بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي جعل الحياة دار امتحان واختبار، ولم يجعل الإنســان تائهاً متحيراً فيها بل رزقه العقل وأنــزل عليه الكتـب من السماء وبعث الأنبياء مبشــرين ومنذرين , وجاء خاتمهم وســيدهم الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم هادياً للعالمين ورحمة للناس أجمعين يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة الى منازل الإيمان والصلاح.
وتفضل وجعــل الآيات تملأ الآفــاق، وتجليات أنواره القدسية من عالم اللامنتهي، لتكون مسخرة للناس لإتخاذها وسيلة مباركة للسفر في عالم الملكوت، ويتدبروا من خلالها آيات الخلق والتنزيل فيرجعوا بشوارق الجمال الى الذات والأهل للإصلاح والإستقامة .
ومــن قواعــد اللطــف الإلهي آيات البشــارة والإنــذار الــواردة في القــرآن، لما تبعثه في النفس الإنسانية من الإعتبار والإتعاظ والتقيد بأحكام العبادات والمستحبات والحرص على اجتناب المعاصي والسيئات.
والمبادرة الى التصديق بالنبوات لأنها عنوان الإصطفاء الخاص والعام، الخاص لأشخاص الأنبياء وتشريفهم بالوحي، وجعلهم وسائط الفيض الإلهي على الناس والخلائق.
والعام للناس جميعاً بجعل النبوة آلة سماوية لجذبهم الى مقامات العبودية وهي اشرف المقامات وأسناها، فبدأ هذا الجزء وهو الثامن والثلاثون من معالم الإيمان بالآية السادسة والخمسين من سورة آل عمران وتتضمن الإنذار والوعيد بالعذاب الأليم لمن يكذب بنبوة عيسى والنبوات مطلقاً لأن الواجب هو التصديق بالأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
ومن مضامين البهجة في القرآن ان آية البشارة تتعقب آية الإنذار من غير فاصلة تؤدي الى استقرار الفزع والخوف في القلب .ولتكون كل منهما مدرسة في العرفان وباعثا على الصلاح، ويكونا معا على نحو الإجتماع حرزا وأمانا للمسلم.
فجــاءت الآية التالية لتنقــله الى باحــة الجنة، ويستقر في منازل القرب ورياض التلاوة الناضرة التي اشارت اليها الآية الثامنة والخمسون وهي تخاطب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ]، ثم تفضل على الناس وخلصهم من الجدال والمناظرة والشقاق في ولادة عيســى بمثل محسوس قريب بان ذكر وجــوه الشــبه بين خلقـه وخلق آدم الذي هــو خــليفة وعـبده، ومع انه خلق من غير أب وهو أبو البشــر جميعاً فلــم يقل أحــد بإلوهيته او يطــعن بولادته فمن باب الأولوية ان يقر الناس بعبودية عيسى لله تعالى ونبوته وخلقه بالكاف والنون وعدم تخلف الإيجاد عن الأمر الإلهي أعظم وأسمى من قواعد السببية والعلة والمعلول.
وآيات هذا الجزء والجزء الذي يليه سياحة في عالم الإحتجاج والجدال، ومدرسة لتعليم المسلمين مقدمات البرهان واتقان صناعة الجدل وقوعد المناظرة والقياس الجدلي والحجة الجدلية وكيفية ابطال حجة الخصم ، ولتحصيل المطلوب وتوظيف البرهان واظهار الرحمة بأهل اللجاج والعناد باقامة الحجة عليهم بالإضافة الى تعاهد أحكام التنزيل ومبادئ الشريعة الإسلامية.
ويختتم هذا الجزء الذي يضم تفسير ست آيات فقط بآية المباهلة التي هي كنز قرآني وثروة اسلامية متجددة ارادها عزاً للنبي الأكرم وأهل بيته والصحابة والمسلمين جميعاً، فجاء تفسيرها هنا وكأنه مشاهدة حضورية ومعراج في سلم الحجة والبرهان ومدرسة لم يرقَ اليها عالم التفسير والتأويل بفيض منه تعالى علينا وعلى المسلمين جميعاً، وهوالذي يجيب دعوة المؤمنين ويغيث الملهوفين، ويصرف الغم عن المكروبين، ويتعاهد بالنصر ألوية الإسلام الى يوم الدين.
(57-60)
قوله تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] الآية 56
قوله تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]الآية 56 .
الاعراب واللغة
فأما الذين كفروا: الفاء: استئنافية،.
اما: حرف شرط وتفصيل وتوكيد لا عمل له.
الذين: اسم موصول مبتدأ، كفروا: فعل ماض، والواو فاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
فأعذبهم عذاباً شديداً: الفاء: رابطة لجواب الشرط.
أعذبهم: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر يعود لله تعالى، والضمير (هم) مفعول به، عذاباً: مفعول مطلق.
شديداً: صفة، في الدنيا: جار ومجرور، والآخرة: معطوف على الدنيا.
وما لهم من ناصرين: الواو: حالية، ما: نافية، لهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
من: حرف جر زائد، ناصرين: مجرور لفظاً، مرفوع محلاً لأنه مبتدأ مؤخر.
والشديد: الأليم والكثير والخالي من اللين.
ومن أسمائه تعالى النصير والناصر.
والنصرة: حسن المعونة، ويقال انتصر الرجل أي امتنع عن ظالمه، والإستنصار: استمداد العون والمساعدة، وتناصر القوم: أي أعان بعضهم بعضاً، وفي الحديث: كل المسلم عن مسلم محرم أأخوان نصيران،) أي يعضد ويساعد أحدهما الآخر.
ويقال نصره ينصره نصراً: أعطاه، والنصر: العطاء، وفي الحديث: ان هذه السحابة تنصر أرض بني كعب، أي تمطرهم( ).
في سياق الآيات
بعد ان جاءت الآية السابقة بتقســيم الناس الى مؤمنين وكافرين بنبوة عيسى، وعلو شأن المؤمنين في الحياة الدنــيا، ودنــو منازل الكافرين وتردي احوالهم وهو نوع خزي عاجل يلحق بهم بسبب اصــرارهم على الكفر، وجاء موضــوع الآيــة متعلــقاً بالحيـاة الدنيا وعلى نحو الاطلاق الى يــوم القيامة، تضــمنت هذه الآية الانذار والوعيد بالعذاب للكافرين والشــامل للحيــاة الدنــيا والآخــرة، ولم ترد بالاخبار عن العــذاب وحده بل انها وصـفته بانه شــديد لبــيان مــدى ما فيه من الاذى والألم عقوبة، لتأتي الآيـة التاليــة بشـــارة ورحمة للمؤمنين.
وبخصوص الذين كفروا سعة وضيقاً تحتمل الآية وجوهاً:
الأول : إرادة التقييد بالكفر والجحود بنبوة عيسى عليه السلام بلحاظ نظم الآيات.
الثاني : المراد الإطلاق وإرادة سوء عاقبة الذين كفروا بالله ورسله وكتبه.
الثالث : إرادة الإطلاق والتقييد في ذات الوقت.
والصحيح هو الثاني ، ويدخل الأول في طوله، قال تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ).
إعجاز الآية
تتجلى في الآية مضامين الوعيد بما يبعث الفزع والخوف في النفوس، ويجعلها تهرب من اسباب ومفاهيم الكفر، وفي الآية برهان على عدم حصر العقاب بعالم الآخرة، بل ان الدنيا مناسبة لنزول العذاب على الكافرين على نحو الخصوص.
وتقطع الآية امل الكافرين بالشــفقة والنصرة، لانهم اختاروا الضلالة التي ليس فيها الا الوحــدة والضعف والهوان، ومن اعجاز الآية انها مدرسة في الموعظة والاعتبار .
ومن إعجاز الآية بيانها لحقيقة وهي لحوق العذاب بالكفار من جهات:
الأولى : عذاب الكفار في الحياة الدنيا.
الثانية : عذاب الكفار في الآخرة.
الثالثة : إتصاف عذاب الكفار في كل من الدنيا والآخرة بأنه شديد.
لتكون صفة الشديد في الآية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ضعفاً وقوة، وقصراً وطولاً، فمع أن أيام الدنيا قليلة وأن العذاب فيها أقل وأدنى من عذاب الآخرة، فقد وصفت الآية كلاً منها بأنه شديد .
وتقدير الآية: فاعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا، وعذاباً أشد منه في الآخرة ) وكأنه من السبر والتقسيم في بيان عذاب الدنيا على أيدي المؤمنين وصنوف البلاء التي تنزل بالكفار في الحياة الدنيا، أما العذاب الأليم في الآخرة فسنامه الخلود في النار.
ويحتمل متعلق خاتمة الآية [وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] وجوهاً:
الأول : إنه خاص بالحياة الدنيا، وما فيها من العذاب , قال تعالى في ذم الكفار[وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ) .
وفي معركة بدر لم يأت ناصر أو معين إلى كفار قريش بينما نزل الملائكة لنصرة المسلمين يومئذ، ( عن ابن عباس قال: جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان [ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( ).
وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين فلما رأى جبريل انتزع يده ، وولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة انك جار لنا؟! فقال { إني أرى ما لا ترون } وذلك حين رأى الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب } قال : ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين فقال المشركون : وما هؤلاء { غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم }( ).
الثاني : عدم وجود ناصر أو شفيع للكفار في عالم البرزخ.
الثالث : المراد ليس للكافرين من ناصرين في الدار الآخرة، ففي الدنيا قد يكون هناك أعوان أو شفعاء أو مؤازرون لهم ومنافقون يختلون بهم ويقولون[إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( )، أما يوم القيامة فليس للكفار إلا العذاب الأليم.
الرابع : إرادة المعنى الجامع للحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق، والمقصود أن عذاب الله عز وجل إذا نزل بالكافرين فلا أحد يستطيع دفعه عنهم.
ومن الإعجاز في هذه الآيات مجئ آية البحث خاصة بذم الكفار وبيان سوء حالهم وما ينتظرهم من العذاب الأليم لتتجلى فيها دروس الموعظة، وجاءت الآية التالية في الثناء على المؤمنين وبيان الثواب العظيم الذي أعده الله عز وجل.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا).
الآية سلاح
في الآية مددعون للمسلمين، في الجدال والبرهان، ودعوة للالتفات الى ما يصيب الكافرين من البلاء والعذاب، وفيها تنبيه وانذار للذين يصدون عن دعوة النبوة ويجحدون بالآيات، وهي عون على الايمان ورحمة للمسلمين والكافرين، اما المسلمون فالآية رحمة لهم لانهم يتمسكون بالاسلام ويرغبون بدخول الآخرين الفيه.
وأما الكفار فالآية زاجر سماوي لهم عن الكفر، وبيان لقبح الإقامة على الضلالة، وما تجلبه من أسباب العذاب، ومن خصائص الإنسان حبه للكسب والإقتناء، فبينت آية البحث أن الكفر لا يجلب إلا العذاب الشديد، وليس من ربح ولو على نحو الموجبة الجزئية، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
والآية وإن جاء بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن معاني الخطاب من وجوه :
الأول : تحذير الناس من مفاهيم الكفر، وبيان ضرره على الذات والغير، فليس من أمر يجلب العذاب الشديد في الدنيا والآخرة إلا الكفر والجحود، لذا قال الله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
الثاني : نهي الكفار عن البقاء في مستنقع الكفر والجحود.
والآية تذكير لهم بسوء حالهم وعاقبتهم، وبيان علة سوء الحال في الدنيا، فقد يرجع الكافر حال الضيق والبؤس التي هو فيها إلى أسباب مادية، وقانون العلة والمعلول في الحياة اليومية، فجاءت الآية لتخبر بأن علة وسبب ضروب البلاء الشديدة التي يتلقاها الكافر إنما هي بسبب إصراره على الكفر بالربوبية والنبوة والتنزيل، وحينما ( تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى[فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ]( )، قالوا: يا رسول الله ما هو هذا الشرح؟ قال : نور يقذف به في القلب ينفسح له القلب . قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : نعم ، الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور والإِستعداد للموت قبل الموت( ).
مفهوم الآية
تبعث الآية العز والقوة في قلوب المسلمين في كل زمان، لما يلحق الكافرين من العذاب ومافيه من عناوين الضعف والفرقة والتشتت والارباك النوعي والشخصي لدى الكفار، وتتعدى الآية موضوع الانذار لتبين الآثار المترتبة على الكفر والجحود، وما يلحق أهله من العذاب والعقاب، ومن مقدمات العذاب التي تدل على شدته مجيء الوعيد منه تعالى وبلغة المتكلم وان عزوجل هو الذي يتولى عذاب الكافرين، كما جاء وصف العذاب بانه شديد.
وفي الآية مسائل:
الاولى: جاءت الآية بلغة العموم فيما يخص الكافرين، فلم تحصر العذاب برؤوس الكفر، او تحخصص لهم عذاب الدنيا وحده او عذاب الآخرة.
الثانية: يأتي العذاب عقوبة على الكفر.
الثالثة: لم يأت ذكر العذاب على نحو الاجمال والتنكير، بل بينت الآية نوع العذاب وما فيه من البطش الإلهي، وبما يغني عن ذكر موضوعه وكيفيته.
الرابعة: لغة الاطلاق في الآية، وملازمة العذاب الكافرين، ففي الدنيا يكون مصاحباً للكفر والضلالة، وفي الآخرة يأتي عقاباً.
الخامسة: خيبة امل الكافرين، والقاء الفزع والخوف في نفوسهم.
وهل هذه الآية من العذاب، فيه وجوه.
الاول: تعتبر مقدمة للعذاب.
الثاني: انها انذار ووعيد.
الثالث: الآية جزء من العذاب ومن مصاديقه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاثة، وهذا من اعجاز القرآن ومن شدة العذاب.
السادسة: الآية بشارة لعيسى وبيان لما يلاقيه الذين كفروا برسالته، ويجحدون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العذاب الشديد، وذكر الكفر جاء على نحو القضية المهملة من غير ان يقيد بالكفر برسالة عيسى .
وفي الآية مسائل:
1- الأولى : اختصاص موضوع الآية بما يلقاه الكفار.
2- الثانية : العذاب الشديد للكفار في الدنيا.
3- الثالثة : في الآية دليل على اطلاق العذاب وشموله للدنيا والآخرة، وان عذاب الدنيا لا يخفف من عذاب الآخرة لأن شدة العذاب تتغشى النشأتين.
4- الرابعة : جاءت الآية لمنع اللبس والظن بانحصار العذاب الشديد في الآخرة، فهي لم تقل ولهم عذاب في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد، بل قدمت العذاب على ذكر وعائه الزماني لبيان سخط اللهم عليهم, وانغلاق باب الصعود والمغفرة بوجوههم.
فلذا لا تجد لهم نصيراً فاذا علم الملائكة والأنبياء والمؤمنين ان ساخط على الكفار فانهم لا يشفعون لهم.
افاضات إفاضات الآية
تعتبر الآية من أيات الانذار والوعيد ومن الافاضات فيها بعث السكينة في نفوس المسلمين الذي صدقوا ببعثة عيسى ، والأنبياء جميعاً من غير فرق بينهم، ان الايمان ببعثة عيسى عون على التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من خلع رداء العناد والاصرار على الوقوف عند النبي السابق، وعدم اتباع النبي اللاحق مع ان اتباعه واجب من وجوه:
الاول: انه مبعوث من عند .
الثاني: مجيؤه بالآيات البينات التي تثبت صدق نبوته، وما يأمر به من اتباعه والانقياد له فيما جاء به.
الثالث: بشارة النبي السابق به، وبنبوته وهي دعوة متقدمة لطاعته والاخذ بما يأمر به من عند .
الرابع: عصمة الأنبياء وانتفاء الخطأ او الزلل او السهو عنهم في التبليغ والاحكام الشرعية.
فاذا ثبتت النبوة بالآيات والبراهين، فلابد من الامتثال للاحكام التي يأتي بها النبي لوجود المقتضي وفقد المانع.
وقد فاز بالإمتثال المسلمون، لتكون آيات الانذار دعوة لهم للمواظبة على الطاعات والتقيد بمسائل الحلال والحرام.
التفسير
قوله تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا]
بعدان جاءت الآية السابقة بتقسيم الناس بلحاظ الايمان برسالة عيسى وذم الكافرين على سوء اختيارهم، واصرارهم على العناد والجحود اختصت هذه الآية بما يتعلق بالكافرين، وتتجلى فيها آيات القوة والبطش والقدرة الالهية لتكون هذه الآية وحدها موضوعاً للزجر عن الكفر، ووسيلة سماوية لجذب الناس الى الهداية والايمان اذ انها تبين حال الكافرين، وان الامر لا ينحصر بعلو وارتقاء منازل المؤمنين عليهم، بل ان العقاب يتوجه للكافرين على نحو التعيين.
ولم يقف العقاب عند لغــة العذاب وحــده بل ان وصــفه بما يدل على غلظته وشدته، ويتضمن الوعيد والتهديد، مما يدل على سوء فعلهم وقبيح صنيعهم، وهو ظاهر من خــلال عظيــم الآيات التي جاء بها عيسى ، فقد قامـت الحجة عليهم باعراضهم عن الآيات التي جاء بها، والتي تطرد الشك والوهم والظن، وتثبيت اليقين والقطع بنبوته، وهــذه الآيات جـاءت على نحو متعدد ومتكثر في كل واحدة منها.
ومن الاعجاز فيها ان اثارها تعلق بالاذهان، وتبقى في المجتمعات، فنفخ عيسى في الطين وصيرورته طيراًً، يراها الصغير والقريبوالكبير، وترسخ في أذهانهم فلا ينساهما أحدهم، بل لا يستطيعون كتمان الأمر او الصبر عن الحديث بها الى آخر العمر، وهذا من أسرار شيوع نبوة عيسى وازدياد عدد أتباعه فيما بعد رفعه، .
كما ان آية ابراء الأكمه والأبرص تبقى في المجتمعات طوعاً وقهراً فالذي يعرفه الناس أنه أعمى او أبرص، أصبحوا يرونه سليماً معافى ليس فيه درن او مرض، فيتبادر فتتبادر الى الأذهان الآية التي كانت سبباً في شفائه، مع التسالم على عجز الأطباء عن شفائه، .
وبعد مغادرة عيسى ورفعه الى السماء يبقى من يبتلى بالعمى او البرص على حاله من غير علاج او شفاء تتغشاه الحسرة والخيبة لأنه لم يكن موجوداً او مصاباً بالعامة بالعاهة أيام عيسى .
ولعله أمر نادر ان يتمنى انسان ان تكون العاهة قد اصابته على نحو مبكر زماناً، لا لشيء، الا لأن النبي الذي يبرء الزمنى في زمان متقدم عليه، وفاته ادراكه وتلقي العلاج بمسحة بأياديه المباركة، وهذا وهو ايضاً من أسباب انتشار النصرانية بعد رفع عيسى لظهور الحسرة والندامة على بسبب عدم الإنتفاع من آيات النبوة في أيام حياته، وكذا بالنسبة للزمنى الذين لم يستطيعوا رؤية عيســى من أهــل زمانه ، ومما حــواليه بيـت المقدس من القرى.،
وتلك الأمة الحسرة لا تنحصر بأصحاب العاهات بل تشمل ذويهم وأهلهم وأهل البر والإحسان ومن يعطف على الفقراء والمرضى، بل والأصجاء والأصحاء مطلقاً باعتبار انهم معرضون للإصابة بالمرض والعاهة، وهذه الحسرة ذات أثر مركب فهي سبب لتأليب الناس على على الرهبان والملأ الذين ساهموا بالتحريض على عيسى وارادة صلبه وقتله وضعف منازلهم في المجتمع وقلة شا،أنهم، وحصول نوع ارتباك ونقص يساعد في انتشار مبادئ النصرانية وبث العقائد التي جاء بها عيسى وسرعة انتشارها، وميل الناس الى قبولها قبولها.
فالضعف الذي يدب في النظام السياسي، وقلة تأثير السلطان السلطات الروحية، يساهم في انتشار أفكار أخرى تجد قبولاً عند الناس وليس من شيء أفضل وأحسن من آيات عيسى في سرعة قبول الناس لها وتلقيه وتلقي انباءها بشوق يخالطه ندم على تضييع تلك النعم، .
وهذا الأثر من العذاب العاجل للذين كفروا برسالة عيســى ودعوته الى طاعة ، اذ أحســوا بعـزوف الناس عنهم وضــعف مراتبهم ومنازلهم وتوجه اللوم لهم ممن هو أدنى منهم، مع عـدم الإلتفات الى ما يقولون، وصاروا يرون الأتبــاع يأخــذون بأحكام الشــريعة الجديدة التي جاء بها عيسى ، ويستحضرون الآيات التي جاء بها ودلالتها على نبــوته ولزوم اتــباعـه، ويحرصون على معرفة ســنته وسـيرته وأعماله باليوم والليلة، وينصتــون بشوق الى ما ينقل من أقواله وتأديبه لأصحابه، .
وأذا وإذ ابتدأ هذا الأمر على نحو محدود في بيت المقدس وما حولها، فانه أتسع فيما بعد، وقد أنعم على المسلمين بتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته الشريفة، وحرص المسلمين المسلمون على حفظها وتوثيقها وتوثيقها.
وكان التابعون وأهل الأمصار يأتون جماعات الى صحابة النبي للإستماع الى حديث قاله صلى الله عليه وآله وسلم او فعل قام به، خصوصاً وان القرآن ندب الى هذا الأمر بآيات منها [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) قوله قال تعالى [ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ]( ).،
وأتصفت واتصفت سنته صلى الله عليه وآله وسلم بالسعة والشمول لميادين الحياة المختلفة وتضمنت مصاديق علم التفسير والكلام والأخلاق وأحوال المعاد، والأمور الإجتماعية، وشــؤون الأسرة، وتفاصيل أحكام النكاح والطلاق، وقواعد الكسب والتجارة والزراعة وغيرها، وجرى تنقيح متصل من قبل العلماء لسند الأحاديث وضبط متونها وترجمة رجالها لتكون أعظم تراث في التأريخ بعد القرآن، دقة وضبطاً ونفعاً، .
وفي توثيق سنة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأريخ البعثة النبوية عذاب شديد للكافرين بنبوة عيسى لأنهم يرون دخول الناس أفواجاً في الإسلام وتصديقهم بنبوة عيسى بشواهد التنزيل، وأحاديث الرسول الأكرم وإخباره عن آياتتصديقه بنبوة عيسى بعرض واحد مع نبوة موسى .
وجاء ذكــر العذاب الشــديد للكــافرين بنبــوة عيــسى مــن باب المثال الأمــثل والعــبرة والموعظــة، فمفهومها يدل على شدة عذاب الذين يكفرون بنــبوة محمــد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة.
&&والآية تحذير وتخويف ووعيد للذين يصرون على الجحود والشرك، وبين الذين كفروا بنبوة عيسى ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام البعثة والتنزيل عموم وخصوص من وجه، .
فمادة الإلتقاء الكفر بالنبــوة، ومادة الإفتـراق ان الذين كفروا برسالة عيســى من الموحــدين واتباع شــريعة ســماوية وكتاب منزل، وهو التوراة اما الذين كفروا بنبــوة محمــد صلى الله عليــه وآلـه وسلم في مكة فهم مشركون، فأيهما أشد عذاباً، الجواب هم المشركون لإصرارهم على البقاء على الضلالة المحضــة ولكن الآية جـاءت بالإخبار عن اتصاف عذاب الذين جحدوا برسالة عيشى عيسى بالشدة والأذى لأن الكفر بالنبوة يعني عدم التصديق بما أنزل وطاعة الرسول من طاعته تعالى.
وجاءت الآية بصيغة المضارع ولا يعني هذا امهالهم وتأخير العذاب عنهم لإحتمال اسلامهم، بدليل انه يشمل الحياة الدنيا مثلما يخص الآخرة، فمتعلق العذاب هو التلبس بالكفر، ولا يدفع العذاب الا الإيمان وليس من استصحاب قهقري للإيمان مع علمه تعالى بمن سيؤمن وأوان إيمانه، ومن يصر على الكفر والجحود، وهذا من أفراد العذاب للكافر وانعدام التخفيف العرضي فيه.
والآية خطاب لعيسى ، بلحاظ نظم الآيات وسيأتي بعد آية أخرى قوله تعالى [ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ] ( ) وهو خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دلالة بان عذاب الكافرين آية منه تعالى لما فيها من جريان الأمور بمشيئته وارادته ونزول العقاب عليهم على نحو عاجل وفي الحياة الدنيا قبل الآخرة.
ووصف العذاب بانه شديد يبعث في النفس الإنسانية الفزع والخوف لقطعية حدوثه والعجز عن تصور طرفه من جهة الكفثرة والشدة والقسوة، وهو مدرسة للإعتبار والتدارك والإستغفار، وهذه المدرسة متعددة الوجوه والمصاديق أنهامنها:
1- الأول : انذار عيسى للكافرين وتحذيرهم وتخويفهم.
2- الثاني : مفهوم الآيات التي جاء بها عيسى ، اذ انها دليل على وجود الصانع ولزوم عبادته واطاعة من يبعثه رسولاً الى الناس.
3- الثالث : الآيات الكونية.
4- الرابع : بديع خلق الإنسان وما يترشح عنه من وجوب الشكر لله تعالى.
5- الخامس : قيام الحواريين بالدعوة الى شريعة عيسى بعد رفعه، وتوكيدهم على الآيات التي جاء بها والإستشهاد بمن حضر تلك الآيات، والزمنى الذين تم شفاؤهم من الإدران الأدران والأمراض المستعصية على يد عيسى .
السادس : ظهور آثار ومصاديق هذا العذاب على الكافرين , فكما أحس عيسى منهم الكفر فان يبتليهم بالإحساس بالعذاب وهذا الإحساس قطعي لأن العذاب شديد أليم ومن وجوه شدتهمضامين الألم فيه ان يكون سريعاً مباغتاً مفاجئاً لهم، وينزل من غير أسباب ظاهرة، وتلك آية اضافية، وبرهان وعلة للإحساس بالعذاب والعقوبة العاجلة، .
ولكن هناك فرق بين احساسهم بالعذاب واحساس عيسى بكفرهم من وجوه:
1- الأول : التعدي والظلم الشخصي والنوعي في اختيارهم الكفر والجحود برسالة عيسى .
2- الثاني : لم يأتهم عيسى الا بما هو حق وصدق، وقابلوه بالكفر والعزم على ايذائه.
3- الثالث : جاء كفرهم بعد رؤية الآيات البينات، مما يعني انه مخالف لحكم الشرع والعقل والوجدان، فآيات عيسى تخاطب العقول ولكن الهوى والنفس الشهوية والغضبية أستولت استولت عليهم.
الرابع : احساسهم بالعذاب عقوبة، ولكنه ليس جزاء لإحساس عيسى منهمب الكفرهم، بل لأنهم أصروا على الجحود، وعزموا على البطش به، وأرادوا صلبه ولكن خلصه منهم ورفعه اليه، ومع هذا فانهم صلبوا شبهه بقصد انه عيسى، .
فحق عليهم العذاب، لأن الشبه مسألة اعجازية اضافية خارجة عن أحكام التكليف، فلا تتعارض مع ثبوت البينة عليهم بانهم قتلوا عيسى وقيامهم بالقتل جحودا، وهذا سر من أسرار موضوع الشبه وجعله بديلاً لعيسى ، وقيام الكافرين بصلبه وقتله، واتصال الإشتباه عندهم الى ما بعد رفعه حتى انك تجد النصارى يقولون بان عيسى تم صلبه وقتله، الى ان جاء القرآن وبيّن هذه الحقيقة، ومع هذا تراهم لا يرجعون عن دعواهم بصلبه وقتله.
4- الخامس : احساس عيسى بكفرهم انتهى برفعه الى السماء، أما احساسهم بالعذاب فهو مستمر في النشأتين.
5- السادس : ما يرد عليهم على الكفار من العذاب يراه ويحس به الناس جميعاً، المؤمنون وغيرهم ويكون شاهداً على تعديهم وظلمهم.
وتبين الآية ان إيذاء النبي وعدم التصــديق بهالنبي وايذائه من الكبائر التي يتعقبها العذاب من غير امهال وتأخير، وهذا من الآيات والأسرار التكوينية التي اطلع النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عليها، لتكون شاهداً وعبرة، ولتعطي للمسلمين دروساً في الصبر على الأذى وانتظار العذاب بالكافرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل يتعلق العذاب بأشخاص الكافرين على نحو الإطلاق لأيام أعمارهم الجواب لا، انما هو متعلق بالتلبس بالكفر موضوعاً وحكماً وزماناً، فاذا تخلى أحــدهم عن الكفر، واختـار الإيمان فان العذاب ينقطع عنه فان قلت لو أبتلي أحدهم بداء عضال عقوبة ثم تاب وأهــتدى، ولكن المرض بقى ملازمــاً له والله يعلم انه ســيتوب فلماذا أبتلاه بمرض عضال عقوبة ,والجواب ان الإصابة بالمرض تحتمل أمرين:
الأول: ابتلاء، . والثاني: عقوبة، .
فاذا كان الأول فهو يصيب المؤمن والكافر وكذا استمراره في حال الإيمان أي يبقى ابتلاء مع الفارق، ان المرض مع الإيمان فهي أجر وهو باب للمغفــرة، واما اذان كان الثاني أي عـقوبة، فان استمراره من سنة الحياة، ولكنه يختلف حكماً وأثراً لعمــومات قاعدة اذا تغير الموضوع تبدل الحكم.
قانون الإبتلاء
من الآيات في خلق الإنسان والملازمة بين الفعل والأثر والسبب والمسبب والعلة والمعلول ان الإبتلاء او العقاب لا يمنع من التدارك ونيل مراتب الثواب بل بالعكس فهذا العذاب الذي توعد به هذه الآية مناسبة للتوبة والصلاح، ووسيلة سلبية لحث الإنسان على التقوى والتدبر بحاله وأسباب الإبتلاء او كيفية التخلص منه، كما ان الإبتلاء برزخ دون الإنشغال بالدنيا ودروب الكسب والتنعم بها بما يكون سبباً للمندوحة في السياحة الذهنية والتفكر بلزوم الإيمان، وأسباب الإبتلاء، وسبل الخلاص بالإنابة والصدق ونبذ الإستكبار،.
والإبتلاء الإمتحان والإختبار، والجمع بلايا وهو على قسمين:
الأول: البلاء الحسن، وهو حصول النعمة والصنع الجميل، والفضل الإلهي النازل وفي الدعاء: اللهم لا تبلنا الا بالتي هي أحسن.
الثاني: البلاء السيء، والبلوى: اسم من بلاه . يبلوه.
ومن الآيات ان الإبتلاء عام لا ينحصر بأمة او ملة دون أخرى بل يشمل جميع الناس وفي الأزمنة المختلفة، وهو من خصائص الحياة الدنيا ويكون إلإبتلاء متعدداً، في جهته وموضوعه ومقداره وكمه وكيفيته، اما وجوه تعلقه فهي:
الأول: البدن، والصحة والمرض، والقوة والضعف.
الثاني: الرزق، بسطة وتقديراً.
الثالث: الكسب والسعي في الدنيا.
الرابع: التعب والراحة.
الخامس: الهموم والغموم، او الغبطة والسعادة.
السادس: الأبوة والبنوة وفقد الأب او الأم او الإبن.
السابع: الوحدة والعزلة والغربة والوحشة، أو الأسرة والقبيلة والمحلة والبلدة.
الثامن: حال العمل والصلات الإجتماعية.
التاسع: الدراسة والتحصيل الدراسي ان كان له اعتبار في حياته.
العاشر: الزوجية والصلات داخل البيت والأسرة والأسرة.
والإبتلاء بلحاظ حدوثه على وجوه:
الأول: ما يأتي دفعة واحدة وهو على شعبتين:
الأولى: حدوث أمر مباغت فيه أذى ومشقة وخلاف الحال المستقرة المعتادة.
الثانية: الذي يكون محتملاً ومتوقعاً وينتظره الإنسان، ويظن حدوثه ويخاف منه.
الثاني: الإبتلاء الذي يأتي تدريجياً وعلى مراحل متباينة، ومتعددة، وهو ايضاً على مراتب منها:
- الأولى : ما يرجو الإنسان انقطاعه وانحساره.
- الثانية : يعجز الإنسان عن التخلص منه ودفعه.
- الثالثة : ورود أمر مفاجئ يؤدي الى النجاة منه.
- الرابعة : مجيء أمر حسن ورحمة اضافية تدفع البلاء، وحصول الفرج بعد الشدة، والسعة بعد الضيق، والصحة بعد المرض.
الثالث: ما يلازم الإنسان مدة حياته ويصير جزء من واقعه اليومي والمعاشي، فينظر الى الناس وهم معافون منه.
الرابع: ما يأتي المدة محدودة وهذا ايضاً على اقسام:
الأولاً: ما تكون مدته طولاً وقصراً قهرية.
الثانياً: تتوقف مدته على صلاح المبتلى او غناه وفقره وأسباب السلامة والنجاة منه.
الثالثاً: ما يزول بذاته بحسب مدته وشدته وضعفه.
ان الإبتلاء مدرسة عقائدية أخلاقية إجتماعية سياسية لا تنحصر موضوعاتها بباب معين، اذ ان مضامينها متصلة وأحكامها شاملة، وهي تدعو الإنسان في الليل والنهار للتقوى والصلاح وتساعده على الهداية والرشاد، .
ويمكن اعتبار قسمي الإبتلاء من عمومـات قواعد اللطف الإلهي، أي ان اللطف لا ينحصــر بالبلاء الحسن بل يشمل البــلاء الذي فيه الشدة والأذى لأنه مانع من الإستمار البقاء على الضلالة واستدامة الجحود، وبرزخ دون فعل السيئات والإقامة على المعاصي، وهذا البلاء أخف وطأة من العذاب الأخروي وان كان هو الآخر شديداً وهو, مناسبة للتدارك والتوبة.
وكم من انسان جاء غزاه المرض والعوز والفقر فآمن بالله، والتفت الى آيات النبوة وآمنصدق بها.
قوله تعالى [فِي الدُّنْيَا]
ذكرت هذه الآية قسمين لعذاب الكافرآخرة بلحاظ الوعاء الزماني واطلاق الأثر المترتب على الكفر وهما:
الأول: الدنيا.
الثاني: الآخرة،.
ولا تعارض بينهما، فأحدهما في طول وأمتداد وإمتداد الآخر، وان كان بينهما تباين في الموضوع وكم وكيفية العذايالعذاب، وبينهما عموم وخصوص من وجه فمادة الإتفاق من وجوه:
الأول: حصول العذاب في الدارين.
الثاني: شدة العذاب في النشأتين.
الثالث: ينزل البلاء عقاباً على الكفر والجحود.
الرابع: شمول العذاب للكافرين افراداً وجماعات.
الخامس: الأمر بالعذاب منه تعالى.
السادس: عدم النصرة في الدنيا والآخرة.
اما مادة الإفتراق فهي:
الأول: شــدة عذاب الآخـرة بالقياس الى عذاب الدنيا، ولا يعني هذا خفــة وقلة عذاب الدنيا بالقيــاس الى عذاب الآخرة، بل كل واحد منهما شــديد، ولكن عــذاب الآخرة أشـد وأكثر أذى وعناء.
الثاني: طول عذاب الآخرة اذ انه ليس له حد محدود، وهذا لا يدل على قصر مدة عذاب الدنيا،فساعة في عذاب الدنيا عن سنوات من عمر الإنسان، ولكن الدنيا لها أمد محدود وأجل معين بخلاف الآخرة.
الثالث: الدنيا دار عمل ومع هذا طرأ عليها الحساب الشديد، والآخرة دار حساب بلا عمل.
الرابع: في الدنيا قد يحصل للإنسان عمل صالح وسبب لتخفيف العذاب، بخلاف الآخرة.
الخامس: بقاء باب التوبة مفتوحاً في الدنيا، فمن يكون في عداد الكفار قد يصــبح مؤمناً ويتخلص من العذاب، أما في الآخــرة فلا نجاة من العذاب لإنغلاق باب العمل وفرص الإنابة والتوبة.
السادس: استدامة الحسرة في الآخرة في قلوب الكافرين، لأن الناس فيها على شطرين شطر في الجنة وشطر في النار، وينحصر النعيم بأهل الجنة، والعذاب بأهل النار، اما في الدنيا فان النعيم لا نيحصر ينحصر بغريق بفريق منهم لأنها دار امتحان وأختبار.
السابع: احـاطة الحــور العين والولدان المخليدون بأهــل الجنان، ومــلائكة العذاب الغلاظ الشداد بأهل النار، وتباين الطعام بين الغريقينالفريقين.
الثامن: من عذاب الدنيا تعرض الكافرين للأسر والسبي والخزي والقتل، ودفع الجزية، ومنه رؤية رؤيتهم المؤمنين في الرفعة، وعز، ورؤية الكافر لنفسه في حال الذل والضعف والهوان.
ووجــوه العذاب للكــافرين في الدنيا أكــثر من أن تحصــى ولا يحيط بها العقل الإنســاني، لأنها لا تنحصــر بباب دون آخــر، وهنــاك ابتلاءات شــخصية ومســتحدثة لم تطــرأ على بال أحد، وتأتي مفاجئة او دفعية.
قوله تعالى [وَالآخِرَةِ]
أي ان عذاب الكافرين في الآخرة شديد ايضاً كما هو في الدنيا مع التباين في الدرجة والمدة والقوة فليس من عذاب أشد من عذاب الآخرة، كما انه ليس من نعيم أحسن وأعظم وأفضل من نعيم الدنيا، والمراد من الآخرة أمور:
الأول: عالم البرزخ من حين الدخــول في القبر الى يوم البعث، وهو ايضاً على مراتب ومراحل متعددة منها:
الأولى: ضغطة القبر عند ادخال الميت فيه.
الثانية: عذاب الليلة الأولى للكافر، وحساب منكر ونكير.
الثالثة: العذاب والأذى المستديم في القبر للذين كفروا، كما ورد في التنزيل بخصوص آل فرعون، قال تعالى [ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ] ( )،.
وتؤكد هذه الآية ان عذاب الآخرة على مراتب تصاعدية وان القبر فيه عذاب شديد، ولكن الأشد يكون عند قيام الساعة وما بعدها.
الثاني: عند النشور ومعرفة الكافر بذنوبه واصابته بالفزع والخوف الشديد لما ينتظره من العذاب.
الثالث: في عرصات ومواطن القيامة، وعند الحوض، وتطاير الصحائف، وعند الصراط.
الرابع: شهادة الجوارح والأعضاء على الكافر.
الخامس: الخصومة والنفرة بين الكافرين.
السادس: رؤية الحســنات تغادرهم لمن أســاءوا اليهم، بمعنى ان الحسنات تقتطع من صحيفة الكافر الظالم لتعطى للمسلم الذي تعرض لأذاه.
السابع: انعدام الشفيع.
الثامن: انتظار الدخول في النار.
التاسع: طول الوقوف للحساب.
العاشر: شدة العذاب المترشحة عن طول مدة كل موطن من مواطن يوم القيامة.
الحادي عشر: دخول النار والخلود فيها، وهو أشــد العذاب، والذي ليس من بعده عذاب يناله أحــد من الخــلائق مطلقاً، انه الخــلود في الجحيم.
لقد جاء الإخبار عن عذاب الكافرني موعظة وتحذيراً وانذاراً، وفيه دعوة للناس جميعاً للتدارك والتصديق بالأنبياء وما أنزل عليهم من الكتب السماوية السماوية.
ترى أيهما أكثر ضلالة الذي رأى الآيات وأصر على الكفر، كما في قصة ومضامين هذه الآيات التي جاءت بصدد الذين كفروا برسالة عيسى ، او الذين بلغتهم آيات الوعيد هذه وأصروا على الكفر مع انهم لم يروا الآيات الحسية التي جاء بها عيسى.
الجواب: ان كلاً منهما ضال مضل، ومن لم تأته لم الآيات الحسية فانه أطلع على الآيات العقلية التي جاء بها القرآن، وفيها رؤية قلبية لمعجزات الأنبياء مطلقاً وليس معجزات عيسى وحده، انه من اللطف الإلهي بالعباد وسعة حلمه تعالى واحسانه.
فان قلت: ان آيات القــرآن هذه لم يطلع عليها أكثر الناس، والى الآن تجــد المســلمين أقـــل عــدداً من غــير المسلمين، والجواب من وجوه:
الأول: ان الموعظة والتذكير لا ينحصـــران بالمســلمين بل انهما مـــلازمان للإنسان في يومــه وليلتـــه.،
فنفســه تذكــره وتعظه، وبديــع خلــقه والآيــات في بدنه تدعوه للتدبر والتفكر، وآيات الآفــاق تجــذبه في ســاعة فراغــه، وحـالات الفرح والحزن، والصـحة والمرض أسباب وعلل للتذكرة والموعظة، وهذه الحــالات والأســباب مجتمــعة ومتفــرقة تحثه على اللجوء الى القــرآن والإســتضاءة بما فيه مــن العــلوم ووجــوه الثــواب والعـقــاب.
لقد جاءت الآية بذكر عواقب الكفر وبما يدل على عدم وجود شيء أكبر ضرراً على الإنسان في دنياه وآخرته مثل الكفر والضلالة، وفيه دلالة على ان الإنسان لم يخلق الا للعبادة والإتيان بالصالحات لقوله تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ] ( ).
ولكن مفهوم هذه الآية أعلاه لا يدل على العذاب الشديد للكافرين، والقدر المتيقن منه حرمة عدم العبادة او التفريط بها، فجاءت هذه الآية لتبين جــزاء من يخالف علة الخلق في عمله ولا ويجحد ويعصي الأوامر بعبادةيعبد .
*&قانون الفوقية
لقد جعل الدنيا مملوءة بالمتضادات والمتناقضات والمتنافيات والمتساويات والمتشابهات، والأزواج والأوتار، وغيرها، وهي جزء من آيات الزمان والخلق، ومن مصاديق الإرادة التكوينية والتشريعية وكلها تدعو الى وتؤكد مضــامين الربوبية ولـزوم الإنقياد له سبحانه ومن الآيات مراتب الناس في الحياة الدنيا والآخرة.
فمن البينات على عظمة قدرته تعالى، تباين مراتب الناس في الدنيا وعدم وجود ملازمة بين الإيمــان والغنى، والكفر والفقــر، لأنه من موارد الإبتلاء والإمتحان في الدنيا، وفيه نوع استدراج للكافرين، ودعوة للمؤمنين للصبر والتحمل من أجل نيل الثواب العظيم في الآخرة.
اما هذه الآية فجاءت لتذكر حقيقة ثابتة، وقاعدة كلية تتعلق بمراتب الناس وشأنهم، والتمايز في درجاتهم بلحاظ الإيمان والكفر، وهــذه الآية من أعظم الآيات ذات ألأثر العقائدي والإجتماعي والأخلاقي لما فيها من الدلالات والبراهين على نيل المسلمين الرفعة والشـأن والعز في الدنيا والآخرة، .
فآية الفوقية شاهد على حضور المشيئة الإلهية في الحياة الإجتماعية والصلات بين الناس، وهذا الحضور امر معروف وظاهر بالوجدان والحواس الا ان الآية الفوقية دليل على انه لصالح المسلمين ورفعتهم، وفي آية الفوقية مسائل:
الأولى: البشارة للمؤمنين.
الثانية: بعث السكينة والأمل في نفوسهم.
الثالثة: القاء الخوف واسباب الذل والهوان في قلوب الكافرين.
الرابعة: ثبات المسلمين على الهدى والإيمان , لأن الرفعة والفوقية صلاح وعون ومدد.
الخامسة: اعانة المسلمين على أداء وظائفهم العبادية.
السادسة: في هذا القانون حجة مركبة من وجهين رفعة المسلمين، وذل الكافرين وكل وجه منهما.
دعوة للإسلام وحجة على ا لكافرين، وتحذير من الصدود والإعراض عن النبوة وما يأتي به الأنبياء من الآيات البينات.
ان قانون الفوقية مصاحب للوجود الإنساني في الأرض، لأن الإيمان والكفر من المتناقضين واراد له ان يكون سبباً لإستدامة الإيمان وعدم انتصار الكفر عليه او سيادة مفاهيم الضلالة، واستحواذ الشيطان على الناس او غلبة النفس الشهوية.
وليبقى المسلمون هم خلفاء الأرض وسادة المجتمعات، وليكون هذا القانون مقدمة للثواب في الآخرة والجزاء بالجنة لهم ولينال الكافرون العقاب والعذاب.
وهذا القانون آية دائمة وهو رحمة لكل من:
1- الأول : المسلمين.
2- الثاني : الكافرين.
3- الثالث : الأجيال المتعاقبة.
ومن مصاديق الرحمة بالكافرين في هذا القانــون انه دعــوة للكافرين للإنتقال الى مراتب العلو باختيار الإيمان واجتناب الضلالة والكفر، فهو تذكــير يومي متصــل يتجــلى في الصلات الإجتماعية والجاه والشــأن والأموال وأســباب التخفيـف عن المسلمين، والعناء الذي يــلاقيه الكافرون في معاملاتهم وحياتهم العامة بسبب تركهم للعبادات.
آيات العذاب
لقد خلق الإنســان وفضــله بنعمــة العــقل والقدرة على حسن التدبير والتفكر في الخلق، ليكون العقــل رسولاً باطنياً، ومحلاً لتلقي آيات الإنذار والتحـذير وانبعاث الخوف في النفس منها بالذات والعرض والأثر لتصــبح منقــصادعة لمضــامينها القدســية، مجتهــدة في تــدارك الزلل الذي يــؤدي الى ما يستحق الإنســان معــه الأذى والعـقوبة التي جاءت بها هذه الآيات، ام ان اسم العذاب وحده يبعث على الفــزع والخــوفو عـند الإنساب الإنســان، ويحعله ويجعله يتــدبر بما يتعــلق به مـن الوجـوه وهي:
1- الأول : أسباب وعلل نزول العذاب.
2- الثاني : موضوعات وماهية العذاب.
3- الثالث : الأحكام التي تخص العذاب.
4- الرابع : كيفيته وكمه ومدته.
5- الخامس : سبل الوقاية من العذاب والإحتراز من وقوعه.
6- السادس : صيغ النجاة منه وكيفية دفعه بعد نزوله، اذ ان رحمة واسعة فالعذاب ينزل ليدعو الإنسان فيرفع عنه العذاب، ويدفع عنه الأذى والشر، ويصلاح حاله ويخلفه خيراً وعوضاً عما فاته.
والعذاب الذي جاءت به الآيات على أقسام:
الأول: الشخصي، وهو الذي يقع للشــخص نتيجة لســوء فعــله واســاءته كما في قوله تعالى [وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] ( ).
وكل آية تنزل بسبب خاص لها حكم عام يتعلق بالموضوع فلا تنحصر مضامينها وأحكامها بسبب حكم عام يتعلق بالموضوع فلا ولا تنحصر تختص مضامينها مفاهيمها وأحكامها بسبب النزول.
الثاني: الفعل الجحود والذنب المتكرر والمتشابه من الكافرين , كما في قوله تعالى [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ] ( ).
الثالث: العذاب العام الذي يحل بقوم اختاروا الكفر مع قيام الحجة وتوالي الآيات عليهم فتأتي الآية الكريمة لتخبر عن نزول العذاب بهم سواء كانوا في قرية او مصر او انهم امة متفرقون في البلدان، اما من جهة الزمان فآيات العذاب على أقسام:
الأول: ما يخص الدنيا كما في قوله تعالى [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ] ( ).
الثاني: عذاب الآخرة، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ]( ).
الثالث: الآيات التي تخبر عن العنوان الجامع، والعذاب الشامل في النشأتين كما في الآية محل البحث، .
والقسم الثاني هو الذي جاءك جاءت فيه أكثر آيات العذاب في القرآن، وهذا التقسيم والكثرة من اللطف الإلهي، .
فيمكن ان نضيف اسماً اصطلاحياً للدنيا وهو أنها (دار الإمهال ) الى جانب ما يطلق عليها بانها دار الإختبار والإمتحان والإبتلاء.
ان آيات العذاب مدرســة تأديبية وارشادية لم يكن لها في العالم مثيل او شبيه، ويعجز الفعقل الإنساني عن احصاء منافعها، وقد أجهد القادة والمصلحون ورجــال القانون أنفســهم في تهذيب الأخـلاق وارشاد والناس الى دروب الخير ونبذ الظلم والجريمة، وعجزوا عن بلوغ أهدافهم، .
وأظهرت كثرة العقوبات في القوانين الوضعية وامتلاء السجون بالمتهمين والمذنبين ومخالفي القانون فشــلهم، بالإضافة الى ما تتضمنه تلك القوانين من القسوة والغلظة والشدة، ومخالفة للقواعد الشرعية ومبادئ الأحكام السماوية، لأنهم يشعرون بالحاجة الى هذه الغلظة والشدة في القوانين ويثبت لديهم بالتجربة والوجدان ان الناس محتاجونبلزوم اللجوء اليهاالحاجة لها من أجل الضبط واستقامة الأمور لهم، لأنهم أرادوا منها منها بقاء سلطانهم وديمومة حكمهم حكمهم.
اما أحكام القرآن فانها تأتي خالصة لوجه ليس فيها ضميمة بحفظ حكم وسلطنة أناس مخصوصين كما انها تخاطب أرباب العقول، وتبعث الصلاح في النفوس، وتقـود الى الفضــيلة برادع داخــلي وواعــز نفســي، ومراقب من الذات، فآيات العذاب في القرآن من أعظم النعم على الناس، وقد أنتفع منها المؤمنون، بل جميع الناس ولكن بمراتب أدنى.
ان القرآن وما فيه من أحس القصص وآيات العذاب يدعو الناس جميعاً الى دراسة الدلالات العقائدية والأخلاقية والتربوية لآيات العذاب.
ومن وجوه التباين بين الدنيا والآخرة، ان الإنسان قد يدرك بالحس والوجدان والتصور الذهني والتأريخ عذاب الدنيا او شطراً منه، اما عذاب الآخرة فيعجز الناس متحدين ومتفرقين عن الإحاطة بمعشاره، وما فيه من الألم والأذى الذي لا يطاق، وليس من دليل على بلوغ اهل النار حالة خاصة من القدرة وهيئة اضافية لتحمل العذاب بل هي طاقة الإنسان وقدرته في الدنيا، مع ان العذاب يكون اضعافاً مضاعفة كماً وكيفاً واتصالاً في آنات الزمان.
قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ]
جاءت الآية بصيغة الخطاب لعيسى ، وهذا لا يمنع من تضمنها للإنشاء والإنذار، للذين جحدوا برسالته والكافرين مطلقاً، سواء الذين عاصروا أيام النبوة، او تخلفوا عنها بأزمنة قريبة او بعيدة عنها.
وهذا من أسرار القرآن بان يجعل موضوع الآية حياً طرياً والا فما فائدة الحكم الذي يتعلق بأناس قد أنقضت أيامهم، وبادت دولهم، وأنقرضت وانقرضت حضاراتهم بعد ان سادت في الأرض، وكان لأهلها الشأن والسلطان، فهذه الآية ليست خبراً وقصة عن أمة من الأمم السالفة، بل هي انذار ووعيد، .
ومن الإعجاز انها تشمل الأزمنة الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل على نحو متداخل في الفعل وترتب الأثر فقد يكون الفعل في الماضي او الحاضر او المستقبل، وكذا بالنسـبة لأثره والعذاب الذي يتعقبه من غير ان يسبق أوان وحدوث الفعل، وفيه وجوه:
الأول: اشتراك الفعل والعقاب بالزمن الماضي، كما في الكافرين برسالة عيسى وابتلائهم بالعذاب في الدنيا.
الثاني: حصول الذنب في أيام التنزيل ومجيء العقاب متعقباً له من غير فصل معتد به، فلم يغادر الرسول الأكرم الى الرفيق الأعلى حتى رأى والمسلمون وقوع العقاب بالكافرين كما في أقطاب الكفر من قريش ووقوعهم صرعى في قليب بدر مثل ابي جهل وعتبة بن..
الثالث: حصول الذنب أيام التنزيل ومجيء العقاب فيما بعده وفي أيام الخلفاء الراشدين بما يكون عبرة وموعظة ومصداقاً للتنزيل، واشارة الى مجيء الحجة والبينة وان تعاقبت الأيام.
الرابع: وقوع الكفر متأخراً زماناً عن التنزيل وتعقب او تأخر العقاب عنه.
الخامس: مجيء الذنب، وتأخر العقاب وتعلقه امهالاً او استدراجاً.
السادس: حصول الذنب، وتداركه بالإستغفار والإنابة والصلاح.
السابع: مجيء الفعل في الدنيا ومجــيء العقاب في الآخرة، وهذا الفرد أهم الوجوه وأكثرها، لأن عذاب الآخرة أبدي ولأنها دار الحساب والجزاء.
الثامن: وقوع الذنب والمعـصية، وعدم نزول العقاب، فضلاً منه تعالى، اذ لا ملازمة بين الذنب والعقوبة، وهذا القســم لا ينحصـر بصغائر الذنوب او قلة عددها، لضابطة كلية وهي ان فضله تعالى ليس له حدود.
وهذا الأمر من مصاديق الآية الكريمة، أي ان الكافرين يكــونون أكثر حاجة الى النصرة من أي وقت او حال مرت عليهيم، فقد يمر الإنســان في ضــيق وعوز في الدنيا، ويطلب العـون من الآخرين، فيمدون له يد المســاعدة، ويقومون بالتخفــيف عنه، وقد يلجأ الى بعضهم فيصده او يعتذر منه، فيذهب الى آخر فينصره ويقضي حاجته بلحاظ صلة النســب والصداقة او غيرها، اما في الآخرة فليس من معين او ناصر.
وعدم النصرة في الآخرة امر خاص بالكافرين وليس مطقاً فلذا ذكرتهم الآية على نحو الخصوص بصيغة التخويف والوعيد، وفي الآية مانع من احتجاج الكافرين بالجهل والغفلة وانهم لم يكونوا يعلمون بفقد الناصر في الآخرة، ويدعون الظن بوجود الشفيع والناصر، من الآباء والأجداد، ومن أنبياء الملة التي ينتمون اليها، بل منهم منخصوصاً وان بعضهم يرجع في نسبه وأصله الى أحد الأنبياء ويرجو شفاعته من غير ان يحافظ على سنته ويتبع ما جاء به من الأحكام وبشاراته والأنبياء الآخرين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
علم المناسبة
ورد لفظ “ناصرين” في القرآن ثمان مرات أربعة منها في سورة آل عمران، منها مـرة في الثناء عليه على الله تعــالى بقــوله تعـــالى [ بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ] ( )، والأربعة الأخــرى في ســور القــرآن الاخرى، ولم يبــدأ ورودهمجيــؤها الا في ســورة النحــل في الجــزء الرابع عشر من القرآن، .
ولم يرد بصيغة الفاعــل (ناصـرون) وهذا من الآيات وليس الإتفاق، فـوردت كلها بقولــه تعالى (من ناصــرين)، و(من) حــرف جر.،
جاءت للتنصيص على العمــوم، لأن الكلام يــدل عليه بــدونها، فلو كانت الآية “مالهم ناصرون” لكان عموم النفي ظاهراً ومفهوماً ايضاً.،
وجــاء مجــرور (من) نكــرة (ناصرين) وهو من شرائط ومجيئه زائداً.
وجاءت الآيات السبعة كلها بالإخبار عن الكفار وانعدام من ينصرهم على نحو الإطلاق، لتبعث اليأس في نفوسهم من الإعانة على الباطل، وتدعوهم الى الإحتراز والإستعداد ليوم القيامة بنبذ الكفر والتخلي عن الجحود.
وجاءت صيغة التنكير في لفظ (ناصرين) لإرادة الشمول، وفيه وجوه:
1- الأول : عدم نصرة الملائكة لهم.
2- الثاني : تعذر شفاعة الأنبياء للقوم الكافرين، وان كانوا من آبائهم.
3- الثالث : اعراض الصالحين منهمعنهم.
4- الرابع : غياب من يظنون انه ينفعهم عن أبصارهم، فلا يكادون يرون في عرصات يوم القيامة من يطلبون منه النصرة والعون، واذا وجدوه فانه يقابلهم بالنفرة كما قابلوا دعوة الأنبياء في الدنيا بالصدود والجحود.
5- الخامس : انشغال ذويهم وأولادهم بأنفسهم وعجزهم عن نفع غيرهم من الناس قال تعالى [ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ] ( ).
وعدم النصرة لا ينحصر بأشخاص الكافرين بل يشمل أقوالهم وأفعالهم وجماعتهم، فلا يقول أحد من أهل الحشر انهم كانوا غافلين او مستضعفين يستحقون العون والنصرة، مما يدل على قيام الحجة عليهم يوم القيامة، وإدراك الخلائق استحقاقهم للعقاب سواء من خلال ما ينكشف للناس بالإضافة الى الملائكة من أمور هي:
1- الأول : سوء أعمال الكافرين.
2- الثاني : الآثار التي ترتبت على جحودهم وصدودهم، وكفرهم بالنبوات وهذه الآثار متعددة ومتشعبة، ولا تنحصر بزمان مخصوص.
3- الثالث : المعرفة بموازين الحساب.
4- الرابع : الإحاطة الإجمالية بقواعد الثواب والعقاب.
5- الخامس : علم الأنبياء والصالحين بسنن وحدود الشفاعة، وخروج الكافرين منها موضوعاً وحكماً.
6- الخامس : ادراك أسباب الرحمة الإلهية يوم القيامة، ورؤية الكافرين وقد حرموا منها بسبب ضلالتهم وكفرهم والآثام والأوزار التي يحملونها.
اما موضوع النصرة المحتمل فهو متعدد بحسب الحال والموطن والحاجة ومنه:
الأول: دفع العذاب، اذ يتعذر قيام شخص او جماعة على دفع العذاب عنهم، في جميع مراحله، وهو على أقسام:
1- الأولى : عذاب القبر من حين دخول ادخال القبرالميت فيه.
2- الثانية : يوم النشور.
3- الثالثة : مواطن يوم القيامة.
4- الرابعة : أوان الحساب، وطول مدته أي لا يكون تكون النصرة لتقليل ساعات وأيام وقوف الكافرين بنين يدي للحساب.
5- الخامسة : عذاب النار والخـلود فيها، وهــذا الــفرد أهــمها وأشـدها، كما ان ظلاله تنبسط على جميع مراحل العذاب المتقدمة الأخرى.
الثاني: محو السيئات، او تبديلها بحسنات، فليس من ناصر من الملائكة او الناس لمحو سيئات الكافرين.
الثالث: الشفاعة، ورؤية الكافرين للمؤمنين وهم ينيتفعون منها جماعات وأفراداً، فكم من سيئة عند الكافر يعلم انها تدخله النار عن استحقاق , ويرى الشفاعة تأتي على أختها عند المسلم فتمحوها، ويؤخذ بيده الى الجنة.
الرابع: تخفيف العذاب، وهذا التخفيف حاجة للإنســان في جميع مراتب الحساب، ولكن الكافر يحرم منه، ولم يؤذن للملائكة التخفيف عنهم.
الخامس: الهداية والرشاد الى أسباب النجاة من العذاب او تخفيفه، فليس من أحد يهدي الكافرين اليها، كما انها موصدة بوجوههم بسوء لسوء ما ارتكبوه.
ولا ينحصر موضوع عدم نصرة الكافرين بالآخرة، بل يشمل الحياة الدنيا ومواطن الضيق والحرج والحاجة فيها، بالإضافة الى فترات انتصار الإسلام وسيادة كلمة التوحيد وقواعد الحكم السماوي.
وعلة عدم النصرة هي عمل وفعل الكافرين انفسهم فهم الذين حجبوها عن أنفسهم باختيارهم الضلالة والكفر بالنبوة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع المبالغة وهو ان يذكر المتكلم وصفاً فيزيد في بيانه وذكر تفاصيله حتى يكون أبلغ في المعنى الذي قصده، والمبالغة قد تكون بالصيغة مثل صيغة فعلان كالرحمن، وفعول كغفور، واما ان تكون بالوصف ومن الإعجاز في بلاغة القرآن ان صــيغة ووصـف المبالغة يأتيان فيه ولكنها دون المعنى الحقيقي والمصداق الواقعي سواء في الوعد او الوعيد.
وقد جاءت هذه الآية بالوعيد للكافرين بأمور هي:
الأول: العذاب الذي ينزل بهم عقاباً على كفرهم وجحودهم.
الثاني: نعت هذا العذاب بانه شديد، وقد جاءت النصوص بوصف هذا العذاب وبما تفزع منه النفس.
الثالث: استغراق العذاب ليشمل النشأتين، فينزل العذاب بالكافرين في الدنيا وكذا في الآخرة.
الرابع: عذاب الآخرة أشد وأقسى من عذاب الدنيا في كيفيته ومدته وانعدام الفرصة للتوبة والإنابة.
الخامس: غياب الناصر والشــفيع والمعين للكافر فالإنســان اشــد ما يكون محتاجاً لنصرة الغير عند الشــدائد وحينما يقــع في بلـية وعسر يعرف الإخوان وأصحاب المروءات , ويدرك انه كان يظن بأصحاب له خيراً ولكنهم يتخلون عنه ساعة الشدة، بخلاف آخرين لم يكن ينتظر منهم الخير فيقبلوا على اعانته ومــد يــد العون له.
اما بالنسبة للكافر فان الخذلان يقترن بالعقاب وهو عذاب اضافي، اذ ييأس من الشفيع والناصر ساعة الشدة والعقاب، فالعذاب الذي يصيب الكافر وينتظر أبلغ وأكبر من صيغ المبالغة اللفظية وفيه تحذير وانذار من الكفر ودعوة لإجتنابه والتخلص من مفاهيمه في عالم الأقوال والأفعال سواء كان الكفر شركاً بالله تعالى، او تكذيباً لأنبيائه وما جاءوا به من عند .
بحث بلاغي آخر
قد تقدم في الآية السابقة وجه من وجوه البديع وهو المبالغة ومجيء الوصف أبلغ من الواقع ولكن المبالغة في القرآن متعددة الوجوه وأعم من ان تحيط بها القواعد البلاغية وعالم الألفاظ.
فلقد جاءت هذه الآية بوصــف وشرط وجزاء وحكم، اما الأول فهو أهل الإيمان من الموحــدين، واما الثاني فهو قيــد اتيانــهم الصــالحات وفعلهم الخيرات واداؤهم للفرائــض، واما الثالث فهو استيفاء وجوه الثواب ونيلهم أسمى الدرجات وان اعد لهم الأجور، واما الحكم فان يحـب المؤمنين الذين يؤدون واجباتهم ولا يعتدون على غيرهم، ويطرد من رحمته الذي يظلم نفســه بالجحود ويؤذي المسلمين بالجدال والخصومة والعناد والتعدي على مقامات النبوة.
ومن الآيات ان عزوجل يرضى بالقليل , فعمل الصالحات من الكلي المشكك والدنيا مزرعة للصالحات وارض سهلة للبذر الطيب، اما جزاء القليل من العمل الصالح فجاء بصيغة الأجر واستيفائه، ولكن هذا اللفظ أقل من ان يحيط بالمعاني القدسية والمصاديق المتكثرة للأجر العظيم الذي يحرزه المؤمن.
واذ ذكرت الآية السابقة التفصيل الزماني في عذاب الكافر وانه شامل للحياة الدنيا والآخرة جــاءت هذه الآيــة بذكــر أجور المسلمين من غير تفصيل، وهذا من كرمه واحســانه وشــاهد على اعجـاز القرآن، فلأن ذكر العذاب من باب الإنذار والوعيد والحجـة على الكافر جاء بيانه بالتفصيل كي لا يدعــي انه لم يعلم بشـموله بالعذاب في الدارين وانه كان يظــن ان من يعــذب في الدنيا لا يعــذب مــرة أخـرى في الآخرة.
ولأن التفصيل فيه نكتة وهي التشديد في الإنذار والتغليظ في الوعيد عسى ان تدركه التوبة بالإضافة الى تنبيه الكافر ومن حوله بان العذاب يصيبه في الدنيا ايضاً، فاذا نزل بساحته البلاء استحضر لغة الإنذار والوعيد وعرف انه بسبب كفره وجحوده، فيكون العذاب الدنيوي مناسبة للإنابة.
اما بالنسبة للأجر فان كريم يخبر عن فضله تعالى على نحو الإجمال ويأتي به متصلاً متدافعاً واسعاً بالإضافة الى ان عدم ذكره بالتفصيل استدراج للكافر، وبرزخ دون إلتفاته الى علة النعم الظاهرة والخفية التي تترى على المؤمن.
قوله تعالى[وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]الآية 57 @@@@@
القراءة و
قوله تعالى
[ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ] الآية 57.
قوله تعالىاللغة والإعراب
قرأ حفص عن عاصم (فيوفيهم) أي ان هو الذي يوفيهم، وقرأ باقي القراء بالنون أي (نوفيهم) بلحاظ نظم الاآيات , وقوله تعالى فاحكم، وفاعذبهم.
واما الذين آمنوا: الواو: حرف عطف،.
اما الذين آمنوا: معطوف على الآية السابقة.
وعملوا: الواو: حرف عطف، عمل: فعل ماض، الواو: فاعل.
الصالحات: مفعول به، منصوب بالكسرة، لأنه جمع مؤنث سالم.
فيوفيهم: الفاء: رابطة لجواب أما: يوفيهم: فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، الهاء: مفعول به أول.
اجورهم: مفعول به ثان وهو مضاف، والضمير (هم) مضاف اليه.
والله لا يحب الظالمين: الواو: استئنافية، : مبتدأ.
لا: نافية، يحب: فعل مضارع مرفوع.
الظالمين: مفعول به، والجدملة الفعلية خبر.
والأجور جمع أجر وهو الجزاء على العمل، والأجر: الثواب، وقد آجره يأجره اجراً أي اثابه على عمله.
واوفاه حقه أي أثمه أتمه ولم ينقص منه شيئاً، وكل شيء بلغ التمام والكمال فقد وفى وتم.
في سياق الآيات
بعد تفضل الله تعالى بالخطاب لعيسى بآية التوفي والرفع والتطهير، وبشارة الفوقية للمؤمنين بالقياس مع الكافرين، والإخبار عن عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة، جاءت هذه الآية بالإخبار عن حال المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وما اعد لهم من الأجر والثواب لبيان التباين في المنزلة والرتبة والأجر والعاقبة، وتتضمن “أما” معنى الجزاء ومع وهي مركبة من (أن) و(ما).
وليس من فصل بين لغة الإنذار والوعيد للكفار التي جاءت في الآية السابقة، وصيغة الثناء والبشارة التي تضمنتها هذه الآية، ويتجلى الثناء فيها من جهات:
الأولى : دلالة الآية على سلامة المؤمنين من العذاب الأخروي.
الثانية : تخصيص آية مستقلة للإخبار عن حسن عاقبة المؤمنين.
الثالثة : قيد عمل الصالحات لبلوغ المراتب السامية في الجنة العالية.
فان قلت وردت البشارة بالجنة لخصوص صبغة الإيمان كما في قوله تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا] ( ) .
والجواب إنه من المطلق والمقيد , وآية البحث تقيد مضامين الآية أعلاه ليكون تقديرها: وعد الله المؤمنين والمؤمنات الذين عملوا الصالحات جنات) بالإضافة إلى مجئ الآية أعلاه بلفظ (المؤمنين والمؤمنات) أما آية البحث فجاءت بصيغة الذين آمنوا، وبينهما عموم وخصوص مطلق , فالمؤمنون والمؤمنات من الذين آمنوا وليس العكس، لأن المنافقين والذين صدقوا بالدعوة الظاهرة يدخلون في لفظ الذين آمنوا، كما في قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، فيشمل كل من نطق بالشهادتين، فلذا جاءت آية البحث بالتقييد بعمل الصالحات، نعم قد يرد لفظ الذين آمنوا خاصاً بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات كما في قوله تعالى في ذم المنافقين والمخادعين[وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ]( )، لوجود قرينة تدل على إرادة المؤمنين وهي خروج المنافقين بالتخصيص , وإخبار الآية عن إدعائهم الإيمان مع بقائهم على الكفر والضلالة ,
وهل يمكن تقييد الآية أعلاه من سورة التوبة بأنها جاءت بصيغة الوعد ولا تجتمع شرائطه إلا عند عمل المؤمنين والمؤمنات الصالحات، أما لو لم يعملوا الصالحات فان الوعد لم يتنجز .
الجواب لا، لأن الوعد من الله حق , قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( )، إنما تخبر الآية بأن لفظ المؤمن والمؤمنة لايناله إلا الذي يصدق إيمانه ويترجمه في الواقع الخارجي بعمل الصالحات والمسارعة في الخيرات .
ومع تضمن هذه الآية البشارة للمؤمنين فانها أختتمت بقوله تعالى[وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ليشمل البغض والدفع عن رحمة الله المنافقين، ولبيان حقيقة وهي أن الظلم للذات والغير لا يختص بالكفار الذين جاءت الآية السابقة بذمهم بل يشمل المنافقين والمنافقات الذين يدّعون الإنتساب للإسلام، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
ثم إبتدأت الآية التالية باسم الإشارة للبعيد (ذلك) لبيان التعدد في مضامين وأفراد المشار إليه وأن موضوعه لا ينحصر بآية البحث.
الآية سلاح
ينبعث من الآية ضياء الأمل في نفوس المسلمين بحسن الجزاء ونيل مراتب الثواب على الإيمان وعمل الصالحات.
ومع ان الآية جاءت في ذكر الثواب الجزيل الذي ينتــظر المؤمنين فانها تحث على الإسلام وفعــل الصالحات والتقيــد بالـفرائض والعبادات وتجعل استيفاء الثواب والأجر سبباً للترغيب والشوق للعمل الصالح والسعي في دروبه، وجاءت خاتمة الآية لتجعل نفوس المسلمين تنفر من الظلم والإعتداء وتبتعد عنه وهذا الإبتعاد مناسبة للإنشغال بالصالحات.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على وجود عالم الجزاء، وفيه تنمية لملكة الإيمان باليوم الآخر، وتنزيه النفوس من الإنقطاع التام للدنيا وزينتها وهل من خلف وبدل لحب الدنيا وزينتها في نفوس المؤمنين الجواب نعم , إنه الأمل بالثواب العظيم في الآخرة الذي يشرق ضياؤه على كل آن من آنات الليل والنهار ليجعل المؤمنين في غبطة وبهجة، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات للإستعانة بالله عز وجل من أجل الفوز بحسن الثواب .
وهل آية البحث حرز من الإنذار والوعيد الوارد في الآية السابقة , الجواب نعم.
وهو من دلالات مجئ الفاء في قوله تعالى[فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ] الوارد في هذه الآية، فلم تأت الآية بالواو.
بل جاءت بلفظ (الفاء) ومن دلالاتها التعقيب , وكأنه ليس ثمة مدة وفترة بين الإيمان وعمل الصالحات وبين الأجور العظيمة التي يتفضل بها الله سبحانه , ولتكون أفرادها في الدنيا مقدمة ومرآة لمصاديقها في الآخرة قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا]( ).
اعجاز الآية
في الآية مضامين اعجازية متعددة ومنها:
1- الأول : منع الجهالة والغرر فيما يتعلق بعالم الحساب والجزاء.
2- الثاني : ظهور التباين والتضاد بيني منازل المؤمنين والكافرين.
3- الثالث : البشارة والسكينة للمسلمين، والفزع والخوف للكافرين.
4- الرابع : اقامة الحجة على الناس.
5- الخامس : الترغيب بالإيمان وحث المسلمين على الثبات عليه، فالآية مدد سماوي لهم لإعانتهم على الإيمان.
6- السادس : ألآية الآية من النصرة والإعانة التي حجبت عن الكافرين كما في أيلاة الآية السابقة وقوله تعالى (وما لهم من ناصرين).
7- السابع : نيل المسلمين الثواب العظيم.
8- الثامن : تحــث الآيـة على اتيان الصالحات، وملازمة الصلاح للإيمان وترجمة الإيمان بالواقع العملي في التقوى وبذل الوسع في تعظيم شعائر والإحسان للآخرين بقصد القربة باخلاص وحسن سريرة.
9- التاسع : مع ان الآية السابقة جاءت بخصوص الكافرين وعذابهم، وهذه الآية جاءتب اللمسلمين الذين يعملون الصالحات، وهو نوع تقسيم وفق نظم الآيات واستقلال كل آية بموضوع وحكم، فان هذه الآية تضمنت الوعيد والذم للظالمين.
ويمكن ان نسمي هذه الآية آية (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) وورد هذا اللفظ في القرآن مرتين ( ).
مفهوم الآية
تبين الآية موضوعية الإيمان واعتباره في أحكام الجزاء، وضرورته للإنسان وعدم امكان الإستغناء عنه، فكما يحتاج الإنسان الأكل والشرب ليومه وقوة بدنه، فانه يحتاج الإيمان لســلامته في النشـأتين، وتدل الآيــة على الملازمــة بين الإيمـان واتيان العمل الصالح فهو المصداق الخارجي والفعلي لعقيدة التوحيد، والشاهد على صدق الإيمان، والإقرار باليوم الموعود، وفي الآية نهي عن البخل والشح ومنع من وحجب الحقوق المالية من الزكوات والكفارات والخمس والصدقات المستحبة.
وتدعو الآية الى قيام المؤمنين بالمبادرة في نشر مضامين الإحسان بين الناس.
وتؤكد الآية فضله تعالى في عدم بخس الناس وانه سبحانه يعطي الأوفى والأتم، وأجر الصالحات ذاته فضل منه تعالى فهو الذي يهدي الإنسان لها ثم يثيبه عليها، وينعم عليه بالأجر الجزيل،.
وجاءت خاتمة الآية دعوة للناس لنبذ الظلم وترك الضلالة، لأن حبه تعالى غاية ووسيلة، غاية يسعى لها الإنسان، ويصبو الى نيلها ووسيلة لإكتناز الحسنات، ونشر الفضيلة، وتبين الآية قبح الظلم وعدم بقائه في الأرض وسرعة زواله أسباباً وأشخاصاً وموضوعاً، لذا ترى الظلم لا يدوم كما انه يرجع على أهله ويخرب ديارهم، ويمحو ذكرهم، ليكونوا عبرة وموعظة.
وفي الآية اخبار قطعي عن حصول الثواب ويتصور على وجوه:
الأول: الثواب على الإيمان وحده، وعمل الصالحات وحدها، بمعىن بمعنى ان كل واحد منهما له ثواب مستقل ومنفصل على الآخر.
الثاني: أصل الثواب انه جزاء على على الإيمان، وعمل الصالحات فرع منه، وكذا ثوابه فرع من الثواب على الإيمان بقرينة قصد القربة في الصالحات.
الثالث: لكل منهما ثواب، ولكن التمام والكمال لا يأتي الا باجتماعهما.
الرابع: الملازمة والتداخل بينهما، وواو العطف في (وعملوا) تدل على الجمع، فلا أجر للمؤمن الا بعمل الصالحات، ولا أجر لمن يعمل الصالحات الا بالإيمان.
الرابعالخامس: الثواب والأجر على الإيمان وحده، وكذا الثواب على عمل الصالحات بشرط الإيمان وبما يؤدي الى زيادة الحسنات.
، والأصح هو الوجه الرابعالخامس، فلو عمل الكافر الواجبات او المستحبات فانها لا تقبل منه ولا يترتب عليها ثواب لأن الإسلام قيد وشرط بصحة العمل ونيل الثواب.
وفي الآية مسائل:
الأولى: تأسيس علم المقارنة بين المؤمنين والكافرين.
الثانية: التشريف القرآني للذين آمنوا.
الثالثة: القاء الحسرة في قلوب الكافرين بذكر ما ينتظر المسلمين من الفضل الإلهي.
الرابعة: التفات الناس الى موضوعية الإيمان ولزوم اختيار التصديق بالأنبياء.
الخامسة: المراد بالذين آمنوا أي الذين آمنوا بالله وجـميع الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي الشامل لكل نبي منهم.
السادسة: الخامسة: المراد من الصالحات الواجبات والمستحبات.
السابعة: السادسة: تفضله تعالى باعطاء المسلمين الأجر والثواب كاملاً غير رمنقوص.
الثامنة: السابعة: الإخبار عن وجود أجر وثواب للمؤمن وجاء ذكر الأجور بصيغة الجمع لبيان فضله تعالى، وعند الإنحلال الى صيغة المفرد تحتمل وجهين:
الأول: كل مؤمن له أجر أي (فيوفيه أجره).
الثاني: لكل مؤمن أجور متعددة أي (فيوفيه أجوره)
والأصح هو الوجه الثاني لإصالة الإطلاق وحمل الآية على المعنى الأعم ولأنه سبحانه هو الواسع الكريم.
الآية سلاح
ينبعث من الآية ضياء الأمل في نفوس المسلمين بحسن الجزاء ونيل مراتب الثواب على الإيمان وعمل الصالحات.
اإفاضات الآية
يختار العبد الإيمان ليكون غارقاً في أنوار حضرة القدس فرحاً بهذه النعمة العظيمة والكنز العقلي والعلمي الذي حازه وليصبح قلبه مملوء بنور الهدى، ومستضيئاُ بالتقوى، فتترشح عنه أفعال الخير والصلاح لإرادة قصد القربة.
ان الإيمان فرار من الشر والأذى في النشأتين وسلامة في العقيدة والبدن ومانع من الشقاء والحزن والخوف.
وتتجــلى في الآية مضــامين اصلاح الــذات باجتـناب ما لا يحبه او ما يؤدي الى عــدم رضــاه على العبد، وكــرهه له الا وهو الظلم، فالله يحب عباده ولا يرضى لأحد من الخلائق التجرأ والتعدي عليهم.
وأنت ترى ان الأب يتألم اذا لحق ابنه العاق الأذى واذا قام أحد بالإعتداء عليه فانه يرفض هذا ويقوم بالرد ويعتبر نفسه هو المقصود بالتعدي، بل ان الناس يتحملون تعدي الولد اكراماً لأبيه ولأسرته وقبيلته وبلدته، والعباد جميعاً عباد ، ذرأهم في الأرض ليقوموا بعبادته وطاعته، والأرض ملكه وجزء من سلطانه فيأبى سبحانه التعدي فيها، وأعد للظالمين العذاب الشديد.
قانون الأإرث
الأإرث في اللغة الأصل، والأإرث من الشيء: البقية من أصله، والجمع إراث قال كثير عزة:
فأوردهن من الدونكين
حشارج يحفرن منها إراثا
والإرث في الإصطلاح هو التركة التي يخلفها الميت لورثته كالمال الذي يتركه الأب لأبنائه، وقال ابن الإعرابي: الإرث في الحسب، والورث في المال( ).
ويسمى علم الأإرث وقسمته علم الفرائض , وله قواعده القرآنية وأحكامه الدقيقة التي تدل على صدق التنزيل وشموله للوقائع والحالات، وانه برزخ دون الفتنة والخلاف، فالإرث نظام ثابت وقواعد كلية لا تقبل النسخ او التغيير.
اما قانون الأإرث هذا فيتعلق بالإيمان وتركته فان المسلم والمسلمة يتركان لأبنائهما الإيمان والهدى، وهو أعظم ثروة وأكرم هبة وأفضل وصية عملية واجبة وفيه خير الدارين، وهو علة للصلاح والرشاد وسبب للبصيرة والمعرفة الإلهية.
والناس في تركة المال على أربعة أقسام:
الأول: من يترك مالاً، وهو على مراتب متعددة فمنهم من يخلف من بعده أموالاً وضياعاً وثروة كبيرة ومنهم من يترك أموالاً أدنى وأقل.
الثاني: ميت يترك أموالاً ولكنها لا تكفي لديونه، ســواء الديــون الشرعية كالحج والزكاة او ديون وحقوق الناس المالية.
الثالث: من لا يترك مالاً ويموت فقيراً ليس عنده شيء.
الرابع: الذي يموت وفي ذمته ديون للناس عجز عن ايفائها في حياته.
اما بالنسبة لتركة الإيمان فالناس على ثلاثة أقسام:
الأول: من يموت على الكفر، ويترك أولاده على ملته.
الثاني: المسلم الذي يغادر الدنيا، وقد خــلف مــن بعــده شموعاً في سماء الإيمان، وأولاداً يحفظون أرث الإسلام سواء كانوا ذكوراً او إناثاً، واسلامهم قهري انطباقي.
الثالث: الذي يموت على الإسلام ولكنه لم يترك من بعده ذرية وهذا يلحق بالقسم الثاني لأنه تعاهد الإسلام في حياته، ولو كان عنده أبناء لكانوا على ملة الهدى والإيمان، وله حصة في أبناء المسلمين في عقيدتهم وإيمانهم، لأنه ساهم في تعاهد الإسلام ونقل الأمانة اليهم، اذ ان حفظ الأمانة وايداعها عند الجيل اللاحق لا تنحصر بالآباء فقط بل تشمل طبقة الآباء والأمهات كلها.
وتقيد الأبناء بالإسلام عقيدة ومناسك وأفعالاً يترشح منه ثواب عظيم على الآباء والأمهــات، وجميع طبقتهم من المسلمين وان لم يخلفوا ذرية، ولا ينحصر الثواب بالآباء بل يشـمل أهل البلد وغيرهم من المسلمين خصــوصاً في زمن تداخل الحضــارات وتقارب البلدان ووســائل الإعلام التي تغــطي كل واحـدة منــها بلداناً وأمصـتاراً عديدة.
وفي حديث الحج: إنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم( )، فالملة إرث والنسك العبادي إرث، وفي هذا الحديث شهادة نبوية بان المسلمين ورثوا تركة إبراهيم، وأثبتوا حفظهم وتعاهدهم لها.
وهذا الحديث شاهد على صحة اشتقاق وتأسيس (قانون الإرث) وتعلقه بالإيمان وتلقي الأبناء للأمانة العقائدية بفخر واعتزاز، فليس من مسلم الا ويشكر ، ومن الآيات في الحديث انه ذكر الإرث بعنوان التبعيض من التركة أي ان تركة ابراهيم أعم من الحج، في اشارة للعبادات والفرائض الأخرى من الصلاة والصوم والزكاة وتقيد المسلمين بها.
التفسير
قوله تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]
لقد قسمت هذه الآيات الناس الى قسمين:
الأول: الذين كفروا.
الثاني: المؤمنون الذين يعملون الصالحات، وفيه وجوه:
أولاً: عدم وجود قسيم ثالث لهما.
ثانياً: وجود قسيم او أكثر ولكن لم تذكرها وأكتفت بالأهم وطرفي التضاد.
ثالثاً: لكل من هذين القسمين مراتب ودرجات متفاوتة.
رابعاً: هناك برزخ ووسط بين الإيمان والكفر.
والصحيح هو الأول، فليس من قسيم ثالث ولا برزخ بين الإيمان والكفر، حتى على القول بان اللإيمان والكفر مراتب متفاوتة.
وفي الآية اكرام للمســلمين لذكرهــم بصـيغ المدح والوعد الكريم، مما يدل على حسن الفعل باختيار الإيمان وان الإتيان بالشهادتين والتصديق بالأنبياء حصانة وواقية وارتقاء في عالم المعرفة وحرز، والإيمان المذكور في الآية فيه وجوه:
الأول: الإقرار بالتوحيد.
الثاني: الإيمان بنبوة محمد.
الثالث: الإيمان بالمعنى الأخص وهو التسليم بالقلب والجوانح وعدم الإكتفاء بالشهادتين.
والصحيح هو الأول والثاني فيكفي فيه الإتيان بالشهادتين والتصديق بالنبوات وعدم الجحود بنبوة أحد الأنبياء.
وجاءت الملازمة بين الإيمــان وعمل الصالحات لتجمع الآيــة مضامين الإيمان وسلامة العقيدة، وظهور معالمهما على السلوك وفي عالم الأفعال وفيه دلالة على عدم الإكتفاء عند حـدود الإيمان فلابد من العمل ولا يصل الأمر الى الإستنتاج والإستدلال بالقواعد العقلية لإثبات هذه الملازمة، بل أنها حقيقة شرعية تتجلى بهذه الآية والآيات التي تؤكد وجوب الفرائض العبادية والتي تحث على اتيان المستحبات وترغب باتيانها.
كما ان فعل الصالحات يترشح عن الإيمان فالنطق بالشهادتين يترتب عليه التقيد بما جاء به الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنوان الصلاح والرشاد، ويلاحظ في هذه الآية توكيد الذم للكافرين واستحقاقهم العقاب لإختيارهم الكفر.
اما بالنســبة للمؤمنين فيـلزم اتيانهــم الصالحات كــي يؤجــروا وينالوا الثواب، مما يدل على ان الإيمان مركب وليس بسيطاً، فهو عقيدة وفعــل من غير تجــزئة وتفــريق بينهما، كما ان الكــفر ليس بســيطاً بل هو ايضاً مركب من الجحود والضلالة والإمتناع السلبي عن أداء الفرائض والواجبات العبادية، وهذا الإمتناع حرب على النبوة والمؤمنين.
فمن أسباب استحقاق الكافرين للعذاب أنهم يؤذون المؤمنين بكفرهم ويمنعــون من إقامة شــعائر ، وافشــاء المعروف واشــاعـة المنكر، وقد ثبــت ان الإنسان يتأثر بما حوله من الوقائع والأحداث وأفراد المجتمع فيكون اختيار الإيمان ثــورة على واقع الكفر وتحدياً له، واجتهاداً وســعياً مباركاً لقهـر قوى الضلالة والفسوق.
ان الإيمان مدرسـة عقائديـة وأخلاقيــة واجتماعيــة وبه تتقــوم الدنيـا وتستديم الحياة الإنسانية، اذ يســتحق المؤمن الأجـر والثواب، وهو يحســن للمؤمن والكافــر ويكون سبباً لنزول البركات من السماء واظهار الأرض لكنوزها، وكأن المؤمنين أسباب لرحمة على الناس جميعاً في الدنيا.
لذا فان يثيبهم على ايمانهم واصلاحهم لأنفسهم واحسانهم للآخرين من الملل والنحل الأخرى، وهذا الإحسان لا ينحصر بالتسبيب بدوام النعم التي لا تنزل ولا تستديم الا بوجود الإيمان ومعالم التوحيد ومصاديق العبادة في الأرض، بل انه يشمل دعوة الآخرين للإيمان ونصحهم وارشادهم لمسالك التوحيد.
والنصح أعم من المصاديق القولية فيشمل الفعلية وهي الأعم في أكثر الأحيان، فحينما يدعو الإنسان انساناً آخر الى الإسلام والإستقامة في السلوك فانه قد يعرض عنه ولا يولي دعوته أهمية خاصة، اما لو رآه يصوم شهر رمضان ويمتنع عن الأكل والشرب فيه، ويتجنب المحرمات كالخمر والزنا، فانه يلتفت للأمر ويتدبر الأمر ويســتحضر الدعوة، ويقوم بمقارنة قهرية لحاله وحال المسلم وأســباب تقيده بالأوامر والنواهي الإلهية.
علم المناسبة
تعتبر مسألة الحب الإلهي من أهم أبواب معرفة الفعل الحسن وتمييزه عن الفعل القبيح الذي جاء القرآن بذمه والزجر عنه، وجاءت الآيات على قسمين:
الأول: آيات الحب وهي التي تبين حبه تعالى للذين يعملون الصالحات وارادة وصول النفع لهم، وجاء في القرآن بعناوين عديدة كما في قوله تعالى [فإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ] ( ) كما ورد انه تعالى يحب التوابين، المحسنين، المقسطين وعدد آيات الحب هذه في القرآن.
الثاني: آيات عدم الحب، وارادة عدم ايصال الثواب للكافر، وحجبه لمضامين الخير عن نفسه، منها قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ] ( ). وعدد هذه الآيات في القرآن هو
وهي أي ان أكثر من عدد آيات الحب، في اشارة الى موضوعية النهي عن السيئات وارتكاب الذنوب.كما تدل في مفهومها على حبه تعالى لمن يفعل الصالحات.
وجاء قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) مرتين في القرآن بالإضافة الى هذه الآية قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ]( ).
وفيه بيان للتباين الكبير بين المؤمنين والكافــرين، كما ورد قـوله تعــالى [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ] ( ) ، وفيــه اعجاز للقــرآن بان تأتي الآيتــان في موضــوع الأجـر والثواب، ونبذ الظلم.
بحث كلامي
من النتائج والآثار الحميدة لأفعال العبادة والصلاح التي يقوم بها المسلم السكينة الظاهرة عليه عند التوفيق للأداء، ومن الآيات في الأنفس التي جاءت في قوله تعالى [ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) ان الكافر يحس بتلك السكينة التي تبدو واضحة جلية على المؤمن، كما يحس بالتقصير والذنب لتخلفه عن وظائفه الأخلاقية أزاء الباري وأزاء نفسه.
ولتأتي الدعوة الى من داخل النفس، ومن الحواس بما تراه في محيطها ودائرتها من الأعيان والأفعال التي تحث على الإيمان، ومنها اختيار المؤمن لعمل الصالحات فكأن النفوس تتناجى بينها بمعزل عن الإختيار الظاهري، وعندئد تكون الغلبة قطعاً للنفس المطمئنة المؤمنة، لوحدة السنخية وعدم وجود أعراض اضافية وتأثير للزوائد على النفوس في مناجاتها.
فتتجلى موضوعية النفخ الإلهي في الإنسان وتتقارب النفوس بواســطته لتلتقي على المضــامين الإساسية للإيمان وقواعد الهدى، وتظهر آثار الإلتقاء على المؤمن بالمواظبة على العبادات وفعل الصالحات، اما الكافــر فانها تظــهر عليه بمراتــب متعددة فمنهم من ينتقل الى منــازل الإيمان لينســلخ من الكفـر ومواطنه، ومنهم من تتصارع عنده النفس المطــمئنة والنفس الأمارة ويبقى متأرجحاً متردداً الى ان يختار الحــق او يصــر على الباطــل او يدركه الموت وما يحـول دون نجاته.
ومن عظيم فضله تعالى انه لا يترك النفس وحدها تصارع الشهوات ووسـاوس الشيطان، بل يجعل الآيات الكونية عوناً لها كما يبتلي الإنسان بما يجعله يدرك ضعفه وانه محـتاج، والإحتياج ملازم له في ميادين الحياة كلها، وهذه الملازمــة تشــمل الذات الإنســانية، فمن الآيات في الأنفس ان كل انســان وفي كل زمان يــدرك حقيقــة عجـزه عن حفظ نفسه، والذب عنها، سواء من الآفات او الأمراض او الأعداء.
وتبين الآية ان يحب فعل الصالحات ويدعو اليه، وهذا الحب يعني الإعانة عليه وتيسير أسبابه، وتهيئة مقدماته، وجاءت الآية بصيغة الجمع لبيان كثرة المؤمنين وتعدد فعل الصالحات من الفرد والجماعة، ومن فروعها عمل المؤمن للصالحات بمعنى انه لا يعمل عملاً صالحاً واحداً، بل يكون فعله للصالحات متعدداً ومتكثراً وفعلاً متصلاً، وترى الصلاة مثلاً تؤدى كل يوم خمس مرات، وكل مرة تعتبر عملاً صالحاً مستقلاً بذاته، ومن فضله تعالى في هذا الباب وجوه:
الأول: تشريع أبواب من الصالحات يفعلها العبد على نحو الوجوب واللزوم كالصلاة والصوم.
الثاني: اعانة العبد على فعل الصالحات والتوفيق لأدائها.
الثالث: إزالة الموانع التي تحول دون الفعل الصالح والإكثار منه.
الرابع: بعث الشوق في النفس للصالحات.
الخامس: ايجاد روح التنافس والتسابق في الخيرات.
السادس: ايجاد موضوع الفعل الصالح، كما في مجيء السائل وصاحب الحاجة، ورؤية من يفعل الإحسان كي يقتدى به، ورؤية صاحب المنكر كي يحصل ردعه وزجره، مع الفارق بين الإثنين في رؤية الثاني ليس بجعله يفعل المنكر كي يأتي المؤمن فينهاه، بل بحضور المؤمن اثناء حدوث الفعل ليكون حضوره بركة وسبباً للصلاح وجني الثواب.
لقد قسمت الآية الناس الى قسمين، وفيها وجوه:
الأول: ثبات هذه القسمة الى يوم القيامة.
الثاني: دعوة كل انسان لتعيين القسم الذي يكون فيه.
الثالث: عدم وجود تقارب او تداخل بين القسمين.
الرابع: بقاء النفرة والعداوة بينهما.
الخامس: المدح والثناء للذين آمنوا، وحث الناس على اختيار الإيمان، وهذا من اعجاز القرآن فالآية لا تأتي لعرض الحال والبيان فحسب، بل تذم القبيح، وتمدح الحسن، وتدفع الإنسان لفعله واتيانه.
وذكرت الآية الصالحات كفعل خاص بالمؤمنين ولم تذكر الكافر الذي يعمل الصالحات على القول بانها أعم من الواجبات وانها تشمل المستحبات واعانة الفقير وبر الوالدين وانقاذ الغرقى، ودفع الأذى، واغاثة المكروب، وتعليم الحـرف ونحوها، من الأمور التي يفعلها الإنسان بذاته ولا تنحصر بالمؤمنين، بل ان عــدداً من ملل الكفر والشــرك تدعو اليها وتأمــر بالإصلاح ونــبذ الفسـاد ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وقد ينشأ في البلدة مشروع خيري ومستشفى فيتبرع الكافر أكثر مما يتبرع المؤمن، فهل ينال كل واحد منهما الثواب بقدر عمله أم لا؟ والجواب ان لا يقبل من الكفار عملاً، لأنهم أنكروا وجود الصانع، فلم يقوموا بأفعال البر والإحسان بقصد القربة، وهو شرط في ترتب الثواب فمنهم من يفعل لإعتبارات انسانية او عاطفية او للرياء والسمعة والكسب التجاري والشهرة والصيت الحسن بين الناس.
فان قلت: قد يقوم الكافر بالإحسان الى الآخرين سراً وبالخفاء، مما يتعذر معه أمر الرياء والسمعة، والجواب على وجوه:
الأول: ان قصد القربة مطلق فيشمل صدقة السر والعلانية، والفعل الصالح عامة سواء كان معلناً او خفياً.
الثاني: قد يستغني الإنسان عن الرياء ويكــره الســـمعة في بعض الأحيان، وترك الرياء لا يعني حصـول الثواب، كما ان الإعانة سراً لا تعني ترك الرياء، لإحتمال تعلقه بصاحب الحاجة دون غيره.
الثالث: من الآيات في الأوصاف القرآنية ان عمل الصالحات خاص بالمؤمنين، فلم ترد آية تذكر الكافرين بفعل العمل الصالح مع انهم قد يقومون بالإحسان الى الآخرين أكثر مما يفعله المؤمنون في هذا الباب.
مما يعني ان وجوه الإحسان التي يفعلها الكافر من اعانة الفقير والوالــدين، واغــاثة المكــروب لا يصــدق عليهــا انها من الصالحات وفق الإصــطلاح القــرآني، لأن هــذا الإصــطلاح جزء من قانون سماوي يحكم أهل الأرض وأعمالهم ولتوكيد الملازمة بين الإيمان والصلاح.
وعطف العمل الصالح على الإيمان يعني التعدد والغيرية بينهما، وبعد اثبات عدم صدق فعل الصالحات على عمل الكافر، فهل يمكن القول بوجود مؤمنين لا يفعلون الصالحات ويكتفون بالشهادتين والتصديق بالنبوات، الجواب لا، فمع الإيمان يأتي العمل الصالح لوجوبه.
لذا فان الآية لا تشمل من يفعل المعاصي ويرتكب الكبائر، ولم تتعرض له الآية بل ذكرت الفرد الأتم والأمثل الجامع لشرائط الإيمان، القابض على دينه بأداء الفرائض والحرص على النوافل لذا جاءت خاتمة الآية بالإخبار عن بغضه تعالى للظلم، وفعل المعصية من الظلم للنفس، أو لها وللغير.
قوله تعالى [فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ]
بعد مجيء الآيــة السابقة بالوعيد للكافــرين وبما يبعـث الفزع والخوف في النفس الإنسانية، جاءت هذه الآية بالبشارة وذكر الجزاء العظيم والعطاء الكريم للمؤمن الذي يعمل الصالحات وبما يجــعل النفس تشتاق له، وتحرص على نيله والفوز به، والسعي لتحصيل أسبابه من وجوه:
الأول: التدبر في مفاهيم الخلق والإقرار بوجوب الشكر له بالعبادة والصلاح.
الثاني: ادراك احاطته علماً بما يفعله العبد، لأن الإخبار عن الجزاء دليل العلم بالفعل ونوعه وسنخيته.
الثالث: ان هو الحاكم الذي يحكم بين الناس، ويعطي كل ذي حق حقه.
الرابع: ان كـرمه تعالى لا يقف عند الإنصــاف وعــدم البخــس، فهذا أمر يفعله بعض حكــام الدنيا ومنهم من يزيد على الحق ولكن تلك الزيادة محدودة كماً وكيفاً ومقداراً وموضوعاً وزماناً، وهي فرد نادر، أما جــزاؤه تعالى فهــو أكبر وأعظم من أن تحيط به أوهام البشر في كيفيته وكثرته وطول زمانه وتعدد العوالم التي يتم الجزاء فيها.
الخامس: تفضله تعالى بالوعد بالثواب والأجر، والبشـارة بالجنة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويؤدون الفرائض، ووعده تعالى صدق فهو سبحانه لا يخلف الوعد، من غير ان تصل النوبة الى القول بوجوب الوفاء بالوعد عليه تعالى للتنزه عن توجيه صيغة الوجوب عليه تعالى، ولأن الأداء يأتي بصفة الوجوب ومن منازل العبودية.
وقوله تعالى [يوفيهم] يحتمل أمرين:
الأول: اخذ الأجر والثواب تاماً كاملاً.
الثاني: الوفاء بالوعد الإلهي على اتيان الطاعات.
ولا تعارض بين المعنيين، وكلاهما من مصاديق الآية الكريمة، ومن عمومات قاعدة اللطف الإلهي، فمع ان الإيمان وفعل الصالحات واجب على العباد فان تعالى يثيبهم عليه لطفاً وكرماً وجوداً، وفي بيان الثواب الإلهي وجوه:
الأول: تفضله تعالى بالإخبار عنه بالنبوة والتنزيل.
الثاني: حصول شطر منه في الحياة الدنيا على نحو يظهر فيه جلياً للناس انه مصداق من مصاديق الثواب الإلهي.
الثالث: كفاية بعث الأنبياء وذكرهم لوجوب طاعته تعالى، واجتناب معصيته، من غير ان يبينوا الثواب والعقاب، وكذا بالنسبة للكتب السماوية فانها تنزل بالأحكام الشرعية من غير ذكر الثواب والعقاب باعتبار ان العبادات واجب على الناس، وان الثواب فضل منه تعالى، وكذا ذكر العقاب فضل ولطف إلهي باعتبار ان ذكره زجر عن أسبابه ونهي عن مقدماته، ودعوة للإحتراز منه، فلابد من التفكيك بين أمرين:
أولاً: ذكر العقاب.
ثانياً: ذات العقاب، فالأول سابق لخلق الإنسان وجعله بالقرآن ملازماً للإنسان في حياته كلها.
الرابع: اعانة العباد بقواعد اللطف على ادراك حتمية الجزاء
والأصح هو الأول والثاني والرابع وهذا من لطفه سبحانه.
لقد أنعم على الناس بجعل الجزاء في أول الخلق، وهذه آية من بديع خلقه، فقد خلق آدم في الجنة وجعله يسكن فيها ويسيح في جنباتها ويأكل من ثمارها، ويعيش مع الملائكة.
وهذا من الجزاء المتقدم والبرهان القطعي والمقدمة الكريمة، والدعوة الإلهية، وفيه ترغيب بالسعي الحثيث للجنة والذي ينحصر بالإقرار بالإلوهية واتيان الفرائض وعمل الصالحات.
وقيل ان هــذه الآية حجــة على من قال بالإحـباط، لأن توفية الثواب منافية للإحباط، وفقدان ثواب الصالحات بسبب فعل السيئات والخلط بينهــما، ولكن الآية أجــنبية عــن الموضـــوع باعــتـبار ان أصحاب هذه الآيــة قد اسـتقر عندهم الإيمان وأتصفت أعمالهم بالصلاح في دعوة لتنقيح الأعمال واصــلاح النفس والفــعل والإحتــراز من السيئات.
والإحباط قال به جماعة من المعتزلة ومعناه ان ثواب الصالحات يسقط اذا سـبقها ذنــب ومعصــية، وكذا اذا كانت المعصـتية متأخــرة فانها تأتيس على الطاعة المتقدمــة، ولم يثبــت ثم ان باب النــوبة والإنــابة أعم.
وجاءت الآية بصيغة المضارع وفيه وجوه:
الأول: الأجور وجزاء الأعمال لا يكون الا في الآخرة.
الثاني: الآية أعم زماناً فتشمل ثواب الدنيا والآخرة.
الثالث: مجيء جزء من الأجور متعقبة للفعل العبادي، وكأن هذا الجزء غير محسوب مما هو مذكور في هذه الآية وانه وهبة متقدمة.
والأصح هو انبساط الأجر والثواب على جميع آنات الحياة الدنيا والآخرة ابتداء من أوان الفعل والثواب أعم من ان ينحصر بالأمر الوجودي والأثر الفعلي الظاهر.
والأجور أعم من ان تنحصر بالذات فتشمل الغير من وجوه:
الأول: ترشح الثواب على الأبناء ولاالذرية.
الثاني: البركة والخير والسعة والقناعة.
الثالث: اصلاح المجتمع ودويرة المؤمن، للتخفيف عنه.
الرابع: نزول الأمطار وزيادة الزراعات والمكاسب اكراماً للذين يعملون الصالحات فترى مسجد القرية عامراً بالمؤذن وبعض المصلين، ولكن ثوابه يتغشى أهل القرية جميعاً، رجالاً ونساءً.
تضع المرأة ولدها بيسر وسهولة وهي لا تعلم انه من ثواب أبيها وأمها أو زوجها او جاء ثواباً لها، وهذا الثواب من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] فلذا جاءت الآية بصيغة الغائب (يوفيهم) في اشارة الى مكره تعالى الحسن.
أي ان هذه الآية والآيتين السابقتين من مصاديق وتفسير الآية التي سبقتهن وهي قوله تعالى [ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ] فهذه الآية توكيد عملي وشهادة قرآنية بان مكره تعالى رحمة ونعمة وانه خير الماكرين بتفضله بالأجور التي يوفرها على المؤمنين والجزاء العظيم لأعمالهم.
قانون الثواب
لقد جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء، وهذا الجعل وموضوعه على وجوه محتملة:
الأول: ليقوم العبد بشكره تعالى على نعمة الخلق.
الثاني: ليتدبر في إسرار الخلق وأسباب الرزق ودوام وتوالي النعم.
الثالث: لأنها مزرعة للآخــرة، وطريق لدخــول الجنــة او الإلقـاء في النار.
الرابع: انها فرد المشيئة الإلهية وان لا يسئل عما يفعل.
الخامس: الإمتحان والإبتلاء مناسبة للعبادة والدعاء والذكر.
السادس: بيان عظيم قدرته تعالى في الخلق وتعاهد الخلائق واظهار حلمه سبحانه على العباد فهذه الآيات تذكر الكافرين وكفرهم ولم يعجل لهم العقوبة مع انهم فعلوا خلاف ما أمروا به، والثواب: جــزاء الطــاعة يقال أثــابه ثوابه، وثوبه مثوبته: أعطاه إياها.
ويعتبر الثواب من القوانين الثابتة والأمور القطعية ويدل عليه الكتاب والسنة بشواهد أكثر من أن تحصى بل ان الثواب يعيش مع الإنسان في ذاته وجوارحه ويستحضره في ليله ونهاره عن سبب او من غير سبب، وهذا من فضله ولطفه تعالى بان يرزق العبد استحضار الثواب في الوجود الذهني، ويهيء أسبابه لما في هذا الإستحضار من التحريض على العمل الصالح وما فيه من الثواب، كما انه يطرد الغفلة عن الإنسان.
والقول بالثــواب يكــون تارة بحســب جعـل الشارع، وأخرى بادراك العـقل، وثالثــة بالعلاقــة اللــزومية بين الفـعـل الحســن وما يترتــب عليه من الجزاء اما الأول فان مدح المؤمنين ووعد بالثواب الجزيل على فعل الصالحات وجاءت الآيات القرآنية بما يبعث عليها قال تعالى [وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا]( ).
ومن الآيات ان لفظ (ثواب) ورد عشر مرات في القرآن، ست منها في ثلاث آيات من سورة آل عمران، مما يدل على موضوعية التصديق بالأنبياء لنيل الثواب، وقد فاز به المسلمون بحرصهم على عدم التفريط بالإيمان بنبوة أحد الأنبياء وأصبحوا الحصن الحصين الذي يوثق تأريخ النبوة ويمنع من ضياع فريدة من فرائده.
وقد جاءت السنة النبوية الشريفة بنصوص متواترة تؤكد الثواب وحتميته وبيان وجوه الحسن والعظمة وبديع الصنع فيه، ليكون العقل الإنساني مدركاً لما ينبغي فعله، او تركه، لقدرة العقل على التمييز بين الحسن والقبح ومعرفة الآثار والنتائج، لذا ترى العقلاء يمدحون فاعل الحسن، ويذمون من يقدم على فعل القبيح، .
والحسن من الكلي المشكك الذي له مراتب متفاوتة، وللشرع موضوعية في تعيين وجوه الحســن والقبح في الأفعال، ويترشح من الثواب حسن غيري على الأفعــال بالإضــافة الى حسنها الذاتي، فالصيام حسن ذاتاً لأنه طاعة وامتثال لأمر المولى، وفيه الصـحة والسلامة ويأتي الإخبار عن البشارة بالجنة ثواباً له ليثبت ماهية الحسن والصلاح فيه.
بحث كلامي اصولي
أاختلف علماء الكلام في استحقاق الثواب على الإمتثال للواجب مطلقاً او لخصوص الواجب النفسي، على قولين:
الأول: استحقاق الثواب على موافقة الأمر الإلهي وانه واجب على .
الثاني: الثواب فضل منه تعالى وليس عن استحقاق للعبد ووجوه نيل الثواب متعددة هي:
الأول: العلاقة المعاوضية بين الفعل والثواب، كما في عمل العامل واستحقاقه الأجر عند أدائه لعمله شرعاً وعقلاً، وتملكه له عندئذ وعدم تخلف المالك عن دفع الأجر.
الثاني: ان الإســتحقاق ليس الوجــوب بل هــو أهلـية العبد لتلقي الفضل والجزاء الحســن منه تعالى، فعــندما يأتي فعــل العـبد موافقاً للمأمور به فان المؤمن يصبح محلاً للفيض ونزول النعم الإلهية.
الثالث: ان استحقاق العبد للأجر ذو صبغة شرعية وليس عقلية لأن وعد عباده الصالحين بالأجر والثواب ووصوله لهم تاماً كاملاً غير منقوص، فيجب الوفاء بهذا الوعد الكريم.
ولا يضر بالوجوب الأغراض الكريمة في حث الناس على الصــالحات والدعــوة للإمتثــال للأوامــر الإلهـية واجتناب العقاب.
الرابع: ان الثواب فضل ولطف منه تعالى، لأن العبد يؤدي وظائفه ويمتثل لأمر مولاه، والطاعة شكر قولي وعملي على نعمة الخلق، وهذا الشكر لا يؤدي معشار هذه النعمة التي تنشطر الى عدد لا متناهي من النعم.
اما الأول فانه قياس مع الفارق، ولعل هذا القول مقتبس من تعريف الواجب بانه ما يستحق فاعله المدح والثواب، وتاركه الذم والعقاب، ولكن الأمر ليس من باب الإجارة والمعاملة بين الناس، بل هو من وجوه الصلة بين الخالق والمخلوق وما يحكمها من قوانين تتعلق بفعل العبد ولزوم انصياعه لأمره تعالى.
اما بالنسبة للثاني فلا ملازمة بين الوعد والإستحقاق، فليس كل من تلقى وعداً أصبح مستحقاً له، لأن الإستحقاق ذو صفة نفسية بمعنى ان العبد يستحقه لذاته من غير وعد من الغير، فالعامل يستحق إجرة المثل وان لم يعده المستأجر بها.
فلو جاء بالفعــل المتفق عليه في أصل العقد فلابد ان هناك مقداراً من الأجر ولو على نحو الإرتكاز، فاذا لم يعطها المستأجر عند انجاز العمل فان الأجــير يطالب بها، ويظــن انه مظــلوم، اما بالنسبة للواجبات فان العبد يؤدي وظائف العبودية ويقوم بشكره تعالى على النعم، فالوعد فضل واخبار عن الألطاف الإلهية، وتوكيد لصفات الجلال والقدرة.
اما بالنسبة للثالث فان أداء الواجبات باب لجلب المصالح النوعية ودفع المفاسد والأضرار الخاصة والعامة وفيها تعاهد للنظام الكوني والإجتماعي والأخلاقي فيأتي الثواب شكراً منه تعالى لعباده الصالحين لحسن امتثالهم وطاعتهم وفضلاً منه سبحانه.
فالأصح هو الوجه الرابع وهو ان الثواب فضل منه تعالى وان الوعد منه تعالى به لا يعني وجوبه عليه تعالى والعبد لا يستحق على شيئاً للزوم امتثاله وانصياعه لأمر تعالى ويقصد القربة، ان نسبة الاجور للمؤمنين بقوله تعالى [اجورهم] لا يعني استحقاقهم لها، بل ان اعدها وهيأها لهم من فضله ورحمته.
هذا في الواجب النفسي باعتبار انه أمر حقيقي يأتي بداعي البعث اليه كاقامة الصلاة ليترتب الثواب على أدائها، واختلف في الوجوب الغيري كالوضوء مقدمة وجودية للصلاة، وهل يترشح عنه الثواب لإستحقاق ثواب واحد على العبادة وهو الصلاة بقيد الوضوء، وان البعث له لإيجاد الواجب النفسي، ام ان الوضوء له ثواب مستقل بذاته لأنه فعل عبادي يؤتى به بقصد القربة.
والأصح هو الثاني وان الوضوء له ثواب مستقل لعدم ثبوت إطلاق القاعدة التي ذكرت وهي ان العقل لا يحكم بأزيد من استحقاق ثواب واحد اذا جاء بالفعل مع مقدماته كالصلاة جامعة للشرائط، ولا يستحق أكثر من عقاب واحد على مخالفة الواجب النفسي الجامع للشرائط، وهو الصلاة بطهارة وساتر واستقبال للقبلة.
وحكم القرآن مقدم على حكم العقل ولأن الواجب الغيري هو من الصالحات فتشمله عمومات الآية، بالاضافة الى ان تقسيم الواجب الى نفسي وغيري استقرائي مستحدث، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ…] ( ).
ومن الآيات في قانون الثواب البون الواسع بين الفعل العبادي وجزائه، فطرفه الأول معلوم وهو فعل يقوم به العبدلا يعادل أصغر جزء من أدق نعمة من نعم على الإنسان وكل نعمة منها عظيمة ويعجز العبد عن شكرها، ليأتي الجزاء فيكون بديلاً عن كل هذه النعم مع زيادة غير محدودة ولا مقيدة.
فقد يكــون محــواً لذنب، وصرفاً لبلاء، وتداركاً لمصيبة ودفعاً لمكروه، وايجــاداً لأســباب ومقدمـات تقود الى ما فيه خير الدنيا والآخرة.
وهذه الآية من مكر الذي ورد ذكره في الآية قبل السابقة، فأراد ان يبين نــوع ومضـامين هذا المكر الذي هو رد على مكر الكافرين بعيسى وبالمؤمنين مطلقاً باعتبار ان موضوع الآية أعم من قصة عيسى .
ولقد أنعم على المسلمين فبين لهم موارد العمل الصالح وبشرهم بالأجر العظيم مع زيادة عليه من فضله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ *لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ] ( ).
فقد بينت هاتان الآيتان وجــوه الإيمان والعمل الصالح بقــراءة القرآن وأداء الصلاة واخراج الزكاة والصدقة في السـر والعلانية ويمتازون عن غيرهم بان يزيدهم من فضله على تلك الأجور وما وعدوا به.
قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]
من الاعجاز ان تأتي خاتمة الآية بموضوع وحكم يختلفان عن موضوع وحكم صدرها مع قلة عدد كلماتها فاول الآية اخبر عن فضل عظيم يتغشى المؤمنين، ثم انتقلت الآية الى ذم الظالمين، والاخبار عن بعدهم عن رحمة ، وفيه وجوه:
الاول: بيان المائز والمنافاة بين وحسن عاقبة المسلمين، وسوء عاقبة الكافرين.
الثاني: تثبيــت المســلمين في منــازل الايمان، اذ ان الايمــان موضوع مركب من جهة الزمــان، من الابتــداء والاستدامة، فلابد من دوام واستدامة ثبات المسلمين على مناهج الايمان التي تتجلى بعمل الصالحات وملازمتها للعبد طيلة حياته، فالصلاة واجب يتجــدد كل يوم، والصيام يطــل على الناس مــرة كل سـنة، بعلامــة كــونية معلــومة وهــي هلال شهر رمضان، وكثير من الناس لا يعرف الاشهر القمرية الا بمناسبة شهر رمضان وذي الحجة، ومنهــم من يقتصــر في معـرفتــه على شــهر رمضــان وحده.
الثالث: تأسيس علم جديد بالمقارنة بين الايمان والكفر من جهة العواقب والآثار، ومنافع الاول واضرار الثاني، وجعل هذه المقارنة في متناول الناس جميعاً لا المسلمين وحدهم، فيكون القرآن مدرسة الامم، والمؤدب الاول في تاريخ.
الرابع: جعل النفوس تنفر من الظلم، ومن كل قبيح.
الخامس: بيان الترابط والملازمة بين الحب والأمر الحسن، ليميل العرف والطبع الى كل ما هو حسن وممدوح شرعاً فتحكم قواعد وقوانين الاسلام الارض وصيغ المعاملات فيها.
السادس: قد يكون في الآية اشارة الى ان عدم حب للكافرين من اتمام اجور المؤمنين.
السابع: في الآية اخــبار بان الذين يعتدون على المســلمين لن يجــدوا عفواَ من ، فلا ينشغلوا باحتمال المغفرة لذنوبهم لان غفور رحيم.
الثامن: فيها دعوة للمؤمنين باجتناب الكافرين والنفرة منهم وعدم الركون اليهم.
التاسع: تحذر الآية من الظلم، وخلط السيئات مع الصالحات واقتراف الظلم والتعدي على الآخرين.
العاشر: في الآية حث على العفو عمن أساء للمسلم، وفيه أجر اضافي قال تعالى [ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ]( )، وهـذا من اعجاز القرآن فالآيتان في موضوع الأجر والثواب.
الحادي عشر: في الآية ذم للظلم، وجعل النفوس تبغضه وتنفر منه، لأن النفرة منه مقدمة وعون على الصلاح.
الثاني عشر: ان البشارة بالأجر والثواب للمؤمنين دعوة للناس جميعاً لترك الظلم سواء ظلم النفس بالكفر والجحود، او ظلم الناس والتعدي على حقوقهم.
الثالث عشر: في الآية اخبار للمسلمين بحسن عاقبة من آمن برسالة عيسى ، وسوء عاقبة من جحد بها.
وفي الآية ذم للذين كذبوا بعيسى وتوبيــخ وانـذار للذين يكذبــون بالنبي محــمـــد صــلى الله عليه وآله وسلم، واشـارة الى وجوب حرص الإنســان على اجتناب الظــلم ابتــداء واســتدامــة في باب العـقــائــد والإيمــان، وليس له ان يقــف عنــد التصــديق بنــبوة أحــد الأنبياء بل ان الإيمان بالنبي اللاحق بعرض واحد مع الإيمان بالنبي السابق.
قانون الأخوة
من الآيات في الحياة الدنيا وجود أنظمة خاصة بها، تتعلق بتدبير شــؤون الناس وشــرائط العــبادات وضــوابط المـعاملات، وحدود الملكية الخاصة وموضوعية حفظ الأنســاب، وســنن الزوجـية والود والــرأفة بين الزوجين، وفي الأبــوة والبنوة، وموارد الكســب، ومنها ايضــاً وجود شــرائع وملل سماوية قائمة بذاتها وتتصارع مع قوى الكفر والضلالة.
وترى الناس أحزاباً وجماعات، وتحصل النزاعات والحروب بين بعضهم ثم لا تلبث ان تنتهي، لتبقى جـزء من التأريخ ولتأتي الأجيال فترى ان تلك الحروب قامت على أسباب واهية، وحجج ضعيفة وان كل الأطراف قدمت خسـائر لا تتناسب والغايات التي ســعت اليها او الأطماع والمنافع التي حصــلت عليها، ومع هذا فلا تلبث تلك الأجيال ان تقـع في ذات الخطأ وتأخــذها الحمـية والعصــبية ثم لا تلتفــت الى ما نزل من السـماء فتجد فيـه الحلول المناسبة، والخلاص والسلامة من الآفات، لذا فان الأعداء يكونون أخواناً بالإسلام.
وليس من خصومة او نزاع الا وتجد حله في القــرآن وشرائع الإسلام، وهــذا من لوازم الشــريعة الناســخة بان تـأتي جامعة للأحكام، خالية من النقص مانعة من الحاجة الى غيرها واللجوء الى قوانين وضعية لإستيعاب مستحدثات المسائل بل ان آيات القرآن تحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث.
ولم يحدثنا التأريخ عن قوم اختصــموا فرجــعوا الى القرآن فلم يجدوا حلاً، بل العكس فان الناس يتيهـون في السنن والعادات والأعــراف وبعد العجــز يلجئون الى القــرآن العدل والإنصاف والشــمول وانتــزاع الحق، او تــرك ما تحت اليد عن رضا لتعلق حق الغير به، وحتى لو وجدوا حلاً في الأعراف القبلية والقوانين الوضعية فهو على وجوه:
الأول: انه مقتبس من القرآن والشريعة الإسلامية فيكون قانوناً في اسمه، اما مسماه فهو ثمرة وفرع من أحكام القرآن.
الثاني: يأتي الحل وفق العادات والأعراف لتسوية الخلاف، ومنع الخصومة ولكنه خال من العدل والإنصاف، ويبقى احد الأطراف يشعر بالغبن والحيف، وقد يكون هذا الشعور سبباً في اثارة الخلاف والخصومة من جديد، وبصورة أشد من المرة الأولى كما في تسوية مسائل القتل والإعتداء بالتراضي والمشاكلة او بالمال القليل الذي لا يصل الى معشار الدية بحجة وجود اتفاق وشروط خاصة بين القبائل.
الثالث: قيام الحل على العنت والحيف والميل الى جانب القوي.
الرابع: التمايز والتباين في كيفية الحكم، فان جاء غني او ذو جاه وشأن حكموا بالتخفيف، وان جاء فقير ومستضعف جاء الحكم وفق القواعد.
فجاء الإسلام لنشــر العدل والمساواة في الأحكام وليكون العدل من مقدمات وثمرات الأخوة الإيمانية، فكل مسلم يطلب العدل ويبغيه ويجعله وســطاً وحاكماً بيــنه وبين أخيه، وفي الــغالب لا تصــل النوبـة الى الخصومة والخلاف واستحضار مبادئ العدل والحكم بينهما، لأن الأخــوة هي التي تحكم الصلة والمعاملة بين المسلمين، ونسمي هذا القانون “قانــون الأخوة” لأنها الملاك في المعــاملات بين المسلمين، فينظر كل مسلم الى الآخــر بعين الأخــوة فيتصــرف ويتعامـل مــعه وفــق قواعــد هذا القانــون ولا يلجــأ الى غيره مما يتــعلـق بالخصــومة والخلاف.
أي ان هذا القانون أعم وأشمل من أحكام النزاعات وأن كانت شرعية وهو مقدم عليها لأصالته وللحاجة المستديمة له ولعمل كل المسلمين به، ومن مضامينه ان كل المسلمين يسعون الى تعاهده، ويشعر بالأسى والأسف اذا أخل واحد به، فلو أعتدى أحدهم على آخر، فانهم يكونون ضد المعتدي لتعديه على قانون الأخوة، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (أنصر أخاك ظالماً او مظلوماً)، أي امنع الظالم عن ظلمه وانهاه عن المنكر، واعن المظلوم وادفع عنه الظلم قدر المستطاع.
لقد حال قانون الأخوة دون الخلافات بين المسلمين، وساعد في توجيه الجهود والطــاقات نحو ســاحات الجهاد، وبعث في قلوب الكافرين الفزع والخوف من المسلمين، ومتى ما ظل المسلمون يتعاهدون مبادئ الأخوة فان العدو والكافر مطلقاً يخشاهم ويتجنب الإعتداء عليهم وعلى ثغورهم وهذا القانون مقتبس من قوله تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
والتأريخ الإسلامي مملوء بالشـواهد العــملية لهذا القانون، وقد بدأت تلك الشــواهد من أيام النبوة، اذ بادر النــبي محمــد صلى الله عليه وآله وسلم الى المواخــاة بين المهاجرين والأنصار وجعل لكل مهاجر أخاً من الأنصار، فكــانت أخوة وصلة باقية حتى بعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى، ليتوارثها المسلمون ويحافظون عليها.
ولابد من وضع قواعد وانظمة خاصة لهذا القانون، وهو أعم من أن ينحصر بالقضية الشخصية فيشمل الأخوة بين الدول والجماعات الإسلامية، ولا تقف موضوعاته عند منع الخلاف بل يشمل صيغ التعاون والبذل ومنه دفع الزكاة واعانة الفقراء والعهود والمواثيق ضمن احكام الكتاب والسنة.
المعلم الأول
تعتبر الحياة مدرسة جامعة للعلوم والمبادئ ودروسها لا تنحصر بموضوع دون آخر، بل تتغشـى جميع الموضوعات، يتلقى الإنســان نصيباً منها، وهذا النصيب من الكلي المشكك بحسب مدارك الإنسان وبيئته وحالـته الإجتماعية، والســعة والضيق، ليوظــفها في ســيرته وواقعه اليومي .
وهذا التوظيف نفسه درس اضافي متجدد، لأن التجربة والعمل أفضل فصل للتعلم والإرتقاء في دروب المعرفة، وإدراك أهل الحل والعقد والأولياء الحاجة الى المدارس والتعليم فكان محدوداً في عدد الدارسين والموضوعات التي يتعلمونها بحسب الحاجة والإبتلاء او الأعداد، الى ان أخذت بالإتساع والتعدد لتشمل الميادين المختلفة والعلوم المستحدثة بل ان تلك العلوم ثمرة من ثمار الدراسة والتدريس لتتجلى أهمية طلب العلم والتحصيل.
وتعاقب على الأرض صيغ عديدة في التعليم في التشريع والسنن، والمهن والحرف والمكاسب كل باختصاصه، وبقدر الحاجة الظاهرة والإبتلاء العام ولكن المعلم الأول هو القرآن فهو الذي يؤدب الناس ويهديهم الى سبل الرشاد ويقودهم الى المعارف النظرية والعملية، ويجعلهم قادرين على كسب العلوم وتحصيل المكاسب بالطرق الصحيحة، وهو الذي علم الناس ســبل الأمــن ومنـع من وقوع الحوادث والجرائم التي تشـغل الإنسان عن الذكر وتبعث في نفسه الخوف والفزع.
فليس أرسطو هو المعلم الأول والفارابي هو المعلم الثاني بل ان القرآن هو المعلم الأول الذي دخل كل بيت ونفذت أوامره ونواهيه الى القلوب، وانتزع حصة من وقت المسلم ليصغي الى آياته طوعاً وقهراً، فيقرأ في الصــلاة آياته ويتدبر في معانيها ويكتسب المعارف منها وان كانت هذه الآيات مكررة في قــراءته، ويتلوها كـل يوم، وهو المعلم الأول لدقة أحكامه وشمولها لكل الموضوعات التي تتعلق بالدنيا والآخرة.
وليس من موضوع او واقعة الا وللقرآن فيها حكم يدعو الناس للجوء اليه للإقتباس منه والإهتداء بنوره، وفيه نكتة وهي عدم ترك الناس يعرضــون عنه ويذهبون الى غيره، والذي يأتي الى القائد والرئيس ولم يجــد عنده جواباً على مســألته التي قطــع الفيــافي من أجلها فانه ييئس ويصــاب بالقنوط، وبما ان القرآن طارد لليأس والقنوط، فانه المعلم الذي يجد عنده الطالب كل الدروس ولا تستعصي على مسألة، الى جانب الثواب العظيم في قراءته وتلاوته، لأنها نوع تعاهد للقرآن.
ويترشح من هذا التعاهد أخذ دروس يومية منه، يتلقاها المسلم على نحو انطباقي ولا تنحصر دروس القرآن بالمسلمين وحدهم بل تشمل الناس جميعاً وان لم يؤمنوا بالقرآن فهم يأخذون بالواسطة فمدرسة القرآن يتخرج منها الملايين ممن يعلم الناس الأخلاق الحميدة ويدعوهم للرشاد والإمتثال لما ينزل من السماء فالقرآن جعل كل مسلم معلماً لنفسه ومعلماً لغيره.
وهو موجود مع الناس وقريب منهم، وليس من شرط او طلب أجور على التعليم، لذا فانه يستحق عنوان “المعلم الأول” من غير منافس الى يوم القيامة، اما بالنسبة للبشر فان المعلم الأول هو الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو صاحب الكمالات الإنسانية والإمام في العلم والأخلاق والآداب، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وعند الجمع يكون القرآن هو المعلم الأول والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المعلم الثاني او المعلم العملي وترجمان القرآن، وفي التشريع يعتبر القرآن المصدر الأول، والسنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع.
وعلى القول بان معنى النصر العطاء فان الآية اخبار عن عدم انتفاع الآخرين من أحد عند الحاجة، أما في الآخرة فالأمر بيّن، فلا أحد يتطوع للشفاعة للكافرين او إعانتهم، واما في الدنيا فان النصرة معدومة في موضوع الكفر والضلالة، فلا أحد يذب عن مبادئ ومفاهيم الكفر كمام يتعذر ايجاد العلة والسبب لإختيارهم له، وينحصر أمرهم بالعناد والجحود.
قوله تعالى [ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]الآية 58 من سورة آل عمران.
الإعراب واللغة
ذلك: اسم اشارة، مبتدأ، نتلوه: فعل مضارع، والواو: فاعل، والضمير الهاء مفعول به، والجملة الفعلية خبر المبتدأ.
من الآيات: جار ومجرور، والذكر: عطف على الآيات
الحكيم: صفة.
للذكر معان متعددة منها:
الأولى : ثبوت وبقاء الأمر في الحافظة وعدم نسيانه.
الثانية : ما يجري على اللسان.
الثالثة : دراسة الشيء ومنه الإستذكار أي الدراسة للحفظ.
الرابعة : ما يأتي بعد النسيان يقال تذكر الأمر أي أستحضره بعد ان كان قد نساه.
الخامسة : الثناء وصفات الحسن.
السادسة : الصيت في الخير والشر.
السابعة : القرآن، قال تعالى [ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ] ( ).
الثامنة : كل كتاب نازل من السماء.
التاسعة : الدعاء.
العاشرة : قراءة القرآن.
الحادية عشرة : الشكر.
الثانية عشرة : الطاعة.
الثالثة عشرة : الصلاة، وفي الحديث: كان الأنبياء اذا حزبهم أمر فزعوا الى الذكر، أي يبادرون الى الصلاة.
الرابعة عشرة : تمجيد وتقديسه وتسبيحه وتهليله.
الخامسة عشرة : الشرف، قال تعالى [ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ]( ) أي ذي الشرف.
السادسة عشرة : الفخر والرفعة.
السابعة عشر : الأذان والإقامة، وأشكل على بعض فصولهما بانه ليس من الذكر كما في حي على الصلاة، حي على الفلاح، ولكن عناوين الذكر تترشح عليهما من موضوع وأحكام الأذان وجزئيتهما منه واعتبارهما اشعاراً بدخول وقت الصلاة ومقدمة لها.
ومن صفاته تعالى”الحكيم” والحكم والحاكم.
وفي معنى الحكيم وجوه:
الأول : الذي يحكم الأشياء.
الثاني : من يتقن الفعل.
الثالث : العالم وصاحب الحكمة.
الرابع : العلم والفقه.
في سياق الآيات
مع قلة عدد كلمات هذه الآية فانها بيان لمجموع هذه الآية وقصة عيسى والتذكير بموضوعاتها، والإخبار عما فيها من الدلالات، والإشارات الى القصص والآيات والمعجزات التي تضمنتها الآيات المتقدمة والآيات التالية للتوكيد، وفيها تنبيه للتداخل والملازمة بين هذه الآية والآيات السابقة ووحدة الموضوع بينها.
وتقدير الجمع بين هذه الآية والآيات المجاورة السابقة على وجوه:
الأول : ومكروا ومكر الله ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم.
الثاني : والله خير الماكرين ذلك نتلوه عليك.
الثالث : إذ قال الله ياعيسى اني متوفيك ورافعك ومطهرك من الذين كفروا ذلك نتلوه عليك…..).
الرابع : وجاعل الذين اتبعوا قوة الذين كفروا إلى يوم القيامة ذلك نتلوه عليك….).
الخامس : فاما الذين كفروا فاعذبهم عذاباً شديداً ذلك نتلوه عليك…).
السادس : واما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفهم أجورهم ذلك نتلوه عليك…..).
السابع : والله لا يحب الظالمين ذلك نتلوه عليك…).
وجاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى[نَتْلُوهُ عَليْكَ] ويجتمل وجوهاً:
الأول : إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن التلاوة من عند الله عز وجل يتلقاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة جبرئيل , ولا يطلع عليها المسلمون إلا بواسطة تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها.
الثاني : المراد المسلمون والمسلمات جميعاً.
الثالث : إرادة الناس جميعاً لعمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة
تلاوة الخبر وخبر التلاوة
تنقسم الجمل بلحاظ صيغتها إلى قسمين:
الأول : الجملة الخبرية، وهي التي تتضمن الإخبار والنبأ، وتحتمل الصدق والكذب إلا بخصوص القرآن والحديث، وقيل تستثنى أيضاً الحقائق العلمية، ولكن الخبر لا يتعلق بذات الحقائق واليقينيات بل بالإخبار عنها، فهو أيضاَ يحتمل الصدق والكذب، قال تعالى[إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( ) .
وتتضمن الجملة الخبرية مفهوم الإنشاء ودلالاته , لذا قلنا بقسيم آخر هو: الجملة التي تتضمن شائبة ومعنى الإنشاء، كما في صيغ الدعاء والشكر لله عز وجل , ومنها قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، والرجاء والطمع والأمل كما في قوله تعالى[وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ]( ) .
والشكوى والإلتجاء والإستجارة ، وورد في التنزيل حكاية عن موسى[قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي]( ).
وتفيد الجملة الخبرية معنى المدح والذم، والتعريض، والترغيب والفخر، والإسترحام، والسؤال بالعرض , والكناية , والمجاز.
الثاني : الجملة الإنشائية: وهي التي لاتحتمل الترديد بين الصدق والكذب بل تأتي بصيغة الأمر كما في قولك (صل الصبح في وقت الفضيلة) .
وتأتي بلغة الدعاء والتعجيز والتمني والتهديد، والنهي والإستفهام كما في قوله تعالى[فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ]( ).
وقد ترد الآية بصيغة الجملة الخبرية , ولكنها تتضمن الإنشاء في معناها ودلالتها، وليس من حصر في اللغة لهذا الباب.
وتدل آية البحث على إنفراد جمل وصيغ القرآن باعجاز خاص وهو أنها تلاوة، فيصدق أن تقول: تلاوة الخبر، وتلاوة الإنشاء.
ويمكن أن نقول تقسم الجملة في القرآن إلى أقسام:
الأول : التلاوة الخبرية.
الثاني : التلاوة الإنشائية.
الثالث : التلاوة الخبرية لفظاً الإنشائية معنى.
الرابع : التلاوة الإنشائية لفظاً الخبرية معنىً .
ولم تقل الآية (ذلك نخبرك به) بل قالت (ذلك نتلوه عليك) لبيان قدسية التلاوة وموضوعيتها في أمور:
الأول : تهذيب النفوس.
الثاني : إصلاح النفوس.
الثالث : إستدامة الصلة بين الله عز وجل وبين عباده , إذ أن كلامه حاضر بينهم وهو إمام يقودهم في الصالحات.
الرابع : إرادة الأجر والثواب للمسلمين بتلاوة آيات القرآن , بلحاظ أن هذه الآية شاهد على الإيمان ومن مصاديق الصالحات، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا تقول { الم } حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف( ).
ومن أسرار مجئ اسم الإشارة للبعيد (ذلك) في أول الآية الدلالة على أن الآيات المجاورة السابقة تتضمن علوم الغيب من وجوه:
الأول : قصص الأنبياء، والآيات التي رزق الله عز وجل عيسى عليه السلام.
الثاني : الإخبار عن حال الرفعة وعلو المرتبة لأتباع عيسى عليه السلام , وهل يشمل لفظ[الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ]( )، المسلمين أم أنه خاص بالنصارى , الجواب هو الأول لأن المسلمين اتبعوا عيسى في ملة التوحيد وصدّقوا برسالته وبالبشارات التي جاء بها، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الآية سلاح
جاء اسم الإشارة (ذلك) لإفــادة الكــثرة والتعــدد في الآيات واحســن القصص وتدل عليه قــرينة لفــظ التــلاوة وما يدل عليه من معنى التتابع، ونســبة التلاوة اليه تــعالى تبعث في نفــس المسلم الثقة والعز والأمل، وتجعله أشــد شــوقاً لآيـات القرآن، وأكثر تدبراً لمضامينها.
ولغة الخطاب الموجهة للنبي (نتلوه عليك)، تبين عظيم المنزلة ومقام القرب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما خصه به من المشاهدة الحضورية والآيات الحسية ليتجلى الإصطفاء والإجتباء بحال الإنكسار والخشوع لله تعالى وليبقى التنزيل من التجليات التي فاز بها المسلمون واستناروا بضيائها وجعلوها مقدمة مباركة للعروج الى منازل الخلد في دار النعيم.
ويتضمن قوله تعالى [مِنْ الآيَاتِ] المدح والثناء عليه تعالى فهذه الآيات والقصص كنوز سماوية من بحور ذخائر العرش ومكنونات العلم اللدني تفضل بها سبحانه لتكون عوناً للمسلمين في أمور الدين والدنيا، ودعوة للناس للصلاح ونبذ الكفر والضلالة وما يترشح منها من الجدال.
وتعتبر هذه الآية حرزاً للمسلمين وواقية عمن مفاهيم الضلالة، وتحذيراً من الجهالة والغرر، وصيغ التشويه والتحريف والطعن بالأنبياء، ان الآيات التي جاء بها عيسى أمر خارق، وهذه الآية تثبيت وتوكيد لها وانها فضل منه تعالى على عيسى وعلى المسلمين والناس جميعاً، وان كلماتها كلها قرآن وذكر.
لقد تفضل سبحانه بتلاوة الآيات والتلاوة هنا تحمل على معنى التتابع وكذا القــراءة باعتبار ان جبرئيل يقرأها بصفته رسولاً من عند .
وفي الآية دعوة للمسلمين للتمسك بآيات القرآن ومعرفة عظيم شرفها وقدسيتها، وحث لهم على الصدور عنها وعدم التفريط بمضامينها القدسية.
ومن بركات عيسى ان تكون قصته في القرآن سبباً لقواعد كلية تنير الدرب بضيائها للسالكين دروب مرضاته تعالى.
اعجاز الآية
لقد جاءت هذه الآية للإشارة الى المعجزات وآيات الوعد الكريم لمن آمن برسالة عيسى ، والوعيد لمن تخلف عنها.
وبينما جاءت الآيات السابقة بلغة الخبر وانباء الأمم السالفة وما يجلبه الإيمان من النفع العظيم، وما يسببه الكفر من الأذى لأصحابه فان هذه الآية جاءت بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه منافع وفوائد عظيمة منها:
الأولى: إكرام وتشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخطاب.
الثانية: الإرتقاء النوعي العام في المعارف الإسلامية عند المسلمين.
الثالثة: تشريف المسلمين من وجهين:
الأول: بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الآيات عليه.
الثاني: شمولهم بالخطاب في هذه الآية لأنه إنحلالي يتوجه الى كل مسلم ومسلمة والى يوم القيامة.
الرابعة: الإعتبار والإتعاظ مما في هذه الآيات.
الخامسة: حث المسلمين على دراسة قصص الأمم الماضية ومعرفة تأريخ النبوة وسنن الأنبياء.
السادسة: الإخبار القرآني بان قصة عيسى من الإعجاز الخارق للعادة، والسالم من المعارضة، والمقرون بالتحدي والذي يؤكد عظيم منزلة عيسى.
السابعة: مضامين الحكمة وظهور الإتقان في هذه الآيات وهو على أقسام:
الأولى : في هذه الآيات القرآنية.
الثانية : في الآيات التي رزق عيسى .
الثالثة : الثواب الذي أعده للمؤمنين، والعذاب الشديد الذي ينتظر الكافرين.
الرابعة : موضوعية التصديق بنبوة عيسى على نحو الخصوص في موازين الإسلام، وفيه مسائل:
الأولى: لأنه آخر رسول سبقت نبوته بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: ما لنبوته من الفضل على المسلمين في التصدي للجاحدين والكافرين.
الثالثة: جهاده وصبره وتحمله في ذات الله.
الرابعة: لأنه انســان مخلــوق بالنفخ الملكــوتي في أمــه، فـهذا النــفخ يجــعل له منزلة رفيعة، ولكنه لا يخرجه من قيد وصفة الإنسانية، قال تعالى [وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ] ( ).
الخامسة: تصدي عيسى للرهبان والملأ الذين أصروا على البقاء على شريعة سابقة وعدم قبول النسخ الجزئي فيها، ومع عظم الآيات التي جاء بها عيسى ، فان عامة الناس بقوا على تبعيتهم لهم وأنقيادهم لأوامرهم، ولم ينصتوا لعيسى .
السادسة: إن عيسى عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم، ولكن هذا وحــده لا يكفي لإنفراده بهذا التخصيص , لأن نوحــاً وابراهيم وموسى عليهم السلام من أولي العزم ايضاً، فلابد من وجود خصوصية لعيسى، الا ان يقال انه آخرهم وأقربهم للإسلام , واكرامه فخر وعز لهم, وتتجلى عظيم منزلة عيسى بالآيات التي صاحبته من حين ولادته
السابعة: لقد جاء القرآن ايضاً باكرام موسى وبيان عظيم الآيات التي جاء بها من عند ولكن في آيات اخرى من القرآن.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (الذِّكْرِ الْحَكِيمِ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
مفهوم الآية
في الآية توكيد لمضامين هذه الآية وفيه ثلاثة عناوين:
الأول: انها من علم الغيب، وقد تــقدم قوله تعالى [ ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ]( )، ولا تعارض بينه وبين هذه الآية وليس من فصل بين موضــوعاتهما، ويمكن الجمع بينهما، فهذه الآيات من الغيــب ومــن وجوه الغيبعلومه الآيــات والحجج التي أشارت اليها هذه الآية.
الثاني: انها آيات ومعجزات ومن الذكر الحكيم.
الثالث: فيها قصص وأخبار صادقة، وجاءت هذه الآيات لتوثيقها وإشعار المسلمين بها ليتخذونها عبرة وموعظة.
وسيأتي بعد آيات قوله تعالى [ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ] ( )، واسم الإشارة (ذلك) يتعلق بأمرين:
الأول: الآيات السابقة، ومضامينها وهي على أقسام:
الأول: ولادة عيسى من غير أب بآية اعجازية.
الثاني: اكرام مريم بالإصطفاء.
الثالث: تفضله تعالى بتعليم عيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.
الرابع: بعثة عيسى رسولاً الى بني اسرائيل.
الخامس: مجيء عيسى بالآيــات من عــند وهــي آية الطــير وآيـة ابراء الأكمه والأبرص، وآية احياء الموتى باذن ، وآية الإدخار.
السادس: تصديق عيسى لبنزول التوراة من عند ومجيؤه بنسخ بعض أحكام التوراة، وبإسقاط بعض مما حرم موسى.
السابع: ظهور إمارات الكفر بدعوة عيسى عند بني اسرائيل، وإحساس عيسى بها.
الثامن: سؤال عيسى النصرة والعون، وتمييز أهل الإيمان، ليقوم باعدادهم لخلافته وتأديبهم وتعليمهم أحكام الشريعة قبل رفعه، وهــذا من إعجاز القرآن، فعندما أحس عيسى بكفر القوم لم يفكر بنفسه وسبل نجاته، بل بادر الى تثبيت دعائم التوحيد في الأرض وتأسيس نواة الدعاة لصيرورتهم ورثــة له، ويإعدادهم لتحمــل الأمــانة، وليكون الأنصار شهداء له عند بانه أدعلنى الرسالةته , واستطاع ان يؤسس جيشاً صغيراً من المؤمنين الدعاة، عدد أعضائه اثنا عشر نصيراًحواريا.
التاسع: اعلان الأنصار صدق إيمانهم، وعدم خوفهم من كفر القوم، تأسياً بعيسى الذي لم يخش الكافرين.
العاشر: الإخبار السماوي عن آية المكر، وفيه مسائل عديدة:
الأولى: تعدي الكافرين ولجوؤهم الى الكيد وارادة البطش بعيسى .
الثانية: تفضله تعالى بخلاص عيسى ونجاته، وتسخير الذين يتولون وراثة شريعته وحفظ ما جاء به، وهم الحواريون.
الثالثة: ان مكره تعالى خير محض وصلاح ونفع خاص وعام.
الحادي عشر: تعاقب الآيات الخاصة بعيسى وانصاره وهي:
الأول : آية التوفي.
الثاني : آية الرفع.
الثالث : آية التطهير.
الرابع : آية جعل المؤمنين فوق الكافرين الى يوم القيامة.
الثاني عشر: الإخبار عما ينتظر الكافرين من العذاب الشديد، والمؤمنين من الثواب العظيم.
الثالث عشر: سخطه تعالى على الظالمين.
الثاني مما يتعلق باسم الاشارة (ذلك): الآيات التالية والتي تتضمن مسائل:
الأولى: التشبيه في الخلق من غير علة مادية وما به الوجود بين عيسى وآدم عليهما السلام.
الثانية: أمــره تعالى بالخــلق الدفـعــي والإيجــاد الفــوري بـ(كن:، فيكون).
الثالثة: الأمر الإلهي بالاحتجاج والمباهلة وإقامــة البيــنــة في الدعــوة الى .
إفاضات الآية
من حــب تعالى للناس ان تعاهــدهم بالتنزيل، وتفضل ببعثة النبي محمد صــلى الله عليه وآله وسلم ومعــه كلام ، مــع عظيــم منزلة النبي وتأييده بالملك والــوحــي، فان أبى الا ان يكــرم الناس بخــطاب خاص منه تعــالى يكون اسـتدامة وامتـداداً لنفخ الروح في آدم، وتشريفاً متصلاً للإنسان، وشاهداً على ثبوت خلافته في الأرض.
وان تعالى أختاره للخلافة، ولم يتركه وحاله، بل أعانه بمدد سماوي لم ينله جنس من الخلائق الا وهو القرآن كلام منه تعالى، وما فيه من الأوامر والنواهي التي تفضل بها على العباد ليسهل لهم العروج الى الجنة من جديد والخلود فيها، وليكونوا في الدنيا قريبين من حضرة القدس لأن العمل بالأحكام الشرعية يبعث الغبطة والسكينة في النفس ويجعل المسلم يدرك انه في سفر سعيد وكأنه في حال الإياب والعودة الى المستقر الكريم في جنة الخلد.
واذ يقوم الملوك والرؤساء بانابة من هو أدنى منهم لتوجيه الناس والختم على أكثر الرسائل والبيانات، ويفوض اليه معالجة كثير من المسائل، فان تعالى تفضل بالإخبارنفسهعن بتلاوة الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من اللطف والفيض الإلهي على المسلمين والناس جميعاً، وفيه دعوة للشكر له تعالى على هذه النعمة العظيمة منه الشكر العملي من المسلين على. نحــو العموم المجموعي كما في تقيدهم بالصلاة , والعموم البدلي والفردي بالإجتهاد الشخصي بتقوى .
التفسير
قوله تعالى [ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ]
جاء اسم الإشارة (ذلك) للتفخيم وتعظــيم شــأن التنزيل ومــوضــوع آيات عيسى والتوكيد على أهميتها ولزوم اعتبارها، وأخذ الدروس والمواعظ منها، فمن الإعجــاز ان الآيــات لم ترد بذاتها، بل جاء التوكيد متعقباً لها، وفيه دعوة للإلتفات الى ما فيها من المضامين القدسية، والأسرار الملكوتية ولم تقل الآية “تلك الآيات” بل جاءت بصيغة التذكير اشارة لما يتلى، لبيان موضوعية التلاوة وليس الآيات وحدها.
فالآية تشريف اضافي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي ان الآيات نزلت على عيســى مـن عند ، وقد رزق النبي محــمــد صلى الله عليه وآله وسلم تلقي نبأها من عند ، فهذا التلقي وجهة الصــدور دليل على عظــيم منزلة النبــي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه اشارة الى ان أراد له الإحاطة باخبار الأمم والأنبياء السابقين، لتكون هذه الإحاطة جزء من السيادة في النبوة وشرطاً لختم النبوات وشاهداً على علو منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبار النبوة كلها عنده ولم يأخذها من الكتب السابقة والوعاظ والقصاصين بل جاءته من عند ، وهذا المجيء يحتمل وجوهاً:
الأول : الوحي بمعناه الأعم، قال تعالى [ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ]( ).
الثاني : رؤيا المنام الصادقة التي يعلم النبي انها من الوحي.
الثالث : اخبار الملك سواء مع رؤية النبي له، او سماع كلامه من دون رؤيته.
الرابع : الوصية من الأنبياء السابقين وتوارثها من قبل الصالحين.
الخامس : تدوينها في كتب الأنبياء.
السادس : نزولها على الأنبياء السابقين، ووصولها الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تحريف، كما انه يستطيع الفصل والتمييز بين التنزيل، وما طالته يد التحريف.
السابع : توثيق الملائكة لها، وقيامهم باخبار النبي عنها.
الثامن : تفضله تعالى بالإخبار والوحي والتنزيل والتلاوة الملك.
والصحيح هو الأخير، كما يدل عليه منطــوق الآية، وهــذا من أعظم النعم على الإنسان، وفيه دعوة الى تعاهد التلاوة الإلهية، والإحتفاظ بالقرآن، كتاباً وسوراً وآيات وكلمات مع الحرص النوعي العام على عدم التفــريط بحــرف واحــد منه، ولقــد أصــبح هــذا الحرص عملا ًدائماً متصلاً للمسلمين في الأزمنة المتعاقبة والأجيال المتلاحقة، لتكون التلاوة أشرف تركة وأمانة يتولى الإنسان حفظها والعناية بها.
وتمنع الآية من الشك بقصـص القرآن، وتنهــى عن الأخـذ مــن غيره، فلو تعارضت قصــص القـرآن مع غيرها، فلابد من طرح ما خالف القرآن وعــدم الأخــذ به، ليكــون القــرآن شــاهداً سماوياً يمنع من غلبة التحريف، اذ ان تعاقب الســنين والأيام يؤدي الى خلط وتداخل الأخبار.
وتميل النفس الإنسانية تميل الى ما فيه المبالغة والتفخيم، بالإضافة الى تدخل السلاطين والرؤساء والرهبان في تحديد مضامين الأخبار بما يناسب مقاماتهم، ويتلقى الناس التحريف والتغيير وكأنه واقع متوارث ويعجز المصلح عن اعادة تثبيت الحقائق وكشف التحريف، واذا صرخ منادياً فلا أحد يلتفت اليه، فجاء القرآن ليمنع من التداعي والتمادي في التحريف في قصص الأمم السالفة، ويكون برزخاً دون ادعاء الغلو في آيات الأنبياء، وهذا من مصاديق نظرية الوسط الإسلامية وما فيها من النفع العام.
فالقرآن رحمة للآخرين يمنعهم من الغلو او التعدي والإفتراء على الأنبياء، فلولا القرآن وما فيه من انباء عيسى لرأيت الناس فيه فريقين، فريق يقول بأإلوهيته، وآخر ينفي نبوته.
فان قلت: ان هذين الفريقين موجودان الى يومنا هذا.
قلت: ان وجودهما على نحو السالبة الجزئية، والقرآن مستمر في دفع وابطال قولهما، وهذا الدفع حاجز دون جعلهما موضوعاً للخلاف والصراع والخصومة لأن القرآن جعل كل فريق منشغلاً بذاته لم يجد جواباً او دليلاً لقوله.
ومن الآيات ان القرآن يدل بالدلالة الإلتزامية على غلو أحدهما وإفتراء الآخر، لتكون هذه القصص دعوة لهم لنبذ الخصومة والتدبر بالآيات والرجوع الى القرآن لأخذ الحقائق كاملة، وخالية من التشويه والتحريف والتغيير لأنها نازلة من عند ، فيكون تفضله تعالى بالإخبار بانه هو الذي يتلو هذه الآيات حاجة للناس جميعاً وللمليين خاصة، وللمسلمين على نحو الخصوص، ومن رأفته ان يخبر بالآيات التي رزق عيسى وما لاقاه وأصحابه في ذات ، ثم ينتقل سبحانه ويؤكد ان الآيات نازلة من عنده.
ان ليس بجسم وليس من جارحة عنده ولا يتكلم بلسان او جارحةآلة، ولكن المراد من التلاوة التنزيل وايصال الآيات النازلة منه تعالى الى النبي وتعاهدها لحين الوصول بل والكتابة والتدوين والحفظ في الصدور، ولتنمية أهلية المسلمين للجدال والإحتجاج واقامة البرهان، ليعلم الناس جميعاً انهم خزان النبوة، والمحامون عن الأنبياء، والناطقون بالحقيقة المقتبسة من التلاوة الإلهية.
وفي الآية اخبار عن انعدام الواسطة بين وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول جبرئيل بالآيات لا يضــر بهـذه القاعدة فلابد من تأويله في المقام واعتباره كالآلة الإلهية، والوظيفة المرسومة، وفعلاً فان جبرئيل ليس له التغيير والتحريف مع جلالة قدره وعظيم شأنه.
والتلاوة الواردة في هذه الآية لا تنحصر بقصة عيسى بل هــي مطــلقة شاملة، كما ان آيات عيسى لا تنحصر بموضوع نبوته، فهي ثروة اسلامية وكنز إلهي وسر من أسرار الإرادة التكوينية، نزلت الآيات على عيسى لتكون عزاً للمسلمين وسبباً لتقوية ايمانهم، وتلمسهم لفضله تعالى وادراكهم لقربه منهم، لأن الآيات الإلهية متعددة ومتباينة ولا تعرف الإنقطاع او الفترة، وتأتي على وجوه:
الأول : ظاهرة وباطنة.
الثاني : عن سبب ومن غير سبب.
الثالث : على نحو دفعي او تدريجي.
الرابع : مباشرة او بالواسطة.
الخامس : عن استحقاق او من غير استحقاق، وكلها بفضل منه تعالى.
السادس : شخصية ونوعية.
السابع : بالدعاء والمسألة وابتداء من غير دعاء ومسألة.
الثامن : عن حاجة لها او من غير حاجة.
التاسع : تعدد مضامين وأبواب الآيات , فمنها ما يخص البدن او المال والشأن او العلم او الصلاح والتقوى.
العاشر : في الرزق والكسب والنماء.
الحادي عشر : في الحالة الإجتماعية والنكاح والأولاد.
الثاني عشر : دفع البلاء وصرف الأذى والشر.
وجاء ذكــر الآيات على نحــو التلاوة، والمـراد من التلاوة هنا وجهيان:
الأول: التتابع، أي ان الآيات تتعاقب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن هذا المعنى لا ينحصر بالتنزيل والوحي فيشمل الآيات مطلقاً الا مع القرينة الصارفة، وهي ظاهرة في المقام فالمراد قصص زكريا ويحيى ومريم وعيسى وجهاد الأنبياء والأولياء.
الثاني: القراءة يقال، فلان يتلو تلاوة أي يقرأ قراءة، كما في قوله تعالى [ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ]( ) أي الملائكة.
ولا تعارض بين المعنيين، والآية شاملة للوجهين معاً فعلى المعنى الأول تدل الآية على كثرة الآيات النازلة والتفصيل السماوي الخاص بآيات عيسى وما اعد للمؤمنين والعذاب الذي ينتظر الكافرين، وأهمية هذا التفصيل في انتشار الإسلام وقوته، وبعث الخوف والفزع في قلوب الكافرين.
وعلى المعنى الثاني فان الآية فضل منه تعالى، وفيه وجوه:
الأول: انفراد القرآن بصفة قدسية خاصة وهي انه نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة منه تعالى وفيه دعوة لإكرام القرآن وتعاهد آياته، وحفظه والعمل بأحكامه والإستغناء به وعدم الحاجة الى غيره.
الثاني: تشريف جبرئيل الذي ينزل بالقرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا التشريف مطلق، ففيه اخبار لأهل السماء والأرض بعظيم منزلة جبرئيل عند ، ولابد من خصوصية في اختياره لهذه الوظيفة الملكوتية، ومنزلة اضافية ترشحت من قيامه بأداء هذه الرسالة.
الثالث: الآية شاهد على امانة جبرئيل وانه لم ينقل الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الا ما أمر به من غير زيادة او نقيصة او تحريف.&&
الرابع: من المعلوم ان جبرئيل لم يتلق كلام مباشرة من عنهده تعالى، وقد ذكره انه يراه في اللوح المحفوظ، وينقله الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والآية تدل على سلامة وضبط المراحل التي تسبق وصول كلامه تعالى الى جبرئيل، فالآية تعنيوفيها اشارة لاحاطة علماً بمراحل التنزيل، وتعاهده لكلامه الى ان يبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تاماً غير منقوص وخال من الزيادة والتحريف.
الخامس: في الآية اكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها تمضي حفظه للأمانة وتبليغه الآيات وفق التنزيل من غير ان يكون له دخل بكلماتها وآياتها، وهذا من الإكرام والتشريف الذي لا يتعارض مع تشريف جبرئيل بان نسب عزوجل نقلهتلاوته للقرآن اليه سبحانه.
السادس: هل يحتمل ايصال جبرئيل آيات القرآن الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكيفية غير التلاوة والقراءة.
خصوصاً وان الوحي له معان متعددة منهــا الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، الجواب لا، بل انهفقد كان يأتي فيقرأ على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات بلسان عربي، ويعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات ويحفظ الفاظها ويعلم معانيها، وقد كان جبرئيل يأتي الى النبي أحياناً بهيئة دحية الكلبي.
السابع: جاءت الآية بصيغة المضارع، للإشارة الى توالي الآيات، وعدم انقطاعها، وفيه دعوة للنبي للإستعداد لتلقي الآيات وكتابتها وتوثيقها وتعاهدها.
فمع كثرة الآيات يحتمل نسيان بعضها او الشك في كلمة من كلماتها، ومن أمانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه يبادر الى تلاوة الآية او الآيات التي تنزل عليه حالما يغادره الملك وينفصل عنه الوحي كما يأمر الكتاب من الصحابة بتدوين ما نزل، ومنهم من يقوم بأخذها ممن كتبها او سمعها وحفظها ليكتبها ويحتفظ بها مدونة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع “نتلوه” وبصيغة المفرد بالنسبة للنبي (عليك) في اشارة لبيان المائز، ولزوم اعتبار مقام الألوهية واجلاله، اذ ان لغة الجمع تدل على التفخيم والتعظيم، اما اكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيتجلى بتفضله تعالى بانزال الآيات عليه وبصيغة التلاوة منه تعالى
ولفظ الآيات جمع آياتة وهي العلامة والبينة وأالأمر الخارق ويراد منه في المقام وجوه:
الأول: الأخبار عن عظيم الفضل الإلهي والإكرام الخاص الذي فاز به زكريا ويحيى ومريم وعيسى.
الثاني: ولادة عيسى ويحيى بآية اعجازية وخلاف الأسباب المادية المتعارفة في علوق الولد.
الثالث: المعجزات التي جاء بها عيسى من عند .
الرابع: ذات الآيات وألفاظها وتركيبها اللغوي والبلاغي والعقائدي وما فيها من الأسرار والمضامين القدسية، ولا يتعارض هذا التأويل مع ارادة ذات المعنى من الذكر.
الخامس: ما يؤكد صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها تثبيت لنفسه وللمسلمين.
وفي الآية دلالة على عدم موضوعية القراءة والكتابة في نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وان الإعجاز جاء عن طريق التلاوة والوحي، وهذه التلاوة تكفي للتشريع وتوثيق القصص والوقائع ومنع الإختلاف والنزاع.
قوله تعالى [وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]
في الذكر وجوه:
الأول: القــرآن، قــال تعــالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثاني: من الوظائف القدسية للتنزيل الذكر واسـتحضار قصص الأنبياء للإعتبار والإتعاظ وطرد الغفلة، وليمتلك المسلمون الحجة وتكون عندهم التجربة والخبرة بمعرفتهم لقصص المؤمنين من الأمم السالفة، قال تعالى[ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ]( ).
الثالث: المراد أعم مــن القرآن وانه اللـوح المحفوظ، باعتبار ان (من) في قوله تعالى [مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ] للتبعيض فيكون نزول الآيات وذكر القصص جزء من الذكر الذي يكــون حيــنئذ على شعب:
الأولى: كثرة التفاصيل وان الذي يتلى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء منها.
الثانية: تعدد الآيات، وأفراد ومصاديق الذكر.
الثالثة: كثرة موضــوعات الآيات، فلا تنحصــر الآيات بالذكر والبراهين والقصص بل تشمل وجوهاً اعجازية عديدة ظاهرة وخفية.
ولا تعارض بين هذه الأقسام من مصاديق التبعيض في اشارة الى عدم نفاد خزائن الآيات، وأنها أعم من ان تحيط بها عقول البشر وفيه بشارة الى الإنصات والإطلاع الى آيات كثيرة في عالم الخلود وعند الرجوع اليه تعالى.
الرابع: الآيات تذكير بالله تعالى اذ تجعل المسلم يستحضر عظمة الباري وقدرته المطلقة وسعة رحمته، ولا تنحصر الآيات بالمعجزات بل تشمل قوانين السببية والعلية فهــي ايضاً معجزات ولكن أسبابها ظاهرية يحس بها الإنسان فيغفل عن تدبر ما فيها من العظمة والقدرة، لتكون هذه القصص شاهداً على بديع صنعه تعالى وفضله الواسع وهو ذكر لله تعالى على نحو انطباقي.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، لأن ما يتلى على على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أعظم كنز ينزل من السماء، ووفق قانون “التفسير الذاتي” فان المراد من الذكر هو القرآن من وجوه:
الأول: ورود آيــات قـرآنية تــفيد ان القرآن هــو الذكــر، وفي التنــزيل [ أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا]( ).
الثاني: مجيء صفة الحكيم للقرآن، قال تعالى [يس *وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ]( )، وقد وصف الذكر في هذه الآية بانه حكيم.
الثالث: قيد التلاوة الوارد في الآية وهو قرينة على ان المراد من الذكر هو القرآن.
وقوله تعالى “الحكيم” صفة للذكر وفيه وجوه:
الأول: القرآن حكيم بمعنى حاكم اذ انه يتضمن أحكام الحلال والحرام، وفيه اشارة الى أهليته لأن يكون سيداً على الناس وانقيايدهم له بالتقيد بأحكامه.
الثاني: انه مملوء بالحكمة والعلوم.
الثالث: انه متقن ليس فيه تعارض او نقص.
الرابع: كفاية الآيات التي جاءت فيه للذكر واقامة الحجة والبرهان، وفيه دعوة للتدبر في آياته.
الخامس: تتضمن الآيات النازلة العلم والفقه وأسباب الهداية، فالقرآن يقود من يلجأ اليه الى الجنة، وقد ورد لفظ الحكيم سبع وتسعين مرة في القرآن كلها صفات لله تعالى باستثناء خمسة وردت أربعة منها صفة للقرآن، وواحدة للأمر النازل من عنده تعالى كما في قوله تعالى [ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ] ( ).
ومن الآيات ان لفظ الحكيم لم يأت في القرآن الا صفة لله، ثم يعدوبعدد قليل صفة لكتابه وأمره، مع اعتبار كثرة الآيات التي ورد هذا اللفظ صفة له مع قلة الآيات للكتاب كما ان التباين بين عدد المرات التي ورد فيها صفة للقرآن وهي أربعة وعددها للأمر وهو مرة واحدة يدل على موضوعية القرآن والتنزيل وتضمنه للأوامر الإلهية.
وفي وصف القرآن بانه حكيم وجوه:
الأول: بيان عظمة القرآن.
الثاني: موضوعية أحكامه، ولزوم عدم التفريط بها.
الثالث: دعوة الناس للأخذ منه، والإنتفاع من آياته.
الرابع: حث العلماء من مختلف الإختصاصات بالرجوع الى القرآن والتزود من علومه وآياته.
الخامس: المضامين القدسية لآياته.
السادس: الشأن المستقل للقرآن، ذاتاً وسنخية وعلوماً.
السابع: بعث الثقة في قلوب المسلمين بالكتاب النازل والدعوة الى عدم التفريط او الإستهانة بآياته.
الثامن: الحث على اللجوء اليه والصدور عنه، ونفي التردد او الشك في آياته.
التاسع: الإقرار بعظيم نعمة القرآن بأن جعل لكل مسلم صاحباً سماوياً يتصف بالحكمة.
العاشر: الشكر له سبحانه على هذه النعمة وانفراد المسلمين بها.
الحادي عشر: ملازمة صفة الحكمة للقرآن، فهو حكيم في كل زمان ومكان، وان تعدد لغات المسلمين وتباين السنتهم لا يمنع من ادراكهم الحكمة في ثناياه وآياته.
الثاني عشر: اكتسب القرآن صفة الحكمة لأن تعالى هو الذي تلاه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسـلم فما دام ســبحانه هو الذي تفضل بتلاوته على النبي فلابد انه منتهى الحكمة والجامع للعلوم.
الثالث عشر: كما تترشح الحكمة من القرآن لأن هو الذي تلاه وأنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانها تترشح من القرآن على المسلمين، فالحكمة لا تقف عند حدود التنزيل بل انه مقدمة للتتغشى احكامها المسلمين وعباداتهم ومعاملاتهم وأفعالهم وأقوالهم.
الرابع عشر: الآية اشراقة في عالم التنزيل , وعز للمسلمين وضياء لأبصارهم، ودليل لهم في ميادين العمل المختلفة.
الخامس عشر: الآية سلاح للغلبة على الأعداء والإحتجاج، ومنع الفرقة، وواقية من التحريف والتشويه والطعن بالقرآن.
السادس عشر: صفة الحكيم للقرآن دعوة للرجوع اليه في فك الخصومات، ونهي عن غلبة النفس الشهوية او الغضبية عند مجيء الحكم القرآني خلافاً للهوى.
السابع عشر: في الآية بشارة تقيد الناس بأحكامه ولو عــلى نحـو الموجبة الجزئية، لأن تعالى جعل العقل عند الإنسان ليميز به بين الأشياء، ويفرق به بين الحق والباطل والإنسان ممكن الوجود، ومن خصائص الإمكان ملازمة الحاجة له، ومن وجوهها الحاجة عند الإنسان حاجته الى الحكمة، والتي تتجلى عند المهمات وفي الشدائد وساعة الإختبيار بين المتعدد، وحتى في ساعة الرخاء والسعة فانه يحتاج اليها ليستنير بها ويتزود من علومها، ويعنيقتبس بمنها ما يلائمه في يومه وغده، كما ويجعلها الميزان الذي يعرف به صحة أعماله فيشكر ، او خطأها فيتداركها ويستغفر .
بحث بلاغي
من وجوه البديع (المراجعة) وهو ان يراجع المتكلم موضوعاً او محاورة بينه وبين المخاطب باختصار غير مخل وسبك حسن، ولفظ عذب ومنه هذه الآية اذ انها جاءت بثلاثة أمور تدل على العموم والآيات المتقدمة وما فيها من:
اولاً: احسن القصص.
ثانياً: الدلالات العقائدية الخاصة بالفاظ الآيات وما يستقرأ منها.
ثالثاً: المسائل والدروس التي تستنبط من الموضوعات والذوات الكريمة التي نزلت فيها.
رابعاً: الآيات البينات التي رزق تعالى عيسى ، وكيف ان الناس قابلوها بالصدود.
وفي الآية خبر وثناء عليه تعالى وبيان لعظيم فضله، ودعوة للتفقه بقصص الأنبياء والعبرة والموعظة من الأمم السالفة، وفيها حث على الإرتقاء في سلم المعارف الإلهية.
قوله تعالى [ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ] الآية 59 من سورة آل عمران.
الإعراب واللغة
ان مثل عيسى عند : أن: حرف مشبه بالفعل، مثل: اسم ان منصوب، وهو مضاف، عيسى: مضاف اليه، عند: ظرف متعلق بمحذوف حال، وهو مضاف، اسم الجلالة: مضاف اليه.
كمثل آدم: كمثل: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر.
آدم: مضاف اليه مجرور بالفتحة.
خلقه من تراب: خلقه: فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر يعود لله تعالى، والضمير الهاء: مفعول به، من تراب: جار ومجرور متعلقان بخلقه.
(ثم قال له كن فيكون)
ثم: حرف عطف للترتيب مع التراخي.
قال: فعل ماض، له: جار ومجرور متعلقان بقال.
كن: فعل أمر من كان التامة، والفاعل ضمير مستتر يعود للأمر، والجملة في محل نصب مقول القول،، وفيكون: معطوفة على كن والفاعل ضمير مستتر.
في سياق الآيات
بعد الآيات التي جاءت تحكي المعجزات والآيات التي رزقها عيسى ، والإخبار السماوي بأنها و آيات القرآن نازلة من عند ، جاءت هذه الآية للإخبار عن حقيقة تكوينية وهي ان عيسى من جنس البشر ومضامين هذه الآية من الآيات التي ذكرت الآية السابقة تلاوتها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وموضوع سياق الآيات أعم من ان ينحصر بالآيات المتعاقبات كالآية او الآيتين السابقتين، بل يشمل نظم الآيات القرآنية ذات الموضوع الواحد.
فهذه الآية من وجاهة عيسى التي ذكرت في بشارة الملائكة لمريم عليها السلام [إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ) ففي الآية عز لعيسى وبيان لكيفية خلقه بما يؤكد وجوه اكرامه والعناية الإلهية به.
ودعوة المسلمين الى التدبر بآيات خلق عيسى وجعلها موضوعاً للبرهان والإحتجاج وزيادة الإيمان.
بعد تأكيد الآية السابقة بأن قصص وبشارات وإنذارات القرآن آيات باهرات من عند الله، في ألفاظها ونظمها ودلالاتها ومضامينها القدسية لقوله تعالى[ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ]( )، جاءت هذه الآية بصيغة المثل والتشبيه بين عيسى وآدم وكل واحد منهما نبي رسول، وهل هذا المثل من الآيات التي اشارت إليها الآية السابقة بقوله تعالى[ذلك] أم أن القدر المتيقن من اسم الإشارة هو مضامين وموضوعات الآيات السابقة والمتقدمة عليها .
الجواب هو الأول، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة البعيد (ذلك) ومن خصائص البحث تضمنها الإعجاز الذاتي والغيري، إذ أن ولادة عيسى عليه السلام من غير أب من الإعجاز الغيري والأمر المقرون بالتحدي والسالم عن المعارضة، فان قلت قد إرتقى العلم في هذه الأزمنة بقفزات سريعة لم تخطر على البال، وجاءت أيام الإستنساخ وما تفرزه المختبرات الطبية من العلوم والإكتشافات، والجواب من وجوه:
الأول : هذه العلوم والنتائج لا تتعارض مع المعجزة، لأنها خارقة للعادة , وليس عن طريق الأسباب، ومن الأسباب الإكتشاف العلمي.
الثاني : كأن آية خلق عيسى عليه السلام تمهيد وإخبار عن حصول الإستنساخ البشري ولكن بفضل الله بواسطة العلم.
الثالث : تصديق الناس بالنبوة والتنزيل مدخل للفيض الإلهي ونزول البركات على الناس، ومنها الإكتشافات والعلوم، وسبل علاج الأمراض، وفي التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
الرابع : دعوة أهل هذا الزمان والأزمنة اللاحقة للشكر لله عز وجل على النعم التي طرأت عليهم , والتدبر ببديع صنع الله عز وجل , قال تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الخامس : لقد كانت معجزة ولادة عيسى عليه السلام خيراً محضاً، وبركة متجددة على أهل الأرض، أما الإستنساخ فلا يعلم أضراره العرضية إلا الله عز وجل، لذا أحجمت دول عظمى عنه في الوقت الحاضر، ليتجلى قانون كلي وهو أن المعجزة نفع وخير دائم، أما ما يأتي بالتحصيل والعلم فلا يخلوا من آثار عرضية ضارة إلى جانب كثرة الكلفة.
إعجاز الآية
تتضــمن الآيـة معــنى التحــدي لأنها تخــبر عن تــلاوة ونــزول القــرآن من الله تعالى، والاتقان في مضامين آياته , ويــدل عليه وصفه بالحكيم وهو شــاهد على ســلامة القــرآن وخـلوه من التزاحم او التعــارض مــع كــثرة آياته.
ويتجلى الإعجاز في نظم الآيات، فالله أنعم على عيسى بآيات بينات، فجاءت هذه الآية لمنع الغلو فيه والإخبار بانه ليس بآإلةه انما هو انسان مخلوق، وكل حادث ممكن، وجاءت الآية بالتمثيل والتشبيه بآدم، ومن القواعد البلاغية ان المشبه به أشهر وأبين من المشبه، فالآية تدل على ان آدم معروف عند المليين.
ومن الإعجاز صيغة التأديب وكيفية توجيه الناس لمنع الغلو بالأنبياء والإحتجاج عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى) ولم يرد لفظ (ان مثل) في القرآن إلا في هذه الآية، وهو تشريف إضافي لعيسى عليه السلام، وشاهد بأنه يختص برتبة سامية حتى في صيغة المثل القرآني.
الآية سلاح
في الآية درس عقائدي بليغ، ومانع من الضلالة والغلو، وعون على معرفة أسرار الخلق , وعظيم قدرة الله تعالى ومشيئته من غير ان يتنحصر بالإيجاد والخلق، وفي الآية تنمية للمدارك العقلية واكرام الأنبياء للمعجزات التي نالوها وقد إنفرد عيسى بآية في خلقه , توانه يشـبه خلق آدم، ليتولى المسلمون أمانة حفظ مصاديق الخلق الإعجازي الخارق للأسباب والعلل.
وبين المشبه والمشبة به في الآية عموم وخصوص مطلق، إذ أن آدم عليه السلام لم يولد من رحم، أما عيسى عليه السلام فنمى وولد في رحم مريم العذراء لبيان موضوعية النكاح وترشح تكوين الجنين عن الوطئ , وفي التمثيل في الآية مسائل:
الأولى : تأكيد قانون عدم إستعصاء مسألة على الله.
الثانية : تجلي الإعجاز في خلق الأنبياء، وبيان سنن التشريف التي تتغشاهم من حين الولادة.
الثالثة : إقامة الحجة على الناس في بيان أسرار خلق عيسى عليه السلام خلاف قانون العلة والمعلول.
الرابعة : الآية من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الخامسة : لما جاء عيسى عليه السلام بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى التصديق برسالته جاءت هذه الآية لتنزيه عيسى عليه السلام وأمه مريم، ومنع الإفتراء عليهما، لبيان قانون من قوانين النبوة وهو تعضيد كل نبي للآخر مع التباين الزماني والمكاني لبعثة كل واحد منهم، وبين نبوة عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة سنة، ومع هذا جاء القرآن بتفاصيل تتعلق بولادة عيسى لتكون مدخلاً لتجديد التصديق برسالته ودعوة الناس لإكرامه وبيان عظيم منزلته عند الله عز وجل.
ومن الإعجاز في المقام أن أم عيسى مريم بنت عمران هي المرأة الوحيدة التي ذكرت بإسمها في القرآن، وفيه مسائل :
الأولى : ذكرت مريم في القرآن أربعاً وثلاثين مرة بالإضافة إلى ذكرها بصفة الأمومة منها قوله تعالى[وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً…]( )، وفيه إكرام لمريم بأنها آية وتثبيت لأمومتها للرسول عيسى عليه السلام.
الثانية : أخبر القرآن عن حديث الملائكة مع مريم وتسميتها باسمها قال تعالى[وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : بيان حقيقة وهي أن ولادة عيسى بالمعجزة ومن غير أب، وفيها كرامة لكل من عيسى عليه السلام وأمه مريم.
الرابعة : المعجزة في خلق وولادة عيسى عليه السلام لا تخرجه وأمه عن سلطان قدرة الله عز وجل، قال سبحانه [قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]( ).
ومن خصائص الإنسان الميل إلى الجدال وطلب البيان، قال تعالى[وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً]( )، فتفضل الله عز وجل بذكر معجزات الأنبياء وأخبر بأن منها ما يتعلق بالولادة وأن المعجزة تجري فيه من حين الحمل والكلام في المهد، وأن الله عز وجل يخلق وفق قانون السبب والمسبب، ويخلق خارج هذا القانون بكن فيكون، وكل فرد منهما من المشيئة الإلهية.
وفاز بهذا الفرد الخارج نبي رسول وهو عيسى عليه السلام الذي لم تفارقه المعجزة المتعددة إلى أن رفع إلى السماء , قال الله تعالى في الثناء على نفسه[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
مفهوم الآية
لقد جاء الإسلام ديناً سماوياً وشريعة جامعة، ولم تنحصر أحكامها بالمسلمين، بل هي شاملة للناس جميعاً، ومن قواعد اللطف ان تعالى يدعو الناس الى الإسلام بالحجة والبرهان، ويساعدهم على اجتناب الغلو والتيه، وهذه الدعوة تأتي عن عدة طرق وهي:
الأول: الكتاب السماوي النازل من عنده تعالى.
الثاني: بعــث الأنبياء والرسـل ومجيــؤهم بالمعجزات والآيات الدالة على صــدق نبوتهم، والـتي تؤكد وجود الصانع ولزوم عبادته.
الثالث: الآيات الكونية السماوية والأرضية، ومناجاتها للعقول والحواس في الليل والنهار.
الرابع: التدبر النفسي أي انشغال النفس بعالم الخلق والإبداع ومعرفتها الفطرية لترتب شيء وواجب عليها لأن الإنسان يدرك انه مخــلوق ولا يقــدر على خلق نفسه او دفع الأذى عنها.
الخامس: توالي النعم وحلول البلاء، وكل منهما موعظة وعبرة.
السادس: اتعاظ الإنسان مبما يجري حوله، وما يصيب غيره كما في حال الأمراض وموت البغتة ونحوه.
وفي الآية مسائل:
الأولى: اعتماد صيغة التشبيه للبيان واقامة الحجة.
الثانية: ان المثلية بين آدم وعيسى عند تعالى، فلابد ان تكون عند الناس جميعاً.
الثالثة: وجود وجوه شبه بين آدم وعيسى عليهما السلام من جهة الخلق.
الرابعة: تعلق موضوع الشبه بالإعجاز في الخلق واتحاد السنخية.
الخامسة: رجــوع الإعجــاز في خــلق عيسى الى الإرادة الإلهية وانه سبحانه قادر على كل شيء ولا تســتعصي عليه مسألة فكما خلق آدم من تراب ثم بعث الروح فيه وجعله كائناً حياً بالكاف والنون، فكذا عيسى .
ومن مفاهيم الآية ان عيسى خلق بالنفخ في مريم، وليس من انسان قبله خلقق بالريح والنفخ.
إفاضات الآية
لقد أراد ان يكون العالم مظهراً لجلاله وجماله وصفات الجلال والكمال، وتتجلى فيه مصاديق القدرة المطلقة والتدبير، ليكون كل فرد منها دعوة حاضرة للربوبية تخاطب العقول، وتخالط النفوس وتجري مع الدم في العروق.
فجاء خلق آدم فضلاً وابتداء منه تعالى، ثم جرى التناسل بين أولاده، وصار التكاثر وعلوق الولد وفق العلل المادية بالوطئ والنكاح الذي أصبح جزء من آيات الواقع اليومي التي لا يلتفت اليها شطر من الناس لأنها نعمة دائمة متكررة، فجاء خلق عيسى لتوكيد تلك النعمة المتكررة والإخبار عن جزئيتها من قدرته وسلطانه تعالى، ففي خلق عيسى اعجاز وتذكير بنعم ثلاثةمتعددة هيمنها:
الأول: خلق عيسى من غير أب.
الثاني: وجوه الشبه بين خلق عيسى وآدم عليهما السلام.
الثالث: الخلق والإيجاد من دون اعتبار لقانون السببية، ليكون فيه تطهير لقلب الإنسان عما يشغله عن ذكره، وتنبيه لعظيم سلطانه تعالى وابداعه وموارد ابتلائه وامتحانه ونزول نعمه، سواء على نحو التعدد او الإتحاد، فالنعمة ذاتها امتحان وباب للزوم الشكر والإتعاظ والإبتلاء مناسبة للصبر والدعاء والإلتجاء الى اقراراً بقدرته.
قانون “الكاف والنون”
لقد جعل عالم الخلق والتكوين مظهراً للكمالات والتجليات، وباباً للتجاذب التام بين العبد والخالق، اذ تطل على الإنســان آيات الخــلق في كل حــال وأوان، وهذه الآيات على أقسام هي:
الأول: الآيات المطلقة التي تستوعب الأزمنة والأمكنة المختلفة كالشمس والقمر.
الثاني: آيات الآفاق المتنوعة من الجبال والأنهار والأودية.
الثالث: الآيات الطارئة والتي تأتي في فترات متقطعة كنزول الأمطار والرعد والبرق، والمحاصيل الزراعية والثمار.
الرابع: آيات الإنذار والوعيد والبلاء، مثل الزلازل والصواعق.
الخامس: صرف الأذى، ودرء البلاء والحيلولة دون وقوعه، وابطاله من غير علة وسبب ظاهر ولكن بفضل منه تعالى.
السادس: ديمومة الحياة واسباب الرزق والمعاش.
السابع: التناســل والتكاثر، بما يجعــل الناس يدركــون اســتدامـــة الحياة وعدم قهر الحروب والأمراض والأوبئة للوجود الإنساني.
الثامن: الأحكام الشرعية والأوامر والنواهي التي تدل على دقة النظام التشريعي وسلامته، وكونه سبباً للتحلية بالفضائل، والإقبال على شكره تعالى.
التاسع: الآيات في خلق الإنسان في بدنه وفضله على الخلائق الأخرى، وقدراته العقلية والصلات الإنسانية قال تعالى [ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
ويمكن تقسيم الآيات من جهة سعة او ضيق المتعلق الى:
الأول: الآيات العامة التي تتغشى الناس جميعاً، كما في آية الليل والنهار.
الثاني: التي تخص أهل مصــر او مدينة معينة كما في اتصاف بعض المدن والبلدان بخصائص في التربة ولطافة الجو، او الزراعة او المهن والحرف والصناعات.
الثالث: الآيات التي تتعلق بذات الشخص، مما يصيبه من النعم او الإبتلاء، فيجــري احياناً مقــارنة بينه وبــين غيره ممن هــو حوله، لتكون مناسبة للإعتبار والإقرار بوجود الصانع والتخلي عن الرذائل.
وتتداخل في هذا الزمان أقسام النعم هذه ليكون للتقارب بين البلدان وأجهزة الإعلام أثر في شيوع أمرها واطلاقع الناس عليها، وهو درس إضافي مستحدث ووسيلة لظهور الآيات والبراهين، ودعوة الى الإيمان والإرتباط بين العبد والخالق.
والمرماد من الكاف والنون هوأمران:
الأول: لفظ (كن) والحرفان المتكون منهما.
والثاني: ارادة صيغة الأمر به قال تعالى [ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ]( )،.
و(كن) واسطة الفيض الإلهي على الموجودات، وعنوان التأثير المطلق في الأشياء وشاهد على عظيم قدرته تعالى، وموضوع للتفاؤل والرجاء والتطلع الى لطفه غير المتناهي.
وهذا القانون فيه وجوه :
الأول : انه عنوان القدرة الإلهية المطلقة.
الثاني : يعتبر شاهداً على ان لا تستعصي عليه مسألة.
الثالث : دليل التوحيد والربوبية والتدبير.
الرابع : استجابة الأشياء جميعاً لمشيئة .
الخامس : عدم اطلاق قانون السببية، فليس كل الأشياء تحصل بالأسباب والعلل، والله عزوجل غني غير محتاج فلا يتوقف أمره وأرادته على خصــوص قانون معــين وان كان نوع طريقية ومصداقاً لإرادته.
السادس : عدم وجود ملازمة بين إرادته تعالى وبين قانون السببية والعلية، والله واسع كريم.
السابع : قانون (الكاف والنون) من اللطف اللإلهي واسباب تقريب العباد للطاعة، لما فيه من الدلالات الإعجازية على عظيم قدرته تعالى.
الثامن : فيه تشريف للإنسان بان خصه بادراك قوانين المشيئة والإرادة والكيفية المتعددة للخلق.
التاسع : منع الناس من الخلود الى الأسباب والإفتتان بها والتطلع اليها لتحصيل الغايات والمنافع، وصرف مفاهيم الخوف والحزن والتدارك، بل لابد من التوجه الى تعالى في إرادة تحقيق الايات والآمال لأمور:
الأول : ان الأسباب بيده سبحانه.
الثاني : عظيم سلطانه.
الثالث : فضله المتصل والدائم.
الرابع : رأفته ورحمته بالخلائق.
1- الخامس : بعث الناس الى الدعاء والمسألة وبيان الحاجة الى تعالى، وفي الدعاء منافع لا تحصى، فمتى ما علم الإنسان ان الأمور لا تخضع للأسباب وحدها، بل الأسباب وقانون كن فيكون بيده تعالى فانه يتوجه اليه مستغيثاً متضرعاً.
2- السادس : انتظار الفرج وحصول البغية في أي وقت، وعدم انحصار الرجاء بأوان وشرائط الأسباب، فتأتي الأرزاق من حيث لا يحتسب فضلاً منه تعالى.
3- السابع :هذا القانون دعوة للإيمان، وسبب للتفكر في الخلق، والتدبر بعظيم القدرة الإلهية، وتعدد وجوه الخلق والنشأة والإيجاد.
الثامن : انه باب للشكر والثناء عليه تعالى، وتمجيده، كما ان قانون السببية والعلية مناسبة للشكر ايضاً.
علم المثل القرآني
يعتبر المثل القرآني علماً مستقلاً له قواعده ودلالالته الخاصة، ويتضمن أسراراً قدسية ومقاصد سامية، وهو عنوان الحكمة ومنبع للمعــرفة الإلهية ولقد عرف الإنســان المثل ولغــة التشــبيه منذ أول خلقه، ولا ينحصر موضـــوعه بــباب دون آخر، بل هــو شـــامل للميادين والموضوعات والأحكام المخــتــلفة والمــثل ســلاح عقلي، وحجة تصلح لسبرها لبيان والإستدلال وابطال الشبهات، وهو من وظائف العقل العامة.
وقد جاء المثل في القرآن مدرسة عقائدية مستقلة قائمة بذاتها تدعو الى عبادة والتصديق بالنبوة والآيات التي جاء بها الأنبياء من عند ، وتنهى بالدلالة التضمنية والإلتزامية عن الكفر والجحود، ومن صفات المثل القرآني ملائمته للمدارك المتباينة.
وهذا من اللطف الإلهي لما فيه من الإنتفاع العام من كل كنز وثروة قرآنية ولإقامة الحجة على الناس، وقد جاءت الكتب السماوية كلها بالمثل، واستعمله العرب وجعلوه من أبلغ وجوه الحكمة.
ولكن المثل القــرآني يمتاز بخصــائص عقــائدية وينفرد بأسرار ملكوتية لا تنحصر في بقواعد البلاغة والكناية فهو مدرسة واصلاح للنفوس ودعوة للإيمان، ومدخل للهــداية والرشــاد وبرزخ دون التمادي في الكفر، وهو واعز اخلاقي وتأديب لما فيه من الكناية والتلميح ولغة الإشارة التي تكون أحياناً أبلغ من التصريح، ومن خصــائصه موافقة الموازين العقلية والشــرعية، وهــو تأسيس لقواعد عامة في باب الأخــلاق والإجــتمــاع والدعــوة الى ، والتصدي لمفاهيم الضلالة، .
ان تعدد المثل في القرآن يدل على موضوعيته وحاجة الإنسان له وموضوعيته في الواقع اليومي، ولزوم ايلاء عناية خاصة به وتنمية ملكة الإستعانة به واتخاذه سلاحاً للإستشهاد، وهو دعوة لإستنباط الدروس والحكم والعلوم المستحدثة وهو شاهد على الأزمنة السالفة والحاضرة.
وهو دعوة لإستنباط الدروس والحكم والعلوم المستحدثة، وهي عنوان الإرتقاء عند المسلمين في عالم المعرفة، لما فيها من الدلالة على توظيف المثل في الواقع التشــريعي والعــقائــدي، وانتقــال الذهن من المثل الى شيء آخر واقعي مشابه له ويلتقي معه في الموضوع او الحكم أو هما معاً، والمثل القرآني مدرسة إصلاح متكاملة، ومبادئ للتأديب وتهذيب النفوس وانقاذ الناس من الضلالة والوهم والجهل وجذبهم الى مفاهيم الإيمان.
التفسير
قوله تعالى [ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ]
بعد ذكر الآيات الحسية التي جاء بها عيسى، وعظيم منزلته التي تستقرأ من وجوه:
الأول: ولادة أمه مريم بنذر من أمها، وتغشيها بالإستعاذة حال وضعها وشمول الإستعاذة لعيسى بالنص، كما ورد في التنزيل [وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ]( ) وتفضله تعالى بقبول مريم.
الثاني: اعداد أمه اعداداً حسناً بعناية ولطف منه تعالى.
الثالث: تعاقب الآيات على مريم بنزول المائدة والرزق من السماء، وحديث الملائكة معها واخبارها بنيلها مرتبة الإصطفاء الشخصي والنوعي على نساء زمانها، الى جانب الإصطفاء المركب الذي يترشح عليها من جهتين:
الأولى: عامة، وهي اصطفاء آل ابراهيم.
الثانية: خاصة، وهي اجتباء واصطفاء آل عمران.
الرابع: اعداد مريم لتلقي النفخ والحمل بعيسى بملازمة المحراب والإجتهاد بالصلاة.
الخامس: كفالة النبي زكريا لمريم بلطف وفضل منه تعالى.
السادس: تلقي مريم البشارة بعيسى من الملائكة الذين لم يكتفوا بالإخبار عن ولادته بل تضمنت رسالتهم ذكر أٍسمه وعظيم منزلته وانه وجيه في الدنيا والآخرة، وفيه اشارة الى رسالته ونبوته.
السابع: اخبار الملائكة عن بعض آياته قبل ولادته منها انه يكليم الناس في المهد وفيه سكينة لمريم ان حملت به من غير اب لأنه سينزل ومعه المعجزة التي تدل على طهارتها فحينما أخبرتها الملائكة بان طهرك، جاء كلام عيسى في المهد ليثبت هذه الطهارة ويمنع من الإفتراء على مريم، لذا ترى بني اسرائيل قاموا بســؤال مريم سؤالاً استنكارياً لما رأوا المولود بيدها كما ورد في التنزيل [ يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ]( ) ولكنها لم تجبهم بل أشارت اليه ليخبرهم بنفسه، فيكون التطهير من بواسطة عيسى والإعجاز بتكلمه في المهد ودفعه عن مريم، وليبدأ عيسى حياته بالجهاد وتنزيه من اصطفاها في آية تفيد القطع والصدق لأنه يتكلم وهو لا يزال في المهد.
السثابعمن: تفضله تعالى بتعليم عيسى العلوم والمعارف والكتب المنزلة، وبينما ذكرت الآية التوراة والإنجيل فانها لم تذكر تعلم عيسى للقرآن مما يدل على تفضــيل وتشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن كتــاباً نازلاً من عنده تعالى اذ انه أختص بتلقي وتعلم القرآن وهو الكتاب السماوي الجامع للكتب السابقة.
الثتامنسع: تعدد الآيات التي جاءت تترى على يد عيسى، التي تدلوهي شاهد على عظيم فضله تعالى على عيسى واكرامه له، ورحمته سبحانه ورأفته بعيسى وأمه وببني اسرائيل والناس جميعاً.
التعاسعشر: ايمان الحواريين برسالة عيسى، وتأسيسهم للتصديق بنبوته، والذي يدل في مفهومه على حرمة اتخاذه الهاً.
لقد جاءت الآية بالإخبار عن المثلية بين آدم وعيسى عليهما السلام وتحتمل وجوهاً:
الأول : المثلية في أصل الخلق.
الثاني : الخلق من غير اب.
الثالث : الآية الإعجازية في كيفية خلقه خلافاً لقوانين السببية، والعلة والمعلول.
الرابع : الآيات التي جرت على يد كل منهما.
أما بالنســبة للأول فهناك تباين جهتي في أصــل الخـلق، لأن آدم خلق من تراب من غير واســطة اما عيســى فهــو من ذرية عمران ونشأ في رحم مريم عليها السلام، واما الثاني فبينهما عموم وخصوص من وجه، فمــادة الإلتقــاء ان كلاً منهما ليس له أب، أما مــادة الإفتراق، فان آدم ليس له أم ولم ينشأ في رحم، وعيسى أمه مريم، اما الثالث فصحيح، فكل واحد منهما خلق بمشيئة وأمره (كن فيكون) من غير موضوعية للأسباب والعلل.
وهيل يعني هذا المطابقة في المثلية الجواب نعم من الوجه الذي ذكرته الآية وهو (كن فيكون) وليس مطلقاً، وعدم الإطلاق ظاهر بآيات القرآن فلا يراد من الآية ان عيسى خلق من تراب كما خلق آدم ، انما القدر المتيقن من التشابه هو الإعجاز في وجوه:
الأول: جهة الخلق، وكيفيته الخارقة للأسباب.
الثاني: بيان قدرته تعالى على ايجاد الإنسان من غير أسباب.
الثالث: عــدم انغلاق باب من أبواب وكيفيات الخلق، فالله واسع كريم.
الرابع: اذا كانت نعمة خلق آدم في الجنة، فان الإعجـاز جاء بخلق عيسى في الأرض وبين الناس، ليكون مصداق الخلق الذي يتضمن الاعجاز الدفعي، ولمنع الإفتراء والتحريف في خلق آدم نفسه، وهذا من بركات عيسى [ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ]( ).
فحينما يأتي أمر حاضر عند الإنسان يشبه ما هو غائب عن ذهنه ومتقدم على زمانه، فان الحاضر يكون تصديقاً للغائب ويدل على امكانه وحدوثه ولولا ان تأتي هذه الآية لم يوفق الإنسان للربط بين الأمرين ووجوه الشبه في الخلق بينهما، وهذا من علوم القرآن وتأديبه للمسلمين والناس عامة، فلقد أراد للناس اكرام آدم ومعرفة أصل خلقهم ونشوئهم فجاء خلق عيسى ثم تفضل بذكر التشبيه بينه وبين خلق آدم ، فللآية منافع متعددة منها:
الأول: توكيد خلق عيسى من غير أب.
الثاني: ولادة عيسى بأمر خارق لنواميس التناسل الإنساني.
الثالث: طهارة مريم وتوكيد عفتها وبراءة ساحتها.
الرابع: ابطال دعوى ربوبية عيسى التي قد تأتي بسبب كيفية خلقه وحصول اللبس عند بعضهم.
الخامس: الإلتفات العام الى آية خلق آدم من تراب، لمعرفة سنخية الإنسان وعظيم قدرة تعالى.
السادس: آدمية عيسى وانه انسان خلقه ، والتوكيد على بطلان مقولة انه ابن .
وجاءت الآية مقيدة بان مثل عيسى (عند ) وهذا القيد لا يضر بالإطلاق، لأن ما عند تكون له صفة الإطلاق والشمول، و(عند) تعني حضور الشيء، وهي ظرف للمكان والزمان ولكن منزه عنهما، فالمراد صدور الرحمة منه تعالى في عيسى، أي كما خلق آدم رحمة فكذا خلق عيسى رحمة منه تعالى من غير علة مادية وما به الوجود قال تعالى [رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا] ( ).
فالآية تدعو المسلمين والناس الى تلمس وجوه العظمة والقدرة المطلقة في خلق عيسى وايجاد وجوه الإلتقاء وبين خلق عيسى وآدم في كل من:
الأول: الإعجاز وكون كل منهما امراً خارقاً للعادة والسنن.
الثاني: الرحمة والرأفة في خـلق كل منهما، فآدم ابــو البشر وبخلقه تكاثر الناس، اما خلق عيسى فليس به تكاثر وتناسل لأنه لم يتزوج للفارق بينهما، فالتناسل والتكاثر في آدم ضرورة لوجود الإنسان في الأرض واتصال عبادة في الأرض اما في عيسى فالناس كثير وهم بحاجة الى الآيات التي تجذبهم الى العبادة ومنها خلق عيسى ورفعه والآيات التي جاء بها.
والتشبيه جاء بخصوص الخلق والتكوين فقد يظن عدم وجود موضوعية لمسألة النكاح والأولاد في الموضوع.
ولكن دلالات آيات الخلق مطلقة ولكن عدم وجود ولد عند عيسى دليل اعجازي اضافي وفيه بيان الى ان منافع خلق عيسى عقائدية، وان المؤمنين في جميع أنحاء الأرض يتعاهدون ذكره ويحفظون له شأنه وان لم يكن بينهم ولد له، في إشارة الى قيام الأتباع على موضوع النبوة وليس البنوة.
الثالث: جاء التشـبيه بين نبيين من أنبياء ، مما يعني ان تشريف الإنسان بخلقه باعجاز يترشح عنه اكرام اضافي، ومنزلة خاصة بين أهل السماء والأرض، وان إعداد الإنسان للنبوة متعدد، ويأتي باختيار النبي من بين الناس، ويأتي بآية منه تعالى وقانون الكاف والنون.
الرابع: تدعو الآية للنظر والتدبر في خلق عيسى ليس بذاته بل بأنه فرع القدرة الإلهية، وعندئذ يستبين الأمر، ويزول الوهم ويصبح الغلو من الممتنع.
قوله تعالى [كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ]
لقد جاءت سورة البقرة بالإخبار الإلهي للملائكة عن جعله خليفة في الأرض، وتفضله تعالى بتعليم آدم الأسماء( )، وأمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم، ونهي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة.
اما هذه الآية فجاءت بذكر خلق آدم ، وقد وردت الآيات بذكر أصل الخلق فانها جاءتو بصيغة الجمع، قال تعالى [ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ] ( ) وذكر الطين، والصلصال من حمأ كما تكرر في القرآن احتجاج ابليس بالباطل ومعصيته بعدم السجود لآدم للتباين في مادة الخلق، وان مادة خلقه النار ومادة خلق آدم الطين.
فجاءت هذه الآية لتؤكد شرف الخلق من التراب وانه آية اعجازية وقد كان خلق الإنسان من تراب أمراً متعارفاً عند الأمم كافة، وهذا من الآيات في الخلق والنشأة، اذ أبى ان يجهل الإنسان أصل خلقه وسنخيته، ويمنع من التيه والضلالة، وفي التنزيل [ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ]( ).
فشمل أصل الخلق الناس على نحو العموم الإستغراقي فكل إنسان يعتبرلا مخلوقاً من الطين، ويشمل الحكم عيسى ، ولكن التمثيل والتشبيه في الآية يتعلق بأمر آخر وهو كيفية الخلق وما فيها من الإعجاز والآيات، وفيه وجوه:
الأول: خلق عيسى مثل باقي الناس.
الثاني: انه برزخ بين خلق آدم وخلق الناس، لأن آدم خلق من تراب من غير أب وأم، والناس خلقوا في أوعية وأرحام، وعيسى وسط بينهم لأنه نشأ في رحم أامرأة وليس له اأب.
الثالث: انه مثل آدم في أصل الخلق.
الرابع: وجود شبه في أصل الخلق بين آدم وعيسى من غير ان يتعارض هذا الشبه مع نشوء عيسى في رحم.انه مثل آدم في أصل الخلق.
الرابع: وجود شبه في أصل الخلق بين آدم وعيسى من غير ان يتعارض هذا الشبه مع نشوء عيسى في رحم.
والصحيح هو الرابع، والتباين النسبي والجهتي بين آدم وعيسى، مع توكيد الآية على الاتحاد والتشابه بينهما يدل في ظــاهره على بشــارة دوام الحياة وتكاثر الناس بالنشوء في الارحام، وفيه اشارة الى الدراسات الحديثة.
لقد جاء القرآن بحقيقة في الإرادة التكوينية وهي ان نشوء عيسى في رحم مريم عليها السلام لم يؤثر في بقاء وجــوه الشــبه والإلتقاء بين خلقه وخلق آدم وما في كل منهما من الإعجاز، ومع كثرة الآيات التي تشير الى خلق آدم من تراب، فقد جاءت هذه الآية بذكره بالنص والاسم وعلى نحو عرضي وللتشبيه وفيه دلالة على تسالم الناس على هذه الحقيقة لأن المشبه به يكون معلوماً ومعروفاً فيستحضر كشاهد في الوجود الذهني.
وتبين الآية البركة في شخص آدم وأصل خلقه، بان يكون مناسبة لمحاربة الغلو ويمكن ايجاد نتيجة بالقياس الإقتراني وهي:
كل الناس يقرون بخلق آدم من التراب، وعيسى مثل آدم، عيسى انسان مخلوق.
وكما تمنع الآية من تأليه عيسى ، فانها تمنع من الإفتراء عليه وعلى أمه، لأن الإعجاز تعلق بشخصه وأسمه وانه لم يخلق الا بمعجزة من ، فلابد من اكرامه وأمه وتنزيههما والإقرار بنبوته .
وتذكّر الآيـة بحتمــيــة عودة عيســى الى الأرض وان كان قــد رفع الى السماء لأنه ســيهبط فيما بعد، الا ان يرد دليل خاص بعدم حصول دفنه، وقد جــاءت آية العــودة الى الأرض تبما يفيد العموم، قال تعالى [ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ] ( ).
فعيسى لم يخلق مباشرة من الطين ولكنه يلحق بآدم في أصل الخلق لأنه من ذريته، وجاءت الآية للإخبار بان عيسى حادث ليس بقديم وان خلق الإنسان سبقه، لتتجلى آثار الحكمة في خلق عيسى، وانه مركب من البدن والروح، وصيغة التشبيه مقدمة الى رفع عيسى الى السماء ليكون مع الملائكة لويعيش معها وتستأنس به، وترى قوس الصعود الإنسان الى السماء بعمله وجهاده، بعد ان هبط آدم وحواء بعد أكلهما من الشجرة، وقد يقول قائل ان الهبوط جاء من الذكر والأنثى، ولم يصعد الا الذكر وفيه تعريض بالمرأة.
والجواب ان المرأة أكرمت في ولادتة عيسى اذ اصطفى مريم وطهرها ونالت مرتبة حديث الملائكة معها وهل يعتبر رفع عيسى هو الحين الذي ذكر في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
الجواب لا، لأن المراد من الحين هــنا انقطـاع وانتهاء الحياة الدنيا، لذا وردت الآية بصيغة الجمع كما ان عيسى سيعود ليهبط الى الأرض ولكنه ليس مثــل هبــوط آدم ، بل يأتي عــن رضــا مــنه تعالى وليواصل الجهاد تحت راية الإسلام وشعار “لا اله الا محمد رسول ”
ان الإتيان بذكر خلق آدم كمثال للتشبيه وبيان الإعجاز في خلق عيسى لا يمنع من تدبر الآيات الخاصة بخلقه في خصوص موضوع المثل وموضوعية الآيات، قال تعالى [ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ]( ).
والإتيان بالمثل في هذه الآية تشريف للمسلمين والشهادة لهم بالعلم والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية والأهلية للإنتفاع من الأمثلة القرآنية والإعتبار منها، والتدبر بما فيها من العلوم والمضامين القدسية، والمسؤوليات العظيمة التي أنيطت بهم في صلاح المجتمعات وتخليص النفوس من سلاسل الجحود، وأوهام الغلو والإفتراء في آن واحدن، ولزوم جهادهم لجذب الناس.
لقد كان خلق آدم آية كــونية ودرســاً للملائكة، ومناســـبة ليحتل الإنســان أشرف المنازل بين الخلائق والخلافة في الأرض وجاء خلق عيسى آية كونية وموعظة للناس ودعوة للإيمان به، فموضوع وحكم التشبيه أعم من ان ينحصــر بنزع رداء الغلو والإفتراء بعيسى ، بل يتضمن لزوم اكرام عيسى والإلتفات الى الآيات الكونية في خلقه والمبادرة الى الإيمان بالله إلهاً واحداً وطاعة عيسى فيما جــاء به من الأحكام وبالبشــارة بالنــبي محمـد صلى الله عليه وآله وسلم.
علم التشبيه
بعد بيان خلق عيسى بصيغة البيان والإخبار بعظيم قدرته تعالى وهذا الإخبار يغني عن الحاجة الى اللجوء الى المثل والتشبيه، لعدم وجود قيد اوحد لقدرته سبحانه ومع هذا تفضل بلطفه تعالى بالإتيان بالمثل والتشبيه بني خلق عيسى وآدم عليهما السلام في دعوة لإيجاد وجود الصلة والربط بينهما، فالتشبيه القرآني أعم وأوسع وأكبر من ان ينحصر بأصل الخلق بل له دلالات عقائدية منها:
الأولى: كأن خلق عيسى بداية جديدة للخلق الإنساني ولكن في الأرض وليس في السماء.
الثانية: في خلقه بشارة واخبار عن أهلية الإنسان للخلافة في الأرض.
الثالثة: عدم انقطاع الصلة بين السماء والأرض وان وظيفة تلك المنازل من السماء لا تنحصر بالوحي، بل للملائكة فعل وعمل خارجي.
الرابعة: في الآية بشارة لنزول الملائكة للقتال مع المسلمين كما حصل في بدرفليس لأحد ان ينفي الأمر او ييأس منه بحجة ان الملائكة لا صلة لهم مع النبوة الا الوحي.
الخامسة: مع ان هو القوي الجبار وان وظيفة العباد الإمتثال وألإنقياد لأوامره تعالى فانه سبحانه لما رأى ظهور الجدال والإفتراء عند أهل الكتاب ومقابلتهم نعمة خلق وبعثة عيسى بالغلو والجحود تفضل وانزل آيات التشبيه، ليبين القواعد العقلية الكلية بأمثلة حسية لا تخفى على أحد ليسهل على الأتباع والأعوان الإيمان ورفض أرباب السوء والضــلالة الــذين يصرون على الباطل خشية على منازلهم ومناصبهم والمنافع العظيمة المتصلة عليهم من هذه المناصب والدعوى الباطلة.
السادسة: جاء التشبيه رحمة للناس جميعاً من وجوه:
الأول: هو عون للمسلمين لترسيخ الإيمان في صدورهم.
الثاني: التشبيه مادة ترغيب بالقرآن ومناسبة للسياحة في حدائق امثلته، ويتصف القرآن من بين جميع الكتب في الأرض ان هذه السايحة سبب لجني الصالحات واكتناز الحسنات بالإضافة الى أثره في اصلاح الذات والتسلح بالعلم وتنمية ملكة الإحتجاج بالمثل القريب ولغة الممكن.
ومن وجوه الجذب آيات التشبيه والمثل القرآني الذي يقرب البعيد ويلبس الحكم العقلي رداء المحسوس وتوظيفه للإيمان باعتباره خطاب عام موافق لجميع الناس على مختلف مداركهم ومراتبهم، وجاءت هذه الآية لتثبيت أمر التشبيه بين آدم وعيسى ودعوة الناس الى الأخذ وعدم التفريط بأحكامه.
قانون المناظرة
المناظــرة هي المفاوضة على سبيل الجدل، وسعي كل طرف من المتخاصــمين لمناصرة راأيه عليه والمحافظة عليه ورد الفروع الى الأصول.
والمناظرة ســبيل لإظهار الصواب، وطــريقة من طــرف الجدل وصيغة من صيغ الإستدلال، ومقدمة من مقدمات اللبرهان، وبما ان الناس على قسمين مؤمن وكافر فان التباين ظاهر في القول والفعل، ويتصف هذا التقسيم بأمور:
الأول: احراز المسلمين في لمنازل الإيمان.
الثاني: تزلزل حلال الكافرين، لشعورهم بانعدام الدليل الذي يجعلهم يحافظون على ما هم عليه، بل ان الدليل بخلافه ويدعوهم للإيمان، يحاولون المغالطة والجدل.
الثالث: الأكــثرية من غير المســلمين ليست ملتزمة بمفاهيم الكفر فيجذبها الدليل والبرهان الى الإسلام فتأتي آلة المناظرة من السماء.
وفيها منافع عظيمة منها:
الأول: تثبيت المؤمنين، وبعث السكينة في نفوسهم على حسن اختيارهم.
الثاني: الغلبة على الكفار باظهار الحجة والدليل.
الثالث: افحام الخصم أمام الناس.
الرابع: المناظرة وسيلة مباركة لتخليص الناس من الكفر والضلالة وسبب عقلي وحسي لطرد الغفلة من والوهم والجهالة.
الخامس: اثبــات حقيقــة وهــي عدم عجــز المســلم عن الإتيان بالبرهان.
السادس: دفع الشك والريب، والتصدي لأهل الريب والخصومة واعــداء الدين الذين يملأ قلوبهم الحســد ويمـيلون الى الشر، ولا ينفكون عن وسوسة الشيطان وغلبة النفس الشهوية والغضبية.
السابع: اتخاذ المقدمات المشهورة التي تفحم العدو امام الناس كما ورد عن ابراهيم في التنزيل [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ]( ).
الثامن: الإحتراز والوقاية من الجدل، لأن الجدل اعم من ان يكون حقاً، فيكفي فيه ان يكون امراً ظاهراًَ عند الناس او طائفة منهم.
ان الجدل سلاح عقائدي مركب يحتاجه المسلام في حياته اليومية مع خصمه وغيره، ويستلزم الإحاطة الإجمالية بصناعة الجدل وقوانينها، وقد قام فريق من الفلاسفة اليونانيين بالإهتمام به، وأولاه بعض العلماء المسلمين عناية مثل ابن سينا.
قانون المناظرة
ولكن القرآن هو الذي جاء بقواعد الجدل السليم والمناظرة، ومن الآيات فيه انه جاء بالأسس العقلانية الحكيمة للجدل التي نطق بها الأنبياء والصالحون، وبيان وجوه المغالطة والتجاء الخصم الى الجدل كما يظهر من احتجاج نمرود في رده على ابراهيم الذي أستدل على آية الأحياء والإماتة باثبات الربوبية لله تعالى.
فقد ورد في التنزيل على لسان نمرود [أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ]( ) وأراد اطــلاق سراح سجين وقتل آخر، فأنتقل ابراهيم الى آية أخرى تتعذر فيها المغالطة ويمتــنع الإفتتان، في تأديب وتعليم للمسلمين مناهج ودروس الإحتجاج، ان لغة الإحتجاج في القرآن من صفات الحسن المذكور في قوله تعالى [ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
وفي هذه الآية شاهد على جواز الإحتجاج والإتيان بالبرهان لإثبات الحق، وطرد الشك والتصدي لأهل الريب والضلالة، والمنع من تأثيرهم بفي الناس.
وللمناظرة آداب وأحكام يمكن استقراؤها من القرآن لأنه معلم الأجيال ومؤدب الأمم، وفيه نهي عن المناظرة التي تجري على مذهب الشك والمغالطة ومحاولة انتزاع كلام من الخصم يفيد فييقود او يؤدي الى استمرار العناد والإصرار، لذا سيأتي في الآية التالية قوله تعالى [ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ ]( ).
آية أصل الخلق
لقد أراد للإنسان ان يكون خليفة في الأرض، ولابد للإنسان من بداية في خلقه لأنه حادث مخلوق، ولا يصح ان يكون للإنسان أب الى ما لا نهاية لأنه يستلزم التسلسل وهو باطل، فلابد من اب تنتهي عنده الإنسانية وهو آدم ويسميه الهنود هوكيومرت.
وقد ورد في القرآن ما يدل على خلق الناس من نفس واحدة قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ]( ).
كما تضــمنت آيات القرآن سنــخية وأصــل خلــق الإنسان من وجوه:
الأول: ان آدم خلق من تراب، وهو الذي تؤكده الآية محل البحث.
الثاني: انه مخلوق من الماء كما في قوله تعالى [ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا]( ).
الثالث: ان الإنسان خلق من طين قال تعالى [ِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ]( ) .
ولا تعارض بين هذه الوجــوه لأن الطــين هو المجمـوع الناتج من مزج التراب بالماء، وتبين سنخية الإنسان القدرة الإلهية فالتراب مادة جــمادية كـثيفة، ومع هــذا فان الإنســان يمتلك المعــرفة والرحــمــة ويظهر الود والحب والرأفة، وللتجلى الآيات في خلق الإنسان، وفيه مسائل:
الأولى : ليكون شاهداً ذاتياً على بديع صنعه تعالى.
الثانية : فيه دعوة للإنسان للخضوع والخشوع لله تعالى ونبذ الكبر والغرور.
الثالثة : يذكر أصل الخلق الإنسان بالموت وحتمية عودته الى الأرض وفيه تنبيه وتذكير بلزوم أداء الفرائض والواجبات والإستعداد للموت.
الرابعة : من الإعجاز ان خلق خليفته في الأرض من ذات الأرض ولم يأت بالخليفة من عالم السماء.
الخامسة : فيه تشريف للأرض بان جعل خليفته منها، وأختار منها الإنسان وأوحى الى نفر من جنس الإنسان ليكونوا أنبياء ورسلاً.
لقد جاءت الآية للإحتجاج على النصارى والكفار بنبوة عيسى في آن واحد، وهذا من الإعجاز القرآني ان تأتي حجة واحدة تصلح لدرء طرفي الإفراط والتفريط، فخلق آدم أعظم وأكبر في مرابتب القدرة من خلق عيسى، لأن آدم خلق من تراب وليس له أبوان، وعيسى خلق في رحم أامرأة.
وأافتخر المشركون بعبادتهم للملائكة بزعمهم ان هذه العبادة تجعلهم ألإفضل ممن عبد البشر المخلوق، فجاءت الآية لبطلان قولهم وبيان ان المشيئة والأمر كله لله تعالى، وعدم جواز عبادة غيره سبحانه، كما تبعث الآية الخشية في النفس الإنسانية من وتدعو الناس للخضوع والإنقياد لأمره وعدم الأمن من بطشه وغضبه ومباغتة عقابه، وقد تقدم منا إقتراح دراسة كل مثل قرآني على نحو الإستقلال كآية وحجة قرآنية باعتباره مدرسة قائمة بذاتها( ).
لقد أرادت الآية انتقال الذهن من حال وحكم خلق آدم الى خلق عيســى لمناسبة الحكم ووحــدة الموضوع باعتبار ان خــلق آدم معجزة معروفة عند المليين جميعاً، وهو المسمى بالإصطلاح المنطقي (بالتمثيل).
وهو في الأصول من القياس الذي يعني شمول الفرع بحكم الأصل لثبوت الحكم بينهما ولو على نحو جهتي وجزئي متشابه، كما في هذه الآية وتعلقه بالإعجاز في الخلق بقانون الكاف والنون.
وللقياس أركان أربعة الأصل، الفرع، الجامع، الحكم، فالأصل في الآية هو آدم والفرع هو عيسى ، والجامع الخلق من غير علة مادية، والحكم هو لزوم الإقرار لولادة عيسى بالإعجاز وانه بشر وليس بآإلةه وضرورة الإقرار بنبوته وعدم الجحود بها.
وفي متعلق الآية وجهان:
الأول: انها خاصة بخلق عيسى .
الثاني: خلق آدم، .
فخلق عيسى تذكير واستحضار لآيات خلق آدم من التراب.
ولا تعارض بين الوجهين فمن الآيات ان يأتي خلق آدم اصلاً وخلق عيسى فرعاً لإثبات الإعجاز في خلقه بوجود الشبه والإلأتقاء بينه وبين آدم، لأن الجمع بينهما هو قانون الكاف والنون، ويكون خلق عيسى آية ودعوة للتصديق بخلق آدم بذات المشــيئة الإلهية، ومن أسرار ومنافع الإخبار السماوي عن وجــوه بالشبه بينهما المنع من الإلإفتراء.
وسوء القول بخلق آدم، .
فاذا كان الإفتراء في خلق عيسى جاء بخصــوصه وبالطــعــن بمريم عليها السلام، فان الشك في خلق عيسى ظلم وتعد على مقام الربوبية، وهذا من بركات عيسى ان تكون كيفية خلقه وســيلة وحجــة لتثبيــت خــلق آدم من تــراب وبأمره تعالى “كن فيكون” خصــوصاً وان التمثــيل هــو انتقــال الذهن من حكــم أحــد الشــيئين الى آخــر لوجــود مادة اشتراك بينهما.
الثالث: خلق آدم وعيسى معاً، لأن الآية تظهر الإعجاز في خلق كل منهما وكل خلق منهما آية مستقلة تتغشى بركاتها الآية الأخرى.
الرابع: خلق آدم وعيسى والناس جميعاً، لأن خلق الإنسان بالتناسبل آية اعجازية مستقلة تدل على عظيم فضله تعالى .
والأصح هو الوجه الرابع، فالآية برهان قطعي لإثبات القدرة الإلهية وصحة ولادة عيسى بالإعجاز وهي من البرهان اللمي أي الإستدلال من العلة على المعلول، والبرهان الإني وهو الإســتدلال مــن المعلول على العلة، والحد الوسط في البرهان هو الخــلق الإعجــازي بمشيئته تعالى والذي يعتبر علة للتصديق بالحكم ولزوم التســليم بهذا الخلق ودفع الوهم والإفتراء، الوهم بان عيسى إله، والإفتراء عليه وعلى أمه القديسة مريم.
قال تعالى [ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]
ذكرت الآية خلق آدم من التراب ثم ذكرت توجه الأمر الإلهي اليه بكن فيكون، وفيه آية اعجازية فالحرف (ثم) يفيد الترتيب، وان ما بعده جاء متأخراً في حدوثه عما قبله.
وقد ذكر بعضهمورد اشــكالاً وهــو ان تعالى خــلق آدم ثــم قال له كن فيكون فكيف يكــون الخلق متقدماً على الأمر (كن) والجواب من وجوه:
الأول: اتبين الآية تبين اعجازاً خاصــاً بخلق آدم، ويجب ان لا يكون الإشكال ونقضه سبباً لعدم اظهار الإعجاز في المقام، فالآية تؤكد انمجيء خلق آدم جاء باعجاز مركب وآيات متعددة وليس آية واحدة.
الثاني: التعدد في الخلق يدل على الإعتبار والشرف الذي كان لزومولا يزال ملازماً لآدم عليه السلام.
الثالث: آية خلق آدم قبل بعث الروح فيه مقدمة تساعد الملائكة على السجود له، وقبول خلافته في الأرض.
الرابع: ان خلق آدم جزء من مصاديق الإرادة التكوينية وخلق الكون و العوالم المختلفة، لتكون كل آية في الخلق شاهداً على عالم مترابط ونظام بديع يدل على عظــيم قـدرته تعالى واتقانه للعوالم المختلفة من المخلوقات، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ان خلق الارض يوم الاحد والاثنين وخلق الجبال يــوم الثلاثاء وخلق الشجر والماء والعمران والخراب يوم الاربعاء فتلك أربعة ايام وخلق الخميس السماء وخلق يوم الجمعة الشمس والقمر والنجوم والملائكة وآدم( ).
الخامس: لم يكن خلق آدم دفعة واحدة، والتعدد ولا ينحصر بالخلق والصيرورة، بل انه بدأ من ساعة اختيار طينة آدم باعتباره أمراً ذا شأن عظيم، وقدسية خاصة لما فيه من عناوين الخلافة في الأرض، وورد عن الإمام جعفر الصادق انه قال: ان القبضة التي قبضها من الطين الذي خلق منها آدم ارسل اليها جبرئيل عليه السلام أن يقبضها. فقالت الارض: اعوذ بالله أن تأخذ مني شيئاً، فرجع الى ربه وقال ياربّ تعوذت بك مني، فأرسل اليها اسرافيل فقالت مثل ذلك، فأرسل اليها ميكائيل. فقالت مثل ذلك، فأرسل اليها ملك الموت فتعوذت بالله أن يأخذ منها شيئاً. فقال ملك الموت واني اعوذ بالله ان ارجع اليه حتى اقبض منك.
وروي قريب منه عن ابن عباس وعبد بن مسعود( ).
وتبين الآية عزم ملك الموت على فعل ما أمره تعالى به، والسعة في فضله تعالى في اكرام الملائكة ولا يعني صدور التقصير من قبل جبرئيل واسرائيل، لقاعدة كلية ثابتة وهي ان الملائكة يفعلون ما يؤمرون، ولا يعصون أمر ، ولكنهما أختارا اعتبار الإستعاذة والرجوع اليه تعالى لعرض الأمر عليه سبحانه وبيان اجلالهم واكرامهم للإستعاذة به تعالى، اما ملك الموت فقد أنتفع من عرض جبرئيل وميكائيل الأمر عليه سبحانه ومع هذا تفضل سبحانه وأرسله، والله لا يفعل الا ما يكون له غاية ونفع، كما ورد ان أمره تعالى لملك الموت على سبيل الحتم والقطع.
السادس: لقد كانت قبضــة الطــين التي خلــق منها آدم آية اذ انها جاءت من جميع الأرض، وفيه دلالة على القدرة الإلهية وظاهر النصوص انها ليســت قبضات متعددة ثم خلطت بل هي قبضة واحدة جامعة، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم انه قال: إن الله خلق آدم من قبضــة قبضــها من جميع الارصض فجاء بنو آدم على قدر الارض جاء منهم الاحمر والاسود والابيض وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب ثم بلت طينته حتى صارت طينا لازبا ثم تركت حتى صارت حمئا مسنونا ثم تركت حتى صارت صلصالا كما قال الله تعالى ( ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمإ مسنون)( ).
واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض، والحمأ المسنون أي المنتن، والصلصال هو الطين اليابس الذي له صلصلة أي صوت.
السابع: لقد جعل فترى ومدة بين خلق آدم ونفخ الروح فيه، وفيه دروس وعبر ومواعظ عديدة وعن ابن عباس قال: أمر الله تبارك وتعالى بتربة آدم فرفعت فحلق آدم من طين لازب من حمإ مسنون قال وإنما كان حما مسنونا بعد التزراب قال فخلق منه آدم بيده قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت قال فهو قول الله تبارك وتعالى ( من صلصال كالفخار ) يقول كالشئ المنفرج الذى ليس بمصمت قال ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ويدخل في دبره ويخرج من فيه ثم يقول لست شيئا للصلصلة ولشئ ما خلقت ولئن سلطت عليك لاهلكنك ولئن سلطت على لا عصينك( ).
فالمراد من الخلق هو هيئة آدم وصيرورته على صورته بجســده وبـدنه، فيكون الخلق بمعنى التقدير والتسوية ثم جاءت مرحلة بعث الروح وهي المقصودة بقوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ ]( )، وهذا من الإعجاز وفيه مسائل:
الأولى: ان مدار الخلق والإبداع بنفخ الروح وقدرة المخلوق على الحركة والفعل.
الثانية: لم تؤمر الملائكة بالسجودة لآدم الا عندما بعثت فيه الروح وأصبح كائناً حياً.
الثالثة: لقد أراد لآدم ان يكون خليفته في الأرض، ولم يستحق آدم هذه المنزلة الرفيعة الا عندما نفخـت فيه الروح، والخلافة أعم من القضية الشخصية ولا يحصل التناسل وتوجهوجود الذرية الا ببعث الروح.
الرابعة: أراد بيان موضوعية نفخ الروح في مضامين المشيئة والإرادة.
الخامسة: تبين الآية ان المراد من آدم هــو الجســد والروح، وليس الجسد فقط، وهذا لا يمنع من شمولهما بالخلق باعتبار ان الإنسان كيان واحد ولا يضر ها التركيب في اتحاده وهو الذي يشار اليه.
السادسة: جاءت الآية لبيان القدرة الإلهية في بعث وافاضة النفس المدركة المنبعثة بالحياة على الجسد، وقد جاء في آية الطير ان عيسى يخلق من الطين بهيئة الطير، ولكنه لا يكون طيراً الا باذن ، فالمدار في الآية العظمى على صيرورته طيراً التي لا تكون الا بعد ان يأذن .
والضمير (الهاء) في قوله تعالى [قَالَ لَهُ كُنْ] يدل على ان آدم أصبح كياناً مستقلاً على هيئة الطين ومع هذا فانه أاستجاب للخطاب والأمر الإلـهي كن، بان أصبح انساناً كاملاً، فاراد بكن أي كن آدم روحاً وجسداً وصورة لتكونيصبح هذا الأمــر اشراقة على الكـائنات.
وفتحاً في عالم الخلــق والإبــداع وتغييـراً وارتقاء في أصناف المخلوقات بان يأتـي الإنســان متأخــراً في وجــوده عــن خــلق الملائكة والجــن فتكــون له الخلافــة في الأرض والشــأن الرفيــع، ويكون موعــوداً بالجنـة في الآخـرة.
بحث كلامي
ان خلق آدم من طين دليل على انه أمر حادث وان خلق الطين سبقه، وكل حادث يفتقر الى الحيز والحركة والتغيير وقانون الكاف والنون يدل على ان فاعل مختار لأن المؤثر الموجب لا يتخلف أثره عنه كما يدل خلق آدم على انه مسبوق بالعدم، وفي الحدوث دعوة للإنسان للإيمان واجتناب الجحود.
ومن صفات تعالى انه مريد، وهو عالم بما يشتمله الفعل من المصلحة الداعية الى ايجاده، وبما يخصص ايجاده في وقت دون آخر وجهة دون أخرى، من غير ان ينفعل لأنه تعالى منزعه عن التغيير والإنطباع، ولا يناله شوق لتحصيل الفعل، .
ان كل شيء عدا حادث غير قديم، ومسمتند اليه تعالى مباشرة او بالواسطة فجاءت هذه الآية لتخبر بان آدم لم يكن ثم كان بمشيئته وأمره تعالى، وفي الحديث: (ان خلق آدم بيده ثم سواه قبلاً)، فلم يأمر أحداً من الملائكة بتولي شؤون خلقه، وفيه اكرام للإنسان وحث على لزوم الشكر له تعالى بالعبادة والطاعة.
ومن آيات الخلق ان الملائكة أاستجابوا لأمره تعالى وسجدوا لآدم، وأبى ابليس السجود لأنه خلق من نار وآدم خلق من طين، ولم يحتج ابليس على امر الخلافة في الأرض فلم يقل انه أحق بالخلافة في الأرض خصوصاً وانه خلق قبل آدم وأتصف بالعبادة، وقد ركع ركعتين بستة آلاف سنة، فأحتج على السجود فقط، مما يدل بالمفهوم على عدم احتجاجه على خلافة آدم.
ومن اسباب اهلية آدم للخلافة في الأرض انه خلق منها، بينما خلق ابليس من النار، اما الملائكة فخلقوا من الهواء والذي يتصف باللطافة ومع هذا تجد القوة والبطش والشدة عند الملائكة وجعل سكنهم في السماوات والهواء عالماً رحباً لتنقلهم، كما سخر الأرض للإنسان وحاجاته ورغائبه.
وقيل ان الهاء في (ثم قال له) تعود لعيسى أي كن بشراً سوياً، والأصح انها يتعود لآدم ، وهو المشبه به في الآية ولعائدية الضمير للاسم القريب، نعم هو يدل علىفيه اشارة الى عيسى بالواسطة والتبعية، وقواعد التشبيه.
وقال الرازي: “في الآية اشكال وهو انه كان ينبغي ان يقال: ثم قال له كن فيكون فلم يقل كذلك، والجواب تأويل الكلام ثم قال له (كن فيكون) فكان( ).
وليس في أصل التنزيل اشكال، ويمكن ان يقاليحمل ظاهر الآية على الصحة وانه تعالى قال (كن فيكون) ولم يقل كن فكان أي بالإقرار بالتنزيل والبحث في أسراره وعلله وأحكامه وتثبيت صحته وصدقه وبيان تأويله، وفي الآية مسائل:
الأولى: ان (كن) فعل أمر، و(يكون) فعل مضــارع، وليس بينهــما تعارض الا بخصوص حدوث وخلق آدم في الزمن السابق، ونظم الآية.
الثانية: جاءت الآية لبيان قانون الكاف والنون وتوكيده وذكر أحد مصاديقه.
الثالثة: تحكي الآية قاعدة كلية في الإرادة التكوينية وهي ان اذا قال لشيء كن، فلابد انه يكون في الواقع والخارج.
الرابعة: اذا وصلت هذه الاآية بالآية السابقة فيكون الحق هو ايسم كان أي فيكون الحق من ربك، باعتبار ان خلق آدم أمر حتمي وقطعي، ولكن هذا الوصل لا يمنع من قراءة الآية على نحو مستقل وان المراد بيكون هو بعث الروح في آدم، ونتيجة الأمر الإلهي (كن).
الخامسة: اخبار الآية عن وجود الإنسان مطلقاً وليس آدم وحده، وحتى عيسى هو فــرع من خلــق آدم وبعث الروح فيه فالمراد آدم وذريته التي يصح إطلاق الفعل المضارع عليها لإستمرار وجودها.
السادسة: في الآية حذف والمراد كن فيكون كما أراد في الدنيا والآخرة، فكان في الحال كما أراد سبحانه، او انه يكون خليفة في الأرض.
السابعة: إرادة حصول الفعــل على نحو القطع والتأويل (كن فيكون) أي كان.
الثامنة: الجمع بين إرادة الماضي والحاضر والمســتقبل لتوكيد حقيقة وهي ان أمره تعالى (كن) لا ينحصر بالزمن الماضي وحدوث الأمر والفعل بل انه يشميفيد الإستدامة والدوام ايضاً، وانه سبحانه يتعاهد الخلق.
التاسعة: الآية أعــم من ايجــاد آدم وان أمره تعالى (كن) يتعــلق بأمــور لم تنته بعــد وهــذا من بيــان عظــيم قــدرته تعــالى وان المضامين القدسية في أمره تعالى (كن) متعددة، والآيةات فيه تترى، خصوصاً وان الأمر الإلهي (كن) جاء بعد موضوع الخلق.
ففي الآية بشارات ودلالات عقائدية، منها انه أراد للإنسان الخلافــة في الأرض والإرتــقــاء في المعــارف الإلهية والإجـتهاد في دروب العبادة، ويقيمالإقامة في النعيم الدائم في الجنة.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى (كن فيكون) ثمان مرات في القرآن وهو عدد ليس بالقليل جاء لتثبيت هذه الحقيقة في الإرادة التكوينية والتشريعية، وفيه دعوة للناس للجوء اليه تعالى ورجاء الخير منه سبحانه، وطرد لليأس والقنوط وحث على التسليم بربوبيته سبحانه وانه قادر على كل شيء، والآيةهو مناسبة للدعاء والإكثار من المسألة والتضرع، ونفي للخوف والفزع من غير تعالى.
وقد جاءت الآية ســت مرات على نحــو القــاعدة الكلية الثابتة كما في قوله تعالى [إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ] ( ) وجاءت مرة واحــدة بلغة المضـارع والمســتقبل، قال تعالى [وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ]( ) للإخبار عن اتصال نعمه وتوالي آيات المشيئة والإرادة.
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب (التفسير) وهو ان يتعقب الكلام بيان له يكشف عن مضمونه ومعناه بما يزيل اللبس ويمنع من الجهالة، والقرآن فيه تبيان كل شيء، ولقد أراد ان يكون الوثيقة السماوية الخالدة في الأرض فينهل منها الناس كل حسب مشربه ومداركه فيعلم ما يراد منه من غير غرر او شك او ريب.
ومن أمثلة التفســير هــذه الآية فقد جــاءت بتوكيــد المثليـة بين عيســى وآدم عند لبيان عظيم منزلة عيسى وشرفه ثم أردفت الآية وبينت موضــوع المثلية ومضــمونها لمنع اللبس، فمن كان يدعــي ان عيسى إلهاً فانه قد يتجرأ ويضيف لآدم ذات الصفات التي نعت بها عيسى غلواً.
وجــاءت الآيــة للــهــداية واقــامة الحجة فلذا ورد تفسير المثل في نفــس الآية وبكلمات بينات اذ بينت الآية مضمون المثل ووجوه الشبه بين آدم عيســى وانه يتعلق بالخلق وخــروجه عن العلة المادية وعلــوق الولــد من الوطئ، ولكن التفســير القــرآني أعــم من البلاغة ولا ينحــصر بموضــوعها بل انه يفتــح الباب للــدراسات وذكـر الشواهد.
بحث بلاغي (كمثل آدم)
من وجوه الإطناب (الإيضاح بعد الإبهام) فيأتي الكلام على نحو الإجمال ثـم يتعقبه البيان والإيضاح بما يبعــث في النفس الرضا للفوز بالحصــول عليه وسهولة ادراكه ومعرفته من غير عناء ويؤدي إلى القبول لتحــقيق العلم بالأمــر وســقط عنــاء التحصــيل في ايراد التفصيل.
فبعد ان ذكرت الآيات السابقة قصة عيسى بالبيان والإيضاح وبشرت المؤمنين بنبوته وانذرت الذين كفروا بها واختار الإقامة على العناد ومع رؤيتهم للآيات البينات التي جاء بها.
جاءت هذه الآية لتكون دفعاً للإبهام، وتثبيتاً للبرهان وقدمت الآية المثل قبل ذكر الإحتجاج والإجابة عليه، وفيه تنبيه لأهل الكتاب ليكفوا عن الجدال والإحتجاج لذا جاءت الآية بصيغة الخبر ويراد منه اشعار الناس جميعاً بهذه الحقيقة ومجيء المثل قبل الإحتجاج يدل على انها مسألة ابتلائية مستديمة.
وكما ان الآية ايضاح بعد ابهام فان الآية نفسها تنقسم الى ابهام وايضاح فصدرها ذكر المثلية بين آدم وعيسى وتحتمل وجوهاً عديدة، فجاء آخرها ليبين ماهية وموضوع المثلية وانه يتعلق بالخلق بالكاف والنون الذي جاء وروده في الآية دعوة للثناء على تعالى لخلق عيسى والتدبر بعظيم قدرته وهو مناسبة للدعاء وطلب الرغائب منه تعالى من غير اعتبار للأسباب.
بحث منطقي
يعتبر عالم الألفاظ من اللامنتهي وتقع تحته عناوين عديدة، وتتصف أغلب الألفاظ بالإجمال من جهة المصداق العملي، والتداخل العرفي بين المعنى الحقيقي الذي وضع له، والمعنى المجــازي الذي أنتقل اليه وشاع استعماله فيه، فيقع الخلاف والجدال وينحاز كل فريق الى المعنى الذي يلائمه ويصر عليه، ويعرض عن المعنى الآخر الذي يلتزمه الخصم، وكل طرف يأتي بالدليل والحجة او الشبهة والمغالطة لإثبات قوله ونصرة مذهبه.
ويكون التعريف تارة لفظياً، ويتعلق بالعلقة بين اللفظ والمعنى الذي وضع له، وأخرى منطقياً وهو المعلوم بالوجود الذهني الذي تترشح عنه معرفة المجهول التصوري.
والتعريف بالتشبيه يلحق بالتعريف بالمثال بل هما متداخلان في المقام، وهو ان يشبه الشيء المقصود تعريفه بشيء آخر لجهة وعنوان للشبه بينهما.
ولقد جاء التشبيه في الآية بالخلق والإيجاد الا انه يدل بالدلالة الإلتزامية على التشابه في درجة النبوة , وفيه اشارة الى منزلة النبي عند ومن خصائص النبوة ان يرزق النبي آية في خلقه فلا تنحصر المعجزات بما يجري على يد النبي بل انها تشمل الإيجاد والولادة والنشأة.
قانون عدم المغادرة
لقد تفضل سبحانه على خاصة خلقه بالنبوة فانزل عليهم الملائكة بالوحي وخصهم بعظيم المنزلة، وجعلهم منزهين من الخطأ والذنب والمعصية لتكون سيرتهم شاهدا على نعمه تعالى عليهم، ودعوة للناس للإقتداء بهم، واتباعهم والإمتثال لما يأتون به من عند ، ويعرف النبي بالمعجزة والبرهان القاطع والأمر الخارق الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله ولو أجتمعوا.
وتبدأ النبوة بالوحي والآيات ويلتفت الناس اليها لتكون جذباً لهم للهداية والإيمان ومن الآيات ان النبوة تبقى ملازمة للنبي لا تفارقه ما دام على قيد الحياة، وهو من أدلة صدق دعوى النبوة، فلا تغادره الآيات بل يبقى الوحي والتنزيل مصاحبين له مدة حياته لأن النبوة رحمة للناس تتجلى بشخص النبي
فمن فضله تعالى ان تترى وتشع أنوارها بانواع البهجة والكرامة، والإستقرار في حضرة الملك الجبار وليبقى النبي واسطة الفيض الإلهي على سائر الخلق، ومنافع هذا القانون أكثر من أن تحصى لأنه يبعث الثقة والسكينة في النفوس، ويمنع من الشك والريب , وهو برزخ دون تعدي أهل الجحود والعناد ومن منافعه انتفاء الغلو او الطعن بعيسى والى حين رفعه بل والى ما بعد رفعه الى السماء لأن ملازمة النبوة له تدل بالدلالة التضمنية على بقاء النبي في مقامات العبودية، وتزكيته وأهليته لأشرف المنازل وهو النبوة.
وفيها تذكير بنبوة آدم ومنع من الغلو فيه، وهذا من اعجاز القرآن ان تترشح الآيات من المشبه على المشبه به لأن الطرفين ينهلان من عطاء ولطفه غير المتناهي.
@@@@@@@@
قوله قوله تعالى [الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ] الآية 60.
الإعراب واللغة
الحق: مبتدأ مرفوع، من ربك: جــار ومجــرور في محـل خبر، والكاف مضاف إليه، ويجوز ان يكون الحق خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير الذي نقصه عليك هو الحق، ويكون الجار والمجرور متعلـقاين بمحذوف حال.
الفاء: حرف استئناف.
لا: ناهية تختص بالفعل المضارع، وتجعله مجزوماً ويفيد الإستقبال، وأسمها: ضمير مستتر تقديره أنت، من الممترين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، .
والحق من أسماء تعالى، وهو المتحقق وجــوب وجــوده والــهيته، والحق ضد الباطل، ويأتي الحق بمعنى الواجب يقال حق الشيء يحق أي وجب، والأمر الثابت والثواب والصــدق يقال حقق قوله وظنه تحقيقاً أي صدق، والحق: صدق الحديث، واليقين بعد الشك، والحق: الملك.
والممترون: جمع ممتري وهو الشاك، من المرية أي الشك والريب يقال تمارى يتمارى كما يأتي بمعنى الجدال، والكذب والمناظرة على مذهب المغالطة , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا تماروا في القرآن فان مراء فيه كفر( )،.
في سياق الآيات
بعد ان ذكرت الآية السابقة وجوه الشبه بين خلق آدم وعيسى عليهما السلام، وبما يمنع من الغلو من الذين يتبعـون عيسى، والإفتراء من أعدائه وأهل الجحود، جاءت هذه الآية لتؤكد موضوعات الآيات السابقة وقصة عيسى ، ولتكون هذه الآية مقدمة للآيات التالية في توكيد صدقها وصحة ما فيها من الأخبار.
وإبتدأت الآية بقوله تعالى[الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ] وإرادة معنى الصدق والقطع والثبات والنفح والعام، وتقدير الجمع بين أول هذه الآية وما سبقها من الآيات على وجوه:
الأول : خلق الله عز وجل لما يشاء بكن فيكون حق وبيان لعظيم قدرة الله، وحاجة النظام الكوني لرحمته تعالى بهذه الكيفية من الخلق.
الثاني : خلق آدم من تراب ومن غير أب أو رحم أم حق وعدل.
الثالث : مثلما أن خلق الله آدم من تراب حق وصدق فكذا خلق الله من غير آب.
الرابع : المثل القرآني حق وصدق سواء كان بخصوص الأنبياء أو مطلقاً ليكون مدرسة وموعظة للأجيال، وموضوعاً لإقتباس الحكمة.
ولا يختص قوله تعالى[الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ] بمضامين الآية السابقة بل يشمل مواضيع ومضامين الآيات السابقة لها، إذ أن كل آية وكل كلمة في القرآن من عند الله عز وجل لم يطرأ عليها تغيير أو تبديل , لتدل الآية بالدلالة التضمنية على سلامة القرآن من التحريف قال تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
إعجاز الآية
في الآية مسائل:
الأولى : تبين الآية قاعدة كلية وهي ان القرآن ليس فيه الا الحق والصدق.
الثانية : ما في القرآن من القصص وأخبار الأنبياء تفيد القطع واليقين.
الثالثة : انتنسب الآية تنسب هذه الأخبار الى تعالى لتوكيد حقيقة وهي نزول القرآن من عنده تعالى وان هو الذي أنزل هذه الآيات.
الرابعة : في الاآية اكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان خطابات هذه الآيات موجهة له وفيه اشارة الى الغايات العقائدية السامية لهذه الآيات.
الخامسة : تمنع الآية من الشك في مضامين قصة عيسى.
السادسة : في الآية بشارة ثبوت ودوام الحق والصــدق في قصــة عيسى ، وعدم تاأثير التحريف والتغيير على الناس سواء بصيغ الغلو او الإفتراء.
وهذا من اعجاز القرآن في ميادين العمل والجهاد القولي وعالم البرهان، فليس البلاغة وحدها موضوع ومادة الإعجاز القرآني، بل ان علوم الإعجاز القرآني أكثر من ان تحصى وأحكام هذه الآية من الإعجاز من وجوه:
الأول: العناية بمسائل الإحتجاج والجدل وعدم ترك موضوع الجدل وان كان مغالطة وبالباطل وانعدام الدليل عند الخصم.
الثاني: جعل النبي قوياً بالعلم.
الثالث: دعوة الناس للإســلام ومجادلتهــم والإحتجـاج عليهم، فالآية لا تحصر الإحتجاج بما اذا اختاره الكفار، بل يجوز ان يبدأ به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ولا تنحصر وظائف الجدل والمباهلة بقصــد اصلاح الآخرين وجعلهم يتركون مسالك الضلالة بل انه ينفع المسلمين في زيادة ايمانهم وتوسـعة مداركهم وارتقائهم في المعارف الإلهية والكسب العلمي.
الرابع: الإثبات السماوي لصيغة العلم التي تتغشى آيات القرآن، فهو علم محض، مما يعني ان النصر حليف المسلمين لضابطة كلية في الإرادة التكوينية وهي ان الجهل لا يغلب العلم، وان البقاء والدوام للعلم وأصحابه.
الخامس: ما دام العلم ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلابد من اتساع الإسلام وعلو رايته ورجوع الناس اليه، فمن اعجاز القرآن ان هذه الآية بشارة انتصار الإسلام وتقهقر وانحسار مذاهب الكفر والعناد والجحود.
وتعتبر الآية نصراً للإسلام وعزاً للمؤمنين وبياناً لحال الإرتقاء والقوة في المنازل التي بلغها، فبعد ان خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من مكة خائفين مهاجرين الى يثرب، وخوض معارك الإسلام الأولى مع المشركين.
وجاءت هذه الآية لتمنع من جدال أهل الكتاب من غير قتال او بطش بل بتفويض الأمر الى الله، كما تدل الآية على وجود من يصغي الى العلم والتنزيل ويخاف من مباهلة النبي، وهذا الخوف يدل بالدلالة التضمنية على الإقرار بنبوته ولو على نحو الموجبة الجزئية التي يمنع من تمام الإقرار بها الحسد والعناد.
وتدل الآية على ان سؤال المباهلة دعوة الى مبارزة عقائدية بين الحق والباطل، ولو وقعت لظهرت آثارها ونتائجها الإعجازية التي تدل على صدق النبوة وصحة التنزيل، ولبقت منافعها الى يومنا هذا وان كان مجرد الدعوة القرآنية للمباهلة في هذه الآية جهادا وتحدياً لم تنقطع آثاره ومنافعه على المسلمين.
وهذه الآية وسيلة سماوية مباركة لنجاة اجيال المسلمين اللاحقة، اذ اشترك في الإستعداد لها الأبناء والنساء والرجال على نحو الفرد الأمثل لتكون مدرسة وعبرة للمسلمين في افراد الزمان الطولية، وعنوان تخفيف ورحمة وعز وفخر.
ويمكن تسمية هذه الآية آية (فلا تكن من الممترين) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية سلاح
في الآية توكيد على صدق التنزيل ومنع لطرو الشك والريب، وحرز من الإنصات لأهل الريب والشك اذ ان الآية تدل على وجود من يشكك بالآيات وقصص الأنبياء، فجاءت هذه الآية لتمنع من سلطانهم على التقنفوىس واستحواذهم على القلوب، وتطرد أقوالهم من المنتديات وعلوم التنزيل وتكشف زيف ادعاء نزول ما يخالف القرآن لأن الحق بسيط غير مركب او متعارض الأفراد ف.
وفي الآية اخــبار عن عرض قصص الأنبــيــاء وما ورد بخصوصـهم في الكتب السماوية الســابقة ويطرح ما يخالف القرآن ولا يؤخذ بهعلى القــرآن وطرح ما يخالفه وحــرمــة الأخــذ به.
وفيها اعجاز بما تبعثه من أسباب الحصانة عند المسلمين، وتجعلهم قادرين على رد شبهات الأعداء وعدم التأثر بانكار الضلالة فالآية سلاح عقائدي مركب ونافع في الجدال وفي تحدي الكافرين بالمباهلة واثبات درجة اليقين عند المسلمين والمسلمات.
ومن إعجاز القرآن توجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد منه عموم المسلمين والناس جميعاً ليكون من معاني قوله تعالى[فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ]( )، دعوة المنافقين للإيمان الصادق، وزجرهم عن إحتواء جوانحهم على الكفر والضلالة.
لقد أراد الله عز وجل تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات وإشاعة سنن التقوى بين الناس، وإزاحة مفاهيم الكفر عنهم، فتفضل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، لتكون رسالته دعوة إلى التوحيد قائمة إلى يوم القيامة، ويكون من خصائصها طرد الشك والريب من النفوس سواء بمعجزاته العقلية والحسية أو معجزات الأنبياء السابقين.
مفهوم الآية
ان القرآن كله حق وصدق وهذا من سمات الحسن الذي تتصف به قصص القرآن، وليس فيها ما هو خلاف الواقع كما ان الواقع نفسه يصدقها، اذ ليسوما من سبيل لوجود الإنسان الا الخلق والإبداع منه تعالى، وهو وحده القادر على خلق الإنسان .
فان قلت: هناك مقدمات لخلق انسان بالإستنساخ وتحصيل تكاثره بهذه الطريقة، .
قلت: لا يزال الأمر في طور النظرية والأبحاث المختبرية، وعلى فرض حصوله فهو مما علم الإنسان وهداه اليه، وكما انه من نتاج العقل الإنساني فانه يحتاج الى الإنسان كمادة وموضوع للإستنساخ وأخذ الخلايا من بدنه أي ان الإستنساخ مجرد نوع طريقية مستحدثة في التناسل والتكاثر مع ما فيها من الآثار والعواقب، .
فجاءت هذه الآية لتخبر بان وجوهد الإنسان لم يحصل الا بآية منه تعالى، ولا يستطيعقدر أحد من الخلائق على ايجاده، وعجز الخلائق هذا من مفاهيم سجود الملائكة لآدم، فهم أشرف وأعظم الخلائق، ويتصفون الملائكة بالقوة والشدة، ومع هذا فانهم سجدوا لهذا الكائن الحادث في دلالة على إقرارهم ببديع خلقه وأهليته للخلافة في الأرض.
لقد أخبرت الآية بان قصــة مريم وزكريا وعيســى كلها حـق وصدق، كما يترشح الصدق والحق عليها من حقيقة نزول القرآن من عنده تعالى، وتمنع الآية من القول بان القواعد الكلية في الآيات من والتفصيل من جبرئيل، فليس لجبرئيل من وظيفة الا النزول بالقرآن وآياته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تغيير او زيادة او نقيصة.
وتخبر الآية عن وجود مشككين امتلأت قلوبهم حسداً وغلبت عليهم الجهالة والعناد، فيكون القرآن حاجة للناس، وقصصهم مدرسة سماوية في الأرض تجعل النفوس في غنى عن اللجوء الى غيره، خصوصاً وان الكتب والأخبار مملوءة بالتحريف والتبديل.
والآية دعوة للمسلمين لعدم التهاون في بيان حقيقة خلق عيسى وانه عبد بعثه رسولاً لبني اسرائيل، وهي من مصاديق الرحمة الإلهية للناس ودعوتهم الى الهدى بالحكمة والموعظة الحسنة والجهاد.
والآية بيان آية نبوية وهي جهاد النبي بأهل بيته، وتتضمن تشريف القرآن لأهل البيت، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يختر أهل بيته من عنده، والصحابة يرغبون بالإشتراك بالمباهلة لما فيها من الفخر والأجر واعتبارها شهادة على صدق الإيمان ولكن امر النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالمباهلة بنفسه وبأهل بيته، وهم ايضاً من الصحابة وليس في الآية نقص بالصحابة بل هي شاهد على استعدادهم للمباهلة وعدم تخلفهم عنها، فأهل البيت والصحابة يجادلون بانفسهم اهل الكتاب بخصوص طهارة عيسى وامه واثبات نبوته ورسالته لبني اسرائيل.
وهي حرز للمسلمين لدرء شبهات الآخرين في أمور الدين وأحكام الشريعة، فاذا كان النبي يباهل النصارى فيما يخص دينهم والنبي الذي جاء بشريعتهم فمن باب أولى ان يباهل المسلم في دينه ويظهر الثبات عليه.
ولو جاءت الدعوة الى المباهلة من عند الكافر سواء كانت مع مقدمة من الجدال ونحوه او ابتداء منه، فهل تصح مباهلته وملاعنته، الجواب نعم بل هو من باب الأولوية.
وجاءت الآية بذكر الأبناء والنساء والأنفس وهذا لا يعني حصر المباهلة بحضورهم، وعدم وقوعها بدونهم لقاعدة انتفاء المشــروط بانتفاء شرطه، وعدم حصول المركب الا عند اجتماع أجزائه، والكلي بأفراده بل تجوز المباهلة بين المؤمن والكافر، لأن المؤمن وحده أمة ولعمومات أدلة التحدي واثبات صدق التنزيل ولمنع الجهالة والغرر، فالذي يدعــو الى المباهلة ويحصل التخلف عن اجــابته ان كان مؤمناً فهو حجة ودليل على صدق الدعوة وان كان كافــراً فانه يحـاول ان يغرر بالناس، فتأتي الإستجابة له لزجره وتأديبه ورجاء نزول العذاب العاجل به.
فتشريع المباهلة عند الشبهات والإفتتان منعة وقوة للمسلمين.
لقد جاء موضــوع الحق في هذه الآيـة خاصاً بقصة عيسى ولادة وبعثة وآيات تترى على يديه باذن ، ورفعاً الى السماء وفيه أمران:
الأول: خاص، ويدل على الإشارة الى حصر اخبار عيسى بالقرآن وحده فهو الذي يتضمن الصدق والخبر اليقين.
الثاني: عام، ويعني ان أخبار القرآن كلها حق وصدق، وان قصة عيسى جاءت من باب المثال في لزوم الرجوع الى القرآن وما فيه من القول الفصل.
وهذا من بركات عيسى ان جاءت قصته شاهداً على صدق اخبار وقصص وأمثلة القرآن.
ان توكيد تخلف نزول التوراة والإنجيل زماناً يتضمن الذم لليهود والنصارى على تحريفهما.
إفاضات الآية
لقد أنعم على آل ابراهيم بالإصطفاء , وجاء القرآن عنواناً لإصطفاء المسلمين من بين الناس، وفيه الحق والصدق واخبار الأنبياء وجهادهم، ليكون التنزيل جذبة من للعباد لمعرفة وظائفهم العبادية والعقائدية والأخلاقية، لقد أراد للناس التنزه عن الشك، ليكون القلب مرآة صافية للمعارف الإلهية وليدرك الإنسان لزوم التخلي عن الرذائل وما يشغل القلب عن ذكر .
التفسير
قوله تعالى [ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ]
بدأت الآية بنسبة الحق لله تعالى وصدوره منه سبحانه، وفيه وجوه:
الأول: تعلق الآية بقصة عيسى .
الثاني: وجوه الشبه بين خلق آدم وعيسى عليهما السلام، والمثلية في قانون الكاف والنون في الإيجاد.
الثالث: عندما يأمر سبحانه فانه لا يكون الا ما هو حق وصدق.
الرابع: ان عز وجل هو الذي أراد خلق عيسى بالكيفية الإعجازية والنفخ الملكوتية في مريم.
الخامس: وجود غايات ومصالح عديدة في ولادة عيسى بالإعجاز والخلق الدفعي قانون الكاف والنون، كما وتدرء بها مفاسد كثيرة.
السادس: ليس من راد لأمر تعالى في خلق عيسى بالإعجاز لأن هو الذي أراده.
السابع: تعدد آيات الخلق بالكاف والنون، ولا ينحصر الإعجاز به بل يشمل التناسل بالأبوة والبنوة.
الثامن: استحالة تخلف النتيجة عن الأمر الإلهي.
التاسع: الرجاء والخوف من وانه لا يفعل الا الحق.
العاشر: الإتعاظ والإعتبار من مصاديق وأفراد المخلوقات لأنها شاهد على قدرة وعظيم سلطانه.
وفي معنى الحق في الآية وجوه:
الأول: ان هذا الإخبار صدق.
الثاني: الإعجاز في خلق عيسى ووجوه الشبه بينه وبين خلق آدم أمر ثابت.
الثالث: تفيد الآية معنى القطع والجزم في قصة عيسى وفق ما أخبر القرآن.
الرابع: يأتي الحق بمعنى الملك والملكية، ومفاد الآية ان المخلوقات جميعاً هي ملك لله تعالى، فلا يصح ادعاء الربوبية او البنوة لعيسى عليه السلام.
الخامس: تبعث الآية على اليقين، وكان المسلمون محتاجين اليه للوقاية من أثر الكفار وأهل الغلو والكفار، فجاءت هذه الآية رحمة بالمسلمين وتثبيتاً للإيمان في نفوسهم.
السادس: لا ينحصر موضوع وحكم الحق في الآية بالآيات السابقة, وما فيها من الإاخبار والآيات، بل يشمل المصداق الواقعي، للقدرة الإلهية والذي يتجلى بشخص آدم وشخص عيسى، فكل واحد منهما آية واعجاز، قال تعالى [وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ] ( ).
السابع: تبين الآية جانباً من العلة الغائية لخلق عيسى وانه باب للهداية وتوكيد سعة وعظمة قدرته تعالى.
الثامن: تفيد الآية صدور الحق منه تعالى وانه وحده القادر على احقاق الحق والإتيان بالآيات الباهرات وخلق الإنسان بآية اعجازية وبقانون الكاف والنون.
التاسع: في الآية دعوة للجوء اليه تعالى، فمن أراد الحق وتحقيق الرغائب فعليه ان يتوسل بالدعاء، ويلجأ اليه سبحانه.
العاشر: خلق عيسى برهان ودليل على وجوب عبادته تعالى والإمتثال لأوامره والخشية منه، وفيه تعريض بأولئك الذين انشغلوا بالغلو بعيسى او الإفتراء عليه لأنهم تركوا الواجب، ولم ينتفعوا مما في الآيات والمعجزات من المواعظ والعبر.
الحادي عشر: جاءت ا ضافة الحق لله تعالى فهو سبحانه يحب ان يحمد ويثنى عليه، وان يعلم الناس بعظيم قدرته لأن هذا العلم سبيل للهداية والرشاد أي انه نفع محض للناس، فمن قواعد اللطف ظهور الآيات والمعجزات ليتدبر الناس ما فيها من الأسرار والدلائل.
الثاني عشر: تمنع الآية من نسبة الآيات لغير ، سواء الملائكة او البشر او الدهر او الطبيعة أو التناسل وفق نظام ثابت متعارف، وفيها نفي لقول بعض الفلاسفة بان خلق العالم ثم تركه وشأنه، وفيها اشارة الى توالي الآيات من عنده تعالى.
الثالث عشر: في الآية بشارة بان الآيات الإلهية كلها رحمة ونفع وحق ليس فيها شر أو أذى، وان مصاديق الحق تتوالى منه تعالى من غير انقطاع.
الرابع عشر: يترشح عنوان وصــفات الحق عــلى كل ما يـأتي منه تعالى، فلأن الأمر صادر منه تعالى فلابد ان يكون حقاً وصدقاً وعدلاً، وفيه زجر عن سوء التأويل في خلق عيسى وولادته من غير اأب، والوجدان يشهد بان منافع ولادة عيسى اكثر من أن تحصى، .
وان قلت: انها سبب باللإفتتان المركب وضلالة قوم ذهبوا الى الغلو بعيسى، وآخرين أخذوا يفترون ويطعنون به وبأمه، .
قلت: ان ضلالة هؤلاء أعم من ان أن تنحصر بموضوع ولادة عيسى، فلقد أراد انقاذ الناس من الضلالة ولكن فريقاً منهم أصروا على الكفر، قال تعالى [وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا]( ).
الخامس عشر: في الآية مدح للمسلمين لأنهام تلقوا الآية وما فيفها من التشبيه بالتصديق وعدم التحريف، فمع تعاقب مئات السنين على نزول القرآن لم يخرج المسلمون عن مضامينها بل تقيدوا بأدق ما فيها ما من التفاصيل والأحكام وبما يؤكد حسن عبوديتهم , وصدق ايمانهم , وحسن تلقيهم للحق والتنزيل.
السادس عشر: تحذر الآية من التكذيب بما ورد في هذه الآية لوجوب التصديق بما أنزل .
السابع عشر: وصف قصــىة عيسى وخــلقه والإخبار عنه بانه حق وصدق توكيد على موضوعيته ولزوم الإحتراز بالتقيد به، ولقد كان لهذا التقيد العام من المسلمين أعظم الأثر في الواقع العقائــدي بين الناس اذ كان برزخـاً دون اعتبار اإلوهــيــة عيسـى او دعـوى انه ابن ومنع من جعلهما مسـألة ثابتة ومتعارفة بين الناس.
الثامن عشر: منعت الآية من الإقتتال بين اليهود والنصارى وهذا من منافع وبركات الإسلام ونزول القرآن، فمقدمات القتال ظاهرة، فريق يقول برسالة عيسى وانه ابن ، وآخر يفتري عليه، فجاءت الآية لتبين للأول غلوه وخطأ ما يذهب اليه، وتذم الثاني لتعديه وتؤدبه وتجعله يتجنب التجاهر بما يظنه من الطعن، كما انها تدعو الفريقين الى الإسلام، فالآية جعلت كل فريق ينشغل بنفسه وبتدبر حاله وما عليه من الخطأ.
التاسع عشر: الآية بشارة النصر والظفر وتثبيت الحقائق الواردة في الآية الكريمة قال تعالى [ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ] ( ).
العشرون: هذه الآية من آيات البشارة والإنذار لما فيها من الموعظة وأسباب الهداية والرشاد، قال تعالى [ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
واضافة الرب الى المخاطب سر من أسرار هذه الآية، وفيه مسائل:
الأولى: المراد هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإصالة، والمسلمون بالتبعية.
الثانية: في الآية تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين لما فيها من اكرام النبي على نحو متعدد ومن وجوه، هي:
الأول: مجيء الآية بلغة الخطاب المفرد.
الثاني: النص الجلي بارادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب دون غيره.
الثالث: إرادة المسلمين بالخطابات الموجهة للنبي الا ان يرد دليل يفيد الخصوص والحصر وهو مفقود في المقام , فكأن الآية تخاطب المسلمين وتقول لهم: الحق من ربكم , وهذا لا يمنع من اعتبار الآية خطاباً للناس جميعاً.
الرابع: تفضـله تـعـالى ببيان مســألة الإعجــاز بخــلق آدم وخــلــق عيــسى بالوحــي للنبي محمــد صـلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ووآيات التنزيل.
الثالثة: لم تقل الآية الحق من ، بل قالت (من ربك) وفيها أمور:
الأول: جاءت بلفظ الرب وهو من أمهات الأسماء المقدسة.
الثاني: اضافة الرب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبينما جاء ذكر عيسى وآدم على نحو شخصي جاء ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية وهو تشريف له، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتخذني عبداً قبل ان يتخذني نبياً.
الثالث: في الآية شهادة على صدق وأخلاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عبوديته وطاعته لله.
الرابع: الآية دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للجهاد في موضوع وأحكام ولادة عيسى، وعدم السكوت عن الذين اضلوا فيه، ولزوم بيان الحق واظهاره وعدم كتمانه.
الخامس: في الآية حرز وواقية من أتباع الكفار او الإستماع لأهل الضلالة، فتدل الآية على الكفاية والغنى في هذا الموضوع الإبتلائي العام وهو قصة خلق عيسى.
السادس: في الآية اشارة الى الأذى الذي سيلقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكافرين لأنه جاء بالحق واخبر عن الصدق، قال تعالى [ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ] ( )، وهذا الأذى لا يختص بالنبي بل يشمل المسلمين لإلتزامهم بأحكام القرآن ومنطوق آياته فالآية دعوة للصبر والتحمل والجهاد.
السابع: يأتي الحق بمعنى الثواب، أي في تلقي هذه الآية وأحكامها ثواب عظيم للمسلمين، وهذا من اعجاز القرآن والمنافع العظيمة التي يتضمنها فتلاوة آياته وحدها باب للأجر والثواب، وهل هو مقدمة لثواب التصديق بما في الآية من الأخبار والقصص، الجواب: ان ثواب التلاوة مستقل بذاته، وهذا لا يمنع من كونه مقدمة لثواب آخر هو ثواب التصديق بها وأيهما أكبر ثواباً، فيه وجوه:
الأول: ثواب تلاوة الآيات أكبر وأعظم من ثواب التصديق بها.
الثاني: أجر التصديق بالآيات أعظم وأكبر.
الثالث: انهما بعرض واحد من جهة تساوي مرتبة الثواب، والجواب .
والأصح هو الثاني.
الثامن: في الآية اشارة لإفتراء الكفار على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واخبار بانهم سينعتونه بالسحر قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ] ( ).
التاسع: ظاهر الآية ان موضوع خلق عيسى من المسائل الإبتلائية والإخبار عن حقيقته يتضمن الإفتتان ومواجهة أسباب العداوة المركبة من المتنازعين والفريقين المتخاصمين، فلذا جاءت الآية بالتوكيد على انه حق من عنده تعالى واذا كان هناك فريقان كل واحد منهما يظن انه يتبع الحق والصدق، فيأتي ثالث ليقول قولاً يبطل قول كل منهما ويذم مذهبه ويدعو كلاً منهما لترك مذهبه واللحوق به، فلابد ان يتضمن الحق والصدق والبرهان كي تكون فيه السلامة فجاء القرآن رحمة للناس جميعاً.
العاشر: في الآية توكيد متعدد من وجوه:
الأول: اخبار الآية بان مضامين قصة عيسى حق وصدق.
الثاني: التوكيد بانه من عنده .
الثالث: مجيء الخطاب للنبي وهو دعوة للجهاد في هذا السبيل وبيان انه عيسى عبد خلقه بآية منه تعالى.
قوله تعالى [فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ ]
الآية خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه المسلمون بل الناس جميعاً ولكن الذين ينتفعون من الآية هم المسلمون، فالآية انذار وتنبيه وتحذير وما دامت من آيات الإنذار فلابد انها تشمل الناس جميعاً، ولقد نزل القرآن بلغة “اياك أعني وأسمعي يا جارة” وفي الآية مسائل:
الأولى: صيغة الإنذار في الآية تدل على ارادة العموم , ولكن مع التفصيل على وجهين:
الأول: مدح المسلمين بالتزامهم بقبول الحق وعدم كونهم من أهل الشك والريب.
الثاني: ذم الكافرين لإقامتهم على منازل الشك والريب.
الثانية: تقسم الآية الناس الى قسمين:
الأول: الذين يتبعون الحق الذي انزل من عند .
الثاني: الممترون وأهل الشك والجحود.
الثالثة: في الآية دعوة للإيمان وجذب لمنازل الإيمان والتصديق برسالة النبي.
الرابعة: العقل يدرك لزوم الإنقياد للحق وهو يتبعه طوعاً وانطباقاً اذا لم يطرأ عليه استحواذ النفس الشهوية والغضبية.
وجــاء لفظ الممتــرين بصـيغة الجمع ويتضمن معنى التعدد من وجوه:
الأول: الكثرة في اشخاص اهل الشك.
الثاني: التعدد في طوائف أهل الشك وانتماءاتهم.
الثالث: تعدد مذاهب الشك والجدال.
الرابع: كثرة الكافرين جماعات وأفراداً.
الخامس: تشمل الآية كل سامع لنهيه عن الشك والريب، بالتنزيل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لاصالة الإطلاق، ومصاديق الواقع الخارجي، والشواهد التي تشير اليها الآية الكريمة.
وفي الآية بشارة سيادة كلمة الحق وظهور الإسلام وعلو رايته وخســارة الذين يشكــون بصــدق التنزيل والنبوة، وتبــين الآيــة جـانباً من اللطف الإلهي في زيادة ايمان المســلمين، وجعلهم يحترزون من المغالطة والجدل والغضب، وفيها حرب على الكفر فاذا رأى الكفار عدم انصات المسلمين لهم ونفرتهم من أقوالهم التي تفوح بالضلالة والتجرأ على الأنبياء فانهم يلتفـتــون الى أنفســهم، ويشــعرون بخطـئهم، ويدركون لزوم الإصغاء الى آيات القرآن وما فيه من الحكمة والموعظة وقول الحق.
وتمنع الآية من طرو الشك بعد نزول الحق والإخبار عن قصة زكريا ومريم وعيسى، وتبين الآية بلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أرقى مراتب العلم، الذي يتجلى بعدم طرو الشك والريب على النبي وهو فرد من أفراد العصمة وحاجة للأمة وأجيال المسلمين ومقدمة لتوالي نزول الآيات ومضامين العلم اللدني.
علم المناسبة
ورد لفظ (الممترين) اربع مرات وبصيغة الجمع , وكلها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثلاثة منها بلفظ [لاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ ] ولم يرد اللفظ بصيغة المفرد، وقد ورد ذم الجدل والشك في الإعجاز في ولادة عيسى ورسالته، قال تعالى [ ذَلِكَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ]( ) .
والآية تأديب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في لزوم نصرة الإسلام وتثبيت القواعد والأحكام التي جاء بها، ونفي الإفتراء على الأنــبياء ومنــع الغلو باشــخاصهم، وتبين الآية فضــله تعــالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبارها سلاحاً بيده ضد الكفار قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ]( ).
وقد تقدم ذات اللفظ في الآية السابعة والأربعين بعد المائة من سورة البقرة، ولكن المضامين متباينة على نحو الموجبة الجزئية والتعدد الجهتي، فالآية من سورة البقرة تتعلق بأهل الكتاب ومعرفتهم بالقرآن لوجود البشارة عندهم ولزوم الثبات في أحكام القبلة وعدم الميل الى أهوائهم.
اما هذه الآية فجاءت بخصوص العقائد والوظيفة الشرعية للمسلمين بالذب عن الأنبياء وتنقية ساحتهم، والتوكيد على نبوتهم، وفضح الكافرين الذين يفترون على عيسى او الذين يقولون بالغلو فيه ويجعلونه بمنزلة الأإلوهية او ما يقاربها وبما يجعله أكبر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من أضرار هذا الغلو التخلف عن نصرة الإسلام والإستجابة لبشارة عيسى بسيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بحث بلاغي
من البديع والإطناب فيه (الإيغال) وهو الإتيان بنكتة يختتم الكلام بها مع ان المعنى يتم بدونها، ويسمى الإمعان، وله في القرآن دلالات ومضامين متعددة، ومنه هذه الآية ففي قوله تعالى [ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ] بيان وتمام المعنى لأن الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وانه جاء بثلاثة مضامين:
الأول: انه حق.
الثاني: بلفظ الرب وهو من امهات الأسماء المقدسة.
الثالث: اضافة الرب الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتوكيد بان تعالى هو ربه أي ان قصة عيسى لطف وفضل منه تعالى على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاءت خاتمة الآية دعوة للثبات على الإيمان ومواجهة الجدال والشبهات التي يثيرها اهل الكتاب بالتمسك بالقول الحق، وفي هذا التمسك بعث لليأس والقنوط في قلوب الكافرين وجعلهم يشكون في أقوالهم.
نتيجة الجدال على وجوه محتملة :
الأول : ان يغلب قول الخصم.
الثاني : غلبة كلام ، ودحض حجة الخصم.
الثالث : يبقى كل فريق على رأيه.
الرابع : جاءت خاتمة الآية لغلبة كلام في الجدال والمناظرة بالثبات على الحق والصدق، وبيان الدليل والتفصيل فيه، فاتيان القرآن بالمثل والتشبيه بقصة آدم حجة وبرهان، دعوة للإستعانة بالمثل والتشبيه مطلقاً في توكيد عظيم قدرته تعالى في الخلق والإبداع.
@@@@@@@@
قوله تعالى [ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ] الآية 61.
الإعراب واللغة
فمن حاجك فيه: الفاء: حرف استئناف،، من: اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، حاجك: فعل ماض في محل جــزم فـعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو.
الكاف: مفعول به، فيه: جار ومجرور متعلقان بحاجك.
من بعد ما جاءك: من بعد: جار ومجرور، متعلقان بحاجك.
ما: اسم موصول مضاف اليه، جاءك: فعل ماض، ومفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو،. من العلم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائناً من العلم.
فقل تعالوا: الفاء رابطة لجواب الشرط، قل: فعل أمر، الفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، تعالوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل، جملة (قل) في محل جزم جواب الشرط.
ندع أبناءنا: ندع: فعل مضارع مجزوم، لأنه جواب الطلب.
والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، أبناءنا: مفعول به، والضمير (نا) مضاف اليه، وأبناءكم وما تلاه: معطوف عليه.
ثم نبتهل: ثم: حرف عطف للتراخي، نبتهل: فعل مضارع معطوف على ندع مجزوم والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن.
فنجعل لعنة على الكاذبين: نجعل: عطف على نبتهل، لعنة: مفعول به، وهو مضاف لاسم الجلالة، على الكاذبين: جار ومجرور.
في سياق الآيات
لقد جاءت هذه الآيات بمضامين قدسية تتعلق بقصة عيسى ، والبراهين القاطعة التي جاء بها وما يترشح معنها من مصاديق الإعجاز في ولادته، فمن يتكلم في المهد لابد انه خلق بمعجزة ولازمته الآيات مدة حياته كلها التي ختمت على نحو موؤقت بالرفع أي ان مغادرته للدنيا لم تقمع بل هي أمر معلق الى حين، ومن الآيات ان يعلم الناس بوجود فرد طاهر منهم في السماء وهو من أهل الدنيا وينتظر عودته اليها بحاله التي غادرها فيها .
وبعد ان أكدت الآية السابقة صدق التنزيل وصحة ما فيه من الإخبار عن قصة عيسى وانها حق وصدق، جاءت هذه الآية في باب التحدي والإحتجاج بصيغة المباهلة وفيه توكيد عملي لمضامين الآيــات الســابقة وتنزيه للمجتمعات وحصانة للنبوة والآيات التي جاء بها عيسى.
اعجاز الآية
في الآية مسائل متعددة:
الأولى: الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بالإحتجاج فيما يخص عيسى عليه السلام .
الثانية: مجيء لغة المباهلة في الآية وجعلها نظاماً خاصاً له قواعده وأصوله.
الثالثة: تأسيس قاعدة كلية وهــي اعتبار قصص القرآن علماً مستقلاً، بل ان كل موضوع منهما علم مستقل لأن الآية نعتت الإخبار عن قصة عيسى بانه علم.
الرابعة: الإخبار عن مجــيء من يحتــج بخصـوص ولادة عيسى ونبوته من علم الغيب، فكما أخبر القرآن عن القصص والوقائع من الزمن الماضي فانه أخبر عما سيحدث في المستقبل بخصوصها.
الخامسة: التفصيل في أحكام المباهلة وذكر أفرادها على نحو التعيين النسبي المستوعب لأخص صلات القربى.
السادسة: جعل النبي غنياً بالعلوم التي رزقه بالقرآن.
السابعة: مدح المسلمين وجعلهم بمرتبة العلماء بنزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة: تبين الآية جانباً من الجهاد وهو الجهاد بالإحتجاج والمباهلة.
التاسعة: اشتراك الأهل والأبناء في هذا الجهاد من وجهين:
الأول: اشتراكهم في المباهلة.
الثاني: تعريضهم لآثار المباهلة، وهذا الوجه سالبة بانتفاء الموضوع لصدق النبي وأهله والمسلمين في المباهلة.
العاشرة: قيادة النبي للجهاد في باب الإحتجاج.
الحادية عشرة: القطع باستجابة الآل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته للملاعنة.
الثانية عشر: كفاية الإخبار السماوي للتحدي وزج الأهل في الملاعنة ومواجهة الكافرين.
الثالثة عشرة: لزوم الشكر له تعالى على نعمة العلم.
الرابعة عشرة: من أفراد العلم والشكر له تعالى عليهى النبي الخروج بالأبناء للمباهلة والملاعنة.
الخامسة عشرة: قيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الطاهرة الملاعنة مع الكفار، وبما انه محط ومنزل الرحمة خصــوصاً وان مجــيء العــلم من الرحمة، فلابد وانه معصوم من اللعنة، ويلحق به أهل بيته الذين يتحدى بهم في ميادين المباهلة.
السادسة عشرة: الأمر بالمباهلة يدل على موضوعيتها والحاجة النوعية العامة لها.
السابعة عشرة: في الآية تشريع لنظام وسنن جديدة في باب العقائد، باشراك الأهل والأبناء في الإيمان وزجهم بالجهاد ولكن ليس بالسيف بل في ميادين المباهلة، التي تكون حائلاً دون وقوع معارك كثيرة.
الثامنة عشرة: لقد جاءت الآيات القرآنية بالمقدمات البرهانية , وجاءت هذه الآية بأمور:
الأول: الحث على الإحتجاج واقامة البرهان.
الثاني: الإنتفاع من علوم القرآن لغرض افحام الأعداء وتوكيد صدق التنزيل وان المسلمين أختاروا سبل الحق.
الثالث: اتخاذ المباهلة وسيلة لحسم الجدال وفضح العدو ونزول العذاب والبلاء به.
التاسعة عشرة: نعت موضوعات الآيات القرآنية وما فيها من الإخبار بالعلم كما في قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ] تشريف لها، ودعوة للتدبر بها.
لقد جاءت المباهلة مع أهل الكتاب من وفد نجران واليهود لتكون تأديباً للمشركين من باب الأولوية، لقد كان كفار قريش يسألون الهود عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعتبارهم أهل كتاب وعندهم أخبار الأنبياء وعلاماتهم وصفاتهم فجاءت آية المباهلة لتثبت لهم خطأ رجوعهم لليهود لظهور الحجة عليهم وفرارهم أمام التحدي الإسلامي القائم على البرهان والحجة.
وصحيح ان المباهلة فعل مخصوص يتعلق باللجاج والعناد واصرار الخصم على الجدال والمناظرة، الا ان الأمر بها أعم في الموضوع والحكم فانها تدل على اشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والمسلمين في وجوه من الجهاد غير المعارك والقتال.
وفيها اشارة الى الواجهات الثقافية والدعايات الإعلامية والتداخل بين الأمم وتقارب الحضارات ولزوم أهلية المسلمين للتصدي الى أفكار الضلالة بالحكمة والموعظة الحسنة واللجوء الى الدعاء عند الحاجة وتوقف منع الجدال والخصومة عليها، وليعلم المسلمون ان خير حافظاً وهو الذي يتعاهدهم والإسلام , وينتقم من الذي يصر على عداوتهم والتكذيب بالآيات القرآنية ومضامين النبوة.
وتبين الآية جهاد المسلمين في باب الإحتجاج فالأصل ان يقوم المسلمون بالإحتجاج على الكافرين فيما يظنونه من العقائد لتنفيذها بالتنزيل والبراهين الشرعية والعقلية، ولكن الكافرين هم الذين سارعوا الى الجدال واثارة الشبهات، فلذا جاءت آية المباهلة للتأديب والإنذار والوعيد بالعقاب لأن الأصل ان يتلقوا الإحتجاج لا ان يبادروا الى المغالطة.
وتسمى هذه الآية “آية المباهلة” ولم يرد هذا اللفظ في غير هذه الآية، وهو اعجاز اضافي لها، في اللفظ والمضمون والقدسية والأهمية الخاصة.
الآية سلاح
تبعث الآية اليقين في النفس، وتجعل المسلم يقطع بصحة اخبار القرآن عن عيسى ، ويتحدى الآخرين في تثبيتها وامضائها، وعدم تردد المسلمين او خوفهم من المباهلة وتنفي الآية اصغائءهم لأقوال الكافرين وافترائءهم على عيسى، وما يأتون به من مسائل الإحتجاج والآية دعوة لإبطال حججهم وكشف زيفها.
مفهوم الآية
بنزول القرآن بقصة عيسى، صار هنالك قول ثابت في الأرض يتصف بانه سماوي ويتمثل بـ:
الأول: ولادة عيسى بآية اعجازية والنفخ الملكوتي في مريم.
الثاني: عيسى من الأنبياء والرسل.
الثالث: مجيء عيسى بالآيات البينات .
وكان هناك قولان:
أحدهما يقول بالأول: ان مريم ولدت ابن ، والآخر .
الثاني: الذي جاء بالأإفك عفيها ورموها بالنسبة اليهى يوسف النجار، .
وهذا فمن اعجاز القرآن ان يأتي القرآن ببيان الحقائق بما يظهر الخلل ويكشف التحريف ويدفع الأإفك.
وتبين الآية أهلية المسلمين للإحتجاج واقامة البرهان والتصدي للمناظرة، وهذه الأهلية مكتسبة بالقرآن وآياته وتدل بالدلالة التضمنية على استجابة أهل بيت النبوة لأمر النبي بالمباهلة وحضورهم معه، ويترشح من هذا الحضور ايمانهم بالاآيات وان العلم الذي جاء للنبي يتغشى أهل بيته والمسلمين جميعاً، وفي الآية مسائل:
الأولى: الإنتفاع الأمثل من نزول الآيات القرآنية لتجلي آثارها بالقدرة على البرهان.
الثانية: الإخبار عن حصول الإحتجاج والجدال مع الآخرين من الملل الأخرى.
الثالثة: جاءت المباهلة على نحو الأمر الإلهي وليس الإذن وحده وما يفيد الإباحة، والأمر بها أعم من وقوعها، ولكنه ينبئ عن استعداد النبي لها وعزمه على التصدي لها بفخر واعتزاز.
الرابعة: جاء الأمر بالمباهلة متعقباً لمجيء العلم، فالعلم مادة المباهلة الواقية من شرور الملاعنة والسلاح لقهر الكفار والأعداء.
الخامسة: بيان القواعد والأصول العامة للمباهلة ومنها:
الأول: ابتداء النبي بالدعوة للمباهلة.
الثاني: عدم الدعوة لها الا بعد ان يأتي الكفار للإحتجاج والجدل.
الثالث: تعيين اطــراف المباهلة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم تركه للكفار.
الرابع: دخول الأهل وأقرب الناس في المباهلة لإقامة الحجة.
الخامس: التكافئ والتساوي من الطرفين بخصوص اشتراك الأهل لإظهار التحدي وحال اليقين، ولبعث الفزع والخوف في نفوس الكافرين.
السادسة: المباهلة وسيلة ومادة للإحتجاج، فهي دعوة الى وبرزخ دون التعدي والظلم والقتال، فقد يأتي شخص او جماعة من أهل الخصومة والعناد للإحتجاج والجدال فتدعوهم للمباهلة فيمتنعون وفيه اقرار عملي بانعدام حال اليقين عندهم، ويتسرب روح الشك الى نفوسهم فيما كانوا يظنون.
السابعة: ان لعنة على الكاذبين من غير ملاعنة، ولكن الملاعنة تأتي للتوكيد واشتراك الكافر بلعن نفسه.
الثامنة: استجابة الآل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستعدادهم لحضور المباهلة حيث يأمر ويختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسعة: تدل الآية على تصديق اهل بيت النبوة للنبي في دعوته لدرجة استعدادهم للتضحية، وهذه الحال لا تكون الا مع ادراك صدق النبي في دعوته وعلى نحو يومي محسوس، لأن إيمان الأهل يختلف عن غيره، فهم يرون دقائق الأمور، والوقائع اليومية ويطلعون على الحقائق كما هي من غير حجاب او تستر، ولقد كان أهل بيت النبوة أول النايس ايماناً وأكثرهم تصديقاً برسالته صلى الله عليه وآله وسلم وتجلى هذا الايمان في هذه الوثيقة القرآنية.
العاشرة: عدم الوقوف عند حال الإحتجاج، فالآية تدعو للجوء الى المباهلة والدعاء والملاعنة وسؤال عزوجل انزال العقاب بالكاذب، وفيه أمور:
الأول: عدم حسم الإحتجاج وبقاء كل فريق على رأيه ومذهبه.
الثاني: تكذيب الكافرين للحق الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ارادة الكافرين الإيذاء والحرب بالإحتجاج والجدل والمناظرة والا لما أدى الأمر الى المباهلة، لذا جاء أول الآية بنسبة الإحتجاج وابتدائه الى الكافرين وانهم أختاروا الخوض في العلوم القرآنية واسرار الغيب التي جاء بها القرآن، فكأنهم أختاروا العداوة والحرب مععلى النبوة والتنزيل.
الحادية عشرة: جاءت الآية بالتفصيل في ذكر أفراد الأهل الذين تتم المباهلة بهم وهم:
اولاً: الأبناء وبصيغة الجمع.
ثانياً: النساء.
ثالثاً: الأنفس، والمراد غير شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مانع من التعدد وارادة نفس النبي ايضاً والتي تظهر من قوله تعالى [ثُمَّ نَبْتَهِلْ].
الثانية عشرة: اشتراك الأهل جميعاً في المباهلة، بمعنى ان وظيفتهم ليس الحضور وحده، بل المساهمة في الدعاء والملاعنة مما يعني انهم على علم ووعي بالفعل وآثاره ونتائجه، وعلى ثقة واقرار بالإسلام وصدق التنزيل، وهذا فخر لهم وللإسلام ولالمسلمين جميعاً ان يكون ابناؤهم ورثة لعقيدة التوحيد ويتولون مهام الجهاد وتحمل أعباء المسؤوليات العقائدية في حياة الآباء بما يتخطى قوانين التركة، ويجعلهم مؤهلين لخلافة الأرض ومواوجهة الكافرين والآباء بين ظهرانيهم، وفيه قرة عين وسر للآباء وسكينة لنفوسهم، كما انه سبب لزيادة الإيمان في نفوسهم، بمعنى ان الشخص يكتسب الإيمان من آبائه ويزداد من ايمان ابنائه وهذا سر ينفرد به الإسلام.
لقد دعا عيسى بني اسرائيل الى عبادة وطاعته كما تقدم( )، فأبوا واصروا على ما هم عليه وجحدوا برسالة عيسى الا الحواريين، وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته بالجهاد معه في المباهلة فبادروا اليها طائعين، وأمر أصحابه بالجهاد في سبيل في ميادين المعركة فلم يترددوا او يبخلوا بالدم والنفس.
لقد خاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفد أهل نجران بانه يدعو اهل بيته، ثم يخرج معهم، أي ان الخطاب ودعوة وفد أهل نجران جاءا قبل ان يدعو اهل بيته بمعنى ان خروجهم معه الى المباهلة من المسلمات وفيه دلالة على انقياد أهل البيت لأمر النبي.
والمباهلة وان تضمنت الملاعنة والطرد من رحمة الا انها لا تخرج عن مضامين الإصطفاء والرافة الإلهية من وجوه:
الأول: عدم وقوع المباهلة ذاتها، لإمتناع أهل الكتاب عنها سواء كان هذا الإمتناع بالصرفة أي ان صرفهم عنها رأفة بهم، وامهالاً او لأنهم رأوا الآيات وصدقها وهو الذي تدل عليه الأخبار.
الثاني: ان المعاند والذي يصر على الجحود ويخرج عن أحكام الإصطفاء والرأفة باختياره وظلمه لنفسه ثبت في علم الأصول ان الإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
ولما سأل ابراهيم الإمامة ورد في التنزيل [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ).
الثالث: ان المباهلة لإحقاق الحق وحفظ النظام، وقواعد التنزيل فلا يمنع من تشريعها اصابة بعض الكافرين الذي يقدمون عليها بالضرر.
وتمنع الآية من الإفتراء والغلو من قبل الناس لأنهم يعلمون ان المباهلة واللعنة تنتظرهم من المسلمين وحملة القرآن، بمعنى ان آية المباهلة حصن وواقية من التمادي في الغلو والإفتراء واستحداث موضوعات جديدة منهما.
وجاءت المباهلة بالنفوس الشريفة، ولم تتعرض للمال وبذله لأنه لا شيء أغلى من النفس، ولأن المباهلة مقدمة لإستئصال الباطل.
قانون المباهلة
مع كل آية من القرآن يطل علينا علم او علوم جديدة، منها امما أستقرأ وتم استظهاره ومنها ما ينتظر أوانه وما يساعد على التوصل اليه من العلة المادية كمناسبة الموضوع والحكم والإجتهاد المتعدد في الغوص في علوم القرآن .
وجاءت هذه الآية بسن نظام المباهلة وتأسيس قواعده ليكون قانوناً ثابتاً في الأرض وتشريعاً دائماً ومن الأسرار فيه ان مصاديقه قليلة جداً مع ان علة تشريعه هو قيام الكفار بالجدال والإحتجاج ومناظرة المسلمين، وهذا الأمر ظاهر ومحسوس وتراه في كل مكان وزمان الا ان الأمر لم يصل الى المباهلة فما هو السبب، فيه وجوه:
الأول: تقييد المباهلة بشروط وحالات مخصوصة.
الثاني: تعيين موضوع المباهلة كما لو كان خاصاً بقصة عيسى والآيات التي جاء بها.
الثالث: المباهلة توكيد للإيمان وبلوغ مراتب رفيعة في المعارف الإلهية والإستفادة مما في آيات القرآن من العلوم.
الرابعة: يدل هذا القانون على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على غيرهم، مع امتلاكهم لصناعة الجدل وبلوغ المطلوب ونتيجة القياس بما أنزل عليهم من الآيات والعلوم وكشـف لهم من أسرار الغيب فانهم يمتازون علىن غيرهم بسلاح المباهلة، هذا الســلاح الذي لـم يمتلكــه غيرهم من الأمم ولن يســتطيع غيرهم امتلاكــه لأنه كنـز سماوي خاص بهم، ويحتاج كماله وتمامــه الى الجــزاء الإلهي وهـو اللعنة على الكاذبين.
ويدل هذا القانون على ملازمة المسلمين للصدق وقول الحق في باب العقائد والنبوات والأحكام وفق ما جاء به القرآن، ويمنع المسلمين من التحريف والتغيير والتبديل، فسلاح المباهلة وسر انتصارهم في المناظرة وعواقبها هو التقيد بما جاء به القرآن خصوصاً وان دعوة القرآن للمباهلة لا تعني حصر الدعوة لها بالمسلمين، فقد يطلب الطرف الآخر المباهلة غروراً وعناداً واستكباراً، .
وتبين الآية اتحاد البرهان في الموضوع الواحد، فلابد ان يكون الحق الى جانب أحد الطرفين دون خصمه، فمن يلجأ الى الجدل ويسد اذنه عن سماع البرهان والتدبر فيه تكون أمامه المباهلة وما يترتب عليها، وفي هذا القانون مدد الهي للمسلمين من وجوه:
الأول: الإرتقاء في سلم العلوم.
الثاني: القدرة على صناعة الجدل والمناظرة.
الثالث: بعث السكينة بالنفس وعدم الخــوف من الكفار وما سيأتون به، فمتى ما ادرك الإنسان انه على الحق فلا يضره مواجهة الباطل ويكون مستعداً للتصدي له.
الرابع: يرفع الحرج من المباهلة والملاعنة، فلولا هذه الآية لما أقدم مسلم على المباهلة وان حصل فهو فرد نادر ويلاقي معارضة متعددة الوجوه، فجاءت هذه الآية لنفي الحرج منلتشريع المباهلة.
الخامس: لو حصلت المباهلة فان المسلم يفرح بجهاده في باب الكلمة والإحتجاج، ويطمئن وأهله لما فعله، ويتطلع الى بطش وغضب على الكافرين وظهور أماراته عليهم عاجلاً او آجلاً.
والمباهلة وان جــاءت بخصوص قصــة عيســى الا انها أعم ولا تنحصر بموضوع مخصــوص، او زمان معين، فلذا يصدق عليها انها قانون ولا يضر بها ندرة حدوثها، فيكفي ان المسلم أيستعد للإحتجاج والمباهلة.
ومن شرائط هذا القانون سبق الإحتجاج واقامة البرهان ودعوة الناس للإيمان بالدليل وذكر البديهيات والمشهورات والآيات التي تدل على صدق التنزيل، كما في ميدان المعركة وسبق الوعظ والنصح للقتال ودعوة الكافرين للإسلام وترغيبهم فيه وحثهم على ترك قتال المسلمين واستعمال سلاح البشارة والإنذار والوعد والوعيد قبل وقوع المعركة، فكذا بالنسبة للمباهلة فيأتي الإحتجاج واقامة البرهان قبل الدعوة اليها، وهذا من عمومات قواعد اللطف الإلهي والرحمة الإلهية.
قانون علم الآية
الآية هي العلامة والدلالة والبينة، فكل آية تدل على شيء او أشياء وهذه الدلالة علم قائم بذاته، لأنها لا تدل الاعلى كنز من كنوز المعرفة الإلهية، كما انها تفتح خزينة من خزائن العلم السماوي الذي شرف به الإنسان بالقرآن .
ومتعلق العلم في القرآن يحتمل ثلاثة وجوه:
الأول: وجود العلم في القرآن على نحو اجمالي، فلا يدرك العلم الا بالرجوع الى عموم القرآن وآياته وسوره كلها.
الثاني: وجود العلم في شطر من آيات القرآن دون الشطر الآخر.
الثالث: تضمن كل آية قرآنية علماً خاصاً.
والصحيح هو الأخير، فليس من آية قرآنية الا وفيها علم خاص على نحو الإتحاد او التــعدد، وهــذا من اعجاز القرآن، وعظيم نفعه وما فيه من الأسرار القدسية، وفيه بيان للتبايــن بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وتوكيد على عجز الخلائق عن الإتيان بجزء من آيات وسور القرآن وهذه النظرية دعوة لتلمس أبواب العلم في كل آية والإستعداد لتدبرها واســتقرائها واســتظهار وجوه العلم فيها، والناس فيها على وجوه:
الأول: قراءة الآية من غير التفات لموضوع العلم الخاص بها، ويتم تفسير الآية من غير استظهار هذا العلم.
الثاني: معرفة ما في الآيات من العلوم عن طريق علماء التفسير والفقهاء وغيرهم من المختصين بالعلوم المختلفة.
الثالث: مجيء الوقائع والأحداث مناسبة لمنطوق او مفهوم الآية القرآنية، وكذا بالنسبة للإكتشافات الحديثة، فيشار الى الآية القرآنية التي تنبأ عنها.
الرابع: التحقــيق والإستنباط والإســتقراء لما في الآية القرآنية من العلوم.
ان تقسيم القرآن الى آيات علم توقيفي نزل به جبرئيل ولابد له من دلالات منها اختصاص كل آية بعلم خاص وفي هذه النظرية مسائل:
الأولى: التقاء أكثر من آية بذات العلم، فكل آية فيها جانب وجزء منه باعتبار ان العلوم مركبة، وفي هذه الصورة يصدق على جزء العلم انه علم، ونسميه (الجزئية).
الثانية: ان يكون ما في الآية مقدمة لعلم تتضمنه آية أخرى ونسميه (المقدمة) وهذا لا يمنع من أمرين:
اولاً: اعتبار هذه المقدمة علماً مستقلاً.
ثانياً: اعتبار هذه المقدمة ذاتها مقدمة لعلم ومقدمة في آية أخرى.
الثالثة: وجود علم خاص بالآية الكريمة من غير حاجة الى جمع مضامين آية أخرى معها لتحصيل هذا العلم.
الرابعة: اجتماع والتقاء عدة آيات في ذات العلم، فكل آية منها تتضمن ذات العلم لتكون كل واحدة توكيداً للأخرى.
الخامسة: تكون الأمآية تعضيداً للعلوم الأخرى، بان تصلح لدفع الشك والوهم والريب والإشكال، لذا تجد في القرآن الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمبين، ان هذه النظرية تفتح آفاقاً مستحدثة من العلم وفيها تفسير لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]، ومن منافع نظرية العلم كشف الحقائق، واثبات اعجاز القرآن في باب العلم وبيان موضوعية تقسيم القرآن الى آيةات وانه حاجة وباب للنفع العلمي.
قانون العمل
يعتبر العمل أهم وسيلة لحفظ العلم، والمنع من رفعه او نسيانه والمسلمون قادة الأمم في توظيف العلم للعمل، وترسيخ العلم بالعمل، وقد تقدم قانون علم الآية، أي في كل آية علم خاص يمكـن استقراؤه واستظهاره، وهذا من أسرار التنزيل وافاضات القرآن ليكون هذا العلم سلاحاً بيد المسلم وآلة للإرتقاء في سلم المعرفة.
فمن كنوز القرآن ان علومه لا تنحصر في باب النظير والكسب، بل توظف في الواقع العملي من وجوه:
الأول: درء المفاسد.
الثاني: اجتناب الفواحش.
الثالث: الإحتراز من الإفتتان.
الرابع: الإنتفاع العملي من علوم الآية القرآنية.
الخامس: تثبيت المبرز الخارجي الذي يؤكد أهلية المسلمين لتلقي الآيات.
السادس: اقامة الحجة على أهل الملل الأخرى، الذين نزل عليهم الكتاب ولكنهم لم يتعاهدوا العمل بآياته.
السابع: اتخاذ الآية وسيلة مباركة لإصلاح النفوس والمجتمعات أي ان العمل بمضامين الآية القرآنية لا ينحصر بالنفس والذات بل يشمل الغير عقيدة وعملاً.
ومن مصاديق التعضيد التعضيد العملي لآيات الأحكام وهو من أشرف أنواع التعضيد التي شهدها تأريخ الإنسانية منذ خلق آدم والى يومنا هذا، فمثلاً جاءت آيات الطلاق بأحكام خاصة مثل عدم جواز رجوع الزوج بالمطلقة ثلاثاً الا بعد ان يحللها شخص آخر.
ولا زال المسلمون والى يومنا هذا ملتزمين بأحكام هذا التشريع مع ما فيه من الفغضاضة على الزوج الأول، وقد لا ترجع له، لعدم الملازمة بين التحليل والعودة الى الزوج الأول، بل لا يجوز ان يكون التحليل بشرط الطلاق، ورجوع المرأة للزوج الأول، .
وكذا بالنسبة لضوابط الملكية وقوانين الأرث وأحكام العبادات والمعاملات، فليس من أمة قامت بتعضيد كتابها المنزل بمثل ما فعل المسلمون وتعاهدهم لكل آية من آيات القرآن وما فيها من العلوم والسنن والأحكام، ومن المفاخر الإنسانية التي يتباهى بها الإنسان امام الخلائق الأخرى ان المسلمين تقيدوا بفريضة الحج، ولم يكتفوا بالتقيد بالفريضة بل بكل نسك جاء به القرآن او السنة النبوية الشريفة.
التفسير
قوله تعالى [ فَمَنْ حَاجَّكَ]
الآية خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه وجوه:
الأول: تشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واكرامه بافراده في لغة الخطاب وان كان مضمون الآية أعم.
الثاني: دعوة المسلمين للتعلم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ الدروس والعبر من سنته وسيرته.
الثالث: معرفة تأديب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكيفية تعليمه وارشاده في ميادين العلم والمعرفة.
الرابع: اصلاح النبي الأكرم والمسلمين للإحتجاج واقامة البرهان.
الخامس: الآية شاهد على تعيين كيفية مواجهة أهل الكتاب وغيرهم بالإحتجاج والبرهان مع الإستعداد لإعلان سلاح المباهلة والشروع بفيها.
السادس: الخطــاب الشــخصي للنبي عنـوان أفضــلية النـبي على الناس.
وقد جــاءت الآية بخصــوص الجدال والإحــتجاج، وفي قوله تعالى [ فَمَنْ حَاجَّكَ] وجوه:
الأول: في الآية اعجاز لما تــدل عليه من قيام بعض أهل الكتاب والكفار بمحاججة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واختباره وعرض ما عندهم عليه واظهار اصرارهم على ما يخالف التنزيل.
الثاني: الآية دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإستعداد للإحتجاج والجدال وتلقي أسباب الخصومة.
الثالث: الآية زجر ومنع من توجيه اللوم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند استماعه لإحتجاج الكافرين ومناظرتهم له، فلولا هذه الآية لقام المسلمون بتوبيخ الكافرين على تجرئهم على مقام النبوة وقيامهم بالإحتجاج بالباطل مع ظهور العلم والحق وتوالي الآيات على يد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وفعلاً حينما دخل وفد النصارى مسجد النبي بنواقيسهم، ولما أراد المسلمون نهيهم منعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ففي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام : أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد – وحضرت صلوتهم فأقبلوا يضربون الناقوس( ) وصلوا – فقال أصحاب رسول الله يا رسول الله هذا في مسجدك – فقال دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو؟ فقال إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث.
قالوا فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قل لهم ما تقولون في آدم أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي فقالوا نعم: قال فمن أبوه؟ فبهتوا فأنزل الله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية وقوله فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم – إلى قوله فنجعل لعنه الله على الكاذبين.
فقال رسول الله – فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم وان كنت كاذبا أنزلت عليّ فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤسائهم السيد والعاقب والاهتم ان باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا وإن باهلنا باهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق( ).
و(من) في قوله تعالى [ فَمَنْ حَاجَّكَ] اسم شرط جازم، ولكن المعنى واحد بين اسم الشرط والإستفهام، والاسم الموصول والنكرة الموصوفة فكلها تشير الى شخص او جماعة ولكن الفارق في الحالة الإعرابية والتقسيم حسب الصناعة النحوية وسياق الكلام، وفي الآية وجوه:
الأول: تعلق موضوع الإحتجاج بالمتحد والمتعدد، فقد يأتي شخص مشرك، او من ملة مخصوصة، وقد يأتي جماعة من ملة معينة كما في أسباب نزول هذه الآية ومجيء وفد نصارى نجران، وقد تأتي جماعات من ملل متعددة وفي مجلس واحد.
الثاني: وجود من لا يقر بالتنزيل الوارد بخصـوص عيسى او مطلقاً.
الثالث: اخبار أهل الكتاب والمشركين بحكاية القرآن لما في نفوسهم من ارادة الجدال والمناظرة والخصومة.
الرابع: في الآية دلالة على تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه الجدال والإحتجاج على الكفار، لذا لم تر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوكل مسألة الإحتجاج لغيره من الصحابة مع أهليتهم للمناظرة والإحتجاج بل يتلقي بنفسه الجدال ومسائل الشك والريب ويجيب عليها من غير غضب او انفعال، ويمنع المسلمين من ايذاء السائل وبما يبعث في نفسه الإقرار بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: تبين الآية وظيفة من وظائف النبوة وهي الجدال بالحق ورد الشبهات، وهي من مصاديق البشارة والإنذار فلا يكتفي النبي بتلقي الوحي وتبليغ الأحكام النازلة من السماء، بل يقوم بالذب عنها والدعوة اليها وفضح ما يخالفها من الأباطيل بالدليل والبرهان.
السادس: تبين الآية لزوم الإنتفاع من التنزيل في الحياة الجهادية والميادين العملية والصلات مع الملل الأخرى، وان الآيات لم تنزل للتبليغ والعلم الذاتي وحده، او حصره بالمسلمين، بل هو دعوة للناس جميعاً، ولكن كيفية الدعوة على وجوه هي:
الأول: الخطاب المباشر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [ فَمَنْ حَاجَّكَ].
الثاني: تلقي المسلمين للتنزيل والأوامر الإلهية بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: الناس جميعاً بالإحتجاج والبرهان، مما يعني ان مجيء الآخرين للإحتجاج رحمة مركبة من وجوه:
أولاً: اثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً: تعلم المسلمين دروس الإحتجاج ومقدمات البرهان.
ثالثاً: دعوة المسلمين للإقتداء بالنبي في كيفية مقابلة احتجاج أهل الكتاب وشبهات الكافرين وكيفية دفعها.
رابعاً: اقامة الحجة على الناس باتيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحجة الدامغة، والبرهان القاطع.
السابع: في الآية تأديب للفقهاء والعلماء والقادة بان لا يتركوا لمن هو أدنى منهم منزلةمقام ووظائف القيام بالإحتجاج والرد على الشبهات بل عليهم ان يباشروا بانفسهم الإحتجاج والبرهان.
الثامن: تبين الآية ما كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى فمع ظهور المعجزات على يديه وتوالي نزول آيات القرآن فان قوماً يأتون للإحتجاج والجدال، فيجيبهم ويتولى الرد واحضار الدليل ودفع المغالطة.
والإحتجاج نوع مفاعلة بين طرفين كل واحد منهما يقوم ببيان حجته ويحاول افحام الخصم اما هذه الآية فجاءت بصيغة الإحتجاج من طرف واحد ويحتمل أموراً:
الأول: ذكر المفرد وارادة المتعدد.
الثاني: الآية لبيان موضوع الإحتجاج.
الثالث: المراد هو الجدال بالباطل من قبل الكافرين .
والأخير هو الصحيح، فقد جاء القرآن بالآيات التي تبين الإعجاز في ولادة عيسى وطهارة واصطفاء مريم، وليس للناس ان يحتجوا او يعترضوا بل عليهم ان يتلقوا بالقبول والفخر هذه الآيات، فمن أحتج فقد أختار المغالـطة واثارة الشبهات فجــاءت الآية بذمـه ومناظرته وانذاره بالمباهلة.
قانون الجدل
يعتبر الجدل صناعة قديمة وملازمة للمجتمعات الإنسانية الصغيرة والكبيرة، ويحصل بين أهل البيت الواحد، والأصحاب والشركاء والأطراف المتخاصمة والمتنازعة.
والجدل لغــة اللدد في الخصومــة يــقال جادله مجادلة وجــدالاً، ويقال جادله أي خاصمه بلغة الجدال والحجة والجدل لمقابلة الحجة، وللجدل معنيان:
الأول: مذموم ويدل على اللجاج والمغالطة والخصومة القولية في الباطل وقد وردت آيات كثرة تبين جــدال الكـفار وما كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من جدالهم قال تعالى [وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ] ( ).
الثاني: محمــود وهــو الجدل لإظهــار الحــق ودحض الباطــل، وقـد ورد النهي عن الجدل وفي الحديث: “ما أوتي الجدل قوماً الا ظلوا”( )، ومنه دفع الشبهات قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] ( ).
والمسلم لا يختار الجدال لأنه يبين حجته ويأتي بدليله ولكن الكفار لا يرضون بسيادة الحق ولا يكتفون بالجحود وعدم الإنصات له بل يختارون الجدال، فيكون جدال المسلمين معهم رداً وحجة عليهم، كما يأتي ابتداء لتنبيه الكافرين الى لزوم الإنقياد للنبوة .
وتبين آيات الجدال في القرآن جهاد الأنبياء في باب الجدال وما كان يواجهونه من قومهم من الأذى وكيف ان يعلم الأنبياء صناعة المناظرة والجدال بالحسنى، لتكون مدرسة مستقلة وعلماً قائماً بذاته وفرعاً من فروع النبوة وباباً للدعوة الى وتثبيت المؤمنين في منازل التقوى، والقاء السكينة في نفوسهم.
لقد أكد القرآن حقيقة وهي ميل الإنسان للجدل قال تعالى [وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ] ( ) ، مما يعني اعطاء موضوع الجدل أهمية خاصة، لذا جاء الأمر الإلهي بالجدال بالموعظة وبما هو أحسن وأنفع، وأعطت الإذن للنبي لإجتناب الجدال ويكون الرد هو تفويض الأمر الى تعالى [ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ] ( ).
وقد أكرم الأنبياء وأجــاب عن اسئلتهم كــما ذكر القرآن احتجاج ابراهيم مع الملائكــة طــمعاً في رحــمة ومغفرته ورضوانه قــال تعالى [ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ]( ).
ويعتبر الجدل صيغة من صيغ الإحتجاج لأنه يتضمن الإستدلال وان كان أدنى مرتبة من البرهان، وهناك اختلاف بين جدال اهل الحق وجدال الكافرين، للتباين في الآلة والغرض فالمسلم يأتي بالبرهان والدليل ويكون على الحق وغايته الإصلاح والرشاد، والكافر ينتهج الباطل ويفتقر الى مقدمات البرهان ويلجأ الى الإستقراء والتمثيل والمغالطة.
لقد اتخذ الأنبياء والمسلمون الجدل صناعة للإحتراز من المغالطة ولدفع الشبهات وتثبيت أركان التوحيد في الأرض، وكم من انسان جاء مجادلاً، فرجع مؤمناً.
قوله تعالى (فيه) أي في موضوع الإحتجاج والجدال، وفي الآية اعجاز يتجلى من وجوه:
الأول: الإتيان بالجار والمجرور للبيان.
الثاني: تفيد الآية الحصر لموضوع الإحتجاج.
الثالث: مجيء محل الجدال بصيغة الضمير الغائب (الهاء) وفيه وجوه:
أولاً: ارادة عيسى وقصته والشبهة بانه ابن .
ثانياً: عودة الضمير للحق لم اأورد في الآية السابقة [الحق من ربك]
ثالثاً: التنزيل.
رابعاً: المثل والبرهان الذي ذكرته الآية قبل الأخيرة والتشبيه بين خلق عيسى وخلق آدم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهذا من اعجاز القرآن وأسرار مجيء الضمير (الهاء) ولكن بعضها أعم من الآخر فالتنزيل أي الثالث هو الأعم ثم الثاني ثم الأول ثم الرابع.
وعلى فرض ان المراد بالضمير هو عيسى وولادته وخلقه وعبوديته لله تعالى، فهل يعني هذا انحصار المباهلة بقصة عيسى الجواب لا، بل هي علم وجهاد مستقل بذاته جاء موضوع عيسى من باب المثال والفرد الأهم، والحجة الحاضرة.
وقد تقدم ان الإفتتان والإمتحان بقصة عيسى على نحو مركب ومتناقض فمنهم من دعى له البنوة ونسبه الى لأنه ليس له أب، ومنهم من طعــن بمريم بذات الســبب أي لأنه لم يولــد عن نكاح فجاءت المباهلة وسبب النزول بخصوص الفريق الأول وهــو وفــد نصارى نجران.
فهل يعني هذا انحصار المباهلة به، وعدم جواز اللجوء الى المباهلة مع الذين يفترون على عيسى، الجواب لا، فسبب النزول لا يخصص موضوع ومضمون الآية بالإضافة الى إصالة الإطلاق، وعموم أحكام الآية، ولصيغة المضارع التي جاءت بها خصوصاً وانها لا تحكي واقعة المباهلة وحصولها بزمن الماضي بل جاءت بصيغة المضارع التي تفيد الدوام والإستدامة وحضور الحكم للموضوع في حالة وقوعه.
وهذا سر من أسرار القرآن وفرد من الذخائر القرآنية والآية تفتح آفاقاً من العلم وأبواباً من الجهاد للمسلمين ولماذا تعلق موضوع المباهلة بالنصارى دون اليهود مع ان كلاًُ منها ذهب الى ما يخالف الحق في عيسى الجواب من وجوه:
الأول: ان الآية مطلقة وشاملة للجميع، فكما انها تتحدى الشبهات فانها تذم الإفتراء.
الثاني: مسألة عيسى ركن في عقيدة النصارى فلابد من كشف الحقيقة وبيان الحق.
الثالث: ان المسائل التي يجادل بها بنو اسرائيل اعم وأكثر.
الرابع: الظاهر ان النصارى يصرون على قولهم في عيسى بينما بنو اسرائيل لا يصرون عليه لا أقل في حضرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الخامس: خصوصية النصارى انهم سبب في نزول الآية ولما رأى غيرهم حال اليقين عند النبي وأهل بيته والمسلمين لم يـتجرأ على الإستمرار بالجدال.
السادس: التباين بين نصارى نجران وغيرهم في المقام صغروي لأن نصارى نجران اعتذروا عن المباهــلة، وسألوا التراضي والتسوية، وقبلوا الجزئية واليهود قبلوا بها قبلهم وتبين الآية جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص موضوع النبوة من وجوه:
الأول: اظهار حال اليقين بنبوة عيسى وانه بشر، ولد باعجاز ونفخ ملكوتي.
الثاني: بذل النفس والأهل من أجل اصلاح الأمم ومنعها من الضلالة.
الثالث: قوة الإسلام بدخول الناس فيه وعدم تركهم أعداء ومخالفين في العقيدة.&&&&الى هنا مطبوع
قانون التحري
التحري طلب الحق والتوخي والإجتهاد في الطلب , والتحدي لغة اتصال المنازعة بقصد الغلبة والثبات في مقدمات المواجهة، ولقد جعل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء فيها ليتصارع المتذضادان، ويتدافع المتعارضان ويتزاحم المختلفان وتجتمع هذه الوجوه في الحق والباطل وهو أساس الصراع في الأرض وتكون بينهما بينونة عزلة وتناقض ولا يمكن ان يلتقيان,
ويمثل الحق الإيمان ويمثل الباطل الكفر والضلالة والكذب، وقد يبدو ان كلاً منهما يدعو الإنسان اليه، ولكن الدعوة لم تصدر الا من أحدهما دون الآخرة، فالإيمان هو الذي يدعو الإنسان ويتعذر على الكفر دعوة الإنسان العاقل، للتنافي والتضاد بين العقل والكفر.
ولم يرد لفظ التحدي في القرآن ولكنه فرع الإحتجاج والجدال ومن مفاهيم الثبات على الإيمان والتقوى والتحدي على وجوه:
الأول: التحدي القولي، باستحضار البرهان كوسيلة لتحصيل المطلوب، والإتيان بالدليل لإســكاتن الخصـم، وهـو على أقسام:
؟؟؟؟
أولاً: مواصلة المناظرة.
ثانياً: دفع شبهات الكفار، وابطال ما يزعمون مما يخالف الحق والتنزيل.
ثالثاً: بيان الحق وكشف الحقائق والإخبار عن الوقائع بلغة الصدق والإنصاف.
الثاني: التحدي العملي، وهو على وجوه:
أولاً: المواظبة على العبادات.
ثانياً: حسن الإمتثال للأحكام الشرعية فهو دعوة للناس لدخول الإسلام.
ثالثاً: السعي في دروب الإحتجاج والبرهان وبذل الوسع لإبطال الشبهات.
رابعاً: المباهلة وهو أمر مركب من:
الأول: الدعوة الى المباهلة، ولا تأتي الا بعد الحجة، وظهور الإصرار من الخصم على ميله عن الحق.
الثاني: اجراء المباهلة وحصولها بين المتخاصمين.
ولقد جاءت هذه الآية بالوجوه المتقدمة كلها الا القسم الثاني من الفرع الأخير الذي هو جزء من التحدي ولكن وفد نصارى نجران نكصوا وأمتنعوا عن اتمامه ووقوعه.
ومن وجوه التحدي الصبر عن الأذى وتحمل المشاق في جنب ، وما من نبي الا وتلقى الأذى من قومه وهو يدعوهم الى التوحيد والنبوة.
ويعتبر التحدي ملازماً للرسالة وللإيمان وهو ليس متحداً، بل متعدداً، ويتضمن وجوهاً:
الأول: التحدي الذاتي الذي يعني الثبات على الإيمان، وبقاء المسلمين على نهجه وايمانه، وهذا القسم انطباقي ودائم ولا يقبل النسخ والتغيير، لضرورة الإقرار بأصول الدين واتيان الواجبات.
الثاني: التحدي الغيري وهو على قسمين:
اولاً: اراءة الخصم مصاديق الإيمان الشخصية والذاتية واظهار معالم الدين.
ثانياً: بيان ما عليه الكافر من الضلالة ومخالفة الرشاد، وتسفيه قوله، وابطال حجته كما يمكن تقسيم التحدي بلحاظ الضيق والسعة الى اقسام:
الأول: التحدي الشخصي وهو الذي يقوم به شخص واحد ومن أشرف مصاديقه تحدي النبي في قومه وتبدو أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على غيره من الأنبياء اذ انه تحدى المشركين من قومه ومن غيرهم، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان المشركون أولي القوة وأظهروا الإتحاد في مواجهة النبوة، أما أهل الكتاب فانهم مليون يصدرون عن تنزيل من السماء وينتسبون الى النبوة، ولم يكن يتم النصر عليهم الا بالمدد الإلهي.
ومن الآيات في المقام ان جهاد وتحدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن تدريجياً وعلى مراتب، بل جاء على نحو دفعي ومشترك فقد واجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين وشبهات أهل الكتاب في آن واحد، وكانت الشبهات مركبة ومتعددة، فالنصارى يدعون الوهية عيسى، واليهود يطعنون به وبأمه عليهما السلام.
ولم يرجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحد الجهادين ويؤخر تحدي أحدهما الى ما بعد الغلبة على الآخر، او يقوم بتبعيض التحدي خصوصاً وانه ليس من ملازمة بين مواجهة المشركين، وأقوال أهل الكتاب او بين ادعاء ومزاعم أهل الكتاب أنفسهم، فقد واجه الجميع بالقرآن وآياته.
الثاني: التحدي بالنفس وأهل بيت النبوة، والذي يتجلى بآية المباهلة هذه.
الثالث: التحدي النوعي العام من المســلمين، وفيه النصــر والقــوة والعز واتساع الإسلام، وهو ثمرة من ثمار جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق أحكام القرآن، واتقان المسلمين لمقدمات البرهان وثباتهم في ميادين المعارك، ومن خصائص قانون التحدي تنمية ملكة التقوى والعزم على مواجهة تحديات الأعداء اذ ان التحدي متبادل وهو جزء من الصراع، فكأنه حاجة للمؤمنين في دروب الجهاد، ومن مصاديق هذا القانون تحدي القرآن للتحريف والتغيير والتبديل أمساَ واليوم وغداً.
قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ]
لا زال الخطاب موجها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن ورائه الأمة وأجيال المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: التشريف والإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب الإلهي واتصاله وتعدد مضامينه.
الثانية: حصول الإحتجاج بعد مجيء العلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: شهادة القرآن ببلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ارفع درجات العلم، والألف واللام في العلم للجنس.
الرابعة: تقسم الآية حال الإحتجاج الى قسمين قبل مجيء العلم وبعده، ولابد لهذا التقسيم من دلالة.
وقد روي ان أسقف نجران والعاقب جاءا الى رسول صلى الله عليه وآله وسلم فعرض عليهما الإسلام، فقالا قد كنا مسلمين قبلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبتما منع الاسلام منكما ثلاث قولكما اتخذ الله ولدا وسجودكما للصليب وأكلكما لحم الخنزير، قالا فمن أبو عيسى فلم يدر ما يقول فانزل ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى قوله بالمفسدين( ).
أي ان جبرئيل نزل بالجواب على شبهة أبوة عيسى فجاء الجواب بان ولادته كانت بآية اعجازية منه تعالى، وان الأبوة ليس جزء علة دائماً في الولادة، فقد تأتي الولادة بآية اعجازية من غير علة مادية وهو الذي حصل لعيسى ، فانعدام الأب والحالة الزوجية، وظهور الآيات على عيسى وهو في المهد لا يدلان على أإلوهيته،
ولو جرت الآيات على لسان عيسى وله أب معروف لما حصلت هذه الدرجة من الإفتتان، وكذا لو ولد وليس عنده آيات باهرات مثل كلامه في المهد وآية الطير واحياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص لما تم الغلو فيه، أي ان هذا الغلو حصل بسبب اجتماع ألأمرين ممان يكون حجة عليهم.
فالنصارى يقرون بولادة عيســى مــن مريم ومجــيء الآيـات على يديه ويقولون ان اليهود صلبوه وكسروا ضلعه وتركوه مصلوباً حياً، وكان يسـعى للهــرب منهم، وانه أظــهر الجــزع من تلك الحال، وتلك من صفات الممكن الحادث المحتاج الذي لا يستطيع ان يدفع عن نفسه الا ان يشاء ، فجاء العلم النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخبرهم بانه لم يصلب ولم يجزع بل رفعه اليه وألقى شبهه على غيره.
ومع ان الرفع آية يمكن ان يفتتن بها بعض الناس لأنها أقــرب لموضوع البنوة من الصلب على الخشبة الا ان المسلمين لم يفتتنوا بالأمر وأستطاعوا الفصــل والتمييز ومجاهــدة الغلو والإفتراء في آن واحد، وهذا مــن العلم النازل على النبي والذي أقتبسه وتعلم المسلمون على نحو مركب متعـدد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن القرآن.
الخامسة: لقد جاء العلم الى النبي بالقرآن والوحي والتنزيل، فالقرآن جامع اللعلوم، وما في القرآن في متناول يد المسلمين، ومعه السنة النبوية المباركة مما يعني انهم بمرتبة العلماء، واقرارهم بنبوة عيسى من غير غلو مصداق للعلم , قال تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( ) وهذا التأويل لا يمنع من المعنى الأخص للعالم.
السادسة: العلم هو اعتقاد الشيء على حقيقته ودلادلته مع سكون النفس لهذا الإعتقاد والإدراك، وانطباع صورة العلوم في الوجود الذهني، ولكن الآية تخبر عن الشأنية المستقلة للعلم وانه يحمل صفة المجيء والحركة والنزول من غير ان يكون جسماً و مادة، وهذا المجيء عنوان لفضله تعالى على النبي والمسلمين وان العلم ليس امراً مكتسباً ادركه الإنسان بعقله وتحصيله واستقرائه، وتجلى هذا الفضل بنزول القرآن واحتواء آياته لأسمى وأشرف القصص التي تتصف بالصدق وتتحدى التحريف والزيادة والنقصان، القصص التي تكون سبباً لصلاح الأمم ودعوة لنبذ الغلو والطعن بالعلماء.
السابعة: لم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى الا بعد ان نزل عليه العلم منه تعالى.
الثامنة: العلم الذي عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هبة الهية ورحمة للناس جميعاً، فلقد كانت آيات الأنبياء حسية، ولكن آية رسول صلى الله عليه وآله وسلم عقلية تتغشى الناس جميعاً.
التاسعة: مجيء العلم ونزول البراهــين الواضــحة مقدمة لإجــراء الملاعنة والمباهلة، ولكن هذه المباهلة لا تأتي الا مع الذي يجادل ويحتج مع سماعه الآيات ورؤيته البراهين، ودرء شبهته ودفع مغالطته.
العاشرة: تفيد الآية ان العلم الذي جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعله في متناول المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم، سواء باعلانه ابتداء او اظهاره عند الإحتجاج والجدال، ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلو الآيات حالما تنزل عليه ويأمر بكتابتها ويتناقلها المسلمون، كما انه كان يصعد المنبر ويعظ الناس ويبين لهم الأحكام.
الحادية عشرة: الآية دعوة للمسلمين بالإكتفاء والإستغناء بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الحاجة الى طكتب واخبار اليهود والنصارى، وهذا من اعجاز القرآن ان جعل الكفاية العلمية عند المســلمين، ولم يحتاجوا إلى البحث والتحقيق في الكتب الأخرى، قبل ان تصل النوبة الى ما في تلك الكتب من الزيادة والنقيصة، وما طرأ عليها من التحريف والتغيير.
الثانية عشرة: تبعث الآية على الإحتجاج على الكافرين فمتى ما أدرك الإنسان انه يعلم الشيء على ما هو عليه، ويثق بنفسه وعلمه فانه يقوم بتحدي الخصم والسعي لإبطال قوله.
الثالثة عشرة: الآية دعــوة للإســلام وحــث للناس على هجــران العــناد والضــلالة والغلو، ودخــول الإسلام واكتساب المعارف الإلهية.
الرابعة عشرة: في الآية اخبار بان الإسلام هو دين العلم والإرتقاء في درجاته، والرفعة في الدنيا والآخرة.
الخامسة عشرة: توكيد الإسلام على العلم يدل على صدق النبوة وصحة التنزيل لأن الإنسان بالعلم يستطيع التمييز بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب، فالإسلام يساعد الناس على التحصيل والكسب العلمي ليكون كل واحد منهم عوناً على نفسه وغيره للتخلص من الضلالة والعناد , اما مذاهب الكفر والشرك فانها تحارب العلم وتسعى الى الجهالة لذا يتخذ أربابها صيغة الجدال بالباطل والمغالطة، وافشاء الشبهات واجتناب لغة البرهان والإعراض عن الدليل، فتأتي المباهلة لإجتثاثهم من الأرض او لإشغالهم بأنفسهم ومنعهم من نشر الأباطيل، لوقف اتساع الإسلام وعلو رايته.
السادسة عشرة: لقد أختتمت الآية السابقة بالنهي عن الشك والريب، والتنزه منهما مقدمة لتلقي العلم ووسيلة لقبول العلم، كما انه يقوم بطرد الريب والشك، أي ان العلم يأتي على الشك، ولكن أراد للنبي العصمة وان ينزل القرآن على قلب داع طاهر نقي، وتفضل سبحانه وجعل العلم النازل واقية وحصناً من طرو الشك على القلب او اللسان، فليس بعد العلم النازل على النبي امتراء وشك وتردد.
السابعة عشرة: في الآية اخبار عن امتناع انفكاك علوم الوحي عن الرسول الأكرم وانه أصبح ملازماً له لذا كتب للقرآن الحفظ والسلامة من التحريف والتغيير.
الثامنة عشرة: الآية عز للمسلمين لأنها تؤكد انتفاء الحرج عند النبي من مواجهة الخصم والإحتجاج على الأعداء، وانه أصبح متسلحاً بالبرهان والدليل القاطع والجواب اللائح، وتتجلى هذه الحقيقة بعدم طرو الغضب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذكر الأباطيل أمامه، بل يراأف بألهام ويدعوهم للإسلام بالحجة والآية والمعجزة
لقد تولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولية اصلاح النفوس وتنزيه العقائد، ودحض المقالات الباطلة التي كانت سائدة، وكان عليه اولاً اعداد المسلمين للإحتراز منها، ومنع تسربها الى المجتمعات والعقائد الإسلامية وهذه اعظم مسؤولية شهدها التأريخ.
وترى الحكام والملوك وأرباب الشأن يتباهون باقامة وتأسيس دول ومؤسسات تكون في الغالب مسخرة لمنافعهم واستدامة سلطانهم، كما انها سرعان ما تزول، اما الإسلام فانه أصلح النفوس والمجتمعات من أجل نجاتها وسلامتها في الدارين بالعلم الذي تفضل وانزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعله حاضراً عند المسلمين وصار عملا يومياً لهم على نحو النص والتلاوة في صلاتهم، ومنبعا اللأحكام في معاملاتهم ومكاسبهم، والدليل في أعمالهم وأقوالهم.
التاسعة عشرة: تعتبر هذه الآية عيداً للمسلمين لبلوغهم أرقى مراتب العلم، وعدم الخشية من الكافرين في الإحتجاج والجدال, وميادين الجدال لا تنحصر بالمنتديات والأسواق والمناسبات التي تجمع الناس والمتخاصمين، بل تكون مقدمة للقتال، أي ان الخلل والتقصير في إختيارالجدال .
وبيان الحجة يبث الوهن في النفوس، ويظهر الضعف والإرباك في الصفوف، فجاء العلم ليكون سلاحاً للنصر والغلبة بان يثبت المسلمين في المعركة ويضعف شوكة الكافرين ويجعلهم يدركون انهم يقاتلون على أمر عدمي، وموضوع وهمي لا أصل له، مما يسهل الإجهاز عليهم، او يكون سبباً لجذبهم الى صفوف المسلمين واظهارهم الندم والتوبة، فحينما يدرك الإنسان انه على باطل فانه يرفض ان يموت او يخسر أمواله وعياله بسبب الباطل والوهم، فالعناد ليس أمراً ثابتاً دائماً، ومن المتواطئ بل هو على مراتب متفاوتة سواء بين الأفراد او عند الشخص الواحد بلحاظ ذات الموضوع او أفراد المواضيع التي يصر على الإقامة عليها مع بطلانها.
العشرون: الآية دعوة للناس للرجوع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصدور عند لأنه أختص بنزول العلم من عند ، وتبين الآية موضوعية العلم عند شخص النبي وان من شرائط النبوة العلم، وهذا العلم يأاتي ابتــداء وفضلاً مــنه تعالى لإصلاح النبي للرئاسة وجعله مؤهلاً لزعامة الأمة بالوحي ومعالم التنزيل وهو المائز الذي يميزه عن غيره من الرؤساء ليكون حجة عليهم وعلى الناس بلزوم اتباعه واطاعته واخذ العلم منه.
جاءت الآية بصيغة التبعيض في قوله تعالى(من العلم) وتحتمل هذه الصيغة في المقام وجهين:
الأول: إرادة الجزئية من العلم الذي أفاض به الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن الله عز وجل وفي التنزيل[عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]( ).
وورد لفظ(من العلم) في القرآن ست عشرة مرة، ومنها ما جاء بصيغة الجمع قال تعالى[قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الثاني: الإشارة إلى حقيقة وهي أن العلم الذي يأتي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ينته ساعة نزول الآية، وفي الآية إخبار بأن نزول آيات القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستمر وكل آية علم قائم بذاته، ولا تعارض بين الوجهين، وكل منهما شاهد على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفضل الله عليه وعلى المسلمين.
قوله تعالى [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ]]
جاء الأمر الإلهي بالدعوة الى المباهلة ليفتح صفحة جديدة من المعاملة والتصرف مع أهل الكتاب ومن يخالف الإسلام عقيدة ومبادئ وأحكاماً.
والنداء صفحة جهادية قائمة على الحجة , والدليل بعد ان سخر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مقدمات البرهان، وجعل عندهم كنز العلم يغترفون منه للإحتجاج الإبتدائي، وللرد على الجدل والشبهات من دون ان ينقص لأنه عبارة عن قواعد كلية ثابتة، وحقائق من الإرادة التكوينية وأصــول تتفرع عنها مسـائل متشعبة، تبعث كل مسألة السكينة في النفس وتكشــف الحقيقة وتزيل اللبس وتدفع الوهم وتجذب الى الإيمان، فمن أصر على الكفر، وأبى الا الإستكبار والعناد تكون المباهلة طريقاً مباركاً لتثبيت دعائم العلم في الأرض، فالمباهلة ليســت مطلوبة بذاتها، بل هي وسيلة وعلة ومقدمة لأمور:
الأول: البيان العملي للعلم الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: التوكيد على طاعة النبي لله تعالى وانقياده لأوامره وجهاده بنفسه وأهل بيته في سبيل ومواجهة أهل العناد والكفر.
الثالث: العلم الذي نزل على النبي والقول الفصـل بقصة عيسى واخبار الأنبياء وأحكام الديانات حجة واضحة وبرهان قاطع، فمن لم يؤمن به فلا ينفعه الا الملاعــنة لتكون سبباً لنزول العذاب عليه.
الرابع: العناد الإستكبار والصدود عن الآيات قبيح , وجزاؤه الإستئصال بالملاعنة لما فيه من الفساد والإفساد , فالجاهل ومن لا يصله الإنذار والبلاغ يكون معذوراً او ان العذاب مرفوع عنه، اما ان يأتي للجدال والخصومة ويتصدى للإحتجاج فهذا يدل على اختياره للكفر والضلالة عن عمد وانه ليس بجاهل فينفق عليه لإصلاحه من كنز العلم الذي نزل على رسول ويؤتى له بالدليل تلو الدليل بان عيسى ليس رباً وان كان نصرانياً، وبان عيسى نبي رسول وامه طاهرة مصطفاة ً، ومن يسمع الحجة والدليل يكون على احدى أربع وجوه:
الأول: الإمتناع عن قبول الحق ومضامين العلم والإصرار على الجحود.
الثاني: قبول الحجة والبرهان الذي يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بخصوص نبوة عيسى وانه عبد .
الثالث: اختيا ر الإسلام ديناً وعقيدة، وهجران منازل الغلو والإفتراء.
الرابع: مواصلة الجدال والإتيان بالشبهات حتى بعد سماع الآيات والدلائل الواضحة والحجة القاطعة.
اما الأول فانه آثم ومعاند، واما الثاني فانه لم يتخلص من منازل الكفر والجحود للزوم الإيمان بالأنبياء والتصديق بما جاءوا به من الأحكام والبشارات ومنها لزوم اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام.
واما الثالث فقد استمسك بالعروة الوثقى وفاز في الدارين، وانتفع من الثروة السماوية التي جعلها بين يديه بواسطة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ من كنز العلم واصلح به نفسه وتخلص من درن الكفر وفساد العقيدة، وأصبح آلة مباركة لنشر علوم الإسلام ومبادئ التوحيد، فلقد كانت ولادة عيسى رحمة لأهل الأرض فيجب ان لا يتخذها بعض الناس سبباً للضلالة والإضلال واثارة الشبهات والإكثار من المغالطات التي تجعل فريقاًً من الناس يصدون عن الإسلام والإنصات لكلمة الحق.
اما الرابع فهو الذي شرعت المباهلة معه، فلابد انه أشد الناس كفراً وأكثرهم ضرراً على الإسلام وبذا تتجلى معاني الرحمة الإلهية على المسلمين والناس جميعاً، بانزال العقاب باصحاب المقالات الباطلة الذين يتخذونها سبباً لأغواء الناس ووسيلة لتحريف التنزيل والطعن بالأنبياء, وتبين الآية قدسية النبوة ولزوم اكرام الأنبياء.
قانون العبودية
لقد انعم على الإنســان بخلقه وبعث الروح فيه وتفضل مرة اخرى وجعله خليفة في الأرض ليظهر معاني العبودية في قوله وفعله، ويقهر النفس الشهوية ويدفع الشيطان واغواءه من باحة قلبه، وتعتبر العبودية على خلق الإنسان قال تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ]( ).
وجاء لفظ الجن والإنس على نحو الإطلاق الشامل للجن بما فيهم ابليس، كما يشمل لفظ الإنس كل انسان سواء كان موجوداً او معدوماُ، لتكون العبودية الصفة التي تجمع الناس ويلتقي تحت لوائها الأب والإبن، والزوج والزوجة، والكبير والصغير، والغني والفقير والرئيس والمرؤوس والحاكم والمحكوم، والظالم والمظلوم، وأصحاب الملل والنحل، ليس من أحد الا ويكون فرداً فيها، وعبداً داخراً لله تعالى، وهي أوسع صفة تجمع الأفراد والأجناس المختلفة، كما انها الواسطة المباركة بين الإنسان والخلائق الأخرى
ومن خصائص هذا القانون التناسب الطردي في منازل العبودية، فكلما كان للإنسان شأن أكبر كانت وظائفه في مقامات العبودية أعظم من وجوه:
الأول: لزوم الشكر على النعم الأصلية العامة، والنعم الإضافية.
الثاني: يكون أسوة لغيره، وداعية لله .
الثالث: من وجوه الشكر لله تعالى الإقرار بالنعم والإلتفات الى المائز بينه وبين غيره الأمر الذي يحتم عليه المبادرة الى العبادة.
واظهار العبودية لله عنوان لدوام النعم ومن أهم أفراد النعم استدامة الحياة والصحة ودفع البلاء وهي أمور يشترك فيها الناس جميعاً، وقد يفوز بها الفقير دون الغني، والعبد دون السيد، والكبير دون الصغير، مما يستلزم الشــكر لله تعالى، كما ان البلاء لا يخرج الإنسان عن لزوم الشــكر لله تعالى على كل نعمة ومنها الإمتحان بالمرض ونحوه.
والأنبياء سادة الأمم، وسيادتهم لا تنحصر بأهل زمانهم بل تتغشى أفراد الزمان الطولية والأجيال المتعاقبة فهي أعظم وأشرف وأوسع سيادة ورئاسة وهم قادة الناس في مسالك العبودية، وتلك مرتبة تتناسب ومقاماتهم وقد أدوا ما عليهم من وظائف العبودية أحسن أداء، وأخذوا بأيدي المسلمين الى سبل النجاة والأمان وقدموا معاني العبودية التي تتجلى بالشهادة وتحمل أشد أنواع الأذى في سبيل .
فليس من حق أحد ان يأتي ويغالي بهم ويجعلهم بمنازل الربوبية التي هي خاصة بالله وحده، كما لا يجوز الطعن بهم والإنتقاص من مكانتهم وعظيم شأنهم عند الأجيال المتعاقبة.
ولقد تجلت أشرف مضامين العبودية بالمسلمين وهم ورثة الأنبياء، ومن الآيات الإعجازية في أحكام الشريعة الإسلامية، ان كل مسلم يكرر الإقرار بالعبودية كل يوم عدة مرات اذ انه مأمور بقراءة سورة الفاتحة وقوله تعالى [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ]( ) وفيه تجديد للعبودية والخضوع له .
وموضوع المباهلة مركب من أمرين:
الأول: الدعوة الى المباهلة.
الثاني: ذات المباهلة،
وتتضمن الآية الشطر الأول، والنصوص والإجماع على عدم حصول المباهلة فعلا , ويمكن القول بدلالة عمومات الآية بعد التالية على عدم وقوعها، قال تعالى [ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ] ( )، والآية من قواعد اللطف الإلهي اذ انها تدعو الى المباهلة التي لم تحصل، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل الكفار بين أمرين لا ثالث لهما، فلم يطلب منهم اختيار الإسلام او المباهلة، لمن لم يؤمن ينزل بساحته العذاب ويأتي على أولاده وذريته، وعلة عدم الطلب هذا من وجوه:
الأول: تغشي الرحمة الإلهية للناس جميعاً في الدنيا فهو الرحمن الذي يرأف بالبر والفاجر في الدنيا.
الثاني: ترك الكافرين يتدبرون الآيات ويراجعون الحجج ويلومون أنفسهم على اصرارهم على العناد، لتكون هذه المراجعة فرصة للتوبة والإنابة.
الثالث: القدر المتيقن من الإحتجاج كفاية شرور الكافرين ودفع أذاهم.
الرابع: لقد أراد من المباهلة والدعوة اليها سلامة العقيدة وحصانة المسلمين ووقايتهم من أضرار المغالطات والشبهات وأهل الريب والجحود.
الخامس: بقاء آية المباهلة تتحدى الكافرين بالليل والنهار والمنتديات، ومختلف بقاع الأرض.
السادس: الدعوة درس وموعظة وآية تنبأ عن استعداد المسلمين وعوائلهم للمباهلة ليكون هذا الإستعداد حرزاً وسلاحاً وواقية دائمة الى يوم القيامة.
السابع: المنع من مؤاخذة من يدعو الى المباهلة فلولا هذه الآية لما تجرأ احد ودعا الى المباهلة، وان قام بالدعوة بعض المؤمنين فان اللوم يتوجه اليه من كل صوب.
الثامن: لولا هذه الآية المباركة لما التفت المسلمون الى موضوع المباهلة ولإستمر الجدال والشغب والمغالطة من قبل المعاندين والجاحدين فجاءت هذه الآية لتضع حداً له.
التاسع: الآية زجر ونهي للكافرين عن الجدال ومناظرة المسلمين، مما يعني اتاحة الفرصة للمسلمين لمواصلة الجهاد، سواء جهاد النفس او الدعوة الى الله وبيان معالم الدين من غير ان يشغلهم احد بالتأكيد على الشبهات واثارة المغالطات.
وتبين الآية الحاح الكفار بالجدال، وهذا الإلحاح مستقرأ من حصوله واستمراره بعد مجيء العلم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرضه عليهم كما في نزول الآيات السابقة في ولادة مريم، فكأن في الآية حذفا أي حاجك من بعد ما جاءك من العلم وبينته له وهذا البيان يأتي بتلاوة الآيات وتفسيرها واظهار الحقائق وتنزيه ساحة الأنبياء وتوكيد عبوديتهم لله تعالى.
والجدال غير السؤال فلو جاء أحدهم وسأل عن عيسى وولادته وما يقال بشأنه من الغلو لا يعتبر جدالاً، فذات الجدال الحاح وايذاء للنبي والمسلمين لأنه اظهار للإصرار على الباطل، وامتناع عن سماع الحق والإصغاء للآيات النازلة من السماء، فلذا جاءت المباهلة للتنزه من الجدال، وتثبيت المسلمين على الإيمان، ودفع الكافرين عن الإستمرار في ايذاء المسلمين، وهذا الدفع لا ينحصر بالحال وأشخاص الكافرين بل انه يتصل ليشمل ابناءهم بابتلاءهم بالمباهلة
وقوله سبحانه [تعالوا] نداء بمعنى هلم وأصله من العلو, لقد أمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يدعو أهل الجدال والعناد الى المجيء، وبما ان نظم الآية يظهر انهم موجودون وقائمون على الجدال واثارة الشبهات فان النداء هنا لا يعني المجيء والإنتقال المكاني من البعيد الى القريب بل انه دعوة للإشتراك في أمر وبيان حال، وهذا الأمر هو المباهلة، وجاءت الدعوة لها بلفظ (تعالوا) لوجوه:
الأول: تبين صيغة الجمع، تعدد أهل الجدال ويؤكده نزول الآية وما فيها من التحدي النظري والعملي، النظري بطلب المباهلة، والعملي بحصولها في الواقع ان رضي الطرف الآخر، كما تؤكده الآية ان جدالهم بخصوص عيسى لم ينته ولم يتوقف وهذا من اعجاز الآية ويستقرأ من خلال الواقع العقائدي لمذهب النصارى وعدم التخلي عما كانوا يذهبون اليه بخصوص عيسى وولادته عليه السلام وكذا بالنسبة للمذاهب الأخرى مما يعني عدم انحصار الحاجة الى تشريع المباهلة بأيام النبوة، بل هي متصلة ودائمة.
الثاني: تتضمن صيغة الأمر والطلب لغة التحدي التي تبعث على الخوف والفزع عند الطرف الآخر، وفيها وقف للجدال والإنتقال الى موضوع آخر أما المباهلة واما الكف والسكوت، وهذا من اعجاز آية المباهلة والدعوة لها، أي ان الدعوة للمباهلة اعجاز قائم بذاته واغراض حميدة تتضمن التخفيف عن المسلمين وردع الكافرين.
الثالث: لا تنحصر لغة الخطاب في الآية بمن يقوم بالجدال والمناظرة بل هي أعم فتشمل من وراءه من الرهبان وارباب المذهب الذي ينتمي اليه، فليس لأحد بعد هذه الآية القول لو وجهت له الدعوة لباهل النبي والمسلمين، فالخطاب عام لكل من خالف الحق والتنزيل وشارك في الجدال وأصر على الباطل.
الرابع: تريد الآية استئصال الجدال والشغب والإفتراء كي تسود مضــامين التنزيل ويمتنــع وجـود العوائق التي يحدثها أهل العناد.
الخامس: انذار ووعيد ودعوة لأرباب المذاهب لمنع أعوانهم وأتباعهم من الجدال بالباطل.
السادس: تدل صيغة الجمع على بقاء الدعوة مفتوحة للجاحدين والمشككين، وفيه دعوة لهم للإسلام وفق طريقة السبر والتقسيم البلاغية، فالإمتناع عن المباهلة وتفويض الحكم لله، وامارة على عدم الوثوق بما يقولون مما يخالف التنزيل والعلم، فلا يبقى أمامهم الى الإسلام والتسليم بالحق وأخبار القرآن فيما يخص عيسى عليه السلام وولادته.
السابع: في الآية بيان لأهمية موضوع المباهلة وأنها جهاد في سبيله تعالى اذ يتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة اليها بنفسه فلم يفوض الأمــر الى أصحابه وأهل بيته، بل أمره الله عز وجل ان يقوم بنفسه بالدعوة الى الخروج الى المباهلة لتكون ميداناً لمعركة عقائدية وتحدياً فكرياً مستمراً اثاره ونتائجه الى يوم القيامة، وان كانت الدعوة وحدها ذات آثار حميدة متصلة وهذا من بركات آية المباهلة.
الثامن: هل تنحصر جهة الخطاب بمذهب وجماعة مخصوصة ام انها أعم بمعنى ان لفظ (تعالوا) خاص بالنصارى مثلاً او هو أعم فيشمل اليهود وغيرهم، الجواب هو الأخير لإصالة الإطلاق ولدوران الأمر على الجدال، ومخالفة الخصم للحق والتنزيل، ولأن أسباب النزول لا تخصص مورد الآية.
التاسع: الفرد الواحد من المباهلة يحتمل وجوهاً:
الأول: وقوعه مع خصم واحد ومجيئه بأهل بيته.
الثاني: جماعة من أهل ملة مخصوصة ويأتون بأهليهم وأبنائهم.
الثالث: التعدد في ملة الخصم، والصحيح هو الأخير فيمكن ان تجري المباهلة مع النصارى واليهود في آن واحد، وان تباينت وأختلفت أقوالهما، لأن المدار على أمرين:
اولاً: مخالفة الحق والتنزيل.
ثانياً: الجدال بالباطل، فيجوز ان تجري المباهلة معهم على نحو الإشتراك ولا يستلزم الأمر اجراء مباهلة مع كل طرف على نحو الخصوص لعمومات الأدلة ووحدة الموضوع في تنقيح المناط.
العاشر: من أسرار خطابات القرآن، ان الأمر يتوجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه عام وشامل وهو الأصل، الا مع القرينة التي تدل على الحصر وتقييد الحكم بشخصه الكريم، وآية المباهلة جاءت عامة لا ينحصر موضوعها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقرينة اضافية وهي دعوة أهل البيت واشتراكهم في المباهلة، ليكون هذا الإشتراك نواة وتأسيساً لتوارثهم للدعوة الى المباهلة مع من يصر على جدال المسلمين من أهل الخصومة والعناد، وقد تكون الدعوة الى المباهلة أكثر حاجة بعد أيام النبوة لوجود المقتضي وفقد المانع والثقة بانتصار الحق وزهوق الباطل.
قانون الإمهال
تعتبر الدنيا دار وانتقال وهي قصيرة في عمرها ومدتها بلحاظ الآخرة والخلود فيها، ولكنها طويلة ومتسعة بلحاظ الأعمال وفرص الإنابة وأعمال البر والصلاح والثواب فيها، فكل ساعة تمر على الإنسان تتجدد فيها فرص التوبة وتكون مناسبة لفعل ما يورث الجنة والنعيم الدائم، وهذا من لطفه تعالى، ومن مصاديق الهبات العظيمة التي يتفضل بها على الناس، والحياة الدنيا دار مهلة، والإمهال: الإنظار والمهلة الاسم منه، وقد وردت مادة “مهل” بصيغة الأمر في آيتين من السور المكية، قال تعالى [ فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ]( ).
وجاءت الدعوة الى المباهلة امهالاً للكافرين وهذا من الإعجاز القرآني ووجوه الصلة بين الآيات من وجوه:
الأول: الترابط والإتحاد بين الآيات المكية والمدنية فطول المدة وتعدد سنوات التنزيل، وحصول الهجرة والتباين في جهاد المسلمين لم يمنع من التداخل بين آيات القرآن.
الثاني: الصلة بين السور القصيرة والطويلة فسورة الطارق من السور القصيرة، وآل عمران من السور الطوال.
الثالث: الملازمة بين آيــات الإنذار والوعيد وآيــات الأحكــام والتشريع.
الرابع: التتابع بين الآيات، ومجــيء الفعل والمصــداق العــملي بعد الأمر الإلهي، قال تعالى [ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ]( ).
وجاءت هذه الآية لتكشف زيف إدعاء الكافرين وان ترك المباهلة والإكتفاء بالدعوة اليها امهال لهم، والإمهال قانون عام لا ينحصر بالكافرين بل هو رحمة للناس جميعاً وكل انسان محتاج للإمهال.
وهذه الحاجة جزء من خصائص عالم الإمكان لذا تفضل وجعل هذا القانون ملازماً له، وهو على وجوه:
الأول: الإمهال العام في أمور الحياة كلها.
الثاني: الإنظار والإمهال في باب العبادات والواجبات فلا تشرع الأحكام على الإنسان ويصبح مكلفاً بها الا عند اتمامه السنة الخامسة عشرة الهلالية من عمره اذا كان ذكراً، وتسع سنوات ان كانت انثى.
الثالث: عدم التعجيل بالعقوبة على الذنب وامهال العبد لحين الإستغفار والتدارك.
الرابع: الإمهال في فعل الصالحات، فقد يتخلف الإنسان عن وظائفه وواجباته فيمهله حتى يؤديها سواء كان التخلف عن عذر او بدون عذر لإطلاق ادلة الإمهال.
والإمهال في هذه الآية على نحو مركب من وجوه:
الأول: الإكتفاء بالإحتجاج.
الثاني: نزول العلم واخبار قصة عيسى من السماء.
الثالث: اتصال المناظرة والإحتجاج وتفضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإجابة على اشكالاتهم، ونزول جبرئيل بشطر منها.
الرابع: توالي الآيات القرآنية التي تبين الأسرار القدسية في ولادة عيسى والتي تؤكد نبوته ولزوم عدم الغلو فيه، وقد مدح القرآن الحواريين لأنهم أقروا بنبوة وعبودية عيسى في آن واحد في دعوة للنصارى وغيرهم للإقتداء بهم.
ومن الإعجاز ان قانون الإمهال ومع ما فيه من السعة والمندوحة يلح على الإنسان في كل يوم بعدم التسويف والتأخير، وهذا من الآيات في الحياة الدنيا.
وجاء الأمر والدعوة الى المباهلة على نحو الفورية والمبادرة الخالية من الإمهال والفترة، فمع الإصرار على الجدال تأتي المطالبة بالمباهلة مع ان الإمهال قانون عام، ولكن الآية لا تعني انعدامه بل ان نزول الآيات واعلان النبوة مناسبة للإيمان والإنقياد لأمره تعالى باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن يجحد ويظهر جحوده بالجدال يقابل بالبيان والحجة والبرهان.
وهذا كله من الإمهال فان أصر جاءت الدعوة للمباهلة , وهناك امهال ومندوحة بين الدعوة وحصول المباهلة، كما انها ليست من باب الحتم والعزيمة، فيجوز ان يعلن الخصم تراجعه وعجزه عن المباهلة.
وفي الآية تفصيل لحسم موضوع الجدل، وعدم تركه معلقاً، ووقف الغرور والتمادي فيه، فمن لا يعمل بالآيات ولا يستجيب للحق والتنزيل يلح على تجديد الجدال على نحو شخصي ونوعي، وفي المنتديات الخاصة والعامة، ويستعمل صيغ الإعلان والإعلام المتيسرة، ويكون مصدراً لبعث الإرباك والقلـق في المجتمعات، وتســرب الشـك الى بعض النفوس، وتردد قوم بالدخول في الإسلام مع ســبق نيتهم وعزمهم على الإيمان، فجاءت آية المباهلة لإبطال مكره وارجاع كيده الى نحره، وجعل الناس تتخــلى عنه ولا تنصت لشبهاته، لأن الدعوة الى المباهلة فضح وخزي له.
ومن الإعجاز في الدعوة الإسلامية ان الخصم لم يقم بالدعوة الى المباهلة ابداً من وجوه:
الأول: عدم تضمن الكتب السماوية السابقة لموضوعها.
الثاني: عجز العقل الإنساني عن تشريعها.
الثالث: انشغال الخصم بالجدال والإحتجاج واثارة الشبهات.
الرابع: عدم ثقته بما يقول، وغياب الدليل والحجة عما يذكره من وجوه الغلو او الإفتراء.
الخامس: انه في حال الضعف ولا يرجو حمل الغير على ما يذهب اليه، بل يسعى جاهداً لتركه على حاله وقوله، لإن الإسلام غزاه في معتقده وتصوراته.
بحث أصولي
يولي علماء الأصول عناية خاصة لمبحث الأوامر وتشعبت التحقيقات بخصوصه في هذا الزمان مع عدم ثبوت كونها من المسائل الأصولية بلحاظ الضابطة الكلية للمسألة الأصولية باعتبارها كبرى لقياس ينتج حكماً كلياً فرعياً , والأمر يرد بمعنى الشيء والشأن والفعل، وهو حقيقة في الطلب لغة وعرفاً كما ان الطلب لا ينحصر بمرتبة واحدة بل هو من الكلي المشكك فيشمل:
اولاً: الطلب الوجوبي الذي لا يجوز تركه.
ثانياً: الطلب الندبي، الذي يستحب اتيانه ويكره تركه، ويعرف المراد غالباً بالقرائن الحالية والمقالية، كما يأتي الأمر للطلب العالي والداني من الناس، وفي موضوعية العلو في الأمر وجوه:
الأول: اعتبار العلو: فلا يصدق الأمر الا اذا كان صادراً من العالي الى الأدنى منه كالرئيس والمرؤوس والأب والابن فلو طلب الأدنى من الأعلى شـيئاً او فعلاً فلا يصدق عليه انه أمر بل سؤال.
الثاني: عدم اعتبار العلو: فيصح لفظ الأمر اذا جاء الطلب من المساوي او حتى من الداني الى العالي.
الثالث: الأمر حقيقة في الأول أعلان وفي الثاني مجاز ويحتاج الى قرينة ومؤونة زائدة.
الرابع: موضوعية الإستعلاء، فالذي يصدر الأمر يظهر هذا الإستعلاء التي تتجلى بالتوكيد والتشديد، والوعيد والقرائن والإمارات القولية كالإشارة وحركة العين، وقد يصدر العالي امراً على نحو الرجاء من غير استعلاء فلا يصدق عليه على هذا المبنى انه أمر بل يكون طلباً وسؤالاً.
الخامس: اعتبار كل طلب من العالي الى الداني امراً وان كان الطلب بصيغة الرجاء والسؤال والترغيب، فلا موضوعية للإستعلاء بل تكفي صفة العلو للمكانة.
السادس: التفصيل والترديد، فمرة صيغة أفعل الصادرة من العالي، فمرة تكون بعنوان الأمر ومرة تكون بصفة الطلب بحسب القرائن والإمارات والقصد ومناسبة الحكم والموضوع، ولقد جاءت الآية بالأمر منه تعالى، اما بالنسبة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم (تعالوا) فهو أمر صادر من العالي الى الداني بلحاظ النبوة، وجانب الحق والصدق وما نزل من العلم على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وامر النبي في الآية متعدد من وجوه:
الأول: امره لأبنائه.
الثاني: امره لنساء أهل البيت.
الثالث: امره للذات الإسلامية ولو نحو القضية الشخصية.
الرابع: أمره الى أولاد الكافرين.
الخامس: امره الى نساء الكافرين.
السادس: الى ذات الكافرين.والثلاثة الاخيرة بالواسطة وعلى نحو التحدي وليس الوجوب مع إرادة جعل الجميع يشتركون في المباهلة، وهذا من الآيات وعلو مرتبة النبوة واستجابة الأطراف المتباينة لها.
وجاءت الآية بصيغة الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) , وهل تتضمن الأمر ام الطلب والسؤال، الجواب هو الأول من وجوه:
الأول: ظاهر الآية ودلالتها لغة وموضوعاً على الأمر.
الثاني: علو ورفعة رتبة النبوة، فالنبي يأمر الناس.
الثالث: سيادة الإسلام، فالآية مدنية ونزلت أيام تشريع الأحكام وعز المسلمين وعظيم شأنهم في المدينة وما حولها.
الرابع: يأتي النداء (تعالوا) امتثالاً لأمره تعالى فتترشح عليه صفة الأمر بالواسطة.
الخامس: جاءت الآية في مقام التحدي وبعد اصرار الخصم على الجدال ومواجهة التنزيل والعلم بالشبهات وأسباب الضلالة.
والأوامر من مباحث علم الأصول لتعلقها بأصل الظهور واثباته، كما تبحث في البلاغة باعتبار ان الأمر من أقسام الإنشاء، وأصله صيغة أفعل وتحتمل صيغة الأمر وجوهاً هي:
الأول: الوجوب، وهو الأصل والمتبادر من الأمر لأنه طلب فعل من غير اذن بالترك، ولأن جواز الترك يحتاج الى مؤونة زائدة.
الثاني: الإستحباب والندب، كما في قوله تعالى [ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الثالث: الجامع للوجوب والندب لإشتراكهما في معنى الطلب والأمر بالفعل وبينهما عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء طلب الفعل، ومادة الإفتراق عدم جواز الترك في الوجوب، وجوازه في الندب.
وفي آية المباهلة جاءت ثلاثة أوامر متتالية هي:
الأولى : الأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعلان موضوع المباهلة بقوله تعالى (قل) وهذا الأمر يحمل على الوجوب لأنه حكم جهادي، ففي هذا الأمر رحمة بالمسلمين لأنه جعل خاتمة للجدال واثارة الشبهات، ولم تأتِ هذه الخاتمة الا بعد ان جاء العلم الى النبي وأصبح المسلمون على بينة من قصة عيسى وعصمته ونزاهته وطهارة أمه مريم.
الثانية : النداء بقوله (تعالوا) وفيه دلالة على دعوة أهل الكتاب للمباهلة وان لم يكونوا متلبسين بحال الجدال والعناد، مما يدل على ان الدعوة لم تأتِ عن غضب وانفعال، بل جاءت عن أمر سماوي لإقامة الحجة عليهم وفيها نكتة انها لا تنحصر بالقريب والسامع بل تشمل البعيد مع جواز ارسال الرسل لخصوص المباهلة ولكنها مقيدة بأهل الجدال والعناد كي لا ينحصر موضوعها بالمجادل واطراف الإحتجاج، فيجوز ان يأتي من يعاني من اثارة الخصم للشبهات الى النبي فيدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمباهلة، وكذا بالنسبة لقادة المسلمين والفقهاء من بعده.
الثالثة : دعوة اطراف وأفراد المباهلة بقوله تعالى (ندعو) ومن الآيات ان الداعي والمدعو يشتركان في المباهلة وهو عنوان لإثبات الصدق ونزول العذاب بالكاذب والمفتري.
قوله تعالى [ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ]
جاءت الآية لبيان جانب من شرائط المباهلة، وذكر شطرمن الآيات من وجوه:
الأول: ما تتضمنه من لغة التوكيد والتشديد.
الثاني: التعدد في اطراف المباهلة لبيان موضوعيتها.
الثالث: اتخاذها موعظة وعبرة لدى الأطراف والناس جميعاً.
الرابع: كثرة الأفراد، في المباهلة دعوة للإلتفات اليها وايلاؤها عناية خاصة.
الخامس: الإخبار عن أهمية المباهلة وانها حكم شرعي تترتب عليه عواقب متعددة.
السادس: لغة الإنذار والوعيد للأبناء والنساء، فاذا أصابهم بلاء فيما بعد وعلى نحــو طارئ وغير متوقع وفــق العادة والمتعارف، فانهم يعلمون انه من المباهلة واشتراكهم فيها، اما اذا انحصرت المباهلة بشخص المجادل ونزل بهم البلاء فقد لا يلتفتون الى سبب.
السابع: لقد أراد الله من المباهلة حصول التوبة عند الخصم والكف عن الجدال، وهذا الكف والإمتناع لا يختص بشخص المجادل بل يشمل الأبناء والأزواج باعتبار ان البيت والأسرة وعاء لما يحمل من المذهب ويصر عليه من الشبهات، كما انها تتجدد عندهم ورب ابن يكون أشد من أبيه في الجدال والخصومة وطرح الشبهات فجاءت الآية لزجره وهو صغير، ودعوته للإعتبار والإتعاظ.
الثامن: المباهلة دعوة الى الهداية والإيمان، وصيغة سامية من صيغ التبليغ ونشر المبادئ، ولا يقتحم ميادينها الا من كان على الحق فأنفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بها لتكون شهادة تأريخية خالدة تؤكد صدق النبوة وتبين كنوز الرسالة.
التاسع: تدل المباهلة والدعوة اليها عدم لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال ابتداء وان الإسلام لم ينتشر بالسيف بل ثبت في الأرض بالحكمة والموعظة الحسنة والإحتجاج القائم على البرهان والبديهيات.
العاشر: المباهلة لجوء الى الله، واستغاثة به تعالى مما يدل على بلوغ الأمر حالاً لا تطاق ليس من جهة التحمل والقدرة النفسية على الجدل، لأن المسلمين يتحلون بمراتب عالية من الصبر، فلا يضرهم الجدال، ولكن الإصرار عليه ومواصلته ايذاء وداء يسري في النفوس والمجتمعات فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يلجأ اليه سبحانه ليتكفل الأمر وينجي المؤمنين.
الحادي عشر: تدل آية المباهلة وحضور الأبناء على امتداد الجدال واثاره الضارة الى الإبناء بطريقين:
أولاً: وهم صغار وابناء.
ثانياً: عندما يكبرون ويكونون رجالاً وقادة , اما الأول فان الصغير سريع التأثر بما حوله وما يسمعه ويراه، ويتعذر عليه رد الشبهات.
وقد ينصت الى الشبهة ويفوته ابطالها، اولا يدرك مضامينه فترسخ في ذهنه تلك الشبهة , واما الثاني فانهم سيصبحون رجال الغد وقادة الأمم، وسيتعرضون لذات الإبتلاء، وهو جدال الكافرين بالباطل مع الإكثار من الشبهات كتركة, فجاءت المباهلة ليتخلصوا وابناءهم والأجيال اللاحقة من الإصرار على الجدال، والتعدي فيه.
الثاني عشر: بيان موضوعية الأهل والأبناء على نحو مركب فبالنسبة للمسلم يكون الأولاد عضداً ورافداً وعوناً ووارثاً للإيمان، وبالنسبة للكافر سبباً للفتنة والأذى ونزول البلاء.
الثالث عشر: موضوعية البنات في الجهاد العقائدي والسعي النوعي العام بين الملل والمذاهب.
الرابع عشر: لقد جاء نزول الآية وسط مجتمعات لا تعطي للمرأة شأناً خارج الأسرة، بل كان الوأد معروفاً في الجزيرة العربية.
الخامس عشر: جاء القرآن ليعطي منزلة للمرأة في الجهاد والسعي في سبيل الله، وهذا السعي مستحدث في نوعه ومحله وموضوعه وحكمه، فاما الأول فان المرأة دخلت عالم الإحتجاج والمباهلة، اما الثاني فقد خرجت المرأة من البيت الى ساحة المعركة ولكن ليس بالسيف والرماح، بل بالدعاء والمسألة.
السادس عشر: الآية دعوة لإكرام المرأة والإلتفات الى عظيم منزلتها في الإسلام، وما تقوم به من درء المفاسد ودفع الشرور.
السابع عشر: الجدال الوارد في الآية أعم من ارادة المناظرة، فالقصد منه ايذاء المسلمين، والإفتتان بالشبهات، وبعث روح الشك وحب الجدال واشغال المجاهدين والعباد عن أداء وظائفهم لذا فان منافع المباهلة لا تنحصر باسكات الكافرين، ففيها ايجاد لمقدمات بث الدعوة ونشر مبادئ الإسلام وتهيئة أسباب التلاوة والقراءة.
الثامن عشر: في الآية تنمية لملكة التقــوى عند المســلمين، فمــن المضـامين التي ترتكز عليها المباهلة ان أفرادها من جانب المسلمين قادة وسادة في الصلاح ليكون دعاؤهم مستجاباً، واستغاثتهم مقبولة.
التاسع عشر: تبعث الآية على الثقة بالمرأة وأعمالها العبادية ويستطيع الرجل ان يثق بها ويعتمد عليها ويلوذ بساحتها.
لقد جاءت المباهلة لتشمل الأمة كلها بلحاظ عناوين أفرادها، وهذا من الإعجاز القرآني الموضوعي، فتكفي مباهلة الرسول الأكرم او اشتراك أحد اهل بيته او أصحابه، ولكن الآية جاءت لتخبر عن تــعدد أفـراد المباهلة من غير اعفاء واستثناء لأحد الأطراف، وهذا التعدد والشمول عنــوان للتحدي وامارة على الحرب وظهور العداء بين الإسلام والكفر، وبين الحق والباطل، ودعوة لإشــتراك المسـلمين جميعاً بالمباهلة بدعائهم ومشاعرهم وتعضيدهم وانتمائهم لمن يباهل منهم، بينما الكافرون في فرقة وتشتت.
لقد أخبرت الآية بان المسلمين على استعداد لحضور المباهلة وعدم تخلف أحد منهم، لأن الآية جاءت بصيغة الإخبار والقطع وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستطيع ان يحضر معه الأبناء والنساء ومن يصدق عليه انه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس من دليل على وقوع هذا الأمر من الكافرين، وفيه وجوه:
الأول: قد يتخلف أهل الكافر ويمتنعون عن حضور المباهلة.
الثاني: يحضرون معه ولكن يبادرون الى دخول الإسلام عند حصول المباهلة ومنهم من لم يكن يعلم بآيات النبوة لأن الكافر لا يقوم بابلاغ أهله بها ولا يجعلهم يطلعون عليها وهو الواسطة بينهم وبين ما يحصل خارج البيت، فتأتي آية المباهلة لتجعلهم وجهاً لوجه أمام الحقائق وتحملهم وزر الكفر واصرار الآباء على الجدال، اما أولاد المسلمين فهم على بينة من الأمر ويدركون ما هم عليه من الحق والصدق فلا غرابة ان يشمل اصطلاح الصحابة فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
الثالث: يحضرون مع آبائهم فينالهم العذاب والعقاب، بل ان العذاب ينزل بهم وان لم يحضروا لأمرين:
أولاً: جحود الآباء.
ثانياً: بقاء الأبناء على نهج آبائهم والإصرار على الجدال بالباطل.
لقد جاءت آية المباهلة لإستئصال الجدال بالباطل وتنزيه المجتمعات منه، ومن وجوه هذا استئصال الكفر ايمان ذراري الكافرين، وكم من قرية وبلدة كان اهلها كفاراً فأصبح أبناؤهم مسلمين.
ومن وجوه التحدي في الآية موضوعية الرأفة على العيال ومحبتهم والحرص على عدم وصول الأذى اليهم، فالكافر في جداله يريد ان يؤذي المؤمنين في أنفسهم وابنائهم وعقيدتهم فجاءت المباهلة لرد الأذى في نفسه وابنائه بسبب كفره وعناده، فكأن هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( )، فجاءت المباهلة لإدخال البؤس والحزن في قلب الكافر بسبب ما يحل بساحته هو وعياله من المصائب والشدائد، ومع ان الآية جاءت باحضار الأبناء والنساء من الفريقين بعرض واحد الا ان هناك تبايناً في الذات والموضوع والحكم من وجوه:
الأول: ايمان وطهارة أهل بيت النبوة واتصاف خصمهم بالكفر والجحود.
الثاني: اقبال اهل البيت الى المباهلة طاعة لله ورسوله، بخلاف الكافرين الذين يأتون مكرهين.
الثالث: علامات السكينة والبهجة على أهل البيت عند المباهلة، والفزع والخوف على الكافرين.
الرابع: استثمار أهل البيت مناسبة المباهلة للدعاء والتضرع والخشية منه تعالى، ولا موضوع عند الكافرين في المباهلة، ان وقوف جميع المسلمين مع أهل البيت في مباهلتهم عز لهم وفيها تنمية لود ومحبة المسلمين لأهل البيت وتجلي حقيقة وهي ان هذا الحب مترشح عن حسن امتثالهم لأمر الله عز وجل، ومشاركتهم بالجهاد والى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتخليص المسلمين والى الأبد من أهل اللجاج والعناد وليكون ابناء رسول الله أسوة لأبناء المهاجرين والأنصار.
وفي الآية اثم كبير للكافرين، وثواب عظيم لأهل البيت يتمثل بمساهمتهم الجهادية في المباهلة، وتأسيسهم لقواعد مشاركة اولاد المهاجرين والأنصار بل أولاد المسلمين عامة في الجهاد وفق المستطاع وقواعد الميسور.
ومع رفع القلم عن الصبي وعدم توجه التكليف له حتى يبلغ، فقد جاءت هذه الآية بمشاركة الأبناء في المباهلة، وفيه وجوه:
الأول: ارادة الأولاد البالغين، لشمولهم بالخطاب التكليفي.
الثاني: اضافة الحسن والحسين للأولاد البالغين على نحو الإستثناء من الصبيان، اجلالاً لقدرهما ولورود النصوص بشأنهما كما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: الحسن والحسين امامان قاما او قعدا، والمشاركة في المباهلة من القيام وارادة الجهاد وهي سعي في ذات الله.
الثالث: اطلاق اللفظ وشمول الأولاد مطلقاً كباراً وصغاراً، ولكل من الفريقين احضار اولاده صغاراً وكباراً او هما معاً أي يأتون بالصغير والكبير في آن واحد.
الرابع: خصوص الأبناء الصغار من الفريقين لأنه أكثر اثارة للشفقة والرحمة وليشعر الأب بانه يعرض نفسه وأولاده وعياله للأذى والإبتلاء ويمكن الإستدلال عليه بان الزهراء عليها السلام أشتركت في المباهلة بعنوان (النساء) مع انها بضعة رسول الله الطاهرة، والحسن والحسين ابناها الا انها تلتقي معهم بالبنوة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والأصح هو الثالث لإصالة الإطلاق ولأن المدار على عنوان الابن وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن والحسين لإثبات حقائق متعددة منها:
اولاً: ان الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد وردت فيه نصوص عديدة، وعليه اجماع المسلمين.
ثانياً: تحمل أهل البيت للمسؤوليات الجهادية منذ نعومة أظفارهم.
ثالثاً: ليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من ابناء الا الحسن والحسين والزهراء فجاء بهم للدلالة على صدق نبوته وصحة عمله، وهو مصداق عملي للآية السابقة [ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ] فحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الإمام علي والزهراء والحسن والحسين عليهما السلام يدل بالدلالة الإلتزامية على انعدام الشك في نفسه وانه وأهل بيته قد بلغوا مراتب اليقين.
وهو دعوة للمسلمين للجهاد في سوح المعارك، أي ان الزهراء والحسن والحسين يقومون بالمباهلة والملاعنة مع الكفار فيندفع الصحابة في القتال ودعوة الناس الى الإسلام بالموعظة والسيف، كما ان عليا اشترك بالقتال من أول معركة مباركة وخرج للمباهلة، ولم يتخلف عن أحدهما ليفوز بالإنفراد بما في هذا الجمع من المنقية والتي تذكر هنا لأول مرة.
رابعاً: الأسوة والقدوة للمهاجرين والأنصار في أنفسهم وفي اعداد ابنائهم للتضحية في سبيل الله.
وتدل الآية على اهتمام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالناشئة والصغار واعدادهم للمسؤوليات الجهادية فخروجه بالحسن والحسين دعوة للصغار من ابناء المسلمين للإقتداء بهما وأخذ الدروس منهم.
خامساً: من المسلمات ان النبي صلى الله عليه وآله وســلم لا يفعل الا ما يأمره به، وجــاء خـروجه للمباهلة تفسيراً عملياً للآية القرآنية وكان خروجه بأهل البيت بأمر منه تعالى لبيان المصداق العملي للآية.
سادساً: لقد بعث خروج أهل البيت الخوف والفزع في قلوب وفد نصارى نجران وكان من أسباب تراجعهم عن المباهلة وسؤالهم المصالحة على الجزية، وأخرج الحاكم وصححه عن جابر ان وفد نجران أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ما تقول في عيسى فقال هو روح الله وكلمته وعبد الله ورسوله قالوا له هل لك أن نلاعنك انه ليس كذلك قال وذاك أحب اليكم قالوا نعم قال فإذا شئتم فجاء وجمع ولده الحسن والحسين فقال رئيسهم لا تلاعنوا هذا الرجل فوالله لئن لاعنتموه ليخسفن باحد الفريقين فجــاؤا فقالوا يا أبا القاسم انما أراد أن يلاعنك سفهاؤنا وانا نحب أن تعفينا قال قد أعفيتكم ثم قال ان العذاب قد أظل نجران.
والمعروف ان المسلمين لا يبدأون بالعدو بالقتال، حتى يبدأ هو بالإعتداء فيأتي الرد دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، اما المباهلة فقد بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الذي دعا الخصم للملاعنة ولم ينتظر الإذن منهم بالخروج والموافقة الصريحة، بل قام بالخروج بأهل بيته امام الملأ، وقد ورد عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأهل بيته ان انا دعوت فآمنوا انتم.
واجماع المسلمين على ان آية المباهلة حصلت مع وفد نصارى نجران وهذا شاهد على الدقة والضبط في تأريخ الإسلام وأحكام القرآن والمصاديق العملية لآياته، وأراد الله عز وجل لهذه المدينة الذكر في كتب التفسير والسنة النبوية لتكون دليلاً على قدوم الوفود من المدن المختلفة لدخول الإسلام، او لرؤية معالم النبوة وأسرار التنزيل.
لقد جاء الخطاب في الآية بصيغة الجمع (تعالوا) وهو على قسمين:
الأول: عام، يتعلق بأحكام آية المباهلة الى يوم القيامة.
الثاني: خاص بسبب نزول الآية ومجيء وفد نجران، فتظهر الآية انهم كانوا جماعة ومعهم أولادهم وأهليهم وقد وردت النصوص في عددهم على أقوال:
الأول: انهم أربعة عشــر رجــلاً من اشــرافهم منهــم الســيد وهــو الكبير والعاقب الذي يكون بعده وصاحب رأيهم، عن ابن عباس.
الثاني: ثمانية من أساقف العرب، عن ابن عباس ايضاً.
الثالث: ذكر السيد والعاقب فقط، وعن الشعبي: العاقب والطيب.
الرابع: ذكر أسماء الأشخاص الذين بعثهم أسقف نجران.
وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان بسم الله اله ابراهيم واسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران ان أسلمتم فانى أحمد اليكم الله اله ابراهيم واسحق ويعقوب أما بعد فانى أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فان أبيتم فالجزية وان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام.
فلما قـرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الاسقف ما رأيك فقال شرحبيل قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية اسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل، ليس لى في النبوة رأى، لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الاسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالواله ما تقول في عيسى بن مريم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عندي فيه شئ يومى هذا فاقيموا حتى أخبركم بما يقال لى في عيسى صبح الغد فانزل الله هذه الآية ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب إلى قوله فنجعل لعنة الله على الكاذبين فأبوا أن يقروا بذلك.
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشــتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة عليهم السلام تمشى خلف ظهره للملاعــنة وله يومــئذ عدة نســوة فقال شرحبيل لصاحبيه انى أرى أمرا مقبلا ان كان هذا الرجل نبيا مرسـلا فلاعناه لا يبقى على وجه الارض منا شعر ولا ظفر الا هلك فقالا له ما رأيك فقال رأى أن أحكمه فانى أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال انى قد رأيت خيرا من ملاعنتك قال وما هو قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية.
أي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي بعث الى أهل نجران يدعوهم الى الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث الى الملوك والسلاطين يدعوهم الى الإسلام ومنهم ملك الروم وكسرى والنجاشي، فمن باب أولى ان يدعو أهل نجران.
وفي الحديث ذكر لأسماء الأشخاص الذين بعثهم أسقف نجران وهذا لا يتعارض مع ذكرهم بالصفة في أكثر النصوص او ذكر عددهم وانهم أربعة عشر رجلاً او ثمانية لإمكان الجمع بين الأحاديث وارادة الفرد الأهم بالعدد القليل منهم، وارادة مجموع أفراد الوفد بالعدد الكثير وهو أربعة عشر.
ولم تذكر الأخبار ان وفد نجران جاءوا معهم بالأولاد والنساء، وفيه وجوه:
الأول: مجيء اولادهم وازواجهم معهم الى المدينة، كما كان بعضهم يخرج ومعه ثقله واهله في الغزو.
الثاني: ان وفد أهل نجران يحضرون معهم اولاداً ونساءً لنصارى في المدينة.
الثالث: يستعينون بالذي يجادل النبي والمسلمين وان كان من اليهود او غيرهم، فيخرج معهم اولاده ونساءه للمباهلة.
الرابع: لم يحضر من نجــران الا الوفد، ولم يأت مــعهم الأولاد والنساء ولكن احكام الآية جاءت عامة وشــاملة لزمان النبوة وما بعده.
الخامس: امهال وفد نجران ريثما يأتون بأولاهم ونسائهم.
والأرجح هو الأول وان الوفد جاء معه بالأولاد والأهل، والتباين صغروي فحتى في حال عدم حضــور الأولاد والنسـاء معهم، فان الملاعنة تشملهم لأن خطاب النبي موجــه الى الوفد بدعوة اهليهم معهم فمن لم يكن حاضـراً يعتبر مشــتركاً لأن وليه رضــي له بالمباهــلة لــذا فقد ورد ان السيد قال للعاقب: قد والله علمتم ان الرجل نبي مرسل ولئن لاعنتموه انه ليستأصلكم وما لاعن قــوم قط نبيا فبقى كبيرهم او نبت صغيرهم.
لقد جاءت المباهلة مع أهل نجران من باب المثال، وليس الحصر فكما كانوا رسل قومهم الى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فانهم أصبحوا رسل الإسلام الى الناس جميعاً في موضوع التحدي والملاعنة، وتوكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدق نبوته، ويمكن معرفة نتائج المباهلة على اهل المدن الأخرى بلحاظ ان أكثر مدن وقرى الجزيرة واليمن أخذت ترسل وفودها لإعلان الشهادتين ودخول الإسلام، أو انهم يأتون الى المدينة المنورة ويسمعون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويــرون الآيات فلا يرجعـون الا وقد أسلموا وأتقنوا اداء الصلاة.
ولم يحدثنا التأريخ ان وفداً آخر جاء وأراد المباهلة او انها عرضت عليه مما يدل توقف حالات الجدال والمغالطة ذات صبغة العناد والإصرار، وبذا تعتبر آية المباهلة من آيات الجهاد وهي سلاح عقائدي خفف عن المسلمين ومنع من ايذائهم بالجدال، وجعلهم يتوجهون لوظائفهم العبادية، وكانت سبباً في فضح رؤوس الضلالة الذين يفرون من المباهلة ويدرك الناس جميعاً ما في هذا القرار من معاني العجز والوهن وانعدام الدليل وزيف ما يتمسكون به.
وجاءت آية المباهلة لتدعو الناس الى نبذ العناد والإستكبار، وتحثهم على الإلتفات الى آيات النبوة والتدبر فيها، وفيها اشارة لغضب الله على الكافرين الذين لم يكتفوا بالجحود بل أصروا على اللجاج والخصومة والغلو بالأنبياء، لأن الغلو بعيسى دعوة للبقاء على شريعته.
فمن يقول ان عيسى ابن الله لا يختار له بديلاً، لإنفراده عيسى بهذه الخصوصية التي توجد عند أي شخص آخر، ولأن مسألة النبوة والوهية عيسى امر غير صحيح شرعاً وعقلاً، وتضر بالشخص والجماعة جاءت آية المباهلة للتخلص من الغلو المانع من دخول الإسلام، ولم تنحصر مضامين آلة المباهلة في تنقية المجتمعات بأهل زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي باقية الى يوم القيامة.
لقد نزلت الآية في السنة التاسعة او العاشرة للهجرة النبوية المباركة وروي ان وفد نصارى نجران جاءوا مرتدين الثياب الحبرات جباباً وأردية، يقول بعض من رآهم من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رأينا وفداً مثلهم وكان فيهم اربعــة عشـــر رجـلاً هم زعماء القوم، وقيل أن عدد أعضاء الوفد ستين , فيهم رجال من بني بلحارث بن كعب , ومن المجموع ثلاث نفر اليهم يرجع لهم القرار وهم :
السيد واسمه الأيهم , وهو إمامهم وصاحب رحلهم .
و(العاقب) وهو امير القوم والذي لا يصدرون الا عن رأيه واسمه عبد المسيح .
وأبو حارثة بن علقمة وهو اسقفهم وجدهم وامامهم وصاحب مدارسهم وكنائسهم وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى اصلح نفسه علمياً في شؤون دينهم واكرمه ملوك الروم واعانوه بالمال وبنوا له الكنائس لعلمه بامور دينهم.
وحديث المباهلة متواتر بين المسلمين وورد بعشرات الطرق المختلفة وتظهر فيه مضامين الأخلاق في الإيمان واطمئنان اهل البيت لدينهم وعقيدتهم ولقد اجمع المسلمون على ان المقصود في الآية الكريمة [نِسَاءَنَا] هي الزهراء عليها السلام، والنساء: اسم لجماعة الأناث من جنس الإنسان وهو جمع كثرة وجمع القلة “النسوة” كما في قوله تعالى [ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ]( ) وهو جمع لا واحد له من لفظه والمفرد له امرأة.
وحضور الزهراء عليها السلام هذه الواقعة التأريخية والمنازعة العقائدية له مدلولات عديدة منها:
1- الأولى : ان الزهراء رمز للمسلمات واسوتهن والممثل لجماعتهن في المحافل الدينية الكبيرة وفي تلقي الأمر النازل من السماء، وهي الرائدة في منازل الدفاع والذب عن الأمة.
2- الثانية : قيامها بالدعوة الجهادية ذات التضحية لكل النساء لدخول الأمة والتسليم بصدق الرسالة المحمدية، وحث معاشر النساء على الإشتراك بالدعوة والجهاد ضمن الأحكام الخاصة بالمرأة في هذا الباب.
3- الثالثة : بيان لإشتراك المرأة في الجهاد والوجوه التي يمكن لها اتيانها منه واعتبار المقام من باب الإمكان والمثال لا الحصر.
4- الرابعة : بروز الزهراء عليها السلام الى الصدارة في منازل الفضل والمناقب.
5- الخامسة : اندفاع الزهراء عليها السلام بحرص وتفان الى مواطن الثواب واسباب الأجر.
6- السادسة : التوكيد للنصارى وغيرهم على افضلية الزهراء واعطاؤهم درساً بافضليتهـا على مريم بنت عمران والمؤمنات في الملل السابقة للإسلام.
7- السابعة : جعل نصارى نجـران ومن ورائهم اهل الكتاب وغير المسلمين مطلقاً يدركون استعداد المسلمات وعوائل المســلمين للوقوف خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومؤازرته ونصــرته واقترانها بالتسليم والرضا.
8- الثامنة : ورود النساء في الآية الكريمة بلغــة الجمع وتحقـق المصــداق الواقعي في شــخص الزهـراء يدل على ان الزهــراء عليها الســلام كانـت امة في الخير والصلاح، قال تعالى [ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا]( ).
9- التاسعة : صلاحية الزهراء عليها السلام للتصدي للدعاء الحاسم الذي يعتبر سلاح الأنبياء واظهار تعلق روحها الطاهرة بروح القدس وان حضورها كان حضوراً جمعياً من حيث الجهة والحيثية والإعتبار.
10- العاشرة : استعداد الزهراء عليها السلام للبذل والتضحية من اجل احقاق الحق وصدق النبوة.
11- الحادية عشرة : المباهلة شاهد عملي عام يؤكد اطمئنان الزهراء عليها السلام لصدق قضيتها وسلامة سيرتها وصحة شهادتها على نبوة ابيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
12- الثانية عشرة : خروج الزهراء للمباهلة آية من آيات النبوة وبراهينها ودلالة على اكرام الإسلام للمرأة واظهار ما لها من الشأن في الدعوة وانتشار الإسلام.
13- الثالثة عشرة : اظهار ما للزهراء عليها السلام من الكمال والمنزلة الرفيعة حيث امر الله تعالى بحضورها وقائع المباهلة وقيامها بالدعاء.
14- الرابعة عشرة : دخول دعاء الزهراء عليها السلام في مرتبة الدعاء المستجاب.
15- الخامسة عشرة : ان الزهراء عليها السلام مرضية عند الله عز وجل ومباركة في القول والفعل.
16- السادسة عشرة : استمرار الزهراء في الوقوف خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤازرة وناصرة ومصدقة وان زواجها وما رزقها الله من الأولاد العظام رفد كبير ومـبارك في ذات السـبيل، ففي صباها تصدت للذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكف اذى قريش والآن تسخر كل ما تملك من اجـل مباهـلة الكــفار والمشـركين واستعداداً لها.
17- السابعة عشرة : اعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشد عضده لكي تقر عينه بموقفها في نصرته والتوكيد عليها بالإستعداد للإستجابة في كل ما يطلب من اجل احقاق الحق واثبات الرسالة.
18- الثامنة عشرة :الإمتثال للأوامر الإلهية ولأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتصدي للتفسير العملي للآيات القرآنية النازلة، وفيه درس بليغ للمسلمين جميعاً وتأديبهم على طاعة الرسول الأكرم.
19- التاسعة عشرة : بيان الأهمية العظيمة للدعاء سلاحاً وفعلاً جهادياً مؤثراً ومباركاً.
20- العشرون : جواز اشتراك النساء في شؤون الدين واصوله والسعي في انتشاره ضمن القيود التي يضعها الشارع المقدس.
21- الواحدة والعشرون : مسؤولية المؤمنة خارج المنزل فيما يخص تعظيم شعائر الله وترسيخ الشريعة.
22- الثانية والعشرون : ضرورة تفقه المرأة واعانتها على اتيان الأعمال الصالحة بوعي وبصيرة في الدين.
23- الثالثة والعشرون : استعداد الزهراء عليها السلام لتجديد موضوع المباهلة مع غير وفد نجران وتكرارها مع اليهود مثلاً وبقاء الزهراء عليها السلام دون غيرها طرفاً اساسياً في تحديد قوى الضلالة والجحود، فموضوع المباهلة لم ينحصر مع النصارى بل ورد التحدي فيه مع اليهود.
الرابعة والعشرون : الإثبات التأريخي الخالد لقدسية الزهراء عليها السلام وعظيم منزلتها ومكانتها في نصرة الإسلام وقيام حجة وبرهــان قاطــع للإحتجــاج في تفضيل الزهراء عليهـا السلام وضرورة اكرامـها والإفتخار الإسلامي العام بما قامت به من عمل جهادي رائد.
حسم الموقف بسرعة، وانصياع وفد نجران للحق والصدق حال رؤية الزهراء عليها السلام وحضورها للمباهلة، فقد جاء بالرواية ان رؤساء وفد نجران وبعد نزول الآية الكريمة وقراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها عليهم اتفقوا في الرأي على استنظار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى صبيحة اليوم التالي فلما رجعوا الى رحالهم قال لهم الأسقف: انظروا محمداً في غد فان غدا بولده واهله فاحذروا مباهلته، وان غدا باصحابه فباهلوه فانه على غير شيء.
وعندما حل نهار اليوم التالي وهو اليوم الرابع والعشرون من شهر ذي الحجة جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخذاً بيد علي بن ابي طالب عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام يمشيان خلفه وفاطمة عليها السلام، وخرج النصارى يقدمهم اسقفهم فلما رأى الأسقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اقبل بمن معه سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمه علي بن ابي طالب وهو صهره وابو ولديه وهذان الطفلان ولدا بنته من علي وهم احب الخلق اليه وهذه الجارية بنته فاطمة اعز الناس عليه واقربهم الى قلبه، فنظر الأسقف الى العاقب وصاحبه وقال لهما: انظروا اليه قد جاء بخاصته من ولده واهله ليباهل بهم واثقاً بحقه، والله ما جاء بهم وهو بمخوف يتخــوف الحجة عليه، فاحذروا مباهلته.
( ورآهم الأسقف قال: يا أبا القاسم ! إنا لا نباهلك ، ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به . فصالحهم رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” على ألفي حلة من حلل الأواقي ، قسمة كل حلة أربعون درهما ، فما زاد أو نقص ، فعلى حساب ذلك ، وعلى عارية ثلاثين درعا ، وثلاثين رمحا، ثلاثين فرسا، إن كان باليمن كيد، ورسول الله ضامن حتى يؤديها، وكتب لهم بذلك كتاباً( ).
ولقد جاء لفظ (أنفسنا) ويراد منه غير شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة (تعالوا ندع) فالدعوة مركبة من داع ومدعو، فكما تأتي دعوة الأبناء والنساء تأتي دعــوة الأنفس، وورد لفظ (النساء) بجمع الكثرة، بينما ورد لفظ (الأنفس) بجمع القلة، والإجماع على خروج الإمام علي عليه السلام مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المباهلة وفيه اكرام وتشــريف للصحابة والمسـلمين جميعاً، ومن الآيات ان المهاجرين والأنصار تلقوا هذا الإختيار بالرضا والقبول، وهو عنوان جهاد.
وفي اختيار أهل البيت وجوه:
الأول: خاصة النبي أعلم بأحواله الشخصية وصدقه.
الثاني: يبدأ النبي في دعوته من أهل بيته.
الثالث: لزوم تصـديق أهل البيت بالنبوة قبل غيرهم لأنهم أعلم بالآيات والمعجـزات الخارقة التي يختص بها النبي من بين الناس.
الرابع: من المسلمات ان الإنســان أكــثر شفقة على أهل بيته واولاده من غيرهم، فاحضاره لهم في الملاعنة عنوان التحدي وشاهد صدق.
لقد كانت المباهلة معركة حاسمة ومواجهة عقائدية بمدد سماوي، وتوقف عليها ثبات دعائم الدين في المجتمعات وهي شاهد بان الإسلام انتشر بالحكمة والعلم.
والواو في و(نساءنا) و(أنفسنا) تفيد المغايرة والتعدد، أي ان الأبناء غير النساء وهل يشترط الذكورة في لفظ الابن الوارد في الآية ام تصح الأنثى الجواب هو الأول، فلابد من حضور الولد الذكر الذي يتولى مسؤولية حفظ الدين ووراثة العقيدة والمسؤولية العامة، وقد جاءت الزهراء عليها السلام بصفة النساء لتمثل نساء الأمة مع ان لفظ الأبناء يشملها.
وقد جاء تقديم الأبناء على النساء، ولابد له من دلالات عقائدية منها:
الأولى: أولوية الابن عند الإنسان في المحبة والرأفة والعناية.
الثانية: الأب أكثر شفقة على الابن منها على الزوجة.
الثالثة: جاءت الآية بصيغة الإنذار والوعيد وبدأت بالأبناء وبصيغة الجمع لبعث الخوف على الأولاد والنسل.
الرابعة: بيان الأثر الآجل المترتب على المباهلة وانه يعني هلاك النسل، الأمر الذي يجعل الكافر والمعاند يرتد ويمتنع عن الجدال والمغالطة.
الخامسة: الإخبار بان المباهلة حكم باق مـع الأبناء في أجيالهم المتعاقبة.
وجاء تقديم النساء على الأنفس وفيه مسائل:
الأولى: التوكيد على منزلة المرأة ولزوم عدم الإستهانة بدعائها وسؤالها.
الثانية: بيان اثر استئصال النساء على الرجال والمجتمعات، فاذا وقعت الملاعنة على المرأة واصابتها الآلام والأسقام فان الرجل ينشغل عن الجدال والبحث عن الشبهات.
الثالثة: توجه الخطاب التكليفي للمرأة على نحو الاستقلال وليس التبعيةللرجل أباً كان او ابناً.
وجاء لفظ ابناءنا، ونساءنا باضافته الى صيغة الجمع في ارادة الطرفين، وعدم انحصار الأمر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وان كان ظاهره اضافة الضمير للمتكلم.
وقد جاء لفظ أنفسنا آخرها لبيان مسك الختام واتصال الإنذار وان البلاء وأثره ينزل بالأهل والشأن قبل ان يصل الى الأنفس، كما ان الأنفس والصحابة موجودون في سوح المعارك والجهاد، والملاعنة وظيفة اضافية لهم.
ويلاحظ في الآية عدم تكافئ الفريقين فطرف الإسلام فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الكمالات الانسانية وسيد ولد آدم، وفيه أهل الكساء وما لهم من عظيم المنزلة على فرض وجود أبناء وأهل وفد نجران معهم.
وعدم التكافئ هذا باب لتعجيل نزول البلاء بالخصم وشدته لذلك لم يرتطم الخصم بها، كما ان التفصيل والتعدد في أطراف المباهلة بيان لتشريع المباهلة وشروطها الثابتة الى يوم القيامة وامكان وقوعها في المسائل الإبتلائية في باب الجدال والعناد بعد انتقال الرسول الأكرم الى الرفيق الأعلى.
وقد ورد في موضوع النزول عن علياء بن أحمر اليشكري قال لما نزلت هذه الآية قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى على وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلا عنهم فقال شاب من اليهود ويحكم أليس عهدكم بالامس اخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير لا تلاعنوا فانتهوا( ).
ولا تعارض بين هذا الخبر وما ورد في اسباب النزول وخصوص المباهلة مع وفد نصارى نجران.
مما يعني ان المباهلة قانون وتشـريع خاص عند الإبتلاء بأهل الخصومة وزاجر لهم لإجتناب الجدال، ودعوة لدخول الإسلام وتوكيد لثقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهــل بيته وأصحابه بالتنزيل، واطمئنان نفوسهم لما هم عليه من الهدى والدعوة الى المباهلة وحدها مرتبة رفيعة من مراتب الإيمان.
ثم نبتهل تفيد (ثم) معنى الترتيب والتراخي، فتأتي المباهلة والملاعنة بعد دعوة الأهل، وفي الآية مسائل:
الأولى: اشتراط حضور الأهل في المباهلة.
الثانية: كثرة الأطراف تفيد الأهمية، والتحذير من العناد، ولزوم عدم الملاعنة الا بعد الوثوق من الأمر.
الثالثة: اعطاء مهلة محدودة بين الدعوة الى المباهلة ووقوعها كفرصة للتدبر والتأمل والنظر في العواقب، مما يدل على ان المباهلة لم تشرع الا لهداية الناس أولاً واصلاحهم ومنعهم من التعدي بالجدال والمغالطة.
ولقد أخبر القرآن عن حقيقة وهي ان الإسلام يستحق الجهاد دونه بالمباهلة وانها خالية من الضرر والإضرار وفيها ثبات دعائم الدين ولابد ان يكون أحد الفريقين على صواب وألآخر على ضلالة لذا رجع وفد نصارى نجران ولم يدخلوا في المباهلة ورضوا بالجزية.
والفعل الثلاثي بهله بهلاً واسم فاعله باهل، والأنثى باهلة، والبهلة- بضم الباء- لعنة، لقد دعاء النبي الطرف الآخر الى الإشـتراك في الإبتهال والتضرع الى الله بنزول اللعنة على الطرف الذي يكذب بآيات الله.
ومع ان احــد الطرفين كاذب فانه يبتهل ويتبـاهل ليكــون سـبباً بحلول البلاء بساحته ونزول العقاب به، وفي الآية نول امهال لعدم المؤاخذة.
نظرية تعدد الذنب
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الأرض مستقراً للإنسان في حياته الدنيا وأمد في عمره وسخر له الأشياء وهيء له أسباب التصرف والإرادة والفعل الإختياري ليأتي الحساب الأخروي على عالم وسجلات من الأقوال والأفعال ومصاديق الخير والشر، وما فيه الفوز او الخسارة وهذا لا يعني ان الدنيا دار عمل من غير حساب على نحو الإطلاق والقطع التام، فقد يأتي العقاب الإبتدائي في الدنيا وينزل بساحة الإنسان السقم والألم نتيجة ذنب ارتكبه وهذا العقاب في حقيقته من مصاديق وعمومات الرحمة الإلهية في الدنيا، لأنه سبب للتوقي والإحتراز من العقاب الأخروي لما فيه من معاني الزجر والمنع من الإقامة على الذنوب والمعاصي.
ومن قواعد الإمهال ان العقاب لا يأتي على الفرد الواحد من المعصية بل يتفضل سبحانه ويمهل الإنسان حتى يتعدد منه الذنب سواء المتحد او المتعدد في نوعه وجهته وهو الذي نســميه نظــريــة (تعدد الذنب) الا ان يشاء الله عز وجل تعقب الذنب بالعقوبة حال حصوله، وهو من وجــوه الرحمة بالعبد ومن مفاهيم قاعدة اللطف، فمن الآيات ان تعجيل العقوبة وكذا الإمهال كلاهما من مصاديق اللطف الإلهي واعانة العبد على الإستــغفار والتوبة والإنــابة، وتحتمل العقوبة الدنيوية وجهين:
الأول: وقوع العقوبة في الدنيا.
الثاني: امهال العبد اذا أذنب الى ما بعد موته.
والأصل هو عدم الوقوع باعتبار ان الدنيا دار عمل بلا حساب، ولكن هذا الأصل ليس مطلقاً ودائماً فقد يقع العقاب الإبتدائي المتقدم حتى على عالم البرزخ اذا كان فيه اصلاح للعبد وامتناع عن العودة للذنب، ويقع للعبد دون آخر بل ذات العبد لا يلاقي العقاب الإبتدائي في كل ذنب يفعله بل بعض الذنوب وفق قواعد اللطف الإلهي، ومن العقاب الإبتدائي عدم صرف البلاء عند اجتماع مقدماته وترك الأشياء باسبابها المادية المحضة من دون مدد الهي في التخفيف والنماء، التخفيف في وطأة الأذى، والنماء والبركة في الخيرات.
وفي حال حصول العقاب في الدنيا فهل يأتي عاجلاً أم يكون آجلاً ومتأخراً في زمانه عن الذنب الجواب هو امكان الأمرين معاً وعدم وجود تعارض بينهما، ولكن وقوع أحدهما دون الآخر بمشيئته وفضله تعالى، فلا يقع الا الأصلح للعبد والأفضل له في دينه ودنياه وبما يمنع من تكرار الذنب وحدوث الخسارة في الآخرة.
وقد يلتفت العبد الى نفسه ويرى انه تمادى في الذنب ومع هذا فان الله يمهله ويوسع عليه من فضله وهذا من قانون الإمهال وفيه استدراج له، كما ان ادراك العبد لما هو عليه من التقصير والضلالة جزء علة للإمهال، فمن يتذكــر الذنب ويلتفت الى خــطئه عـــند ارتكابه أقــل سوء وقبحاً ممن لم يتذكره او يفعله وكأنه عمل صحيح، وقد جاءت آية المباهــلة بالإنذار من العقاب الإبتدائي ونزول البلاء الدنيوي بحسب الأخبار المستــفيضــة الواردة عن النبي محــمد صــلى الله عليه وآله وسلم.
وللإيمان والكفر موضوعية في تأخير العذاب او تعجيله في الدنيا فالإيمان واقية وحرز من العذاب الدنيوي، والكفر مقدمة ذاتية لتعجيل العقاب في الآخرة، وان خضع لقواعد نظرية تعدد الذنب والإستدراج والإمهال بفضله تعالى.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الجمع) وهو ان يأتي المتكلم بشيئين او أشياء متعددة على نحو الجمع في موضوع او حكم، وأستدل عليه بقوله تعالى [ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( )، كما أستدل عليه بقوله تعالى [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ* وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ]( ).
ومن الشواهد العقائدية عليه هو الجمع المركب في هذه الآية من وجهين:
الأول: الجمع بين أفراد المسلمين وأفراد الكافرين في المباهلة والملاعنة.
الثاني: الجمع والتعدد في أفراد كل فرقة من الفرقتين اللتين تشتركان في المباهلة والملاعنة والأول لابد منه لأن الملاعنة مفاعلة بين طرفين، اما الثاني والثالث فله دلالات عقائدية متعددة.
فلم تكتفِ الآية بذكر الأنفس بل جاءت بذكر النساء والأبناء ولم يمنع صغر سن الأبناء ورفع القلم عنهم من اشتراكهم في المباهلة باعتبار ان الأمر يتعلق بالعقائد وتوارث المبادئ، ففي اشتراك الأبناء بيان لوجه من وجوه المباهلة وهو ترتب الأثر عليها في الأجيال اللاحقة في اشارة الى ارادة استئصال الجدال واثارة الشبهات وتنزيه المجتمعات والذراري منها، ولتوكيد أهمية المباهلة وانها لاتنحصر بجيل من الناس ثم يعود الجيل اللاحق الى الجدال وما هو أشد منه.
ان الجمع في آية المباهلة أعم من أن ينحصر بالبلاغة وهي أحد أفراد العلوم التي يدل عليها الجمع والتعدد في آية المباهلة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (حسن النسق) وهو ان يأتي المتكلم بكلمات متتاليات متعاقبات متلاصقات على نحو العطف والتتابع في الموضوع المتحد، ومنه آية المباهلة اذ جاء العطف بواو النسق بين الأبناء والنساء والأنفس، وهو في المقام يفيد الترتيب فقد بدأ بالأبناء لشدة حب الإب للابن ولما يراه فيه من امتداد ذكره وحضوره في الدنيا.
وفي موضوع المباهلة يضاف فرد آخر وهو امتداد الوجود الخارجي للمبادئ والعقائد التي عليها الآباء، فجاء الأمر الإلهي باشتراك الأبناء في المباهلة لأخبار رؤساء الملل الأخرى بان الجدال بالباطل يجعل اعمار عقائدهم قصيرة ولا تلبث ان تزول وينقطع ذكرهم، وفي حال عدم وقوع المباهلة وفرار القوم منها فهل يحصل الإستئصال الجواب لا، وهو الذي يدل عليه الواقع والوجدان ولكن هذا لا يعني عدم ترتب الأثر على الدعوة الى المباهلة وما فيها من لغة الإنذار والوعيد والتخويف، والأثر المترتب عليها على مراتب وهي:
الأول: نزول آية المباهلة من عند ، لأنها لم تنزل الا بعد ان بلغ الجدل درجة تؤدي الى الضرر والإضرار.
الثاني: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب الى المباهلة.
الثالث: خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل بيته الأطهار الى المباهلة ومعه الملأ من المسلمين.
الرابع: حصول المباهلة والدعاء والتأمين عليه واشتراك الطرفين فيه.
والقسم الرابع هو الأهم، والذي لا تتم المباهلة موضوعاً وحكماً الا به، ولكن هذا لا يعني عدم وجود موضوعية وأثر لكل من سبب النزول ومقدمات المباهلة، لذا فان خروج النبي واهل بيته جهاد وتضحية وسعي في سبيل .
وقد تتوج الخروج بقبول وفد نصارى نجران بالجزية، وكثير من الغزوات تنتهي بدفع الجزية، فتكون هذه النهاية نصراً للإسلام والمسلمين لذا فان هذه الآية ومبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإمتثال والخروج سبب لنصر عظيم من وجوه:
الأول: قبول الخصم دفع الجزية، فقد جاءوا للجدال بقبول الجزية.
الثاني: ان وفع نجران هم الذين أختاروا دفع الجزية ورضوا بها.
الثالث: من الآيات انهم دفعوا الجزية من غير ان يخرج المسلمون لغزوهم والهجوم عليه، الأمر الذي يدل على ان المباهلة سلاح وجهاد.
قوله تعالى [فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ]
جاءت خاتمة الآية بيانا للثمرة الشرعية من المباهلة وهي الإشتراك بالدعاء والتضرع لوقوع اللعنة على الطرف الذي اختار الكذب والعناد، وتبين الاية وجود تضاد بين المسلمين وأهل الجدال والخصومة، وان الجدال ليس للإستيضاح وطلب الحجة والبرهان، وهذا من التفسير لماهية جدال القوم وموضوعه، وانه مغالطة وشبهات وتحدِ للنبوة وتكذيب للرسالة وادعاء باطل.
ومضمون الآية يدل على وجود فريق صادق وآخر كاذب، وتحتمل صيغة الجمع في لفظ (الكاذبين) ارادة كل كاذب وان اللعنة لا تشمل المسلمين من وجوه:
الأول: أخبرت الآية عن مجيء العلم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن آتاه العلم فهو صادق قطعاً وليس بكاذب ما دام لا يصدر الا عن العلم، وبالنسبة لاخبار عيسى فانها جاءت من السماء والخطاب فيها موجه للناس جميعاً.
الثاني: ذكرت الآية السابقة ان قصص القرآن هي الحق فليس عند النبي الا الحق والصدق.
الثالث: ما يقوله النبي وحـي وتنزيل، ومن يخالفه لابد وان يكون كاذباً.
الرابع: في موضوع المباهلة طرفان , الأول آتاه العلم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه المسلمون، والثاني الذي يصر على العناد والجهاد، ولا يجتمع الحق والباطل، والصدق والكذب، ولم تقل الآية لعنة على (المكذبين) بل ذكرت الكافرين بصيغة اسم الفاعل مما يعني ان موضوع الآية أعم من الجدال وهذا من اعجاز الآية الكريمة، وهناك فرق بين:
الأول: من يقوم بالجدال والمغالطة.
الثاني: الذي يكذب بالآيات والتنزيل والنبوة.
الثالث: الكاذب الذي يجافي الصدق والصواب في قوله وفعله.
والأول أخص من الثاني، والثاني أخص من الثالث، فالكاذبون جمع كاذب وهو المتلبس بالكذب، ولم تأتِ المباهلة للتمييز بين الحق والباطل فقط، بل لمنع الباطل من مزاحمة الحق، واستئصال الكاذب في شخصه وذريته وأسرته.
لقد جاءت خاتمة الآية باشتراك الطرفين اهل الحق وأهل الجدال بالباطل بسؤال ابعاد الذي يكذب بالحق والصدق عن رحمته جزاء له على كذبه وجــداله وايذائه للمؤمــنين الذي يســلمون بما يـرد في التنزيل، وجاءت خاتمة الآية بسؤال نزول اللعنة بالكاذبين وتحتمل أموراً:
الأول: المراد الذين يكذبون بقصة عيسى وفق ما جاء في القرآن الكريم وانه عبد ورسوله.
الثاني: الإطلاق ويشمل الكــاذبين بالتنزيل والحــق.
الثالث: الذين يفترون على الأنبياء والناس.
الرابع: الذين يضعون الاخبار عن قصة عيسى ولادة وسيرة سواء من طرف الافراط او التفريط أي الغلو او الافتراء.
وقد ورد في الملاعنة بين الزوجين قوله تعالى [ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأصالة الاطلاق وان افاد ظاهر النصوص والأخبار بان القدر المتيقن من اللعنة هو شمول وفد نجران ومن ورائهم من أهل بلدتهم.
وقد ورد عن الشعبي قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى قولا في عيسى بن مريم فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فيه فانزل الله هذه الآيات في سورة آل عمران ان مثل عيسى عند الله إلى قوله فنجعل لعنة الله على الكاذبين فامر بملاعنتهم فواعدوه لغد فغدا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة فابوا أن يلاعنوه وصــالحوه على الجزية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أتانى البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة( ).
وفي خبر حذيفة ان العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاراد أن يلاعنهــما فقال أحدهــما لصاحبه لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له نعطيك ما سألت( ).
نعم جاءت الآيات بذم الكافرين واستحقاقهم اللعنة والعذاب، وقد يقول قائل ان الجدال من الإنشائيات ويختلف عن الكذب، ويقوم بتزيين صورة الجدال على نحو الإطلاق مع انه نوع خصومة ولجاج، فجاءت هذه الآية لتنفي موضوع الجدال وتنعت الذي يجادل ويحتج بعد نزول الحق انه من الكاذبين الذين يستحقون اللعنة، لما في التنزيل من الدلالة على اليقين.
لقد تضمن التحدي في الآية وجوهاً عديدة منها ما لو تمت المباهلة والملاعنة فانها تكون امتحاناً وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ ان الملاك سيكون في تعجيل العذاب على الكفار والجاحدين خصوصاً وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالقرآن واخبار عيسى من السماء والنصارى واليهود يكررون الإدعاء الباطل المركب على عيسى منذ مئات السنين.
فحينما يأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ويخبر بانه من عند ويدعو الناس للتصديق بنبوته فانهم يطالبونه بالتحدي ويعلنون تصديهم له، فلو تمت المباهلة لتطلع المسلمون الى البلاء الذي يحل بنجران وأهلها.
قانون القوة
لقد جعل الله الآية القرآنية كياناً سماوياً مستقلاً، وعالماً عقائدياً خاصاً، تسبح في بحوره الألباب ويتيه في معانيه أرباب العقول وعشاق الحكمة، ان تقسيم السورة القرآنية الى آيات بأمر تعالى وتعليم جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية قدسية وفضل الهي ودعوة للتحقيق، وتذكير بلزوم تعاهد هذا العلم واستقراء ما فيه من الدلالات والمضامين والقوانين ومنها ان كل آية لها قوة وشأن مستقل، وتأثير في عالم الأفعال والثناء على مقام الربوبية والإمتثال للأوامر الإلهية، والإصلاح وتهذيب النفوس، ومفاهيم الجزاء بقسميه الثواب والعقاب.
وهذا الشأن والأثر والفعل العظيم للآية يمكن ان نسميه (قانون القوة) وهو علم مستحدث يفتح آفاقاً من العلم ويظهر كنوزاً من أسرار القرآن، ويجعل الإهتمام بتقسيم القرآن لا ينحصر بمباحث الإلفاظ بل يشمل الإستنباط والإستنتاج واستظهار الدروس والعبر في عالم اللامحدود من ذخائر الآية القرآنية.
ومن مصاديق هذا القانون ما لآية المباهلة من القوة والأثر، فليس من قوة مادية لها القدرة على تحقيق معشار ما حققته آية المباهلة، لقد جاءت هذه الآية حرباً سماوية على الكذب بالتنزيل، ورواده في كل زمان ومكان، فموضوعها وأحكامها لا تنحصر بأيام التنزيل وان كان الخطاب فيها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي دعوة لقادة المسلمين في كل زمان للجوء الى سلاح الإستئصال هذا.
وفيه تخويف للكافرين من الوضع والتجرأ على الرسول الأكرم والإسلام، انها سيف سماوي ملازم للمسلمين في مختلف أجيالهم المتعاقبة، تصاحبهم في مساجدهم وتتجلى في كتبهم ومؤلفاتهم تراها القلوب وتدركها البصائر، وليس من برزخ دون الإنتفاع من هذه القوة وان قصر بعض القادة والفقهاء في استعمال هذا السلاح فانه قريب من كل مسلم آخر يريد ان يستعمله بالحق ومن غير اشكال او اعتراض من الخصم واعوان الباطل.
ومن الآيات انها لا تتعارض مع دعوات التقارب بين الملل والمذاهب بل هي شأن مستقل وقوة ذاتية ينفرد بها المسلمون فالتقارب ونحوه لا يؤثر على استقلال المسلمين علومهم السماوية الخاصة التي وهبها لهم، والتي تعكس صدق دعوتهم وهذه القوة نفع للناس جميعاً.
قانون الحرز
مما لا خلاف فيه ان القرآن حرز وواقية، ومن أسرار كثير من السور القرآنية وبعض الآيات انها حرز من الأذى والبلاء بحسب النصوص والأخبار او سبــب النزول او موضــوع الآية ومنطوقها، مثــل سورة الملك التي تســمى (المنجية) لأنها حرز ووسيلة للنجاة من عذاب القبر، او آية الكرسي وهي واقية من شر الشياطين الإنس والجن.
عن محمد بن مروان قال: قال ابو عبد الا أخبركم بما كان رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول اذا آوى الى فراشه، قلت بلى كان يقرأ آية الكرسي ويقول بسم آمنت بالله وكفرت بالطاغوت اللهم احفظني في منامي وفي يقظتي.
والخصوصية لبعض الآيات لا تفيد الحصر والتقييد، بل ان كل آية قرآنية تصلح ان تكون حرزاً ان لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، وهذا النفع العظيم للآية قد يكون مطلقاً وقد يكون مقيداً وخاصاً بحال مخصوصة مثل:
الأول : ذات المسلم الذي يحرص على تلاوتها.
الثاني : اولاده وأسرته.
الثالث : ماله ورزقه.
الرابع : ما يملك من الأعيان.
الخامس : صحته ورفع الأسقام عنه.
السادس : حضره وسفره.
السابع : مداهمة البلاء، وصرفه بالآية القرآنية.
الثامن : السلامة من بطش وأذى السلطان.
التاسع : اجتناب كيد ومكر الأعداء.
ومنافع الآية القرآنية أعم من أن تحصى، ولا تنحصـر بعالم الدنيا، بل ان منافعها في الآخرة أعظم وأكثر، لذا ورد عن النبي صلى عليه وآله وسلم: من قرأ حرفاً من القرآن كتب له عشر حسنات بالباء والتاء والثاء( ).
كما ان الإحتراز بالآية القرآنية لا يختص بالفرد بل يشمل الجماعة والأمة فتتغشى المتعدد وان كان الذي يتلوها ويحترز بها متحد، ومن مصاديق هذا القانون (آية المباهلة) التي جاءت حرزاً دائماً وغضاً طرياً يحس بمنافعه كل مسلم ومسلمة، وفيه تخفيف كبير عن الفقهاء وقادة المسلمين.
وقد تقدم ذكر هذه الآية في قانون القوة في اشارة الى ما في الآية من القوة وما لها من الوظائف، اما بخصوص هذه الآية فهي سلاح وواقية وفرد من أفراد (قانون الحرز) فانها واقية من الجدل والمغالطة وكثرة المناظرة، واشغال المسلمين وعلمائهم بالجدل واثارة الشبهات وابراز وتقديم التحريف في قصص الأنبياء والإصرار على الغلو او الإفتراء وما يناقض الحق والتنزيل.
علم المناسبة
ورد لفظ لعنة في عدة مواضع من القرآن ليحــكي آيـــة في الغضب الإلهي وأصناف الذين يستحقون الطرد من رحمته تعالى ووردت اللعنة بخصوص ابليس لجحوده ومعصيته وهو الأصل في اغواء بني آدم، كما تعلقت اللعنة بالظالمين قال تعالى [فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ]( ) وشملت الكافرين والجاحدين الذين أصروا على الكفر والضلالة ولم يعرفوا للتوبة والندم طعماً، الى ان غادروا الدنيا، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ]( ).
وتبين خاتمة الآية محل البحث ان الجدال بالباطل والمغالطة والإحتجاج على ما أنزل من الحق كفر وجحود وهو سبب لنزول البلاء والطرد من رحمة تعالى.
قانون الإقتباس
لقد جاءت خطابات القرآن على أقسام:
الأول: عام موجه للناس جميعاً ويرد بلفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ].
الثاني: ارادة المسلمين بالخطاب القرآني والذي يأتي بلفظ [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثالث: الخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على قسمين:
أولاً: المراد هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص.
ثانياً: شمول المسلمين بهذا الخطاب على نحو التبعية والإلحاق، ويعرف المراد بالقرائن والإمارات.
وهذا التقسيم لا يفيد حصر النفع بخصوص المخاطب بل ان كل قسم من هذه الأقســام منهل ينتفع الناس مــنه جميعاً وكــنز يأخذون منه، خصوصاً الخطابات العامة التي يراد منها الناس جميعاً لمناسبة الموضوع والحكم.
وكل لفظ في القرآن له دلالته ومعانيه القدسية فلا يعقل ان يرد الخطاب عاماً ويكون النفع منه خاصاً بفــرقة او ملة معــينة فلابد ان الناس يأخذون مما في القرآن من الأحكام ولو على نحو الإجمال، وموضوع الخطاب العام للناس جميعاً لا ينحصر بالحجة عليهم، لأن الخطاب الإسلامي الموجه للمسلمين بلفظ [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]او مطلقاً هو حجة على الكافرين ايضاً سواء على القــول بتكليفهم بالفروع كما هم مكلفون بالأصول وهو المشهور والمختار، او على القول بتكليفهم بالأصــول دون الفــروع، فالخطــابات العامــة دعــوة للناس للإقتبـاس من القرآن.
ومن اعجاز القرآن ان هذا الإقتباس أمر واقع طوعاً او قهراً فلابد ان يأخذ الناس من القرآن وأحكامه، ويتعلموا منه الدروس والعبر، وتظهر آثار ومنافع الآية القرآنية على اقوال وأفعال الناس من الملل الأخرى سواء عن قصد او بدون قصد، وسواء كان هذا الأخذ مباشراً او بالواسطة والتعلم من المسلمين.
وهذا الظهور حتمي وقطعي لأن الخطاب القرآني لا يأتي الا وله استجابة وامتثال وتتجلى مصاديق “قانون الإقتباس” وانتفاع وتعلم الناس من الآية القرآنية في قصص القرآن اذ انها تكشف الحقائق وتطرد التحريف والزوائد وتمنع من الإفتراء على الأنبياء والغلو بأشخاصهم الكريمة، وان حصل هذا الإفتراء والغلو فان القصة القرآنية تمنع من اتساعه وانتشاره بين الناس وتجعل الفشل يلازمه، وتواصل حربها عليه وفضحه واظهار الخلل والعيب فيه.
ومن وجوه قوانين الإقتباس انتفاع أهل الكتاب من آية المباهلة بالكف عن الجدال واثارة الشبهات كما ينتفع منها الناس جميعاً بالإعراض التلقائي عن الغلو في أشخاص الأنبياء بدليل دعوة النبي محمد صلى الله وآله وسلم لهم للمباهلة وعجزهم وفرارهم منها، واقتباس الأمم الأخرى من القرآن من الكلي المشكك فهو على مراتب متباينة في القوة والضعف ومقدار الأثر والقبول، وقد يكون هذا الإقتباس مقدمة لدخول الفرد او الجماعة.
قانون المصداق
لقد تفضل تعالى بانزال القرآن ليتغشى الوقائع والأحداث والموضوعات والأحكام وليكون ضياء للمسلم، وحجة على الناس بلزوم الرجوع اليه والصدور عنه في الرخاء والشدة، والسعة والضيق، والمندوحة والإبتلاء وليس من آية قرآنية الا ولها مصداق في الواقع العملي، وهــذا المصــداق لا ينحصــر بزمان او مكان مخصــوص بــل هــو متجدد سواء على نحو الحضور والإمكان او على نحو الفعل والوقوع.
ومن الآيات ما ينزل لإرادة المصداق الفعلي الآني، ومنه آية المباهلة التي جاءت امراً للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بملاعنة اهل الجدال والخصومة والمناظرة من اهل الكتاب وما كان لرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان يتخلف عن أمر تعالى، فقد بادر للخروج الى المباهلة والملاعنة.
ولخروجه الكريم بأهل بيته دلالات خاصة، فهو لم ينتظر منهم الموافقة على دعوته كي يخرج اليهم مع كثرة مسؤوليات ووظائف النبوة والإمامة والرئاسة العامة، بل جاءهم هو وأهل بيته ومعه المسلمون للشهادة والتعلم وتلقي دروس الجهاد العقائدي، والتهيء للمباهلة مع غيرهم لأن حكم المباهلة مطلق فهو واجب على النبي بان يأخذ اهل بيته معه، اما على غير النبي ففيه وجوه:
الأول: الوجوب المطلق، لإرادة العموم والمسلمين كافة في خطاب المباهلة وان كان سبب النزول وخصوص الخطاب متعلقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: الإستحباب والندب أي ان المباهلة واجب على النبي، ومستحب لغيره. الوجوب على الفقهاء وقادة المسلمين، والندب والإستحباب لغيرهم.
الثالث: الإباحة لغير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: انحصار المباهلة بشخص الرسول الأكرم وعدم وجوبها على أحد غيره سواء في ايام حياته المباركة او بعد انتقاله الى الرفيق الأعلى.
والأصح هو الثاني فهي واجب على النبي، ومستحب لغيره ولكن هذا الإستحباب يكون مؤكداً بالنسبة للفقهاء والقادة عند ظهور الإفتتان بمناظرة وشبهات الكافرين.
وقد تكون واجبة وجوباً عينياً على بعض العلماء والقادة واولي الأمر اذ توقف عليها نصر الإسلام او هزيمة وفرار الكفار.
وهذا من اعجاز آيات القرآن وهو شاهد على قانون المصداق، وان موضوع الآية والعمل بمضمونها باق ومتصل وفيه توكيد بان الآية القرآنية تنبض بالحياة وتنعكس اشراقتها بالواقع العملي ولن تفارقه، وهذا المصداق ليس من الكلي المتواطئ في عدده وكيفيته وكمه، فقد يزداد في زمان وينقص في زمان آخر الا انه باق وشاهد على صحة التنزيل وفيه دوام وتعاهد لعمل المسلم بأحكام القرآن وحرصه على الرجوع اليه.
ومن خصائص المجتمعات الإنسانية الميل الى الحل الوسط وما فيه التوافق، وهو الذي يتجلى بالصلح الذي مدحه في القرآن وقال سبحانه [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
واذا كانت الأقوال في عيسى متناقضة ومتباينة، ففريق يقول بألوهيته، وآخر يذهب للطعن به وبـأمه عليهما السلام، فهل يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصالح مع تلك الفرق خصوصاً مع الحاجة الى طلب ودهم كأهل كتاب، الجواب لا، لأن الموضوع والحكم متحدين، لا يقبل أي منهما التعدد.
لقد جاءت المباهلة وعدم تأجيل الأمر ومنع الإختلاف فيه لتؤكد على موضوعية قصة عيسى في باب العقائد والعبادات، وتبين انها من الأمور الإبتلائية التي لا يمكن تأجيله او ترك الشك والريب فيها مستماً في المنتديات.
ومن مستحبات الدعاء التعدد والإشتراك في الدعاء فالتوجه الجماعي في المسألة أفضل من المتحد سواء كانت الحاجة شخصية او نوعية، والإجتماع في المسألة دليل على الإقرار الجماعي بربوبيته تعالى والحاجة اليه سبحانه، وسبيل للإخلاص في العبادة.
وجاءت المباهلة على نحو الإجتماع والإشتراك المركب من وجهين:
الأول: تعدد أطراف المباهلة.
الثاني: كل طرف متعدد ويضم عدداً وجماعة وروي ان اوحي الى عيسى ، يا عيسى تقرب الى المؤمنين ومرهم ان يدعوني معك.
وقد جاء الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج مع أهل بيته للدعاء والملاعنة وان يشترك الخصم معه في ذات المسألة.
وتدل الآية على ان ابن البنت ابن على نحو الحقيقة، ولفظ الولد لا ينحصر بالابن الصلبي بل يشمل ابن الابن والحفيد مطلقاً.
بحث بلاغي
من وجوه البديع ان يأتي الهجاء والذم خاليا من الفحش ويسمى في الإصطلاح (النزاهة) والذم باق على حاله ولكن من غير جرح بكلام قبيح , فمع إقدامهم على التعدي في الجدال بالباطل واثارة الشبهات لمواجهة التنزيل، فان القرآن لم يذكرهم بفحش وسوء بل دعاهم الى المباهلة والملاعنة ولم يقل انهم الكاذبون المكذبون، بل جاءت اللعنة على نحو التعليق ولمن يصدق عليه انه كاذب سواء في موضوع الملاعنة او غيرها، وان المراد أحد الطرفين في الملاعنة في موضوع الجدال الخاص بعيسى او غيره.
فمن الإعجاز في هذه الآية انها جاءت خاصة بالمباهلة الا انها عامة في موضوعها ومضمونها، انها مدرسة اخلاقية لتهذيب النفوس وتخليصها من الكذب والتعدي، مطلقاً سواء في خصوص ولادة ونبوة عيسى بل مطلقاً مما يدل على ان القرآن حق وصدق في كل موضوعاته وأحكامه، وكذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يقول ويخبر عن من عالم الوحي الذي هو أعم من القرآن.
وجاء الجدال في الحق والعلم النازل من عنده تعالى، وهذا الجدال يتضمن التكذيب فلماذا جاءت اللعنة بخصوص الكاذبين وليس المكذبين وفيه مسائل:
الأولى: ان الجدال كذب لما فيه من الغلو بعيسى او الإفتراء عليه وهما أشد أنواع الكذب.
الثانية: أحكام الآية أعم من مسألة ولادة عيسى ونبوته، وفيه انذار للكافرين الذين يكذبون على ورسوله.
الثالثة: يمكن تقسيم الجدال بالباطل والجدال في قصص القرآن الى قسمين:
الأول: التكذيب بالآيات والحجج.
الثاني: الكذب والغلو والإفتراء.
والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق فكل تكذيب هو كذب فلذا جاءت الآية مطلقة في وصف الكتاب وجاءت بصيغة الجمع لإرادة كل من يكذب لتشمل كل من يجحد بالتنزيل عن قصد وعمد.
الفرائد
وهو الإتيان بلفظ ينزل بمنزلة الفريدة من العقد، التي ليس لها شبيه او مثل لفظي مشابه، وفيه دلالة على الفصاحة في الكلام، وحسن السبك، ودقة الإختيار، وسعة المعرفة والإحاطة في مفردات الإلفاظ وجاءت آية المباهلة بألفاظ تتضمن علوم البرهان والمناظرة والحجة فابتدأت الآية بذكر الجدل وتوكيد أضرار الجدال بالمنكر والباطل، ومن الفرائد ان الآية لم تستثن من المباهلة فريقاً ورتبة من أهل الملة والمذهب فيما يخص الذكور والإناث والصغار والكبار والقادة وعماد الملة والدين.
كما تظهر المباهلة عدم التكافيء بين الفريقين وسمو ورفعة كفة المسلمين وهو شاهد على صدق التنزيل وفيه انذار وتخويف للكافرين من المباهلة فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته يتصدون للملاعنة بأنفسهم الطاهرة للمباهلة، فإن العذاب ينزل بالكافرين على نحو عاجل وسريع، وحضور كل واحد منهم مدرسة جهادية وتأديبية.
بحث بلاغي
من وجوه الإطناب الإستقصاء، وهو ان يتناول المتكلم موضوعاً فيستقصى معانيه بالوصف الذاتي والعرضي وذكر اللوازم، فقد ذكرت الآية الإحتجاج بعد العلم، مما يعني ان الجدال بعده اشد تعدياً وضرراً عما قبل العلم وفيه وجوه:
الأول: تتجلى بعد العلم القدرة على الرد ودحض حجة الخصم وابطال شبهته.
الثاني: العلم الذي جاء للنبي حجة على الناس جميعاً، مثلما هو رحمة بهم.
الثالث: تدل الآية على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ما أنزل اليه من الآيات والعلم ومــن لم يصــله التبليغ يأتيه عند السؤال، لأن الإحتجــاج في مفهــومــه يدل علـى الأخذ والرد.
الرابع: يطرد العلم الشك والريب عن النفس، فكأن الآية تخبر عن بلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والمسلمين درجة اليقين في موضوع ولادة عيسى بآية اعجازية ونيله مرتبة الرسالة مع بقائه على درجة العبودية لله تعالى.
الخامس: تدل الآية على حاجــة المســلمين والناس للعــلم بهــذه الحقائق فمع وجود طرفين اختار احدهما الأفراط والآخر التفريط وانحياز ملة وأمة لكل منهما، يأتي المدد من السماء ليبقى المسلمون هم الأمة الوسط التي تنتهج الحق والعدل والإنصاف.
ثم تجلى الإستقصاء مرة أخــرى بافــراد كل طرف من أطراف المباهلة بآية اعجازية تجمع كل أفراد الملة من خلال اشتراك النفس والولد والمرأة في المباهلة من غير ان يتخلف فرد من أفراد كل فرقة من الفرقتين لتكون المباهلة استغاثة ولجوء الى ، وتبقى شاهداً على حب واخلاص المسلمين لعيسى ولجميع الأنبياء والمرسلين، وهذا الإخلاص هو جزء من الإصطفاء الإلهي لعيسى، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) فقد أراد للمسلمين ان يكونوا جنوداً ليذبوا عن عيسى ويمنعوا الغلو والإفتراء عليه ويكون هذا المنع مقدمة لدعوة الناس للإسلام.
بحث بلاغي
من وجوه البديع “الجناس”، ومن فوائده بعث الشوق في النفوس للإصغاء اليه، ومن شرائط الجناس اتحاد اللفظ وتعدد المعنى.
والجناس على أنواع عديدة منها:
الأول: التام بان تتفق جميع انواع الحروف واعدادها وهيآتها، وأستدل عليه في القرآن بقوله تعالى [ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ]( ).
الثاني: المصحف: وهو الذي تختلف حروفه في فواصل الجمع والنقط، وأستدل عليه [ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ] ( ).
الثالث: المحرف: بان يتعلق الإختلاف في الحركات ومنه قوله تعالى [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الرابع: الناقص: بان يختلف في عدد الحروف سواء يكن الحرف المزيد في الأول او الوسط او الآخر، كما في قوله تعالى [ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ]( ).
الخامس: المرفق: وهو الذي تركب من كلمة مذكورة في الكلام مع اضــافة بعض كلــمة اخــرى كما في قولــه تعالى [جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ]( ).
السادس: تجنيس القلب ويتعلق بالأختلاف في ترتيب الحروف كما في قوله تعالى [فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
السابع: تجنيس الإطلاق: وهو خاص بما اذا اجتمعا في المثلية كما في قوله تعالى [وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ] ( ).
ويمكن اضافة وجه آخر للجناس بان يختلفا في المعنى مع التشابه في الموضوع كما في آية المباهلة، ومجيء الجناس في لفظ ابناءنا، نساءنا، انفسنا، فكل واحد من الإلفاظ منسوب الى جماعة المتكلم وتقابلها ابناءكم، نساءكم، انفسكم، ويراد منها جماعة المخاطب.
قانون التفسير بالسنة
لقد جعل القرآن ضياء ودليلاً تشع أنواره السماوية على ربوع الأرض، وتملأ فيوضــاته القلوب فتقــود الى ســبل الهداية والنجاة، وتفضل سبحانه بالسنة النبوية المباركة وصحيح انها أقوال وأفعال رسول صلى الله عليه وآله وسلم الا انها فضــل مــنه تعالى من وجوه:
الأول: انها وحي من عنده تعالى.
الثاني: ان النبوة رحمة ورأفة من بالناس.
الثالث: ان أراد للسنة ان تكون بياناً وتفسيراً للقرآن.
وقد أمر بالرجوع الى السنة وأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون لها موضوعية واعتبار في تأريخ الإسلام وصلاح الأمم قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وقد جاء الرسول الأكرم بتفسير القرآن باقواله وسيرته وكان فعله القرآن لم يغادره في صغيرة او كبيرة، فالسنة هي المصداق العملي للقرآن، ولم تكن منزلتها في علوم القرآن على نحو الأمر الإضافي بل هي جزء من القواعد الكلية للتنزيل لأنه سبحانه هو الذي يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسنة القولية والعقلية ويهديه لها وييسر أسبابها ويكتب لها الحفظ والتعاهد في صدور المسلمين ومنتدياتهم وكتبهم بما يجعلهم يقتدون بها.
وقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفصيل المجمل وتقييد المطلق كما في حكم الســارق وذكر الأحكــام على نحــو البيان الــذي ينفع الناس ويمنع من الغــرر والجهالة ومن الآيات في قانون التفسير بالسنة منع الفرقة ودفع البدعة، ويمكن تفسيم هذا القانون الى ثلاثة أقسام:
الأول: العملي، وهو الذي يستقرأ من السنة الفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لانها مصداق عملي لآيات القرآن.
الثاني: القولي، وهو الأعم اذ أنه يشمل السنة القولية سواء التي تتعلق بعلوم التفسير او التي تخص الموضوعات والأحكام الأخرى في العبادات والمعاملات.
الثالث: الجامع، وهو الذي يتعلق بالسنة التي تجمع القول والفعل والتقرير، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) سنة قولية وفعلية مشتركة لأن الحديث بيان لأحكام الصلاة ويشمل كيفية أدائه للصلاة.
وقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صلاة الجماعة حتى يوم انتقاله الى الرفيــق الأعلى، وكان يؤخر من يأتي مسلماً في المدينة بضــعة أيام حتى يتقن أحكام الصلاة ثم يصرفه الى أهله.
وقد اختلف المســلمون هل بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القــرآن كلها، او انه فســر شــطراً منها، والثــاني هــو المشهور واستدل عليه بقول عائشــة: ما كان رســول صلى الله عليه وآله وسلم يفسـر شــيئاً من القــرآن الا آيــات تعــدِ، علمه أيــاهن جبــريل( ).
وقانون تفسير القرآن بالسنة أعم من التفسير القولي، فهو يشمل السنة الفعلية والتقريرية والتدوينية، لتتجلى اشراقات ومعاني القرآن في السنة النبوية، وهو وجه من وجوه البركة والفيض فيها.
لقد أراد للسنة ان تكون مصداقاً عملياً وقانوناً ثابتاً في الأرض بالذات والعرض، نستقرأ منها البراهين والدلالات القرآنية، وتبقى عنواناً للوحدة ومانعاً من اللبس او طرو الإشكال كما انها مدرسة لدرء الفتن والتصدي لأهل الضلالة والبدع، وواقية من الجدل والمغالطة واثارة الشبهات من قبل أهل الشك والريب.
وآية المباهلة من القسم الجامع فهي سنة قولية بان دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخصم للمباهلة وفعلية بان قام بالخروج بنفسه، وتقريرية بان أمضى خروج أهل البيت، وهذه الســنة امتثال لأمره تعالى، ولكن هذا الإمتثال والطاعة قانون مستقل لا يتعارض مع هذا القانون.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (التقسيم) وهو ذكر أقسام الشيء على نحو الإستيفاء والشمول، كما في قوله تعالى [ وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً *فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ] ( ).
فليس من قسيم آخر لهذه الأقسام الثلاثة ويمكن تأسيس علم بلاغي جديد نسميه (الجامع) وهو الذي يضم الأفراد كلها بحيث لا يخرج بعض منها، ومنه آية المباهلة فقد جاءت بعناوين متعددة لتكون جامعاً لأفراد الأمة على نحو الرمز والمثال الأمثل، ولم يكن احد يحسب ان النساء ستشترك بالمباهلة ومنهم من يعتذر لو دعي لخروج امرأته او ابنته للمباهلة لأنه أمر غير متعارف، فجاءت الآية القرآنية لتخرج النساء من البيوت للمشاركة في عملية الجهاد، ولكن ليس بالسيف بل في باب الدعاء والملاعنة بعرض واحد مع الرجل، لقد استوفت الآية جنس الرجال والنساء والأولاد ولا رابع لهم.
بحث بلاغي
من أقسام الإنشاء النداء وهو حاجة في التخاطب وتوجيه وتلقي الأمر او الترجي والتمني والنهي وملاكه طلب اقبال المدعو على الداعي، بحرف يأتي بديلاً عن (أدعو) ويتقدم في الغالب الأمر والنهي أي يأتي النداء ثم يأتي موضوع الطلب والأمر كما في قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( )، وقد يتأخر النداء كما في قوله تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وقد جاء النداء في الآية متكرراً متعقباً بعضه لبعض كما في قوله تعالى [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ].
فقد بدأ موضوع النداء بفعل الأمر ثم تعقبه النداء (تعالوا) أي هلموا واستجيبوا للإشتراك بالمباهلة كموضوع للتحدي واثبات الحق وفضح الزيف والباطل، ثم جاء النداء الآخر (ندعو) ليتحول النداء من ارادة المخاطب الى اشتراك المتكلم به.
أي ان هذه الدعوة مركبة وتنشطر الى قسمين:
الأول: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته، فهو يقوم بدعوتهم ومناداتهم للإشتراك في المباهلة.
الثاني: دعوة الخصم لأولاده ونســائه، لذا جــاء اللفـظ (ندعــو) بصــيغة جماعة المتكلم لأن لفظ تعالوا سبقه وتقدم عليه، بتقدير انهم جاءوا واستجابوا لطلب المجــيء بقوله سبحانه (تعالوا) وفيه وجوه:
الأول: المجيء المكاني أي ان كنتم في مكان بعيد فاحضروا للمباهلة، وفيه عز للمؤمنين ان يأتي الخصم لهم للمباهلة كما ان بقاء المسلمين في ديارهم وحصول المباهلة عندهم حق، لأن الخصم هو الذي أصر على اللجاج وواصل الجدال مع نزول الآيات ومجيء العلم بخصوص ولادة عيسى ونبوته او مطلقاً.
الثاني: في الآية مندوحة لوفــد نجران فتعــدد الدعــوة وشـــمولها للأولاد والنساء فرصــة لهم للرجــوع الى أهلهم ومشاورة قومهم والرجوع بالأولاد والنساء، كي تكون الحجة عليهم أتم وأشمل.
الثالث: فيها دلالة على صدق النبي وشهادة سماوية بانه واثق من نفسه وأهل بيته في المباهلة وكأن الآية تقول ان المسلمين مستعدون للمباهلة وما على الخصم الا الحضور لها.
بحث بلاغي
من أقســام البديع (اللف والنشر) وهــو ان يؤتى بلفظ يتضمن المتعدد والمتباين ثم تذكــر أفراد تتعلق وترتــبط به، ويقوم السـامع بارجاع كل فرد الى ما يناسبه من الأصل المتحد لفظاً المتعدد معنى ومضموناً.
واستدل عليه بقوله تعالى [ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى]( ).
أي قالت اليهود لن يدخل الجنة أحد غيرهم، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة الا هم.
اما في آية المباهلة فجاء قسم اللف في قوله تعالى (ندعو) ثم جاء النشر بقوله تعالى [أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ] فحصل الإجمال في اللف وجاء التفصيل في النشر، فالمراد ان كل طرف من طرفي المباهلة يدعو أهله للمباهلة.
وجاءت الآية بذكر الوصف والجنس وبصيغة الجمع، لتوكيد عدم انحصارها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، ولبقاء آية المباهلة وأحكامها تتحدى أهل الريب والجحود لذا جاء موضوعها مطلقاً واللعنة متعلقة بالكاذبين من غير تقييد لجهة التكذيب.
بحث أصولي
اختلف الأصوليون في افادة صيغة الأمر على الفورية ولزوم المبادرة في الأداء والإمتثال , ام انها تفيد التراخي وعدم لزوم المبادرة للإمتثال ويكون المكلف في مندوحة في وقت الأداء وله ان يمتثل بالزمن الأول للأمر وله ان يؤخره الى الزمن الثاني والثالث وهكذا.
الأول : انه يفيد الفورية.
الثاني : إفادة التوقف.
الثالث : إرادة الإشتراك بينهما.
الرابع : انه يفيد التراخي.
الخامس : لا موضوعية للفور او التراخي او للأعم منهما، ولا تتضمن الدلالة على احدهما.
ومنهم من قال بلزوم التقديم لأن الإشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وادلة البراءة القطعية حاكمة في المقام، ولكن قاعدة الاشتغال لا تدل على الفورية لعدم الملازمة بينهما، وقاعدة الاشتغال تعني تحقق الوجوب على المكلف ولزوم الامتثال، ولا تدل على أكثر من الطبيعة المهملة.
واذا وردت صيغة افعــل على نحو الاطلاق من غير امارة او قرينة على الاطلاق او التقييد فهل تدل على الفورية او التراخي، فيه وجهان:
الاول: انها تدل على التراخي لأن الفورية تحتاج الى مؤونة زائدة على اصل طبيعة الأمر، فلو اراد الفورية لجاء البيان من المولى لمنع الجهالة والغرر، وان المتبادر طلب ايجاد الطبيعة من غير تقييد زماني بالفورية.
الثاني: ارادة الفورية لورود دليل خارجي يدل على الفورية خارج الصيغة.
واستدل على الفورية بآيتين:
الأولى : قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ) فالمســارعة الى المغفرة تعني المبادرة الى التوبة واتــيان الأفعــال التي تؤدي الى المغفرة فالآية تعني الفورية في طلب مرضاته ومغفرته تعالى.
الثانية : قوله تعالى [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ]( ) فالآية حث على الإسراع وعدم التواني في ولوج ابواب الصالحات واتيان الواجبات.
وهذا الإستدلال اشكل عليه بان اسباب المغفرة كما في موضوع الآية الأولى، والخيرات كما في الآية اعلاه من سورة البقرة تصدق على الواجبات وعلى المستحبات، فكلها اسباب للمغفرة وباب للرحمة، ولكن المستحبات لا تجب المسارعة فيها لأنه يجوز تركها اصلاً، فيكون من باب اولى عدم وجوب المسارعة اليها فتضمنها للمستحبات والمسارعة فيها بحسب الآيتين يعني ان طلب المسارعة ليس على نحو الإلزام.
واشكل على عدم صحة الإستدلال بالآيتين من وجهين:
الأول: عدم ورودهما الا للبعث نحو المسارعة الى المغفرة (من دون استتباع تركهما للغضب والشر) أي ان الآيتين خاليتان مما يدل على كون ترك المسارعة سبباً لنزول الغضب الإلهي لأنه ليس من تحذير وانذار في الآيتين.
الثاني: كثرة تخصيص وجوب الفور بالمستحبات، وبعض الواجبات الموسعة في وقتها، فرد السلام مثلاًُ فوري، اما الأمر بالمعروف فقالوا انه ليس فورياً، ولكن بعض مصاديق الأمر بالمعروف تكون في فوريتها وكثرة حسناتها اهم من رد السلام.
واذا كان التخصيص هو الأكثر باجتماع المستحبات وكثير من الواجبات فلا يصح افادة الفورية منهما لأنه لم يبق تحت عنوان العام الا القليل فيكون قرينة على صرف ظاهر الآيتين عن الوجوب الظاهر، فيحمل الأمر فيهما على استحباب الفورية الا ما دل الدليل على وجوب فوريته اوحملهما على مطلق الرجحان.
ونجيب على الإشكال الأول بان ثبوت الفورية او عدمها لا يتوقف على اســتتباع التــرك بالغضــب والشــر كما قال، اذ ان الآيــة القـرآنية لها منطوق ومفهوم، فمنطوقها يدل على المسارعة، اما مفهومها فيدل على العقاب لمن يتخلف عن امتثال امره تعالى، وتلك قاعدة كلامية فطرية معروفة عند المليين والعقلاء عامة، وتدل عليها شواهد قرآنية، فالترغيب بفعل الصالحات يدل في مفهــومه على المؤاخذة لمن يعصي الله، وقالوا ان الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده كما سيأتي ان شاء الله.
اما الإشكال الثاني الذي ذكره الكثير من الأصـوليين فانه غير مناسب للموضوع، لأن الأمــر ليس من العــام والمخصــص المتصـل الذي يكون قرينة على ارادة ما عدا الخاص من العموم كقولك (اشهد ان لا اله الا الله) او المخصص المنفصل الذي يرد في كلام آخر مستقل قبله او بعده، والمعروف ان القرآن فيه عام وخاص، ولكن المسارعة الى الخيرات في الآية من باب السبر والتقسيم أي ان المسارعة ذاتها فعل مأمور به.
اما بالنسبة للخيرات فتنقسم الى واجب ومندوب، فتكون المسارعة للواجبات على نحو الفورية والوجوب، وتكون المسارعة الى المستحبات فورية مستحبة، ولا تعارض بينها لتعــدد الموضــوع، ولأن القـرآن بكلماته المباركة المحدودة يحيط باللا محدود، ولأننا لم نجد من يرد على هذا الإشكال بل اعتبر اقوى دليل على ابطــال القول بالفــورية قمنا بالرد هنا.
والأصل في الواجبات تقسيمها الى واجبات مؤقتة وغير مؤقتة، والأول ينقسم الى موسع ومضيق وغير المؤقت الى فوري وغير فوري، فيكون معنى الفورية من الآيتــين وحكــم العقل هـو ان اتيان الموسع باول اوقاته على نحو الإستحباب، واثناء وقته على نحـو الوجوب، فصلاة الظهر يدخل وقتها عند الزوال ويستمر الى ما قبل غروب الشمس بمقدار اربع ركعات، فافضل اوقاتها المبادرة الى اتيانها باول وقتها الا ان تأخيرها الى العصر تصــدق معه الفورية ولو على نحو الموجبة الجزئية.
أي ان الفورية لها مراتب من الفضل فهي من الكلي المشكك، بمعنى ان الآيتين تدلان على الفورية كل بحسبه وبدليله وبحكمه التكليفي من الوجوب والإستحباب الا ان يرد مخصص لذات الفعل ويجوز معه تأخيره سواء كان المخصص من القرآن او السنة مما يتحصل معه الرجوع الى دليل آخر لمعرفة الفورية اوالتراخي، وبذا يكون الوصول الى مرتبة القــيد ليس فورياً ومباشــراً بل بالواســطة، وبعد التدبر ويمــكن الإستدلال بالآيتين على ان الأصل بالواجبات هو الفورية الا ان يدل دليل على التراخي.
وهذا لا يتعارض مع القول ان قضية اطلاق الصيغة جواز التراخي باعتبار ان المتكلم في مقام البيان وليس من دليل عـلى تقييد المطلوب بقيد الفــور او التراخي، ولو لم يحصــل الإمتثال على الفور وفيه وجهان:
الأول: لو اخل بالفورية في الزمان الأول فيجب ان يأتي به في الزمان الثاني أي ان الوجوب يكون فوراً ففوراً باعتبار ان الإخلال لم يحصل الا بزمان الفور الأول فيتجدد الخطاب والوجوب بل يبقى المأمور به على حاله باعتبار تعدد المطلوب والمراد من الفورية، فالمصلحة تتقوم بامرين:
الأول : الفورية.
الثاني : ذات الفعل.
فلا يسقط الأمر بالإخلال بالفورية، نعم عدم الإتيان به على الفور مفوت لمرتبة من مراتب المصلحة مع عدم انتفائها بل تبقى بمراتب ادنى مع كل زمان.
الثاني: التداخل بين المصلحة القائمة بنفس الطبيعة وبين المصلحة في الفورية والأداء في الزمان الأول فاذا لم يأتِ بالمأمور به في الزمان الأول، فتنتفي المصلحة في الفعل لأنها متقومة بالفورية وتفوت بفواتها، وهذا هو مراده (بوحدة المطلوب) وكأنه من عمومات انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.
ويمكن ذكر وجه ثالث وهو بقاء الأمر وموضوعه مع سقوط الفورية، فلو لم يأت بالفعل على الفور فان الفورية تسقط ولكن المصلحة في الفعل باقية وهي ان يؤتى به قضاء فيما بعد سواء على القول بالمواسعة او المضايقة.
ولكن القول بوحدة المطلوب ليس مطلقاً انما يعرف بالقرائن أي الأصل هو التعدد وليس البراءة من الوجوب فيما عدا الزمان الأول، ويدل على التعدد اصالة الإشتغال، وقاعدة نفي الحرج، وعمومات اللطف الإلهي، والإنابة والتدارك.
لذا قيل بان هذا التفريع لا تدل عليه الصيغة حتى على القول بالفورية، فانها لا تدل على اكثر من ارادة الطبيعية فوراً، فلا تدل على وحدة المطلوب وسقوط الأمر بعدم الإمتثال على الفور، او على تعدد المطلوب وهو تجدد الفور مع كل زمان، فالصيغة لا تتضمن هذا التفصيل المتعلق بما بعد زمان الفور، ولابد من الرجوع الى دليل آخر او الأصل سواء الإشتغال او البراءة عن الوجوب فيما عدا الزمان الأول والعقل يحكم بالإشتغال، ووجوب تفريغها.
لذا شرع القضاء في العبادات وعدم سقوطها حتى مع انعدام شخص المخاطب، للزوم براءة الذمة كما في قضاء الصلاة والصوم والحج عن الميت نعم لو كان هناك اطلاق لفظي مثبت لوجوب الفور وعلى نحو وحدة الموضوع او تعدده.
ولقد جاء الأمر في آية المباهلة على نحو الفورية وعدم الإبطاء والتراخي، لذا بادر النبي محمد صلى عليه وآله وسلم بالخروج واهل بيته للمباهلة.
والأصل في الأوامر القرآنية هو الفورية الا مع القرينة على الخلاف وارادة الإبطاء والتراخي.
والآية وان أفادت الفورية عند النزول الا انها سلاح دائم عند المسلمين ينتفع منه على الفور او التراخي بحسب الحالة والحاجة ودرجة النفع وانتفاء او قلة الضرر.