الذين يصدون عن نبوة عيسى ويجحدون بها.
السابعة: جاء الاتباع على نحو العموم المجموعي والاتحاد، فقد نطق الحواريون بالاتباع بصوت واحد يدل على الاتفاق والاتحاد، وهو امر يحتاجون اليه في جهادهم وسعيهم لنشر كلمة التوحيد.
الثامنة: في الآية حث على اتباع الرسول الاكرم محمد صلى عليه وآله وسلم.
اما بالنسبة لعيسى وسلامته الشخصية فان اتباع إلحواريين له يحتمل اموراً:
الأول: السلامة والأمن من الكافرين، لانه مناسبة لدفع البلاء عنه، وواقية له من الشر والاذى.
الثاني: تحريض الكفار عليه حسداً , فهم يصدون عن عيسى في دعوته، فحينما يعلن الحواريون ايمانهم برسالته وعزمهم على اتباعه والانقياد لما جاء به ,يزداد بغض واذى الكافرين ويخشون على دينهم ومنازلهم والمكاسب التي يحصلون عليها.
الثالث: يبعث ايمان الحواريين الخوف والفزع في قلوب الكافرين ويجعل للمؤمنين عزاً وشأناً ومنزلة في المجتمعات ومنعة وقوة ,ويصبحون فرقة قادرة على مواجهة الكفار.
والاصح هو الوجه الثاني، فان ايمان الحواريين سبب لنفرة بني اسرائيل وازدياد كراهيتهم لنبوة عيسى .
وهل يحتمل حصول ايمان الحواريين على نحو السرية والخفاء الجواب لا، خصوصاً وان الاتباع يعني المحاكاة في الفعل العبادي، والتشبه بعيسى .
فاتباعه مدرسة لتعليم الناس ســبل الهداية والرشــاد ودعــوة تدخل كل بيت ,وتكون من ثمرات ألآيات التي جاء بها عيسى ، واذا كان انقيادهم لأوامر عيسى يؤدي الى حصول الأذى له، فهل يعني ان الحواريين سبب وجزء علة في هذا الاذى، الجواب لا، من وجوه:
الاول: ان عيسى هو الذي سأل النصرة ودعا الناس اليها، ولم يحصرها بعدد معين.
الثاني: قاعدة تقديم الاهم على المهم، فالاهم هو حفظ الشريعة وجعلها تركة باقية، واذى الكفار محتمل سواء استجاب الانصار لعيسى في دعوته او لا.
الثالث: لقد اراد الله ان يكرم عيسى ويرفعه اليه، ويقيه شر الكفار والجاحدين.
الرابع: استجابة الانصار لعيسى تعرضهم للاذى والكيد، ومع هذا بادروا الى اعلانها، ولم ينحصر هذا الاعلان بالقول فقط، فهذه الآية تدل على اتيان مصاديقه في الواقع العملي، ومن وجوه الاتباع الصحبة لعيسى وملازمته اوالالتقاء معه لاخذ الاحكام وتعلم السنن، وتدل الآية على احراز الحواريين سبل الاتقان في اداء العبادات ومناسك الطاعة لله تعالى.
قانون النشر
النبوة دعوة للناس جميعاً في معرفة وظائفهم وتقوى الله، وعبادته على نحو الوجوب والحتم، كما انها جاءت لبيان كيفية وصيغ ومناسك العبادة.
ومن خصائص النبوة ان خطاباتها عامةللناس جميعاً لاتنحصر بجماعة دون آخرين, فكل نبي يسعى لتبليغ رسالته لاكبر عدد من الناس من غير خشية من الحواجز التي يضعها الكافرون, ويجتهد في الوصول الى اكبر عدد من الناس لبث الدعوة والتبليغ، ومع هذا فان الجهود الشخصية وحدها لا تكفي , فيأتي النشر والتبليغ على وجوه منها:
الاول: اعلان النبي نبوته، واظهاره للمعجزة التي جاء بها، وبيانه للاحكام التي أمر بتبليغها الناس.
الثاني: توجيه الاعوان والانصار في الامصار، وحثهم على اخبار الناس بنبوته.
الثالث: حضور مواطن اجتماع الناس كالاسواق والمنتوجات والاعياد العامة، واعلان الدعوة والاخبار عن النبوة.
الرابع: اتخاذ صيغ الاحتجاج واقامة الحجة والبرهان وإبطال شبهات الكافرين، ودحض ادعاء الطواغيت ومحاربة استحواذهم على الناس ومناهج وكيفية عملهم.
أي ان جهاد الانبياء على قسمين:
الاول: ايجابي يتعلق ببناء المجتمعات واصلاح النفوس ودعوة الناس للهداية والايمان.
الثاني: منع سيادة الكفر وفضح مفاهيمه، والاخذ بيد الناس للتخلص من سلطانه ومكره.
ولقد اتضح للناس جميعاً والحكومات خاصة في هذا الزمان اهمية الاعلام واثره في المجتمعات والقيم والمعارف، وحركات التغيير والتحول من حال الى حال، فسخرت الطاقات، ورصدت الاموال الطائلة لوسائل النشر المرئية والمقروءة، وبذلت مساعي عظيمة لبث الاشاعات او التصدي لها، ووضعت القوانين, وانشئت المؤسسات الضخمة وسنت القواعد والخطط الدقيقة لبلوغ المراد بوسائل الاعلام وطرق النشر والاعلان، وتعتبر النبوة الرائد في هذا الباب اذ سخر الله عزوجل لها الاسباب التي تؤدي الى بلوغ مفاهيمها واحكامها الى اكثر الناس، ولا تنحصر تلك الاسباب ببلد النبي وايام حياته، بل تشمل البلدان الاخرى وما بعد حياته.
وكا انسان وجماعة يصل لهم خبر النبوة يكونون وسيلة لنشرها ليكون الاخبار عن النبوة قانوناً عاماً وموضوعاً حاضراً في كل المجتمعات والامصار، وجزء من الواقع اليومي للناس، مع تعدد مواضيع اخبارها، على وجوه :
الاول: ما يتعلق بالمعجــزات التي جــاء بها الانبياء, وما فيها من التحدي.
الثاني: قصص الانبياء وسنن حياتهم ومافيها من الاعتبار.
الثالث: جهاد الانبياء في سبيل الله تعالى.
الرابع: سيرة اصحاب الانبياء وتعضيدهم للانبياء ونصرتهم لهم.
الخامس: جهاد اتباع الانبياء وحفظهم للشرائع التي جاءوا بها.
السادس: عدم الغلو بالانبياء اوالتفريط بالآيات التي جاءوا بها .
ان قانون النشر من مصاديق حاجة الناس الى النبوة وشعورهم بلزوم اكرام الانبياء وانهم الواسطة المباركة بين الله والناس جميعاً.
قوله تعالى [فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]
مجئ سؤال الكتابة والتدوين مع الشاهدين على وجهين:
الاول: بعد ايمان الحواريين بالانجيل واتباعهم عيسى وهو المعنى الاخص المذكور في الآية السابقة.
الثاني: عند اعلانهم بانهم انصار الله واقرارهم بنبوة عيسى والايمان بالانجيل واتباع الرسول وهو المعنى الاعم.
والاصح هو الاول، لأنه يبدأ من سؤالهم ومناجاتهم (ربنا) ولان الايمان بالتنزيل هو شهادة بالتوحيد واقرار بالعبودية لله تعالى.
لقد بيّن الحواريون مستلزمات الايمان اذ أنها تنحصر بأمرين :
الاول: العقيدة ,والتقيد بالمبادئ.
الثاني: الوظيفة العبادية واداء الفرائض والإلتزام بالاحكام التي جاء بها الرسول من عندالله , وفي الآية مسائل:
الاولى: للشاهدين مرتبة عظيمة عند الله، واراد الحواريون نيلها واحرازها.
الثانية: الشهادة عنوان تصديق بالنبوة، وشهادة على التنزيل، فلا تعني الرؤية والاخبار بل تشمل التصديق والنصرة والاعانة.
الثالثة: في الآية توسل وتصد لتثبيت اسمائهم في زمرة القائلين بالتوحيد، ليكون هذا التثبيت حرزاً وواقية من الارتداد.
الرابعة: اراد الحواريون علم ومعرفة الملائكة بهم وبايمانهم وسلامة عقيدتهم، وان الانسان الذي اختاره الله خليفة في الارض قادر على تعاهد مبادئ التوحيد والايمان بالله.
وجاء حرف الجر (من) في قوله تعالى [مَعَ الشَّاهِدِينَ] لافادة التبعيض وفيه وجوه:
1- ان الشهادة بالايمان والتصديق بالنبوة حقيقة دائمة ومتصلة ولا تنحصر بالحواريين بل تشمل غيرهم من الموجود والمعدوم.
2- يتولى الحواريون الدعوة الى الله، وجذب الانصار والاتباع لنبوة عيسى .
3- انهم على ثقة من ازدياد عدد المؤمنين، لان الآيات التي جاء بها عيسى تحث الناس على التصديق بنبوته.
والمراد من الشهادة في المقام وجوه:
الأول : التصديق بالنبوة.
الثاني : الشهادة على الآيات التي جاء بها عيسى من عند الله.
الثالث : من معاني الشهيد الحاضر، فقد اراد الحواريون ملازمة عيسى ، وحضور الآيات التي يأتي بها، فهذا الحضور نعمة ورحمة ومناسبة لزيادة الايمان.
الرابع : ارادوا حضور مواطن الشهادة على الناس يوم القيامة، والاخبار عمن صدق برسالة عيسى، ومن كذب بها.
الخامس : قال ابن سيده: الشاهد: العالم الذي يبين ما علمه( ), لقد سأل الحواريون تهيئة اسباب نشر نبوة عيسى ببيان الآيات التي جاء بها من عند الله، وقام عيسى بنشر رسالته بالاعلان المقرون بالآيات والمعجزات، ولا يستطيع الحواريون القيام بنفس الوظيفة لافتقارهم للآيات والمعجزات فتوجهوا الى الله تعالى ليكفيهم شر الكافرين، ويتمكنوا من التبليغ.
السادس : تأتي الشهادة بمعنى المعاينة، فاراد الحواريون الاطلاع على احوال الناس في باب العقيدة بغية اختيار السبيل الامثل لصلاحهم وهدايتهم للايمان.
السابع : اراد الحواريون البقاء في عالم الشهادة، والخشية منه تعالى، والتفكر في الخلق والقدرة الإلهية وعدم الغفلة او النسيان، لان اليقظة والتدبر من مستلزمات الجهاد في سبيله تعالى.
الثامن : لقد جاء عيسى بالآيات الباهرات وانتفع الناس منها، وانجذبوا اليها، مما اثار حفيظة ارباب الشأن الذين يسعون لتوليهم شؤون السلطنة والزعامة الدينية والدنيوية، وحسدوا عيسى على الشهرة والمنزلة العظيمة التي نالها عند الناس، فاخذوا يطعنون فيه، وارادوا قتله فحرص الحواريون على توثيق شهادتهم بنبوة عيسى، وعاهدوا الله على البقاء على الولاء له ولرسالته.
التاسع : حرص الحواريون على نيل مراتب الاصطفاء، وما لها من درجات الفضل.
العاشر : في الآية تعاهد للارتباط والصلة بين عالم الشهادة وعالم الغيب.
الحادي عشر : لقد اصبح الحواريون غرقى في نور جلال ، وارادوا الاستقرار في حضرة الملك القدوس، واخبروا عن تخليهم عن الدنيا ومباهجها، واستعدادهم لتحمل المشاق والاذى الذي يرد من الكافرين بسبب نصرة الرسول.
وأسس الحواريون قواعد الجهاد في سبيل الله بالسعي الدؤوب في نصرة النبوة المقرون بالصبر والتحمل، اذ ان الصبر من مقومات الجهاد واســباب النصر والظــفر على القــوم الكــافرين، كما انه وسيلة مباركة لاكتساب الحسنات، والثواب ونيل المراتب الرفيعة في الاخرة.
الثاني عشر : سأل الحواريون الشهادة على جميع الكتب السماوية المنزلة بتصديقها لاخبار عيسى عنها.
الثالث عشر : عن ابن عباس: واكتبنا مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وامته , انهم شهدوا له انه قد بلغ وشهدوا للرسل انهم قد بلغوا( ).
و(مع) اسم موضوع لمعنى المصاحبة.
وقد يأتي ظرف مكان ويدل على موضع الاجتماع، كما في قوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ) وقد يأتي ظرف زمان للدلالة على زمان الاجتماع كما في قولك: صليت الصبح مع طلوع الفجر.
ومن اعجاز القرآن ان معانيه اعم من القواعد اللغوية المستقرأة، فجاء (مع) هنا لافادة المكان والزمان معاً، بحسب اللحاظ والموضوع وارادة المعنى الأعم لان الله عزوجل يعطي بالاوفى والاتم، ليكون الحواريون مع الشاهدين على صدق نبوة موسى وعيسى وللاخبار بانهم مستعدون للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته باعتبار ان الشريعة الاسلامية هي الناسخة للشرائع، كما انهم يرجون اجتماعهم مع الانبياء والاولياء يوم القيامة ويكونون ممن يشهد على الناس.
لقد اتبع الحواريون عيسى والآيات تترى بين يديه، وايقنوا بصدق نبوته فاخلصوا الشهادة لله.
قانون التعضيد
من عظيم قدرة وبديع حكمته انه اذا فعل شيئاً اتقنه واصلحه وازال الحواجز والموانع التي تحول دونه.
فيبعث الله النبي الى قومه بشيرا ونذيراً ويأتي بالمعجزة الدالة على نبوته، ويتفضل سبحانه ويهيئ له جنوداً واعواناً يكونون عضداً له، سواء كانوا من اصحابه اومن غيرهم، وممن آمن بنبوته، او لم يطلع على اسرارها وما فيها من البراهين الدالة على صدق الدعوى والدعوة، فيأتي العون للنبي من الاصحاب وأهل البيت والانصار والمريدين، فيساهمون في نشر نبوته وتبليغ الاحكام التي جاء بها من عندالله، ويستطيعون الذب والدفاع عنه ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وصحيح ان المعجزة وحدها سلاح لجذب الناس للايمان الا ان الاعوان والانصار لهم اثر عظيم في دعوة الناس واقرارهم بصدق النبوة، وهو امر ملائم لطبائع الانسان في ميله للآخرين واقتباسه وتعلمه منهم، فالانصار واسطة مباركة لكسب الاعوان وجمع الجنود، ولكن هذه الوســاطة ليســت بمرتبة وســاطة النبي بين الله تـعالى وبين العباد فهو قياس مع الفارق، فهي ادنى مرتبة، ورشحة من رشحات وساطة النبوة.
ويلازم التعضيد النبوة من ايامها الاولى، فمتى ما اعلن النبي نبوته فانه يجد من يعضدها ويؤيدها ويذب عنها، وقد يحصل هذا التعضيد مع الدعوة السرية للنبي وقبل الاجهار برسالته وما بعث به الى الناس، ليكون التصديق به نصرة وعوناً وحجة على الناس ولا يحصل التعضيد الا بفضله ولطفه تعالى، قال تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ]( )، فهو سبحانه الذي يسخر من يقوي جانب النبي ويساعده في رسالته.
وتتضمن هذه الآية تعضيد نبوة موسى بهارون وهو نبي، مما يعني شرف وسمو مرتبة الذين يعضدون النبوة من الاصحاب , واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، فليس هارون وحده الذي عضد موسى في رسالته مدة النبوة، لقد اختار الحواريون تعضيد ونصرة عيسى في نبوته، ولابد من تعضيد كل نبي في نبوته ودعوته، وهذا التعضيد على نحو التعدد والجمع، ولا ينحصر التعضيد بفعل مخصوص او مدة معينة، بل هو منبسط على ايام النبوة وما بعدها، وهذا من الاعجاز والاكرام والتشريف الخاص بالانبياء.
والشواهد التأريخية على تعَضيد النبوة كثيرة، وتتجلى بتعضيد الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي بداية الدعوة عضدته خديجة بمالها وآمن به الصحابة ليتضمن تعضيده صلى الله عليه وآله وسلم اسمى معاني الرفعة والسمو , ويكون دليلاً على تفضيله على غيره من الانبياء.
قانون النماء
يقال نمى ينمي نماء: أي زاد وكثر وقد تقدم ذكر نصرة النبي ووجود الانصار والاصحاب لكل نبي كمصداق من الارادة التكوينية، وهؤلاء الانصار من الكلي المشكك من جهة العدد والكثرة والقلة , فهم كثيرون مع نبي من الانبياء، وقليلون مع آخر بحسب انتشار الدعوة ووظائف النبي وسعة وكثرة مواطن التبليغ.
ولكن هذا التباين لا يتعارض مع قاعدة كلية وهي ان اصحاب النبي والمصدقين بنبوته في ازدياد مطرد، ولاترى عددهم يبدأبالكثرة والجمع المتعدد، ثم يتجه نحو القلة والنقصان، كما يحصل في الملوك والسلاطين والقادة في ميادين العمل المتباينة، فينقص عدد الانصار بسبب الخلل في الاعمال ويدب الملل الى النفوس نتيجة العوارض وتقلبات الزمان وتبدل الاحوال، أما أمر النبوة فإنه ينشأ ويتخذ بالاتساع ثم يترسخ الى ان يصبح من أهم أركان التأريخ ومقومات الواقع اليومي.
ان نصرة النبي امر له خصوصية، اذ ان الاتساع والكثرة ملازمة لها في افراد الزمان الطولية، فنصرة النبي في ازدياد متصل، ونماء يبدأ من اهل بيته وخاصته، وفيه دلالة على صدق النبوة، وحجية المعجزة، وانجذاب الناس للحق والايمان.
وهذه القاعدة قانون ثابت في بعثة جميع الانبياء، ابتداء من آدم وكثرة انصاره واعوانه بالزيادة في ذريته وحصول التوالد بينهم وامتثالهم لامره في عبادة ، واجتناب ما حصل من قابيل وقتله لاخيه هابيل، وانتهاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تجلى نماء نصرته في قوة الاسلام ومنعة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار، وانتشار مبادئ الوحي .
وتتبين معالم قانون النماء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والاخبار المتواترة في تعضيده ونصرته، فقد بدأ التصديق والتعضيد حال بعثته من اهل بيته وصحابته , وإتخاذ صيغ السر والكتمان في جانب من الدعوة في بداياتها .والنماء لا ينحصر بالعدد بل يشمل العدة والمال والجاه واعلان الدعوة بقوس صعود متنامي.
قانون التزكية
يقال زكاه الله أي مدحه، وزكى الرجل نفسه إذا ذكرها بالوصف الحسن والثناء، والزكاة عنوان الصلاح، وفي القرآن قصص الامم السالفة.
وتتضمن المدح والذم، المدح للمؤمنين والذم للكافرين، وكل منهما مدرسة في الاخلاق والعقائد لما فيها من بيان ومواعظ ودعوة لمحاكاة الفعل الحسن للمؤمنين، واجتناب الفعل القبيح للكافرين، ويرد المدح للمؤمنين على قسمين:
الاول: المدح على نحو القضية الشخصية، فيذكر القرآن اسم نبي اوشخص من الاولياء بالمدح والثناء على فعله وعمله، كما في قصص الانبياء، وقصة مريم عليها السلام واصطفائها وانقطاعها الى العبادة وملازمتها للمحراب واحصانها وحفظها لفرجها، وقد يرد المدح بذكر الشخص بصفته وفعله من غير ورود اسمه، فتتكفل السنة وعلم التفسير بذكر الاسم، ليبقى هذا الذكر ملازماً للآية في اشارة الى الضبط التأريخي لعلم التفسير ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثاني: الثناء والمدح النوعي العام لامة اوجماعة او طائفة او اصحاب نبي على صدق الايمان والتفاني في ذات الله ونصرة واعانة الانبياء وتعظيم شعائر الله.
وهذا المدح والذكر الجميل من الجزاء الدنيوي العاجل لاهل الايمان وهو شهادة منه تعالى، لذا سأل الحواريون الله عزوجل ان يكتبهم في زمرة الشاهدين، باعتبار ان الشهادة مرتبة عظيمة لا ينالها الا خاصة الاولياء، وهي عنوان تشريف لهم بين اجيال المسلمين، ولا ينحصر موضوعها وما يترتب عليها من الاحكام بالحياة الدنيا، بل يشمل عالم الآخرة بالحضور والشهادة على قومهم , ومدى استجابتهم لنداء النبوة واستغاثة عيسى عليه السلام، وطلبه النصرة والمعونة.
لقد ابى الله الا اكرام المؤمنين، والذب عنهم والثناء عليهم بالذكر الحسن، ومنع الافتراء عليهم وهو أمر ثابت في سنن الارض ونسميه قانون التزكية، فكل عمل ايماني تجد تزكيته ومدحه في القرآن، ليكون قاعدة كلية تساعد على معرفة مصاديقها في افعال بني آدم.
فمن شاء ان يعرف منزلته فليعرض عمله على القواعد الكلية لقانون التزكية، مما يعني وجود وظائف متجددة لهذا القانون تتجلى باقتداء الناس بالصالحين، ومن اثنى عليهم القرآن، كما يبعث هذا الثناء الرغبة في النفس للاقتداء بهم ونيل المراتب التي بلغوها خصوصاً وان مدح القرآن لشخص او امر يتضمن اسراراً عديدة ويستحق بذل الوسع لنيله والفوز به.
وتبين الآية قلة عدد انصار عيسى عليه السلام من وجوه:
الاول: احساس عيسى بالكفر والصدود من عامة بني اسرائيل كما تقدم في الآية السابقة.
الثاني: لجوء عيسى لطلب النصرة بعد هذا الاحساس.
الثالث: ورود وصف (الحواريين) لمن اتبع عيسى، وسواء كان هذا الوصف لخاصته وهو الارجح، ام لجماعة بوصف مخصوص فانه امارة على قلة عددهم.
الرابع: ورود الاخبار التي تفيد ان عددهم اثنا عشر رجلاً. او انهم جماعة كانوا حاضرين في موضع ورأوا الآيات الباهرات تترى على يد عيسى فآمنوا به كما في قصة الصباغين، والظاهر ان القلة في العدة بالاضافة الى العدد، فتوجهوا الى الله مخلصين بالدعاء والمناجاة ليكونوا مستعدين لتلقي البلاء والمكر والكيد كما تبينه الآية التالية.
بحث بلاغي
من البديع (حسن النسق) وهو ان يأتي المتكلم بكلمات متتاليات بعضها معطوف على الآخر، ويتجلى هذا المعنى في آيات القرآن، بأبهى أنواع النسق سواء بلحاظ الآيات واستقلال كل واحدة منها بالمعنى واللفظ والدلالة، او تعدد الكلمات والجمل المتتالية في الآية الواحدة ليشع أنوار كل واحدة منها على ما جاورها، وتقتبس من نورها، فمن خصائص حسن النسق في القرآن تداخل المعنى بين كلماته مع استقلال كل واحدة منها بمضامينها الخاصة.
ومنه هذه الآية التي جاءت فيها ثلاث موضوعات كلها على لسان الحواريين:
الأول: المناجاة واعلان الإيمان بالتنزيل والإقرار بان الإنجيل نازل من عنده تعالى.
الثاني: اعلان اتباعهم لعيسى في دعوته الى وتحليل بعض ما حرم على بني اسرائيل.
الثالث: التضرع في سؤال تدوين أسمائهم مع الذين يشهدون على قومهم، وما في الشهادة من الدلالة على علو المنزلة والوثاقة.
وليس في الآية الا المناجاة والتضرع والسؤال منه تعالى في اشارة لإنقطاعهم اليه تعالى، وعدم التفاتهم لأسباب الكفر، مع ادراك مقدمة عقلية للمكر والأذى , وفي الآية اخبار عن حصول الأمن والرضا وعدم الفزع.
بحث بلاغي آخر
من أقسام البديع “الإقتدار” وهو ذكر الموضوع بصيغ وصور متعددة، تظهر معها قدرة المتكلم على النظم والتركيب وفيه دلالة على السعة والإحاطة.
ولقد جاء القرآن بما يفوق الإقتدار وفق حده ورسمه المتعارف لغة واصطلاحاً فالموضوع الواحد يأتي بصور متعددة، وكل صورة تنشطر وتنقسم الى وجوه كل وجه يتضمن مفاهيم ودلالات متعددة، وقد تضمنت الآية السابقة سؤال عيسى النصرة واستجابة الحواريين له، وطلبهم شهادته على ايمانهم.
وفي الآية مسائل:
الأولى: بعد استجابة الحواريين لعيسى، توجهوا بالدعاء لله تعالى، وبلفظ (ربنا) وهو من أمهات الأسماء الحسنى , وفيه دلالة على بلوغهم مراتب الإيمان، وانهم لم يقفوا عند حدود طلب الشهادة من الرسول، بل أصلحوا أنفسهم للمناجاة بأحلى العبارات وأصدق اللهجات وهي لغة اعلان الإيمان، وتتضمن الآية ارشاد المسلمين الى صيغ الدعاء وعدم التردد في اعلان الإيمان وبيان حسنه الذاتي.
الثانية: جاء ايمان الحواريين بالتنزيل، ليتفضل سبحانه بتأديب المسلمين بلزوم الايمان بالقرآن والكتب السماوية المنزلة على نحو العموم المجموعي الاستغراقي، وفيه شاهد على افضلية المسلمين على جميع اهل الملل والنحل، لانهم استجابوا للامر الالهي وصدقوا بالأنبياء والكتب المنزلة.
الثالثة: تثبت الآية حقيقة عقائدية وشرط من شرائط الايمان وهو اتباع الرسول , وفيه فخر للمسلمين، لوجوه الشبه بينهم وبين الحواريين.
الرابعة: في ا لآية دلالة على انه تعالى يجزي المؤمنين، ويجعل لهم الاجر والثواب في الآخرة.
قوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]الآية 54.
الاعراب واللغة
ومكروا: الواو استئنافية، مكروا، فعل ماض، والواو: فاعل، ومكر الله: عطف على مكروا.
والله: الواو: حالية، اسم الجلالة: مبتدأ.
خير الماكرين: خير: مضاف، الماكرين: مضاف اليه.
والمكر هو احتيال في خفية، وأصله الخداع، اما مكره تعالى فهو من المشاكلة، وفي الدعاء: (اللهم امكر لي، ولا تمكر بي).
ومكر الله ايقاع العقاب العاجل والبلاء بالكافرين دون المؤمنين.
سياق الآيات
لقد اخبرت الآيات السابقة عن الاعجاز والبراهين الدالة على نبوة عيسى وكيف انها جاءت ظاهرة للعيان، يدرك الناس جميعاً صدقها وما فيها من الدلالات على نبوته، فالنفخ في الطير وابراء الاكمه والابرص واحياء الموتى، امور يراها الجميع، واعجازها من البديهيات التي يحكم بها العقل لذاته بتصور طرفيها من غير حاجة الى سبب خارجي، وكانت النتيجة على قسمين:
الاول: ظهور إمارات الكفر والجحود بنبوة عيسى عليه السلام عند بني اسرائيل بدعوى تبديله لشريعة موسى عليه السلام، وهذه الدعوى مردودة من وجوه:
اولاً: اعتبار المعجزة وحجتها في لزوم تصديق عيسى عليه السلام، فيما جاء به من عند الله.
ثانياً: لقد اعلن عيسى عليه السلام انحصار النسخ بالتخفيف في اسقاط بعض ما حرم على بني اسرائيل، وكأنه باب للامتحان والاختيار، ودرس في ضرورة الانقياد لامره تعالى في الاحكام الشرعية تثبيتاً ونسخاً.
ثالثاً: لقد بشر موسى عليه السلام بعيســى عليه الســلام ومحمـد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه حجة ودعوة لبني اسرائيل لاتباع عيسى عليه السلام.
رابعاً: لقد جاء امر عيسى بطاعته مقروناً بالآيات الباهرات التي ينتفع منها بنو اسرائيل، فصحيح ان آيات عيسى حسية، الا ان التصديق بها يفتح آفاقاً عظيمة امام بني اسرائيل ويجعلهم يرتقون في مراتب الايمان، كما ان بقاءه بين ظهرانيهم فيض وبركة وسبب للنماء في الانفس والاموال والخيرات، وفي التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ]( )، مما يعني وجود افاضات عرضية اخرى غير الآيات التي جاء بها، والله واسع كريم.
الثاني: وجود انصار واعوان لعيسى عليه السلام، ولم تأت النصرة لشـــخصه مع ســموه ورفعته، بل جــاءت بقــيد الايمان بالله ونصرة دينه على نحــو الحصر بما جاء به عيسى واتباعه على الهدى.
وهذا القسم اقل عدداً وعدة من الاول, فجاءت هذه الآية لتبين الاذى والكيد الذي لاقوه، وعظيم فضله تعالى في وقاية وحفظ المؤمنين وانصار الانبياء.
اعجاز الآية
لقد انتقلت الآيات من إحساس عيسى بجحود بني اسرائيل بنبوته ودعوته مع وجود النصرة له، الى مرحلة الفعل الذي يتمثل بالمكر والخداع والكيد، ومن اعجاز الآية تفضله تعالى بمقابلة مكرهم بمكر آخر على نحو المشاكلة والرد بما فيه الصلاح، ومع ان الآية السابقة تتحدث عن انصار عيسى، فان هذه الآية جاءت بلفظ المكر [وَمَكَرُوا] والمراد منه الذين كفروا برسالة عيسى، وتدل عليه وجوه:
الاول: الملازمة العقلية بين الكفــر والمكر، لما في كل منها من القبح الذاتي.
الثاني: نظم الآيات وتعقب دعوة عيسى لطلب النصرة لظهور الجحود بنبوته من بني اسرائيل.
الثالث: انقطاع الحواريين الى الله وانشغالهم باتباع الرسول واجتنابهم المكر والكيد، لذا دافع الله عنهم ومكر لهم.
وتبين الآية حضور القدرة الالهية وفضله تعالى في الدفاع عن المؤمنين، ومنع وصول الاذى والكيد لهم.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (ومكر )، ولم يرد لفظ مكر الله الا في هذه الآية.
الآية سلاح
تبعث الآية الامل في نفوس المؤمنين بالسلامة من الكافرين ومكرهم، وتبين ان الله عزوجل ينصر الانبياء والمؤمنين، وتدعو الناس للايمان بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الخشية من الكافرين ومكرهم فكثير من الناس يرى الآيات ويؤمن بها ولكنهم يترددون في دخول الإسلام مخافة ايذاء وكيد الكافرين.
فجاءت هذه الآية لتحثهم على الايمان وتبشرهم بالامن والنجاة من المكر، وتدعو المسلمين الى اللجوء الى الله تعالى استغاثة وطلباً للنصرة ورجاء للعز والظفر.
مفهوم الآية
بعد ان يبذل العبد من ذاته مايقدر عليه، ويظن انه استوفى وادى ماعليه ينال من عطاء الله واحسانه ما يدفع عنه الاذى, ويفتح عليه اسباب الغبطة والسعادة فلقد آمن الحواريون بالله واتبعوا الرسول في مجتمع يظهر الكفر والجحود لدعوة النبوة، ويصر على البقاء على هو عليه من التقيد التام باحكام التوراة، والاعراض عن نبي زمانه الذي جاء بالشواهد العقلية والحسية التي تلزم الناس باتباعه، فاظهروا الكيد والخداع الذي يتوجه بشروره الى عيسى عليه السلام والحواريين، واسباب مكرهم هذا على وجوه:
الاول: ولادة عيسى عليه السلام من غير أب .
الثاني: كلامه في المهد واعلانه العبودية المحضة لله تعالى.
الثالث: الوجاهة التي نالها في الدنيا.
الرابع: انشغال الناس به وبالآيات التي جاء بها من عند الله.
الخامس: المرتبة الرفيعة التي نالها عيسى عليه السلام وما رزقه الله من العلم والحكمة، وما علمه من التوراة والإنجيل.
السادس: الآيات التي جاء بها عيسى وبما يعجز عالم التصور الضروري عن ادراك كنهها، اذ انه يتطلب الكسب والنظر ومعرفة وجود سر خارق لنواميس الطبيعة وهو القدرة الإلهية واكرام الله للنبي واظهار رسالته ودعوة الناس لإتباعه، والتصور الضروري هو الذي لا يحتاج وجوده الذهني الى الكسب والنظر والتحصيل مثل معنى الوجود، وقواعد العلة والمعلول.
اما ما جاء به عيسى فانه يحتاج الى التدبر والتفكر والإقرار بوجود أمر خارق للعادة وهو المعجزة التي لا يستطيع الإنسان بقدراته العقلية والبدنية ان يأتي بها وكذا لو شاركته الخلائق الأخرى، فلابد من قوة قاهرة هي مشيئته وارادته تعالى التي يستجيب لها كل شيء في الوجود.
السابع: قيام عيســى بتحليل بعض مما حــرم على بني اسرائيل في التوراة.
الثامن: امر عيسى لبني اسرائيل بخشية الله والخوف منه , والتقيد بالأوامر والنواهي الواردة في الكتب المنزلة.
التاسع: امر عيسى لبني اسرائيل بطاعته والإمتثال لأوامره كما ورد في التنزيل حكاية عنه [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
العاشر: دعوة عيسى لعبادة واتيان الصلاة والزكاة وحصر الإستقامة والنجاة بالعبادة.
الحادي عشر: المكر حالة تصعيد لظاهر الكفر التي أظهرها بنو اسرائيل ضد عيسى، وما تعنيه من الصدود واثارة الريب والشك في النفوس ازاء الآيات التي جاء بها من عند .
وفي الآية أمور:
الأول: انذار الكافرين وتخويفهم من الخداع والكيد.
الثاني: زجرهم عن المكر وايذاء النبي وانصاره.
الثالث: دعوة المؤمنين للإلتجاء الى للإحتراز من كيد الأعداء الظاهر منه والخفي.
الرابع: في الآية اشارة واخبار عن هزيمة الكافرين، ونصرة المؤمنين.
الخامس: تمنع الآية من الريب والتأويل الخاطئ فيما يخص مكر فخاتمة الآية تخبر بان عز وجل هو خير الماكرين.
السادس: الآية دعوة لصحابة النبي للإقتداء بالحواريين في صبرهم وتحملهم.
السابع: في الآية بيان لتفضيل صحابة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم, والمؤمنين الذين جاهدوا بانفسهم وأموالهم.
افاضات الآية
يتجلى الاصــطفاء في هذه الآية بالتجــاذب التام بين العبد والرب، اذ يظهر الحواريون الـعبودية المحـضة ويعلنون التصديق بالرسول والكتاب المنزل، ويســعون جاهدين في ســبل الانقــطاع الى الله، ويتفضل سبحانه فيذب عنهم ويدرأ عنهم الشــر والمكر لتغمرهم السكينة، ويتذوقوا حلاوة الايمان في الدنيا كمقدمة للخلود في النعيم في الآخرة.
والآية شاهد بان التأثير المطلق لله تعالى في الخلق والحياة العامة، وانه لم يترك الكافرين يعبثون في الارض او يستحوذون على القلوب والميول، فهذا باب مغلق لا يستطيع احد السيطرة والهيمنة عليه، فقلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء، وقد انعم على الحواريين بالهداية والصلاح ليكونوا قادة وداعية الى اتباع عيسى عليه السلام.
وتبين الآية ظهور تقسيم للمجتمع بلحاظ القيم والمعارف، فهناك امة وجماعة من الناس اعلنت تخليها عن الرذائل، وكل ما يشغل القلب عن ذكر الله،وتحلت بالفضائل فقامت باتباع الرسول في الصلاح والهداية ومسالك الايمان لتعلن حبها لله عزوجل واستعدادها لتلقي الاذى في سبيله، فجاءت هذه الآية للاخبار بعدم وصول الاذى للمؤمنين بكمال لطفه وعزته سبحانه.
قانون الوقاية
لقد اراد عز وجل للإيمان البقاء والثبات في الأرض، بوجود أمة من الموحدين المؤمنين برسالة الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، وهذه الأمة لا تترك وشأنها ولا هي تترك الناس على ما هم عليه من الإبتعاد عن الإيمان، وتلك من خصائص الصراع في الأرض بين الإيمان والكفر، والخير والشر.
ومن مقومات بقاء الإيمان أنه يمتلك أسباب الجذب والأهلية لمخاطبة العقول بلغة الحجة والبرهان، ولإفتقار الكافرين وأهل الجحود الحجة واصرارهم على اتباع النفس الشهوية والغضبية واغواء الشيطان فانهم لا يكتفون بالإعراض عن الدعوة للإيمان بل يتصدون لأهله ويسعون لإسكات اصواتهم ومنع سلطانهم وتأثيرهم على النفوس، ويحاولون اضعافهم وتشتيت صفوفهم ومنعهم من مزاولة مناسك العبادة والظهور بلباس الإيمان، لأن هذا الظهور وسيلة مباركة ودعوة للناس للإيمان، فيتلقى المسلمون اشد الأذى في النفوس والأموال، الا في حالات قليلة يتولون فيها السيادة وزمام الأمور ويغيب فيها سلطان الكفر والجحود،فأهل الإيمان والتوحيد على أربع حالات:
الأولى : الإستضعاف، والمنع من التجاهر بتعظيم شعائر ،وسيادة أقطاب الكفر وتوليهم شؤون السلطان او الرئاسة في القبيلة والبلدة والجماعة.
الثانية : الإستقلال بالفعل، والقدرة على أداء العبادات من غير حرج او تضييق.
الثالثة : امكان نشر الدعوة على نحو شخصي ومحدود، كما في الأماكن النائية عن نفوذ السلطان، او بالنسبة للمؤمن العزيز في اهله وقبيلته وجماعته.
الرابعة : تولي المسلمين لشــؤون الحكم والســلطنة ونشـرهم لمبادئ التوحيد.
وهذا التعدد في أحوال المسلمين مناسبة لتثبيت اركان التوحيد في الأرض، ويلاقي المؤمنون فيها العناء والتعب بما فيه توليهم لشؤون السلطنة، لأن الجهاد فيها مركب من نشر معالم الدين والدفاع عن الذات والمبادئ والسلطان.
وتتغشى رحمة المسلمين في جميع أحوالهم وتقلبات أمورهم ويلازمهم العون والمدد الإلهي، وفي حال الإستضعاف والشأن والفقر والغنى، والإنفراد والإجتماع.
ويمكن ان نسمي هذه الحقيقة الثابتة ” قانون الوقاية”، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، ليكون تفضله تعالى بالدفاع عن المؤمنين على نحو الإطلاق في كل الأحوال والأماكن والأزمنة، بينما يبقى الكافرون مجردين من أسباب النصرة والعون، ليس لهم ناصر في الدنيا والآخرة.
ليتجلى للخلائق المائز الكبير بين الإيمان والكفر، ورجحان كفة المسلمين والى يوم القيامة وحتى في حال تلقي الأذى ترى الصبر والسكينة تملأ النفوس، الشفقة والإنصاف للمسلمين، بالإضافة الى تعرض الظالم لأسباب البلاء وبما يشغله بنفسه او يعرض سلطانه وشأنه للزوال والتلف، ومنافع هذا الدفاع لا تنحصر بالذب عن المؤمنين ووقايتهم من البلاء والأذى المركب، بل انه باب لدوام الإيمان وسبب للعز والرفعة، وسلاح للنصر والظفر لأنه عنوان قوة ومدد سماوي متصل ودائم.
علم التقوى
تعتبر تقوى مدرسة ثابتة في الأمصار والأزمان المختلفة وهي من أركان الوجود الإنساني في الأرض، ومن أهم أسباب استدامة الحياة، وتقوى خشيته والخوف منه في السر والعلانية والتقيد بطاعته واجتناب معصيته، والتزام شكره والثناء عليه وعدم كفره والجحود بنعمه، وتعددت الأقوال في معنى ومفهوم تقوى الا ان الجامع لها حبه تعالى والإنجذاب اليه والحرص على فعل ما يرضيه ويقرب العبد زلفى اليه.
ومعالم ومضــامين التقوى باقية في الأرض لن تغــادرها وهي ملازمة للإنسان وخلافته في الأرض، فقوله تعالى [ِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) امر الهي بمصاحبة التقوى للإنســان وعــدم مفارقتها له في عباداته ومــعاملاته، وفيه اعــانة على معــرفة طـرقها بما رزقه من العقل والنباهة والتدبر في شــؤون الخلائق وبديـع صنع ، وجاء الأنبياء والكتب السماوية المنزلة بالوعد والوعيد، والبشارة والإنذار، لجعل الإنسان يسعى في دروب الخير والفلاح، وينزجر عن الباطل والحرام.
ولا تنحصر مضامين علم التقوى بالطاعة بل تشمل المجاهدة في وقهر النفس الشهوية والغضبية واجتناب ما يدعو اليه الهوى والإحتراز من التمادي في التعدي والظلم.
فالتقوى علم تنبسط موضوعاته على الأقوال والأفعال، وفي الميادين العبادية والأخلاقية والإجتماعية في البيت والسوق وموضع العمل، في البيع والشراء وتختلف المعاملات والعقود والإيقاعات ليكون ترك المعاصي وقاء من عقاب وسبيلاً للفوز بالجنة فينقسم هذا العلم الى قسمين:
الأول: طاعة واستحضار ذكره، والتقيد بما جاء به الأنبياء والكتب السماوية في العبادة.
الثاني: الإحتراز من المعاصي والفواحش.
وكل قسم من هذين القسمين ينشطر الى فروع متعددة بحسب الموضوع والحكم، ومن اللطف الإلهي في المقام ان يقبل عزوجل معاني التقوى بقدر الإستطاعة والمقدرة ليبارك له في قوله وفعله وينمي عنده ملكة التقوى، والخشية منه تعالى.
التفسير
قوله تعالى [وَمَكَرُوا]
لقد تضمنت هذه الآيات في سياقها اسراراً ومفاهيم عن ماهية الصراع بين الحق والباطل، والإيمان والكفر في الأرض مع وجود المدد والعون الإلهي وأسباب الهداية لعامة الناس فقد تفضل سبحانه وبعث عيسى بالآيات من حين ولادته، يخاطب الناس ويحثهم على عبادة وهو لا يزال صبياً في المهد لم يبلغ من العمر أياماً معدودات وتعددت الآيات التي جاء بها لتشمل الخير والعطاء والرحمة للناس بشفاء المرضى واحياء الموتى، وتغشي الأرض بالبركة من غير ان ينفك عن دعوتهم للإيمان والطاعة.
فآمن به عدد قليل من الناس، ليبقى الكفر مستوعباً على القلوب ومصادر القرار، وليكون هذا التخلف عن الإيمان برسالته شاهداً على حاجة الناس الى بعثته ونبوته، والحاجة النوعية العامة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً.
وبعد ان ذكرت الآيات اعلان الحواريين لإيمانهم وتصديقهم بنبوة عيسى وحرصهم على طلب مرضاته تعالى، جاءت هذه الآية لتبين حال الكافرين بنبوة عيسى، والذين جحدوا بنبوة عيسى مع ما جاء به من الآيات هم الكثرة والغالبية آنذاك الا ان هذا لا يعني اشتراكهم جميعاً بالمكر والكيد، فمنهم من يكتفي بالصدود والإعراض، او يقف موقفاً متحيراً متردداً، وهو يلحق بالكافرين لعدم وجود برزخ بين الإيمان والكفر، ولكنه لا يدخل في زمرة اهل المكر والكيد، فأفراد هذا المكر والكيد على وجوه محتملة:
الأول: الرهبان ورجال الكنيسة الذين حسدوا عيسى على علو منزلته وشهرته بين الناس.
الثاني: رجال الحكم والسلطان الذين خافوا على حكمهم، ومناصبهم وتعرضها للزوال.
الثالث: ارباب المصالح وكبار الملاك الذين يسخرون الناس لطاعتهم وخدمتهم والعمل في مزارعهم وتجارتهم بأقل الأجور فخشوا اجتماع الفقراء على الولاء لعيسى ونيلهم حقوقهم وتمتعهم بأسباب العز.
الرابع: عامة بني اسرائيل ممن لم ينتفع من الآيات التي جاء بها عيسى على نحو القضية الشخصية.
الخامس: الذين لم يحظوا برؤية عيسى والآيات التي جاء بها، فلم يصلهم من اخباره الى عن طريق السماع، وهو أمر يخضع للتأثير والغلو والتحريف والتبديل.
والأصح هو الوجه الأول والثاني والثالث، فيتعلق موضوع المكر والكيد بأرباب المنافع الخاصة الذين ظنوا ان نبوة عيسى واتباع الناس له يلحق الضرر بهم وينحيهم عن منازلهم التي توارثوها ونالوها بجهد ومشقة، ولكن الآية جاءت بصيغة الإطلاق، وفيه مسائل:
الأولى: كأن جميع بني اسرائيل أشتركوا في المكر ولم يخرج منه الا الحواريون.
الثانية: الآية شاهد على قوة وقدرة ارباب القرار واهل المكر على توجيه الناس نحو غاياتهم وان كانت باطلاً ومخالفة لحكم الشريعة وادراك العقل.
الثالثة: تنجز وفعلية المكر، وترتب الأثر عليه.
الرابعة: صدور المكر على سبيل الإتفاق بينهم، مما يدل على حصول الضرر والأذى الشديد منه، لأن المكر المتعدد أشد خطورة وأذى من المكر المتحد.
وفي ألفاظ الآية مسائل:
الأولى: ابتدأت الآية بحــرف العطف (الواو) مما يدل على ترتب مكرهم على الحال القائمة من الآيات التي جاء بها عيسى وظهور الإســتجابة لها والخشــية من مـيل الناس الى الشريعة التي جاء بها.
الثانية: كما تخبر الواو عن اتصال المكر بالموضوع الذي قبله فان فيها اشارة الى عاقبة المكر.
الثالثة: جاءت الآية بصيغة الفعل الماضي مما يدل على حصول المكر، ولم ينحصر موضوعه بالهمم والنوايا.
الرابعة: لغة الجمع , وورود الواو في (ومكروا) فيه دلالة على الإجتماع على الكيد.
ولو دار الأمر في سعة الكيد، وهل يقتصر على كيدهم بعيسى ام يشمل الحواريين ومن يستجيب لدعوته، الأصح هو الثاني لإصالة الإطلاق الا ان يرد دليل او قرينة على الحصر والتقييد، والظاهر انعدامها في المقام، نعم كان مكرهم على مراتب فاشهره وأقساه على عيسى وهو المقصود به بالذات، اما غيره من أصحابه فمقصودون بالعرض, بالإضافة إلى ترتب الأثر.
ومرحلة المكر والكيد أشهر من مرحلة الكفر التي أحس بها عيسى من بني اسرائيل، فقد يقف الإنسان عند حدود الإعراض والصدود، ولكن هؤلاء تمادوا في الغي والتعدي وسعوا الى ايذاء عيسى .
قانون الأذى
لقد جعل عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وبلاء فتواجه الإنســان فيها انواعاً من النعم والمحن, وفي كل فرد من مصاديق كل منهما اختبار متعدد وانجذاب وميل لطرف الحكمة والعقل او الهوى والشهوة.
ولا تكفي الحصانة الذاتية والإحتراز للحفاظ على ما في اليد من النعم وسبل الإختيار، فقد يرد عليه الإبتلاء والإفتتان من الآخرين حسداً وغيظاً.
ليكون هذا الإفتتان سبباً لتجلي معاني الإيمان وثباته في النفوس وبقائه في الأرض وليستحق معه العبد الثواب والنعيم الدائم، وهذا الأذى ليس من الكلي المتواطئ ولا بمرتبة واحدة، بل هو على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً، وطولاً في مدته وقصراً، وأكثر الناس تعرضاً للبلاء الأنبياء ثم أصحابهم واهل الإيمان، الأمثل فالأمثل، وكأن هناك ملازمة واطراداً بين الإيمان والإبتلاء فما دام العبد متمسكاً بمبادئ الإسلام فان الإبتلاء يأتيه على نحو متصل او متقطع , ولكنه لن يهجره او يغادره على نحو تام.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “ما اوذي نبي مثل ما اوذيت”( )، فهو رائد الإنسانية في تحمل الأذى، ليكون اسوة للمسلمين وآية في الصبر والترغيب له والحث عليه، وقد مكرت به قريش وارادت قتله وجاء مكرهم على نحو الإجتماع والإتفاق، واشتراك رجل من كل فخذ وبيت في قتله كما في ليلة خروجه مهاجراً الى المدينة، وسار الكفار بالجيوش الى المدينة لمحاربة النبي والمسلمين، فكانت معركة بدر وأحد والخندق وغيرها، وهم يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فان قلت: ان له ملك السماوات والأرض وبيده مقاليدها, فلماذا لا يكون المؤمنون في أمن وسلامة وواقية من المكر والأذى.
قلت: لقد اراد عز وجل للمسلمين الأمن والسعادة في الآخرة وطريقهما تحمل الأذى في الدنيا في جنب ، ليكون هذا التحمل شاهداً على استحقاقهم الجنة، وحجة على الكافرين الذين يدخلون النار بايذائهم المسلمين، وباصرارهم على البقاء في منازل الجحود.
نعم من العباد من يجعله عز وجل في أمن, وتراه بعيداً عن الأذى والمكر، ولكن هذا الفرد ليس بالكثير، ولا يعني انه لم يبتلِ ولا يطرأ عليه الإفتتان فان لم يأتهِ من طريق معلوم وعدو ظاهر، فانه يرد عليه من داخل النفس الأمارة بالسوء، وان كان الإفتتان أعم من الأذى، فالمراد من الأذى هو ما يأتي من الكفار والجاحدين بسبب اختيار الإيمان منهجاً.
ومع ان هذا الأذى قانون ثابـت الا ان الدعاء وسؤال النجاة منه باب للإحتراز والتخفيف، ولقد تلقى عيســى عليه السـلام الأذى من بني اسرائيل وهو من الرسل الخمسة اولي العزم، فتصدى له بصبر وحزم، وقابله بان دعا الناس الى نصرته واعانته وهو امر يجعلهم يتدبرون آيات النبوة ويدركون معالم الخلق الرفيع الذي يتحلى به الأنبياء، ليكون تحمل الأذى باباً للأجــر والثواب، ودعوة متجددة للناس للإيمان.
قوله تعالى [وَمَكَرَ اللَّهُ]
بعد اخبار القرآن عن مكر وكيد اليهود بعيسى جاء الإخبار عن رده تعالى على مكرهم، مما يعني انه سبحانه لم يترك النبي من غير اعانة ومدد، ولا يجعل الكافرين يكيدون بالنبي ويجمعون امرهم على ايذائه واصحابه، فلو ترك لهم الأمر لأضمحل وضعف الإيمان في المجتمعات، وتضاءلت الدعوة الى ، وخشي المسلمون من الإجهار في مناسك العبادة لذا يتفضل سبحانه بالدفاع عنهم.
وجاءت الآية صريحة باضافة المكر لله تعالى، وفيه وجوه:
الأول: المكر هنا المجازاة بالمثل، جاء على نحو المشاكلة، كما في قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ]( ).
الثاني: بعث السكينة في نفوس المؤمنين وان الخداع الخفي للكافرين لن يضرهم، فيفعل ما يشاء وما يذهب كيدهم ومكرهم.
الثالث: استدراج الكافرين، لإستظهار ما في نفوسهم من الشر والكيد، لتقوم الحجة عليهم.
الرابع: نجاة عيسى ، باعتبار ان مكرهم هو طلب ايذائه، والهم بقتله.
الخامس: مكر اعم من ان ينحصر بنجاة عيسى، بل هو ابطال لجميع وجوه كيدهم ومكرهم، فكلما يريدون اتيان فعل للاضرار بعيسى، يظهر نزاهته وطهارته.
وعندما يريدون ايذاء عيسى وحجبه عن الناس يمنعهم ، فلابد من مراتب من المكر بين احساس عيسى بكفرهم وبين طلبهم قتله، وفي هذه المراتب كلها يتجلى مكر بدفع اذاهم، وجعل عيسى يواصل دعوته الى ، ويظهر للناس الآيات والبراهين الدالة على نبوته، وينتفع من آية ابراء الاكمه والاعمى واحياء الموتى، وعلى نحو عام من غير فرق بين الغني والفقير، والسيد والعبد، فالمدار على الاصابة بالمرض والعاهة.
ان القاء الشبه اعجاز يتعلق بالأشخاص والأبدان، وسر من أسرار الأرادة التكوينية فلقد اراد استدراج الكافرين الى ان اظهروا الإصرار والجحود الفعلي وأقدموا على صلب الشبه بنسبة انه عيسى وهم واثقون من الأمر، فقامت عليهم الحجة الى يوم القيامة، واستحقوا العذاب الذي تبينه الآية التالية فليس لهم ولذراريهم ان يقولوا ما دام عيسى قد رفع الى السماء فلماذا هذا العذاب والجواب ان العذاب ينزل بساحتهم بلحاظ انهم قاموا بالصلب بنية انه عيسى والشبه فرداضافي خارج عن القدرة الإنسانية.
قانون المدد
قد تقدم ذكر وجوه من العون الالهي تتجلى بايجاد انصار واعوان للنبي بالاضافة الى المعجزة.
ومع هذه الكثرة من المصاديق للعون الالهي، فان اللطف والاحسان الالهي للنبي متصل وغير منقطع ولاينحصر بجهة وكيفية واحدة، بل هو متعدد الجهة والكيفية وبما يؤدي الى تهيئة مقدمات واسباب نصرة النبي وادائه لرسالته على اتم وجه، لتقوم الحجة على الناس، وتثبت كلمة التوحيد في الارض.
ويأتي المدد تارة من الناس بالامتثال والاستجابة واخرى يأتي العون والمدد منه تعالى مباشرة من غير وسائط، اوحاجة الى الاصحاب واعانتهم، فالله عزوجل يتفضل بالاعانة من عنده تعالى ومنها المكر للنبي، والكيد له، والقاء الفرقة بين الكافرين، وجعلهم يفزعون من الآيات ويترددون في توجيه الاذى للنبي والمؤمنين, وبما يسمح في ايصال الرسالة الى اكبر عد من الناس، واتاحة الفرصة لهم للهداية والايمان بالنبوة.
وهذا النوع من العون ثابت وملازم لكل نبي في نبوته, ويمكن ان نسميه (قانون المدد) وهو خاص بالعون الالهي النازل للانبياء من غير ان يتعلق بقواعد العلة والمعلول، وقوانين الاسباب والمسببات، وهو شاهد على القدرة الإلهية وعدم تخليه ســبحانه عن النبي طيلة أيام نبوته، فيمده بالقوة والمنعة ويدفع عنه كيد الكافرين ويجعلهم يعجزون عن الاضرار به وبنبوته الى اجل معلوم عنده تعالى.
فمثلاً عندما فر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قريش ارادوا قتله، نام علي في فراشه، وظنوا انه النبي، ونزل يومئذ قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، واختفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابو بكر في غار ثور ثلاثة ايام، حتى اذا مضت الثلاثة وسكت الناس عنه، خرجا باتجاه يثرب، لتبدأ رحلة الهجرة النوعية العامة الى عزوجل، وتؤسس دولة الاسلام لتبقى الى يوم القيامة.
فمن وجوه المكر الالهي حجب النبي عن الكفار ابتداء من ساعة خــروجه من مكــة الى حـين وصــوله الى المدينة مــع كثرة الطــلب ووضع قريش جعلاً لمن يرده عليهم مائة ناقة، في ســاعة خروجه من داره في مكة وهي مجــاورة للبيت الحرام( )، قرأ رسول صلى الله عليه وآله وسلم الآيات من سورة يس الى قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ]( ) حتى فــرغ من قــراءتها لــم يبـــق من الرجال الذين جاءوا لقتله تلك الليلة الا وقد وضع على رأســه تراباً، وخرــج مهاجراً، فالمكـر الالهي من المدد والعون النازل من عنده تعالى ليكون فيه انقاذ للنبي ساعة الشدة والضيق.
لقد اخبرت الآية عن حصول مكر عزوجل وجاء مطلقاً في جهته، وفيه وجوه:
الاول: مكر تعالى ببني اسرائيل.
الثاني: الكيد والمكر بالكافرين منهم برسالة عيسى .
الثالث: مكره تعالى بالذين آذوا عيسى على نحو الخصوص، والكفر أعم من الاذى، فقد يكون الانسان كافراً بالرسالة ولكنه لا يؤذي النبي.
الرابع: المكر بالذين آذوا الحواريين، وسعوا في اكراههم على العدول عن اتباع عيسى .
الخامس: المكر لعيسى بنجاته من كيد الكافرين.
السادس: تهيئة الاسباب والمقدمات لمواصلة عيسى التبليغ، والدعوة الى والاخبار عن نبوته وانه رسول من عند .
السابع: التخفيف من اثر مكر الكافرين بعيسى، والتقليل من الاذى الذي يتلقاه منهم لعمومات قواعد اللطف.
الثامن: ثبات عيسى والحواريين على الايمان، وعدم التردد في الدعوة الى ، اذ ان آية المكر جاءت بعد اعلان الحواريين ايمانهم واتباعهم الرســول، فمكر هنا لاحباط مكــر الكافــرين برسـالة عيسى، ليكون برزخاً وحاجباً دون الفتور في الدعوة والتبليغ.
التاسع: مكر الكافرين في اخفاء الآيات التي جاء بها عيسى ومحاولتهم طمس نبوته فاظهره وجعل الأمم والاجيال تعلم تفاصيل الآيات التي جاء بها، ومن مكر ان انزل القرآن وفيه بيان لنبوة عيسى .
العاشر: من مكر الله تعالى تهيئة مقدمات الايمان للكافرين انفسهم، وصلاح حالهم وصدهم عن ايذاء عيسى، وجعلهم يتدبرون بالآيات بدليل ان الآية وصفته تعالى بانه خير الماكرين.
الحادي عشر: ابتلاء الكافرين بصنوف البلاء، وبما يشغلهم عن المكر بعيسى والحواريين وتفريق جمعهم، والقاء بأسهم بينهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه خصوصاً وان المصداق العملي للمكر الالهي, فيه وجوه:
الاول: ان عزوجل يرفع عيسى الى السماء وينجيه من مكر بني اسرائيل حين ارادوا قتله.
الثاني: ملازمة جبرئيل لعيسى ، اذ انه لا يفارقه ويساعده لتفنيد وابطال مكر الكافرين، ومنع اذاهم من الوصول اليه.
الثالث: لما اراد يهودا ملك اليهود قتل عيسى ، أمره جبرئيل ان يدخل بيتاً فيه كوة فرفعه جبرئيل من الكـوة الى السماء، وقال الملك لرجل خبيث ادخل فاقتله، فدخل فلم يجده، فخرج الى اصحابه يخبرهم انه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه ظناً منهم انه عيسى.
الرابع: قال وهب ( اسروه ونصبوا له خشبة ليصلبوه، فاظلمت الارض وارسل الملائكة فحالوا بينه وبينهم، فاخذوا رجلاً يقال له يهودا، وهو الذي دلهم على المسيح، وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة، وأوصاهم، ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك، ويبيعني بدراهم يسيرة. فخرجوا وتفرقوا. وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريين إليهم فقال: ما تجعلوا لي إن أدلكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها، ودلهم عليه.
فألقى الله عليه شبه عيسى “عليه السلام” لما دخل البيت، ورفع عيسى، فأخذ فقال: أنا الذي دللتكم عليه! فلم يلتفتوا إلى قوله، وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى. فلما صلب شبه عيسى “عليه السلام” وأتى على ذلك سبعة أيام، قال الله عز وجل لعيسى: إهبط على مريم لتجمع لك الحواريين، وتبثهم في الأرض دعاة فهبط واشتعل الجبل نورا، فجمعت له الحواريين، فبثهم في الأرض دعاة، ثم رفعه الله سبحانه. وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى. فلما أصبح الحواريون، حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى “عليه السلام” إليهم فذلك قوله تعالى: [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الخامس: اخرج ابن جرير عن السدي قال: ان بنى اسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت فقال عيسى لاصحابه من ياخذ صورتي فيقتل وله الجنة فاخذها رجل منهم وصعد بعيسى إلى السماء فذلك قوله [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] أي ان احد اصحاب عيسى افتداه بنفسه( ).
السادس: ذكر محمد بن اسحاق ان اليهود عذبوا الحواريين بعد ان رفع عيسى ، فشمسوهم وعذبوهم، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له ان رجلاً من بني اسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم انه رسول ، وأراهم احياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص فقتل، فقال: لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم.
ثم بعث الى الحواريين، فأنتزعهم من ايديهم وسألهم عن عيسى فأخبروه فتابعهم على دينهم، وأنزل المصلوب فغيبه، وأخذ الخشبة فأكمها وصانها، ثم غزا بني اسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم، وكان اسم هذا الملك طباريس، وهو صار نصرانياً، الا انه ما اظهر ذلك، ثم انه جاء بعده ملك آخر، يقال له: مطليس، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير الى الحجاز فهذا كله مما جازاهم تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله( ).
السابع: ان تعالى سلط عليهم ملك فارس حتى قتلــهم، وسباهم وهو قوله تعالى [بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ]( ) وهذا القول ذكره الفخر الرازي( ).
والأقوى ان المكر غير الانتقام، لذا ذكر لفظ الخير الذي يتضمن عناوين الرحمة والرأفة، وفيه اشارة الى بقاء باب الدعوة لبني اسرائيل مفتوحاً لعمومات قاعدة اللطف , والتي لاتنتهي عند دعوة عيسى بل هي متصلة .
فعندما يعــرض الناس عن التبليغ والآيات التي يأتي بها النبي يتفضل سبحانه بآيات اخرى، كما في المقام، اذ قام الحواريون باعلان ايمانهم وهو دعـوة ابتدائــية للناس، في طول دعــوته وجــهاده أي في ايامه وحضـوره وقبل رفعه، وقــيل ان المكر اعم من الخديعة، فيأتي بمعنى صرف الانسان عن قصــده خفية، وهو جــزء من التدبير، فقد يكون نافعاً وصحيحاً، وبهذا لا يكون اطلاقه على فعل من باب المشاكلة والمجازاة, لعدم وجود محذور فيه وعلى كل المعاني فان مكر عزوجــل اعم من ان تحيط به المدارك والاوهـام، ولا يســتطيع الناس رده او منعه او الحد من اثره، وفي الآية انذار ووعيد، ودعــوة للخشية منه سبحانه.
قانون العون
من اسمائه تعالى انه الواسع الكريم ، يمد المؤمنين من فضله وكنوز خزائنه بما يجعلهم مؤهلين لاداء وظائف الايمان، ويمنحهم العون والمدد ليسهل لهم سبل الفوز والظفر والتغلب على المشاق والعوائق التي تواجههم في سعيهم وجهادهم، وهذا العون له وجوه:
الاول: انه لطف منه تعالى، لان عزوجل يساعد العبد على اتيان الطاعات واجتناب المعاصي.
الثاني: اصلاح المؤمنين للثبات على المبادئ والمناهج العملية.
الثالث: دفع الاذى والضرر عنهم، وصرف المكر الذي يأتيهم من الاعداء.
الرابع: وضع الحجب بينهم وبين المعصية، بحيث يتعذر عليهم فعلها ويصعب عليهم الحصول على مقدماتها ، بينما تتيسر لهم اسباب العبادات وفعل الخيرات.
الخامس: ايجاد الرفقة الصالحة، والحيلولة دون رفقة السوء، ان العون الالهي سلاح مبارك وعدة دائمة للانسان مسخرة في كل حين، ولكن الذي ينتفع منها هو المؤمن دون غيره.
وقد تقدم (قانون المدد) وهو خاص بالانبياء، اما هذا القانون فيشمل الناس جميعاً، سواء كانوا اصحاباً للانبياء او من التابعين او تابعي التابعين، كما ينتفع منه الانبياء ايضــاً باعتبار انهم من افراد البشر.
وينال العون الالهي بوجوه:
الاول: فضلاً وابتداء منه تعالى , ورأفة بالناس جماعات وافراداً.
الثاني: الدعاء وسؤال العون والمدد الالهي سـواء تعلق الدعاء بقضية في واقعة ومسألة مخصوصة، او انه عام ومطلق.
الثالث: الحاجة والابتداء، واوان الشدة والاذى.
الرابع: العوز والفاقة، والحاجة الى الشرط لتحقق المشروط، والمقدمة لحصول ذيها.
الخامس: بعثة الانبياء وانزال الكتب من السماء للهداية والاصلاح.
ومن خصائص قانون العون التوكيد على حضور فضله تعالى على الناس، والتذكير بعظيم قدرته , وبعث الأمل في النفوس، وطرد اليأس والقنوط عنها، وفيه حث للمسلمين باللجوء اليه تعالى للتغلب على المشاق ودفع المكر والكيد.
ان المؤمنين منقطعون الى تعالى، ومنشغلون بذكره، فلذا يتفضل سبحانه باعانتهم والدفع عنهم، وارشادهم الى سبل النجاة.
قوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]
جاءت خاتمة الآية قاعدة كلية تنبسط على جميع الازمنة والامكنة لبيان عظيم لطفه واحسانه، ولبعث السكينة في نفوس الناس جميعاً، البر والفاجر، وفيها توكيد بان لا يفعل الا ما فيه الخير والنفع.
فان قلت: قد يتضرر الكفار من مكر .
قلت: نعم ولكن هذا الضرر ليس من مكره تعالى، بل لانهم حجبوا عن انفسهم الانتفاع من مكره، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما ان مناسبة الحكم والموضوع تخبر بأن مكره تعالى رد على كيد ومكر الكافرين، ان عزوجل منزه عن القبيح والحيلة.
فجاءت الآية لطرد وهم وسوء ظن، ولتوكيد ان مكره تعالى من اللطف والرأفة.
لقد اراد عزوجل للايمان البقاء والاستدامة في الارض، مما يعني عدم جعل الترجيح واسباب القوة والبطش بيد الكافرين، لقد امر عيسى بتبليغ رسالته بني اسرائيل، وساح في الارض مجاهداً لاتأخذه في لومة لائم لايلتفت الى الكيد والمكر الذي يدبر في خفاء ضده من اهل الدنيا وارباب المصالح الذين خافوا على منازلهم وسلطانهم من التزلزل، فاخذوا يكيدون بعيسى ويسعون لقتله والتخلص من دعوته، فجاء مكره تعالى باللطف والخير.
قانون المكر الحسن
من القواعد الثابتة عند المليين ان عزوجل لا يفعل الا ما فيه الصلاح والخير، فيأتي المكر الالـهي الذي ذكرته هذه الآية ليكــون ضمانة وحرزاً ودليلاً على ان لم يترك النبي حينما يأمره باداء فعل جـهادي من غير حصــانة، وهذه الحصــانة غير المــدد والعــون بل هي امر اضافي ومستقل بذاته، يتقوم بان يدفع عنه ما لا يعلمه من الشر والمكر، فالانسان يرى الاسباب الظاهرية، وعيسى احس منهم الكفر.
اما المكر الخفي فهذا أمر آخر وشأن منفصل ويطلع نبيه عليه حيث شاء سبحانه، ولا ينحصر فضله تعالى باطلاعه عليه بل يقوم بصده ورده ودفعه وان لم يطلع عليه النبي بعد وكذا بالنســبة للمؤمنـين والمجاهدين، وكم من تدبير للكفار فضحه او جعله يرجع بشره وضرره على اصحابه ويكون وبالاً عليهم.
فيمكر للانبياء والمؤمنين، وهو على شعب متعددة منها:.
الاولى: ما فيه سلامتهم وحفظهم في ابدانهم منذ ولادتهم والى حين بعثتهم وتبليغ الرسالة والى الاجل المكتوب حتى يأذن سبحانه لانتقالهم الى جواره.
الثانية: المكر الخاص بالتبليغ واحكام النبوة والرسالة، وتهيئة اسباب وصول الدعوة الى القبائل والجماعات والامصار.
الثالثة: المكر لتحقيق العز والرفعة للمؤمنين في الدنيا.
الرابعة: التوفيق في العمل العبادي واداء الفرائض في يسر ومندوحة.
الخامسة: ايجاد اسباب الدعوة ونشر كلمة التوحيد، وتهيئة اُذن صاغية للمعارف الالهية التي يسعون لافشائها ونشرها بين الناس.
السادسة: التفقه في الدين واعانتهم على الاحتجاج والجدال.
السابعة: القدرة على مواجهة الاعداء والدفاع عن الدين والنفس والعرض.
و(خير) في قــوله تعالى [خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] افعـل تفضيل، وفيه مسائل:
الأولى : انه دليل على وجود مكر حسن بين الناس وان المكر في الدنيا لا ينحصر بالسيء.
الثانية : فيه دعوة للمؤمنين بنصرة بعضهم بعضاً.
الثالثة : التعاون من اجل الاصلاح ودرء المفاسد، ودفع السيئة بالحسنة لجذب الاعداء الى منازل الايمان والهداية.
الرابعة : طرد الشك والريب، فليس كل مكر سيء، ولابد من معرفة النوايا والمقاصد والغايات.
الخامسة : الآية دعوة لتنزيه الافعال واجتناب المفهوم السلبي للمكر وهو الاحتيال لايصال الشر، وهذا لا يمنع من الجزاء بالمثل والرد على الاعداء بما يمنعهم من ايذاء المسلمين, قال تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
السادسة : ان عزوجل لا يترك العباد وشأنهم، بل يتعاهدهم بما يصلح حالهم، ويمنع عنهم الاذى وان كان فرعاً لافعالهم.
السابعة : حضور مشيئته وارادته تعالى في كل امر من امور الخلائق.
الثامنة : يتفضل سبحانه في تولي مقاليد الامور حتى في باب المكر والكيد، فيرد المكر السيء ويدفع ضرره بمكر مثله.
التاسعة : في الآية انذار للكفار ونهي عن الاقامة على المكر والتعدي.
العاشرة : الآية اخبار سماوي بان المكر السيء لن ينجح، وان مآله الضياع.
علم المناسبة
وجاء قوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] مرتين في القرآن، فورد في قصة عيســى ، وبخصوص الرسـول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم, قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، ولم يرد لفــظ (الماكــرين) الا في هاتين الآيــتين، ســواء بصيغة الرفــع او النصــب او الجر، وفيه مسائل:
الاولى: بيان للاذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده في سبيل .
الثانية: لم يرد القرآن بذكر المكر الذي عاناه عيسى وحده بل جاء بذكر ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون موضوعاً للاحتجاج بافضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: يتخذ النصارى في دعوتهم ما عاناه عيسى من الاذى والظلم موضوعاً لجذب الناس وانتمائهم الى دينهم، فجاء القرآن ببيان الظلم والأذى الذي واجهه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقروناً بالشواهد الحسية.
الرابعة: جاءت الآية للتثبيت والتوثيق التأريخي لما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى.
الخامسة: في الآية دعوة للمسلمين للصبر وتحمل الاذى اقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة: الآية دعوة لاجراء دراسة مقارنة بين الحواريين وبين اصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الميامين في باب الايمان وتلقي الاذى، والمائز العظيم الذي يتصف به الصحابة بالصبر والدفاع عن الدين والنفس واختيار هجرة الاوطان, و القتال جهادأ في سبيله تعالى .
السابعة: من مكره تعالى للنبي محمد صلى عليه وآله وسلم ان جعل له أصحاباً الوفاً مؤلفة، ينتهجون نهجه ويحفظون المناسك التي جاء بها.
الثامنة: تبين الآية محل البحث حاجــة المؤمنين بالنبوة الى دولة ومنعة تحول دون استمرار تلقيهم الأذى، وهذا التشريف ناله المسلمون وجاء ملازماً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس متأخراً عنها.
التاسعة: من مكره تعالى ان جعل المسلمين اعزة واقوياء، ورد كيد قريش الى نحورهم، خصوصاً وانهم خرجوا بخيلائهم وجنودهم وعدتهم للقضاء على الاسلام , وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وخروج المشركين هذا لم يكن متحداً بل هو متعدد كما في بدر واحد والخندق وحنين وغيرها مما يدل على ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث في منطقة آمنة ومناسبة لبث دعوته، بل جاءت رسالته في اقسى الاحوال الاجتماعية والعسكرية والعقائدية.
فلم يشهد تأريخ النبوة ان سارت الجيوش وعلى نحو متعدد لقتال نبي من الانبياء باستثناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، نعم حصل في موسى ان لحقه فرعون وقومه لاعادتهم الى خدمتهم واضطهادهم فاغرق فرعون وجنوده، وقاتل داود مع طالوت القوم الظالمين دفاعا ,اما المسلمون فقد لاقوا باجسادهم حر السيوف وقدموا دفاعا وغزوا مواكب الشهداء بفخر واعتزاز.
العاشرة: بينما جاءت الآية محل البحث من سورة ال عمران بصيغة الماضي، فان الآية من سورة الانفال والخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت بصيغة المضارع، مما يدل على استدامة الكيد والمكر لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ويتجلى هذا الامتحان في كل زمان وأوان، وفيه دعوة للصبر والتحمل، وبشارة قهر مكر الاعداء وانتصار الاسلام والمسلمين بفضل واحسان منه تعالى.
الحادية عشرة: التباين في صيغة الافعــال في الآيــتين ومجـيء مكر الكافرين ضد الاسلام بصيغة المضارع دعوة للمسلمين للتفكر في المستقبل ،قال تعالى [بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] والمراد مكرهم في الليل والنهار، وارادة اتصـاله ودوامه وكيفية الاحتراز والوقاية من المكر.
الثانية عشرة: الآيةحث للمسلمين على اليقظة واستدامتها، اذ ان استمرار الكيد والمكر يستلزم التصدي له.
الثالثة عشرة: التفكر في عظيم فضله واحسانه تعالى بالالتفات الى ما يدفعه عن المسلمين من الكيد والاذى في مختلف الامكنة والازمنة.
الرابعة عشرة: تبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين بان عزوجل يمكر لهم ويدفع عنهم، وهو معهم ولن يتخلى عنهم، قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
الخامسة عشرة: ان الجزاء الالهي على المكر متصل ودائم، ولا يقف عند أمة او ملة مخصـوصــة او اصحاب النبي اوجمـاعة معينة، وفيه انذار للكافرين، ودعوة لهم للكف عن الخداع وايذاء المسلمين.
وتبين الآيات مفــهوم ومعــاني مكر كمجازاة لمكرهم، كما في قوله تعالى [قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ] ( )، أي ان مكر هــو عقابه وجــزاؤه، ان المكـر الالهي الحسن على وجوه:
الاول: المكر المستقل لرفعة وعز المسلمين.
الثاني: رد مكر الكافرين وابطاله.
الثالث: استباق المكر السيء.
الرابع: المنع من كيد الكافرين وظهور اضراره.
الخامس: تهيئة اسباب ومقدمات نشر الدعوة الاسلامية.
علم المكر
حينما يسمع الانسان بالمكر يتبادر الى ذهنه ما يتضمنه من معاني الخب والخداع والغيلة، وما يتصف به من القبح الذاتي ان كان صادراً من الانسان ابتداء، وجاء القرآن ليبين ان المكر علم مستقل، لا ينحصر موضوعه بالاحتيال والافساد والأذى، والحكم تابع للموضوع، فوضع له قواعد واصولاً، ومنع من المكر السيء، وامضى المكر الذي يأتي مجازاة ودفعاً للشر.
وقد وردت مادة (مكر) في القرآن اربع واربعين مرة، وتجد احدى الآيات تتكرر فيها مادة (مكر) اربع مرات مع قصر الآية وقلة عدد كلماتها، قال تعالى[ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
ومن الاعجاز العقائدي والميداني في القرآن ان مجئ المكر في الآيات القرآنية ببيان موضوعاته واحكامه وبما يمنع من اللبس والجهالة والضرر، فتجد في الآية القرآنية وجوه المكر وهي:
الاول: مكر الكافرين، وما فيه من السوء والقبح والاذى المركب على الملة والمؤمنين، وعلى الكافــرين انفســهم، واذاه على الكــافرين هو الاشــد والاكثر لانه شــامل لعالم الدنيا والآخـرة، فلا يتلقى منه المؤمنون الا الأجر والثواب بسبب العناء والتحمل، اما الكافرون فيؤثمون لاختيارهم المكر والاذى، وايذائهم المسلمين امة وأفراداً، سواء من وقع عليه المكر مباشرة، ام من عانى منه بالعرض.
الثاني: مكر عزوجل في مجازة الكافرين، ودحض اذاهم ومنع وصوله للمسلمين، وتأثيره على الواقع العقائدي على نحو مستديم، فمن مكره تعالى منع استمرار اثر كيد ومكر الكافرين، ورميهم بالخزي والذل.
الثالث: ظهور المسلمين منتصرين من مواجهات الخداع والخب ببعث السكينة والامل في نفوسهم، وتزيدهم الآيات التي يأتي بها الانبياء ثباتاً على الايمان.
فان قلت: ان آيات الانبياء لها أجل وزمان مخصوص وهي مصاحبة لأيام النبي دون غيرها.
قلت: ان القرآن جعل آية النبوة باقية الى يوم القيامة، فكل نبي له آية حســية يأتي بها، اما القرآن فهو آية النبوة والآنبياء جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون وثيقة سماوية، وشاهداً على صدق الانبياء، وبرزخاً دون الادعاء الباطل من غيرهم.
الرابع: مكر عزوجل مجازاة للكافرين وابطال لكيدهم وتأديب لهم، وتعاهد لصلاح الامم والمجتمعات.
الخامس: بيان مضامين المكر الالهي بعقاب الكافرين واستئصالهم، فالكفر وحده ظلم وجحود وهو خلاف وظائف العبد وعلة خلقه، ومنهم من لا يقف عند حدود الكفر بل يتمادى، ويمكر بالأنبياء ويكيد بالمسلمين، فعندها يأتيه العذاب الشديد، قال تعالى [كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ]( )، وهذا النهج يتجلى في الآيات محل البحث وقصة عيسى .
فعندما احس منهم عيسى الكفر لم يأتهم العذاب، بل استمر عيسى في دعوته وسؤال النصرة ولكن عندما مكروا جاءهم الجزاء الذي اشارت له هذه الآية بقوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ] فالقرآن يفسر بعضه بعضاَ، وآيات العقاب هذه تبين ماهية المكر الالهي.
وقد ورد في الدعاء: (اللهم امكر لي ولا تمكر بي) أي سأل ايقاع البلاء باعداء الاسلام دون المسلمين، وفيه [أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ]( )، أي وسوسته ونفثه، وحبائله.
السادس: قيد (خير) في مكره تعالى، لبيان ماهية وسنخية المكر الالهي وانه رحمة للعالمين، وفيه حث على تدبر الآيات الخاصة بعلم المكر، وجعلها وسيلة للاعتبار والموعظة، ومناسبة لتحذير الناس من الكيد بالمسلمين، وحثهم على الصلاح واجتناب الفتنة وانذارهم وزجرهم عن المنكرات، فمن لم يكن مع الاسلام والصلاح فلا يكون حاملاً للواء العداء ضده، وقد جاءت الآية بتحذير الكافرين من مكر ، قال تعالى [أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ]( ).
السابع: يعتبر مكر حاجة للناس جميعاً، ووسيلة مباركة للثبات على الايمان ومانعا من زلزلته في النفوس والمجتمعات، قال تعالى [وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
الثامن: البشارة بخيبة امل الكافرين، وعدم ترتب الاثـر على مكرهم، قال تعالى، [وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ]( )، والبوار البطلان والفساد والهلاك.
ان علم المكر مدخل لمعرفة الحياة، ومنازل المؤمنين فيها، وتعاهد عزوجل للايمان وعقيدة التوحيد في الارض، وفيه بيان لغلبة النفس الشهوية والغضبية عند الكافرين، الذين لم يكتفوا بالاعراض عن آيات النبوة، بل قاموا بالتصدي لها والمكر والحيلة للاضرار بمن يؤمن بها، ويصدق الانبياء في دعوتهم، فيأتي المكر الالهي لتثبيت المؤمنين، وجعلهم يواصلون تعظيم شعائره تعالى، ويقومون بترك الفرائض ارثاً لمن بعدهم من الاجيال.
علم الاحصاء القرآني
يعتبر الاحصاء من مظاهر الحياة الحديثة ولا يعني هذا انه جديد بل هو مصاحب للانسان بحسب حالاته وموضوعات حياته لانه جزء من حساب الاشياء ومعرفة الاسباب والنتائج، وفيه تنمية لمدارك الانسان وتوسعة لمعارفه , وتيسير وإستظاءة لقضاء الحوائج، ويصلح ان يكون مقدمة للاستعداد لعالم الحساب الذي يعني المقابلة بين الاعمال والجزاء عليها، والظن بمعاملة العبد باستحقاقه او بالعفو.
وللاحصاء جوانب متعددة منها ما يتعلق بالماضي، ومنها بالزمن الحاضر، ومنها بالمستقبل، كما انه سور جامع تقع تحته عدة مصاديق فيصلح الاحصاء في الموضوعات، والعلوم، والاحكام، وكل واحد منها تتفرع عنه ابواب متعددة بحسب اللحاظ والحيثية والحاجة اليه، وهو مدرسة ووسيلة عظيمة للنفع والانتفاع، وسبيل للاحتراز والاحتياط واتخاذ الفعل المناسب، او الظهور بنتيجة تكون اقرب للصواب بالقياس مع عدم الاحصاء والحساب.
ومن آيات القرآن ان اعجازه منبسط على الميادين والعلوم المختلفة فقد يظهر علم جديد ويبدو للوهلة الاولى عدم وجود تفاصيله وموضوعاته في القرآن، ولكن عند الالتفات اليه والبحث والتحقيق في القرآن تجد المضامين القدسية التي تشع بضيائها على هذا العلم او ذاك، ومنها علم الاحصاء، فمن الاعجاز ان القرآن ليس فيه صدفة اواتفاق، بل ان كل شئ تم بالقدرة الالهية وبعلمه سبحانه الذي احاط بكل شئ، قال تعالى [وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ).
ولقد جعل عز وجل القرآن تبياناً لكل شئ ولابد ان علم الاحصاء موجود بين ثناياه، وفي مضامين الآيات ومعانيها ودلالاتها القدسية، خصوصاً وان كل آية من آياته ثروة علمية على نحو مركب من وجوه:
الأول: الآية القرآنية خزينة علمية قائمة بذاتها، فيمكن استظهار وجوه من العلم بقراءة الآية ذاتها.
الثاني: كل آية ثروة علمية بضمها الى غيرها من الآيات القرآنية سواء بقانون الجمع، او التفسير الذاتي، الذين تقدم ذكرهما.
الثالث: البيان النبوي لمعاني الآية وتفسيرها بالسنة الشريفة سواء القولية اوالفعلية او التقريرية.
الرابع: كشف علوم الآية القرآنية بعلم التفسير، وظاهر اللفظ القرآني، والتأويل القائم على الاستنباط والدليل من القرآن والسنة والذي لا يتعارض ومضامين الآيات واحكام الشريعة.
الخامس: الشواهد من الاحداث والوقائع، مما يكون عوناً على معرفة علوم القرآن، وما في كـل آية من آياته من الدرر العلمية والعقائدية.
ويتعلق علم الاحصاء بكل الوجوه اعلاه وهو ثروة قرآنية لم يستقرأ معشارها الى الآن، وسيكون له شأن في العلوم والاجهزة التقنية الحديثة باتخاذه وسيلة لمعرفة جانب من اسرار هذا العلم، من غير بخس للجهود المضنية التي بذلها العلماء من المتقدمين والمتأخرين في هذا الميدان، وقيامهم باحصاء كثير من علوم القرآن الخاصة بعدد الآيات والحروف والكلمات , وتقسيمه الى اجزاء واحزاب وأوراد.
وقد افتتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا التقسيم، فعن أوس بن حذيفة قال: (قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أبطأت عنا الليلة قال: إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمه)، أي انه بدأ بقراءة الورد اليومي فكره ان يخرج قبل ان يتمه، وفيه تأديب وارشاد للمسلمين عامة ولحملة القرآن خاصة.
وقال أوس : (سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع واحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده)( ).
وليس من حد لعلم الاحصاء في القرآن وهو يتعلق بوجوه منها:
الأول : عدد السور والآيات.
الثاني : عدد الكلمات والحروف.
الثالث : عدد المرات التي جاءت بها الكلمة واللفظ الواحد.
الرابع : السور المدنية والمكية.
الخامس : الناسخ والمنسوخ.
السادس : عدد الانبياء الذين ذكرت اسماؤهم في القرآن، وعدد المرات التي ذكر فيها كل نبي.
السابع : النعم التي تفضل بها سبحانه على الناس عامة، وعلى المسلمين، وعلى الأمم الاخرى، كما في بني اسرائيل.
الثامن : الحروف المقطعة وتكرارها في اوائل السور.
التاسع : ذكر الجنة والنار في القرآن.
العاشر : المقارنة في الاعــداد والمرات للمســائل والافــراد المتشابهة او المتضادة والمتنافية كالحياة والموت، والايمان والكفر، والثواب والعقاب.
الحادي عشر : خطابات القرآن وموضوعاتها وعددها، كما في خطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وخطاب [يَاأَيُّهَا النَّاسُ].
الثاني عشر : الاسماء الحسنى وعددها في القرآن، وعدد المرات التي ورد فيها كل اسم من الاسماء.
الثالث عشر : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,ومناسبة الحكم والموضوع.
الرابع عشر : دلالات كل اسم او وصف في القرآن.
الخامس عشر : اسماء المدن التي ذكرت في القرآن، وعدد المرات التي ذكرت فيها كل مدينة.
السادس عشر : دلالة التعدد في القرآن.
السابع عشر : تعدد معاني المشترك اللفظي.
الثامن عشر : ذكر مصاديق العبادة كالصلاة والصوم والزكاة والحج، مع اجراء دراسة مقارنة بلحاظ عدد المرات.
ومن مصاديق الاحصاء مادة (مكر)، اذ انها وردت في القرآن اربع واربعين مرة ، وعدد المكرر منها اثنان وعشرون أي نصف العدد، فمع هذه الكثرة في الذكر يأتي التكرار على نصفها، واحدى الآيات ورد اللفظ فيها اربع مرات مع قلة كلماتها، قال تعالى [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
ومن الاحصاء ما استحدثناه في هذا التفسير من علم المناسبة والربط بين مواضع اللفظ الواحد في الآيات المتعددة.
قراءة اسلامية في حِكَم عيسى
قد ذكر في الدر المنثور( ) شطراً من حكم عيسى ومع انها لم ترفع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن لذكرها في كتب المسلمين ولأنها تراث مقدس من تراث النبوة وحكم صادرة من أحد الرسل الخمسة اولي العزم، نذكرها هنا مع بيانها وتفسيرها وفق صبغة اسلامية.
الأول : أخرج اسحق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس ان عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد إذ كلمهم طفلا حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم أنطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان فاكثر اليهود فيه وفى أمه من قول الزور .
فكان عيسى يشرب اللبن من أمه فلما فطم أكل الطعام وشرب الشراب حتى بلغ سبع سنين أسلمته أمه لرجل يعلمه كما يعلم الغلمان فلا يعلمه شيئاً الا بدره عيسى إلى علمه قبل أن يعلمه اياه فعلمه أباجاد فقال عيسى ما أبو جاد قال المعلم لا أدرى فقال عيسى فكيف تعلمني مالا تدري فقال المعلم ادَن فعلمني قال له عيسى فقم من مجلسك فقام فجلس عيسى مجلسه فقال عيسى سلنى فقال المعلم فما أبو جاد فقال عيسى الألف: آلاء ، باء: بهاء ، جيم: بهجة الله وجماله، فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد عيسى ابن مريم عليه السلام( ).
ويبين الحديث العلم اللدني الذي أنعم به على عيسى وانه لا يحتاج الى المعلم، ولكنه حضر الى الكتاب لإقامة الحجة، وكي ينشأ الصبيان وقد رسخ في أذهانهم ما عند عيسى من الإعجاز، وليكون العلم شاهداً على نبوة عيسى وفيه دعوة له وللصبيان بلزوم اتباع عيسى، والكتّاب هنا من مصاديق قوله تعالى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ]( )، فالمكان الذي يكون فيه عيسى تتغشاه ومن فيه البركة وأسباب الرحمة، كما أعطى عيسى موضوعية وأولوية لعلم التفسير ليغرق طلاب العلم في شوارق الجلال والجمال للذات المقدسة.
وسأل عثمان بن عفان رسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول ما تفسير أبى جاد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموا تفسير أبى جاد فان فيه الاعاجيب كلها، ويل لعالم جهل تفسيره فقيل يا رسول الله وما تفسير أبى جاد، قال الالف آلاء ، والباء بهجة الله وجلاله، والجيم مجد ، والدال دين الله، هوز الهاء الهاوية، ويل لمن هوى فيها، والواو ويل لاهل النار، والزاى الزاوية يعنى زوايا جهنم، حطى الحاء حط خطايا المستغفرين في ليلة القدر وما نزل به جبريل مع الملائكة إلى مطلع الفجر، والطاء طوبى لهم وحسن مآب وهى شجرة غرسها الله بيده، والياء يد الله فوق خلقه، كلمن الكاف كلام الله لا تبديل لكلماته، واللام المام أهل الجنة بينهم بالزيارة والتحية والسلام، وتلاوم أهل النار بينهم، والميم ملك الله الذى لا يزول ودوام ملك الله الذى لا يفنى، ونون نون والقلم وما يسطرون، صعفص الصاد صاع بصاع وقسط بقسط وقص بقص يعنى الجزاء بالجزاء وكما تدين تدان والله لا يريد ظلماً للعباد، قرشت يعنى قرشهم فجمعهم يقضى بينهم يوم القيامة وهم لا يظلمون.
وفيه دلالة على التمام والكمال في الشريعة الإسلامية وبها تحفظ العلوم وما جاء به الأنبياء.
الثاني : اخرج ابن المبارك في الزهد ان عيسى قال للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة، فكذلك اتركوا لهم الدنيا.
ويدل الحديث على قيام عيسى بتأديب الحواريين وتعليمهم معالم الحكمة، وتوكيد أهميتها، ولزوم الحرص عليها فحينما اعلن الحواريون انهم انصار ، قام عيسى بتوجيه الحواريين نحو وظائفهم العقائدية، وحثهم على التنزه عن الدنيا .
وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحكمة، قال تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] كما بنى صرح طلب العلم والإرتقاء في ميادين المعرفة.
الثالث : اخرج عن ثابت البناني: (انه قيل لعيسى : لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك، فقال: انا أكرم على من ان يجعل لي شـيئاً يشغلني به).
ولا يخفى ان واسطة النقل حاجة للإنسان خصوصاً عيسى الذي يقوم بالسياحة والتنقل بين القرى للتبليغ ونشر دعوته وجذب الناس الى شريعته واراءتهم الآيات التي جاء بها، ولكنه أراد ان يتحمل مشاق التنقل مشياً على الأقدام امتناعاً عن الإنشغال بالدنيا وهمومها، وليبقى متفانياً في مرضات المعبود، متفكراً في بديع خلقه.
لقد بين عيسى للحواريين والناس لزوم اعتبار مسألة الإنشغال بالشيء في معرفة أهميته وموضوعيته وإمكان الإستغناء عنه، فالحمار واسطة للنقل وفيه تخفيف عن الإنسان في التنقل، ولكن قيمته لا تنحصر بثمنه، بل هي قيمة مستديمة متصلة تتعلق بالإنشغال به والعناية به وتوفير غذائه، والمنع من أضراره بالآخرين، فنظر عيسى الى هذه الأمور ورآها تأخذ قسطاً من اهتمامه ووقته، وهو لا يريد الا الإنقطاع الى تعالى، وجاء ذكرالحمار هنا من باب المثال في وسائط النقل، فيشمل المركبة الحديثة , ليكون الحديث درساً لكل شخص ويرى مدى اهتمامه براحلته ومركبته.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رائد الزهد والإستغناء عن الدنيا وكان يبيت طاوياً لعدة ايام، الا ان الغزو في سبيل يستلزم الركوب لما فيه من قطع المسافات الطويلة، وللمنع من ضعف المسلمين بالمشي الطويل، كما ان الراكب يكون أقوى على مواجهة العدو من الراجل وهناك نصوص عديدة في استحباب الغزو راجلاً.
الرابع : أخرج ابن عساكر عن مالك بن دينار قال: قال عيسى: معاشر الحواريين ان خشية وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة، ويباعدان من زهرة الدنيا.
لقد أدّب عيسى الحواريين على تقوى والخوف من عقابه وبطشه، ودعاهم الى عشق الآخرة والإنجذاب الى الجنة والحرص على جعل نعيمها حاضراً في الوجود الذهني، ليكون عوناً على تحمل الشدائد والصبر في جنب ، كما ان الأمل بالخلود في الجنة سبب للتحلي بالفضائل والأخلاص في مرضاة .
الخامس : أخرج أحمد عن سعيد بن عبد العزيز قال بلغني انه ما من كلمة كانت تقال لعيسى أحب اليه من أن يقال هذا المسكين.
ويظهر الحديث حال الخضوع والخشوع الذي عليه عيسى وانه يعطي للناس درساً بالتواضع، ويزيح عن أبصارهم الغشاوة التي تتولد عن حب الدنيا، وفي الحديث منع لإستيلاء النفس الشهوية والغضبية على الإنسان، وقد ورد في دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه سأل الحياة بمسكنة وان يحشر مع المساكين، ومع هذا كانت له هيبة في النفوس وسلطان على القلوب، وهذا السلطان موجود ايضاً عند عيسى وعند الأنبياء لأنه ملازم للنبوة، وكم من مرة تأتي وفود القبائل لدخول الإسلام فلا يعرفون النبي من بين أصحابه حتى يسألون عنه فيشار اليه صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقال: تمسكن الرجل وفيه وجهان:
الأول: التشبه بالمساكين.
الثاني: الخضوع والإخبات.
والمعنى الثاني هو المقصود، ولا يمنع ان يدخل في طوله المعنى الأول باعتبار ان عيسى يحرص على مواساة المساكين والتقرب اليهم بالمماثلة في المأكل والملبس.واظهار محبته للفقراء .
وكان يرضى باليسير ولا يدخر لغده، بل ليس عنده ما يصلح للإدخار , والمساكين ذوو الحاجة، الذين ابتلاهم بالفقر والفاقة، وهذا الإبتلاء وجه من وجوه الصلاح وهو مانع دون ارتكاب المعاصي وتوظيف المال باتيان الذنوب، اما عيسى فانه أختار المسكنة طواعية وبالإختيار مع ان الدنيا وزينتها لم تعرض على أحد مثلما عرضت عليه، يمسك التراب بيده فيكون ذهباً باذن ، فيليقه او يعطيه لغيره ويبيت طاوياً خالي البطن جائعاً وكان الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينفق ما يرد عليه من الأموال في النهار ولا يجد هو وأزواجه وعياله عشاء.
ولقد جاء الإسلام بالفرائض لتكون وسيلة دائمة للخشية منه تعالى، وتطهير القلب عما يشغله عن ذكر ، والتخلي عن الدنيا، فالصلاة عنوان الخشية من ، تؤدى خمس مرات باليوم، كي لا ينشغل القلب عن ذكره تعالى.
والصيام تذكير بيوم العطش الأكبر، وهو من أهم مصاديق الصبر في تأريخ الإنسانية لم يواظب عليه الا المسلمون، ولقد جاءت خطابات القرآن التكليفية على قسمين:
الأول: خطاب خاص للمسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني: خطاب عام للناس جميعاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ].
السادس : أخرج ابن ابي الدنيا عن وهيب المكي قال: بلغني ان عيسى قال: أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً.
والحديث دعوة للتخلي عن الرذائل، وانذار من الإنقطاع الى الدنيا واللهث وراء مباهجها وجمع الأموال وحيازة المقتنيات، فحب لا يحصل مع تعلق القلب بحب غيره سبحانه، وجاء الإسلام بنزع حب الدنيا عن قلب المسلم بالإيمان بالله، واليوم الآخر، فمتى ما أدرك الإنسان ان الدنيا دار مرور وهي زائلة فانه يزهد فيها، ويتوجه في حبه الى الخلود في النعيم الذي يستلزم بلوغه التقوى والعمل الصالح.
وجاء الإسلام بفلسفة الإستغفار وطلب العفو منه تعالى ومن أحكام الفقه عودة العدالة بالتوبة، ليكون الحزن على الخطيئة باباً للإنابة، وواقية من ارتكاب السيئات.
السابع : أخرج احمد والبيهقي في شعب الإيمان عن سفيان بن سعيد قال: كان عيسى يقول: حب الدنيا أصل كل خطيئة، والمال فيه داء كبير، قالوا وما داؤه، قال لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا فان سلم، قال يشغله اصلاحه عن ذكر .
لقد أعطى عيسى الأولوية لذكر ، وبها يصلح القلب ويرتبط بعالم الغيب ارتباطاً اختيارياً، ليتلقى العبد الفيوضات الإلهية، ويحظى بلطفه اللامتناهي.
وحرص على الوصية ببيان ما في جمع الأموال من الأضرار العرضية واثاره النفسية باستحواذ النفس الشهوية فان استطاع صاحبه التخلص من غلبة الشهوة والغضب واعتباره في الصلات والمراتب الإجتماعية، والإفتخار والتعظم فانه لا يستطيع النجاة من الحاجة الى تعاهــد المال وحفظــه والإنشــغال بحراســته ونمائـه والسعي الحثيث للمنع من نقصانه اذ ان احتمال نقصانه وكساد التجارة يبعث في نفس صاحبه الخوف من الفقر والفاقة، فينشغل به عن ذكر .
وجاء الإسلام ليفرض الصلاة والزكاة لتكون الصلاة مانعاً من نسيان ذكر ، وسبباً لإستحضار الحساب والجزاء، والزكاة قاهراً للنفس للتخلي عن جزء من الأموال التي جمعها الإنسان قربة الى وشاهداً على اعطاء الأولوية لرضاه، ورجاء الزلفة اليه، فلا غرابة ان تجد مجيء الصلاة والزكاة متلازمين في أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن.
لقد رضي من المسلمين بالقليل من ذكره ليعطيهم الكثير، فمجموع مدة فرائض الصلاة الخمس قليل بالنسبة لليوم والليلة الا ان ثوابه ينبسط على جميع آنات الليل والنهار ويكون حرزاً من الغفلة خلالهما بفضله تعالى كما ان نسبة الزكاة قليلة جداً لا تتعدى في احيان كثيرة ربع العشر أي (2.5%) الا انها تكون مطهرة للمال، ودليلاً على التخلص من حب الدنيا وشهواتها.
وكثير من المسلمين لا تتعلق الزكاة بأموالهم لعدم بلوغها النصاب، ولكنهم لا يحرمون من ثوابها ما داموا مؤمنين بها، عازمين على أدائها واخراجها في حال تعلقها بأموالهم، لذا يثاب بمراجعته لأمواله واستحقاق الزكاة فيها او عدمه، فيكون اصلاحه للأموال سبباً لذكره تعالى وهذا مما فضل تعالى به المسلمين على غيرهم من الأمم، بالإضافة الى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤكد على استحباب التواضع وخفض الجناح واظهار المسكنة والخشوع لله تعالى.
والصلاة اليومية احدى أهم مصاديق التواضع مع الناس لما فيها من المساواة في الأداء والإمتثال بين الغني والفقير، والسيد والعبد، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، كما انها باب للمساواة والشعور بالأخوة الإيمانية سواء في أدائها بالذات، او بادائها جماعة اذ يقف المصلون صفاً واحداً على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم، وكل منشغل بذكره تعالى، اجسادهم متصلة يمس بعضها بعضاً ولكن قلوبهم منقطعة اليه تعالى غارقة في جلاله وقدسه.
الثامن : أخرج ابن المبارك عن عمران الكوفى قال قال عيسى بن مريم للحواريين لا تاخذوا ممن تعلمون الاجر الامثل الذى أعطيتموني ويا ملح الارض لا تفسدوا فان كان شيء إذا فسد فانما يداوى بالملح، وان الملح إذا فسد فليس له دواء واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل الضحك من غير عجب والصبيحة من غير سهر( ).
لقد دعا عيسى الحواريين الى التنزه عن الأجر المادي لأنه برزخ دون تلقي الناس المعرفة وحاجز يصدهم عن العلوم الإلهية، فالوظيفة الشرعية تقتضي نشر المعارف الإلهية وتثبيث أحكام الشريعة، ومتى ما كان الشيء يشترط بالمال فان طلابه قليل، والأصل انه يطلب العلم والتزود بالإيمان كل انسان، لذا نهى عيسى الحواريين عن أخذ الأجر، وجاء النهي باقامة الحجة عليهم لأنهم لم يعطوه أي اجر او مال، مع انه جاء بالآيات الباهرات.
وخاطب عيسى الحواريين بانهم ملح الأرض وحذرهم من الفساد والإفساد الذي يضرهم والناس، لأنهم مادة الصلاح فاذا فسدوا تنعدم أسباب الصلاح، كما حذر من الضحك من غير عجب لمنع اللهو والفرح بزينة الدنيا، وحث الى قيام الليل بالذكر.
ولقد جاء الإسلام بحرمة اخذ الإجرة على تعليم الفرائض وأحكام الأمر بالمعــروف والنهي عن المنكر، ليكون في مــقدور كل انســان اداء الفرائـض من غير حرج او مشــقة في المقدمــات وأســباب التعليم ولمنع اتيانهــا ناقصــة او على خطأ لضرورة مطابقة المأتي به للمأمور به.
لقد سمى عيسى الحواريين بانهم ملح الأرض، ليأتي الإسلام ويكون المسلمون هم ملح الأرض ومبادئ الإسلام ثابتة في الأرض، وكل مسلم مصلح لغيره من الناس، فتعم الفائدة ويزداد الصلاح ويقل أثر الخطأ والتقصير، ولا ينحصر الصلاح بأفعال المسلمين بل يتجدد في كل ساعة بدعوة القرآن للناس بالصلاح واتيان الفرائض والمنع من التعدي على حدود .
لقد أصبح المسلمون قادة الأمم الى الهدى والرشاد بشريعة متكاملة تحكم سلوكهم النوعي والشخصي في العبادات والمعاملات.
وتدعوهم للتنزه عن ادران الدنيا وتجعل حب وطلب مرضاته هو الفيصل والملاك في تحديد نوع الفعل.
وقد حث القرآن والسنة على قيام الليل وطرد النوم بتذوق حلاوة الإستغفار قال تعالى [وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( )، وقال سبحانه [كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ]( ).
التاسع : أخرج الترمذي عن يزيد بن ميسرة قال: (قال عيسى بالقلوب الصالحة يعمر الأرض وبها يخرب الأرض اذا كانت على غير ذلك).
لقد أراد عيسى تنقية السرائر، واصلاح النوايا وطرد الغل والحسد عن القلوب للمنع من الرذائل الأخلاقية.
ان صلاح النفوس مدخل لإنتشار الإسلام، ومقدمة لكسب المعارف، ومناسبة لإقامة الحجة والبرهان على وجود الصانع وصدق النبوات، وفي الحديث بيان الحقيقة وهي ان وظائف النبي لا تنحصر بأداء الفرائض والواجبات بل تشمل اصلاح النفوس وتنقيح المقاصد وسلامة العزائم.
لقد أشار عيسى الى الحاجة لكثرة الصالحين والمؤمنين، فكلما ازداد عددهم ساد الحق والصدق والأخلاق الحميدة، وأنحسر الكذب والرياء والنفاق، ولقد خاطب عيسى الحواريين، وجاء الإسلام ليخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشرات الآلاف من الصحابة، كما انهم اذن صاغية لقوله ويأتي كلامه بعد كلام مرتبة، اذ انهم يتلقون الآية القرآنية بقلوبهم فلذا تنطبع فيها وتكون صدورهم اناجيلهم، لتكون ضياء ينير لهم دروب الصلاح، ومانعاً من دبيب الشرك والكفر فيها، وهذا الضياء من اسباب نزول البركة وعمارة الأرض وصلاح الأفراد المجتمعات, وتأتي السنة لتثبيت علوم القرآن في الصدور وآفاق الأرض.
ويظهر الحديث الملازمة بين صلاح القلوب وصلاح الأرض وفيها دعوة لتهذيب النفس وتخليصها من الكدورات الظلمانية، ونقاء القلوب مقدمة مباركة للتصديق بما جاء به عيسى من الآيات والبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشر : أخرج عن الحسن قال قال عيسى عليه السلام : انى أكببت الدنيا لوجهها وقعدت على ظهرها فليس لى ولد يموت ولا بيت يخرب قالوا له أفلا نتخذ لك بيتا قال ابنوا لى على سبيل الطريق بيتا قال: لا يثبت، قالوا أفلا نتخذلك زوجة قال ما أصنع بزوجة تموت( ).
لقد تفاخر عيسى بعدم وجود زوجة وولد عنده، ولكنه أمر خاص به للوظائف الرسالية التي جاء بها، ولأنه يعرف قرب رفعه الى السماء، ولم يطلب البيت لأنه كان مأموراً بالسياحة في الأرض وعدم الخلود الى الراحة والسكينة، لقد أشار بان البيت يحجزه عن الآخرين، ويكون مانعاً عن وصوله الى القرى والمدن المتعددة فقام بتقديم الأولى والأهم، واجتهد في الإنقطاع الى واجتنب الإنشغال بأسرة وزوجة وأولاد لأنه سخر نفسه وبدنه للناس جميعاً في حجة على بني اسرائيل، وليغلق الباب أمام أهل الريب والإفتراء مع وجود أهل الحسد والأعداء.
ولم يتجرأ أحد على القول بان عيسى طمع في شيء من حطام الدنيا وزينتها، وكان بامكانه جمع الأموال والثروات الطائلة لأنه جاء بالآيات والمعجزات وشفاء الزمنى واحياء الموتى، ولكنه أبى ان يأخذ اجراً الا الإيمان بالله، لقد كان المال والأجر سالبة بانتفاء الموضوع فليس من موضوع عنده فلا بيت يبنيه ويحتاج اليه او بسببه، ولا زوجة يحتاج ان ينفق عليها.
لقد أراد للناس الحياة بالإيمان، ونظر اليهم جميعاً بانهم عائلته واخوانه ولم يرتبط بامرأة معينة لأن رحيله عن الدنيا قريب، فكان يسابق الزمان في دعوة اكبر عدد من الناس واهل القرى للإيمان، وجعل نفوسهم تشع بضياء الآيات وكل آية دعوة الى تعالى.
ويعتبر الزهد من اصول الشريعة التي جاء بها عيسى واعتبرت الثروة وجمعها من اسباب الابتعاد عن رحمة ، ودعت الى الاجتهاد في الزهد واعتبرته وسيلة للتقرب الى ، وجاءت هذه الدعوة أيام الدولة الرومانية وازدهار المدنية فيها، وكأنها رد على الغارقين في لذاتها والمنهمكين في مصالحها.
والزهد مانع من حدوث حروب ومعارك كثيرة تلك التي تنشأ طلباً للدنيا وتوسعة الملك، وهرباً من الضيق والعوز، او التي تحدث لايجاد اسواق للصناعات والتجارات الخاصة وتصدير البضائع والمحاصيل الزراعية.
لقد جاء الاسلام بالاصلاح والنظام المتكامل في العبادات والمعاملات والاحكام، وكانت بعثة النبي محمد صلى عليه وآله وسلم حاجة للانسانية جمعاء، ومن مفاهيم الاسلام نظرية الوسط والمنع من الافراط والتفريط، فلا رهبانية ولا اسراف في الاسلام.
عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعثت بالرهبانية الشاقة، ولكن بالحنيفية السمحة، أي الأحكام التي يسهل التقيد بها من غير ضيق او حرج.
لقد أراد للإسلام الإنتشار والسيادة في الأرض، فحبب للمسلمين النكاح وجاءت الآيات والسنة باستحباب انجاب الأولاد ليكونوا قوة ومنعة وجنوداً لإعلاء كلمة التوحيد.
الحادي عشر : أخرج أحمد عن وهب بن منبه قال أوحى الله إلى عيسى عليه الصلاة والسلام انى وهبت لك حب المساكين ورحمتهم تحبهم ويحبونك ويرضون بك اماما وقائدا وترضى بهم صحابة وتبعا، وهما خلقان من لقيني بهما لقيني بازكى الاعمال واحبها إلي( ).
لقد أراد للأنبياء ان يكونوا مع المساكين في حياتهم اليومية، يتعرفون عليهم ويواسونهم ويبثون بينهم الدعوة الى ، لقد أظهرت النبوة اكرام الفقراء والمساكين لأنها اصلاح محض، وهداية وارشاد وطريق الى الإيمان بالله وهؤلاء الفقراء ليس عندهم ما يشغلهم عن التفكر والتدبر بالآيات والبراهين، كما ان عيسى لم يمنحهم المال والثروة، بل جاءهم بالآيات الدالة على صدق نبوته.
وفي دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم احيني مسكيناً وامتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين.
الثاني عشر : اخرج احمد بن خليقة قال مرت امرأة على عيسى فقالت: طوبى لثدي ارضعك وحجر حملك، فقال عيسى طوبى لمن قرأ كتاب ثم عمل بما فيه.
لقد أراد عيسى تأديب بني اسرائيل رجالاً ونساءً وارشادهم الى قراءة الكتاب المنزل وتوجيههم نحو الفرائض والعبادات، وفي الحديث اشارة الى القرآن ودعوة الى تلاوة آياته عند نزوله والعمل بما فيه من أحكام الحلال والحرام، وفيه تحذير من الغلو بشخص عيسى ، فان قلت ان كلام المرأة خال من الغلو، قلت: انه خشي الإضافات التي تأتي فيما بعد بسبب مجيئه بالآيات الباهرات خصوصاً مع عدم قتله، ومغادرته الأرض برفعه الى السماء.
الثالث عشر : اخرج ابن أبى شيبة وأحمد عن ميمون بن سياه قال قال عيسى بن مريم يا معشر الحواريين اتخذوا المساجد مساكن واجعلوا بيوتكم كمنازل الاضياف فمالكم في العالم من منزل ان أنتم الاعابري سبيل.
لقد اتخذ عيسى السياحة في الأرض عملاً له، وكان بعض أصحابه يرافقه في تنقله، ولكنه دعا الحواريين الى الإقامة في المساجد للإنقطاع للعبادة واداء الصلاة فلماذا لم يأمرهم بالإقتداء به في السياحة، الجواب من وجوه:
الأول: ان سياحته وسيلة لإظهار الآيات ومعرفة الناس بها عن قرب، وليراها الناس بأعينهم مما يمنع من تحريف وتبديل اهل النقل والرواية.
الثاني: التخفيف عن الحواريين، لأن السلطان سيقتفي آثار الذين يدعون لرسالة عيسى.
الثالث: كثرة الحواريين وتعددهم، فانتشارهم في المساجد سبيل للإتصال بالناس، لذا لم يذكر عيسى المسجد بصيغة المفرد.
الرابع: صيغة الجمع في المساجد واتخاذها مساكن دعوة للتنقل بين المساجد أي انه نوع سياحة ولكنها مقيدة بالمساجد.
الخامس: الحضور الدائم في المسجد جذب للناس اليه , ودعوة للإستماع والتفقه بأحكام النبوة، ومناسبة للإبتعاد عن الدنيا وزينتها.
وفي الحديث اشارة الى عمارة المسلمين للمساجد وحضور صلاة الجماعة، وهذه الأحاديث تفصيل لبشارة عيسى بالنبي محمد ورسالته، وتهيئة النفوس لإتباعه، فلقد اتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسجد محلاً للعبادة واعداد الجيوش واصلاح شؤون الأمة واستقبال الوفود وعقد المواثيق.
وسكن المهاجرون الذين ليس لهم بيوت ولا أموال الصفة وهي سقيفة في باب المسجد النبوي، أصبحت في هذا الزمان وبعد توسعة المسجد جزء منه، روي ان علياً كان عنده ستر من الغنيمة، فدعاهم رسول صلى الله عليه وآله وسلم فقسم ذلك الستر بينهم قطعاً، جعل يدعو العاري منهم الذي لا يستتر بشيء فيوزره، واذا التقى عليه الأزار قطعه.
الرابع عشر : أخرج أحمد عن وهب ابن منبه ان عيسى عليه السلام قال بحق ان أقول لكم ان أكناف السماء لخالية من الاغنياء ولدخول جمل في سم الخياط أيسر من دخول غني الجنة( ).
لقد أراد عيسى صرف الحواريين عن جمع الأموال، والتوجه الى الفقراء والمساكين وبعث الثقة في نفوسهم وجعلهم يتشوقون الى الجنة، ويسعون لبلوغ مقاماتها بالتوحيد والعبادة.
والأغنياء من الكافرين وفي ايام سيادة الكفر وعدم التصديق بالأنبياء يختلفون ذاتاً وموضوعاً وفعلاً عن المسلمين الذين وسع عليهم وإلتزموا باحكام الحلال والحرام واخراج الزكاة.
ان تشريع الزكاة على المسلمين والوعد عليه بالنماء في المال والثواب العظيم دليل على دخول اغنياء المسلمين الجنة ولو بعد وقوف طويل للحساب، ففي حديث عيسى بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واخبار بعموم أحكامها وانتفاع المسلمين جميعاً منها الغني والفقير والسيد والعبد، لذا جاءت الخطابات التكليفية عامة وبلحاظ قيد الإيمان كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ]( ).
الخامس عشر : اخرج عن جعفر بن حرفاس ان عيسى بن مريم قال: (رأس الخطيئة حب الدنيا والخمر مفتاح كل شر والنساء حبالة الشيطان)( ).
ويبين هذا الحديث وحدة احكام النبوة، فالأنبياء يشتركون في التحذير من الأبواب الثلاثة التي ذكرت في الحديث، فحب الدنيا والإنقطاع اليها أمر قبيح، ومدخل لإقتراف السيئات، وسبب لحصول غشاوة على الأبصار تحول دون رؤية الأشياء على حقيقتها.
كما ان الخمر مقدمة لإرتكاب الكبائر لأنه يفقد الإنسان عقله، كما ان النساء باب لأغواء الشيطان.
ولقد جاء الإسلام بالنهي عن هذه الأمور الثلاثة باحكام نازلة من السماء تلزم الناس العمل بها، فتقيد المسلمون بما فيها من الأوامر والنواهي، وجــاءت العبادات لمنع انقطـاع الإنســان اليومي الى الدنيا، فتعدد فرائض الصلاة في اليوم الواحد وقفات قولية وفعلية وزمانية للتنزه عن الدنيا وعدم اللهـث وراء لذاتها ولمراجعة النفس في الأقوال والأفعال التي صدرت من الإنسان في نفس اليوم ولو في الجملة، خصوصاً وان الفعل الذي يكون خارجاً عن الثوابت والأعراف يرسخ في الذهن ولا يغادره بســـهولة فتأتي الصـلاة لعرضه على القواعد الشرعية، والتدارك والإسـتغفار ان كان فيه خطأ وزلل.
وجاء الإسلام بحرمة الخمر، وظل المسلمون الحراس لهذا التشريع السماوي الخالد والحفظة له، إذ حرصوا على تنزيه مجتمعاتهم ومنتدياتهم منه وشرعت أحكام الحدود فيه وفي حرمة الزنا لإصلاح النفوس وارشاد الناس الى سبل التقوى، واعانة الناشئة على الهداية والرشاد والحصانة والوقاية من السيئات.
ان واقع الملل والأمم يظهر وراثة المسلمين لعيسى فيما قاله وما جاء به من عند .
السادس عشر : اخرج أحمد عن سفيان قال: قال عيسى : (ان للحكمة أهلا فان وضعتها في غير أهلها أضعتها وان منعتها من أهلها ضيعتها كن كالطبيب يضع الدواء حيث ينبغي).
لقد جاهد عيسى لتبيان الحكمة ومصاديقها، وعدم التفريط بها، فهيأ الحواريين لقبولها وأدبهم بان منع من ايداعها عند غير أهلها، والحكمة هي العلم وتوظيفه في العمل والتنزه عن القبيح، والحكمة القرآن والفقه وطاعة ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا]( ).
وبخلاف احاديث عيسى السابقة، فقد جاء هذا الحديث بصيغة المفرد “كن كالطبيب” مما يدل على انه حديث خاص وفيه اشارة على اهميته وانه موضوع نفيس، وان الحكمة اخص من الدعوة لما فيها من خطابات لأولي الألباب ومضامين تتعلق بالصلاح العام، وللخشية من وضعها عند غير اهلها فلا تأتي بالثمار المرجوة منها، ووصف عيسى الإختيار بانه كاختيار الطبيب فلابد لحامل الحكمة من التمييز بين الناس ومعرفة مقاماتهم ومدى استعدادهم لقبول الحكمة والصلاح.
وقد جعل الإسلام الحكمة في متناول المسلمين ينهلون منها ما يحتاجون اليه، اذ تضمن القرآن الكريم والسنة النبوية كنوزاً من الحكمة والعلوم ووجوه العبادة والتقوى , وكأن الحكمة امانة بيد الأنبياء وأصحابهم، لتسلم الى المسلمين فيتعاهدونها ويمنعون ضياعها ويحولون دون مغادرتها الأرض والى يوم القيامة.
السابع عشر : أخرج أحــمد عــن محمد بن واســع: (أن عيسى ابن مريم قال يا بني إسرائيل إني أعيذكم بالله أن تكونوا عاراً على أهل الكتاب . يا بني إسرائيل قولكم شفاء يذهب الداء ، وأعمالكم داء لا تقبل الدواء ) ( ).
ويبين الحديث جانباً من رسالة عيسى وانه لم يأتِ بالآيات وحدها، بل قام بما يفعله كل نبي من الأنبياء وهو الإنذار والتحذير، فقد حذر بني اسرائيل من العادات الذميمة والأفعال القبيحة، ولم يذكر عيسى اليهود والنصارى بل اطلق عنوان (اهل الكتاب) كسور جامع لأتباع الديانات السماوية لأنه يعلم ان الكتاب الجامع سينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان المسلمين سيتقيدون باوامر السماء فيكون الذي يخالفها محل ذم وتقبيح ويبين الحديث الحاجة الى الإسلام واحكامه واقامة حدود لتنزيه عالم الأقوال والأفعال من أدران السيئات.
وفي الحديث تأديب لأهل الكتاب ودعوة بجعل القول مطابقاً للفعل وعدم وجود تعارض وتناقض بينهما، لأن المدار على الأفعال سواء تلك المتعلقة بالعبادات او الخاصة بحقوق الناس.
الثامن عشر : أخرج أحمد عن وهب قال: (قال عيسى لاحبار بني إسرائيل : لا تكونوا للناس كالذئب السارق ، وكالثعلب الخدوع ، وكالحدأ الخاطف )( ).
لقد توجه عيسى في خطابه للأحبار وكبار علماء بني اسرائيل ليعظهم ويحذرهم، الأمر الذي يثير البغض والحسد في نفوسهم، خصوصاً وانهم في منازل العز والقوة , والناس يستمعون لهم ويصدرون عنهم، ومع هذا فلم يتردد عيسى في توبيخهم، ودعوتهم لإصلاح الذات والفعل واجتناب اتخاذ الشريعة وسيلة للمنافع الخاصة وما يؤدي الى نفرة الناس ومن الشواهد في السيرة على صدق نبوة عيسى انه لم يأتِ بما ينهى الناس عنه، فقد أحتل المنزلة الرفيعة في قلوب الناس ومراتب السلطة الشرعية.
وانقذ الكثيرين من امراض مزمنة ألمت بهم، ومع هذا فانه لا يأخذ اجراً من أحد، مع ان كل داعية يحتاج الى المال لجمع الأنصار ونشر دعوته.
لقد دعا عيسى الأحبار الى الأخلاق الحميدة واظهار الصدق والأمانة والصلاح، وطالبهم بأن يكونوا مثالاً يقتدى، ان صيغة التحذير والتعريض والتوبيخ التي تتضمنها هذه الأحاديث تظهر جانباً من أسباب كيد ومكر احبار ورؤساء بني اسرائيل بعيسى ، وهذا الحديث والذي سبقه بيان لجهاد عيسى في نبذ الكبر وشراء الدنيا بالدين.
ويبين الحديث ان عيسى التقى واجتمع باحبار بني اسرائيل، واقام عليهم الحجة ولقد جاء الإسلام بوضع قواعد كلية لا يستطيع العلماء تجاوزها فلا يحق لهم الإجتهاد في مقابل النص.
وجعل احكام العبادات والمعاملات في متناول المسلمين جميعاً واوصى بالتواضع وعدم الإستكبار.
التاسع عشر : أخرج احمد عن زيد ابي عمرو قال: (بلغني ان عيسى قال: انه ليس بنافعك ان تعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت ان كثرة العلم لا تزيد الا كبرا إذا لم تعمل به).
من سنن الأنبياء التأكيد على العمل واتيانه موافق لأحكام الشريعة، وتوظيف العلم للعمل، فالعلم لا يطلب لذاته فهو مقدمة وسور وحصن للعمل، فالإنتفاع من العلم يكون بالعمل وفق مضامينه وقواعده، لقد دعا عيسى الى مبادرة الإنسان للعمل بما عنده من العلم، ولا ينتقل الى مرتبة جديدة من العلم الا بعد ان يتقن العمل وفق ما كسبه من العلم، ومن منافع العمل انه آلة لتثبيت العلم في القلب والجوانح، وجعله ملكة عند الإنسان، فالعلم القليل الذي يعمل به خير من العلم الكثير الذي لا يعمل به.
وجاء الإسلام بالعمل طوعاً وقهراً بالعلم والتحصيل، فأداء الفرائض من أفضــل وجوه العمل بالعلم، وعن عبد الرحمن السلمي قال إنا أخذنا هذا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الاخر حتى يعلموا ما فيهن فكنا نتعلم القرآن والعمل به وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم ليشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز ها هنا ووضع يده على الحلق( ).
لقد أراد الرسول الأكرم ان يهدي المسلمين الى سبل الانتفاع المثل من القرآن ويتعلموا التفسير، وما في الآيات من المضامين والمعاني والمفاهيم، وهذا العلم يتجلى في الخارج بحسن السيرة والإخلاص في طاعة ، والخشية منه، والحرص على اتباع الرسول.
لقد اظهر اهل البيت والصحابة وعلماء الاسلام والى يومنا هذا التواضع بابهى صوره، وكانوا أسوة في الفضيلة وحسن الخلق واجتناب النفس الشهوية والغضبية، ان القرآن كله علم، والصلاة علم وكذا الصيام والزكاة فمع تفقه المسلمين في الدين وأحكام الشرائع تجدهم اذلة على المؤمنين، ان أداء العبادات درس عملي يومي لجعل التواضع ملكة مستقرة عند كل مسلم ومسلمة.
العشرون : عن يزيد بن ميسرة قال: قال عيسى : (إن أحببتم أن تكونوا أصفياء الله ، ونور بني آدم من خلقه فاعفوا عمن ظلمكم ، وعودوا من لا يغودكم ، واحسنوا إلى من لا يحسن إليكم ، وأقرضوا من لا يجزيكم)( ).
لقد جاء الأنبياء بمكارم الأخلاق وارادوا لها ان تكون ملكة عند الإنسان وسجايا ثابتة تصلح للبرهان الإني وهو الإستدلال بالمعلول على العلة واتخاذ المعلول بعد معرفته سبيلاً لمعرفة العلة، فيدل حسن الخلق على الإيمان والتقوى باعتبار انه فرد نادر لا يقدر عليه الإنسان بطبائعه ومزاجه وتصارع قواه النفسية، فبالأخلاق الحسنة يكون كل مؤمن داعية الى ، وبالإحسان والشفقة على خلقه يتقرب اليه زلفى والقرآن جامعة الأخلاق، وفيه بيان لسنن الأنبياء والذي يتخذه دليلاً وحجة يكون مهدياً.
لقد جاء القرآن بالعفو وأكد عليه في آيات كثيرة وفي موضوع القصاص قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) وقد أمر عيسى بالإحسان ابتداء وعدم التجافي والإعراض عمن لم يحسن الى المسلم سواء مع قدرته على الإحسان او مع عدمها، ان وظيفة المسلم نشر الإحسان واسباب المحبة والرحمة بين الناس.
الواحد والعشرون : أخرج ابن أبى شيبة وأحمد عن عبيد بن عمير ان عيسى عليه الصلاة والسلام كان يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر ويبيت حيث أمسى ولا يرفع غداء ولا عشاء لغد ويقول يأتي كل يوم برزقه( ).
لقد أظهر الأنبياء عليهم السلام الزهد وهو ضد الرغبة يقال زهد بالكسر في الشيء زهداً وزهادة بمعنى تركه وأعرض عنه فهو زاهد، والزهد دليل على الإنقطاع الى ، والإستغناء عن الدنيا وزينتها، وتضمنت أحكام وسنن الإسلام أسمى معاني الزهد مع الإلتفات الى حاجات الفرد والمجتمع وبما يساعد على نشر مبادئه , واعانة المجاهدين ومدهم بما يعينهم على مواصلة القتال والدفاع عن الإسلام.
وفي الحديث: أعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا الا وان الزهد في الدنيا في آية من كتاب تعالى وهي [لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ] ( ).
الثاني والعشرون : أخرج أحمد عن وهب ابن منبه قال قال عيسى ابن مريم : يادار تخربين ويفنى سكانك ويا نفس اعملي ترزقي ويا جسد انصب تستريح( ).
من خصائص الزهد انه يدفع الفاقة، فكان عيسى غنياً بالرضا عن ، وهو أول من آمن بالآيات التي جاء بها وأظهر أعلى درجات اليقين وتخلى عن الدنيا ومباهجها، وتعتبر ايامه القليلة في الدنيا ضياء مباركاً للنفوس المؤمنة ووسيلة ملكوتية لفضح زيف الدنيا وخسارة من يغتر بها،
لقد كانت سيرة عيسى حرباً على الشيطان الى يوم القيامة، وجاء الإسلام ليثبتها كما انها تتجلى بسيرة المسلمين وانقيادهم لأحكام القــرآن وما فيه من مضامــين التقوى والإيمان، والتحــذير من الدنيا وزينــتها، ويأتي التخــلي عن الدنيا بقهــر النفــس على اتيان العبادات والصبر في ذات ومتى ما كان أمل العبد بما عنده تعالى فان الدنيا تهون عليه، ويترك الزينة والهوى وحب المال، ويصبر على الأذى، ويسخر الجسد في طاعة واتيان الفرائض من غير ملل.
الثالث والعشرون : عن وهب ابن منبه قال قال عيســى بن مريم للحواريين بحق أقول لكم وكان عيسى عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يقول بحق أقول لكم ان أشدكم حبا للدنيا أشدكم جزعا على المصيبة( ).
كان عيسى يكرر بحق اقول لكم لبيان ان كلامه وحي وانه ليس مازحاً او هازلاً، وفيه توكيد على مضامين القول ودعوة لأخذه وعدم تركه، لقد أراد عيسى حفظ أقواله وعدم نسيانها كي تنتفع منها الأجيال اللاحقة وقد تفضل على الناس بانزال القرآن وهو يوثق ِآياته ويثبتها ويمنعها من الضياع، ومن الشك او الريب، فاجماع المسلمين على نزول القرآن من عنده تعالى، ولم تأتِ خطابات القرآن لنفر أو أمة أو طائفة , بل جاءت للناس كافة وهذا ما ينفرد به القرآن وهو شاهد على امامته وأهليته على قيادة الناس نحو سبل النجاة.
لقد أراد عيسى اعطاء الحواريين درساً في الصبر بحبس النفس عن الجزع، وأصل الصبر الحبس.
ويحتاج الإنسان سلاح الصبر في كل ميادين الحياة، وفي القول والعمل، وهو فضيلة وارتقاء للنفس في سلم الكمالات، والصبر في اصطلاح علم الكلام مقاومة النفس للهوى لئلا تنصاع للذات.
لقد أراد عيسى بيان الملازمة بين حب الدنيا وانعدام الصبر عند المصيبة، فاذا هانت الدنيا على الإنسان وقع عليه البلاء من غير شدة، لأنه منقطع الى ما هو أعم منها من عالم الآخرة وقد جاءت احاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الصبر بالمعنى الأعم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصبر ثلاثة، صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة، وصبر على المعصية) فبين ان الصبر علم مستقل ذو أطراف متعددة ولكنها متــداخلة تتقوم بمجاهدة النفس وقمع الشهوة.
لقد أراد الأنبياء اشتراك قلب العبد في الأذكار والأوراد ويكون حاضراً وشاهداً مقبلاً على المناجاة، فلا تستطيع المصيبة ان تكون حجاباً عن ذكره.
الرابع والعشرون : عن عطاء الازرق قال بلغنا ان عيسى عليه الصلاة والسلام قال: يا معشر الحواريين كلوا خبز الشعير ، ونبات الأرض ، والماء القراح ، وإياكم وخبر البر ، فإنكم لا تقومون بشكره ، واعلموا أن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ، واشد مرارة الدنيا حلاوة الآخرة( ).
لقد أراد عيسى للحواريين الإقتداء به في حياتهم ليتوجــهوا الى الدعــوة الى ، لأن البحـث عن نعــم الدنيا يســتلزم الســعي والكسب لتحصيلها، وهذا السعي يشــغل الإنسان عن الجهاد في سبيله تعالى، فشكر المؤمن المجاهد لا يقف عند الشكر القولي، بل يتجلى بأدائه لوظائفه بتبليغ الناس وجذبهم الى الهدى والإيمان.
ويبين الحديث تأديب عيسى لأصحابه، وعدم تركهم يأكلون الدنيا بالدين، ويبدأ تنزيههم عن الدنيا بالإكتفاء بالأدنى والأقل من القوت اليومي، وعدم حب الأحسن والأطيب، فهو لا يحذر من طلب خبز البر بذاته بل لأنه مقدمة لطلب غيره من الطيبات، فأراد لهم الصبر عنها لما فيها من بروز النفس الأمارة والبهيمية الشهوانية، والتنعم بها يجعل الإنسان يميل الى اللذات الحسية ويحرص عليها.
وجاء الإسلام بالأحكام الجامعة وحث على الزهد والصبر ولم يمنع من التنعم بالطيبات، ولكنه وضع الحواجز دون الإغترار بها والركون اليها، بل جعلها طريقاً ومادة للهداية فليس من رهبانية في الإسلام، بل ان المؤمن اولى بالنعم التي تتغشى أهل الأرض ولكنه مسؤول عن اخراج حقوقها.
الخامس والعشرون : عن سفيان قال: قال عيسى عليه الصلاة والسلام: اني لست أحدثكم لتعجبوا انما أحدثكم لتعملوا)( ).
لقد أظهر عيسى الحرص على انتفاع اصحابه والناس من وجوده بين ظهرانيهم بالعمل بما جاء به والتقيد بأحكام الشريعة، وان تكون الآيات الباهرات التي جرت بين يديه دعوة حاضرة لإتيان الصالحات والإمتثال لأوامره في طاعة ، وفرق بين التعجب والعمل، فالعمل تأسيس وبناء لصرح عقائدي جديد.
ولما قابل بنو اسـرائيل عيســى بالكــفر والجحــود، جاء الإسلام ليأمر الناس بالعمل بالأحكام ويشرع وجوب الفرائض الذي يدل على عدم جواز ترك المكلف لها، وتسميتها بالفرائض يعني سلب الإختيار من العبد في عدم ادائها واخـتياره التعجب فقط، فجاء اتيان الصلاة على نحو التعيين والخطاب التكليفي المطلق لكل مكلف ومكلفة من غير تعليق على شرط مخصوص، وجاء الشرط في الزكاة خاصاً بالنصاب رحمة بالمسلمين، وفي الحج بالإستطاعة والقدرة عليه فما دام المسلم مستطيعاً فليس له التخلف عن أداء فريضة الحج مرة في العمر وما عداها يكون مستحباً ومندوباً.
ومن الآيات في فرائض الإسلام ان يأتي خطاب الحج متعلقاً بالناس وليس بالمسلمين وحدهم قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) وهو شاهد على فرض الحج على كل مكلف قادر عليه وان لم يقبل عمله الا بشرط الإسلام.
لقد فاز المسلمون بطاعة عيسى والأنبياء بان سمعوا التنزيل ووحي النبوة وعملوا بهما من غير تأخر او ابطاء او تجزئة وتبعيض، ومع العمل تتجلى الثمرة بأبهى صورها في النشأتين، ان دعوة الأنبياء للعمل واعطاء الأولوية له تظهر الحاجة الى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واخذ الناس باحكام شرعية سماوية ثابتة لا تقبل النسخ الى يوم القيامة.
السادس والعشرون : أخرج ابن المبارك وأحمد عن أبى غالب قال في وصية عيسى عليه الصلاة والسلام يا معشر الحواريين تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إليه بالمقت لهم والتمسوا رضاه بسخطهم , قالوا يا نبى الله فمن نجالس قال جالسوا من يزيد في علمكم منطقه ومن يذكركم الله رؤيته ويزهدكم في الدنيا عمله( ).
يظهر الحديث تعليم عيسى للحواريين وان الأمر لم يقف عند دعوتهم للإيمان والنصرة والمعونة، بل انه قام بتأديبهم وارشادهم الى العمل اليومي وكيفية المعاملة مع الناس، ولزوم اختيارهم للجليس الصالح واجتناب جليس السوء.
لقد أمرهم بالنفرة من المجرمين والمقيمين على المعصية والذنوب وهذه النفرة باب للثواب والتقرب اليه تعالى، ولوجود تناقض وتضاد بين فعل الصالحات وفعل السيئات.
لقد أراد عيسى للمسلمين ان يكونوا أمة مستقلة في ذاتها وصلاتها وأعمالها، وسعى لدخول العقائد الى عالم الحب والبغض وان يكون موضوعهما مرضاة ، واجتناب سخطه فمتى ما تداخل اهل الإيمان واهل المعصية فأن غلبة الكفر على الافعال الشخصية تكون محتملة ولو على نحو الموجبة الجزئية، ودعوة عيسى في بدايتها فلابد من الإحتراز لوقايتها بالإبتعاد عن اصحاب الأخلاق المذمومة ومرتكبي الذنوب والرذائل.
وقد التفت الحواريون الى موضوع الجليس وصفاته فسألوه: من نجالس؟ فجاء الرد النبوي في الدعوة الى الإسلام، والإنصات للمسلمين وحضور مواطن ذكر , وبيان الآيات وشواهد التنزيل ومضامين الإعجاز، واذا كان الحواريون هم المؤمنون من بين القوم الذين كذبوا برسالة عيسى، فمن الذين يجالسونهم ممن يذكر , فيه وجوه ثلاثة:
الأول: وجود امة مؤمنة غيرهم.
الثاني: بعض الحواريين يجالس بعضهم الآخر.
الثالث: الحديث دعوة لمجالسة المسلمين عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أهل العلم والمعرفة الإلهية.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاثة، فالحديث دعوة لإستقبال وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والنصرة.
السابع والعشرون : عن مالك بن دينار قال اوحى الى عيسى عظ نفسك فان اتعظت فعظ الناس والا فاستحي مني)( ).
الوحي كلام في خفاء من عند بواسطة الملك الى النبي، فما أوحاه الى عيسى لم يطلع عليه أحد من الناس، ومع هذا فقد ذكره عيسى ليكون عبرة وموعظة، وان يطلب منه ان يبقى في حالة صلاح وطهر، وهذا الصلاح مقدمة لإصلاح الآخرين، فلا يمكن للموعظة ان تجد موضعها عند الناس الا ان يكون صاحبها اول من يعمل بها.
لقد أراد لعيسى وللأنبياء ان يكونوا الأسوة والقدوة في الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة، وضعف جهة صدور الحديث، لا يمنع من اعتباره من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) فمن الحكمة ان يبدأ الإنسان بوعظ وارشاد نفسه ومنعها من الزلل والغرور وأيهما أشق على الإنسان ان يعظ نفسه ام موعظته لغيره، الجواب هو الأول من وجوه:
الأول: ان وعظ النفس عبارة عن عزم وقول وفعل بينما موعظة الآخرين قول ويصدق عليه صرف الطبيعة ولو لمرة واحدة.
الثاني: وعظ النفس مجاهدة وزجر لها عن المعصية، وهذا الزجر لا يكون مرة واحدة بل هو امر متجدد بالليل والنهار.
الثالث: لا ينحصر وعظ النفس بموضوع مخصوص بل هو متعدد الوجوه والموضوعات والصيغ.
الرابع: وعظ الآخرين بالقول والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اما وعظ النفس فهو اصلاحها وحملها على فعل الصالحات ومنعها من ارتكاب المعاصي، والإحتراز الدائم من غلبة النفس الشهوية والغضبية.
وقد جاءت الآيات القرآنية بتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومدحه قال تعالى [ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ] ( )، أي ان النبي قد وعظ نفسه وأصلحها وكذا سائر الأنبياء، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”.
الثامن والعشرون : أخرج ابن المبارك وأحمد عن سالم بن أبى الجعد قال قال عيسى عليه الصلاة والسلام طوبى لمن خزن لسانه ووسعه بيته وبكى من ذكر خطيئته( ).
لقد أراد عيسى للحواريين التحلي بالأخلاق الحميدة والفاضلة واجتناب الغيبة والنميمة والإساءة الى الآخرين، كما انه دعا الى قلة الكلام مطلقاً اما ذكر فهو خارج بالتخصص من الحث على حبس اللسان وقلة الكلام، لأنه أمر محمود وحسن ذاتاً, ويمثل خزناً للكلام وحصانة, لما فيه من الصلاح واجتناب الفاحش من القول وما فيه الضرر والإثم.
ويعتبر الإنشغال بالذنب والخطيئة سبباً لإجتناب ايذاء الآخرين, ولقد جاء الإسلام بقواعد ثابتة وأحكام متكاملة في حرمة الغيبة والنميمة، واقامة الحد على الذي يفتري على الناس، وفتح باب الإستغفار لمحو الخطيئة والذنب، وجعل الفرائض مناسبة لإصلاح اللسان وجعله رطباً بذكر ، وحث على تلاوة القرآن في المساكن وعمارة المساجد.
التاسع والعشرون : عن خالد الربعي قال نبئت ان عيسى عليه الصلاة والسلام قال لاصحابه أرأيتم لو أن أحدكم أتى على أخيه المسلم وهو نائم وقد كشفت الريح بعض ثوبه , فقالوا إذا كنا نرده عليه قال لابل تكشفون ما بقى , مثل ضربه للقوم يسمعون الرجل بالسيئة فيذكرون أكثر من ذلك( ).
يبين الحديث اطلاق عيسى اسم المسلم والأخوة في الإسلام وفيه دلالة مركبة من وجهين:
الأول: مجيء الأنبياء بالإسلام واعتبار اصحابهم مسلمين.
الثاني: البشارة ببزوغ شمس الإسلام وتقيد المسلمين بأحكامه، ولقد ساهم عيسى في التهيئة للإسلام بنشر الفضيلة والتحذير من الفرقة والفتنة واساءة المسلم لأخيه المسلم، ويظهر الحديث لغة العتاب واللوم لمن يفضح المؤمن بدل ستره واخفاء عيوبه، والنهي عن التمادي في الغيبة والمشاركة بايذاء المسلم، اذ ان الغيبة آفة تهدد الأمة والملة، وهي مظهر من مظاهر الحسد وبرزخ دون تلقي المعارف الإلهية، لأن الإهتمام بعيوب الآخرين يشغل الإنسان عن نفسه واصلاحها وتدارك عيوبها.
لقد أراد عيسى للمسلمين القوة والمنعة وان لا يكون أحدهم عدواً للآخر، وجاء الإسلام بحرمة الغيبة كتاباً وسنة واجماعاً , قال تعالى [وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ]( ) فالقرآن لم يأتِ بمثل الثوب وستر المسلم بتغطيته، بل جعله من أكل لحم الأخ مما يدل على قبح الغيبة وحرمتها الذاتية بالإضافة الى انها قد تكون مقدمة لحرام آخر
وجاءت النصوص بالإخبار عن لحوق الإثم بالمستمع للغيبة كي يكون المسلمون متآزرين في نبذ الغيبة، ويكون بعضهم ظهيراً للآخر في التخلي عنها واجتنابها، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما عمر مجلس بالغيبة الا خرب بالدين، فنزهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فان القائل والمستمع لهما شريكان في الإثم، ومن مضامين الرحمة في الإسلام انه ما من ذنب الا وجعلت له الشريعة كفارة وباباً للتدارك،
والإستغفار أعظم كفارة، فمع ما في كفارة الصدقة والصيام والعتق من بذل المال والجهد والعناء، فان الإستغفار كفارة قائمة بذاتها لما فيها من اللجوء الى تعالى، ومن مصاديق كفارة الغيبة الإستغفار للمغتاب، وهذه الكفارة والإستغفار يحتاجها مرتكب الغيبة نفسه لأنها واقية من الإقتطاع من حسناته للمغتاب يوم القيامة، يوم يكون هو أشد حاجة لأقل مقدار من حسناته.
الثلاثون : عن مالك بن دينار قال مــر عيسى عليه السلام والحواريون رضى الله تعالى عنهم على جيفة كلب فقالوا ما انتن هذا فقال ما أشد بياض أسنانه يعظهم وينهاهم عن الغيبة( ).
لقد أراد عيسى ان يعطي الحواريين درساً لتنمية ملكة اجتناب الغيبة، فمن يجتنب ذكر الكلب الميتة بصفات القبح التي فيه، فمن باب أولى انه يجتنب ذكر الناس بسوء، وأراد ان يبين مسألة في الصلاح والإصلاح وهي ذكر الشيء بأفضل صفاته، والنظر الى محاسن الناس وبيانها وذكرها ومدحها لتنتشر معاني الفضيلة والأخلاق الحميدة.
لقد جاء القرآن بحرمة الغيبة، ومن الآيات ان الغيبة لم تذكر في القرآن الا مرة واحدة، ومع هذا فان المسلمين جميعاً يعلمون حرمتها،ويجتنبون الوقوع في حبائلها، وموضوع الغيبة قد يكون أمراً خلقياً تكوينياً، او عادة، او فعلاً وقولاً مشيناً، والنتن هو الرائحة الكريهة، نقيض النوح، وعن أنس في حديث الإسراء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء. قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم)( ).
وفيه تحذير من الغيبة مطلقاً، ولزوم اجتناب كشف واظهار عيوب الناس، وفضح اسرارهم والطعن في أعراضهم.
الواحد والثلاثون : عن وهب قال ان ابليس قال لعيسى زعمت انك تحيى الموتى فان كنت كذلك فادع الله ان يرد هذا الجبل خبزا فقال له عيسى أوكل الناس يعيشون بالخبز قال فان كنت كما تقول فثب من هذا المكان فان الملائكة ستلقاك قال ان ربى أمرنى ان لا أجرب نفسي فلا أدرى هل يسلمني أم لا( ).
ويبين الحديث الحرب التي يشنها أعداء الإسلام والنبوة ضد الدين والحق، والجدل بالشبهات وأسباب الضلالة، فان احياء عيسى للموتى امر واقع والقرآن شاهد سماوي عليه، وقد رأى أهل زمان عيسى كيف ان عيسى يدعو فتتحرك الأرض ويصعد تراب القبر لينزاح عن الميت الذي يخرج منه وقد عادت له الروح، ومع هذا فان ابليس يقول له زعمت انك تحيي الموتى، ولكن عيسى لم يرده على كلامه هذا بل أعرض عنه لأن الواقع والوجدان يكذبان ابليس، كما ان عيسى لم يحيي الموتى بأمره وارادته بل باذن تعالى.
وابليس يعلم ان عز وجل يبعث الموتى، وفي التنزيل حكاية عن ابليس [قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
وحينما سأل ابليس عيسى ان يدعو بان يجعل الجبل يكون خبزاً لم يعتذر لتعلق المسألة بالدعاء، ولكن عيسى أبى الإستجابة له وقال له ان عيش الإنسان على الأرض لا يتوقف على الخبز وحده مما يدل على ادراك النبي لما في الجبل من المنافع والثروات، سواء في الزراعة او استخراج المعادن وغيرها والخبز حاجة آنية، وموضوع قابل للتلف عند تعاقب الساعات والأيام عليه.
وعندما عجز ابليس عن استدراج عيسى، توجه الى التحدث معه بالقضية الشخصية واراد التخلص من عيسى الذي يجاهد لطرد ابليس من القلوب، ومنع سلطانه على أفعال العباد، وأتخذ عيسى من تحديه موضوعاً لتأديب المسلمين، وتعليمهم عدم الإندفاع وراء اهل الخصومة والريب والجدل، ورفض استدراجهم الى مزالق الأقدام.
ونسب اعتذاره الى أمر تعالى، وانه تعالى أدبه بان لا يحارب نفسه، في توصية للمســلمين باجتنــاب التجــربة وفعل ما فيه والأضرار ولو على نحو الإحتمال، لقد أراد ابليس الجـدال مع عيسى ففضحه عيسى من غير ان يغضب عليه، بل أقام عليه الحجة ورد كيده، وجعل المسلمين يتعلمون دروساً في الصبر والإحتجاج.
الثاني والثلاثون : عن سالم بن أبى الجعدان عيسى بن مريم كان يقول للسائل حق وان أتاك على فرس مطوق بالفضة( ).
وهذا الحديث من تأديب عيسى للحواريين ومن بعدهم للنصارى باعانة السائل مطلقاً وعدم رده والإعتذار بانه غير محتاج سواء على الظاهر او ما يعرف عنه من السعة والغنى، فان مقومات اعطاء السائل هي:
الأول : قدومه على السؤال وما فيه من الحرج والذلة والمسكنة.
الثاني : نشر مفاهيم الإحسان.
الثالث : اظهار نكران الذات، واخراج المال من اليد.
الرابع : قصد الثواب والأجر باعطاء السائل سواء كان محتاجاً او غير محتاج.
الخامس : اتخاذ موضوع المسألة والإعطاء باباً لجذب الناس للإيمان.
السادس : ايجاد اسباب المحبة والود بين الناس.
السابع : تنمية ملكة الإنفاق.
الثامن : اعطاء السائل مدخل لإخراج الحقوق الشرعية ودفع الزكاة، فاما ان يعطى السائل من الزكاة والصدقة الواجبة، فيكون فيه ابراء للذمة، واما ان يكون صدقة مستحبة فتصير مقدمة لدفع الزكاة الواجبة.
ولقد جاء الإسلام بتوكيد اعانة الفقير والمسكين ومن يأتي سائلاً محتاجاً، ورغب فيه وجعله من المعالم المشرقة في المجتمع الإسلامي، ولم تنحصر اعانة السائل بالمسلم المحتاج وحده، بل تشمل كل من يأتي سائلاً وأصبح المسلم في أحيان كثيرة يبحث عن السائل، وليس السائل هو الذي يبحث عن الذي يتصدق عليه.
ولقد جاء القرآن بالدعوة الى اعطاء السائل , قال تعالى [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( ).
فجعل حقاً للسائل في أموال المسلمين الشخصية وفيه نكتة اخلاقية وهي عدم المن على السائل، ومنع التمايز الإجتماعي والكبر على الفقير بسبب اعطائه الصدقة، وفيه اخبار بوجوب اخراج الزكاة وانها ليست مالاً للشخص انما هي كالأمانة في يده، أراد عز وجل اختباره وامتحانه بها ولتكون سبيلاً لنيل الدرجات العلا في الآخرة , قال تعالى [وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ]( ).
والآية خطاب انحلالي شامل لكل المسلمين، لمن يعطي ويتصدق ومن يتعذر عليه الإعطاء والأمر بعدم ايذاء السائل، وفيه نشر للأخلاق الحميدة، ومنع من الصدود، واعراض السائل عن المسألة، أي ان السؤال فيه منافع عديدة للسائل والمسؤول وللمجتمع، والمنافع لا تنحصر بالنشأة الدنيا ومع ان عيسى لم يركب الحمار ولا يريد الإنشغال به، واختار التنقل بين القرى سيراً على الأقدام، فانه يوصي باعطاء السائل وان جاء على فرس مطوق بالفضة، ولعل في الحديث شاهداً على انبساط الأمن في أيامه، وهومناسبة لنشر الإسلام، ومع هذا لم يسلم عيسى من المكر والكيد.
الثالث والثلاثون : أخرج ابن المبارك وابن أبى شيبة وأحمد وابن عساكر عن الشعبى قال كان عيسى بن مريم إذا ذكر عنده الساعة صاح ويقول لا ينبغى لابن مريم ان تذكر عنده الساعة فيسكت( ).
وفيه دلالة على الحديث عن يوم القيامة بحضرة عيسى وسؤال الناس له عنها، فيبادر الى اظهار الفزع منه لبعث الخوف والحذر من الحساب في قلوب الناس فاذا كان الرسول الذي جاء بالآيات من عند يخاف منها ويظهر الفزع فمن باب الأولوية ان يخاف غيره من يوم القيامة ويستعد له بالعمل الصالح، وفي الحديث دعوة للحواريين بتنبيه الناس الى حتمية الحساب ومن وجوه تفضيل الإسلام وارتقاء الأحكام فيه ان القرآن والسنة جاءا بالتذكير بيوم القيامة.
فقد ذكر القرآن أهوال يوم القيامة وساعة الحساب والجزاء في آياته وسوره، وبما يبعث على ايلائه عناية خاصة في الواقع والعمل اليومي، ان استحضار الحساب الأخروي وسيلة للإصلاح وسبيل لتقويم السلوك، وحصانة من الركون الى الدنيا.
وخوف عيسى من الساعة من مفاهيم مدرسة النبوة ودعوة للناس بعدم الغلو بشخصه الكريم , وتوكيد بانه عبد لله يقف للحساب عند قيام الساعة، وقد جعل المسلمين يذكرون الساعة وتذكر عندهم كل يوم بتلاوة القرآن في الصلاة، وهذه التلاوة واجب عيني على كل مسلم، ومن الآيات ان تكون القراءة في شطر من الصلوات اليومية جهرية لينتفع منها القارئ والسامع والمستمع مع الإباحة والإختيار في اختيار السورة والآيات التي تقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى والثانية من كل صلاة، وكان رسول صلى الله عليه وآله وسلم “يصعد المنبر ليعض الناس ويذكرهم بالساعة” ولزوم الإستعداد لها بالتقوى والصلاح.
الرابع والثلاثون : أخرج أحمد وابن عساكر عن مجاهد قال كان عيسى عليه السلام يلبس الشعر وياكل الشجر ولا يخبأ اليوم لغد ويبيت حيث أواه الليل لم يكن له ولد فيموت ولابيت فيخرب( ).
لقد كان عيسى آية في الزهد، لم يطمع في شيء من حطام الدنيا يبرء الأكمه والأبرص، ولا يتلقى منه اجراً ويكتفي بدعوته الى واقامة الحجة عليه بظهور المعجزة في بدنه وشخصه وليكون عبرة وموعظة ناقص ليحرسه ويتعاهده، بل كان يظهر ثقته بالله وانه هو الرزاق ذو القوة المتين، ومن أهم وظائفه السياحة في الأرض لدعوة الناس وأراءتهم الآيات وانتفاعهم منها، فلم يكن عنده سعة من الوقت للإقامة والإنشغال بحاجات الزوجة والأولاد فهم مشغلة وعائق دون مواظبته على السياحة والتنقل بين القرى.
ترى لو اتخذ عيسى له بيتاً ودعا الناس للمجيء اليه سواء لدعوتهم الى ، او لروايتهم المعجزات التي تدل على نبوته، والشواهد والنعم التي تتجلى بابرائه لأصحاب الأمراض المزمنة، ولم يسع للوصول اليهم في قراهم، فماذا يحدث؟ أتكون النتيجة أفضل والعداء له أقل ام انه يزداد وما هي الأمور الجانبية التي تطرأ؟
الجواب انه مع تنقله في القرى وابتعاده عن عيون الحاسدين والذين يخشون على منازلهم والمنافع التي يقتطفونها والجاه الذي يخافون زواله بالدعوة الصادقة الى ، فانهم أخذوا يكيدون له ويمكرون به، فكيف اذا كان بجانبهم على مقربة من مصدر القرار.
لقد أسس عيسى مدرسة في الزهد واظهار الفقر والمسكنة والخضوع لله تعالى والإعراض عن الدنيا وزينتها، وهذا الأمر من الأسباب التي جعلت الرهبان ورجال الكنيسة يضمرون العداوة لما في اظهاره الزهد المصاحب للآيات من حرج وتحد لهم وهم يتنعمون بالطيبات ويمتلكون الدور والمزارع والأموال.
وفي الحديث دعوة للإشتغال بذكره تعالى والإنقطاع اليه سبحانه , وقد جاء الإسلام بالتخفيف عن المؤمنين وحقهم في الملكية واستحباب النكاح ورغب في انجاب الولد ليكون وريثاً لحفظ معالم الدين، ومجاهداً في سبيل وصد الكافرين، وفي المكر بعيسى ورفعه الى السماء حجة وبرهان لتوكيد منافع الزواج الذي لا يتعارض مع العبادة والذكر والتقيد بأحكام الشريعة.
الخامس والثلاثون : أخرج ابن عساكر عن الحسن ان عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة وان الفرارين بدينهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى بن مريم وان عيسى مربه ابليس يوما وهو متوسد حجرا وقد وجد لذه النوم فقال له ابليس يا عيسى أليس تزعم انك لا تريد شيأ عن عرض الدنيا فهذا الحجر من عرض الدنيا فقام عيسى فاخذ الحجر فرمى به وقال هذا لك مع الدنيا( ).
لم يصدر هذا الحديث والأحاديث المتقدمة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا الصحابة وأهل البيت، وعلى فرض صحة وقوعه فان هذا الحديث يحتمل أمرين ان الذي مرّ على عيسى هو ابليس وكان مأذوناً بالوصول الى عيسى ومخاطبته، او ان المراد بعض شياطين الإنس، والأصح هو الأول حملاً للحديث على ظاهره ولإمكان حدوثه وفيه نكتة ان عيسى يواجه عداوة ابليس، مثلما يواجه الأعداء والحاسدين.
ان مسألة الحجر والحاجة اليه قد لا يلتفت اليها الإنسان لأنها في الأصل ليس من الملكية والأستحواذ الذي يحتاج الى جهد ومشقة وسعي وتنافس، كما ان الحجر يبقى في مكانه وهو ليس وسادة تبعث على الراحة والنوم الهانئ، ومع هذا جاء ابليس لتكون مسألته وحسده باباً لبيان حقيقة وهي ان عيسى محتاج، والإحتياج ملازم للإمكان فهو عبد لله عز وجل يحتاج الى رحمته وما سخر للإنسان مما في الأرض، والا فان أكل الشعير والشجر، ولبس الغليظ كله من الحاجة، لقد تلقى عيسى اشكال ابليس بان نهض وترك النوم ليواظب على الدعوة الى وفيه أذى لإبليس وأعوانه، فرميه ابليس بالحجر شاهد على استغنائه عن طعام الدنيا واعراضه عن السكون والنوم.
وهذا الرمي مصداق لرجم ابليس من قبل الأنبياء ويقوم به ملايين المسلمين كل عام في أيام الحج كآية اعجازية تتضمنها احكام الشريعة الإسلامية تجعل المسلمين ورثة الأنبياء في الأعراض عن ابليس واغوائه وتخرصاته ووسوسته.
السادس والثلاثون : أخرج ابن عساكر عن كعب ان عيسى كان ياكل الشعير ويمشى على رجليه ولا يركب الدواب ولا يسكن البيوت ولا يستصبح بالسراج ولا يلبس القطن ولا يمس النساء ولم يمس الطيب ولم يمزج شرابه بشئ قط ولم يبرده ولم يدهن رأسه قط ولم يقرب رأسه ولحيته غسول قط ولم يجعل بين الارض وبين جلده شيأ قط الالباسه ولم يهتم لغداء قط ولا لعشاء قط ولا يشتهى شيأ من شهوات الدنيا وكان يجالس الضعفاء والزمنى والمساكين وكان إذا قرب إليه الطعم على شئ وضعه على الارض ولم ياكل مع الطعام ادا ماقط وكان يجتزى من الدنيا بالقوت القليل ويقول هذا لمن يموت ويحاسب عليه كثير( ).
من آيات النبوة ان يكون زهد عيسى معروفاً عند الناس جميعاً من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم من أهل الأرض، وهذه المعرفة لم تأتِ الابجهاد الأنبياء وتحملهم المشاق والعناء والصبر في جنب ، وكانت سيرة عيسى آية يومية متجددة، فالزهد والتقوى حاضران في كل فعل من أفعاله، وكل كلمة ينطق بها، والزهد على مراتب فيصدق على من لا يقصد الدنيا وجمع الأموال, اما عيسى فانه لم يكتفِ بعدم قصد الدنيا بل انه يعرض عنها، ويصارع زينتها ويظهر في كل يوم انتصاره عليها، وتحديه لأغوائها وعدم الإنقياد للذاتها , تعرض عليه الدواب فيأبى ركوبها، ويطلب منه الزواج فيتجنبه وليس من امرأة في زمانه الا وتتمنى الزواج منه ويتجلى الزهد في مأكله وملبسه، فلا يأكل البر ويكتفي بزاد الفقراء وهو الشعير.
ويقوم بتخليص الناس من ادران الأمراض المزمنة، ويفتح لهم أبواب الأمل والسعادة ويقودهم نحو سبل النجاة في النشأة الآخرة ثم لا يقبل الهدية، ولا يأكل الا الجشم ويلبس الخشن ولم ينشغل بغداء وزاد واعداد للغد بل يعيش يومه بما يتهيأ له من غير سعي له، في درس للحواريين والمسلمين، ومنع الإفتراء عليه.
السابع والثلاثون : عن سفيان بن عيينة قال: كان عيسى ويحيى عليهما السلام يأتيان القرية فيسأل عن شرار أهلها، ويسال يحيى عن خيار أهلها، فقال: لم تنزل على شرار الناس قال: انما أنا طبيب أداوي المرضى ( ).
ويبين الحديث جهاد عيسى لتهذيب واصلاح النفوس وهداية الناس، وبث روح الإيمان بين اهل المعاصي، في دعوة للمسلمين بعدم اليأس والقنوط ولزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان احكام الشريعة وتحبيب الحلال الى النفوس وجعلها تنفر من الحرام والذنوب.
الثامن والثلاثون : عن سعيد بن عبد العزيز عن أشياخه ان عيسى عليه السلام مر بعقبة أفيق ومعه رجل من حواريه فاعترضهم رجل فمنعهم الطريق وقال لا أترككما تجوزان حتى ألطم كل واحد منكما لطمة فاداراه فابى الاذاك فقال عيسى عليه السلام أما خدى فاطمه فلطمه فخلى سبيله وقال للحوارى لاأدعك تجوز حتى ألطمك فتمنع عليه فلما رأى عيسى ذاك أعطاه خده الآخر فلطمه فخلى سبيلهما فقال عيسى عليه السلام اللهم ان كان هذا لك رضا فبلغني رضاك وان كان هذا سخطا فانك أولى بالعفو( ).
ويبين الحديث العناء والمشــقة التي كان عيســى يلقاها من الناس في السياحة بين القرى، يبرئ مريضهم، ويهدي العاصي ويصلح المفسد منهم، ويتلقى الأذى بصبر وحكمة ويدفع عن أصحابه ليكون هذا الرفع درساً لهم في الصبر، لأنه يؤدي رسالة في تبليغ الناس وانذارهم واصلاحهم، فتحمل الأذى ليكون هذا الأذى مناسبة للتوجه الى تعالى بالإستغفار والإنابة وسؤال العفو منه سبحانه.
وفيه بيان بان ما يصيب الإنسان من الخير والشر انما هو في عين تعالى وهو مناســبة للإستغفار وسؤال العفو، ليس من انسان من اهل زمان عيسى الا ولعيسى عليه يد وفضل فآيات الإبراء وان اصابت الزمنى الا انها عنوان لنزول الرحمة الإلهية على الناس وتبعث الســكينة والرضا في النفوس، وتطرد الخوف من المرض، بالإضافة الى البركات الخاصــة التي تتغشى المكان الذي يكون فيه عيسى .
التاسع والثلاثون : أخرج عن ابن جليس قال: قال عيسى ان الشيطان مع الدنيا ومكره مع المال وتزيينه عند الهوى واستكماله عند الشهوات( ).
جاء حديث عيسى للتحذير من الشيطان بالإخبار عن اتخاذه مباهج الدنيا مدخلاً للإستحواذ على قلب الإنسان، فيزين له حب الدنيا، ويجعله يلهث وراءها ويطمع في المزيد منها، فتتسع آماله، ويكثر من السعي في طلبها ولا يرى غيرها مع انه خلق للعبادة والذكر، وفي الحديث تحذير من الدنيا للملازمة بينها وبين الشيطان، فاذا أقبل عليها الإنسان تلقاه الشيطان بالأغواء، كما أخبر عيسى عن موطن خداع الشيطان والسبب الذي يحتال فيه بخفية ويبث وسوسته ونفخه وخيله ورجله الا وهو حب المال.
ان ابليس يزين للإنسان حب المال وجمعه ليجعله يجتهد في حيازة المال من غير التفات الى أحكام الحلال والحرام، وفي الدعاء أعوذ بك من مكر الشيطان، وقد أنعم على المسلمين وشرع لهم أحكام الزكاة، وأعانتهم على التقيد بها لتكون سبباً لطهارة الأموال وتزكيتها، ولتبعث في النفس الحرص على طلب الرزق الحلال واجتناب الحرام في موارد الكسب.
والإسلام لم ينبذ الغنى، ويحذر منه بل جعله وسيلة لأداء العبادات واعانة الفقراء، مما يدل على أهلية المسلمين لتصرف بالأموال بما يرضي وعدم جعله برزخاً دون الذكر والفرائض.
نعم رغب بالفقر ومنع من اليأس او القنوط بسببه وجعله مفتاحاً لدخول الجنة وسبباً لتخفيف الحساب وفي الحديث: فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً.
ويعتبر اتباع النفس الشهوية من أهم مصائد وحبائل ابليس، فلذا جاءت الشرائع السماوية بالتحذير من اللذات، ولقد كانت وسوسة ابليس لآدم وحواء وترغيبه بأكلها من الشجرة التي نهاهم عنها سبباً لهبوطهما الى الأرض قال تعالى [ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ]( ).
لتكون هذه الوسوسة درساً لبني آدم وحرزاً من الإفتتان والأغواء ومانعاً من الإصغاء لإبليس وعلة لإستدامة عداوته، وجاء الإسلام بأحكام الشريعة المتكاملة التي تحول دون تأثير الشيطان على المسلم او المسلمة فالصلاة اليومية مثلاً واقية عقائدية وسور يمنع من الميل الى الشهوات، وفتح باب التوبة للمسلمين ودعاهم الى الإستغفار والإنابة، ليكون فيها طرد للشيطان من القلوب.
الأربعون : أخرج أحمد عن وهب بن منبه قال في كتب الحواريين إذا سلك بك سبيل البلاء فاعلم أنه سلك بك سبيل الانبياء والصالحين وإذا سلك بك سبيل أهل الرخاء فاعلم أنه سالك بك غير سبيلهم وخولف بك عن طريقهم( ).
الظاهر ان الحواريين كانوا يكتبون ما يقول عيسى ويحتفظون به، ولو على نحو الموجبة الجزئية ,وكان يحذر من الدنيا على نحو دائم ومستديم، سواء في مناسبة موضوع او حكم او ابتداء من عنده، وكأنها عدو للإنسان لمنع أصحابه من الركون اليها والإغترار بها، وكان أعظم درس يقدمه في ذلك سيرته اليومية، اذ انه دائب على الإعراض عنها بما يجعل الإنسان في كل زمان يشعر بصعوبة محاكاته في عفته وزهده، قبل ان تصل النوبة الى ما سخر له من الآيات، واستحضاره للزاد والذهب وإستغنائه عنه , واحيائه للشاة بعد أكلها ونحوها.
لقد أراد عيسى تهيئة الحواريين لما ينتظرهم من صنوف البلاء والأذى، وهو أمر لابد ان يحصل لأنهم أظهروا عزمهم على الثبات على الإيمان، والكفار أرادوا قتل عيسى مع الدلالات والبراهين التي جاء بها فمن باب الأولوية ان يوجهوا سهامهم نحو من يبقى على شريعته ويعمل بما أحله عيسى مما حرمته التوراة وأكد حقيقة وهي أن البلاء ملازم للأنبياء والصالحين، وان المؤمنين أهل الصلاح، ويرد عليهم ما يرد على الأنبياء من الأذى والعوز والحاجة ليكون تذكيراً بتقوى ولزوم طاعته.
ويمنع الحديث من الجزع واليأس عند التعرض للإبتلاء فالأمر الذي يظن الإنسان وقوعه يختلف عن الأمر الذي يأتيه فجأة او كان يظن نقيضه، وذكر الحديث طريقين لا ثالث لهما، وهما طريق البلاء وطريق الرخاء، وجاء التحذير من الثاني باعتباره موضوعاً ينسي الآخرة ويحول دون الذكر، ويجعل الإنسان ينشغل بمنافع الدنيا والتنافس فيها.
ولقد تجلت مضامين البلاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ولاقوا شتى صنوف الأذى من المشركين والكافرين، ثم دخلوا سوح المعارك دفاعاً عن بيضة الإسلام وجهاداً في سبيل ، وذاقوا حرارة السيف، وألم الفراق، وأختاروا الشهادة برضا واستبشار ومن الآيات في التأريخ الإسلامي ان الدنيا أرخت نفسها وأظهرت نعمها لهم فلم يلتفتوا لها.
الواحد والأربعون : عن مالك بن دينار قال: قال عيسى انما أبعثكم كالكباش تلتقطون خرفان بنى اسرائيل فلا تكونوا كالذئاب الضوارى التى تختطف الناس وعليكم بالخرفان , مالكم تأتون وعليكم ثياب الشعر وقلوبكم قلوب الخنازير , البسوا ثياب الملوك ولينوا قلوبكم بالخشية , وقال عيسى ابن آدم اعمل باعمال البر حتى يبلغ عملك عنان السماء وحبا في الله ليس ما عملته أغنى ذلك عنه شيئا , وقال عيسى للحواريين ان ابليس يريد أن يبخلكم فلا تقعوا في بخله( ).
ويتضمن الحديث ثلاث أحاديث:
الأول: لوم وعتاب للحواريين في كيفية عملهم للدعوة والسعي لدخول الناس الإسلام.
الثاني: خطاب أخلاقي موجه للإنسان.
الثالث: تحذير الحواريين من ابليس ومكره.
لقد أراد عيسى تأديب الحواريين والدعاة وتعليمهم لزوم اتخاذ صيغ التواضع في الدعوة واجتناب الزهو والكبر بسبب الإيمان، او محاولة اكراه الناس على دخول الإسلام وان كان هذا الدخول واجباً على المكلفين وجاءت الدعوة له مقرونة بالآيات والبراهين.
لقد أراد منهم عيسى ان يتصرفوا مع الناس بمثل ما يريده منهم وان كانوا بعيدين عنه ,وبعد ان يرفع الى السماء.
والكبش فحل الضأن أراد عيسى بهذا الوصف ان يقوم الحواريون بالدعوة الى ولكن بلطف وسكينة وما تطمئن له النفوس، وتنجذب له القلوب من غير قسوة، لذا نهى وحذر من ان يكون الدعاة الى الإسلام أهل قسوة وطمع، والذئب الضاري هو الذي أعتاد أكل لحوم الناس، وأجترأ على الصيد ,ذكره مثلا للتحذير من الإكراه في الدين.
وأراد عيسى ان يكون باطن الإنسان مثل ظاهره، ليس من تناقض بينهما، فلا يظهر الســكينة ويخفي البطـش والقسوة والمكر واذا كان ثمة اختلاف بينهما، فليظهر بمظاهر العز والوقار وأسباب النعمة، ويجب ان يكون في قوله وفعله منقطعاً الى ، تبدو عليه سيماء الخـشــوع والخشــية من وآثار مناسك العبادة، وقــد مدح المسلمين في التوراة والإنجيل، قال تعالى [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ] ( ) ليفوز المسلمون وأهل القرآن بما جاء به الأنبياء وما أوصوا به أصحابهم.
وقول عيسى (يا ابن آدم) خطاب موجه للناس جميعاً وليس للحواريين وحدهم، في دعوة نبوية لإشاعة اعمال الصلاح والإحسان بين الناس، فهي آلة لنزع رداء الخصومة ومنع الخلاف والإقتتال، ووسيلة مباركة لبعث روح الود والتعاون بين الناس، والإكثار من عمل الصـالحات حتى يطلع عليها أهل السماوات بشرط ان لا تأتي رياء ولأغراض دنيوية، بل تكون بقصد القربة وحباً لله تعالى واعانة للفقراء والمساكين في دعوة لإكتساب المعارف الإلهية.
ثم حذر عيسى من حبائل ابليس اذ انه يحاول الوسوسة بما يبعث على البخل والحرص في النفس الإنسانية , والبخل والشح من الأخلاق المذمومة وحاجز دون مساعدة المحتاجين.
وقد يكون مانعاً من أخراج الحقوق الشرعية اذا أستحوذ على النفس والجوانح.
الثاني والأربعون : عن الحسن بن على الصنعانى قال بلغنا أن عيسى عليه السلام قال يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يخفف عنى هذه السكرة يعنى الموت , ثم قال عيسى لقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافتي من الموت على الموت( ).
من سمات الصالحين الإستعداد للموت، والخشية من هول المطلع، وسؤال تخفيف سكرات الموت.
وليس فيه تمني الموت، بل هو شاهد على الإقرار به كحق وخاتمة حتمية للحياة الدنيا، والموت أمر وجودي , قال تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( ).
وتعتبر النبوة مدرسة الإستعداد للموت، وما من نبي الا وأجتهد في اعلان الخشية من الموت، والإحتراز من شدة سكراته بالدعاء والعمل الصالح في تأديب للناس أنتفع منه المسلمون , ويدل الحديث على ان عيسى يستعد للموت في إشارة الى وظائف العبودية , ومنع الغلو فيه , وبلحاظ رفعه فيه مسائل:
الأولى: ان عيسى لم يكن يعلم بانه سيرفع الى السماء، وكان ينتظر اجله كباقي الناس.
الثانية: كان يحتمل وقوع الموت في أي وقت خصوصاً مع احساسه الكفر برسالته من بني اسرائيل.
الثالثة: المراد هو الموت بعد ان ينزل في آخر الزمان ويغادر الدنيا حينئذ بقبض روحه الطاهرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ولقد أراد عيسى تأديب النفس والأصحاب باستحضار الموت، وعدم مغادرته عن الحافظة والوجود الذهني.
وتعليم اصحابه والمسلمين لزوم الإحتراز بالعمل الصالح، والتوقي من سكرات الموت بالإستعانة بدعاء الصالحين، وفي الحديث مدح للحواريين لما يتضمنه من رجاء النبي لقبول دعائهم فيه.
ولقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على استحضار الأجل والموت في كل مناسبة وورث المسلمون منه تراثاً عظيماً في هذا المقام وصار مدرسة مستقلة لها قواعدها وأصولها، ووسيلة لأداء الفرائض وكتابة الوصايا وقضاء الديون والحقوق عن الميت بعد وفاته، وقد حذر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ضغطة القبر لشمولها لكل انسان ودعا الى الإحتراز منها بالدعاء والإستغفار.
الثالث والأربعون : أخرج أحمد عن وهب بن منبه أن عيسى عليه السلام كان واقفا على قبر ومعه الحواريون وصاحب القبر يدلى فيه فذكروا من ظلمة القبر ووحشته وضيقه فقال عيسى قد كنتم فيما هو أضيق منه في أمهاتكم فإذا أحب الله أن يوسع وسع( ).
يبين الحديث ان عيسى يحضر الدفن هو وأصحابه، ليعطيهم درساً عملياً مدركاً بالحواس عن خاتمة الإنسان.
والظاهر انه ليس من معرفة وصلة تربطهم وصاحب القبر , ومع ان عيسى كان يحيي الموتى باذن ويخرجهم من قبورهم ويزاح التراب عنهم بقدرته تعالى، فهو لم يقم باحياء هذا الميت قبل دخوله القبر، ولم يطلب منه الحواريون ذلك، وليس من دليل على انه احياه بعد هذه الموعظة وفيه وجوه:
الأول : ان الموت أفضل من الحياة لصاحب القبر.
الثاني : في الإحياء فتنة شخصية.
الثالث : فيه أذى يلحق عيسى والحواريين كما لو أتهمه أهل الميت أو اعداؤه بانه ساحر، ولإكتفاء الحواريين بالآيات التي رأوها.
ويبين الحديث جانباً من أسرار النبوة باجراء دراسة مقارنة تبعث الخشية في قلوب السامعين، وتجعلهم يعتبرون من الموعظة وينتفعون منها ويستحضرون اموراً اخرى مشابهة لها، فقد أظهر الحواريون التقوى والخشية من بذكر ضيق القبر وفيه استغناء عن الدنيا ولما أدرك عيسى بلوغهم الى هذه المرتبة من الخشـية، نقلهم الى مسألة أخرى فذكرهم بنعمة الخلق والإبداع وربط بين أول الحياة وآخرها ,وهداهم الى سلاح لدفع الفزع من ضيق القبر وعدم الإبتلاء به وهو الدعاء وسؤال سعة القبر, وهو سبحانه قادر على جعله روضة من رياض الجنة.
الرابع والأربعون : وأخرج أحمد عن وهب قال قال المسيح عليه السلام : أكثروا ذكر الله وحمده وتقديسه وأطيعوه فانما يكفى أحدكم من الدعاء إذا كان الله تبارك وتعالى راضيا عليه ان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي واصلح لي معيشتي وعافني من المكاره يا الهي( ).
يعتبر الدعاء مدرسة جامعة، أرتقى فيها الأنبياء منازل الأسوة والريادة وحرصوا على جعل الناس يقتدون بهم وشملت الجميع عمومات قواعد اللطف الإلهي، ومنها ان سبحانه يتفضل على العباد أفراداً وجماعات بتذوق حلاوة استجابة الدعاء وتنزل الإفاضات وكأنها من غير أسباب ظاهرة، ليدخل الدعاء ضمن قوانين السببية وبما هو أعم من المادة والمحسوس.
وقدم عيسى ذكر باعتباره حصانة وكنزاً والثناء عليه تعالى وتقديسه بصفاته الحسنى، وحث على طاعته تعالى واجتناب معاصيه لما من الملازمة بين الطاعة والدعاء.
لقد جعل الدعاء ذخيرة في الأرض، واراد ان يصل الناس الى كنوزه ويأخذون من درره، فبعـث الأنبياء ليكونوا قادة في الدعاء، وفي قوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ]( ) أي انه كـثير الدعاء.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رائد مدرسـة الدعاء، ولا ينشغل عنه ولا يفرط فيه على كل حال، فهو يتوجه الى بالدعاء في ساعة الشدة والرخاء، وفي السعة والضيق، والحضر والسفر.
لقد دلّ الأنبياء الناس على سر مكنـون من الإرادة التكوينية، فمتى ما أراد العبد ان يصعد بروحه الى عالم الملكــوت فعليه ان يلجــأ الى سـلاح الدعاء، ومن وظائف الدعاء ان الإنسان يتخلص به من أدران الرذيلة والعادات المذمومة فأوصى به لأنه ذكر لله وانابة واستغاثة واقرار بالربوبية، وتسليم بقدرته تعالى وسعة رحمته ومغفرته.
الخامس والأربعون : عن أبى الجلد ان عيسى عليه السلام قال للحواريين بحق أقول لكم ما الدنيا تريدون ولا الآخرة قالوا يا رسول الله فسر لنا هذا فقد كنا نرى انا نريد احداهما قال لو أردتم الدنيا لا طعتم رب الدنيا الذى مفاتيح خزائنها بيده فاعطاكم ولو أردتم الآخرة أطعتم رب الآخرة الذى يملكها فاعطاكم ولكن لا هذه تريدون ولا تلك( ).
يعتبر الحديث من خزائن النبوة لما فيه من مضامين العرفان ومخاطبته العقل الإنساني، وجعل الإنسان يستنبط الدروس والعبر منه ومن مفاهيمه، فمع التنافي بين الدنيا والآخرة الا انهما متحدان في الماهية وكل واحدة منهما طريق الى تقوى وعبادته، وسبب لإصلاح الذات وتهذيب النفس، وتتقوم المعرفة الإلهية بطاعته تعالى والتسليم بان مقاليد الأمور بيده سبحانه ان طلب الدنيا بالدعاء سبيل لتوظيفها للآخرة.
لقد أراد عيسى بيان حقيقة وهي ان مفاتيح الخير كلها بيد ، وعلى الإنسان ان يدرك حتمية عالم الآخرة.
وهذا الإدراك يجعله يستغني عن الدنيا وينشغل عنها بالإستعداد للآخرة بالطاعة والتقوى، او انه يجعل الدنيا مزرعة لها.
السادس والأربعون : عن أبى عبيدة ان الحواريين قالوا لعيسى ماذا نأكل قال تأكلون خبز الشعير وبقل البرية قالوا فماذا نشرب قال تشربون ماء القراح قالوا فماذا نتوسد قال توسدوا الارض
قالوا ما نراك تأمرنا من العيش الا كل شديد قال بهذا تنجون ولا تحلون ملكوت السموات حتى يفعله أحدكم وهو منه على شهوة قالوا وكيف يكون ذلك قال ألم تروا ان الرجل إذا جاع فما أحب إليه الكسرة وان كانت شعيرا وان عطش فما أحب إليه الماء وان كان قراحا وإذا أطال القيام فما أحب إليه ان يتوسد الارض( ).
لقد أستثمر الحواريون وجود عيسى بين ظهرانيهم، فسألوه عن خصوصيات الواقع اليومي وكيفية التزود بالحاجات الشخصية والضرورية من المأكل والمشرب والمسكن، فجاء جوابه غاية في الزهد ويتمثل بثلاثة أطراف:
الأولى :اكل خبز الشعير والبقل وما تنبته الأرض من الخضر.
الثانية : شرب الماء القراح أي الماء المطلق الذي لا يخالطه شيء من عصير فاكهة وورد ونحوه.
الثالثة : اتخاذ الأرض فراشاً وموسداً.
لقد أراد عيسى تشريع سنن الزهد وتثبيتها في الأرض، وقد حرص على التقيد بها فيأتي فعله سابقاً لقوله لتنفذ الموعظة في القلوب ويكون الناس اذناً صاغية.
وعندما ذكر الحواريون ما في أوامر عيسى من الشدة جاء جوابه لينقلهم الى عالم الملكوت والشــوق اليه وكــيفية الوصــول اليه بالجوع والعطش وهجران الدنيا، كي ينقطع كل واحد منهم الى الآخرة ويرجو لقاء ربه.
ولقد جاء الإسلام بالصيام فريضة على كل مسلم ومسلمة ليتدبروا حقيقة الدنيا ويستقرئوا سبل الآخرة وطرق الجنة، وكانت كفته معادلة لكفة الغنى والسعة والثروة.
فان المسلم يشــعر بالجوع والعــطش ضــمن التكاليف الشرعية فيشتري الآخرة، ويتزود من الصــيام مفاهيم الصبر والتقوى، وهو لم يأكل البقـل ويشرب الماء القراح، بل انه يمتنع في أيام الصيف الحــار عن الأكـل والشــرب مطــلقاً طــاعة لله تعــالى وامتـثــالاً لأمره.
ويلازم الصيام المسلمين في أجيالهم المتعاقبة، فهو درس عملي متجدد للزهد ولم يعترض او ينكر أحد من المسلمين آيات الصيام وفرضه على المسلمين بل ان الصحابة والمسلمين في كل زمان يتلقون شهر رمضان بالغبطة والسعادة ويحرصون على احياء لياليه بالصلاة وتلاوة القرآن لتهبط شآبيب الرحمة على الناس جميعاً فتصيب البر والفاجر وتدفع عنهم السخط الإلهي بتقوى المسلمين وتعاهدهم للفرائض والمناسك.
السابع والأربعون : أخرج أحمد عن عطاء انه بلغه ان عيسى عليه السلام قال ترج بالبلغة وتيقظ في ساعات الغفلة واحكم بلطيف الحكمة لا تكن حلسا مطروحا وأنت حي تتنفس( ).
جاء الخطاب بصيغة المفرد، ولا يمنع من اعتباره خطاباً عاماً للحواريين وغيرهم، وهو من خطابات الزهد فقد حرص عيسى على تثبيت مسائله بين الحواريين بالفعل والقول، وما كان بالفعل ابلغ من القول سواء على نحو الإطلاق، ام بخصوص عيسى الذي أنفرد بانبساط الزهد على أيام حياته كلها.
والبلغة هي الكفاية ولبس الخشن، وأكل الجشب – بفتح الجيم وسكون الشين- وهو الغليظ الخشن، ويطلق على الطعام الذي ليس معه أدام، أي يتبلغ في يومه بأقل القوت وأيسره لسد الرمق، وقد جاء الإسلام ليؤكد ان الدنيا كلها دار بلغة الى الآخرة، وفي الحديث في الدنيا انها دار بلغة ومنزل قلعة) أي انها موضع التهيء للآخرة بالتقيد بالفرائض والواجبات، والتزود بالأعمال الصالحة، واجتناب المعاصي.
وقد دأب الأنبياء على التحذير من الغفلة لما فيها من ترك للواجبات وميل للدنيا واللهو فلذا أكد عيسى على أعتماد الفطنة واليقظة وأخذ الحائطة للدين، وعدم تفويت الفرص والخلود للراحة، بل لابد من الجد والإجتهاد في سبيل ، والإشتغال بطاعته وتسخير ايام العمر في مرضاته تعالى.
الثامن والأربعون : وأخرج ابن أبى شيبة عن عبد الله بن سعيد الجعفي قال: قال عيسى بن مريم عليه السـلام بيتى المســجد وطــيبي الماء وادامي الجوع وشعاري الخوف ودابتي رجلاي ومصــطلاي في الشتاء مشارق الشمس وسراجي بالليل القمر وجلسائي الزمنى والمساكين وامسي وليس لي شيء وأصبح وليس لي شئ وأنا بخير فمن أغنى مني( ).
لقد أجتهد عيسى بالقول والعمل لتأكيد حقيقة وهي ان حبه تعالى لا يحصل مع تعلق القلب بحب غيره، فأستغنى عن كل مباهج الدنيا، لتتجلى مفاهيم الإصطفاء والقرب والتزود من صفات الكمال ويبقى سابحاً في عطاء تعالى وأنوار الجلال والبهاء.
وحرص عيسى على جعل الناس يرون الدنيا بحقيقتها خالية من الزوائد والإضافات التي تكون برزخاً دون عشق الآخرة واللهفة الى نيل نعيمها والخلود فيه.
ولم يكتفِ عيسى بان لا يكون له بيت ومسكن دائم وملك مخصــوص، ورد عــرض الآخــرين عليـه ببــناء بيــت له، بــل انه أخبر بوجود بيت له، وهو المسجد في دعوة للمسلمين بملازمة المسجد.
وقد تفضل سبحانه على المسلمين بالفرائض اليومية، وجاء الكتاب والسنة بالحث على صلاة الجمعة والجماعة، وما فيها من الثواب والأجر وأسباب الصلاح والرشاد ومن الآيات في سلامة العقيدة الإسلامية وتعاهد المسلمين لسنن الأنبياء وحرص المسلمين المتصل والدائم على بناء المساجد وعمارتها بالعبادة والذكر، ومن بدائع الأحكام وصيغ التخفيف فيها
والطيب هو العطر الذي يتطيب به الإنسان فأراد عيسى عليه الإسلام الإخبار عن لزوم النظافة وطهارة البدن، و ان ارادة التطيب لا تكلف العبد المال والجهد، لأن الماء مباح للخلائق.
وقد جاء القرآن بالإخبار عن طهارة الماء وتطهيره لغيره، ومن اجل الفوز بالثواب شــرع جواز انشــاء مســجد في السـفر والبيداء على نحو المســمى، باحاطـة بقعة من الأرض بالأحجار مع قصد المسجدية.
لقد فضل المسلمين بجعل الطهارة الترابية بديلاً للطهارة المائية عند تعذرها، كي يبقى المسلم في طهارة دائمة، وجامعاً لشرائط أداء الصلاة التي لا يجوز تركها بأي حال من الأحوال، فتؤدى في الحضر والسفر، والصحة والمرض والشباب والهرم، ومن قبل الرجال والنساء، والسادة والعبيد، وفي الخبر: جعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً( ).
والأدام هو الطعام الذي يكتفي الإنسان بأكله في الغذاء او العشاء مائعاً كان او جامداً كاللحم والتمر والفاكهة، وقد أخبر عيسى عن اختياره الجوع أداماً لتأديب الحواريين وليكونوا شــاهدين على زهده، فهو لم يترك الآخرين يخبرون عن سيرته وسننه، بل تحدث بنفسه باعتبار انه أختار الجوع ورضي به أداماً، مع انه أمر عدمي، ولكن عيسى البسه لباس الوجود باخباره عن قصده وعدم السعي لتركه، مع القدرة على ضده من الشبع وأكل الطيبات، وفي الحديث دعوة للتنزه عن اللهث وراء الدنيا، وحث على القناعة والإكتفاء بالقليل منها.
والشعار – بكسر الشين وقد يفتح– ما تحت الدثار من اللباس وهو ما يلي شعر الجسد، فالخوف من ملازم لعيسى وملتصق ببدنه وجوانحه، وجوارحه، وفي الحديث: “الفقر شعار الصالحين” أي علامتهم التي يعرفون بها، وقد جاء الإسلام بالتوكيد على التقوى والخشية من ، ونزل القرآن بأحكام التقوى التي تشمل ابواب العبادات والمعاملات والأحكام، فليس من موضوع الا وللإسلام فيه حكم، وفي الحديث: “ينادي بالصلاة كنداء الجيش بالشعار” لأنها عنوان التقوى والخوف المتجدد منه تعالى عند كل فريضة.
وفي حديث أولياء : “اتخذوا القرآن شعاراً، والدعاء دثاراً” أي صار لهم القرآن كاللباس الملازم لهم لكثرة تلاوتهم لآياته وتدبرهم بمعانيها، وجعلوا من الدعاء سلاحاً يقي البدن الآفات والأمراض، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وأكد عيسى بانه ملتفت الى الدابة وركوبها للتنقل بين القرى وتسخيرها في الدعوة الى الإسلام، واراءة الناس الآيات البينات، ولكنه اختار السير على الأقدام وتحمل المشاق في سبيل ونيل الثواب، في دعوة للناس للسعي في دروب الخير، من غير تعليق للجهاد على توفر الأسباب والمقدمات الإضافية.
وأخبر عن حاجة الإنسان للدفئ في الشتاء وأيام البرد، ولكنه بين حقيقة كونية وهي ان الدفئ لا ينحصر بالثياب الثقيلة والمساكن المحكمة الأبواب والمنافذ، بل انه لم يذكر النار التي يوقدها الناس من أغصان الشجر اليابسة والمباحات.
انما أخبر عن اكتفائه بضياء الشمس وما تبعثه من الدفئ الذي يسره لكل انسان من غير جهد او مشقة او سعي، ومن خصائصه عدم امكان حجبه على من يطلبه، وكان يتخذ من نور القمر سراجاً يستنير به ويهتدي لقضاء الحاجات العامة.
ثم أخبر عن الذين أختارهم ليتبادل معهم الحديث ويكونوا جلساءه وأصحابه وهم أصحاب العاهات والمساكين، والزمنى جمع زمن وهو المبتلى بعاهة وآفة تدوم زماناً طويلاً.
لبيان انه يجالسهم لما فيه نفعهم وشفائهم وانقاذهم مما هم فيه ولمواساتهم على الأذى والبلاء الذي هم فيه، وفيه دعوة للمؤمنين بعدم النفرة او الإعراض عن أصحاب العاهات والمساكين ولزوم تعاهدهم والعناية بهم.
ومن مفاهيم الحديث انه تحذير من مجالسة الأغنياء وأرباب الأموال والجاه، لما فيها من إماتة القلب والإنشغال بالدنيا.
ثم أخبر عن عدم ملكيته لشيء من حطام الدنيا في كل يوم من أيام حياته، وأكد حرصه على لزوم الفقر واجتنابه عناوين الملك والإنشغال به، ومع هذا يعتبر نفسه اغنى الناس بالرسالة والنبوة وحاجته لله تعالى، واستغنائه عن غيره.
ولقد جاء القرآن بالدعوة الى والإخبار عن الحاجة الى رحمته وفضله، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( ).
وحصنت الشريعة المسلمين بالصلاة والصوم والزكاة وجعلت شعارهم في الحج التلبية، ليعلنوا في كل يوم وكل فريضة من الفرائض فقرهم الى رحمة ، واقرارهم بالحاجة اليه، ويتخذوا ما رزقهم من المال وسيلة لطاعته والإمتثال لأوامره واكتناز الصالحات سواء بالعبادات البدنية كالصلاة والصوم، او المالية كالزكاة والخمس او البدنية المالية كالحج.
علم الرداء
تعتبر سنن الأنبياء أعظم الثروات العقائدية والأخلاقية، وهي مدرسة يومية متجددة تتغشى كل الميادين, ومن خصائصها انها فرع الوحي والتأديب الإلهي، فتارة يأتي مصلح ويستعمل عقله ويجاهد نفسه ويرسم له منهجاً قائماً على الفطنة ومواساة الفقراء ويلاحظ كيفية جذبهم والتأثير في نفوسهم، اما الأنبياء فان الأصل في سيرتهم رضا تعالى والإنقطاع اليه سبحانه.
وسنن الأنبياء تنبسط على الوقائع والحوادث المختلفة، ففي كل حادثة تجد تراثاً غنياً للأنبياء وكأن التأريخ يعيد نفسه بتشابه الوقائع والأحداث ويدعو المسلمين للرجوع الى سنن الأنبياء لتكون لهم عوناً على اجتياز الإختبار والإمتحان، وهي مناسبة لإتباعهم واحراز الثواب بحسن الإختيار، ولمنع اللبس والجهالة والغرر والتحير والترديد والإشتباه، وهذه الثروة من منافع وفروع تعدد الأنبياء وتعاقبهم، وتيسر امر حفظ قصصهم بالقرآن والسنة وثنايا التأريخ.
وقد تقدم في الجزء السابق ذكر بعض القوانين والنظريات الخاصة بالآيات التي جاء بها الأنبياء مثل نظريات عموم، ومنافع، وحياة، واطلاق المعجزة، ونظرية الإعلام، وقانون التوثيق، وغيرها.
ليكـون كل فعل من النبي أســوة حســنة للمســلمين ومانعاً مــن الزلل واللبس وليتخــذها المســلمون منهجــاً ثابتاً ويلبســونها رداء وصبغة اســلامية خاصة فتكون عنواناً خاصاً بهم، ويتميزون به بين الناس فلبس الخشن والتواضع والتنزه عن الدنيــا وزينتها من معالم الحياة الإسلامية، واســتطاع المسلمون التحــلي بأخـلاق الأنبياء، ليحققوا النصر في ميادين القتال، ويكونوا مؤهلين لقيادة الأمم نحو الهدى والرشاد.
لقد ألبس المسلمون الزهد والتواضع والتقوى رداء اسلامياً وأصبحت تركة الأنبياء فيها خاصة بهم وملكاً لهم، واستطاعوا ان يقاوموا اغراء الدنيا زمن تداخل الحضارات وتقارب البلدان.
ومن وظائف المسلم ان يقتدي بالأنبياء في سيرتهم اليومية وان يجعل هذه السيرة مناسبة للدعوة الى الإسلام، اذ ان الأنبياء جاءوا بالبشارة بالإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ قيم الإسلام وتعاهدها الى حين تسليمها للمسلمين.
قانون المحاربة
تعتبر الدنيا دار صراع بين الحق والباطل، والخير والشر، وتتعدد أفراد وموضوعات هذا الصراع وتحصل الغلبة لأحدهما على الآخر هناك وهناك، وبين الحين والآخر، وتسود بينهما فترات من التزاحم والتعارض الذي قد لا يصل الى درجة الصدام وقيام أفراد الطرفين بالإقتتال، الا ان التناقض والنفرة حاكمة بينهما، فلا ســبيل للإلتــقاء والتقارب بينهما.
وهــذا التناقض والصراع لا يعني انهما بعــرض واحـد، بل بينهما تباين من جــهة القــوة والضـعف , فكفة الحق والخير هي الراجحة دائماً وهي التي تملأ النفوس غبطة.
ولأن العقل يساعد على ترجيحها ترى أهل الباطل يشعرون بخطئهم وذنبهم، وتظهر الحسرة عليهم اثناء الفعل او بعده او عند الممات، وان غلبت الشقوة عليهم فان الآخرة هي الفيصل وفيها بيان الصواب والصدق من الخطأ والكذب ويتجلى الفصل مما يترتب على كل واحد منهما من الجزاء.
ومن وجوه الإفتتان في الدنيا اغواء الشيطان ووسـوسته وتزيينه المنكر والقبيح للناس، ويأتي الشيطان عنواناً وصفة لإبليس، كما يقصد منه كل متمرد من الجن والإنس.
ولقد اجتهد الأنبياء في محاربة الشيطان مطلقاً، أي ابليس وأعوانه، وهذه المحاربة من اهم وظائف النبي وهي جزء من رسالته ودعوته الى ، ويتلقى بسببها انواع الأذى ومن المحاربة ايضاً الصبر على هذا الأذى اذ ان الشــيطان لا يكـف عن احد، كما ان اعـوانه يفزعون لنصرته وتأتي هذه النصر بعدة صيغ وطرق بحسب الحال والمقال، ومناســبة الحكم والموضــوع ويســعون لإيجــاد ثغـرة لينفــذوا منها ويلبسوا الحق بالباطل ويدلسوا على الناس، وجهاد الأنبياء ضد الشيطان على وجوه:
الأول: قهر النفس الشهوية والغضبية واستقرار ملكة العصمة من الذنوب، وتعاهد ارادة التقوى.
الثاني: اخراج الناس من حال الجهالة وجعلهم يحترزون من الغرر.
الثالث: دفع أسباب الضلالة والغواية عن الأفراد والمجتمعات، بان يكون النبي أسوة لهم في الخير والصلاح، مع المواظبة على الدعوة الى .
الرابع: اعتبار لغة البشارة والإنذار، واتخاذها سلاحاً دائماً.
الخامس: الإستعانة بالوحي، لإصلاح النفوس والمجتمعات.
السادس: تبليغ احكام التنزيل، والسعي لجعل الناس يمتثلون لما تتضمنه الأوامر والنواهي.
السابع: ايجاد الأصحاب الذين يكونون جنوداً لدرء شرور الشيطان، ويبذلون الوسع لإنقاذ الناس من براثنه وحبائله.
الثامن: التخــلي عن زينة الدنيا، والإكتفاء بما يســد الرمــق، وعــدم اتخاذ القصور والأنعام والزروع، مع امكان حيازتها بسهولة، وفيه درس للناس وحاجب دون انصاتهم لأغواء الشيطان واثارته لحب الدنيا في النفوس، ومحاولاته تخويف الناس من الفقر مقدمة للكسب الحرام والتسابق على الدنيا، والإنقطاع اليها، وهذا الإنقطاع حاجب دون التدبر في الآيات الكونية وما يأتي به الأنبياء من البراهين.
ان محاربة الشيطان من أهم وظائف الأنبياء، وفيه دلالة على الجهد العظيم الذي يبذله النبي وما يلاقيه من العناء ومع هذا فانه لايفتر او يكل او يتعب من السعي لطرد الشيطان عن القلوب والمجتمعات.
ومن موارد الصراع ان النبي يدعو لذكر في السر والعلانية، والشــيطان يحــاول ان يشــغل الناس عن الذكــر والعبــادة، قــال تــعالى [ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ]( ).
بحث بلاغي عقائدي
من وجوه البديع وأقسام الأطناب “التعليل” ويأتي لإفادة التقرير وبيان الأهمية والموضوعية، وتوكيد الحجة والبرهان ومواطن رحمته ورأفته وحلمه تعالى.
ويأتي التعليل في القرآن على تقدير جواب لسؤال وحروفه متعددة منها اللام، ان، اذ، كي، لعل، ومنه ما ورد في الآية السابقة فعندما أحس عيسى كفر القوم برسالته توجه الى الناس وقال [مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ] أي انه ارادها دعوة عامة لهم جميعاً، وحينما أختار الملأ منهم الكفر والصــدود، توجه بالنــداء لجمع الأنصـار على نحو الخصوص.
ويأتي لبيان الغاية من الخلق , نحو قوله [ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً]( ).
ومن التعليل مجيء مكر ، فلم يأتِ مكر الا بعد ان مكروا، وقابلوا النعمة بالجحود والتعدي, والنعمة من وجوه:
الأول: بعث رسول الى بني اسرائيل.
الثاني: حصول الآيات البينات على يديه.
الثالث: النفع العام والخاص بالآيات التي جاء بها.
الرابع: البركات والإفاضات التي تصاحب النبي، تلك التي تتغشى الناس عامة، سواء في الزراعات او التجارات او الأموال، وصرف البلاء والقحط والحروب.
الخامس: تجديد الدعوة الى ، واحياء مجالس الذكر ولو على نحو محدود.
اما جحودهم فكان على وجوه:
الأول: عدم الإستجابة لعيسى .
الثاني: ظهور الكفر والنكران للرسالة.
الثالث: التواطئ للمكر بعيسى.
فالآية تبين قاعدة كلية تتضمن الإنذار والوعيد، ومضمونها “مواجهة النعمة بالكفر سبب لمكر ”.
ومن نعمه وفضله تعالى على بني اسرائيل انه سبحانه لم يبطش بهم، بل رفع عيسى اليه، وجعل المسلمين هم الأعلون ثم بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدعوهم الى الإسلام بالآيات والبراهين العقلية والحسية ولينذرهم ويحذرهم قال تعالى [فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ]( ).
قوله تعالى[ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] الآية 55
الاعراب واللغة
إذ: ظرف لما مضى من الزمان، قال : فعل ماضِ وفاعل، والجملة في محل جر بالإضافة، يا: حرف نداء، عيسى: منادى مفرد علم، مبني على الضم المقدر على الألف.
اني متوفيك: اني: ان واسمها: متوفيك: خبر ان مضاف والضمير الكاف مضاف اليه،
ورافعك: الواو: حرف عطف، رافعك معطوف على متوفيك، الي: جار ومجرور متعلقان برافعك.
وجاعل الذين: جاعل: معطوف، الذين: اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة أتبعوك، صلة الموصول لا محل لها، فوق: ظرف مكان متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجاعل، الذين: مضاف اليه.
جملة كفروا: صلة الموصول.
ثم الي: ثم: حرف عطف للتراخي، الي: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، مرجعكم: مبتدأ مؤخر، فاحكم بينكم: الفاء: حرف عطف للتعقيب، أحكم: فعل مضارع مرفوع، بينكم: ظرف مكان متعلق بـ(احكم).
فيما كنتم: فيما: جار ومجرور، كنتم: كان وأسمها، والجملة صلة الموصول.
تختلفون: جملة فعلية في محل نصب خبر كنتم.
وتوفي فلان وتوفاه : اذا قبض نفسه، مأخوذ من استيفاء أيامه وبلوغ اجله، والوفاة: المنية، والموت.
وجعله: صيّره، ويأتي الجعل بمعنى الصنع والخلق، والظن.
في سياق الآيات
لقد تفضل الله سبحانه بذكر قصة عيسى في هذه الآيات بابدع واجمل الذكر وعلى نحو الترتيب البياني، بما يمنع من اللبس والجهالة والغرر وكل انسان يسمع الآيات يفقه مضامينها،فبعد اعلان الانصار ايمانهم، واتجاه الكافرين بنبوة عيسى الى المكر والكيد، وتفضل الله تعالى بابطال كيدهم وشرهم، جاءت هذه الآية لتخبر عن تفضله سبحانه على عيسى برفعه اليه، لبيان عظيم منزلته عند . والشرف الذي ناله من آمن به من الحواريين.
إعجاز الآية
في هذه الآية اعجاز من وجوه:
الأول :ماينفرد به عيسى برفعه الى السماء.
الثاني : نجاته من الكافرين والظالمين.
الثالث : نزاهة عيسى .
الرابع : العز والرفعة للمؤمنين برسالة عيسى .
الخامس : بيان فضله تعالى ومصاديق المكر الحسن لعيسى والحواريين.
السادس : من الاعجاز ان الاكرام والعز بلحاظ إتباع عيسى ولم ينحصر بالحواريين لتبقى الآية حية.
السابع : اتصال المعجزة في خلق عيسى من غير اب ثم كلامه في المهد ثم ملازمة جبرئيل له في جهاده ودعوته الى ثم تفضل برفعه الى السماء.
الآية سلاح
ان عزوجل يتفضل على الانيباء والمؤمنين بالعز والرفعة، ويمنع وصول الاذى لهم من قبل الكافرين، فلقد اراد للكلمة التوحيد البقاء في الأرض.
ان رفع عيسى آية تشريفية للمسلمين باكرام قادتهم وسادتهم من الآنبياء بآية اعجازية، وكيفية لايقدر عليها الا ، تكون خارقة للاسباب والعلل، وفي الآية دعوة دائمة للناس للايمان برسالة عيسى ، وشهادة سماوية على صدق نبوته، وانفراده بآيات خاصة به تبقى ضياء ايمانياً تهتدي به اجيال المسلمين.
وفي الآية توبيخ وذم للكافرين لاختيارهم البقاء في منازل الخزي، لان العز والفخر لمن آمن بعيسى وصدق بالآنبياء، وآمن بالآيات التي جاءوا بها.
مفهوم الآية
من الآيات في نظــم القرآن، مجئ المصـداق بعد القاعدة الكلية من غير فصـل، فبعــد اخبار الآية السابقة بان عزوجــل لن يترك الكافرين يواصلون مكرهم، وانه سبـحانه يجزي على المكر بمثله وبما يحبط اعمال الكافرين, جاءت هذه الآية شاهدا على نصرته للأنبياء والصالحين.
وفي الآية مسائل:
الاولى: مجئ المكر الحسن بابهى صوره، وتعلقه بالنبي.
الثانية: ان عزوجل بعث عيسى رسولاً الى بني اسرائيل، وضمن له السلامة والنجاة من القوم الكافرين.
الثالثة: تجلي المضامين القدسية في خلق عيسى بنفخ روح في امه بان رفعه عزو جل اليه ونجاته من الصلب.
الرابعة: الاعجاز في كيفية مغادرة عيسى الارض.
الخامسة: بقاء عيسى حياً وعدم موته، مع انه لم يبق مع الناس في الارض.
السادسة: نجاة عيسى من كيد الكافرين.
السابعة: استمرار وجود الشريعة التي جاء بها عيسى ، فرفع عيسى لم يضر الشريعة والعقيدة التي جاء بها من عند بل انه سبب اتساعها وبعث قوة اضافية فيها.
الثامنة: في الآية انذار للكافـرين بان عزو جل يرد عـلى مـكرهم بصيغ اعجازية لايقدرون على مغادرتها، ولم يدركها عالم التصور.
التاسعة: اقتران التطهير والتزكية بالرفع فمع ان الرفع وحده آية عظمى الا ان التطهير جاء ملازماً له، في اكرام اضافي لعيسى .
العاشرة: لم ينحصر الاكرام والمكر الحسن بعيسى بل شمل الحواريين بجعلهم اعزة في الحياة الدنيا والآخرة، وكأن همهم هو نجاة عيسى واستمرارهم على الجهاد في سبيله تعالى، فجاء الفضل الالهي عاماً شاملاً للنبي وانصاره.
الحادية عشرة: بقاء مضـامين الآية مفتوحة ومتجددة الى يوم القيامة سواء كان برفع عيسى ، او بعز المؤمنين.
الثانية عشرة: انتفاع المسلمين من لغة الاكرام والثواب الواردة في هذه الآية، لانها جاءت بصيغة الاتباع، وقد اتبعه المسلمون بتصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب الذي نزل عليه من عند .
الثالثة عشرة: تبعث الآية البشارة والغبطة في نفوس الذين صدقوا برسالة عيسى .
الرابعة عشرة: في الآية دعوة لاكرام المسلمين للنصارى، وجعل مائز بينهم وبين الكفار يتقوم بالتصديق بعيسى الذي اراده عنوان تشريف وفخر.
الخامسة عشرة: الذل والخزي الذي يلحق الكفار بسبب تكذيبهم بآيات النبوة.
السادسة عشرة: توكيد الآية على المعـاد واليـوم الآخر، وفيه وعد ووعيد.
السابعة عشرة: حتمية الحساب والجزاء، وكشف الحقائق واثبات الحق.
إفاضات الآية
يســعى المؤمنون للـفرار الى ، والنجــاة بارواحـهم من واقــع الحياة الدنيا، اما عيسى فان عزوجل هو الذي رفعه اليه ببدنه وروحه، اكراماً له، وليكون الرفع شاهداً على التفاني المحض في مرضاة المعبود.
وفي الآية بيان لشوارق الجمال والجلال في المكر الالهي، والذي يأتي من عالم الأمر الذي هو افضل العوالم ويكون عاماً ومتغشياً للنبي واصحابه وانصاره , ليبقى المؤمنون غرفى في نورجلاله، متطلعين الى سماء الائه.
ويكون رفع عيسى حضوراً بشرياً في السماء، ومقدمة لانتقال الانسان الى عالم الجنان في الآخرة، ودليلاً على حياة الارواح في عالم البرزخ، وفيه شاهد بالواسطة بين عالم الشهود والغيب، وفي الآية دعوة للناس للارتقاء في عالم السماء، بالاخلاص في العبادة والجهاد في سبيله تعالى، والمواظبة على الدعوة اليه لتسيح النفس في عالم الملكوت.
التفسير
قوله تعالى [إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ]
بعد اختتام الآية السابقة بالاخبار عن مكره تعالى وانه احسن وافضل واكرم الماكرين، لتتضمن الوعد والبشارة والامل للمسلمين، وتمنع من اليأس والقنوط، جاءت هذه الآية لتكون شاهداً على المكر الحسن منه تعالى وبما يصلح حال المسلمين والناس، إذ إن رفع عيسى رحمة له، وللحواريين والناس جميعاً.
فمن الاعجاز ان الآيات ملازمة لعيسى من وجوه.
الاول: دعاء جدته بسؤال الولد ونذره لخدمة الكنيسة.
الثاني: ولادة امـه مريـم وتفـرغـها للعبادة لتكـون وعـاء مباركـاً لروح .
الثالث: بشـارة المـلائكـة لمريم عليـها السـلام بـولادته.
الرابع: كلامه مع الناس وهو في المهد.
الخامس: بعثته رسولاً الى بني اسرائيل.
السادس: الآيات التي جاء بها من عند ، كآية الطير وابراء الأكمه والابرص واحياء الموتى.
السابع: مجيؤه بشـريعة جـديدة وتحليل بعض ما حـرم علـى بني اسـرائيل.
الثامن: مصاحبة الآيات لعيسى في حياته كلها.
التاسع: اختتام ايامه في الحياة الدنيا، برفعه الى السماء، لتكون خاتمة حياته اعجازاً مشابهاً للاعجاز في ولادته.
وجاءت الآية بقول واخبار منه تعالى لعيسى بانه سيتوفاه ويرفعه الى السماء وفيه اكرام خاص لعيسى ان يخبره تعالى بما سيقع له، وما سيناله من المنزلة العظيمة برفعه الى السماء ونجاته من القوم الظالمين.
لقد اراد له ان يستعد للرفع والانتقال من الدنيا وفيه اشارة الى علم الانبياء بأوان اجلهم واستعدادهم له باعتبار ان ذكر عيسى من باب المثال بما يتعلق بمغادرة الدنيا وقد تقدم ذكر قانون المغادرة( ).
وفي الآية وجوه:
الاول: رفع عيسى الى السماء، وهو حي، والوفاة هنا ان يلقى عليه سلطان النوم ساعة الوفاة، قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا]( )، وعن ابن عباس: اني متوفيك وفاة نوم، وقال: اماته ثلاث ساعات.
الثاني: الوفاة هنا بمعنى الاستيفاء، أي قبضه وافيا لم يضره الكافرون، ولم يصبه من مكرهم سوء.
الثالث: القبض والاعادة اليه تعالى، خصوصاً وان عيسى يختلف عن غيره، بان كان خلقه بنفخ روح القدس في مريم، فلم يطرأ عليه الموت كباقي البشر لان خلقه روحاني، بل رفعه اليه ، وهذا الرفع لا يعني عدم وصول الموت والمنية اليه، بل ان اجله ومتوسط عمره يختلف عن اعمار الناس، لذا رفعه اليه، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: كيف انتم اذا نزل ابن مريم فيكم وامامكم منكم( ).
الرابع: القدر المتيقن من الوفاة في المقام تعطيل عمله في الدنيا وجعل الحواريين يدعون إلى شريعته، ثم تأتي البعثة النبوية لتكون الدعوةالى الاسلام.
الخامس: ان عمر وايام عيسى تتم وهو في السماء، فما دام اجله لم يحن بعد، والكافرون يبيتون المكر به, فان عزوجل يرفعه اليه, ويخلصه من القوم الظالمين, وهو من اصدق وجوه المكر الحسن الذي يتفضل به تعالى، وفيه اشارة الى عدم إستعصاء مسألة عليه سبحانه، فالمتبادر الى الاذهان ان الأمر محصور بين اثنين:
أولاً: ان يبطش الكافرون بعيسى.
ثانياً: ان ينجو منهم.
وسبيل النجاة شبه متعذر لان عيسى يواصل رسالته بين بني اسرائيل وهم موحدون ويعملون بشريعة موسى, وجاءهم عيسى بالآيات ومع هذا ارادوا الاعتداء عليه والمكر به فما بال الامم الاخرى من أهل الشرك و الضلالة، فجاء الامر الالهي برفع عيسى اليه.
ومن سنن الأنبياء تلقي الأذى من قومهم، وكما رفع عيسى فانه سبحانه أنعم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان أوحى اليه بالهجرة من مكة، عندما عزم المشركون على قتله ليجعله يدخل بعدها بسنوات الى مكة فاتحاً ومعه عشرات الآلاف من المهاجرين والأنصار ويقيم صرح الإسلام ,وفي الهجرة ثم الفتح تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومرتبة لم ينلها غيره من الأنبياء.
السادس: الآية من المقدم والمؤخر, والتقدير : اني رافعك الي ومتوفيك عن قتادة, أي تكون الوفاة بعد الرفع.
والارجح الاول, وهو المشهور بين علماء التفسير فيحمل اللفظ على ظاهره من غير تقديم او تأخير, وتكون الوفاة متقدمة زماناَ على الرفع، وتحتمل امرين:
الاول: انها امر مستقل ويستمر مدة من الزمان.
الثاني: الوفــاة مقدمــة ووعــاء للرفــع، وليس بينـها وبـين الرفـع فترة.
والأصح الثاني فلم يأت الرفع مباشرة ولابد من دلالات لتقديم الوفاة وعدم حصول الرفع مباشرة من دون مقدمات .
وظاهر الآية ان عيسى بقى بعد رفعه الى السماء حياً، ومنزهاً عن النفس الشهوية والغضبية، ليكون مع سكان السماوات وهم الملائكة، فبعد ان كان ابليس وهو من الجن مع الملائكة أصبح الإنسان معها في مسكنها وعبادتها، لأن ابليس عصى وابى السجود لآدم، فجاء رفع عيسى لتقواه وصبره في جنب ولأنه خلق من النفخ في مريم من روح ، وكأن هذا النفخ حال بينه وبين القتل والدفن في الأرض هذه المرة.
لذا ذهب بعضهم الى التقديم والتأخير وان المراد ورافعك الي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد نزولك مرة أخرى الى الأرض ولا تصل النوبة اليه، بل انه رفع وفاة وغياب عن الدنيا والعمل فيها كالنوم المستديم والمراد به انتقال الروح الى الملأ الأعلى ومعها تم رفع الجسد.
ولابد من ملازمة بين أمور أربعة:
الأول : اسرار خلق عيسى بالنفخ الملكوتي.
الثاني : رفعه الى السماء.
الثالث : عدم زواجه أو تركه ولدا أو إرثاً.
الرابع : نزوله آخر الزمان إلى الأرض.
ولو لم يطلب الكفار عيسى بغية التخلص منه وقتله، ففيه وجوه:
الأول: يبقى في الأرض وبين الناس يدعو الى طاعة ويبث الدعوة سنوات عديدة أخرى، ثم يموت ويدفن.
الثاني: جمع أنصار آخرين.
الثالث: لا يجد غير الحواريين.
الرابع: يرفع الى السماء عند حلول أجله.
الخامس: ان أوان الرفع هو موعد أجل عيسى ، فلو لم يرفع الى السماء لمات في ذات الوقت.
السادس: لقد طلب الكفار عيسى وأنتزعوا حكماً بصلبه، وضبطوا مكانه وحصروه في بيت مخصوص، فهو مصلوب لا محالة لولا ان منّ عليه وألقى شبهه على غيره، فالرفع جاء فضلاً ولطفاً من تعالى، وهذا الوجه هو الأصح.
وموضوع جمع الأنصار الجدد تكفله الأنصار من بعده خصوصاً وان عيسى بعثهم في القرى والأمصار.
ولقد وردت أخبار في كيفية وعلة رفع عيسى عندما أرادوا قتله، وهي:
الأول: ألقى تعالى شبهه على بعض الأعداء، ممن قام بالإخبار عن مكانه والموضع الذي هو فيه.
الثاني: ان عيسى ، قام بترغيب أحد أصحابه كي يلقى شبهه عليه حتى يقتل مكانه.
الثالث: جاء رفع عيسى بالجسد والروح معاً، وقال جماعة بل توفاه ورفع روحه اليه دون الجسد.
الرابع: قال النصارى بان عيسى تم صلبه وقتله.
وفي رفع عيسى وردت بعض الإشكالات:
الإشكال الأول: ان القول بالقاء شبه انسان على غيره يلزم الشك في الأشخاص، للتردد في الظن وانه يلزم الغلط والإشتباه في المبصرات وان صحابة النبي لا يعرفون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإحتمال ان شبهه القي على غيره، فيتعذر تبليغ الأحكام.
والجواب ان الشبيه لعيسى لم يكن في ايام حياته كلها، وانما كان لنجاته منهم، بعد ان صدر أمر الحاكم بقتله وجاءوا يطلبونه، وضيقوا عليه في مكان اقامته.
وهناك في الإسلام حالة للشبه جرت في حالات متعددة وهي نزول جبرئيل بصورة دحية الكلبي، ليحدث النبي وعندما يلقى المسلمون دحية يسألونه ينكر الأمر، ويخبر عن عدم تشرفه برؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك اليوم.
ولم يحصل ان حدث اشتباه وخلط وسفسطة، لأن المسألة تتعلق بآية اعجازية مخصوصة، فكيف بالآية التي جاءت لعيسى ساعة مغادرته الدنيا فهذا الشبه مقدمة لرفعه، وفيه توكيد بان القوم كانوا عازمين على صلب وقتل عيسى، فليس لأحد منهم ومن غيرهم أن يقول: كان بالإمكان تدارك الأمر وعدم قتل عيسى لو لم يرفعه وانهم في الحقيقة لم يطلبوه لقتله، بل للمناظرة وان الحاكم اراد أن يطلع بنفسه على الآيات التي جاء بها عيسى ، فأقام الحجة وأظهر عزمهم على قتله بقيامهم بقتل شبهه.
الإشكال الثاني: ان جبرئيل كان ملازماً لعيسى أيام حياته وأستدل عليه بقوله تعالى [إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ]( )، فلماذا لم يقم جبرئيل بانقاذه, وطرف جناحه يكفي لأمة من البشر انقاذاً او عذاباً.
والجواب ان ملازمة جبرئيل لعيسى فضل منه تعالى على عيسى وعلى بني اسرائيل والناس جميعاً، ولكن الملك لا يفعل الا ما يأمره قال تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
وقد تجلى فعل جبرئيل بان رفع عيسى الى السماء بأمره تعالى بدليل ان الآية قالت [وَرَافِعُكَ إِلَيَّ] أي انها نسبت الرفع اليه سبحانه، ولا يمنع ان يكون هذا الرفع بوسائط ملكوتية.
ثم ان ملازمة الملك للنبي لا تحول دون قضاء امر ، فعند ساعة قضاء الموت مثلاً او نزول مصيبة فان الملك لا يستطيع ان يحول دون الأمر النازل منه تعالى.
الإشكال الثالث: لقد جاء عيسى بالمعجزات والآيات، كآية الطير والإبراء واحياء الموتى، فلما لا يبطش بالذين جاءوا ليقتلوه ويلقي الزمانة عليهم ويجعلهم عاجزين عن الوصول اليه.
والجواب ان عيسى جاء بما فيه الشفاء والصلاح وليس الأذى والبطش، والإرادة التكوينية من مختصاته تعالى، والنبوة رحمة للناس، ولو جاء عيسى بالعذاب والأذى لأدى هذا الأمر الى نفرة الناس من شريعته سواء أيام حياته او بعدها، كما ان صيغ العقاب والعذاب بيده تعالى ,واراد إمهال بني إسرائيل والناس لحين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لذا جاءت الآيات بان بعض الأنبياء يشكو الى ربه قومه وما يواجهونه به من الصدود والأذى، وينزل الملك بالعذاب تارة، وتارة أخرى يمهلهم، وقد تجلت أفضلية الإسلام بان دخل قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام بعد ان لاقى هو وأصحابه منهم صنوف الأذى.
لقد أراد لعيسى الرفعة والعز برفعه، وهذا الرفـع لم يحصل الا بعد الثبوت الفعلي لتعدي القـوم عليه واصـرارهم على البطش به.
الإشكال الرابع: ان قادر على ان يخلص عيسى من أعدائه بان يرفعه الى السماء من غير القاء شبهه على غيره وقتل شخص آخر لم يكن مطلوباً للقتل.
والجواب ان تعالى قادر على كل شيء، ومن وجوه القدرة الإلهية في المقام:
الأولى : هداية بني اسرائيل جميعاً وانقيادهم لعيسى في شريعته، خصوصاً مع رؤيتهم للآيات التي جاء بها.
الثانية : جعلهم يتجنــبون ايذاء عيســى او التعــرض له ولأصـحابه فيكون كل واحد منهم أمام خيارين لا ثالث لهما، اما الإيمان والتصديق برسالة عيسى او تركه وشأنه يبث دعوته بين الناس، ويحظى الجميع ببركاته ومنافع نبوته لاسيما وانه واحد منهم وبين ظهرانيهم.
الثالثة : اشغالهم بأنفسهم، واصابتهم بانواع البلاء التي تحول دون اجتماعهم على المكر بعيسى .
الرابعة : انقاذ عيسى من غير ان يلقي شبهه على غيره، ليكون رفعه آية اعجازية أخرى.
الخامسة : وجوه أخرى من قدرته تعالى لإنقاذ عيسى، وهي أكثر من أن تحصى او يحيط بها العقل البشري، ولكن اراد للرفع ان يتم مع القاء أوصاف شخص عيسى على رجل آخر, والله لا يسئل عما يفعل، ولابد لهذا الكيفية من دلالات عقائدية منها:
الأول: ان أجل هذا الرجل قد حان.
الثاني: في هذه الكيفية تشريف له وعسى ان تكون نوع مغفرة.
الثالث: ان القوم لا يرضون الا بحصول الصلب والقتل ولو لم يحصل الصلب فلربما جاءوا على الحواريين وقتلوهم، وهم نواة الإيمان، والمقدمة البشرية التي تبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: هذا الشبه حجة على بني اسرائيل، وثبوت ارادتهم لصلب وقتل عيسى دون غيره من الغايات.
الخامس: الشبه آية اعجازية في الدين الإسلامي، لأنه يثبت ان عيسى لم يصلب ويقتل، بخلاف عقيدة النصارى فيه وانه قد تم صلبه وقتله، وفي الإسلام رحمة بأهل الكتاب جميعاً، ودفع للفتنة والإقتتال فيما بينهم.
ومن المعروف ان مسألة قتل عيسى لا تزال من أسباب الخصومة بين اليهود والنصارى الى يومنا هذا، فجاء الإسلام بالإخبار الحق الذي يمنع من الجهالة والغرر.
السادس: مسألة القاء الشبه لا ينظر لها بلحاظ الشبيه الذي تعرض للصلب وحده، بل بشؤون بني اسرائيل والناس عامة وبخصوص الحواريين ونجاتهم كما نجا عيسى .
السابع: الأرجح ان الشبيه كان حكمه الصلب والقتل وفق أحكام الشريعة وان جاء بصيغة العفو والتشريف له سواء كان هذا الشبيه عدواً لعيسى، او انه من أصحابه وكان في نية القوم وقصدهم صلبه ايضاً او انه يصلب عند رفع عيسى لإتجاه الكافرين صوب الإنتقام من أصحابه.
الإشكال الخامس: في القاء شبه عيسى على غيره، ايهام وتلبيس على القوم لأنهم ظنوا انه عيسى ولم يكن الا شبهه، وهو أمر لا يليق بحكمته تعالى.
والجواب ان القوم الظالمين أرادوا ارتكاب جريمة قتل نبي، مما يعني انهم يستحقون أشد أنواع العذاب، ثم ان الظالم يستحق الإيهام خصوصاً اذا كان هذا الإيهام سبباً لدفع اذاه ومكره وكيده، وهو نوع عقوبة عاجلة له.
الإشكال السادس: لقد تواتر في أخبار النصارى ان عيسى قد قتل وصلب، والمعروف ان التواتر يفيد القطع ولا يجوز الطعن به، والجواب ان طريق التواتر ينتهي الى آحاد، ثم انه معارض مع التنزيل، وكل ما هو معارض للتنزيل يطرح ولا اعتبار له ولابد من وجود خلل فيه، وهو ظاهر بموضوع الشبه باعتبار ان الشبه لم يحصل للكافرين فقط بل لغيرهم من الحاضرين, ومن سمع منهم, ونقل عنهم.
وقال الرازي (والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوة عيسى بل في وجودهما، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل)( ).
ولكن النبوات لم ترد عن طرق التواتر وحده بل بالعقل والقطع، والبرهان, فلا ملازمة بين ثبوت النبوات وبين دعوى النصارى قتل عيسى , كما انه قياس مع الفارق موضوعاً وحكماً.
ودعوى رؤية عيسى مصلوباً شاهد على حصول تمام الشبه وقيام الحجــة على الكافــرين في قتله، وهذا التشــبيه والحجــة عليهـم مناسبة للإنتقام منهم من قبل بعض ملوك الأرض فيما بعد، وســريان الندامة فيما بينهم وميــل الكثيرين لشريعة عيسى، ودخولهم في الإسلام عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الإشكال السابع: لقد بقى المصلوب اياماً حياً فلو كان غير عيسى لإستبان الأمر، ولأعلن بنفسه انه ليس عيسى خصوصاً عند الجزع وشدة الأمر ولشاع قوله هذا وتذكر بعض مصادر النصارى ان عيسى توجه في السنة الرابعة من رسالته الى بيت المقدس وكانت المرة الأخيرة التي يقصده اذ ان اعداءه سعوا للبطش به، ومنهم الأحبار والفريسيين الذين يظهرون التقوى ويؤتون في الخفاء ما يخالفها.
فأخذه أحبار اليهود وقادوه الى كبيرهم ثم الى بونسبيلات والي البلاد من قبل الرومان، فحوكم وحكم عليه بالجلد والتعذيب والصلب، فلما مات أكفهرت السماء، وزلزلت الأرض وأنشق حجاب الهيكل، وفتحت القبور وبعد موته بثلاثة أيام أحيي عيسى وتجلى للحواريين ليعلمهم آخر الأحكام ويبشرهم بانهم سيلحقون به في الملأ الأعلى.
ولكن القرآن جاء ليدفع الوهم وينقح تأريخ النبوة ويمنع من الغلو والتفريط والدعوى غير الصحيحة والتي تكون قابلة لورود الإشكالات وأسباب الشك عليها.
فلقد أكرم عيسى في حياته وجهاده وحال دون صلبه او قتله ورفعه الى السماء , واماالإشكال بعدم اعلان المصلوب عن نفسه عند الجزع والألم، ففيه وجوه:
الأول: ليس هناك دليل على عدم اعلانه عن نفسه، فقد يكون اعلن عن نفسه ,ولكن الناس لا يسمعون قوله.
الثاني: ان اعلن عن نفسه وسمعه الناس، وهم على فريقين:
أولاً: الكفار الذين يصرون على عدم تصديقه لأنهم يشعرون بتخلصهم من عيسى، وقد يظنون هذا الإعلان نوع سحر وخداع.
ثانياً: الحواريون الذين يعلمون بان خلص عيسى من الصلب.
الثالث: لا يصدق القائمون على أمر الصلب الدعوى ويظنون انها خداع وزيف ومحاولة للنجاة من القتل.
الرابع: لقد جعل الشبيه قطعاً عندهم بان المصلوب هو عيسى، فلا يكلفوا أنفسهم النظر في أدعائه، بل انهم يشفون صدورهم حينما يسمعون تلك الدعوى، ويظنون ان عيسى قد جزع كما يقوله بعضهم بان عيسى جزع عند الصلب، والمدار على ما ورد في التنزيل مما يخص شأن عيسى وان الله رفعه وطهره وزكاه.
لقد جاء قوله تعالى [إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] لإنتهاء الغاية وهو اعجاز وشاهد على عظيم قدرته وفضله تعالى على المسلمين، وفيه ترغيب بالإسلام ودعوة للتدارك، وتحذير للأبناء لعدم البقاء في منازل الكفر، وانذار من محاربة المسلمين وايذاء الأولياء.
وتبين الآية سـراً من أسرار الإرادة التكوينية التي تتحدى الوقائع وما يخفيه الدهر من الأحداث ووجوه الإبتلاء، فتؤكد الآية ان مقاليد الأمور بيده تعالى وانه أراد للمؤمنين العز , وهل ان رفعهم وعزتهم بالقياس مع الذين كفروا، ام انه مطلق وعام، الجواب هو الأخير، فالرفعة وعلو الشأن للمؤمنين دائم ومستديم بلحاظ التلبس بالإيمان، وهذه الرفعة على وجوه:
الأول : في المنازل الإجتماعية.
الثاني : في السلطنة والحكم.
الثالث : في جمع الأموال والصناعات.
الرابع : في المكاسب والتجارات والزراعات.
الخامس : في أحكام الشريعة والتقيد بها، وما يترشح عنها من سلامة المجتمعات الإسلامية وصحة الأعمال.
السادس : اتيان الأعمال العبادية والأخوة الإيمانية، وهذه الأمور وان كانت علة ومقدمة للرفعة الا انها تصلح ان تكون بذاتها عنواناً للرفعة والعلو.
السابع : عدم وصول يد العدوان والمكر الى المؤمنين، وكأن محاولة قتل عيسـى ورفعه سـبب لنجاة المسـلمين وتخليصهم من الأذى النوعي.
فان قلت: ان من اتباع عيسى من تعرض لأشد صنوف العذاب وإلإضطهاد لحمله على ترك المسيحية وكذا المسلمين عند بداية الدعوة كما في قتل ياسر وسمية.
قلت: ان الرفعة تلاحظ بالنوع والمجموع ولا يضر بها حدوث بعض النوادر المخالفة التي تأتي شاهداً على الرفعة ايضاً من خلال الثبات على الإيمان واقامة الحجة على الكافرين، فمع بطشهم وجحودهم فان المسلمين لا يتخلون عن دينهم، وفي الآية دعوة للناس عامة وللمسلمين خاصة للإٍستعداد الى يوم القيامة بالصبر وإرادة التحمل المقرونة بالثبات على الإيمان في القول والفعل.
آية الرفع
يقال: رفعه يرفعه رفعاَ أي جعله في مرتبة اعلى، ويأتي للمعنى المادي الحسي, وللامر المعنوي , وفي الحديث: ان تعالى يرفع العدل ويخفضه) أي يظهره ويعليه على الجور، او يتسلط اهل الجور,فيكون خفضه ابتلاء للناس, ومن أسمائه تعالى الرافع فهو الذي يرفع المؤمنين بالاسعاد والعز والتقريب الى رحمته.
وقال ابن منظور (والرفع : تقريبك الشيء من الشيء)، وفي التنزيل[وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ]( ), (أي مقربة اليهم ومن ذلك رفعته الى السلطان)( ).
ولكن الآية اعم, والرفع فيها يتضمن معنى الارتقاء والعلو , بقرينة منزلة السلطان وعلو منصبه، كما ان قوله تعالى [وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ] لها تفسيرات اخرى أرجح من المعنى اعلاه منها ان المراد بسط عالية, كما يقال بناء مرفوع، ونساء مرتفعات القدر في عقولهن وحسنهن.
ولقد رزق الأنبياء آيات ودلالات بينات تدل على صدق نبوتهم ولزوم إتباعهم، وفاز عيسى بعدد منها, وليصدقه الناس وينقادون اليه ويتبعون اوامره بما يمنع من الشك بنبوته، وانفرد بمصاحبة الآيات الظاهرة له من اول أيام ولادته، فكلم امه والناس وهو في المهد.
ثم جاء بآيات الطير، والابراء والأكل والادخار، واحياء الموتى مقيدة بالاخبار بانها باذن ، لتكون كل واحدة منها نعمة انحلالية ذات مصاديق متعددة، ليكون الناس شهوداً على نبوته، وكل واحد منهم حجة على نفسه وعلى غيره، ووسيلة للاعلان والاخبار.
وليتحصل شياع مفيد للاطمئنان والقطع بصدق الآيات، ويكون مستمراً لسنوات عديدة يدخل معها افواج من الناس النصرانية، ويكون هذا الدخول مقدمة لانتشار الاسلام عند بزوغ شمس البعثة النبوية المباركة، لما فيها من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم اتباعه.
ثم جاءت آية الرفع وهي قضية شخصية لم تحدث الا مرة واحدة، أي انها تختلف عن غيرها من آيات عيسى بان التكرار فيها ممتنع ذاتاً، ووحدة الرفع تدل على موضوعيته وكفاية الاتحاد في توكيد هذه الآية الاعجازية، وينفرد عيسى بآية الرفع، كما ورد موضوع الرفع في قصة ادريس وهو جد نوح قال تعالى [وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا]( )، وفيه وجوه:
الاول: أي جعله في مكان عال رفيع.
الثاني: ( انه رفع الى السماء الرابعة وهو المروي عن أنس وابي سعيد الخدري وكعب)( ).
الثالث: رفع امر عيسى الى السماء السادسة، عن ابن عباس، وقال مجاهد: رفع ادريس كما رفع عيسى وهو حي لم يمت، وقال الامام الباقر وجماعة: قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة.
الرابع: معنى الرفع هنا هو علو منزلته ورفع مرتبته بالرسالة كقوله تعالى [وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ]( ), أي ان المراد ليس رفعة المكان , وهو المروي عن الحسن والجبائي وابي مسلم)( ).
وبين رفع عيسى وإدريس عليهما السلام عموم وخصوص من وجه, فمادة الالتقاء الرفع والاكرام, ومادة الافتراق بحسب منطوق الآية وجوه منها:
الاول: ان رفع عيسى مطلق, ورفع ادريس جاء بذكر المكان وموضوعيته.
الثاني: جاء رفع عيسى بقيد الرفع اليه تعالى [وَرَافِعُكَ إِلَيَّ], اما رفع ادريس فان العلو صفة للمكان.
الثالث: موضوع رفع عيسى بتفضل تعالى باخباره به، واشارة الى انفراده بهذه الاية.
الرابع: جاء رفع عيسى مقترناَ بالتوفي والتطهير, بتقدم الأول عنه وتأخر الثاني.
لقد فاز عيسى بآية الرفع، وفيها مسائل:
الاولى: تشريف عظيم لعيسى.
الثانية: الآية شاهد على سعة فضله تعالى، وحفظه للانبياء في أشخاصهم.
الثالثة: عدم وجود حد لمكره تعالى.
الرابعة: شمول مكره تعالى بالقواعد العامة للطف الإلهي.
الخامسة: لحوق الخزي بالكافرين برسالة عيسى وتحذيرهم من الكفر برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة: تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه واظب على الجهاد في سبيله تعالى بواقية وحفظ منه تعالى الى ان اظهره على الكافرين, ونصره على القوم الظالمين, واقام صرح الإسلام قوياَ بأحكام شرعية متكاملة يتعذر والى يوم القيامة تبديلها وتغييرها.
وآية الرفع شاهد ومصداق تفسيري لآية الهبوط, فكما امر تعالى بهبوط آدم الى الارض فإنه سبحانه رفع عيسى اليه وجاء الهبوط بعد أكل آدم و حواء من الشجرة التي امرا باجتنابها، اما رفع عيسى فجاء تزكية واكراماَ و تشريفاَ له ولجنس الانسان وسعيه في الارض لاقامة صرح التوحيد, ليكون الرفع اخباراَ عملياَ للملائكة بان الإنسان مؤهل لخلافة الارض وإصلاحها بالتقوى والعبادة.
آية المشافهة
لقد جعل عزوجل للانبياء منزلة رفيعة لا يرقى اليها احد من البشر , وتوالت عليهم النعم الإلهية التي تتجلى بملازمة المعجزة لهم، وتهيئة الاصحاب والانصار والاعوان وإصلاحهم للرياسة العامة، وامتثال شطر من الناس لاوامرهم في عبادة , وقد تقدم ذكره في عدة قوانين منها النصرة, والامتثال, والصحابة, والمدد.
ومن الآيات الاعجازية التي فاز بها الانبياء تكليم لهم بصورة مباشرة كما في موسى مباركة، او الوحي بواسطة الملائكة ونطلق عليه (المشافهة) وبينه وبين التكليم عموم وخصوص مطلق، فالتكليم أخص من المشافهة لأنه بلا واسطة ملك رسول , فلذا سمي موسى كليم .
لقد تضمنت هذه الآية كلام عزوجل مع عيسى وقصده شخصياً في حديث الرفع اذ قال يا عيسى فجاء نداء الربوبية متوجهاً الى عيسى لتشريفه واكرامه، ومخاطبته واخباره بالرفع.
سواء جاء هذا الاخبار مباشرة، او بواسطة الملك والوحي وهو الأرجح فان الآية الكريمة لم تجعل برزخاً وفاصلة بين عزوجل وبين عيســى فيما يخـص القول والذكر، وإن حصل التكليم بالوحي والواسـطة الملكوتية, والأنبياء الذين ورد حديث معهم بلفظ (قال) في القرآن هم:
الأول : آدم في بداية خلقه في الجنة كما ورد في التنزيل [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( ).
الثاني : ابراهيم وهو من الرسل الخمسة اولي العزم، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ).
الثالث : موسى وهو كليم ومن الرسل الخمسة اولى العزم، قال تعالى [يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي]( )، كما ورد القول بلفظ النداء كما في ابراهيم .
الرابع : تفضله تعالى بالاستجابة لسؤال زكريا حينم طلب آية تدل على صدق علوق الولد بمعجزة بعد ان تقدم به العمر وعقر امرأته[قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا]( ).
ان المشافهة علم خاص، وبينه وبين الوحي عموم وخصوص مطلق فكل وحـي مشافهة وليس كل مشافهة هي وحي فمن افرادها ما هو أرقى مرتبة من الوحي، ويعتبر تشــريفاً واكـراماً للأنبياء خاصة وللمؤمنين عامة.
وآية المشافهة ليســت مجردة بذاتها، بل لها عنـاوين اضافية منتزعة من موضــوعها واحكامها كما انها تبين مرتبة خاصة للأنبياء الذين شرفهم تعالى بالوحي، وما عند الانبياء السابقين عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن لطفه تعالى ان رزقه المشافهة بمعانيها الكـريمة من خــلال مواضـيعها وما فيها من اسـرار قدســية، فليس في قصة عيسى من حديث وكلام لله مباشرة معه في ظاهر القرآن الا في حديث الرفع.
آية التوفي
لقد ذكرت الآية الوفاة قبل الرفع، وفيه مسائل:
الاولى: ان الوفاة امر عام يشمل الناس جميعاً، فكل انسان لابد وان يتوفى.
الثانية: من لطفه تعالى واكرامه لعيسى انه لم يمر بمرحلة الموت وزهوق الروح، بل جاء رفعه متعقباً للوفاة.
الثالثة: لقد جعل التوفي بديلاً لقبض الروح، ومافيه من الاذى والالم في تخفيف ولطف بعيسى.
الرابعة: كيفية الرفع ســر من اسـراره تعالى، لا يســتطيع الانسان الاحاطة بتفاصيله، فكذا توفي عيسى، ومجيء الرفع الى السماء عقبه.
الخامسة: في الآية اكرام للنبي محــمد صلى الله عليه وآله وســلم اذ ان رفعــه ليلة الاســراء من غــير ان يتوفاه، وأراه ملكــوت السماوات.
السادسة: جاء رفع عيسى بعد ايذاء بني اسرائيل له وظهور امارات الكفر برسالته عندهم، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد جاء رفعه في بدايات بعثته، ليكون مناسبة لتلقي الاحكام الشرعية في السماء وحجة على الكافرين وآية خالدة في العالمين، جاء القرآن بتوثيقها في دعوة للمسلمين للتفاخر بها واخذ الدروس منها قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى]( ).
السابعة: جاء التوفي بديلاً للموت بالنسبة لعيسى، لان صلته بالحياة الدنيا لم تنقطع، ولانه سينزل الى الارض كما وردت به النصوص الصحيحة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو احد وجوه تأويل قوله تعالى [وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً]( ).
لقد سأل يوسف عزوجل ان يتوفاه مسلماً ليحرز حسن الخاتمة، وفي التنزيل [تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( )، واما عيسى فقد قال تعالى انه سيتوفاه ويرفعه اليه، ولم تذكر الآية ان رفع عيسى على الاسلام ولكنه امر مستقرأ من مضمون الآية على نحو القطع لمواظبة عيسى على الدعوة الى تعالى والقرائن متعددة منها:
الاولى: ان الرفع اليه تعالى، وهو تشريف واكرام.
الثانية: مجئ الرفع مصاحباً للتوفي ولم يرد التوفي وحده بل جاء معه الرفع والرفعة والعلو والمقام السامي.
الثالثة: تفضله تعالى بتطهير عيسى وتنزيهه من الذين كفروا واذاهم.
ان عزوجل يتوفى الانفس ويقبضها بواسطة الملائكة، اما آية التوفي فهي امر خاص وفضل فاز به عيسى من بين الانبياء والبشر، لانها وفاة ذات معنى مخصوص، وليس فيها موت ونهاية للحياة، بل هي انتقال وارتقاء الى عالم السماء والرفعة والقرب منه تعالى ليعلم الناس ان رحمته تعالى قريبة منهم، وان بامكانهم العيش بجوار حضرة القدس بالعمل الصالح والصدق، والاخلاص.
وفيه اشارة بان فرداً من الجنس البشري في عالم الملكوت، فبعد ان عاش ابليس وهو من الجن مع الملائكة، عصى ربه واستكبر عن الطاعة والسجود لآدم، فخرج من الجنة مذموماً مدحوراً، صعد الانسان بدله وهو لا يزال حياً لم يمت بعد ليكون سبقاً للمسلمين في دخول الجنة، ونيل المراتب العالية فيها وليكون هبوطه الى الأرض في آخــر الزمان علامة واشـارة للملائكة لقرب يوم القيامة.
الرابعة: ملازمة الإسلام للأنبياء وإمتناع ألإنفكاك بينهما في آنات الزمان مطلقا .
وقال ابو بكر الواسطي، المراد من قوله تعالى [إِنِّي مُتَوَفِّيكَ] أي عن شهواتك وحظوظ نفسك)( ).
ولكن الآية اعم ومن المفاهيم القدسية في حياة عيسى انعدام الشهوة في قوله وفعله، وخلو حياته من الطمع وحب الدنيا، وكأن كل قول منه حكمة ودعوة للناس للتنزه عن الدنيا وزينتها.
لقد رفع عيسى الى السماء، ومع هذا فانه سبحانه نسب عائدية الرفع اليه تعالى [وَرَافِعُكَ إِلَيَّ] ممايعني ان الامر لا ينحصر بجهة الرفع وحدها وليس هو من باب تفخيم السماء، كما يحمل الكلام على ظاهره الا مع القرينة الصارفة وقد ورد في ادريس مايفيد ارادة الرفع المكاني، قال تعالى [وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا]( ).
وظاهر الآية افادة الترتيب، فالرفع يأتي بعد التوفي، والتطهير بعد الرفع، وهذا الترتيب لا يمنع من التداخل، وفيه دلالة على ان المراد من التوفي ليس الموت، لأن التطهير يجري على الحي اما الميت فتشمله عمومات العفو والمغفرة، والتطهير مرتبة وعلو ورفعة لعيسى وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان عيسى سينزل ويقتل الدجال.
وفيه آية اذ ان عيسى في ايام حياته ومدة نبوته لم يقتل ولم يجرح أحداً، بل تلقى الأذى بصبر وتحمل مع عظيم الآيات التي جاء بها، اما نزوله الثــاني فانه ســيقتل عدو الدجــال مما يفيد اتباعــه لمناهـج شريعة سيد المرسلين واتخاذ السيف سلاحاً عند الحاجة اليه، ولأنه لا رفع مرة أخرى، فليس امام المؤمنين الا الجهاد للغلبة على القوم الكافرين.
ولابد من ملازمة بين آيةالرفع والتطهير من الكافرين, وتحتمل على وجوه:
الأول : التطهير مصاحب للرفع ومقارن له.
الثاني : مجيء التطهير بعد الرفع، باعتبار انه من خصائص سكان السماوات.
الثالث : التطهير سابق للرفع وملازم للتوفي، ليكون مقدمة للرفع بلحاظ انه شرط للرفع الى السماء واخراجه من بين ظهرانيهم.
الرابع : المراد من التطهير هو السلامة من الكافرين والتفريق بينه وبينهم.
الخامس : نجاة عيسى من القتل، ومنع تعدي الكافرين والإجهاز عليه، فجعل النجاة من القتل تطهيراً.
السادس : الرفع جزاء لعيسى بالتخفيف عنه ورفع العناء والأذى الذي كان يلاقيه من الكافرين في صدودهم وجحودهم.
السابع : جاءت الآية لذم وتوبيخ الكافرين برسالته باعتبار انهم لا يستحقون بقاءه معهم.
الثامن : في الآية بيان للمنافع العظيــمة في الرفـع وانه تطهير ونقاء وأمن.
وقد أنعم على المسلمين وجعل نعمة التطهير ملازمة لهم في الحياة الدنيا بالتقيد بالعبادات وأداء الفرائض، فقد جعل الوضوء طهوراً، قال سبحانه [يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ] ( )، كما جعل سبحانه الزكاة طهارة للذات مع ان متعلقها المال، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( ).
وتبين الآية اكرام لعيسى بسلامته ونجاته من القوم الكافرين بالرفع اليه، وقد اختار ابراهيم الهجرة من العراق الى الشام للنجاة من الكافرين، فلماذا لم يخرج عيسى الى بلد آخر غير بيت المقدس والقرى المحيطة به، خصوصاً وانه إعتاد السياحة في الأرض والآيات تترى على يديه، لا تفارقه , فيه وجوه:
الأول: انتهاء مدة نبوته، وأدائه لرسالته، فشرفه تعالى بالرفع اليه.
الثاني: قد تمت ارادة قتله اذ ان الكافرين عزموا على صلبه، وقتلوا من وقع شبهه عليه فهو لم ينج الا بآية منه تعالى وهذه الآية توالت أفرادها برفعه الى السماء.
الثالث: لقد ظن بنو اسرائيل انهم قتلوه، فلو ظهر في مكان آخر فان ردهم وبطشهم سيكون أشد، وسيسعون الى تنفيذ الحكم الذي صدر من السلطان من جديد إن إستطاعوا.
الرابع: اذا كان بنو اسرائيل يقابلون الآيات التي جاء بها عيسى بالصدود والكيد والمكر، فما بالك بالمشركين والكفار الذين سيلجأ اليهم عيسى.
الخامس: عدم امكان الإنتقال الى أماكن أخرى بالقدرة الذاتية، لإحكام الكافرين القبضة على المدن والقرى، والتعاون في طلب عيسى وارادة قتله.
السادس: الرفع فضل منه تعالى على عيسى وعلى المسلمين وان يجعله ينزل مرة أخرى الى الأرض.
وجاء التطهير بصيغة المضارع وارادة المستقبل أي ان سيرفعه ويطهره، سواء حصل الرفع بعد الإخبار من غير فترة او كانت هناك فترة ومدة بين الأخبار وبين حصول الوفاة والرفع، والأرجح هو الثاني ليقوم عيسى باعداد الحواريين لوراثة الإيمان، والدعوة الى شريعته والبشارة بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الآية ذم للكافرين واخبار عن خسارتهم وضلالتهم بفقد عيسى .
وجعلت الآية الحسن والطهر بالنجاة من الكافرين وعدم مجاورتهم، فبعد ان أخبرت الآيات السابقة بأن عيسى احس منهم الكفر, وانهم مكروا به تضمنت هذه الآية نعتهم بالكفر أي ان لم يطلق عليهم صفة الكفر أصلاً, بل أرسل إليهم عيسى ولما احس منهم عيسى الكفر, بقي الامل برجوعهم وتوبتهم واحتمال دخول شطر منهم مع الحواريين ليكونوا من انصار واعوان عيسى, وحينما مكروا مكر عزوجل بلطف ورحمة.
وفي مكره سبحانه دعوة اضافية لهم للايمان والانابة والتوبة, وعندما اصروا على الكفر وعزموا على صلب عيسى وقتله نعتهم بالكفر وقال (الذين كفروا) ولم يقل سبحانه (ومطهرك من الكافرين) لارادة أنهم كفروا برسالة عيسى على نحو الخصوص وهو أخص من الكفر المطلق الذي يعني الكفر بالربوبية والرسالات, وان كان الكفر برسالته هو الآخر كفر وظلالة, وذكر الإحساس بالكفر وحده دون الكفر من مصاديق الرحمة الإلهية, وفيه دعوة بعدم نعت الناس بالكفر والفسق ونحوها من صفات القبح والذم من غير قطع وجزم وحصول يقين ونحوه بعدم إمكان التوبة والانابة.
(وقال الرازي: واعلم ان هذه ألآية تدل على ان رفعه في قوله (ورافعك الي) هو الرفعة و الدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة, كما ان الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة، كما استشهد بما قد يقوله السلطان: ارفعوا هذا الامر الى القاضي) ( ).
ولكن الكلام يحمل على ظاهره خصوصاَ وان القرينة تؤيد الرفع والعلو المكاني لنسبة جهة الرفع اليه تعالى (ورافعك الي) وان المراد بالرفع رفعه الى السماء ويقترن بالرفع المكاني العلو والدرجة و الشأن الرفيع , فمن مصاديق وثمرات الرفع المكاني الرفعة والمنقبة وقد لا يكون في الرفعة والدرجة علو مكاني وصعود الى السماء.
وتبين الآية الاذى الذي كان يلاقيه عيسى من بني أسرائيل وتدل بالدلالة التضمنية على قبح الصدود عن ألآيات وان إجتناب الحياة مع الكافرين طهارة ونقاء.
وفيه اشــارة الى البركة والخير في العــيش في مجتمعات اســلامية تتعاهد الذكر والصلاة، من غير ان يتعارض هذا الامر مع اختيار الجهاد والصبر في المجتمعات التي تسود فيها مفاهيم الكفر والجحود، والله واسع كريم.
وقد تفضل سبحانه وطهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القوم الكافرين إذ امره بالهجرة الى يثرب وزاد عليه من فضله بكثرة الأنصار والفتوحات ، ولم يبق الكافرون على كفرهم بل انهم دخلوا في الاسلام لتصبح الارض مكاناً للطهارة والنجاة من الكفر واهله الى يوم القيامة.
ولينزل عيسى على قوم طاهرين متطهرين ويكون عونا لهم ويقتل الدجال، فهو في ايام رسالته لم يقتل من الكافرين احداً بل اختار الصبر والتحمل ورفعه اليه، اما عنـد نزوله فسيكون على شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التصدي للكفر واستئصال رؤوســه من الارض وتطـهير الارض منهــم والاكتفــاء بالطهــارة التذاتية بالرفع الى الاسلام وهذا التطهير جاء بفضله تعالى وتشريع الجهاد في سبيله تعالى، واختيار المسلمين لقتال الكافرين والاجهاز عليهم.
وكما جاءت الآيات التي تجري على يد عيسى على نحو التعدد والكثرة، فان الآيات الشخصية التي وهبها لعيسى متعددة وهي التوفي والرفع اليه تعالى والتطهير من الكافرين، وهل جاءت هذه الآيات متوالية اما ان بين كل واحدة واخرى مدة وفترة، الجواب هو الاول، فقد جاءت هذه الآيات والكرامات يتعقب بعضها بعضاً.
ان آية التوفي والرفع وتطهير عيسى من القوم الذين كفروا برسالته والآيات التي جاء بها معجزات ظاهرة لاتقبل المعارضة, وعامة لكل المسلمين، كما كانت فخراً للحواريين، وندامة وحسرة على الذين كفروا الذي ارادوا المكر به وقتله، فخابوا وخسروا الدارين، وهي عز للمسلمين في كل زمان ومكان واخبار بان عزوجل يحفظ الانبياء واتباع الانبياء ولا تستعصي عليه مسألة.
فوجوه الحفظ والسلامة متعددة ومنها مايكون في الارض ومنها مايكون في السماء والآية شاهد على ملكية تعالى للسماء وانه إله في الارض وإله في السماء وليس من حد فاصل بين السماء والأرض فمن السماء ينزل الى الارض باذنه تعالى، فينزل الملائكة بالوحي والبشارات والانذارات, ومن في الارض يصعد الى السماء كما في رفع عيسى وتشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة الاسراء.
ترى لماذا لم ينزل الملائكة بالعذاب على الذين كفروا، الجواب ان وجوه العذاب متعددة، ومن نعمه تعالى عزوجل على بني اسرائيل ان امهلهم ولم يباغتهم بالعذاب، بل رفع عيسى ليكون هذا الرفع مناسبة للتدارك والانابة خصوصاً وان الحواريين حجة عليهم بعد رفع عيسى ، ثم ان العذاب يكون في الدنيا ويكون في الآخرة.
وكل واحد منهما متعدد الوجوه والكيفيات ولقد تفضل سبحانه وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات والمعجزات الباهرات، وبما يفيد صدق نبوة عيسى وذم الذين كفروا برسالته وليعلن المسلمون والى يوم القيامة تصديقهم برسالته محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة الى اتباعه عند بعثته.
لقد أُمر جبرئيل ليدمر مدائن لوط بعد انتشار الفواحش بينهم واصرارهم عليها، وقال مخبراً عن قوته لما سأله النبي محمد صلى عليه وآله وسلم عنها: حملت المدائن من الارضين السفلى الى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم بريشة واحدة من جناحيأنتظر أمر ربي الى الصبح، ولكنه لم ينتقم من بني اسرائيل لعزمهم على صلب عيسى لوجوه:
الأول: التباين الموضوعي، فقوم لوط مشركون، وبنو اسرائيل من اتباع شريعة موسى ولكنهم تخلفوا عن شريعة عيسى .
الثاني: لقد تفضل سبحانه بنجاة عيسى منهم.
الثالث: وجود الحواريين بين ظهرانيهم.
الرابع: احتمال ظهور اتباع جدد لعيسى من بينهم.
الخامس: عدم مجيء أمر إلهي بالانتقام من بني اسرائيل.وجبرئيل لا يفعل الا ما يأمره الله
السادس: إمهال بني اسرائيل لحين بعثة النبي محمد صلى عليه وآله وسلم، ولما بعث صلى عليه وآله وسلم دعاهم الى الاسلام او دفع الجزية، بخلاف المشركين الذين لا تقبل منهم الجزية.
السابع: التخفيف والامهال وتعاقب الآيات بسبب ما يترشح على بني اسرائيل من مضامين إصطفاء آل ابراهيم وآل عمران.
الثامن: لقد حلّ العذاب بالذين كفروا بنبوة عيسى ولكن على نحو تدريجي ومستديم بان جعلهم الأدنى بالنسبة للمسلمين.
قوله تعالى [وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]
في الآية اعجاز واكرام من وجوه:
الاول: بيان عظيم قدرته تعالى ,وجعل المؤمنين اعزة .
الثاني: انه سبحانه يتدخل في مراتب الناس وتحديد درجاتهم.
الثالث: تقسيم الناس وفق قواعد الايمان أو الكفر، وجعلت الذين اتبعوا عيسى في مقابل الذين كفروا، وفيه دلالة على نيل مرتبة الايمان باتباع عيسى , وليس في الآية ما يدل بالمنطوق على انهم مؤمنون, وفيه مسائل:
الاولى: ان اتباع عيسى شاهد على الايمان.
الثانية: المسلمون اعم من اتباع عيسى، والايمان درجة اعلى من الإسلام.
الثالثة: بين الاسلام واتباع عيسى عموم وخصوص مطلق، فكل مسلم هو متبع لعيسى ، وليس كل من اتبع عيسى هو مسلم، فجاءت الآية بشمول القسمين معاً بالرفعة والعلو بالقياس الى الذين كفروا.
الرابعة: جاءت الآية بذكر الذين كفروا على نحو الاطلاق وليس الذين كفروا برسالة عيسى سواء عند بعثته او فيما بعد، فتشمل الآية الذين كفروا من الملل الاخرى سواء كان كفرهم برسالة عيسى اورسالة موسى او رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز ان ترى مصـاديق هذه الآية في هذا الزمان وفي كل زمان سواء في دولة النصارى أودولة المسلمين، فالآية تحد مستديم وحجة دائمة وآية تدعو الجميع للإيمان بما جاء به عيسى.
قانون “الترابط”
لا تنحصر آيات القرآن بآياته اللفظية المؤلفة من الكلمات والحروف والتي لها مبدأ ومقطع، وتضم كل سورة من سوره عدداً منها يزداد في بعضها كما في السور المدنية ويقل في أخرى كما في السور المكية في الجملة, وكل قسم من هذه السور على مراتب تشكيكية متباينة في عدد الآيات.
وعدد كلمات كل آية يزداد او ينقص بآية اعجازية بل ان آياته متعددة ومنها عالم القصص ففيه أحسن القصص اذ يضم اهم الوقائع والحوادث التي شهدتها الإنسانية ومن أبرزها قصص الأنبياء والمرسلين، وهذه القصص لم تذكر لذاتها والإخبار عنها بل جاءت عبرة وموعظة ودرساً بليغاً ومن الآيات ان حوادث المستقبل وزمان ما بعد القرآن يلتقي مع قصص القرآن في الأمم السالفة من وجوه:
الأول: التشابه والتماثل في القصص ولو على نحو الموجبة الجزئية.
الثاني: الإعتبار والإتعاظ من دروس وقصص القرآن.
الثالث: الإقتداء بالأنبياء في صبرهم وتحملهم الأذى.
الرابع: الجهاد في سبيل والإخلاص في طاعته تأسياً بالأنبياء والمسلمين من الأمم السالفة.
الخامس: عدم التعريض بالمسلم الذي ينقطع الى بالذكر والعبادة، لأنه مأمور بالإقتداء بالأنبياء وقد بين القرآن صفات التقوى التي كان الأنبياء يتحلون بها.
السادس: ازدياد المسلمين يقيناً وثقة، اذ يرون الوقائع والأحداث مطابقة لقصص القرآن، وكأن هذه القصص جاءت للإخبار عما سيحدث وان وردت بذكر أسماء وأقوام وأمم سالفة، فمع التعدد والتباين في أفراد الزمان الطولية فان التشابه بينها يتجلى بآيات القرآن.
ويمكن ان نسمي هذا القانون “قانون الترابط” اذ ان آيات القرآن تجعل المسلم يدرك الإتحاد والتقارب بينه وبين أخوانه من المسلمين في الأمم السابقة وينتفع من جهادهم وما لاقوه من الأذى ليتخذه عوناً ومناسبة للإعتبار وتعاهد الإيمان وعدم الإذعان او التهاون او المهاونة مع الكافرين.
ان مجيء القرآن بالقصص المتشابهة عند الأولين والآخرين، آية اعجازية أخرى تدل على سبر أغوار النفوس الإنسانية مجتمعة ومتفرقة، والعلم بحصول الترابط والتشابه بين قصص الأولين والآخرين، مع التمييز بينهما بلحاظ الفارق الزماني، وفي هذا التشابه مصداق لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وهذه القصص وارتباط الوقائع اللاحقة بها على نحو التشابه ووحدة الموضوع والحكم والإعتبار شاهد على صدق نزول القرآن من عنده تعالى، وحجة في لزوم الرجوع اليه لإقتباس الدروس والعبر واستنباط الأحكام وفق القواعد الشرعية.
والمراد من الذين اتبعوا عيسى على وجوه:
الأول: الحواريون الذين قالوا [وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ].
الثاني: الآية أعم وان الحواريين هم أول الأتباع ويصدق على من لحق بهم فيما بعد انهم من أتباع عيسى، والى حين البعثة النبوية الشريفة.
الثالث: المراد النصارى الى حــين البعثة النبوية مضـافاً الى المسلمين الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والى يوم القيامة.
الرابع: المراد النصارى الذين هم على شريعة عيسى الى حين البعثة النبوية المباركة.
الخامس: المسلمون الذين صدقوا بما جاء في القرآن بخصوص رسالة عيسى وولادته والآيات التي جاء بها ورفعه الى السماء، والآية دليل على ان تفضيل بني اسرائيل كان خاصاً بزمانهم ,كما في قوله تعالى [قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
السادس: الوجوه الخمسة أعلاه مجتمعة من غير تعارض بينها، وهو الصحيح فهذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة.
فان قلت: ان النصارى في هذا الزمان ايضاً فوق الذين كفروا وأكثر قوة ومنعة.
قلت: ان اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , وان النصارى أتبعوا عيسى في شريعته ولكنهم تخلفوا عما جاء به من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ان جعل اتباع عيسى هم الأعلون بالنسبة للكفار فضل الهي عظيم، ترى من المقصود بهذا الفضل فيه وجوه:
الأول : عيسى ، خصوصاً وانه المقصود في الخطاب لتكون هذه المرتبة لأتباعه ثواباً له.
الثاني : المراد استمرار الآيات التي رزق عيسى في حياته الى ما بعد رفعه، خصوصاً وانه لم يمت بل رفع حياً وكأن هناك ملازمة بين بقاء النبي حياً وبين رفع أصحابه بين الناس وجعلهم اعزة، فما دام عيسى قد رفع في السماء فان اتباعه يرفعهم بالدرجة والشأن والمنقبة، فهذه الآية تبين ما لاتباع عيسى من الكرامة والعز لقيامهم بتصديقه واتباعه.
الثالث : المقصود اتباع عيسى بالذات وان الكرامة لهم على نحو الخصوص لاتباعهم لعيسى، أي ان الفضل جاءهم بالذات ومباشرة وليس بواسطة عيسى .
الرابع : المراد اكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته لان اتباع عيسى اما ان يكونوا في زمان سابق لبعثته او مقارن أولاحق له، وفي الاول فان اتباع عيسى مصدقون بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتأتي تبعيتهم لعيسى في طول تبعيتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا تعارض بين الوجوه الاربعة اعلاه، فمن مصاديق عظمة فضله تعالى انه واسع ومتعدد وشامل للكثيرين في آن واحد وبآيات وصيغ وكيفيات مختلفة.
قانون الفضل
الفضل الزيادة والهبة والسعة والرفعة والدرجة العالية والرتبة التي تأتي من غير استحقاق، ولكن بلطف ومنً، وكذا بالنسبة للزائد من الرزق، والنماء والبركة في المال مع حصول الفضل بمعنى الاحسان بين الناس.
وبالفضل الالهي تستديم الحياة على الارض، ويرزق الناس ومن مضامين هذا القانون:
الأول : ان الفضل بيده تعالى جملة وتفصيلاً، وان جاء العون والمساعدة بين الناس فانه مـن الله اصــلاً وتســبيباً وهداية وارشــاداً بمعنى ان الانسان ليس في مقدوره الاحسان للغير لولا ان يجعله قادراً على الاحسان ثم انه لايبادر الى الاحسان الى بمشيئته سبحانه وهدايته الى الاحسان.
الثاني : فضل سبيل النجاة وبرزخ دون الخسارة في النشأتين، قال تعالى[فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الثالث : من افراد هذا القانون ومن مصاديق الفضل الالهي العفو والمغفرة، ورشحات هذا الفضل لا تنحصر بالآخرة بل تشمل الحياة الدنيا.
الرابع : نيل الانبياء والمؤمنين الدرجات الرفيعة والمنقبة في الدنيا، واصلاح ذراريهم لوراثة عقائد التوحيد ليكونوا قادة الامم نحو سبل الهداية والرشاد , وفي التنزيل حكاية عن يوسف [ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ] ( ).
الخامس : مع الرزق المكتوب للعباد هناك فضل الهي زائد هبة منه تعالى لمن يشاء من عباده، ويقتطف منه أصحاب الدعاء والمسألة فالفضل الإلهي باب للحث على الدعاء واللجوء اليه تعالى، وفيه دلالة بان زيادة رزق بعض الناس لا ينقص من ارزاق الآخرين، وتلك الحقيقة يعرفها الناس جميعاً، بالعقل والوجدان.
السادس : يشمل الفضل الإلهي الدنيا والآخرة، وما في الآخرة أعم وأكبر وأعظم, قال تعالى [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً]( ).
السابع : لقد رغب المؤمنين بالسعي لطلب فضله بالدعاء والإجتهاد في اتيان الفرائض والطاعات، فلله تعالى فضل عظيم على الخلائق كلها، ومن مصاديقه اتساعه وتعدده وشموله للناس جميعاً، وللنشأتين الدنيا والآخرة.
لقد رفع عيسى الى السماء ليتجلى هذا الرفع في الأرض برفع اتباعه واعلاء شأنهم وابقائهم اعزة فهذا الرفع على وجوه:
الأول: علو الشأن والرتبة الإجتماعية في مقابل ما يلحق الكافرين من الخزي والذل.
الثاني: تمكين اتباع عيسى من تولي الحكم والسلطان، وهو أمر ظاهر بالوجدان.
الثالث: المعروف ان الحواريين قوم مستضعفون، قليلوا العدد يجمعهم الإيمان برسالة عيسى، ليس عندهم مال او قوة تجذب الآخرين اليهم والى ملتهم، لم يستطيعوا حماية عيسى او حماية انفسهم، وأتفق ان أمن الإمبراطور قسطنطين الذي ملك عرش الرومان في القرن الرابع، فأكره الناس بالسيف على دخول النصرانية وقتل من لم يؤمن بعيسى وشريعته، وأمر بهدم الهياكل في جميع أنحاء مملكته.
وجاءت بعده امبراطوريات وثنية، أو أهملت جانب الدين والروح، ولكنها لم تسبب غياب او موت النصرانية، ولا يتعلق الأمر بمفاهيم تنازع البقاء، بل بازاحة الحق للباطل وتنحيته عن القلوب والواقع اليومي للناس الذي يغلب عليه حكم العقل في تعاقب الأيام، فالمراد بالرفع هو الشأن والسلطان والقوة التي نالها اتباع عيسى من النصارى ثم المسلمون.
فان قلت: ان هذا ينقض بحال الحواريين واتباع عيسى في عشرات السنين التي أعقبت رفعه.
قلت: لا يمنع من صدق الرفع بالقوس الصعودي، وان اتباع عيسى في صعود في رفعتهم وعزهم وان رفعهم حصل على مراتب ودرجات.
الرابع: المراد بالرفع هو الإيمان، لأن التصديق بالنبوة رفع في الشأن والمنقبة والذكر الحسن، والقدر المتيقن من الرفع هو الحياة الدنيا بقرينة قوله تعالى [إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ].
الخامس: الرفع أعم من ان ينحصر بموضوع معين، فهو يشمل العز والرفعة والشأن، كما يشمل الملك والسلطان وتولي شؤون الحكم، والا فانك ترى في كل زمان نصارى ومسلمين في دول أخرى يحكم بها الوثنيون فل يخرج هؤلاء من عمومات الرفع التي ذكرتها هذه الآية، فالرفع متعدد الوجوه والكيفيات ويأتي على نحو القضية النوعية، فأصل الرفع والتباين بين المؤمنين والكافرين موجود في كل زمان ومكان الا انه يختلف في صورته وكيفيته ومقداره.
السادس: الآية بشارة لعيسى ، فلقد أراد اخباره عن واقع الإيمان بعد رفعه، وان الإسلام لم ينتكس بعد رفعه، وفيه دلالة على تأدية عيسى لوظائفه الرسالية وحصول تمايز في المجتمع على أساس الإيمان بالرسالة فقد أنقسم الناس الى قسمين مؤمنين وكافرين، وان العقيدة التي جاء بها عيسى يكون لها اتباع الى يوم القيامة ومنها بشارته وإخباره عن نبوة الرسول الأكرم محمد , وما في هذه الآية من البشارة فاز بها عيسى من بين الأنبياء والرسل الذين سبقوه، فقد شرفه الله بان أخبره بأمور:
الأول: انه سيرفعه من الأرض ولن يستطيع الكافرون قتله, والرفع أعظم من البقاء في الأرض الى حين الأجل الشخصي المحتوم.
الثاني: تفضله تعالى برفع عيسى الى السماء ليكون هذا الرفع عيداً للمسلمين، ومقدمة لعروج النبي محمد صلى عليه وآله وسلم، وتلقيه الأحكام في السماء لتتغشى بركات الرفع والاسراء أجيال المسلمين والى يوم القيامة.
الثالث: نسبة الرفع اليه تعالى، ولا يعني هذا انه سبحانه في جهة لتنزهه عن المكان والمحل والحاجة اليه، ولكن هذه النسبة عنوان نجاة من القوم الظالمين، واخبار عن ارتقاء عيسى الى جوار حضرة الكمال والجلال ومتخلصاً من سنخ الشهوات.
الرابع: تزكية وتنقية عيسى من متعلقات آثام الذين كفروا، وبشارته بانه أدى وظائفه الرسالية وأخلص لله تعالى وبذل الوسع.
الخامس: الثواب العاجل على جهاده في سبيل وبلوغه أعلى مراتب الزهد والتقوى.
السادس: العز والرفعة والارتقاء لمن آمن برسالة عيسى ، مما يدل بالدلالة الالتزامية على بعث السكينة في قلبه على سلامة اصحابه وعدم الخشية من القوم الظالمين.
السابع: بقاء دعوته وانصاره الى يوم القيامة، وبلحاظ بشارته بالنبي محمد صلى عليه وآله وسلم، فالآية اخبار عن بقاء الاسلام واكرام المسلمين لعيسى الى يوم القيامة والذب عنه وتزكيته واثبات براءة ساحته وأمه مما قد يفترى عليهما.
الثامن: بعث الأمل في نفوس المسلمين بعودة عيسى ونزوله الى الارض، وعندما ينزل عيسى هل تكون الآيات التي جاء بها مصاحبة له، فهل يستطيع ان ينفخ في الطين فيكون طيراً ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى باذن ، الجواب: نعم، من وجوه:
الأول: انه سبحانه اذا انعم بنعمة وآية فانه أكرم من ان يرفعها.
الثاني: ان الناس يطالبون عيسى بالآيات.
الثالث: هذه الآيات هي موضوع تصديق الناس بعيسى وشخصه عندما يخبر عن نفسه، لمنع وجود الكذابة عليه، فاذا قال انا عيسى ابن مريم يطالبونه بالآيات بحسب ما جاء به القرآن، الا ان يأتي بمعجزة اخرى تؤكد صدق دعوته، والارجح الأول، أي انه يأتي بذات الآيات.
وفي الآية وجوه:
الأول: تظهر الآية الثواب العاجل للذين اتبعوا عيسى ونيلهم المراتب العالية في الدنيا.
الثاني: في رفع اتباع عيسى تثبيت لمراتبهم واعزاز لهم وبعث للسكينة في نفوسهم، والآية دعوة لعيسى ، ليخبر التابعين بهذه البشارة والوعد الإلهي الكريم، ويكون آية مستديمة وشاهداً على صدق نبوته، فهذه الآية حسية عقلية.
الثالث: تتضمن الآية البشارة بنصــر المسلمين في سوح المعارك، وخيبة من يعادي الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الرابع: في الآية انذار وتحذير لبني اســرائيل من التصدي لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة الإسلام، خصوصاً وانه لم يأتِ بنسخ بعض أحكام التوراة، بل يأتي بالنســخ التام للشـرائع ودعوة الناس لدخول الإسلام فالآية تقول لهم ان حاربتم النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فانكم لن تستطيعوا قتله او صلبه او اغراء الظالمين به من مشركي قريش والمدينة وغيرهم، بل ان النصر سيكون حليفه، ومصداق هذه البشـارة والوقائع تجلي في نوع المواجهة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبين اليهود.
وهذه المسألة من الآيات في نبوة عيسى فكأنه يقول لبني اسرائيل والناس جميعاً ان فاتكم الإيمان برسالتي فآمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واياكم والتصدي له ومحاربته، فان النصر ملازم له.
الخامس: في الآية دليل على ظهور الإسلام وغلبة المسلمين، وعدم امكان اخفاء ضياء الإيمان، فمن يرفعه لاتستطيع الخلائق ان تضعه وتنزله وان أجتمعت.
السادس: قد جاء الرفع على نحو القضية الشخصية كما في ابراهيم باقامته الحجة والبرهان على دعوته الى ,قال تعالى [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ] ( )، وجاء الرفع هنا على نحو التعدد وارادة النوع والفعل العام، والآية أعلاه بشارة له لأنها أخبرت عن فضله تعالى برفع من يشاء، فكأنه رفع مرتبة ابراهيم بين الناس مقدمة وبشارة لرفع المؤمنين عامة، وهو ظاهر في أدعية ابراهيم للمسلمين وورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
السابع: من المفاهيم السائدة قبل بعثة عيسى وصف بانه جبار يبطش بالناس، وانه يترك الشيطان يغوي الإنسان فينتقم منه فجاء عيسى بالتأكيد على صفات الرحمة والرأفة، وبين ان هو الغفور الرحيم، وليس من أحد أرأف بالناس أكثر منه تعالى، وتفضل سبحانه بان أخبر عن رفعه المؤمنين وعلو شأنهم.
الثامن: لقد جاءت الآية صريحة بتحديد اول الرفع وآخره , فهو يبدأ مع ساعة الإخبار الإلهي ويستمر مع أيام الدنيا، ليكون من أهم مظاهر الحياة على الأرض رفعة وعز المؤمنين، وهو من مصاديق قانون الأوفى لأن يعطي بالأوفى والأتم , ومن مقومات ديمومة الإيمان في الأرض.
التاسع: لا ينحصر موضوع قانون الأوفى بطول المدة الزمانية لرفع المؤمنين بل يشمل ماهية وكيفية الرفع واتساعه وشموله للمؤمنين كأشخاص، وما يحملون من عقيدة، وما يؤدون من أفعال عبادية، لذا ترى أداء الصلاة يبعث في نفوس الناس الهيبة وأسباب اكرام المسلم ويدعوهم للتأمل والتفكر.
العاشر: هذا الرفع واقية للمؤمنين وحفظ لهم سواء لأنه مرتبة ودرجة في العلو والشأن، او لأنه يجعل لهم استقلالاً ومائزاً عن غيرهم.
الحادي عشر: في الآية ثلاثة أطراف:
أولاً: المؤمنون.
ثانياً: الذين كفروا.
ثالثاً: موضوع وأحكام الرفعة والذلة،
فالآية لا تختص برفع الذين آمنوا بل تشمل اذلال الذين كفروا وجعلهم أدنى رتبة من المسلمين، بمعنى انه لو حاول الكفار اللحاق بالمسلمين في الشأن والجاه فان الأمر يكون على أحد وجهين:
الأول: حصول التساوي والتشابه.
الثاني: عدم امكان اللحاق وتعذره.
والأصح هو الثاني بالإضافة الى تعذر تدني مرتبة المؤمنين الى درجة الكافرين.
الثاني عشر: الآية دعوة للذين كفروا لنبذ الكفر والتخلي عنه، والإنتفاع من الآيات والإفاضات بالإرتقاء في سلم المراتب باختيار الإسلام والتصديق بالنبوة، وفيها تقبيح للبقاء على الكفر، واخبار بما فيه من الأضرار والأذى، فليس من انسان الا ويحب الرفعة والإرتقاء وقد حصرت الآية طريقه بالإيمان والهدى.
الثالث عشر: تؤكد الآية على حتمية يوم القيامة، ووقوف الناس للحساب والجزاء، وذكر يوم القيامة وحده انذار وتحذير للكافرين، وبشارة للمسلمين، واشارة بان رفعهم في الدنيا مقدمة للثواب الأخروي.
قانون “عدم الحصر”
من اعجاز الآية القرآنية تعدد معانيها ومفاهيمها، وكثرة المضامين القدسية لها، وتعلق احكامها بالميادين المختلفة، وعالم الدنيا واحوال الآخرة من غير تعارض بينها، فلا يمكن حصر معانيها بمورد او باب دون آخر، وتلك من خصائص القرآن التي ينفرد بها.
ولو ظن شخص او جماعة انحصار معاني الآية بعدد معين من المضامين والمواضيع والأحكام، فان تعاقب الأيام وتبدل الموضوعات واستحداث احوال متعددة يظهر لهم ولغيرهم مفاهيم جديدة للآية ويمكن ان نسمي هذا القانون “قانون عدم الحصر” لمعاني الآيات القرآنية والفاظها القدسية، ولا ينحصر الأمر بمعاني الإلفاظ بل يشمل الإحصاء والتعدد في كثير من علوم القرآن، فمثلاً يقال ان عدد آيات الأحكام هو خمسمائة آية، ولكن التحقيق والبحث في معاني الآيات يظهر ان عددها اكثر من هذا بكثير، لإمكان استنباط أحكام شرعية من اغلب آيات القرآن.
وهذا القانون يفتح الباب أمام دراسات مستحدثة في القرآن، وفيه دعوة للعلماء والباحثين للتحقيق واستنباط الأحكام والمسائل من الآيات القرآنية ولكن مع الدليل والشاهد القرآني واللغوي والعقلي ومن غير تعارض مع أحكام القرآن الأخرى.
لقد جعل القرآن تبياناً لكل شيء لتشمل علومه وأحكامه ما مضى وما يستحدث من الأمور والوقائع والأحداث، لذا فان مصاديق الآية القرآنية لا يمكن حصرها وعدها، وهذا من كنوز القرآن ودرره التي لم تستخرج بعد، وتدعو العلماء للغوص في أغوار اللفظ القرآني والسياحة في معانيه، والنظر والإستقصاء في مفاهيمه، ان عدم الحصر لعلوم القرآن ليست أمنية واملاً، بل هو واقع متجدد تتجلى شواهده كل يوم وتزداد اطراداً مع كثرة التوجه لعلوم القرآن.
ولو كان هناك كافر ثم أسلم فهل يبقى في منازل الذل، الجواب لا، فان ينعم عليه بالرفعة، وتشمله عمومات الآية، فان قلت من الناس من يؤمن بعد كفره ومع هذا يبقى على فقره وعوزه ومسكنته، والجواب من وجوه:
الأول: المراد من الرفع هو الرفع النوعي العام للإسلام والمسلمين بلحاظ انهم اتباع عيسى .
الثاني: الرفع أعم من ان يكون ظاهراً للعيان وعلى نحو الدفعة الكبيرة المفاجئة، فمن مصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا ان يأتي الرفع على مراحل ومراتب.
الثالث: حال دخول الإنسان الإسلام يشعر بالعز والرفعة في قرارة نفسه، والشوق الأكيد لهذه الرفعة هو الذي جعله يبادر الى الإسلام، لذا تجد الذي يسلم يقبل على الإسلام وأحكامه، ويتلقى ابناؤه هذه الأحكام بالقبول والرضا والإفتخار وهذا من الرفعة، ومنها ايضاً الذكر الحسن للمسلم ولمن أختار الإسلام ديناً وعقيدة.
ولقد لاقى اتباع عيسى الأوائل والمسلمون شتى صنوف الأذى والعذاب من قومهم، وكان بعضهم يؤخذ للحاكم ويؤمر بترك دينه، فيأبى فيتلقى شتى صنوف العذاب الى ان يموت, ومع هذا فان اطلاق الآية يشملهم وتتغشاهم مضامين الرحمة وعمومات الآية، وهل تعني الرفعة لمن يقتل الذكر الجميل بين الناس، الجواب ان المراد بالرفعة وعلو المرتبة على نحو الواقع الفعلي للمسلمين وفي حياتهم, ولا يمنع الأمر من لحوق الذكر الحسن بهم بعد وفاتهم ,وتترشح منافع هذا الذكر على الأحياء منهم.
قانون التدارك
كما ان الحياة دار امتحان وابتلاء للإنسان ودار عمل بلا حساب، فانه يصيب ويخطأ، ويأتي بالأفعال الإختيارية التي تتضمن ما يوافق الشريعة وفيه الثواب، وما يخالف أحكام الشريعة وفيه العقاب.
ولعمومات قواعد اللطف الإلهي فان تفضل وجعل التدارك عنواناً ثابتاً، وقانونا له فروعه ومصاديقه التي تنبسط على عالم الأفعال في الحياة الدنيا، وبما يؤدي الى صلاح العبد ومحو ذنوبه وازالة أسباب الكدورة والتخفيف من وطأة الخطأ والزلل، ويبين قانون التدارك رحمته تعالى بالعباد وانهم لم يخلقوا ليعاقبوا، بل لتكون الدنيا مزرعة وحرثاً ووسيلة لدخول الجنة الذي لا ينحصر بالعمل الصالح الإبتدائي، بل يشمل من عمل خطأ ثم تدارك أمره واهتدى، وهو على أقسام:
الأول: التدارك في العبادات: وهو أفضل أقسامه وأسناها وفيه توكيد لتفضله تعالى بالسعة على العبد في فعله، واجتناب الخطأ والزلل، وامكان التوبة والإنابة.
ويعتبر التدارك في هذا الباب اشراقة عقائدية وفخراً وعزاً للمسلمين وشاهداً على التكامل في الشريعة الإسلامية فلأفراد العبادة أوقات مخصوصة تؤدى بها مثل الصلاة اليومية، والصيام في شهر رمضان، والحج في أيام مخصوصة من السنة، وقد يتعذر على المسلم اتيانها في أوقاتها، او انه يخطأ ويقصر حتى يفوته وقت الأداء، ومع هذا فان يجعل له مندوحة ويهيء له أسباب التدارك بقضاء العبادة في غير وقتها.
وفي قضاء العبادات منافع عديدة منها:
الأولى : اصلاح النفس الانسانية ورفع الكدورة او الحسرة التي يخلفها فوات أوان الفعل، وهوسبيل متجدد لاحراز الثواب.
الثانية : يثبت قانون التدارك امتناع الملازمة بين اوان الفعل وبين الثواب، ففرص ومناسبة الثواب أعم من الأداء في أوان الفعل المخصص له بالأصل.
الثالثة : فيه ترغيب للعبد بالأداء، أي ان منافع هذا القانون سابقة حتى لأوان الفعل وزمانه، فانه يبعث السكينة في النفس ويمنع من القلق والخوف الزائد.
الرابعة : يجعل قانون التدارك المسلم يقبل على العبادات بشوق أكيد وارادة ثابتة، والأداء في الوقت الأصلي، والاتيان بالفعل العبادي جامعاً للشرائط يشعر المسلم بحصوله على الثواب وانه امتثل للأمر الإلهي من غير حاجة للاستعانة باسباب القضاء والتدارك، وكأنه وسط بين الخوف والرجاء.
الخامسة : اتيان الافعال العبادية بالتدارك مطلقاً شامل للسهو والنسيان والتقصير والعمد الا ما خرج بالدليل، وهذا الاطلاق شاهد على عظيم رحمته وعفوه تعالى، وحتى الاستثناء هو ايضاً عنوان تخفيف وليس عقوبة.
الثاني: التدارك في المعاملات: وهذا القسم يتعلق بالمعاملات الشرعية، وهو على شعب ثلاث:
الأولى: ما يخص الصلة مع ، ووظائف العبودية في باب المعاملات من تدارك الفعل المخالف لأحكام الشريعة.
الثانية: ما يتعلق بحقوق الناس في المعاملات، ولزوم اعادتها وتدارك التعدي والظلم، كما في الربا.
الثالثة: الحقوق المركبة التي يكون فيها حق لله وحق للناس، وهذه الشعبة اكثرها مصداقاً، فغالباً ما تكون الاضرار من المخالفة في باب المعاملات مركبة، كما في السرقة والزنا والكذب، بل مطلق المعاصي بلحاظ انها مخالفة للأوامر الإلهية، فيأتي قانون التدارك مركباً ايضاَ ويشمل الاستغفار واعادة حقوق الناس.
ومن الآيات في التشريع الاسلامي ان قانون التدارك تتعطل احكامه عند العجز عن الوفاء بحقوق الآخرين، وعدم الحصول على رضاهم، بل انه يشمل هذه الحالات بالاستغفار لاصحابها.
الثالث: التدارك في الاحكام والأنظمة: لقد تضمنت الشريعة الاسلامية قواعد اصولية امتنانية في التخفيف عن المكلفين وهي أكثر من ان تحصى، كما انها تتغشى ميادين الحياة كلها، منها قاعدة نفي العسر والحرج، وقاعدة الميسور، وقاعدة كل ما غلب عليه فالله أولى بالعذر، واحكام البينة، وأصالة الصحة، وعدم اعتبار الشك، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الاسلام وغيرها.
ويمكن تقسيم التدارك بلحاظ الحياة والموت الى قسمين:
الأول: ما يخص ايام المكلف في الحياة الدنيا، ومن الآيات ان القضاء والتدارك يشمل أيام حياته كلها سواء فيما يتعلق بالعبادات او المعاملات، وحقوق او الناس، لذا فان الاستغفار وهو اعظم كفارة يبقى ملازماً للانسان في جميع ايام حياته.
ومن الآيات ان الصلاة لا تترك بحال وهي تجب بحسب القدرة والاستطاعة فتصح من العاجز عن جلوس، واضطجاع .
الثاني: التدارك بعد وفاة المكلف الذي تعلق بذمته أداء واجب عبادي كما في الحج، أو حق من حقوق الناس مثل الديون، فان امكان القضاء يتجلى بامرين:
أولاً: الوصية بالحقوق والواجبات، ومن الآيات ان ترد نصوص عديدة في السنة النبوية تؤكد على كتابة الوصية وعدم التفريط بها في ايام الصحة والمرض.
ثانياً: قيام الورثة بالأداء والقضاء عن الميت سواء في العبادات او المعاملات وفيه مغفرة للميت واسقاط لحقوق الناس، ودفع للنفرة والكدورة وابدال لحال الاذى الى حال الرضا عن الميت، ومن خصائص هذا القسم ان الثواب لا ينحصر بالميت وحده بل يشمل الورثة، وهو شاهد على الايمان والاقرار باليوم الاخر وعالم الحساب.
ان قانون التدارك واستيعابه للافعال والاقوال لعموم الاشخاص شاهد على تكامل الشريعة الاسلامية، وهو من مقومات البقاء والخلود والنفع العام الشامل للجميع وفي النشأتين، وفيه جذب للناس لدخول الاسلام والتنعم بما فيه من الاحكام واســباب الاقالة والعفو، والله واسع كريم.
قوله تعالى [ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ]
انتقلت الآية من صيغة الخطاب الشخصي مع عيسى ، الى الخطاب العام في التفات بلاغي يتضمن دلالات عقائدية , وفي جهة الخطاب وجوه:
الأول: ارادة الناس جميعاً.
الثاني: اتباع عيسى من النصارى.
الثالث: المسلمون مطلقاً.
الرابع: الحواريون الذين أتبعوا عيسى والأصح هو الأول، فالمقصود هم المسلمون والنصارى واليهود والمشركون وجميع الملل وبحسب التفسير الذاتي للقرآن فقد وردت الآيات بارادة الإطلاق، قال تعالى [إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا].
وهل تتعلق الآية بما بعد البعثة النبوية ام ما قبلها، الجواب تفيد الآية الإطلاق الشمولي ولا تخص جيلاً من الناس، بل هي شاملة للناس جميعاً على إختلاف أزمنتهم, وتؤكد وحدة خطابات الوعد والوعيد في الكتب السماوية المنزلة.
فان قلت: ان الآية نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصح أخباراً لمن كان موجوداً ايام البعثة وبعدها دون غيرهم، فالجواب ان هذا الحكم عام ووارد على لسان الأنبياء وجاء به آدم وكذا جميع الأنبياء فهي اخبار متجدد عن حقيقة وقاعدة في الإرادة التكوينية وجزء من فلسفة الحياة الدنيا واحكام الإبتلاء فيها وتعتبر الآية بشارة وإنذاراً متجددين مع طلوع شمس كل يوم.
وجاءت الآية بصيغة الرجوع ويعني الانصراف، ولا يجوز ان يكون هنا اسم مكان، لأن اسم المكان لا يتعدى بحرف ولا تنتصب عنه الحال، والمراد رجوعكم، (حكاه سيبويه فيما جاء من المصادر التي من فَعَل على مَفعِل بالكسر)( ).
قوله تعالى [فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]
آية اعجازية أخرى تبين رحمته تعالى بالمؤمنين ونصره لعيسى في حياته وبعد رفعه، والآية شاهد على ان النشور وحشر الناس مقدمة للحساب والقضاء بين الناس بالحق والعدل وكذا بالنسبة للحكم فانه مقدمة للجزاء ونيل المسلمين الثواب، ووقوع العذاب على الكفار.
وتطرد الآية اليأس من قلوب المسلمين وتمنع الجزع من الإستيلاء على قلوبهم، فما دام هناك حكم وفصل للخصومة في الآخرة، فان المسلم يتلقى الأذى بنفس صابرة، ويكون هيناً عليه، بالإضافة الى ازدياده قوة وثباتاً باعتبار ان الأخبار عن القضاء في الآخرة مدد وعون للمسلمين في جهادهم لذا تراهم يعشقون الشهادة ويرغبون في الآخرة ويزهدون في الدنيا، ويقبلون على ملاقاة العدو وتحمل العذاب وهم مستعدون لمفارقة الأهل والأزواج , وفي الآية اخبار بان الحكم المطلق له تعالى في الآخرة، فليس من حاكم غيره.
وفيها انذار وبشارة , انذار للكافرين الذين يصدون عن سبيل ويتعدون حدود ، ويؤذون المؤمنين وبشارة للمسلمين الذين يؤمنون بما جاء به الأنبياء من عند فتبعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين والسكينة والرجاء في قلوب المسلمين.
لقد تفضل وجمع الناس في خطابات الآية مع آية إكرام عيسى وفيه نوع رحمة ورأفة ودعوة للتدارك، وقال تعالى ان المرجع اليه تعالى، وليس للحساب وليوم القيامة، وفيه نكتة عقائدية وهي ان يوم القيامة خالص له سبحانه، وانه المالك ليوم الدين والحساب، وفيه دعوة للإستعداد له وأخذ الحائطة ليوم القيامة باجتناب ايذاء المسلمين، و الآية دعوة للمسلمين للصبر على الأذى والمكر وعدم الجزع والإرتداد، بل لابد من تحدي الكفر وأهله.
ويتجلى التحدي بهذه الآية لما تبعثه في نفوس المؤمنين من القوة والمنعة والبشارة بلقاء ، وفيها تحريض على الثبات على الإيمان فمتى ما أدرك العبد حتمية لقاء تعالى والوقوف بين يديه للحساب، فانه يخلص في ايمانه ويحرص على حسن اللقاء بالعمل الصالح واتيان الفرائض واجتناب النواهي، فتلقي الأذى وحده لا يكفي بل لابد من الصلاح والإستقامة لأن التكاليف على قسمين:
الأول: الإمتناع عن المعاصي، وهو أمر وجودي، لما فيه من ملكة اجتناب الفواحش، وكف النفس عنها.
الثاني: فعل الصالحات وأداء الواجبات والتقرب الى بالمندوبات.
وليس كل مسلم يتعرض للأذى , ولا كل كافر يحارب الإسلام ويجهز على المؤمنين.
بحث بلاغي عقائدي
من وجوه الإطناب والبلاغة “التذييل” وهو الإتيان بموضوع او حكم في جملة، ثم تأتي جملة أخرى لبيانه او توكيده وبما يرفع اللبس والغرر, ويؤدي الى افادة المعنى واعانة السامع على فهمه واستيعابه، وبما ان آيات القرآن موعظة وعبرة فان التذييل ظاهر في آياته سواء ضمن الآية الواحدة او في الآيات المتعاقبة المتتالية، او بالجمع بين آيتين في سورة واحدة او في عدة سور , والوقوف عند رأس كل آية لا يمنع من النظر الى الآيتين المتجاورتين بلحاظ النظم ووحدة الموضوع والحكم كما انه يبعث في النفس الشوق للإنصات للقرآن وتحصيل الدروس والعبر منه, والحرص على الربط بين الآيات وايجاد وجوه الصلة بينهما.
ولما جاءت الآية السابقة بذكر مكر على نحو الوعيد للقوم الكافرين، جاءت هذه الآية للبيان والتفصيل وتقرير موضوع المكر وما يرتبط به من الأحكام، وهو على أقسام:
الأول: ما هو خاص بعيسى واكرامه وتشريفه ونجاته وارتقائه ورفعه واستدامة طهارته وتزكيته.
الثاني: المكر الحسن بالحواريين واتباع عيسى والمسلمين مطلقاً بجعلهم هم الأعلون، وأصحاب الرفعة مما يدل على ان يتعاهد المؤمنين في حياتهم اليومية وانه حاضر معهم ويمدهم بأسباب العز والتوفيق، لأن علو مرتبة المؤمنين أمر يتحقق كل يوم.
الثالث: العقوبة والإنتقام من الكافرين بان يجعلهم أدنى من المؤمنين، وهذا التمايز فيه وجوه:
الأول: انحصاره برفع المؤمنين، أي ان المكر في المقام الرحمة والفضل الإلهي عليهم، اما الكافرون فانهم باقون على حالهم وفي درجاتهم بحسب استحقاقهم وسعيهم.
الثاني: بقاء المؤمنين على منازلهم ودرجاتهم في الدنيا من غير ان يتنزل عليهم فضل الهي اضافي يؤدي الى ارتقائهم.
الثالث: المكر المركب، الذي يتألف من قسمين:
الأول: مكر حسن بارتقاء المؤمنين.
الثاني: العقوبة ومقابلة مكر الكافرين بهبوط منزلتهم والحيلولة دون ارتقائهم في مراتب العز والقوة والكثرة والمال والجاه.
والوجه الأخير هو الأرجح، ولقانون الأوفى، ولمضامين المكر الإلهي المتعددة، ولظاهر الآية فان قوله تعالى [وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا] يدل على انبساط الجعل على الطرفين على نحو متباين وبما يؤدي الى رفعة المؤمنين وتدني حال الكافرين.
ومع ان الآية السابقة ذكرت وجود مكر للكافرين وانهم هم الذين أبتدأوا به جحوداً فان هذه الآية تنفي وجود أثر لمكرهم الا تدني منزلتهم واللبس عليهم واستدراجهم، فلا يبقى مع أمره وحكمه تعالى شأن لغيره.
بحث بلاغي آخر
من وجوه البديع “الطرد والعكس”، وهو ان يؤتى بأمرين وموضوعين يقرر منطوق كل واحد منهما مفهوم الآخر، وقد جاءت الآية السابقة بذكر مكرين متقابلين مكر للكافرين ومكر له تعالى، ومع المشاكلة في الاسم وعنوان المكر الا ان الموضوع متباين ومختلف وانما جاء في باب البيان والمشاكلة، فمنطوق هذه الآية يبين مفهوم الآية السابقة وما فيها من المضامين وعاقبة الكافرين في أقدامهم على المكر السيء بعد اصرارهم على الجحود
وتلك العاقبة معروفة بلحاظ التفسير الذاتي للقرآن, قال تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ] ( ) فتأتي هذه الآية لتبين كيف كانت عاقبة الكافرين برسالة عيسى ,وفيه تحذير لأهل مكة ومن يستمع لآيات القرآن من المكر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أراد المشركون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم او اخراجه من المدينة، فجعل المسلمين هم الأعلون وبسط حكم الإسلام في الأمصار.
ومع ان علو المسلمين هو نتيجة وفضل منه تعالى، الا انه سبب وعلة لكثير من الأحكام فهو مقدمة لتشعب ميادين الرفعة وزيادتها، ومناسبة للتصدي لمكر الكافرين وابطاله ودحض شبهاتهم.
بحث كلامي
ان تعالى ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر وهو منزه عن الماديات وما هو محسوس، لأن المادي يحتاج الى مكان يستقل به، وهذه الحاجة شاهد على الإمكان للملازمة بينهما.
والجسم هو الشيء المركب من مادة وصورة , والمتحيز الذي يكون قابلاً للقسمة وله أبعاد ثلاثة هي الطول والعرض والعمق اما العرض فهو المعنى القائم بالجوهر، والمفتقر الى المحل كالألوان والروائح والعلوم فهو يقوم بغيره.
فالجسم مفتقر الى المكان وكل عرض محتاج الى المحل, والمحل غير الحال والمكين، فكل منهما مفتقر الى غيره, و تعالى واجب الوجود منزه عن الحاجة والإمكان وهو سبحانه ليس في جهة التي هي مقصد المتحرك والتي يمكن الإشارة اليها، وزعم الكرامية انه تعالى في الجهة الفوقية لظاهر بعض الآيات مثل [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]( )، وقوله تعالى [ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ]( ).
ولكنه سبحانه غني عن الجهة وما يكون محلاً للأكوان وعنواناً للحدوث، فلابد من تأويل هذه الآيات بما يدل على تنزهه تعالى من الجهة, وتوكيد احاطته بكل شيء , قال تعالى [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ] ( ).
وآية الرفع تدل على بقاء الجسمية ملازمة لعيسى في آية أخرى لمنع الغلو فيه، وان الرفع لم يجعله من الملائكة او انه يكون ابن .
فالعبودية والآدمية ملازمة له قبل الرفع وبعده نعم جاء اصطفاؤه بفرد خاص وهو رفعه الى السماء وفيه اكرام للأنبياء جميعاً ولآل ابراهيم وآل عمران، وهل فيه اكرام للذين كفروا برسالته من قومه بلحاظ النسب، الجواب لا، لأن المدار على الإيمان، ففيه اكرام للذين صدقوا برسالته واجيال المسلمين الى يوم القيامة.
وقوله تعالى [وَرَافِعُكَ إِلَيَّ] لا تعني الجهة بالنسبة له تعالى ولكن الآية جاءت للإخبار عن مكان عيسى وانه في السماء ليريه من عجائب عظمته، ويجعله مع الملائكة ويريهم شأن الإنسان الذي انكروا خلافته في الأرض كيف انه اخلص العبادة لله فأكرمه ورفعه اليه، بعد ترك اتباعه واعوانه يمهدون لبعثة خاتم النبيين، ويمكن القول ان من مصاديق قوله تعالى في خلق آدم [وأَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) انه سبحانه يبعث الأنبياء ويرزقهم الآيات والبراهين ويجعل لهم انصاراً يحفظون الإيمان ويتعاهدون كلمة التوحيد الى يوم القيامة.
بحث عرفاني
تعتبر آية الرفع عنواناً للتطهير والتزكية، وتجريداً من مادية الطبيعة، وابتعاداً قهرياً عن النفس الشهوانية والحيوانية كنوع تخفيف بعد ان ابتعد عنها عيسى اختياراً طيلة أيام حياته كلها , وفيه نجاة مطلقة من غلبة الهوى او الميل الى أغواء الشيطان من غير حاجة الى تدبر وتأمل واعمال للفكر والنظر، لأن الشيطان لا يصل الى السماء.
والرفع آلة الإتصال والتقارب والإنسجام بين الإنسان وعالم الملكوت، وفيها ارتفاع لحجب الدنيا عن القلب وسلامة من المشاق الجسمانية.
وبآية الرفع اكرام مركب لكل من:
الأول : عيسى .
الثاني : الأنبياء.
الثالث : الحواريين.
الرابع : المسلمين مطلقاً والى يوم الدين.
وهي شاهد على محبة لهم، ودعوة للتنزه عن حضيض الدنيا ومشاغلها، وفيها حث على الإرتقاء في عالم المعرفة، ومنع من غلبة الغفلات على المسلم ساعات النهار او الليل.
لقد تفضل سبحانه ورفع عيسى ليبقى رفعه مادة لسياحة الروح في السماء، ويذكر المسلم بقرب عالم الآخرة، وامكان الإنتقال الى الجنة، فهو رياضة في عالم الآخرة، ودعوة لشوق الى جنانها واخبار عن استحقاق المسلم للفوز بنعيمها رحمة ولطف منه تعالى، اذ ان الرفع جاء فضلاً وابتداء منه تعالى لإصلاح النفوس وتكميلها وتأهيلها لمعرفة الحق وتعظيمه وتقديسه، ويكون فيها خيبة وخسارة للشيطان واعوانه، ودرء للهواجس النفسية، لذا ترى أحكام الصلاة يتلقاها الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الليلة التي أسٍري به الى السماء والتقى بها بالملائكة والأنبياء.
ولقد جاء الرفع بصفة العبودية التي أبتدأ عيسى كلامه بها وهو في المهد بقوله [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ] ( ) وهذه الصفة محل فخر وعز لعيسى وسبيل قوة في مسالك المعرفة والثبات على كلمة التوحيد وشهادة ان لا اله الا والتخلص الدائم من الكدورات الظلمانية.
وللرفع أبعاد روحية ووجدانية واخلاقية , وهو دليل على محبة لعيسى وللأنبياء والمسلمين وإلإنسان كمخلوق نفخ فيه من روحه، والإنذار أي الإخبار مع التخويف بقرب أوان الحساب.
واستحضارآبة الرفع برزخ دون اللذة وشوائب الهوى ومانع من اللهث وراء الحاجات الجسمية