معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 63

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله القديم الذي لا شيء يحده ببداية، الباقي بعد فناء الأشياء، المريد القادر على كل شيء، القوي الذي لا غالب له، والعالم بما في الأفعال من المصلحة، والذي أحاط بكل شيء علماً، وعلمه تعالى حضوري ذاتي وليس كسبياً انطباقياً، وصلى  على محمد وعلى آله الطاهرين، ومن علمه تعالى ما في كل آية من آيات القرآن من النفع والمصلحة للناس جميعاً وللمسلمين خاصة.
وجاءت الآيات (62-68) من ســورة آل عمران التي يتضــمـنها هذا الجزء من التفســير، وهو التاسع والخمسون، في موضوع احتجاج أهل الكتاب في دين وشريعة ابراهيم  ودعوتهم للإلتقاء بكلمة التوحيد لتثبيت اركانها في الأرض وجعلها سوراً يجمع اهل الملل الســماوية، ومرجعــاً لهم، ووســيلة مباركة لنشر القيم والمفاهيم الحميدة.
ومن مضامين الرحمة والصدق في الشريعة الإسلامية انها جاءت بأحكام تحول دون حصــول القتال والحروب بين المسلمين وأهل الكتاب، ويدفع المكلف منهم قسطاً سنوياً بسيطاً يسمى الجزية ليكونوا في ذمة الإسلام وينالوا حقوقاً خاصة يؤدون معها عباداتهم حسب شريعتهم.
وهذا لم يمنع من تنقيح الأقوال ونفي ادعاء نسبة ابراهيم  لليهودية أو النصرانية، ليكون هذا النفي مثالاً لفضح التحريف وملاحقته في الأقوال والأفعال والتدوين والتخلص منه، ومن الكدورات الظلمانية التي تصاحبه، ويكون الناس مؤهلين للإصغاء للقرآن، ورؤية الآيات والتدبر فيها واستنباط الدروس مما فيها من الموعظة ووجوه الحكمة وأسأله تعالى العون والمدد لإتمام أجزاء هذا التفسير، وما فيه من الإشراقات المستحدثة والعلوم المستنبطة.
وأقوم بتأليفه ومراجعته وتصحيحه والإشراف المباشر على طباعته من غير إعانة من أحد الى حين خروجه من المطبعة بلطف وفيض منه تعالى مع ثقل وطأة مصيبتي بقتل ولدي الشيخ علي في الشهر الماضي والذي تنقّل معي في السجون وعمره ست سنوات، ونشأ بأجواءالحوزة العلمية وباشر الدراسة فيها من أيام صباه، الى حين إنتقاله إلى جوار ربه [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ].

حرر في 18/ 12/1426 هـ
19/1/2006

قوله تعالى [ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ] الآية 62- آل عمران

الإعراب واللغة
ان هذا لهو: ان حرف مشبه بالفعل، هذا: اسم اشارة جاء اسماً لأن، اللام: المزحلقة، هو: مبتدأ، وقيل ضمير فصل لا محل له.
القصص: خبر مرفوع، الحق: صفة القصص.
وما من اله الا : الواو: استئنافية، ما: نافية، من: حرف جر زائد، اله: مجرور لفظاً مبتدأ، والخبر محذوف تقديره لنا، الا: اداة حصر، : بدل من محل اله، ويجوز ان يكون خبراً للمبتدأ.
واللام في (لهو العزيز) زائدة وتفيد التوكيد، ومن مصاديق لام الإبتداء وان لم تكن لها الصدارة في الجملة.
والقصة: الخبر، يقال قص خبره يقصه قصاً وقصصاً، والقصص: الخبر المقصوص، وجمع القصة القِصص – بكسر القاف- أي ان الآية وردت بصيغة المفــرد الا ان يقرأ لفــظ القصص بالكســر، ولكــن المرسوم في المصاحف هو الأصح خصــوصاً مع قـرينة ورود اسم الإشرة هذا ومعنى القص هو تتبع الأثر، ورواية الحديث على وجهه، وبيان معانيه وألفاظه كما في قوله تعالى [ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ]( ).

في سياق الآيات
بعد تفضل الله تعالى بالإخبار عن تلاوة الآيات على النبي وذكر قصة عيسى ووجوه الشبه بينه وبين آدم وبما ينفي الوهيته ، ويبعث السكينة في قلوب المسلمين، ويمنع من الإفتراء عليه وبعد نزول آية المباهلة كوثيقة متجددة للتحدي الى يوم القيامة، جاءت هذه الآية لتؤكــد صـدق قصص القرآن وانعدام الإضافات فيها، وخلوها من مغايرة الواقع، مع بيان حقيقة كلية ثابتة وهي اطلاق الربوبية لله تعالى، وغياب الشريك وبطلان الكفر.
وإبتدأت الآية بالحرف (ان) واسم الإشارة (هذا) للدلالة على ما تقدم ويحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة مضامين الآية السابقة وقصة المباهلة.
الثاني : ذكر قصة عيسى وولادته من غير أب في آية إعجازية في الخلق، وكأنها تنبأ عما يتوصل إليه العلم الحديث من الإستنساخ الحيواني بفضل من الله عز وجل، وعمومات قوله تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الثالث : مضامين الآيات السابقة مجتمعة ومتفرقة.
والصحيح هو الأخير بدليل ورود هذه الآية بصيغة الجمع(القصص) ولكن لماذا جاء اسم الإشارة بصيغة المفرد القريب(هذا) ولم تقل ( إن هذه لهي القصص) ولم يشر بصيغة البعيد.
وقال ابن مالك في كتاب (تسهيل الفوائد) وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب، لعظمة المشير أو المشار إليه، وذو القرب عن ذي البعد، لحكاية الحال، وقد يتعاقبان بهما الى ما ولياه من الكلام.
وإستدل ابن عقيل عليه بآية البحث وتضمنها اسم الإشارة للقريب (هذا) وذكر قصة عيسى عليه السلام قبل أربع آيات باسم الإشارة للبعيد[ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]( ).
وقال الجرجاني بجواز مجئ (ذلك) لإرادة الحاضر وبمعنى (هذا) وأنكره السهيلي.
والمختار أن آيات القرآن أعم من أن تخضع أو تنحصر بخصوص المقام بضابطة كلية من الصناعة النحوية، وبين (ذلك) و(هذا) عموم وخصوص مطلق، فالمراد من ذلك أعم في موضوعه، ولكنه لا يدل على القرب والتعيين والحصر باسم الإشارة (هذا) فهو في هذه الآية يفيد السعة والجمع بين البعد والقرب، ولكن مجئ اسم الإشارة (هذا) لبيان فضل الله عز وجل في تقريب القصص والوقائع وجعلها حسية حاضرة عند الناس، ولبيان حقيقة وهي أن ذلك جاء في الآية أعلاه لإرادة عالم الآخرة والجزاء فيها .
بينما جاء اسم الإشارة (هذا) لما ورد في الآية السابقة من قصة المباهلة وهي من السنة النبوية , وليتضمن اسم الإشارة للقريب معنى جعل قصة المباهلة حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين، وقريبة منهم وكأنها تدرك بالحواس .
ومن الإعجاز أن المسلم والمسلمة حين تلاوتهما أو سماعهما لهذه الآية يتصوران واقعة المباهلة وتقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أهل بيته : علي، وفاطمة والحسن والحسين بمباهلة وفد نصارى نجران الذين إمتنعوا عنها ورضوا بدفع الجزية، بلحاظ كبرى كلية وهي أن آية المباهلة وخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته لها إيماناً وتصديقاً وتحدياً برزخ دون حدوث القتال والحروب بين المسلمين وأهل نجران، ومقدمة وسبب لدخول أفواج من الناس الإسلام، وبخصوص واقعة الأحزاب ورد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] بعلي بن أبي طالب( ).
إعجاز الآية
لقد جعلت الآية حديث المباهلة من القصص الحق، وهو تشريع للملاعنة، مما يعني اضــافته الى التأريخ بتصدي رسول  صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الى صيانة الإسلام والذب عنه بأنفسهم ودعائهم وابدانهم لوثوقهم من صحة دعوة النبوة، وصدق الوحي والتنزيل.
ان اضفاء صــفة الحــق على قصــص القرآن توكـيد لمضـامين الإعجاز فيها ودعوة لإقتباس الدروس والمواعظ منها، وفيها ذكر للمتقين من صفاته تعالى في اشارة الى المائز بين واجب الوجود والممكن، واخبار بان الإلوهية خاصة به تعالى وان آية الطير واحياء عيسى للموتى وإخباره عن المغيبات لا تدل على الإلوهية خصوصاً وانها باذن  تعالى.
وفي هذه الآية عون على المباهلة وحث عليها وتثبيت لقلوب المؤمنين عند الدعوة اليها والشروع فيها وما بعد وقوعها لأن الآية تخبر عن حصر الحق بالتنزيل والإخبار الوارد في هذه الآيات عن قصة عيسى ووجوه الشبه بينه وبين آدم .
وتجعل الآية المسلم يقبل على ما في القرآن من بديع القصص بشغف مع التسليم بانحصار الحق والصدق بها، كما تكون سبباً لدخول الكثيرين الإسلام لأن الإنسان بطبعه يميل الى الكسب، ومعرفة الحقائق وتعشق نفسه الصدق ويسعى اليه، فيجده ومن غير عناء في القرآن كما ان الآية مناسبة للتوجه للإستنتاج والإستنباط والإستدلال من غير حرج، او احتمال وجود تحريف او تبديل.
لقـد أراد  بهذه القصــص الربــط ودوام الصــلة بين افـــراد الجنس البشــري منذ أيام أبينا آدم والى يوم القيامة ولا يمــكن ان يحصل هذا الربط وتـدوم هذه الصـلة الا بالقــرآن وهــذا من اعجــاز القــرآن وما ينفرد به دون غيره، ويجــعل وجــوده بأيــدي الناس ضــرورة عقائدية وأخــلاقية واجتماعية وســياسية وفي هــذه القـصــص درء للفتن والبلاء.
ويمكن تسمية الآية بآية “القصص الحق”
الآية سلاح
هذه الآية واقية وحصن , لما فيها من التوكيد على نزول قصة عيسى واخبار الأنبياء من عند ، وهي شاهد على نزول أحكام وقواعد المباهلة من السماء وليس للمسلم ان يتخلف عنها، فهي نعمة وحق وعنوان للبطش الإلهي بالكافرين.
واسم الإشارة في الآية انحلالي يدل على عناوين متعددة من مصاديق التنزيل، والآية عــون للمسلمين لما تتضــمنه من تكــذيب وفضح لأهل الجدال والخصومة الذين يتخذون الشبهات وسيلة للتصدي للإسلام ولمنع انجذاب الناس لآيات القرآن وتدبرهم بما فيها من اسرار قدسية وحكم سماوية، لأن المغالطة والجدال يشــتتان الفكر ويجعلان غشــاوة على الحقيقة وما فيه النفـع العام، الأمر الذي يستلزم ملكة فكرية وقدرة على التمييز والفصل بين الأشياء واتباع الحق والإعراض عن الشبهات.
والآية من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، من جهات:
الأولى : الغنى بقصص القرآن.
الثانية : تحري الصدق في قصص القرآن، وكل واحدة منها وثيقة سماوية لايطرأ عليها الشك أ والريب.
الثالثة : الآية من مصاديق سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير، فذات القصص التي يذكرها القرآن باقية إلى يوم القيامة بكلماتها ومضامينها ودلالاتها.
الرابعة : إقتباس الدروس والمواعظ من قصص القرآن.
مفهوم الآية
من اعجاز الآية ما تدل عليه من مفهوم، اذ انها تحصر القصص الحق بما ينزل من السماء ولا يمنع هذا من صدق القصص التي تكون مطابقة له، كما لو جاءت في التوراة والإنجيل وتعاهدها المسلمون من الملل السابقة، ولم تصلها يد التحريف فالموحدون في كل ملة سلف كريم للمسلمين، وشاهد سابق زماناً لنزول القرآن، أي ان القرآن يختلف عن غيره من الأشياء والوقائع في الدنيا فمن الإعجاز فيه ان الشهداء على تنزيله متقدمون على زمانه، يبشرون به ويخبرون عن خصائصه وما فيه من الآيات قبل نزوله.
فلابد ان يكون موافقاً لما ورد عندهم من الأخبار عنه ويمنع من حصول الوضع والإدعاء الباطل، وان يأتي بهيئة وصفة يعجز الناس جميعاً عن الإتيان بشطر منه، لذا جاءت الآية القرآنية معجزة مستقلة لها موضوعيتها ودلالاتها الواضحة، وتبعث في النفوس السكينة الى صدق التنزيل.
فأخبر سبحانه بان قصص القرآن هي الحق، فمن أراد الحق والصدق فليرجع الى القرآن ولا يصدر الا عنه، ولا يؤمن الا بما تضمنه من قصص الأنبياء وأحوالهم ومنازلهم وجهادهم في ذات .
لقد جعل   النبي أسوة في الخير وسبباً لهداية الناس وحينما يحصل الغلو فيه والإفتراء عليه، فان القرآن يكون حاجة ، واخبار الأمم السالفة عن تنزيله يدل على الحاجة اليه لتخليص الناس من شوائب الشرك واعراض النفس الشهوية والغضبية.
لقد جمعت الآية بين أمور:
الأول: الإخبار عن وجود القصص في القرآن، وقصص الأنبياء لا تتعلق بهم وبجهادهم وأحوالهم وحدها، بل تشمل قصص اتباعهم والمؤمنين بهم، وقصص الذين كفروا بنبوته او غالوا بأشخاص الأنبياء ونفوسهم الكريمة.
الثاني: قصص القرآن هي الحق والصدق، وتفيد القطع والجزم وتغني عن الحاجة الى غيرها والآية تمنع وتنهى عن الإنصات لغيرها ولو على سبيل الإطلاع لذا ورد النهي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأحد الصحابة عن الرجوع الى كتب غير المسلمين، وقال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فان كان حقا لم تكذبوهم وان كان باطلاً لم تصدقوهم( ).
الثالث: التوكيد بان ما في القرآن من القصص من عند  تعالى، لمنع الظن بان القصص من جبرئيل او انها نزلت بالمعنى ولكن الملك او النبي أخبر عنها باللفظ، بل أخبرت الآية بان القصص حق وصدق وتنزيل ولا تقبل الترديد، خصوصاً وان الحادثة والواقعة لا تقع الا بحال وهيئة واحدة وليس من واسطة بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب.
الرابع: ان القرآن لا يتضمن الا الأخبار من عند  تعالى، وهذه الأخبار تتصف بالحق والصدق، وهي صفة ملازمة للتنزيل ولا عبرة بالتحريف الذي طرأ على بعض الكتب السماوية.
الخامس: لقد دخلت آية المباهــلة وواقعتهــا التأريخ والآية تمنع من تحريفها او تغيير اخبارها وكيفية وأسباب نزولها وأفرادها واشتراك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه الكريم بها بأمر منه تعالى، واخراجه لأهل بيته معه وشفقته عليهم أكثر من غيرهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة الحق من ربك فلا تكون من الممترين يعنى فلا تكن في شك من عيسى انه كمثل آدم عبد الله ورسوله وكلمته.
أي ان وجوه الشبه أعم من ان تنحصر بالخلق من غير أب بل انها تشمل العبودية لله والبعثة والوحي والإكرام الخاص والمنزلة الرفيعة عند .
وأخرج ابن المنذر عن الشعبى قال قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فقالوا حدثنا عن عيسى بن مريم قال: رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم قالوا ينبغى لعيسى أن يكون فوق هذا، فانزل الله ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية قالوا ما ينبغى لعيسى أن يكون مثل آدم فانزل الله فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم الآية.
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدى انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليت بينى وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يرونى من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على ان المباهلة حاجة، وصارت سبباً للتخلص من اذاهم وجدالهم.
وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان بسم الله اله ابراهيم واسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران ان أسلمتم فانى أحمد اليكم الله اله ابراهيم واسحق ويعقوب أما بعد فانى أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فان أبيتم فالجزية وان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام.
فلما قرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الاسقف ما رأيك فقال شرحبيل قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية اسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل، ليس لى في النبوة رأى، لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الاسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانطلق الوفد حتى أتوا رســول الله صلى الله عليه وســلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المســألة حــتى قالوا له ما تقول في عيسى بن مريم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندي فيه شئ يومى هذا فاقيموا حتى أخبركم بما يقال لى في عيسى صبح الغد فانزل الله هذه الآية ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب إلى قوله فنجعل لعنة الله على الكاذبين فأبوا أن يقــروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشى خلف ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة( ).
والحديث لا ينقص من قدر نساء النبي لأن القرآن أخبر بانهن أمهات المسلمين، ولكن المباهلة موضوع جهادي وتحد تأريخي عظيم تصدى له أهل البيت خاصة فامتلأت قلوب وفد نجران بالذعر.
السادس: الإخبار بان كل قصة وخبر في القرآن يتضمن قصصاً عديدة فكل قصة قرآنية تنشطر الى عدة قصص وكل واحدة منها حق وصدق.
السابع: وصف قصص القرآن بانها الحق شاهد على ان غيرها ليس بحق لذا ورد في الحديث: ان بني اسرائيل لما قصوا هلكوا( )، في تحذير من الإتكال على القصص والقيام بالقصص يؤدي الى حصول الزيادة او النقيصة، والإتكال على ما فيها من اضافات تلائم الهوى فجاءت قصص القرآن حاجة وضرورة للناس جميعاً وعلى نحو مركب من وجوه:
اولاً: فضح الكذب والتحريف والإفتراء.
ثانياً: تهذيب الإخبار والتأريخ من الزيادة والنقيصة.
ثالثاً: منع التعدي والتجرأ على قصص الأنبياء والأمم السالفة وصياغتها حسب الهوى.
رابعاً: قطع الطريق على من يريد التبديل والتغيير وتشويه الحقائق.
خامساً: جذب الناس للقرآن كمصدر سماوي للأخبار والقصص.
سادساً: منع الناس من الإضافات والتحريف مستقبلاً.
سابعاً: قصص القرآن من رحمته تعالى بالناس، فلم يتركهم  عرضة لإتباع الهوى وأرباب السلطان الذين يسعون الى جعل التأريخ آلة لدوام سلطانهم فيغيرون في الوقائع والأحداث ويبذلون الأموال ويسخرون الطاقات من أجل هذا التغيير.
ثامناً: تدل الآية على موضوعية وأهمية ولادة عيسى  وخلقه، والضرر البالغ بالغلو فيه او الإفتراء عليه، لذا تصدى القرآن للمفاسد التي يسببها الغلو والإفتراء.
تاسعاً: جــاءت الآية للثناء على  سبحانه ومدحــه، لما في خلقـه للإنسان من بديع الحكمة والكمال سواء كان خلق آدم او التناسل والتكاثر او آية خلق عيسى في رحم امرأة من غير ان يمسها رجل ونحوها من أسباب النكاح وعلوق الولد وتلقيح البويضة.
لقد جمعت الآية بين أمور لا يمكن معرفة الملازمة بينها الا بلحاظ معرفة مناسبة الحكم والموضوع والأثر وهي:
الأول: الإشارة الى مضامين الآيات السابقة باسم الإشارة (هذا) لذا قيل بعدم جواز الوقف على (الكاذبين) في خاتمة الآية السابقة، والأصح جواز الوقف.
الثاني: الدعوة الى الرجوع الى القرآن في قصة عيسى.
الثالث: ان  لم يترك الناس ينشغلون في الجدل والخلاف في ولادة عيسى باعتبار ان الأهم هو العبادات واعلاء كلمة التوحيد، ولم يهمل القرآن مسألة ولادته حرصاً على اجتناب معاداة اليهود والنصارى في هذه المسألة التي تحتل أهمية خاصة عند كل منهما وكل فرقة تتمسك بما هو مضاد ومناقض للفرقة الأخرى .
وكلا الرأيين خلاف الحق، فجاء القرآن بالقول الفصل من غير خشية من جماعة او قوة ما، وجعل  المباهلة تعضيداً ومدداً للمسلمين في باب الجدال، واذا أرتقى الأمر الى الحرب والقتال فعندئذ يكون السيف، وقد يظن عدم وجود أثر حينئذ للمباهلة او الدعوة لها في ساحات المعركة ولكن أثرها ظاهر وكبير.
ان الدعوة الى المباهلة تدل بالدلالة الإلتزامية على عدم لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الى القتال إبتداء , من وجوه:
الأول: ان الخصم هو الذي إختار الجدال.
الثاني: اصراره على الجدال بالباطل والمغالطة والمناظرة فيما هو حق وقطع مما لا يقبل الترديد والتعدد.
الثالث: ان  أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعوتهم للمباهلة لتكون عنوان فضله تعالى على المسلمين والنصارى واليهود في آن واحد، فهذه الآية من عمومات اصطفاء آل ابراهيم واطلاق الإصطفاء ليشمل المسلمين وغيرهم ، اما المسلمون فبنزول القصص الحق، واما غيرهم فيدعونهم لنبذ الغلو، ويزجرونهم عن الإفتراء على الأنبياء مع الإنذار والوعيد للفريقين الذين جاءت به آية المباهلة.
وحصر الحق بالتنزيل يدل على بطلان ما عند الملل الأخرى مما يخالف القرآن، ولا يجوز الإقامة عليه او الركون اليه، ومن البديهيات لزوم التسليم بالربوبية والإنقياد لأوامره تعالى، والآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها تفيد معنى الإنشاء وتوكيد الرجوع الى القرآن والصدور عنه في مواضيع وأحكام قصص الأنبياء.
إفاضات الآية
تبعث الآية الشوق لإستقراء الأسرار الإلهية في قصص القرآن وتنمي الإيمان في النفوس وملكة التمييز بين الحق والباطل، وهي حرب على النفس الشهوية والبهيمية، ودعوة للإعتبار والإتعاظ، وفيها تأديب سماوي يتجلى بقصص سادة الأمم الهداة المهديين الذين أراد  للناس ان يقتدوا بهم، وينهلوا من جهادهم، ويعملوا على تعاهد تنزيه ساحتهم، وذكر فضائلهم، وأظهرها:
الأولى: اخلاص العبودية لله.
الثانية: نيلهم مرتبة تلقي الوحي من عند .
الثالثة : الجهاد والفناء في مرضاة الله عز وجل .
الرابعة : النبوة مدرسة الصبر والتقوى , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا] ( ).
وجاءت الآية لتؤكد على لزوم اتباع الأنبياء في اظــهار معالم العبودية المحضــة لله تعالى، وتمنــع من التحريــف والغــلو والإفــتراء الذي يبعد العبد عن منهج الأنبياء، ويقطع الصلة والعلقة الروحية بين المؤمن وقادته.
علم القصص
لقد أراد   للمسلم الإكتفاء في عباداته ومعاملاته بالأحكام التي جاءت بها الآيات القرآنية وجاءت هذه الآيات لتخبر عن حقيقة في الإرادة التكوينية وهي الغنى عن الناس في باب القصص والأخبار، وهذا الغنى من وجوه:
الأول: اختيار القصص والأخبار النافعة والهادفة.
الثاني: تلاوة المسلمين لتلك القصص في الصلاة وغيرها مما يعني تعاهدها وحفظها الشخصي والنوعي.
الثالث: وجود هذه القصص في القرآن وهو الكتاب السماوي الخالد، والوثيقة الملكوتية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن يزدان بتلك القصص، وهي تتشرف بوجودها بين ثناياه.
وقصص القرآن علم مستقل له قواعده وشرائطه وأصوله لا يمكن الخروج عنها، فليس للقارئ او السامع ان يقصها باضافات وزوائد او نواقص مخلة بالمعنى، وفي كل قصة دروس وعبر.
فقصة عيسى  وذكر وجوه الشبه بينه وبين آدم  في الخلق والنشأة وان جاءت للرد على النصارى ومنع اليهود من الطعن بعيسى وأمه عليهما السلام فانها مدرسة وعلم تتشعب عنه عدة علوم ودراسات عقائدية وأخلاقية فيرد الأمر السماوي والآية القرآنية لغرض وسبب آني وظاهر، ولكن المنافع منها تبقى متصلة ودائمة، تنهل منها الأجيال ويرجع اليها العلماء، وتكون غذاء وعبرة وموعظة، وهي اصلاح للمجتمعات وزاجر دون الإفتراء والزيادة والنقيصة في قصص الأنبياء والأمم.
كما ترى هذه الحقيقة تتجلى بقصة نبي  يوسف  وعدم استحداث اضافات او الإتيان بتعليل واستنتاج مخالف لنص الآيات القرآنية، وما فيها من المضامين القدسية التي تبعث الرغبة في النفس للإحاطة بها علماً ولو على نحو الإجمال، وتنمي في النفـس ملكة المحافظة عليها من التغيير والتحريف، ومن أعجاز القرآن جعله قصص الأنبياء في متناول المسلمين والمسلمات جميعاً.
بالإضافة الى الوقائع والحوادث في الأزمنة السالفة، ومن منافع قصص القرآن انها نبراس هداية في الوقائع التي تحدث في اليوم والليلة، ويهتدي بأنوارها المؤمنون، ويرون اشراقاتها بالوقائع الأحداث وكيفية معالجتها، وتدارك النقص والخلل، ودرء الأذى.
لقد جعل  الإنسان محتاجاً الى غيره، ويملؤه الشوق لمعرفة أحوال الآخرين من ذوي القربى والجيران وأهل البلد وغيرهم ويمتد هذا الشوق لمعرفة جهاد وعناء الأنبياء باعتبارهم سادته وقادته في الدارين، وأحوال الأمم الأخرى لتحصل عنده دراسة مقارنة فطرية.
ان استيلاء الأخبار الموضوعة على ذهن الإنسان وعدم معرفته للحقائق يحدث عنده ارباكاً ويحول دون اتخاذه ما يلزم من الوظيفة العبادية والأخلاقية، فجاءت قصص القرآن لنشر الحق وتثبيت الحقائق التأريخية والمنع من تحريفها وتغييرها، ومنع الناس من تغيير الأخبار وواقع الحوادث واعادتها كتابة التأريخ وفق الهوى والمصالح لا يقدر عليه الا .
لذا تفضل سبحانه بقصص الأنبياء والأمم السابقة، وليس من كتاب يكون حصانة وواقية لهذه القصص من التحريف غير القرآن لذا تفضل سبحانه بذكر قصة ابراهيم واسحاق ويوسف وعيسى والأنبياء الآخرين في القرآن بأجمل لغة وأبهى صورة وأحسن الحديث.
التفسير
قوله تعالى [ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ]
بدأت الآية بتوكيد الحقائق التأريخية التي يذكرها القرآن في الآيات السابقة، وهي حق وصدق لأنها نازلة من عنده تعالى فليس من أحد أصدق من  قولاً وأخباراً وأعظم شهادة وجاءت هذه الآية للتوكيد اللفظي، وفيه دعوة للتمسك بقصص القرآن وعدم التفريط بها، وفي الآية بلحاظ معاني لفظ الحق وجوه:
الأول: من أسمائه تعالى الحق وهو الذي يتفضل بقول الحق واحقاقه بين الخلائق.
الثاني: الحق هو الصدق والخبر المطابق للواقع من غير زيادة او نقيصة، فالآية تخبر عن الصدق والوقوع لكل خبر جاء حدوثه في القرآن، فولادة مريم لعيسى بالنفخ الملكوتي مثلاً صدق وحق.
الثالث: الحق ضد الباطل، أي ان عبودية عيسى لله وولادته حق وعدل وشيء اراده  له وللناس، فلابد من التصديق به.
الرابع: يأتي الحق بمعنى الأمر الثابت، فما ورد في القرآن من قصص أمور ثابتة لا تقبل التغيير وكل حدث في الزمن الماضي فهو أمر ثابت لأنه حدث وجرى على صورة وهيئة واحدة فأصبح لا يقبل التغيير لإنعدام أجزائه وانصرام زمانه، ولكن الأمر يتعلق بكيفية روايته وذكره، وذكر القرآن للحدث هو الأفضل والأشرف والأسمى.
الخامس: من معاني الحق اليقين، فقصص القرآن يقين محض، وسبب لطرد الشك والوهم من النفوس والمجتمعات، ومن خصائص الإنسان انه يتأثر بما حوله، وينطبع في ذهنه ومخيلته بعض مما سمع بخصوص موضوع معين، فهو يسمع الغلو بعيسى وادعاء الوهيته كما يسمع الإفتراء عليه وعلى أمه، وهذا السماع يشمل المسلم وغير المسلم، فيأتي القرآن بازاحة كل ما سمع من الباطل عن الوجود الذهني، لعدم امكان بقاء الحق والباطل بعرض واحد في ذهن الإنسان، فيأتي الحق ليزيح الباطل ويفقده بريقه ويمنعه من التأثر، فهو وان بقي في الوجود الذهني الا ان أثره معدوم بل بالعكس يكون وجوده في الذهن احترازاً منه واجتناباً لأهله لأن الإنسان أدرك حقيقته وأحاط بما فيه من الضرر والخطأ والكذب والتحريف.
ومجيء الآية بلغة اسم الإشارة ودخول اللام في (لهو) وورود (القصص) معــرفة بالألف واللام يفيــد الحصــر، أي ان الحق والصدق في هذه القصــص منحصــر بما ورد في القرآن، وما خالفه لابــد من طرحه والأعراض عنه وعدم قبوله، وكون هذه القصص حق فضلاً منه تعالى ورحمة بالمسلمين ودعوة للناس جميعاً للجوء الى القرآن في القصص والوقائع، وهذا الرجوع جزء او مقدمة للرجوع اليه في الأحكام.
ومن الآيات في قصص القرآن انها خطاب وموضوع موجه للناس جميعاً لينهلوا منه، فسواء كانوا مسلمين او غير مسلمين فان قصص القرآن نازلة من السماء وليست هي من أحكام العبادات او العقائد المحضة.
لقد أراد   منع الخلاف والإختلاف والفرقة بين الناس في قصص الأنبياء لأن النبوة رحمة عامة وفضل منه تعالى، فأبى سبحانه ان تكون هذه الرحمة عنواناً للفرقة وموضوعاتها سبباً للتصدي للنبوة نفسها، ولكن بعض الفرق تغالي بأحد الأنبياء او تفتري عليه فيكون هذا الغلو والإفتراء مادة للجدال والمناظرة مع النبوة اللاحقة التي جاءت لتثبيت حقيقة وصدق النبوة السابقة، فهذا الجدال ضرر وأذى مركب على كل من:
اولاً: النبي السابق للتعدي عليه واخراجه من صفة العبودية لله او صفة الرسالة.
ثانياً: النبي اللاحق في وضع العوائق دون رسالته والتشكيك بالأنبياء من قبله وهو لم يأتِ الا ليثبت نبوتهم.
ثالثاً: المسلمون الذين يشغلهم هذا الجدال خصوصاً في بدايات الدعوة الإسلامية.
رابعاً: أهل الكتاب وأتباع أصحاب البدع الذين يقلدون رؤساءهم فيما يأتون به من الشبهات ويدعونه من التحريف المخالف لنص القرآن.
فجاءت هذه الآية لمنع صيرورة التحريف جزء من تراث الإنسانية وأهل الكتاب خاصة، فآية المباهلة وصيغة التوكيد والتثبيت في هذه الآية حرب على التحريف في قصص وتأريخ النبوة الى يوم القيامة، ولم يقف القرآن عند حد فضح الكذب والتحريف في قصص الأنبياء بل جاء بالحق والصدق لذا جاءت المباهلة حاجة وبياناً عملياً وحجة وتوبيخاً للكافرين.
بحث كلامي
لقد تفضل سبحانه وباهى الملائكة بخلق آدم وجعله خليفته في الأرض وامر الملائكة بالسجود له فاطاعوا وسجدوا، ثم تفضل سبحانه وخلق عيسى من غير أب، وأكدت هذه الآيات وجوه الشبه بين عيسى وآدم وجاء معه بالآيات البينات ودعا الناس الى عبادة ، ولكنهم ابوا واستكبروا في بيان للمائز بين الملائكة والناس.
وهذا الجحود لم يستمر او يتسديم اذ بعث  النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل معه القرآن ليحكي قصة عيسى وبلسان صدق وحق ويثبتها الى يوم القيامة، فآمن المسلمون بها على التنزيل من غير اضافة او تحريف، او غلو او وطعن وانتقاص، ليرقى المسلمون الى مراتب الملائكة في الطاعة والإنقياد وليكتب  لهم درجة اذ انهم لم ينكروا من أمر عيسى ونبوته شيئاً ولم يردوا كما رد الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( ) مع ان رد الملائكة لم يكن استنكارياً، ولم يخرجهم عن الطاعة.
ومع ان الذين يحيطون بهم يصرون ويجادلون في الباطل ويأتون بالشــبهات فان المســلمين لم يغادروا القــرآن قيد أنمـلة، وظلــوا على نهج القرآن والنبي محــمد صلى الله عليه وآله وسلم في اكــرام عيسى  والإقــرار بالإعجــاز في ولادته وتقديــس امه البتــول عليــها السلام، والتسليم بالآيات البينات التي جاء بها بصفته رسولاً من عند .
لقد كان ايمان ملايين المسلمين في كل جيل من أفراد مباهاة  تعالى الملائكة بخلق آدم، وعنواناَ لأهليتهم لخلافة الأرض، واقامة صرح الإسلام وتعاهد معالم التوحيد فيها.
وبنزول القرآن تجلت شوارق الجمال والجلال على العالمين، وصار استحداث التحريف من الممتنع، وحفظ  للملائكة والأنبياء عظيم منزلتهم في الأرض بتعاهد المسلمين لمضامين القرآن وما فيه من تقديسهم والدعوة للإيمان بهم، قال تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ]( ).
ولقد تفضل سبحانه وعلم آدم الأسماء كلها ثم أمره ان يعلم الملائكة بها كشــاهد على أهليتــه للخلافــة في الأرض، وجــاء القـرآن بآية المباهلة لتبين لأهل الكتاب وغيرهم أهلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمســلمين لوراثة الأرض والســيادة فيها، وفــيه دعوة للناس جميعاً لإعتناق الإســلام واتباع الــنبي محمــد صــلى الله علـيه وآله وسلم.
علم المناسبة
من آيات القرآن انه تضمن قصص الأمم السابقة ولم ينحصر موضوعه على الأحكام الشرعية مع أهميتها مما يدل على وجود صلة بين الأحكام التكليفية وبين هذه القصص، وان لقصص القرآن موضوعية في بناء اركان الدين وتثبيت دعائمه في الأرض.
وقد وردت مادة (قص) في احدى وعشرين آية من القرآن بمعنى الخبر والحديث والقصة، وهذا العدد يدل على ما للقصة من أهمية واعتبار في القرآن، وكل موضع جاء فيه ذكر القصة فيه دلالات عقائدية وهو منهج للإتعاظ والإعتبار، بل ان آيات القرآن أكدت هذا الأمر، قال تعالى [ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وقد شرف   موضوع القصة بان كان اسم احدى السور (سورة القصص).
ووصف القصة القرآنية بانها حق يدل على انها من مقدمات وموضوعات الحكم قال تعالى [إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ]( )، مما يعني ان ذكر قصة عيسى  فصل بين الحق والباطل، وانها فضل منه تعالى لما فيها من الفصــل بين الصدق والكذب، والإيمان والكفر، فمن كان مؤمناً فعليه ان يأخذ مضامين القصة من القرآن.
قانون التوكيد الذاتي
ان كل حكم او خبر في القرآن هو ثابت ومؤكد، يترشح عليه القطع والتوكيد من قرآنيته ونزوله من عند  فليس من شيء أكثر ثباتاً ودقة وصحة من مضامين آيات القرآن، والمسلمون يأخذون كل علم او تشريع فيه على نحو اليقين والجزم وكذا بالنسبة لما فيه من القصص والأخبار يتلقونها بالتسليم والفخر والعز.
فمما يتصف به اللفظ القرآني ان توكيده ذاتي، فهو بنفسه يؤكد نفسه من غير ان يحتاج الى توكيد خارجي من آيات القرآن او السنة ليكون من الخصوصيات التي تنفرد بها الآية القرآنية.
فليس من شيء في الوجود يؤكد ذاته كالآية القرآنية، فهي كالبديهية والقضية التي يصدق العقل بها بذاتها وتصور طرفيها وليس بسبب خارجي، ولكن البديهية تتضمن طرفين هما الموضوع والمحمول او ما يسمى بالمحكوم والمحكوم به، ويكفي في الآية القرآنية تصور نزولها من عند ، وجزئيتها من القرآن الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا لا يتعارض او يمنع من مجيء التوكيد في الكتاب والسنة واجماع علماء المسلمين.
وهذا التوكيد سر من أسرار التنزيل السماوي، فما دام الأمر نازلاً من عنده تعالى فانه يحمل صفة الخبر والأمر وكذا يتضمن توكيده لذاته وتصديقه لموضوعه وما فيه من الحكم بذات اللفظ من غير لفظ زائد خاص بالتوكيد او اشارة تدل عليه، مع هذا يتفضل  بتوكيد آخر متعدد لتثبيت أحكام الآية، وزرع اليقين في نفس المسلم والوقاية من الشك والوهم.
قانون التوكيد القرآني
من الأسرار القدسية في القرآن انه يتضمن تبيان كل شيء وبما ان القرآن يتكون من آيات متعددة والله  واسع كريم، فقد جاء القرآن بتوكيد آياته فكل آية تجد توكيد وتصديق نزولها في القرآن، ولو لم يكن لها توكيد فيه ويمنع من الإفتراء فهي بذاتها توكيد ويمكن القول انها ليست خارجة بالتخصص من قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وصحيح ان القدر المتيقن من الآية الأمور الخارجية والأشياء الأخرى فالقرآن يبين غيره ويظهره ويجليه، ولكن لعظيم فضله تعالى وسعة رحمته واحسانه يمكن النظر الى الآية بالمعنى الأعم وهو تضمن الآية لبيان توكيد القرآن لآياته وتثبيتها وان كانت النوبة لا تصل الى حصر اثبات التوكيد بقانون التبيان، فان العقل والبرهان والوجدان تدل على ان آيات القرآن يؤكد بعضها بعضاً.
فاشراقات الآية القرآنية تشع على الآية الأخرى ليجتمع النوران، نور الآية المؤكدة – بكسر الكاف- والآية المؤكدة- بفتح الكاف- ومن غير ان يتداخلا، وينفذان الى القلوب المنكسرة والنفوس العطشى للحكمة، ويطردان ظلمة الشك والريب من الوجود الذهني، والتوكيد القرآني على وجوه منها:
الأول: لغة المثل والتشبيه وما فيها من الأسرار القدسية كما في تشبيه خلق عيسى بخلق آدم .
الثاني: تكرار الفاظ ذات الآية او شطر منها.
الثالث: توكيد احكام الآية بالفاظ أخرى تتضمن صيغة الأمر والخطاب التكليفي.
الرابع: ابطال ما هو خلاف منطوق الآية وبيان قبحه.
الخامس: ذكر ما في موضوع وحكم الآية من حسن ذاتي.
السادس: بيان منافع الآية والعمل بها والتقيد بأحكامها، فهذا البيان توكيد لها.
السابع: توكيد الآية بالمفهوم، بان تأتي آية أخرى تؤكد في مفهومها لزوم العمل بأحكام الآية كما في قوله تعالى في الآية التالية [ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ]( ) أي من لم يأخذ بأحكام هذه الآيات ويعرض عنها فهو مفسد، مما يعني توكيد الأخذ بأحكام هذه الآيات وان الذي يأخذ بها مصلح.
واطلقنا عنوان القانــون على هذا التوكيــد لأنه ليس مـن آيــة قرآنية الا ولها توكيد في آية أخرى، وهذا التوكيد متعدد وانحلالي، فيأتي توكيد الآية وأحكامها بالتشبيه والتكرار وابطال ما هو خلافها ونحوها، ثم ان كل فـرد من أفراد هذا التوكيد متعدد ايضاً فتجد مثلاً مجيء اكثر من آية لإبطال خلاف منطوق هذه الآية.
قانون التوكيد المتبادل
لقد جاءت سور القرآن وكل سورة تنقسم الى آيات عديدة في آية اعجازية وبلاغية، والفصل بين الآيات وتعدد سور القرآن وعدم جعله سورة واحدة لا يعني وجود تنافِ وتباين بين سوره وآياته بل هناك اتحاد وتداخل في المواضيع والأحكام، كما يتجلى عالم التوكيد في القرآن بصورة مشرقة، وحلة بهية تتمثل بالوضوح والبيان وعدم اللبس، أي ان توكيد الآية لإختها امر ظاهر ويسهل استنباطه والوصول اليه، وهذا من خصائص القرآن فكل طرف من طرفي التوكيد يشير الى نفسه والى الطرف الآخر.
فالآية التي تؤكد- بالكسر- تخبر بانها جاءت مؤكدة وتشير الى الآية التي تؤكدها، مع ان التوكيد ليس الوظيفة الوحيــدة للآيــة القــرآنيــة، بل هو وجه من وجوهها، ولا يكون مانعاً من حمــل الآية لذات المضامين التي تحملها أختها فيكون عملها مركباً من الإشتراك في تشريع الحكم وبيان الخبر والموضوع وفي توكيد الآية الأخـرى بذات الموضوع من غير ان يكون هذا التشابه كلياً او متعارضاً مع التوكيد ومانعاً لإستقلاله وظهوره.
فوظيفة الآية في التوكيد أمر خاص له قواعده وأحكامه وتجده حتى في نظم الآية والتباين في شطر من كلماتها كما في قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ]( ) فقد ورد في آيتين من سورة البقرة، ولكن خاتمة الأولى هو [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ) اما الثانية فخاتمتها قوله تعالى [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )
كما تجد آيتين تتشابهان في الإلفاظ ليكون التشابه توكيداً متبادلاً فكل آية تؤكد الآية الأخرى، او ان أحداهما مؤكِدة والأخرى مؤكًدة بلحاظ نظم الآيات وسياق الموضوعات والأحكام فيها، وعلم التوكيد القرآني بأقسامه المتعددة اعجاز قرآني مستقل، وكنز لا ينفذ وذخائر متجددة.
فهذا القانون خاص بتوكيد الآية القرآنية لأختها ويدل على وجود توكيد منطوق وأحكام الآية في ذات القرآن ومن غير ان تصل النوبة الى توكيد آخر مع تعدده وعدم انعدامه في السنة والواقع.
قانون توكيد السنة
تعتبر السنة النبوية أعظم ثـروة عملية وعــقائدية بعــد القــرآن الكــريم فليس من كتاب او مصنف كان او يكون أفضل من سنة الرسول الأكرم باستثناء القرآن الذي هو كلام  ونازل من عنده، بل ان أفضلية التنزيل تترشح على السنة ايضاً باعتبارها وحياً واخباراً ملكوتياً، ولقد قام المسلمون بتعاهد السنة النبوية الشريفة وحفظها وتوثيقها ومنع يد التحريف والوضع من الوصول اليها، وكما يحتاج المسلم القرآن في يومه وليلته فانه يحتاج السنة النبوية في تفسير القرآن وبيان الأحكام والتفاصيل، وهي فرع وثمرة مباركة من القرآن قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وهذه الآية تدل على وجــوب الصدور عن رسول  صلى الله عليه وآله وسلم كما جاءت الآيات بالملازمة بين طاعة  وطاعة الرسول وعدم التفكيك بينهما، ولقد جــاءت الســنة بتوكــيد آيات القرآن وما فيها من الأحكام كما تضــمنت تفصيل المجمل، وتقييد المطلق، وتخصيص العام، والمصداق العملي للأمر الإلهي الوارد في القرآن وبيان وجــوبه او استحبابه، ولقد تضــمنت الآيــات وجـوب اقامة الصلاة فجاءت السنة لتوكيد ركنيتها وضرورتها وبيان انها قوام الدين.
ويعتبر بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأحكامها توكيداً لها، وقال صلى الله عليه وآله وسلم “صلوا كما رأيتموني أصلي” ولقد حث القرآن على الأخــوة الإيمانية ونبذ الفــرقة، قال تعالى [ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )
فجاءت سنة النبي في العبادات والمعاملات لتؤكد هذه الأخوة وتؤسس قواعدها فقد أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صلاة الجماعة وحافظ عليها ووردت النصــوص بما لها من الثواب العظيم، كما جاءت السنة القولية والفعلية بتوكيد آيات القتال والجهاد.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بنفســه الى القتال ويـقود أهم المعارك كما في معركة بدر وأحد والخندق، وحتى فترة قوة الدولة الإسلامية واتساع رقعتها فان النبي لم يكتفِ ببعث الجيوش والسرايا الى الأطراف والنواحي بل كان أحياناً يخرج بنفسه كما في خروجه الى تبوك في دعوة الى المســلمين وملوكهم ورؤسائهم بحفظ بيضة الإسلام وعدم الركون الى الراحة والميل الى السكون.
ولهذه السنة المباركة أعظم الأثر في انتشار الإسلام فيما بعد بقيام المسلمين بالدفاع عن الإسلام ونشر الويته وأحكامه، كما جاءت السنة القولية بتحبيب القتال الى النفوس، وجعل النفوس تشتاق الى الجنة وترغب باختيار طريق الشهادة كأفضل وسيلة لضمان دخولها من أوسع الأبواب.
ان قانون التوكيد بالسنة أعم وأوسع من ان ينحصر بموضوع وحكم واحد، او مواضيع وأحكام مخصوصة بل تجده في كل باب من أبواب الحياة ويمكن وجود وجوه التداخل بينه وبين الآية القرآنية منطوقاً ومفهوماً ليكون هذا القانون تثبيتاً للآية القرآنية.
قانون التوكيد الواقعي
لقد أراد   ان يكون القرآن مــرآة للواقع وشاهداً على الحوادث واخباراًُ عن الوقائع في الزمن الماضي وأيام التنزيل وما بعــدها، والفرد الأخير منها لاينحصر بعلم الغيب وحده فمن فروعه مطابقة الحوادث وجريان الأمور وفــق القواعد القرآنية الكــلية، فلذا ورد في الحديث “اتقوا فراسة المؤمن ، فانه ينظر بنور الله الذي خلق منه”.
فهذه الفراسة وحسن الظن والتوقع مترشحة عن عرض مقدمات وأسباب الوقائع على القرآن وقصصه وأحكامه فتأتي مطابقة لها الا ان يشاء  ضمن قوانين المحو والفضل والإلهي، ومجيء الحوادث مطابقة لمنطوق او مفهوم الآية القرآنية توكيد لها وتثبيت لأحكامها، وتجديد للعناية بها والإلتفات الى مضامينها.
وهذا التوكيد سبب في زيادة الإيمان، وتنمية لملكة حب القرآن ورسوخ آياته في الأذهان وفيه درء للمفاسد وطرد للشك والوهم، وكما جعل   القرآن تبياناً لكل شيء، فان الجديدين اليوم والليلة يؤكدان صدق آياته، وهذا التبيان نفسه شاهد على حضور الآيات في كل مناسبة وموضوع.
وهذا القانون يستلزم أمرين:
الأول: عرض الوقائع وأمور الحياة العامة على القرآن والإستشهاد بآياته، والإستدلال بان القرآن ذكر تلك الوقائع والأمور ولو على نحو اجمالي او بذكر قصص الماضين.
الثاني: اســتنباط التغيرات والوقائع مــن القرآن ليس في حســاب الحروف وارقامها، بل باستنباط الأحكام من ظاهــر القرآن وما فيه من لغة البشــارة والإنــذار، والوعــد والوعيد، والقصص التي وصفها   بانها حــق ويأتي اخفاء وتحــريف بعض الفرق لحقائق التنزيل والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون مناسبة لتوكيد الآيات التي تذم كتمان الحق والشهادة قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ]( ).
ومن المقدمات القرآنية للتوكيد الواقــعي، صــيغة المدح والــذم ومجيء الآيات بصيغة المضارع، كما في قوله تعالى [وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ]( ) فحكم هذه الآية يتجدد في كل زمان ويكون كل كتمان للحق والتنزيل شاهدا على التوكيد الواقعي لها وللزوم اظهار الحق وتصديق النبوة.
قانون التوكيد العملي
لقد منح   الإنسان الجوارح وجعله يسعــى لسد حاجته وتـحقيق رغائبه، وتلك الرغائب ليس لها حد تنتهي اليه، فجاء العقل ليقيدها ويمنع النفس الشــهوية والغضــبية من الإســتبداد بالإنســان وجعــله أسيراً لها، والعقل آلة للإيمان ووسيلة لمعرفة سبل النجاة، والتمييز بين الحق والباطل.
فجاءت أحكام التنزيل لتهدي الإنسان عقلاً ونفساً واركاناً وجــوارح الى سبل الهداية والصلاح، وتمنعه من الظــلم والفساد، فيكون عمله توكيداً لآيات القرآن باعتناقه الإسلام ونطقه بالشهادتين وتقيده بالواجبات واجتناب تركها، ونفرته من النواهي والمحرمات وابتعاده عما زجر وردع عنه القرآن، وليســتحق صــفة الخلافة في الأرض بحســن الإمتثال وتصبح الملائكة تدعــو له وتنظــر له بعــين الرضا والثناء، وحتى أهل المعصية والجحود فان فعلهم توكيد عملي للآيات التي تذكر الكافرين وتذمهــم وتقبح مذهبهـم وتدعو للنفرة منهم.
ان أفعال الإنسان توكيد لآيات القرآن لأنها شاهد يومي متجدد على صحة التنزيل، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومصاديق هذا القانون متعددة منها:
الأول: أفعال المسلم وما يقوم به من الصالحات والتي جاء القرآن بالأمر بها والوعد والثواب عليها.
الثاني: ما يفعله الكافر من المعاصي والذنوب، وفيه توكيد لقصص القرآن بخصوص الأمم السالفة، وآيات الإنذار والوعيد للكافرين.
الثالث: ميدان الحكم والسلطان، فالناس فيه على قسمين:
أولاً: من يحكم بما أنزل ، ووردت الآيات بمدحه والثناء عليه.
ثانياً: من لم يحكم بما أنزل ، وقد جاء القرآن بذمه، قال تعالى [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ]( ).
ولقد جاءت آية المباهلة توكيداً عملياً للأمر الإلهي الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمباهلة سواء بانحصار الدعوة النبوية لها بوفد نجران، او باضافة دعوة لليهود كما تقدم في تفسير الآية السابقة، فهي مصداق للتحدي وشاهد عملي على صحة التنزيل وما فيه من النفع العظيم، وتوكيد بان المسلمين لم يتخلفوا عن العمل بما في القرآن من الأوامر.
ومن التوكيد العملي بروز المسلمين الى ميادين القتال واستشهاد فريق منهم دفاعاً عن الإسلام، وهذا الفعل من أرقى معاني التوكيد العملي لأنه ثبات وتثبيت لأحكام الآية في الأرض وعنوان الإيمان بما جاء في القرآن من الأحكام.
قانون التوكيد العبادي
لقد خلق   الإنسان لعبادته والإمتثال لأوامره، واجتناب نواهيه، وهذه الأوامر والنواهي تضمنتها آيات القرآن الكتاب الجامع لأحكام الشريعة، ويأتي فعــل المسلم وحسن أدائه للفرائض توكيداً عملياً متجـــدداً على صـــدق أحكام التنزيل وقدرة الإنســان على الإتيان بها، خصــوصاً وان اسم التكليف مأخــوذ من الكلفــة والمشــقــة والعناء، ولكن صيغة الأمر الإلهي لها يجعل لها حباً في النفس، وشوقاً لأدائها، وشــعوراً بالرضــا عند التوفيــق للإتيــان بها، والتوكــيد الـعبادي عنوان رســوخ الأحكام في الأرض وشــاهد على اســتدامة وجــودها في الأرض.
ومن مصاديق هذا القانون الصلاة اليومية وقراءة القرآن فيها، ووجود سورة مخصوصة تقرأ على نحو متكرر في كل يوم من قبل كل مسلم ومسلمة وهي سورة الفاتحة اذ تؤكد آياتها عبادة  والإستعانة به رجاء الإعانة والإرشاد لسبل الهداية، وهذا التوكيد ليس من العبد على نحو خالص، بل هو من عند  تعالى .
أي ان   اراد لآيات القرآن ان تؤكد في الواقع العملي وهذا الواقع عام في زمانه ومكانه فيصدق عليه لو جاء في زمان مخصوص او مكان معين من بين بقاع الأرض، ولكنه سبحانه أبى الا الإطلاق في أفراد هذا القانون وجعل الناس كلهم يعملون على توكيد الآيات القرآنية بالعبادة والتلبس بالفرائض.
فالصيام توكيد عملي للأمر الإلهي باداء فريضة الصيام في شهر رمضان من كل سنة، واخراج المسلم للزكاة مصداق عملي لقوانين وأحكام الزكاة، وكذا التقيد بشرائط العبادات شاهد على استدامة الحياة في الآية القرآنية وحضورها.
ومن خصائص هذا القانون ان العبد يحتاج استحضار الآية الكريمة والتدبر في معانيها عند العمل، فتلاوة سورة الإخلاص يستلزم حفظها ويؤدي طوعاً وانطباقاً الى تدبر معانيها ولو في الجملة.
قانون التوكيد المعاملاتي
لقد جعل  الحياة الدنيا داراً للكسب، وميداناً للمعاملة، واذ تكون العبادة صلة بين العبد والرب، فان المعاملة امر مركب من قسمين:
الأول: الصلات بين الإنسان وغيره من الناس سواء الأقارب او الجيران او أهل البلد او غيرهم.
الثاني: الصلة مع   لأن المعاملة مقيدة بأمرين:
اولاً: رضا   والإمتثال لأوامره.
ثانياً: عدم التعدي والظلم وايذاء الآخرين.
فالأوامر الإلهية لا تنحصر بالعبادات بل هي شاملة لمختلف الميادين وتتضمن القواعد الكلية في المعاملات كالبيع والشراء والإجارة والرهن، وصيغ العقود التي تتم بين طرفين او أكثر كالنكاح والشركة، والإيقاعات كالطلاق والوقف، وأحكام الأرث التي جاءت في القرآن وفق أحكام اعجازية دقيقة، وهذه المعاملات توكيد عملي لآيات القرآن من وجوه:
الأول: مجيء آيات القرآن بقواعد المعاملات لتكون أحكامها على قسمين:
اولاً: القوانين والقواعد الكلية للمعاملات واجرائها وصحتها وما يتعلق بشرائط المتعاقدين والعوضين.
ثانياً: القواعد الفرعية الخاصة بكل معاملة كما في البيع وكتابة الدين( ) والذباحة والكفارات والعهد قال تعالى [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] لتكون مصاديق الصحة والتقيد بأحكام العقود وصحتها ابتداء واستدامة والإتيان بمصاديقها في عالم الفعل من التوكيد الواقعي لآيات القرآن.
والمعاملة من أبواب تثبيت دعائم الدين، وفي الإلتزام بأحكام القرآن في باب المعاملات حفظ للقرآن وتعاهد لآياته.
الثاني: تضمن السنة النبوية لقواعد وشرائط المعاملات والعقود بما يتضــمن التفصيل فيها، ومنع الحرج واللبس ودفع الجهالة والغرر.
الثالث: قيام الفقهاء بتعاهد هذه الأحكام وحصــول الإجــماع بينهم على قواعدها وحرصهم والمسلمين كافة على منع التعدي او التفريط فيها، ومن الآيــات انفراد الإسلام بعدم خروج الفقهاء او تفريــط بالقواعد الكلية والأحكـام التي جاء بها القرآن والسنة.
الرابع: الواقع اليومي للمسلمين اذ يتجلى فيه الحرص على الصيغ الشرعية للمعاملات وعلى نحو العموم الإستغراقي فمثلاً تجد النفرة العامة من الربا تتغشى المسلمين كافة وتراهم يبغضــون الربا موضوعاً وتداولاً ويحذرون ويحرصون على اجتنابه والإبتعاد عنه.
فمن اعجاز القرآن انه ليس كتاباً عقائدياً فقط، بل هو نظام ودستور يحتاج اليه الإنسان في كل يوم عشرات المرات،مما يعني تداخله مع الواقع اليومي وصيرورته جزء من حياة الإنسان وملازماً له لا يستطيع الإستغناء عنه ساعة واحدة فاذا فرغ من عبادته وتوجه الى الكسب والعمل او الأسرة، فان القرآن يجذبه ويخبره بحاجة كل انسان اليه في تحديد وكيفية المعاملة والتصرف.
وقوانين المعاملات في القرآن لا تنحصر بالصحيح منها بل تشمل الزجر عن القبيح والفاسد والضار من المعاملات فلولا آية حرمة الربا و[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، لوجدت الناس غرقى في ظلمات الربا ولأثقلت الديون كواهلهم وجاءت القوانين الوضعية باسباب قهرية قاسية لسد الديون الربوية وبما يشغل الإنسان عن ذكـر ربه ويجعله يصاب بالياس والقنوط والإرتباك في الحياة الإجتماعية والأسرية، وينعكس الأمر على الأولاد والأهل فنزلت آيات القرآن للتمييز بين حلية الدين وحرمة الربا.
فجاءت آيات المعاملة لتحدد كيفية البيع وشرائط العقد الى يوم القيامة وتكتب للمسلمين السلامة في الدين والدنيا.
ومن الإعجاز ان يتوارث المسلمون العمل بأحكام الآية القرآنية وتعجز أي قوة عن منعهم من العمل بها او اجراء التحريف بما يتعدى على أحكامها مما يدل على ان المعاملات اليومية للناس توكيد عملي للقرآن وان هذه المعاملات تساهم في حفظ التنزيل، وتمنع من وصول يد التحريف الى العمل بأحكامه، أي انها لا تصل الى نص الآيات ومنطوقها من باب الأولوية القطعية، وهذا من ثمرات قانون التوكيد المعاملاتي.
قانون العلوم
من الحقائق التي أصبحت ظاهرة للعيان عدم حصر علوم القرآن، فهي من عالم اللامنتــهي لقابليتها للإنشــطار والتعــدد وانحـلال كل واحد منها الى أقسام متعددة، ويساعد في تثبيت هذه الحقيقة امران متلازمان:
الأول: اتساع وتشعب العلوم.
الثاني: احاطة القرآن بالوقائع والحوادث، فما من علم يستحدث الا وتجد أصله والإشارة اليه في القرآن، فمن اعجاز القرآن انه يتغشى كل العلوم من وجوه:
الأول: مجيء العلوم مصداقاً لتنزيله، وشاهداً على اعجازه لأنه يخبر عن حصولها قبل مئات السنين وفي زمان لم يخطر على بال أحد ان الإنسان يستطيع ان يرتقي في باب العلم الى هذه المراتب العالية بل ان علوماً تستحدث لم يفكر الناس قبل بضع سنوات بحدوثها فضلاً عن أهل الجيل السابق.
الثاني: تأسيس واستنباط العلوم من القرآن، وهذا الفرد من الإعجاز سر مكنون وكنز مدخر يدعو الناس لإستخراج درر القرآن ومن خصائصه عدم وجود حد لعدد مصاديقه.
ويعتبر العلم هو الدليل والملاك في معرفة الإرتقاء والكسب في المعارف، وجاء القرآن ليصلحه ويتعاهده ويؤسس له أبواباً جديدة يعجز العقل الإنساني عن تخيلها مجتمعة لأن الناس في كل زمان لم يحيطوا بها لا أقل بالنسبة لأفرادها في المستقبل القريب دون البعيد.
ومن الشواهد على نزول القرآن من عند  انه يدعو للعلم ويحث عليه ويذم الجهل وأهله، والعلم مادة لكشف الحقائق ومعرفة الوقائع، فجاء القرآن ليدعو الى معرفتها بالعلم ومنه هذه الآية بالتوكيد على صدق التنزيل وصحة ما فيه من القصص والأخبار.
ومن خصائص هذا القانون رجوع العلماء الى القرآن وهو أمر يحبه ، فلذا سهل طرقه ويسر أبوابه كما انه باب للخشية منه تعالى، وقد ورد في التنزيل [ِانَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( ) فكثرة العلوم والعلماء باب لتغشي الخشية منه أهل الأرض، اما العلماء فبالأصل واما غيرهم فبالتبعية والإكتساب منهم.

قوله تعالى [وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ]
بالتوحيد تقوم السماوات والأرض وبالإقرار بالربوبية لله تعالى تدوم الحياة على الأرض، وتنزل الخيرات من السماء، ويحصل النماء والتناسل في الإنسان والدواب، وتعم البركة الناس، وتتغشاهم الرحمة ويمهلهم   ويزيد عليه من فضــله بفتح أبواب الرزق ومضامين البركة وتهيئة مقدمات للتوبة والإنابة، لأنهم تعاهدوا الأصل وهو التوحيد قال تعالى [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ومع تعدد ورود كلمة التوحيد في القرآن الا انها لم ترد بــهذه الصيغة ومجيء ما النافية لإلوهية غيره تعالى الا في هذه الآية فعـندما يتعلق الأمر بالإلوهية والتوحيد، تتخلف مرتبة النبوة ولا يصح الإرتقاء بدرجة النبي الى البنوة لله والإلوهية، فلذا جاءت الآية على نحو التوكيد بحصر الإلوهية به سبحانه ونفي الوهــية غيره وان كان رســولاً من الرسل الخمسة اولي العزم هو عيسى ونفخ روح القدس في أمه مريم عليها السلام.
لقد جاهد الأنبياء لإعلاء كلمة التوحيد، ليكون هذا النهج من الجهاد أهــم ميــراث وعمل يلتقــي به الأنبياء جميعاً، وهــو عنــوان الفخر والعز لهم، وفيه شــكر له تعالى علــى نعمة النبــوة، خصــوصــاً وان النــبي يرى من معالــم التوحيــد أكثر مما يــراه غيــره من الناس وليس من تعضــيد لأحــدهم في هذا الباب الا ان الأعبــاء الجهــادية متباينة فعيسى  دعا الى التوحيد ومع مجيئه بالبينات كذّبه بنو اسرائيل، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعا الى التوحيد فحاربه المشــركون، وواجهه أهل الكتاب بالجدال والمناظرة في شرف عيسى .
لقد لقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تركة ثقيلة تجمع المتناقضين ويلتقيان في العداء للإسلام والتعدي على مقام عيسى ، فالغلو في شخصه الكريم لا يقل ضــرراً من الإفتــراء عليه وكــل منهما لا أصل له، فالأول مخالف لقواعــد العبودية والتوحيد، ويدل الثاني على الجحود بأمر  تعالى وعدم الإنصياع لأوامره والتسليم ببديع قدرته.
وهذه الآية تعضيد لآية المباهلة لأنها تجــذب النفوس الى الإيمان وتبين قدسية كلمة التوحيد وعظيم صفاته تعالى وجــاءت لتطرد الغلو عن أشخاص الأنبياء وتمنع من طرو الشك على النـفوس ان التفكر ببديع قدرته تعالى يوصل الإنسان بالدلالة الإلتزامــية الى الإقـرار بعبودية الخلائق كلها له والتسليم بعظيم قدرته سبحانه وان النفخ في مريم وخلق عيسـى آية منه تعالى ودعوة سماوية لعدم جواز الغلو بعيسى .
لقد اراد   للعقول ان تتيه في عالم الملكوت، وتسرح في حدائق التوحيد بتدبر الآيات والخلق وبديع الصنع وتدرك طائعة ومقهورة انتفاء الشريك ووجوب عبادة  تعالى، والإيمان بالنبوة والتنزيل.
والآية دعوة للإقرار بالعلة الفاعلية والقدرة اللامتناهية لله تعالى، وتنمية لملكة الشــوق لمعرفة صــفاته تعالى، وفيها اشـارة الى خسارة ارباب الضلالة وتوكيد بان الغلو مذموم ولا يؤدي الا الى الخيبة والخسران، فمن يصر على الجدال ويمتنع عن المباهلة فلا يعني الأمر انه نجا وسلم من البلاء، بل ان العقاب ينتظره في عالم الحساب لحتمية وقطعية وقوعه.
وهذا سر من أسرار فلسفة التقسيم الزماني للوجود الإنساني الى عالم الدنيا وعالم الآخرة، وجعل الحساب في الثانية، فالذي يمتنع عن المباهلة مع اصراره وعناده، ينتظره الحساب والعقاب، لتكون المباهلة له زاجراً ورحمة ونصحاً ونجاة من العذاب الأخروي اذا تدبر وانتفع منها سواء بالإيمان والهداية، او بالكف عن الضلالة والعناد، لأن العقل يحكم بالنفرة من الفعل ذي العقاب العاجل اذا كان عقابه الآجل أشد وأكبر.
وتبين الآية صدق قصص القرآن لأنها نزلت من عنده تعالى وتدعو الناس لعدم التصديق بغيرها، لعدم صلاحية أي قصة بخصوص عيسى والأنبياء لمعارضة قصص القرآن، وترى الغلو او الإفتراء صفة ملازمة لكل قصة مخالفة لمنطوق القرآن، وهذا من اعجاز القرآن.
ولو شاء   ان تأتي ولادة عيسى بالعلة المادية مع رزقه بالآيات ذاتها من آية الطير وابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى باذن ، ولكنه سبحانه أراد ان يرحم الناس ويزيد ايمانهم بهذه الآية، ولتصبح موضوعا ًللإبتلاء والإمتحان، فذكرت لزوم التصديق بما أنزل  واحراز النجاة في الدارين.
وتبين الآية عدم كفاية التسليم بقصص القرآن ونبذ التحريف في غيرها بل لابد من الإقــرار بالربوبية لله تعالى، لأن بعثـة الأنبياء دعوة الى  وتوكيد على انحصار الإلوهية به تعالى، فالتســليم بصــحة قصـص القرآن وحده غير كافٍ بل هو مقدمة وطريق للإيمان بالله  لأنه سبحانه تفضل ببعثة الأنبياء لهداية الناس ثم جاء بقصصهم على نحو الدقة والصدق وبلغة التشبيه والبيان والذكرى التي تنفع المؤمنين وغيرهم.
قانون الحاجة
لقد جعل   الإنسان محتاجاً، وهذه الحاجة ملازمة له في حياته لا يمكنه التخلص منها، ومن قواعد الإرادة التكوينية ان كل ممكن محتاج، وتظهر حاجة الإنســان في معاملاته وتصوره وتدبره وأموره المادية والمعنوية وحاجة الإنسان على وجوه:
الأول: حاجته الى  تعالى فهو خالقه والمنعم عليه وبفضله تعالى تدوم حياته ووجوده المادي، وهي أشرف وأسمى وأصدق عناوين الحاجة لأنها توكيد لفقر الإنسان الدائم ولا ينفك الإنسان عنها لحظة واحدة في الدار الدنيا والآخرة، وهي قوام حياته وسر وجوده وفيها ديمومة بقائه، ويجتهد الإنسان في الإعتماد على نفسه والتخلص من الحاجة الى الغير، ويستغني عن كثير من لوازمه وحاجاته كي لا يسأل احداً او يلجأ اليه لإعانته وطلب مساعدته الا الحاجة لله تعالى، وهي من أبهى الملكات للنفس الإنسانية وفيها عزه وفخره.
ومن وظائف العبودية ان يجتهد الإنسان في اظهار الحاجة اليه تعالى وهذا من وجوه الشكر له تعالى والثناء عليه لما فيه من الإقرار بالربوبية وسؤال الحاجة لا يأتي الا عن نقص وفقر لا يسده الا فضله تعالى، فمن وجوه الحاجة اليه تعالى:
أولاً: الهداية للتوحيد والإيمان بالربوبية وعدم الشرك به تعالى.
ثانياً: بعثة الأنبياء والإيمان بنبوتهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي وعدم الجحود بنبوة أحدهم، لأن النبوة رسالة سماوية وعهد جعله  عند الناس فعليهم ان يحافظوا عليه بالإقرار به، ومنه نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونبوة عيسى ، ولا غرابة ان يكون عيسى من الرسل الخمسة أولي العزم فان هذه المرتبة تنبيه للإقرار بنبوته وحث على عدم الجحود بها وايضاً عدم الغلو في شخصه الكريم.
ثالثاً: الرجوع الى الكتب السماوية النازلة والصدور عنها، والإقرار بعدم امكان الإستغناء عنها.
الثاني: حاجته لغيره من الناس، وهذه الحاجة من الكلي المشكك، وهي على مراتب متباينة ومتعددة بلحاظ مراحل سن الإنسان فهو في صغره وصباه أكثر حاجة منها في كبره، وفي حال فقره ومرضه أكثر منها في غناه وصحته، وفي ساعة الشدة يتوجه الى الآخرين لدفع البلاء عنه.
الثالث: مســتلزمات المال لقضــاء الحوائج وتحقيق الرغائب، وهذه الحاجة تتعلق بأسباب الحصول على المال وجمعه، وفيها يحتاج الإنسان الى الصبر والتقوى وزجر النفس عن الهوى واتباع الباطل.
الرابع: الحاجة الى ما حوله من أفراد الطبيعة التي سخرها  عزو جل للإنسان فهو يحتاج الى الماء والهواء والشمس والقمر والمطر وتقلبات المناخ.
الخامس: يحتاج الإنسان الى الصحة ودفع المرض واخترام العمر.
ان قانون الحاجة واستدامته سبيل لنجاة الإنسان من الضلالة والشرك، فهو رحمة للإنسان ومناسبة لصلاحه وهدايته.
ويمكن للإنســان ان يبادر الى مصــاديق الحاجــة اليه في مواطن الشك والريب، فعند تعــدد الأقوال في عيسى  تبرز الحاجة اليه تعالى، ومن خصــائص قانون الحاجة تيســر قضــاءها للإنسان بطرق قريبــة منه، وبما يدفع الشك والوهــم، فالقرآن والنبوة كلاهما يبينان كيفية ولادة عيســى وحقيقة نبوتــه وضرورة الإيمان برســالته وعبوديته لله تعالى.
قانون المسألة
لقد خلق   الإنسان بيده ليكون قادراً على مسؤوليات الخلافة في الأرض الا ان هذا لا يمنع من ملازمة الضعف له عند بداية خلقه وعدم تخلصه منه , قال تعالى [ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ]( )، او في أيام حياته الأخرى، وهذا الضعف رحمة بالإنسان وعلة التخفيف ونزول فضله تعالى عليه واتساع احكام قواعد اللطف، وضعف الإنسان مركب من أمرين:
الأول: الضعف الذاتي، وتراه لا يقوى على رد المرض ودفع الإبتلاء في البدن.
الثاني: الضعف الخارجي الذي يبدو الإنسان فيه ضعيفاً أزاء غيره من أبناء جنسه او الحيوان او الآلة والأهوال والشدائد، وقلة الرزق وحال العسر.
وتأتي المسألة واللجوء اليه تعالى لتدارك هذا الضــعف والتخفيف من آثاره وأضراره، لذا جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالحث على المسألة والدعاء وطلب الرغائب منه تعالى، وانه سبحانه يستجيب الدعاء، ويرزق من يشاء بغير حساب.
ومع انه سبحانه يعطــي العبد ســواء ســأل او لم يســأل وهــو الواســع الكريم، فان الســؤال يقــرب الحاجة ويزيـــد في الــرزق، ويبارك في العطاء وما عند الإنســان، ويزيـــد من عمره، ويمحــو عنه البلاء والأذى.
وكما ان الضعف والحاجة ملازمان للإنسان فان المسألة واللجوء اليه تعالى مصاحب له , فلا يمكنه التخلي عن المسألة وطلب الحاجة منه سبحانه، لأن الإنسان بعقله وبصيرته ومن خلال الواقع وقدرته المحدودة يدرك ضرورة التوجه اليه تعالى بالسؤال، وهو الذي نسميه (قانون المسألة) وقد ينسى الإنسان المسألة، فيبتليه   بما يجعله يحتاج اليها او انه يسعى لتحقيق رغبة مخصوصة ويشعر بتعلقها على المسألة وان الموانع لا تزول الا بفضله تعالى.
ومثلما تكون المسألة من خصائص العبودية فانه سبحانه يحب ان يسأله العباد ويتوجــهوا اليه برغائبهم وحاجتهم الدنـيوية والأخروية، ولو ســألت انســاناً على نحو متعــدد فانه يشــعر بالملــل ويأخــذ بالميــل الى الحرص والبخــل حتى لو كنــت أقــرب الناس اليه وأحبــهم الى قلبه، وكان موضــوع الســؤال زهيداً ولا يؤثــر عليه وعنــده كـنوز متجددة منه.
ولكن   يزداد مع كثرة السؤال عطاء وجوداً وكرماً، فجاءت آية المباهلة سؤالاً اليه تعالى لإنزال العذاب بالكافرين وطردهم من رحمة ، وورد لفظ (الكاذبين) بصــيغة الجمع للســؤال بالأعم فلو دار الأمر بين طلب الأخص أو الأعم، فالثــاني هو الأصــح لأنه سـبحانه هو الواسع الكريم الذي يعطي بغير حساب كما ان المباهلة جهاد وســـؤال لتنزيه المجتمعات من أربـاب الكفر وقادة الضلالة وجعلهم يقومون بلعن انفسهم وسؤال انزال العقوبة بهم على تماديهم في الخصومة والجدال بالباطل.
لم يكن أحد يظن ان الإحتجاج يقود الى المباهلة بل الى اللجوء اليه تعالى بالمسألة فنزلت الآية لتأديب المسلمين وتعليمهم قاعدة كلية هي سؤاله تعالى واللجوء اليه عند الشدائد وتلقي الأذى.
واضافت هذه الآية علماً جديداً للمسألة وهي جعل الكافر يدعو على نفسه باختياره وبسبب اصراره على الكذب والجحود، كما تبين الآية نوع المسألة وانه أعم من الحاجة الشخصية فيشمل العقيدة والمبدأ وحفظ النبوة والتنزيل.
قانون الإستجابة
لقد فتح  باب الدعاء والمسألة وحث الناس على ولوجه والإكثار من طرقه ووعد عليه الفيض والعطاء وقضاء الحوائج وحسن الإستجابة، وقد تقدم ذكر قانون الحاجة والمسألة وهما طريقان للإستجابة، واجماع المليين على انه سبحانه مجيب لمن دعاه، وهذا من آيات الإرادة التكوينية في خلق الإنسان، بان جعل  أهل كل ملة وجماعة يدركون انه سبحانه قريب منهم.
قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وفي الآية أمر ووعد كريم وهما متحدان ومتفرقان اخبار عن عظيم منافع الدعاء، وبيان للحاجة الى استجابته تعالى للعبد، أي من الفضل الإلهي ما يتوقف على الدعاء كي يتنزل على العبد ويتنعم به، فحينما وعد  بالإستجابة لابد من وجود موضــوع أعده  لإستجابة الدعاء غير ما كتب للعبد، وخزائنه سبحانه لا تنفد.
ان قانون الإستجابة تثبيت للعبد في مسالك العبادة وارتقاء في مراتب الكمال وباعث للشوق في النفس لولوج باب الدعاء وللتطلع الى فضل الله سبحانه .
وليس للإستجابة حد معين تقف عنده مما يعني انه مع كل استجابة يطمع الإنسان باستجابة أخرى باعتبار انها توليدية متجددة، والأمل بالإستجابة منه تعالى اقرار بالربوبية، وفيه اعتراف بانحصار الإستجابة به سبحانه، والإعتراف بالنقص والعوز من منازل الرق والعبودية، وجاء الأمر بالدعاء في الآية الكريمة المتقدمة بصيغة الجمع لتوكيد استحباب الإجتماع للدعاء.
واشتراك غير صاحب الحاجة فيه، وقد وردت النصوص باستحباب التأمين على الدعاء وما ورد عن الإمام الصادق  ان رسول  صلى الله عليه وآله وسلم قال: دعا موسى وأمن هارون وأمنت الملائكة فقال  تعالى [ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا]( ).
ان قانون الإستجابة ملازم للدعاء وفيه طرد لليأس والقنوط ومنع الإنقطاع الى عالم الأسباب وأهل الدنيا وهو مناسبة لمعرفة خصائص الدنيا وانها داء فناء وزوال لأن الإستجابة تذكير بعالم الآخرة، والفقر فيها الى رحمته تعالى.
وفي آية المباهلة تأتي الإستجابة بشارة وانذاراً ووعداً ووعيداً، فهي لا تتعلق بحاجة خاصة وطلب فضل وزيادة بل تتضمن نجاة المسلمين من أذى الجدال بالباطل، وفضح الكافرين، ونزول العقاب بمن يكذب بالقصص القرآنية، وما ورد بخصوص نزاهة الأنبياء واخلاصهم العبودية لله والأنبياء الأسوة والقدوة للمسلمين فاذا حاول الآخرون تشويه سمعتهم او الغلو فيهم فانهم يسببون ارباكاً عقائدياً، فجاءت آية المباهلة لتجعل استجابته تعالى سلامة في الدين، وتوكيداً للزوم اتباع نهج الأنبياء، وعدم الإلتفات الى الباطل والتحريف.
وهل حصلت الإستجابة في المباهلة،
لقد جاء الأمر الإلهي الى النبي على نحو متعدد من وجوه:
الأول: الخروج الى المباهلة.
الثاني: اخراج أهل بيته معه.
الثالث: اخبار أهل الجدال والخصومة بالمباهلة ودعوتهم للخروج اليها.
الرابع: اجراء المباهلة.
وقد قام النبي بالوجــوه الثلاثة الأولى ولكـن وفد نجران لم يســتجيبوا لدعوته وتخلفوا عنها لإرادة التسوية والصلح ، وعرضوا الجزية فالمباهلة لم تحصل ولكن منافعها جاءت عاجلة وخاف الوفد من المباهلة وشعروا بالبلاء وقد أصدق بهم وبأهليهم الذين تركوهم من خلفهم فالتجأوا الى القبول بالجزية والمصالحة عليها، وهذا من بركات العزم على الطاعة والإستجابة لأمر الله تعالى.
فما ان عزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المباهلة واستعد لها بشرائطها حتى نزل الفضل الإلهي بالنصر على الأعداء، وتثبيت القصص القرآنية والإخبار السماوي عن قدسية عيسى ونبوته وعبوديته لله تعالى فبلحاظ الإستجابة يمكن القول كأن المسلمين باهلوا ونالوا الغنيمة والفوز والفرح بعزوف الخصم عن المباهلة الذي يعني بالدلالة الإلتزامية الكف عن الجدال بالباطل والمناظرة الخالية من الحجة ومقدمات البرهان.

قوله تعالى [وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ]
جاءت خاتمة الآية اعجازاً اضافياً فمعرفة القصص الحق تبدأ وتنتهي ببيان عظيم قدرته وسلطانه تعالى، فهو الذي خلق عيسى وجعله شبيهاً لآدم في عدم نشأته من نكاح ووطأ، ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى مباهلة أهل الكتاب بخصوصه لأنه نعمة ورحمة فلا يجوز ان يكون موضوعه باباً للشرك والضلالة.
وبعد شهادة التوحيد والقطع بانحصار الإلوهية به سبحانه لنفي الربوبية عن عيسى والتوكيد بانه عبد لله عزوجل، جاءت خاتمة الآية لبيان اسمين من الأسماء الحسنى لتضفي الخاتمة أنواراً قدسية على مضامين الآية الكريمة وتزيدها بهاء وتجذب لها القلوب والأسماع ومن منافع ذكر أسمائه في المقام:
الأول: بيان الصلة بين موضوع وحكم الآية وخصائص كل اسم من الأسماء الحسنى.
الثاني: المعاني الخاصة والدلالات التي يتضمنها كل اسم منها لتتيه العقول ببديع صنعه وعظيم مشيئته تعالى.
الثالث: اثبات الحقائق والوقائع المذكورة في الآية اوالآيات التي يجمعها موضوع واحد وتختتم بالأسماء الحسنى.
الرابع: توكيد انحصار الربوبية والقدرة المطلقة به تعالى.
ان  عزوجل يعلم ان فريقاً من الناس سيجحد برسالة عيسى اذا جاءت ولادته على نحو اعجازي، وآخرين يفتتنون به حينما يرون الآيات تترى على يديه كآية الطير واحياء الموتى مع انه قيدها باذن ، فلماذا تفضل سبحانه بولادته بآية اعجازية ورزقه الآيات، وهل يعتبر سبباً لضلالة، هؤلاء الجواب من وجوه:
الأول: ان الحياة الدنيا ذاتها دار امتحان وبلاء.
الثاني: جحــود وصــدود فــريق من الناس عــن الآيات والنعم لا يمنع من تواليها فهي جزء من الإرادة التكوينية وسر من أسرار استمرار الحياة ودوام عبادته تعالى ولأن من يؤمن ويشكر على هذه الآيات أكثر من يجحد بل ان الجحــود مع الآيات والنعم يدل على صدور هؤلاء مع عدم توالي النعم من باب الأولوية القطعية بمعنى انهم اذا كانوا يرون الآيات ويحسون بالنعم ومع هذا يصرون على الجحود فمن باب أولى انهم يظهرون الكفر حال انعدامها.
الثالث: عدم خضوع المشيئة الإلهية للأهواء والميول، بل يجب على الناس ان ينقادوا لها ويسلموا بما ينزل من  تعالى.
الرابع: الإفتتان بقصة عيسى يظهر ان الخلل والنقص عند الإنسان نفسه وبالذات أهل العناد والإستكبار، اذ انه مركب من طرفين يحملان صفة التضاد والتناقض، أحدهما يقول بألوهيته، والآخر يفترى عليه وعلى أمه.
الخامس: لقد أكد عيسى  على عبوديته لله تعالى وانه لم يأتِ بالآيات الا باذنه سبحانه، كما ان الآيات ذاتها شاهد على نبوته ورسالته وتأييده بروح القدس.
السادس: بعد انقضاء زمان آيات عيسى ورفعه الى السماء جاء القرآن لتكون آياته وثيقة سماوية خالدة تحكي قصة عيسى بلسان صدق، ليزيح من الأذهان والمجتمعات الغلو بشخصه الكريم ويدعو الى التصديق بنبوته، واعطاء الأولوية الى اعتناق الإسلام وأداء العبادات والفرائض.
السابع: من رأفته ورحمته تعالى بالناس ان جاءت الآيات متصلة لتخليص الناس من الضلالة، وجعلهم يؤمنون بنبوة عيسى ومنها آية المباهلة.
لقد أراد أهل الضلالة ان تكون قصة عيسى مستقلة للرسول الأكرم والمسلمين وبرزخاً دون جهادهم في سبيل  فجاءت المباهلة زاجراً لهم، وحسماً للجدل والخصومة ونقاء وسلامة للمؤمنين من أدران الضلالة وما يبعثه الغلو والإفتراء من الغشاوات الظلمانية.
وفي خــاتمة الآية توكيد بان المباهلة واقــية وعلاج، وانها جاءت بفضله وحكمته تعالى، لقد جاءت نعمة ولادة عيسى من غير أب رحمة للناس الى يوم القيامة، واذ افتتن بها قوم فان اسـباب صلاحهم وهدايتهم باقية الى يوم القيامة، وتتجلى ببعثة الرسول الأكرم وظهرت الحاجة الى كتاب سماوي يكون شاهداً سماوياً يحكي حقيقة ولادة عيسى ويبين للناس قبح الغلو فيه .
فجاء القرآن رحمة حاضرة ونعمة باقية , ومانعاً من التمادي في الضلالة لذا ترى القائلين بالوهيته يتراجعون عنها احياناً كما ان هذا القول لا يستوعب النصارى على نحو العموم المجموعي لضرورة وجود أمة تدعو الى الخير وتبشر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مضامين مجيء اسم العزيز في الآية الإخبار بان الكفر والجحود والغلو بشخص عيسى  لن يضر  شيئاً ولن يسبب الغلبة لأهله بل انهم مقهورون مغلبون أي ان الآية بشارة للمسلمين بالنصر عليهم وان المباهلة مقدمة لهذا النصر وحرب عقائدية تخبر عن الحاق الهزيمة بالكفار مثلما امتنعوا عنها بعد العناد والإصرار على الجدال.
ان انفراد الله تعالى بالعزة والغلبة والقوة، واختصاصه بالحكمة في الخلق والعلم بالعواقب وخواتيم الأشياء دليل على وجوب عبادته والإقرار بعبودية عيسى لله تعالى.
بحث اعجازي
تهدي خاتمة الآية الى الإحتجاج واقامة البرهان على ان القدرة المطلقة والربوبية خالصة لله تعالى، لقد ضلَّ قوم مع توالي نزول النعم، فجاءت نعمة الإسلام ونزول القرآن لتدارك هذه الضلالة ومنع اتساعها وتنزيه الناس منها.
لذا فان الآية العقلية وهي القرآن ضرورة لإصلاح الناس ومنع الفساد والإفتتان ،ومناسبة لتثبيت الآيــات الحسية، فلو اســتمرت الآيات الحسـية لإستلزم الأمر التسلسل، ولابــد من مجيء آية لتصــديق الآية التي ســبقتها، وكل جيل وكل أمــة يحتاجان الى آيات حســية لتحــدي الضلالة والفساد والدعوة إلى الإيمان، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ] ( ).
والله هو العزيز وبحكمته انزل القرآن آية عقلية لتصــديق جميع آيات الأنبياء ولوقف التسلسل او الدور، ويتصف بإمتلاكه الحجــة الذاتية لإثبات اعجــازه ونـــزوله من عند  مما يجعله مؤهلاً لتصديق واثبات الآيات الحسية، لقد أنفرد القرآن بخصوصية ملكوتية فهــو مصــدق لآيات الأنبياء جميعاً ومثبت لها الى يوم القيامة.
وهو أعظم سلاح شرعي وعقلي لإقامة دعائم الدين ومحاربة الكفر والضلالة.
وفي اختتام الآية بإسمين من أسماء الله تعالى مسائل:
الأولى: الثناء عليه تعالى في قصة خلق ونبوة عيسى، وكل واحدة منهما نعمة عظيمة، فجاءت الآية لتدعو المسلمين لشكره تعالى والثناء عليه لعظيم ما أنعم، وهذا الشكر حرز لهم وباب لدفع البلاء عن اهل الأرض والسخط العاجل عن الكاذبين والجاحدين بهذه النعمة وامهالهم الى حين.
فمن فضله تعالى ان يدفع بالمؤمن عن الكافر، وجــاءت آية المباهلة للدفع عن الكافرين بارجــاء العذاب عنهم لكفهم على نحو العجز والقهر عن الجدال والإمتــنــاع عن المباهلة، مع ادراكهم لما في هذا الإمتناع من الفضح والخزي لهم بدليل انهم جاءوا للإحتجاج فرجعوا بالجزية عليهم وعلى قومهم مناهل نجــران، والدفع هــنا جاء بالقرآن وآياته وما فيه من الأوامر الإلهية وبجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة.
الثانية: بعث السكينة والبشارة في قلوب المسلمين لعدم بقاء وتأثير افكار الضلالة والغواية ووقاية المسلمين منها، واحترازهم بالمباهلة التي شرعها   رحمة للناس جميعاً، وللمسلمين ولأهل الكتاب خاصة.
فالمباهلة جزء من الإصطفاء لآل ابراهيم هذا كعنوان جامع لأنبياء الديانات الثلاث مع الفارق بالإنتفاع من هذا المصداق من مصاديق الإصطفاء فقد فاز المسلمون بالإنتفاع الأمثل منه، وتولوا مسؤولية اصلاح الآخرين وجعلهم يستفيدون منه بجهادهم وتضحيتهم بالمباهلة فلا غرابة ان يتصدى للمباهلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته دون غيرهم لأنهم خاصة المصطفين من آل ابراهيم.
فاراد  بهم اصلاح أهل الكتاب بدعوتهم الى المباهلة بعد عدم انتفاعهم من التنزيل والإحتجاج وابطال اشكالاتهم والمثل الحسي الكريم الذي جاءت به هذه الآيات وتشبيه خلق عيسى بخلق آدم .
الثالثة: من معاني العزيز انه تعالى الممتنع الذي لا يغلبه شيء، ففي الآية اشارة الى رفعة الإسلام واعلاء كلمة التوحيد وغلبة الحق، واندحار مفاهيم الغلو بعيسى والإفتراء عليه، فسواء حصلت المباهلة او لم تحصل فان النصر والغلبة لمشيئته تعالى بقهر الضلالة والكفر.
الرابعة: العزة لله تعالى وقد تفضل وجعل الرسول الأكرم والمسلمين أعزة لتكون منعتهم ورفعتهم مشتقة من عزته وعظيم سلطانه، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) فخــاتمة الآيــة إخبار بان النصر والغلبة للمسلمين وجهادهم لدفع الغلو والإفتراء وسعيهم لتنزيه ســاحة عيسى في الوقت الذي يؤكدون عبوديتهم لله تعالى.
الخامسة: لقد أراد الفريقان الإساءة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم بعيسى غير الحق، فقصد اهل الغلو من القول به أفضلية عيسى وانه ابن ، لتكون هناك نتيجة تلقائية وهي البقاء على ما جاء به من الأحكام وعدم الإنتقال الى شريعة أخرى، اما أهل الإفتراء من قريش ونحوهم فارادوا امرين:
الأول: الإصرار على البقاء على شريعة أخرى .
الثاني تكذيب النبي محــمد صــلى الله عليه وآله وسـلم والقرآن بخصوص قصة عيسى ، ليكون هذا التكذيب مقدمة وعذراً لعدم قبولهم الإسلام , قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]( ).
فجاءت خاتمة الآية لتبين ان العزة لله جميعاً وان  هو الغالب، ولا يستطيع أهل الضلالة الحيلولة دون غلبة الإسلام وسيادة أحكامه، وتصديق الناس بآياته.
السادسة: من عزته تعالى ان تفضــل بآية ولادة عيســى وبعــثـه رسولاً الى بني اسرائيل ووجــود الأنصــار والأعــوان والمصدقين بدعوته من غير اعتبار لأهل الضلالة والجحود لأنهم لن يضروا  شيئاً.
السابعة: الآية دعوة للإعراض عن اهل الخصومة، وحث على التوكل عليه سبحانه، فمتى ما ادرك العبد ان  تعالى هو القوي الذي لا يغلب فانه لا يلتفت الى الكيد والمكر واغواء الشيطان بل يحرص على التقيد باحكام ما نزل من عند  تعالى.
الثامنة: في الآية حث على ولوج المسلمين ميدان المباهلة، وعدم الخشية منها ، وان القوة لله تعالى ولا يستطيع اعداء الدين ان يؤذوا المسلمين بسببها.
التاسعة: في الآية بشارة بنزول العذاب بمن خالف التنزيل ورضي بمباهلة المسلمين، وحاول تحدي الحق والصدق.
العاشرة: تثبت الآية حاجة عيســى الى عزته وقوته تعالى، وفيـها مصــداق لتقييد الآيات التي جاء بها باذن  تعالى، ومتى ما ادرك الإنسان أصل وماهية الشيء فانه يســهل عليه معرفته ويزول اللبس عنه، ويصبح ممتنعاً عن الغرر مبتعداً عن الجهالة، فأخبرت هذه الآية بان آيات عيسى ليست من عنده تعالى بل تمت وجرت بقدرته وعزته سبحانه، وان قوانين السببية والعلة والمعلول لا تكون برزخاً دون توالي النعم بصيغ اعجازية وملكوتية.
الحادية عشرة: تبين الآية انتصار الإسلام والإقرار بقصص القرآن حتى في حال عدم وقوع المباهلة، لأن   عزيز لا يغلب، فالجدال والمناظرة والمغالطة لن تغير الحقائق الثابتة وايمان الناس بها باعتبارها من البديهيات.
الثانية عشرة: في الآية تعريض بالذين أدعوا الوهية عيسى، فمن شرائط الإلوهية العزة وعدم القهر، وقد ورد في كتبهم واخبارهم ان عيسى صلب وقتل، ومن صفات الإله انه عزيز، فبعد آية المباهلة جاء احتجاجه تعالى لدرء الفتن ودعوة الناس للإيمان وهجران الغلو والضلالة.
ولم تكتف الآية بورود اسم (العزيز) صفة لله تعالى بل جاءت باسم (الحكيم) معه ، وهذا التعدد دليل على أهمية موضوع قصة عيسى، وفيه مسائل:
الأولى: من اسمائه تعالى (الحكيم) وهو الذي يعلم حقائق الأشياء، والتمييز بينها وتعيين أفضــلها، ومن حكمته تعالى ان جاءت ولادة عيسى من غير اب لأسرار في الخلق، ولهداية الناس ومنعهم من الضلالة والغواية، والبشـارة بالثواب لمن آمن برسالته وما جاء به من البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والعقاب لمن إفترى عليه وجحد برسالته او جعله بمرتبة الإلوهية.
الثانية: لقد أتقن   موضوع قصة عيسى وما فيها من الأحكام بحيث يتعذر تجاوزها، وايجاد فجوة فيها، أي ان ضلالة وافتتان قوم بقصة عيسى ، لا سبب او اقتضاء لها، بل ان العيب عندهم، اذ إختاروا الضلالة والغواية.
الثالثة: من حكمته تعالى ان جعل بعثة عيسى بين بعثة موسى  وبعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لتكون نبوة محمد شهادة سماوية ثابتة على صدق نبوة عيسى وآدميته وعبوديته لله تعالى، وليكون القرآن سلاح التصدي للضلالة، والسيف المشهور لفضح الكفر والعناد.
الرابعة: من حكمته تعالى ان جاءت الآيات بالتشبيه، والمثل القرآني لمخاطبة العقول والألباب وجعلها تستنتج بالقياس الإقتراني الفطري واستحضار البديهيات ان عيسى ليس بإله.
الخامسة: لقد أراد الله للناس التخلص من أمرين:
الأول : الغلو في عيسى عليه السلام , وفي التنزيل حكاية عنه وحجة على الناس [إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
الثاني : الإفتراء على عيسى عليه السلام .
ومع النجاة من هذين الدائين يستطيع ان يقطع بنبوة عيسى وتشريفه بالولادة من غير أب، لأن الآيات التي جاء بها تدل على عظيم منزلته عند ، من غير ان تخرجه عن مقامات العبودية.
السادسة: لم ينحصر الحكم الإلهي في المقام بانزال الآيات بل جاء الأمر الى النبي بالمباهلة والملاعنة مع الكافرين.
وليس لإنسان ان يقول لم خرج أهل البيت مع النبي في المباهلة , فمع ان دعوة ومباهلة النبي وحده كافية الا ان اخراج اهل البيت عليهم السلام معه جزء من فضل الله ولطفه تعالى واتقانه للأمور وباب لبعث الفزع والخوف في قلوب الكافرين، وسبب لتعجيل نزول العقاب الشديد بهم لو اقبلوا على المباهلة , وفيه دلالة على ان أهل بيت النبوة رحمة لأهل الكتاب.
فحينما رأى كبار وفد نجران مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دب في نفوسهم الخوف , وقد ورد عن جابر قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والسيد فدعاهما الى الاسلام فقالا أسلمنا يا محمد قال كذبتما ان شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الاسلام قالا فهات قال حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير قال جابر فدعا هما إلى الملاعنة فوعداه إلى الغد .
فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيد على وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل اليهما فأبيا أن يجيباه واقرا له فقال والذى بعثنى بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا .
قال جابر فيهم نزلت تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم …) الآية , قال جابر أنفسنا وأنفسكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وأبناء نا الحسن والحسين ونساءنا فاطمة ( ).
السابعة: من معاني الحكيم العالم، فالله  هو العالم بالأشياء كلها، ومنها ما سيؤول اليه حال بعض الفرق بالإفتتان بعيسى، فجاء القرآن للإخبار عن حكمته في خلق عيسى واتمام الآيات بانزال القرآن ومنع غلبة الضلالة.
الثامنة: في الآية اخبار بضرورة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانها مصداق لحكمته واتقانه لأحكام النبوة وأسباب هداية الناس.
التاسعة: تبعث الآية السكينة في قلوب المسلمين وتخبر بكفاية الآيات والمباهلة للنجاة من الضلالة، والسلامة من ادران الغواية، ومن حكمته تعالى ان فرض على أهل الكتاب الجزية مع اقرارهم على ديانتهم، لذا فان المباهلة والدعوة اليها حاجة مستمرة وشاهد على عجز الخصم عن النيل من الإسلام ومبادئه.
واذ يتوجه اللوم للنصارى واليهود على القصور والضلالة في موضوع عيسى  فان الناس جميعاً يمتنعون طوعاً وقهراً عن توجيه اللوم للمسلمين لاقرارهم بعبودية ونبوة عيسى في آن واحد، لأنهم على الحق والهدى ومن أبى الا العناد والإستكبار تأتي المباهلة لفضحه وسرعة نزول العقاب به.
العاشرة: من حكمته تعالى ان جعل المسلمين أعزة وبيدهم سلاح المباهلة.
الحادية عشرة: انه هو الحكيم الذي أتقن ذكر عيسى في القرآن بما يمنع من الجدال والخصومة فيه بين المسلمين، فمن أهم أسباب التوفيق ومواجهة الخصم اصلاح الذات واتحاد الكلمة ومنع الفرقة، ومن آيات التشريع الإسلامي واعجاز القرآن ان جعل  كلمة المسلمين بخصوص عيسى واحدة لا تقبل التعدد حتى في أدنى التفاصيل، لذا فكل مسلم وعلى مرّ الأزمنة وتعاقب الأجيال مستعد للمباهلة بخصوص عيسى في ذات الموضوع الذي خرج به رسول  صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته.
قانون التجاذب
لقد بعث  النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً الى الناس جميعاً يدعوهم الى العبودية لله وترسيخ كلمة التوحيد في الأرض، ومن أجل ان تبقى دعوته خالدة دائمة انزل عليه القرآن آية عقلية وحسية، وجعله عهداً يضم الأحكام الشرعية الى يوم الدين وجعل فيه ما يحتاج اليه الإنسان في يومه وليلته، وعباداته ومعاملاته، وحوائجه الذاتية وصلاته العامة ومراتبها من ذوي القربى والجيران والأخوة في الإسلام، وأهل الكتاب والناس جميعاً، ويرسم القرآن حال الحرب والسلم ويضع احكام النكاح والطلاق وما يحتاج الناس فيه الى التصرف على نحو المنهجية المتحدة.
وهي أحكام وأمور تجذب الناس الى القرآن وتجعلهم يرجعون اليه عند الحاجة بل مطلقاً وهذا من قواعد اللطف الإلهي واكرام  للإنســان بان جعـله يحتاج كلامه النازل من السماء، ويشتاق اليه، ويتــبادر الى ذهنــه عند الملمات وطرو الحاجة الرجوع اليه ويأبى الصــدور الا عنه، فلو عرض عليه حكــم القرآن وحكم وضعي فانه يختار القرآن ويشــعر بلذة عبادية في هذا الإختيــار , وينفر من فكرة اختيار غيره.
لذا ترى كل قانون وضعي في بلاد الإسلام مخالفا لأحكام القرآن يتهاوى بســرعة، وحتى في حال وجــوده فانه متزلزل غير مستقر، فالنفس الإنسانية تنجذب الى القرآن وتميــل اليه، ويصــيبها الحــزن وتظهر عليها ســيماء الكآبة ان فارقته ولا يبلي الجديدان الليل والنهار هذا الإنجذاب، وهو خارج بالتخصص من سلطانهما، واثرهما معدوم فيه، بل هو الذي يؤثر فيهما فيعطيهما الإشراقة والبهاء ان ساد في آناتهما.
والجذب تارة يكون من القرآن باللجوء الى آياته وطلب الثواب بتلاوته ، وثانية من الإنســان باتيان المكلف لما في القرآن من الأحكام، وثالثة بالتبادل والتداخــل ليكون القرآن هو عــمل وقول المسـلم فلا يفعل الا ما جاء به القرآن، ويكون مرآة لما فيه من الفرائض والسنن والآداب.
وقانون التجاذب عنوان ديمومة الصلة بين القرآن والمسلم، ومن مصاديقه ان هذا التجاذب توليدي، وله تجاذب تبعي وفرعي، اذ انه يقود للتجاذب بين القرآن والناس مطلقاً سواء كانوا من أهل الكتاب او غيرهم، فتقيد المسلم بأحكام القرآن دعوة للناس جميعاًَ للجوء اليه والتعلم منه ولو على نحو الموجبة الجزئية، وان كان هذا الأخذ لا يبرء الذمة ولا يسقط الواجب عن أي انسان وهو لزوم النطق بالشهادتين وتحصيل التجاذب عن نية وقصة القربة.
ومن المصاديق اليومية لهذا التجاذب قراءة سورة الفاتحة كل يوم عدة مرات في الصلاة، لتبقى سنن وقواعد هذا القانون غضة طرية ومنهلاً لإكتساب الحسنات ومادة للتنزه من الذنوب وحرزاً من الفواحش والسيئات.
لقد جاءت في الآية ثلاثة أحكام:
الأول: الإخبار عن لغة الصدق في قصة عيسى وغيرها الواردة في القرآن، ومن الأمور القطــعية الثابتة ان كل ما ينزل من القرآن حق وصدق الا انه سبحانه تفضل وأكد هذه الحقيقة بخصوص قصة عيسى، مما يدل على أهــمية انقاذ اهــل الكتاب مما طرأ عليها من التحريف واتخاذه منهجاً لهم وفيه ترغيب بالقرآن، وبعث الشــوق في النفــوس لتنــهل من علــومه وما فيه من الإخبار والقصص.
الثاني: كلمة التوحــيد وتعقبهــا للإخبار عــن القصص الحق ومن دلالاته:
أولاً: النهي عن الغلو بعيسى، ولزوم عدم الشرك، وتدل الآية في مفهومهــا على الإخبار بان عيسى ليس رباً، وتنهى عن اتخاذه إلها.
ثانياً: من خصائص الألوهية التفضل بانقاذ الناس من الضلالة والغواية والشرك به تعالى.
ثالثاً: ان   تفضل بارسال الأنبياء، ومن الناس من تعدى على مقام النبوة فطعن بالأنبياء، وقام قوم بالغلو في أشــخاصهم، فتفضل  سبحانه وأنزل القرآن ليعيد الناس الى الصراط المستقيم ويمنعهم من الإفراط والتفريط.
رابعاً: ان الشرك بالله لا يبقى في الأرض، وليس فيه نفع لأحد، بل هو ضرر محض بالذات والغير.
الثالث: جــاءت خــاتمــة الآية للثنــاء عليــه تعالى، وبيــان فضله تعالى وانه ســبحانه القوي الذي يثبت مضامين هذه القصص في الأرض ، ويكشف للناس حقــائق النــبوة بعيداً عن الغلو والإفتراء.
والآية وعد كريم بانتصار القصص الحق في موضوع عيسى  وتأريخ النبوة وقصص الأنبياء الآخرين، وكأن الأمر حرب ومنازلة موضوعها قصة عيسى ، يواجه فيها القرآن أهل الغلو والريب والشك وأسباب الضلالة، فجاءت خاتمة الآية للبشارة بالنصر واصلاح المفاهيم، ومن لطفه وتدبيره وكلمته تعالى ان انزل في القرآن قصة عيسى والأنبياء الآخرين، وهذا التنزيل ضرورة عقائدية ومن منافعه:
اولاً: عدم وقوع الحروب والقتال بين اهل الكتاب، فمنع التنزيل من افتراء فريق على عيسى وقيام الذي يغالي فيه بالرد بقسوة وبطش.
ومن يقرأ التأريخ يجد شواهد كثيرة في هذا الباب، فجاء القرآن لمنع تكرار هذه الحروب ولدعوة الفريقين للرجوع الى القرآن الذي ينطق بالحق والصدق , ونشر القرآن الرأفة بين أهل الكتاب من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ثانياً: التدوين الســماوي للتأريخ بما يثــبت أسرار التنزيل الى يوم القيامة.
ثالثاً: تعاهد الناس في مبادئهم ومعتقداتهم ومعرفتهم بالتأريخ.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإيغال) وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها، ومنهم من قال انه خاص بالشعر، ومنهم من أستدل عليه في القرآن بآيات منها [يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ] ( )، وانه يتم المعنى بدون قوله تعالى [وَهُمْ مُهْتَدُونَ ] اذ الرسول مهتدِ لا محالة لكن فيه زيادة مبالغة في الحث على اتباع الرسل والترغيب فيه( ).
ولكن معنى اللفظ القرآني متعدد، وأعم من أن ينحصر بجهة او موضوع واحد، وحتى تلك الجهة فان الإيغال يفيد التوكيد ومنع اللبس والإفتراء.
فبعد الإخبار عن صيغة الصدق والحق في قصص الأنبياء الواردة في القرآن جاءت كلمة التوحيد لتكون وعداً ووعيداً، وعداً لمن يصدق بالتنزيل ويتجنب الجدال والإحتجاج ومواجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ,ووعيـداً لمن يصر على اثـارة الشــبهات والأقيســة الخاطئــة للمغــالطة واشــغال المسلمين عن الجهاد لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض .
ومن عمومات اللطف الإلهي بأهــل الكتاب بعــثة النبي محــمد صلى الله عليه وآله وسلم وانزال القرآن عليه بالدعــوة الى التوحيد وتثبيت مفاهيمه في الوجــود الواقعي والذهنــي، ومنع النفــوس من الشــطط والزلل .
وبعد كلمة التوحيد ذكرت الآية صفتين من صفات الله الحسنى لحـث أهل الكتاب وغيرهم من الناس على التصــديق بالتنــزيل وما فــيه من الإخـبار، وهــذا التصــديق برزخ دون الجــدال والشــك والريب ، ومن اسرار بلاغة القرآن انها تتداخل مع علومه الأخرى في ذات اللفظ القرآني.
ومن البديع (الإيهام) ويسمى ايضــاً التورية بان يؤتى بلفظ له معنيان او أكثر، على نحو الإشتراك والتداخل او الإستقلال، او بارادة الحقيقة أو المجاز، وظاهره يفيد معنى منهما، اما المراد منه فهو المعنى الآخر.
وجاء الزمخشري بمثل عليه من القرآن هو قوله تعالى [ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ]( )، فان الإستواء على معنيين :
الأول : الإستقرار في المكان، وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصــود لتنزيهه تعالى عنه .
والثاني : الإستيلاء والملك , وهو المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور( ).
ولكن آيات القرآن تتصف بالبيان والوضوح، فالمعنى الإصطلاحي للتورية قد لا تجده فيها، ولكن اللفظ القرآني وحده آية ودعوة الى التحقيق والإستنتاج وتنمية ملكة البحث والإستنباط.
وتبين الآية ان موضوع المباهلة أعم من أن ينحصر بالجدال والإحتجاج، فالدعوة اليها برزخ دون الإعتداء على الإسلام والمسلمين، ومناسبة لنشر مبادئ الإسلام.
لقد أنعم   على المسلمين بان جعل المباهلة واقية للمسلمين في حضرهم وسفرهم، لما فيها من التحدي والثقة في النفس التي تؤكد امتلاءها بالإيمان.
ومن الآيات فيها عدم انفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمباهلة ولم يشرك معه أصحابه مع استعدادهم وتفاخرهم بها، بل جاءت لتستوعب أهل البيت الكبير والصغير وليكونوا في مقابل وفد نصارى نجــران، لتكون المباهــلة منازلة تؤدي الى استئصال الكاذبين، وقد جاءت الآية بإلإنذار من العقوبة بصــفة الكاذبين وبلغـة الجمع، لتؤكد ان العقوبة والإنتقام الإلهي لا ينحصــر بالذي يحضر المباهلة ويشارك فيها، بل يشمل من يقول بمقولة الجحود ، ويختار الكذب على ، والذي يؤدي الى التكذيب بالتنزيل.
ولقد جاءت هذه الآية بأمور :
الأول : تقوية عزائم المسلمين بالتوكيد على ان ما فيه من القصص والأخبار كلها حق وصدق .
الثاني : الآية وسيلة سماوية مباركة لتنزيه الملل السماوية من القول بالأنبياء بغير علم .
الثالث : فضح صيغ الإفتراء على الملائكة او الغلو بأشخاصهم .
الرابع : الآية حرز للمسلمين , ودعوة لهم لعدم الإلتفات الى أرباب العناد .
الخامس : تحريض لهم للجهاد لتخليص اهل الكتاب والمجتمعات من التعدي والتجرأ على الأنبياء ، فعندما يسمع الإنسان الجدال والإفتراء على الأنبياء، قد ينصت لها ولكن عندما تأتي الآيات القرآنية باكرام الأنبياء والإخبار بانهم عبيد ، شرفهم بالرسالة والنبوة، مع بيان قصصهم والآيات التي جاءوا بها فانه يحترز من الجدال والمغالطة ومقدماتهما وغاياتهما.
ووصف القرآن (القصص الحق) دعــوة ســماوية لطرح ونبذ كل قصة وقول مغاير لها، وهذا من الإعجاز القرآني بان لا يبقى في الواقع خبر مخالف لمنطــوق القرآن، بل حتى المشابه له يستغني عنه الناس للفارق في جهة الصدور، لأن القرآن نازل من السماء ويتضمن البيان والتفصــيل ففيـه الكفايــة الى جانب الأجــر والثــواب في تلاوته والرجوع اليه , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).


قوله تعالى [ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ] الآية 63

الإعراب واللغة
فان تولوا: الفاء استئنافية، ان: اداة شرط.
تولوا: فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين.
الواو: فاعل والجملة في محل جزم فعل الشرط.
فان  عليم بالمفسدين: فان: الفاء رابطة لجواب الشرط.
ان: حرف مشبه بالفعل، واسم الجلالة اسمها.
عليم: خبر ان مرفوع بالضمة، بالمفسدين: جار ومجرور متعلقان بعليم ، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
وولّى الشخص وتولى: اذا ذهب هارباً ومدبراً.
وتولى عنه اعرض عنه.
والفساد: التخريب والأضرار وإبادة الشيء، وهو ضد الصلاح.
في سياق الآيات
لقد جاءت هذه الآية لبيان عظيم فضله تعالى على المسلمين والذين تسرب اليهم الشك وطرأ عليهم الغلو في ولادة وآيات عيسى والذي تجلى بمسائل:
الأولى: بيان ولادة عيسى وانه جاء بالنفخ الملكوتي فيمن اصطفاها وطهرها .
الثانية: اعلان عيسى المتكرر لعبوديته لله، وانقياده لأوامره كما ورد في التنزيل [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ]( ) في بيان النسبة بينه وبين بني اسرائيل ، وهي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجهين:
الأول: انه واياهم عبيد داخرون لله تعالى.
الثاني: يجب على الجميع طاعة  تعالى.
اما مادة الإفتراق فهي على قسمين:
اولاً: ان عيسى نبي وهم ليسوا بأنبياء.
ثانياً: عليهم طاعة عيسى ، وطاعته من طاعة ، فان قلت ان أتفق وجود نبي في بني اسرائيل ايام دعوة عيسى  فما هي وظيفته؟ الجواب: عليه اتباع عيسى لأنه رسول من أولي العزم وصاحب شريعة كما في يحيى ، وتصديقه بنبوة عيسى، ليكون اسوة لبني اسرائيل ومثالاً كريماً عليهم الإقتداء به.
الثالثة: مبادرة الحواريين للإيمان بعيسى، وهم حجة على الناس لقربهم منه ورؤيتهم للآيات واقرارهم بان عيسى عبد  ورسوله جاء بالآيات باذن  تعالى.
ومن مصاديق قواعد اللطف الإلهي ان الحواريين من بني اسرائيل، ولم يفارقوا الإسلام ولم يتسرب الى نفوسهم الشك والريب والغلو , وورد في الإنجيل ذكر التلاميذ.
الرابعة: لغة الوعيد التي تضمنتها آيات خلق عيسى، وتحذير الناس من الكفر بنبوته، وهذا الكفر المنهي عنه امر مركب من أمرين الغلو بعيسى والجحود بنبوته، لأن الغلو فيه تعدِ على مقام الإلوهية وتجرأ على الوحدانية ولزوم العبودية لله وحده الهاً واحداً لا شريك له.
الخامسة: ترغيب الناس بالإيمان ومبادئ الإسلام بالإتيان بالمثال الذي يثبت الحق ويطرد الباطل، وليبقى التشبيه بين خلــق عيـــسى وآدم عليهما السلام ضياء ينير دروب السالكين وباعثاً للحكمة في النفوس، ومانعاً من الخلاف والفــرقة بين المسلمين، وطريقاً لجــذب الناس الى الحق والصــدق بصيــغ الأدب واللطـف والمـثال المحسوس.
السادسة: التوكيد القرآني بان الحق والصدق بخصوص قصة عيسى  ينحصر بالقرآن، في اشارة الى اللجوء اليه عند ظهور الفتن والإفتتان، وان الحق والصدق هو الصيغة التي تتغشى جميع أخبار وقصص وأحكام القرآن.
السابعة: واقعة المباهلة وهي نصر خالد للمسلمين مع انها لم تقع ولم تحصل، وبرهان على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن انقياد واتباع اهل البيت له.
الثامنة: لقد جاءت الآية السابقة وكأنها خاتمة لبيان قصة عيسى وآيات نبوته والدعوة الى نبذ ما خالف أخبار القرآن منها، وعند مراجعة المسائل المتقدمة وما فيها من الحجة ومقدمات البرهان يتبين لزوم عدم التخلف عن التصديق بها، فلذا جاءت هذه الآيات بذم الإعراض عنها، وقبح الكفر والشرك وعدم الإقرار بالتوحيد، وتنفي الآية البرزخية والوسطية بين الإيمان والكفر.
إعجاز الآية
ومن الإعجاز ان يأتي لفظ تولوا من غير ان يتعدى بحرف الجر (عن) أي لم تقل الآية فان تولوا عنكم، لأنهم لم يعرضوا وليس عند المسلمين ما يعرض الناس عنه، بل انهم هربوا وانهزموا.
وتبين الآية أسراراً من فلسفة أحكام التبليغ عند الأنبياء وآيات البشارة والإنذار فان   امر نبيه بالموعظة واقامة الحجة وتقريب البرهان بالمثــل المحســوس الذي تجتمع عليه كل الملل وهــو خلق آدم وذكر وجوه الشبه بينه وبين خلق عيسى وتوكيد الحقيقة التي بعث من أجلها عيسى  وهــي الوحدانية والإقرار بالعبودية والإنقياد لله تعالى، ودعوتهم الى المباهلة وتحذيرهم من بطشه وقوته سبحانه، ومن الإعجاز لغة الذم في الآية والتي جاءت بعد تعدد الآيات وكثرة البراهين.
ولا تضع الآية حداً لصيغ الموعظــة والبرهان، ولكن الخصم هو الذي أختار الفرار والإنهزام، وهذا من الإعجاز أي لو لم يتولوا لأستمرت آيات الإنذار والترغــيب والله واســع كـريم ولكنه أبى الا أحد أمــرين اما اللجـــاج والجــدال واما الفــرار ولما كان اللجاج والجدال ضاراً به وبالمسلمين ولعدم وجود أي موضوعية او نفع له، جــاءت الآيــات للخــروج من ظلماته، فلم يكـن امــام الخصم الا التسليم بالحق او الفرار، ومن اعجازها ذم التولي والفرار من الحق والصدق.
ولعل في الآية اشارة الى علمه تعالى بعدم قيامهم بالمباهلة وامتناعهم عنها.
كما تدل على نزول العذاب بمن يلاعن ويباهل وان كان فاسقاً لأنه أختار الملاعنة، ونزول العذاب بالكافر تثبيت لدعائم الدين واعلاء لشأنه وحفظ للنظام.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية [فَإِنْ تَوَلَّوْا]
الآية سلاح
في الآية حث على دعوة الناس الى الحق وعدم الملل من الإتيان بالحجة والبرهان لإقناعهم ودعوتهم للإيمان , ونبذ التحريف والغلو او الإفتراء على الأنبياء , وان اختاروا الهزيمة والفرار فليس على المسلمين ضير او ضرر من فعلهم، كما ان الفرار اثم ومفسدة، وفيه بعث للثقة والسكينة في قلوب المسلمين، والإطمئنان للنصر ومناسبة للشكر لله تعالى من وجوه:
الأول : نعمة الإيمان والتصديق بالتنزيل ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تلقي القصص الحق من السماء بنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث :لغة التحدي ومحاججة الكافرين، والإنتقال الى المباهلة.
الرابع : ادراك المسلمين لحقيقة احاطة الله تعالى بحال المفسدين يؤدي الى تفويض الأمور اليه تعالى، والتطلع الى حكمه بخصوص من تولى وأعرض , قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
مفهوم الآية
تبين الآية طريقين امام الخصم المجادل وهما:
الأول: الفرار والهزيمة من المباهلة وعدم الإقرار بالوحدانية.
الثاني: التصديق بقصص القرآن والتنزيل والإقــرار بعــبودية ونبوة عيسى .
والأول اشارت اليه الآية على نحو النص والمنطوق، أما الثاني فيدل عليه مفهوم الآية الكريمة، بمعنى ان اعتذار وتولي وفد نصارى نجران عن مباهلة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يعني اصرار اهل الكتاب والكفار جميعاً على الجحود واعراضهم عن الدعوة الى ، فمنهم من تكون الدعوة الى المباهلة سبباً لإيمانه لإدراكه بانها حجة دامغة، وعلة لنبذ الكفر والجحود وحينئذ لا يبقى كافراً بل يصبح مسلماً، ويخرج عن عمومات الآية وما فيها من الإنذار والوعيد، وقد يباشر بنفسه الدعوة الى المباهلة خصوصاً وانه حديث العهد بالإسلام وربما كان أكثر صلة مع الكفار لأنهم اقاربه واصحابه ولا يستطيع التخلي عن صلاتهم بسرعة.
فجاءت آية المباهلة وهذه الآيات لإعانته على الثبات على الإسلام، وجعلت عنده سلاحاً حاضراً اذا كان لم يتفقه بعد في احكام الشريعة الإسلامية والمسائل الكلامية فيها، لذا ترى شخصاً واحداً يدخل الإسلام فيجادل الأسرة والجماعة الكبيرة فيجعلهم عاجزين عن الرد ويختارون الفرار والإعراض , وغالباً ما يكون سبباً في هدايتهم واسلامهم او هداية بعضهم.
وفي الإخبار عن علم الله تعالى بحال المفسدين نوع انذار لهم، وشاهد على احاطته تعالى علماً بكل شيء وانه سبحانه لن يترك الكافرين من غير عقاب، كما تدل الآية في مفهومها بانه سبحانه يعلم حال المصلحين والمسلمين.
وفي الآية تخفيف عن المسلمين ودعوة للإعراض عمن تولى وأعرض، والتوجه الى الوظائف الأساسية في الدين واصلاح الذات وتثبيت دعائم الإسلام واتقان أحكام الشريعة ومعرفة الحلال والحرام.
ان ذم التولي يعني كفاية الآيات التي جاءت في خلق عيسى لكل انسان مهما كانت مرتبته ودرجته.
إفاضات الآية
لقد أراد  عز وجل للإيمان السيادة في الأرض، وان يكون الرابط المقدس بين عالم الشهادة وعالم الغيب على نحو اختياري ليغرق العبد في أنوار الجلال والجمال، ويقبل بشوق على التنزيل وطاعة الأنبياء فيما جاءوا به، وتكون معرفته باحوالهم والآيات في خلقهم اشراقة مباركة وعضداً لهم في دوب الإيمان والإعراض عن مفاهيم الكفر والجحود، لقد ذمت الآية التولي عن دعوة الحق.
ويدل هذا الذم في مفهومه على مدح للمسلمين بفرارهم الى  ولجوئهم الى التنزيل بعد اللجاج والجدال من قبل أهل الكتاب، وهذا الفرار حرز وعز وظفر.
قانون الضدين
وهما اللذان تكون بينهما منافاة، ويستحيل اجتماعهما معاً في وقت واحد ومحل واحد مع امكان حصولهما على البدل، والإيمان والكفر من أهم أفراد التضاد , ويمكن ان نقسم الضد تقسيماً استقرائياً جديداً الى قسمين:
الأول: التضاد الخاص، وهو الذي ينحصر فيه التضاد بالذات على نحو الخصوص كالسواد والبياض.
الثاني: التضاد المتشعب، وهــو الذي يتفــرع الى افــراد متعــددة تتــضــاد بينها، كما في الإيمان والكفر فكل واحــد منهــما أصــل تتفــرع عنه فــروع عديدة ، وهــذه الفروع مضادة لفروع أخرى ومنافية لها.
وهذا من الإعجاز في خلق الإنسان، وهو باب للثواب والعقاب.
والإيمان والكفر امران وجوديان، وحقيقة تتجلى فيها معاني الصراع مع الشيطان ومنع استحواذه على النفس ، وهذا الصراع باق الى يوم القيامة.
وليس من اجتماع بين الإيمان والكفر، كما انه ليس من واسطة وبرزخ بينهما فلا يمكن ان يقال ان هذا الإنسان او الفرقة ليست بمؤمنة ولا كافرة لأن الإيمان بسيط، وهو الإقرار بالتوحيد والتصديق بالنبوة، وهذا التقسيم وانعدام البرزخ بينهما آية في الخلق لأن   يريد للإنسان ان يكون قلبه روضة ناضرة يفوح منها طيب الطاعة والإستجابة ، وتترشح على الجوارح معالم العبادة والتقوى.
وقد تحصل في الأرض الحروب والمعارك ثم يتجه الطرفان ويتدخل اهل المعروف الى الصلح وكأن امراً لم يكن لعدم استدامة التضاد والنزاع فيجتهدان بالتدارك ومعالجة جراح الماضي وآثار الحرب، اما بالنسبة لقانــون الضـــدين فهو باق الى يوم القيامة لا يقبل الصلح والوفاق وليس من وسيط يستطيع التدخل بين أهل الإيمان والكفر، للتباين في الموضوع والحكم وعدم امكان تنازل المؤمنين عن أي مصداق من مصاديق الإيمان، ووجوب خروج الكافرين عن جميع متعلقات ومفاهيم الكفر.
وقد تقدم قانون التضاد بين الخير والشر، وهذا القانون يتعلق بافراد الإيمان والكفر وفيه دعوة للناس جميعاً للإيمان ونبذ الكفر، وكما ان الإيمان خير محض فان الكفر شر محض.
التفسير
قوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا]
جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية، ولكنها تفيد الإنشاء والأمر الإلهي الموجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضمن عناوين الشكر الإلهي لجهاده وأهل بيته والمسلمين في سبيل  سواء على صبرهم وتحملهم للجدال وخروجهم للمباهلة ، او ما سيأتي من أسباب الإيذاء والتعريض والمناظرة وقيام الكافرين بتحــدي المــسلمين في مـسائل كلامية على نحو المغالطة واثارة الشبهات .
والأذى حينئذ يكون من وجوه:
الأول: معرفة المسلم للحق والصدق في تلك المسائل ، ومع هذا يتلقى الشك ويواجه بصيغ الريب.
الثاني: شوق وحب المسلم ليدخل الجميع الإسلام ، ويفوزون بما فيه من النعم الدنيوية والأخروية، خصوصاً وانه رأى حلاوة الإيمان واخذ ينظر الى العواقب الحميدة والثواب العظيم الذي ينتظره في الآخرة وغبطته بانتفاع الآخرين منه، وفيه توكيد على خلو قلبه من الحسد، لإقراره بان مشاركة الجميع له في تلك النعم لم تنقص منها شيئاً.
الثالث: ان الآثار العملية للكفر والجحود وما يترشح عنه في الواقع اليومي من المعاصي والآثام التي لا ينحصر موضوعها وأثرها باربابها.
الرابع: مواجهة الكافرين للإسلام، وقيامهم بالفتنة والإفتتان.
الخامس: التفات المسلمين الى وظيفتهم في دعوة الناس للإسلام، ومحاولة منع التخلف عنه، فالمسلم هو الذي يحتاج ان يجادل الكافر في أموره ويبين فساد معتقده، ويرغبه بالإسلام بالحجة والبرهان الذي جعله  في متناول الجميع.
فمن اعجاز القرآن ان آياته تصل للأسماع، وبامكان كل انسان ان يستمع الى آياته ويتدبر في مضامينها، ولم يقم المسلمون في يوم ما بحصر تلاوته والإنصات له والتدبر فيه ومعرفة علومه بهم، بل ان الآيات والأوامر الإلهية والســنة النبوية تفيد نشــر آياته واشـــاعة تلاوتــه بما يجعله قريباً من كل فساد كي لا يبادر الكافر الى التولي عن الجهالة، ويدرك ضــرورة الإسلام وانه اذا اختار الفرار والهزيمة فانه يختارها عناداً واستكباراً.
وورد اللفظ بصيغة الجمع [فَإِنْ تَوَلَّوْا] في اشارة الى ذم التولي من قبل الجماعة والمذهب ، لأن التولي على نحو القضية الشخصية لا اعتبار له، فلا موضوعية للفرد النادر وكذا لمن يختار الكفر والعناد لشخصه، فجاءت الآية لتؤكد ان مصداق التولي فيها هو التولي المتعدد كملة ودين لأن فيه بقاء الأتباع والأنصار والأعوان على الكفر والشرك، واصرارهم على عدم الرجوع الى التنزيل من قصة عيسى  وهذا من اعجاز اللفظ القرآني لذا أختتمت الآية بوصفهم (بالمفسدين) لأن من يتولى من قادتهم يفسد من خلفه من الناس ويمنعه من رؤية النور واشراقة الإيمان والتنعم ببركات الحق والصدق، ومنها الإقبال على التنزيل واكتشاف بطلان ما يخالفه.
وتبين الآية استيفاء البرهان، واقامة الحجة على الكافرين بالآيات والمثل الكريم والتشبيه بالمحســوس المتفق عليه عــند الملل والتحذير من الإسلام، وفيها حث على انتــقال الذهن الى خلق عيسى، والباس القرآن للمعقول رداء المحســوس لدحض الأوهــام والمشكوك وقهر النفس الشــهوية والحيــوانيــة التي تحــاول الأخذ بزمــام الإنســان لمنعه من الوصول الى بر الأمان والنجاة في النشــأتين، والتوكيد على عدم امكان التفريط بأي قاعدة من قواعده ، ومنها التصديق بالأنبياء وعدم الإفتراء عليهم او الغلو في أشخاصهم فجعلت الكفار على مفترق طريقين اما الهداية والإيمان ، واما الهزيمة والفرار مع الإقامة على الكفر، وكل منهما يتضمن نجاة المسلمين والى يوم القيامة من جدلهم واحتجاجاتهم.
واذا حصل هذا الجدل فانه لن يضر الإسلام والمسلمين لإنكشاف ماهيته وانه لا يعدو ان يكون مغالطة وشبهات تتضمن بالذات والعرض، أسباب الوهن والضعف، واذ ذكرت الآية التولي فانها لم تذكر من يختار الإيمان مع ان الآيات كافية لإمتناع الإنسان واقامة الحجة عليه، وفيه مسائل:
الأولى: تدل الآية بالمفهوم والدلالة الإلتزامية على ايمان شطر من أهل الكتاب.
الثانية: لقد جاءت الأخبار باسلام جماعة من كبار علماء بني اسرائيل واقرار ملوك النصارى بالآيات التي جاء بها القرآن فيما يخص عيسى  .
وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدثني ابن غنم انه لما أن خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاصى وعمارة بن أبى معيط فارادوا عنتهم والبغــي عليهم فقدموا على النجاشي وأخبره ان هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة انما يريدون أن يخبلوا عليك ملكك ويفســدوا عليك أرضــك ويشتموا ربك.
فارسل إليهم النجاشي فلما ان أتوه قال ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان عمرو بن العاصي وعمارة بن أبي معيط يزعمان انما جئتم لتخبلوا على ملكى وتفسدوا على أرضى فقال عثمان بن مظعون وحمزة ان شئتم فخلوا بين أحدنا وبين النجاشي فلنكلمه فانا أحدثكم سنا فان كان صوابا فالله يأتي به وان كان أمرا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانه وتراجمته ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذى من عنده جئتم ما يقول لكم وما يامر كم به وما ينهاكم عنه هل له كتاب يقرؤه.
قالوا نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله عليه وما قد سمع منه وهو يأمر بالمعروف ويأمر بحسن المجاورة ويأمر باليتيم ويامر بان يعبد الله وحده ولا يعبد معه اله آخر فقرأ عليه سورة الروم وسورة العنكبوت وأصحاب الكهف ومريم، فلما ان ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم فقال والله انهم ليشتمون عيسى ويسبونه.
قال النجاشي ما يقول صاحبكم في عيسى قال يقول ان عيسى عبد الله ورسوله وروحه كلمته ألقاها إلى مريم فاخذ النجاشي نفثه من سواكه قدر ما يقذى العين فحلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم ما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه فابشروا ولا تخافوا فلا دهونة يعنى بلسان الحبشة اليوم على حزب ابراهيم.
قال عمرو بن العاص ما حزب ابراهيم قال هؤلاء الرهط وصــاحبهم الذى جاؤا من عنده ومــن اتبعهم فانــزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة [ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ]( ).
الثالثة: (ان) أداة شرط واخبار بانهم لم يقطعوا أمرهم، وعدم قطع الأمر هذا لا ينحصر بوفد أهل نجران بل هو باق ومستمر ومصاحب لأهل الكتاب وهو نوع أمل قرآني ودعوة لعدم اليأس والقنوط من ايمانهم واسلامهم.
وكأن الآيات جاءت بوظــائف جهادية اشترك بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة في فتح باب دعوة أهل الكتاب الى يوم القيامة باخبارهم وتذكيرهم الدائم بخطأ مذهـبهم في عيسى وان الأصــل هو لا افــراط ولا تفــريط، لا افراط وغلو بشخصه الكريم وايصاله لمراتب الربوبية التي هي خاصة بالله تعالى كما جاءت الآية السابقة، ولا تفريط وافتراء عليه وعــلى أمــه وقد أراد لهما   القدســية والعــز والشــرف في الدنيا والآخرة، فكان نزول القرآن واستدامة الإقرار والإيمان بالعمل بآياته الخاصة بعيســى ضــرورة عقـائدية وأخلاقية واجتماعية.
الرابعة: مجيء الآية بأداة الشرط ولغة المضارع [فَإِنْ تَوَلَّوْا] يلقي على المسلمين وظائف جهادية مستمرة، فالآية تحثهم على عدم الوقوف عند المباهلة، بل تطلب منهم تثبيت آيات التنزيل وأفراد قصة عيســى القــرآنية في النفوس وترســـيخها في المجتمعات وجعلها تواجه الكتابي اينما توجه فينشغل بنفسه ويمتنع عن الإحتجاج ويشعر بانعدام الدليل فيما نقل له وتوارثه عن قصة عيسى .
الخامسة: لقد قسمت الآية أهل الإحتجاج والجدل الى قسمين :
الأول : الذين يختارون الإيمان .
الثاني : الذين يعرضون ويولون بكفرهم وجحودهم .
بمعنى ان الكافر يغيب عن ساحة الإحتجاج والمنتديات ويجتنب الكلام , وينزوي في موضعه وبيته، ويصبح يخشى الجدال والإحتجاج بعد ان كان يطلبه ويقصده .
قسمت الذين يتولون الى قسمين:
الأول: من يتولى مدحوراً خائباً، وتلح عليه النفس اللوامة بترك الجحود والعناد.
الثاني: من ينهزم ويفر من ميدان المباهلة والإحتجاج , ولكنه يبقى يواصل الإفساد وحث الناس على الإقامة على الضلالة، لذا جاءت خاتمة الآية بذم المفسدين، الا ان ينظر للآية بالمعنى الأعم وان المراد كل فاسد في مذهبه وافساده لنفسه وهو بعيد، نعم من يبقى على الضلالة قد يكون سبباً لترك الغير لها إرثاً بغيضاً على عاتق ذريته , فتأتيهم هذه الآيات للإنسلاخ والتنزه عن مفاهيم الضلالة.
وجاء التولي والفرار من غير ان يقترن بمتعلق خاص من جار ومجرور يبين جهة الفرار او موضوعه، وفيه وجوه:
الأول: انهم يفرون من المباهلة والملاعنة.
الثاني: التولي والإعراض عن قصــص الحق، والصــدق فيما يخص الأنبياء.
الثالث: التولي عن دعوتهم للإسلام، لأن المباهلة عمل يتضمن التحدي وهو مقدمة لدعوتهم للإسلام، بل هو دعوة عملية.
الرابع: المراد من التولي أعم من الفرار المكاني والإعراض، فيراد منه ايضاً الإصرار على العناد والجحود.
الخامس: في الآية اخبار عن خروج بعض أهل الكتاب من المدينة، وهروبهم من ميادين الإحتجاج والدعوة الى .
السادس: في الآية بشارة هزيمتهم وتوليهم في ميادين القتال، باعتبار ان الفرار من المباهلة مقدمة عملية لفرارهم في القتال وميادين المعارك، وهذا الأمر ليس من القياس، بل لأنهم يأتون للمعركة وهم يدركون وجوه الخطأ ،وانعدام المصلحة في خروجهم، وان العناد لا يصلح علة للمواجهة والقتال.
ومتى وكيف يكون التولي ،الجواب ان التولي فعل يقوم به الخصم ويصدق على الفرار والهزيمة والإعراض ز
ومن الآيات ان القرآن إشترك بالإحتجاج ورد على الجدال قبل ان تصل النوبة الى المباهلة، ومن يكون خصمه القرآن والرسول الأكرم فلن يجد الفلاح ولابد ان يضطر الى الفرار والإدبار، ويعرف التولي بالجحود والإعراض كما يدخل فيه الإصرار على الجدال وان جاءت آية المباهلة لتكون مانعاًُ من وقوعه، وحجة في لزوم الإنصراف عنه، فمن يبقى على مواجهة المسلمين بالجدال مع الفرار من المباهلة يدخل ضمن الذين ذمتهم هذه الآية وأخبرت عن توليهم، لأن من أفراد التولي الفرار من الإيمان، وعدم التصديق بآيات التنزيل.
قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ]
من أسماء الله تعالى العليم والعالم ،وهو الذي لا تخفى عليه خافية، وقد أحاط بكل شيء علماً، وعلمه تعالى سابق للمعلوم، لذا فانه سبحانه يعلم من هو الذي يتولى ويفسد في الأرض ويقيم على المعصية والجحود والقول بعيسى بما ليس فيه غلو او افتراء، فجاءت الآية للثناء على الله تعالى من وجوه:
الأول: إحاطة الله علماً بما يفعل الأعداء , والذي يــدل بالدلالة التضمنية على الإعانة عليهم.
الثاني: علمه تعالى بما يعانيه المسلمون من أذى أهل الخصومة والجدال وعدم جعل الغلبة لهم وفيه دعوة لهم للصبر ، واخبار بأن تحمل الأذى باب للثواب لما فيه من الدلالة على ثبات الإيمان في النفوس، وهذا الثبات دعوة اضافية للكفار والمعاندين لدخول الإسلام، فكل انسان يدرك اثناء الإحتجاج والجدال ان هناك فرقاً بين الثبات والعناد بلحاظ القرائن والأدلة ومقدمات البرهان والمقارنة بين قول الحق والمغالطة.
الثالث: ان  تعالى يعلم ما يحصل في منتديات الكفار، فهم يفرون عن ميادين الإحتجاج ويتركون الجدال، ولكنهم يستمرون بنشر المعصية والفساد , قال تعالى في ذم المنافقين والمخادعين[وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
وأيهما أشد وأكثر ضرراً مجادلة المسلمين ام الإفساد في الأرض، الجواب هو الثاني، لما فيه من الإضرار النوعي العام، والإصرار على الجحود وايجاد الأتباع والأعوان على الضلالة.
الرابع: ان  يعلم حال اعداء الإسلام، ويمد المسلمين بأسباب النصر والظفر عليهم.
وفي الآية اشارة واخبار بان الذي يتولى عن الإحتجاج والجدال لن يترك وشأنه لأن البلاغ والخطاب التكليفي توجه اليه، وليس بمقدوره ان يعتذر بالجهل وعدم العلم.
وتمنح الآية فرصة للكافرين للتدارك او الإمتناع عن الدعوة الى الكفر والتحريض على العناد والمعصية، فهناك وسط بين التولي والإفساد، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل افساد هو تولي وليس كل تولي هو افساد والله  يعلم بالفريقين.
ولكن الآية جاءت للإنذار والوعيد وزيادة التحذير فالتولي ذاته ضلالة وفســاد وخلاف التكليف، ولكن الإفســاد اشــد ضلالة وفيه ارادة تحمل اوزار وذنوب الآخرين بدعوتهم الى العناد والإستكبار او حثهم على الإقامة عليه، فحينما يرجع الوفد الى اهليهم ومدنهم ويخبرونهم عن اصحابهم واتباعهم بالحق فانه سيهتدون اما اذا رجع مدبراً مولياً وباقياً على كفــره وجحــوده فان من ورائه يأخــذ برأيه غروراً وغفلة.
ان علم الله تعالى مطلق يشمل ما هــو موجــود وما هــو معدوم، وذكرت الآية علمه تعالى بالمفسدين، ولم تذكر علمه تعالى بالتولي ولكنها تدل عليه من وجهين اطلاق علمه تعالى، ولأن الإخبار عن علمه تعالى بالإفساد يتضمن علمه بالتولي كمقدمة او سبب او وجه من وجوه الإفساد.
وخاتمة الآية تتضــمن معاني الإنذار والوعيد وهي ذاتها حجة وبرهان ودليل على الضرر العام الذي يسببه الإعراض عن دعوة الحق وفي الآية دفع وهم، فقد يظن بعض الناس ان الإعراض ليس فيه افساد او ضرر عام، لأنه عبارة عن أمر سلبي وليس فيه هجوم او عدوان فاخبرت الآية عن قبح الإعراض ذاتاً واثراً وانه يسبب الأذى والضرر، وفيه مسائل:
الأولى: الحث على اجتناب الإعراض عن الهدى والحق.
الثانية: تنبيه المسلمين الى خطورة وأذى اعراض الآخرين عن الحجة والبرهان القرآني.
الثالثة: تدارك اثار هذا الإعراض، ومنع اتساع اسباب الفساد المتفرقة عنه، وحذرت الآية ممن يتخذ الإعراض منهجاً.
الرابعة: في الآية دعوة لأهل الكتاب للوقوف عند حد التولي، وتحذير لهم من الإفساد في الأرض، فكأن الآية تخاطبهم بأنكم اذا اخذتم التولي والإعراض فقفوا عنده ،ولا تتعدوا الى ما هو أشد وأكبر منه لترتب العقاب على الإفساد في هذه الحالة ، باعتبار انه جاء بعد إقامة الحجة عليهم، ومع تنامي قوة الإسلام واتساع دائرة حكمه يكون الإفساد عائقاً دون تثبيت دعائمه، وترسيخ أحكامه في الأرض، سبباً في بث روح الشك والريب بين الناس، فجاءت الآية للتخويف والوعيد والذم لمن يختار العناد والجحود وبعد رؤية الآيات وسماع البراهين.
لقد أراد   للإسلام النصر والغلبة، وللناس الهداية والإنصات للحق، فلا يمكن للإنسان ان يقف برزخاً دون تحقيق الإصلاح والصلاح، لذا فان اخبار الآية عن علمه تعالى بأحوال المفسدين اشارة الى الخسارة والخيبة التي تلحق الذي يحاول الإفساد.
قانون الكلمة
لقد أنعم  على الإنسان بالخلق والخلافة في الأرض، وجعل علة خلقه عبادته وعدم الشرك به، وهذه العلة فخر وعز للإنسان امام الخلائق جميعها، ولا ينحصر الأمر بالحياة الدنيا بل يشمل العالم الآخر، لذا لا تجد حاسداً للإنسان في النشأتين مع عظيم منزلته وما سخر   له من النعم وأعد له من المقام والشأن الرفيع.
وتتجلى علة الخلق بكلمة التوحيد التي تتغشى الموحدين ، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتكون مفاهيم التوحيد عنوان الصلة بينهم اذ ان وجوه الصلات بين الناس متعددة منها:
الأول : صلة النسب والقربى.
الثاني : صلة السبب كالزوجية، وما يتفرع عنها من المصاهرة والخؤولة ونحوها.
الثالث : المجاورة، وصلة الجوار التي تفرز علاقات اخوية واجتماعية.
الرابع : ميادين العمل والمهنة , وقد أخذت في المجتمعات الحديثة صيغة الجمعيات والنقابات.
الخامس : المعاملة وصيغ البيع والشراء.
السادس : الحاجات العامة والخاصة.
السابع : الإنجذاب النفسي والميل الذي يحصل بين الأفراد، فيرى الإنسان نفسه يتبادل مع شخص آخر مفاهيم الود ويشعر كل منهما بالقرب الى الآخر.
الثامن : الصلة التي تترشح عن حالات الضرورة وقضاء الحاجة والمبادرات الإنسانية.
وللإسلام في كل وجه من هذه الوجوه الريادة والزعامة لما فيه من المدارس الأخلاقية، وحسن المعاملة والوعد بالثواب الكريم على حسن الخلق واعانة الناس.
وجاء القرآن بعلقة وصلة هي أشرف واعظم الصلات وتكون سبباً لتوثيق الصلات المذكورة اعلاه، وتجعلها تضيء بسنا وبرق الإيمان، وتمنع من بقائها مجردة ومطلوبة بذاتها، بل تجعلها وسيلة مباركة لنيل الثواب، وهذه الغاية تضفي على تلك الصلات قدسية وتعطيها منزلة خاصة، تبعث الشوق في النفس لنيلها واحرازها كما في صلة الرحم والتوكيد في القرآن والسنة على تعاهدها والتحذير من قطعها.
جاء القرآن بصلة (الكلمة) وإتخاذها وسيلة للألفة في مرضاة الله, لتكون قانوناً يحكم العلقة بين الناس، ومن خصائص آيات القرآن أن موضوعها وأحكامها لا تنحصر بأهل أي بلد فيما بينهم او اهل زمان مخصوص بل تشمل الناس جميعاً، فيلتقي الناس في هذا القانون على تباين امصارهم وتعدد اجيالهم وتعاقب ازمنتهم بلحاظ الهداية والإيمان، ويدرك السابق واللاحق هذه الحقيقة فتنتفي اسباب الوحشة.
اما السابق فالبشارة عن طريق الأنبياء بالنبوات اللاحقة كما في البشارة بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي يتوارثها الأنبياء السابقون، وبالبشارة بسيادة الإيمان.
وليس من كلمة او ميثاق يربط بين الناس مثل كلمة التوحيد فهي عهد كريم يتوارثونه ويتعاهدونه ويذبون عنه، ويعاني المسلمون في كل زمان شتى صنوف الأذى ويقدمون دونه الدماء والأموال، ليبقى راسخاً في الأرض والمجتمعات والنفوس.
والدعوة الى هذه الكلمة قرآنية ونبوية، مما يعني انها دائمة ومفتوحة ومتصلة، يتولاها المسلمون وأهل الحل والعقد منهم ، وجاء الخطاب موجهاً لأهل الكتاب الا انها عامة وشاملة، لأن الدعوة للإسلام مطلقة وعامة.
ومن الآيات في المقام البيان في تفاصيل واحكام الكلمة التي يدعو اليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإعانة على الهداية والرشاد، ولمنع اللبس والشك.
وقد جاءت الدعوة الى كلمة التوحيد في القرآن لتكون عوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الجهاد بنشر الإسلام واشاعة روح التقارب مع اهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومنع مفاهيم الكفر والشرك من الإنتـشار بين الناس، انها آية اعجازية ان يلتقي المسلمون وأهل الكتاب ليس على الحد الأدنى بل على قواعد الإيمان وأصل التوحيد وسر ديمومة الحياة على الأرض، والسبب الأساس في نزول الرزق ودفع البلاء ليبقى التوحيد قانوناً ثابتاً في الأرض.
نظرية التولي
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة الى التوحيد، وبشريعة متكاملة وكتاب سماوي نازل من عند ، وكان الناس على مشارب شتى ومذاهب مختلفة، ومتباينة، فمنهم الكتابي الذي يتبع شريعة رسول سابق ومنهم المشرك وعابد الوثن، ومنهم من ليس له ملة مخصوصة، وقد واجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقطاب هذه الملل ودعاهم الى الإسلام واقام عليهم الحجة وجاء بالدليل والبرهان وكان الناس في ردهم على وجوه:
الأول: الإستجابة والإيمان والإنخراط في صفوف الإسلام.
الثاني: العناد والإصرار على الجحود.
الثالث: التردد، وتعليق الإجابة، وعدم الإختيار بانتظار أمر آخر، او نتيجة لاثار العادة القاهرة.
الرابع: اظهار العداء والحرب على الإسلام، واشاعة الإفساد في الأرض.
وقد يكون التولي فــرع الكفر ، قال تعالى [فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ]( ) واما من يستجيب كما في الوجه الأول اعلاه، فهوممن انتقل الى صفوف المسلمين، ولم يعد تشمله أحكام التولي او احتماله.
والتولي المذكور في القرآن على أقسام:
الأول: ما يكون فراراً من الحرب، ابتداء او استدامة، أي الإعراض عنها وعدم المشاركة فيها، او الهروب والتولي عند ابتدائها واشتدادها.
الثاني: الإعراض عن الحجــة والبرهــان، كما في هــذه الآيــة، وورد الذم فيها لمن يتولى ، والربط بين التولـي والإفساد يدل على معاني القبح للتولي واســتحقاق صــاحبه للـذم متحــداً او متعــدداً، وقـد جاءت الآية بصيغة الجمع ، وفيه اشــارة الى توليهم كأمة وملة، وانهم مصرون على عدم الإقرار بالحق واتباعه.
الثالث: الإعراض والتــولي عن دعوة التوحيد كما سيأتي في الآية التالية.
الرابع: التولي والصدود عن آيات القرآن , قال تعالى [وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ]( ).
وقد وردت الآيات القــرآنيــة بــذم التولي وجعــله مــن مفاهيــم الكفــر والجحود، قال تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ]( ).
والتولي لم يرقَ الى مرتبة القانون الثابت والدائم، لذا تكرر ذكره في القرآن بلفظ الشرط “ان تولوا” بصيغة الغائب وقد يرد بصيغة المخاطب، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ]( ).
وجاءت الآية بذمهم على نحو مركب من وجوه:
الأول: اختيارهم التولي مع ظهور البراهين.
الثاني: نعتهم بالمفسدين.
الثالث: علمه تعالى بامتناعهم عن قبول الصلاح وحجب مقدماته عن الآخرين.
وتحذر الآية من الغلو في عيسى او الإفتراء عليه، وفيها اخبار بانهما طرفان للإفساد في الأرض ، وغشاوة على الأبصار تمنع من رؤية دلائل التوحيد وآيات النبوة.
ان سياق الآية يشمل التولي والفرار من المباهلة مع البقاء على الجحود بمضامين الإفساد واستحقاق الذم والعقاب.
علم المناسبة
قد أخبرت الآيات عن علم الله تعالى بالمصلح بعرض واحد مع علمه بالمفسد، قال تعالى [وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ]( )، فذكرت الآية الإصلاح لأن الخطاب موجه للمسلمين اكراماً لهم وحثاً لهم على تعاهد اليتامى ونشر الفضيلة والتحلي بالأخلاق الحميدة.
وجاءت الآية بالإخبار عن العقاب الدنيوي العاجل للمفسدين، ولحوق الخزي بهم كمقدمة للخلود في العذاب الأخروي ، قال تعالى [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
ومن مفاهيم الوعيد الوارد في الآية البشارة للمسلمين بعدم النجاح لمن يتولى اذا ما اراد الإفساد وحث اتباعه وانصاره على الجحود والعناد، وان   يبتليه بما يحبط عمله، كما يهيء   الأسباب لوصول الحقيقة ومقدمات البرهان الى اتباعه وأعوانه وادراكهم لمضامينها ولو على نحو الموجبة الجزئية ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ]( ).
ويتضمن القرآن ومن خلال التفسير الذاتي والجمع بين الآيات البشارة بالنصر على هؤلاء المفسدين ، وورد في التنزيل حكاية عن لوط [ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ]( ).
وفيه بيان لقانون الأذى الذي لاقاه الأنبياء وثناء عليهم وعلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في جهادهم ضد الفساد وسعيهم لدرء الإفساد في الأرض.
ومن الآيات في نظم القرآن، وعلم المناسبة فيه ان يتكرر لفظ “فان تولوا” في هذه الآية والآية التي تليها، وهذا التعدد ليس من الإعادة، وبين موضوعيهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الإحتجاج والجدال وتعقبه بتولي واعراض اهل الكتاب، اما مادة الإفتراق فالقصص والمباهلة في هذه الآية، اما في الآية التالية فهي دعوة المسلمين الى كلمة التوحيد ونبذ الشرك.
ومع انهم قابلوا الآيات والقصص الحق بالإعراض والتولي فان الآية جاءت بصيغة اسم الشرط “فان تولوا” وفيه مسائل:
الأولى: السعة والمندوحة في الحكم.
الثانية: عدم اليأس من أهل الكتاب، وعدم اليأس هذا لا يتعلق بأهل الكتاب وحدهم، بل انه فرع انتفاء اليأس والقنوط عند المسلمين، وهذا من اعجاز القرآن واكرام الآيات للمسلمين، قال تعالى [إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ]( ) ، فالمسلمون يتطلعون الى فضله تعالى في هداية الآخرين.
الثالثة: بقاء موضوع الآية وما فيها من الإرشاد والخطاب مفتوحاً يدعو الناس للهداية والصلاح والإعتبار من قصص القرآن.
الرابعة: في الآية حث للمسلمين على مواصلة اقامة البرهان، وبيان قصص الأنبياء واستنباط الدروس والعبر منها.
الخامسة: انتفاء اسباب الخيبة ان تولى اهل الكتاب واصروا على قولهم في عيسى.
ترى ما هي الصلة بين التولي والإفساد التي يدل عليه ظاهر الآية فيه وجوه:
الأول: ان مجرد التولي فساد.
الثاني: انه فساد وافساد، والإفساد أعم من الفساد، فقد يكون الفساد ذاتياً، ولكن الإفساد يتضمن اشاعة الفساد.
الثالث: التولي مقدمة للإفساد.
الرابع: ترشح الأذى والضرر من التولي على الإفساد وماهيته كماً وكيفاً، وترشحه من الإفساد على التولي.
الخامس: التولي فرع الإفساد أي انهم يتولون عن القصص الحق لأنهم مفسدون.
السادس: في الآية انذار ووعيد، وزجر عن تعقب التولي بالإفساد، فكأن الآية تقول لهم ان توليتم فلا تفسدوا في الأرض.
السابع: في الآية تنبيه للمسلمين من تولي اهل الكتاب عن المباهلة والإنصات للقصص الحق، وما في القرآن من بيان لحياة وجهاد الأنبياء شاهد على مقاماتهم وعظمة شأنهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وتبين متفرقة ومتحدة وجوه الملازمة والصلة بين التولي والإفساد.
ومقدار ونوع الضرر يحتمل وجوهاً:
الأول: ضرر التولي والإعراض.
الثاني: الآثار السلبية والأضرار المترتبة على الفساد والإفساد.
الثالث: الضرر المركب الناتج من التولي والإفساد معاً.
ولكل من هذه الوجوه الثلاثة آثار ضارة على الفرد والمجتمع حتى على القول باتحاد التولي والإفساد وتفرع احدهما عن الآخر، لذا جاءت الآية بالجمع بين التولي والإفساد لتبين اتحاد السنخية، والعناوين العامة التي تربط بينهما، ولتجعل المسلمين يرتقون في عالم المعرفة ويصبحون مؤهلين للتصدي لأسباب الأذى والضرر.
قانون الأذى
ليس من مقام أسمى وأسنى وأشرف من مقام النبوة، لما فيه من مضامين الصلة بين   والنبي بالوحي ، ومن الآيات عدم وجود حاسد للأنبياء بين الناس لوجوه:
الأول: ان اختيارهم بارادته ومشيئته وفضله تعالى.
الثاني: غير النبي يقطع بانه لم ولن يكون نبياً.
الثالث: انتفاع كل انسان من النبي والنبوة، فكل انسان له حصة بما عند النبي لأنه رسول من عند  الى الناس.
الرابع: فضله تعالى على الأنبياء بنجاتهم من أسباب الحسد على النبوة والتنزيل، وهذا من الآيات الإعجازية فقد جعل  اولي المعرفة ينشغلون بلزوم الأخذ منهم واللجوء اليهم، ووقاهم من الحسد وهو مذموم ويكون سبباً للإمتناع عن الإنصات لما جاء به الأنبياء، ولقد لاقى الأنبياء شتى أنواع الأذى ولم يسلم منه نبي، ليكون البلاء مصاحباً للنبوة، ولتكون حياة النبي مادة للصبر وعوناً لهم على تحمل الأذى.
ولم يكن هذا الأذى بمراتب متساوية بل كان بمراتب ودرجات متباينة شدة وضعفاً، وكان رسول  صلى الله عليه وآله وسلم اكثر الأنبياء تلقياً للأذى لذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: ما اوذي نبي مثل ما اوذيت( ).
ويدل الحديث في مفهومه على تعرض الأنبياء للأذى وهذا الأمر ظاهر من آيات القرآن والإخبار واذ واجه كل نبي أذى قومه، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لاقى الأذى من قريش والمشركين عامة، ومن أهل الكتاب الذي هم أقرب الناس للإسلام ومبادئه فجحدوا حتى بالقصص الخاصة بالأنبياء مما يعني السعي لتخليصهم من أسباب إيذاء النبي والمسلمين من غير ان يتعارض هذا السعي مع مطالبتهم بأداء الفرائض والعبادات .
وهل ينحصر إيذاء النبي بأيام حياته ،الجواب انه متصل فيشمل:
أولاً: التعدي والإساءة إليه بعد إنتقاله إلى الرفيق ألأعلى .
ثانياً: إيذاء المسلمين في حياته ثالثا : إيذائهم بعدها.
ويظهر هذا القانون أخلاص الأنبياء العبودية لله تعالى، وصبرهم في مرضاته.




قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] الآية 64

الإعراب واللغة
قل يا أهل الكتاب: قل: فعل أمر، وفاعله أنت.
يا: حرف نداء، أهل: منادى مضاف، الكتاب مضاف اليه.
سواء: صفة، بيننا: ظرف مكان متعلق بسواء.
الا نعبد: ان مصدرية، لا: نافية، نعبد: فعل مضارع منصوب بان والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، وان وما في حيزها مصدر مؤول بدل من (حكمة) او خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، الا: أداة حصر، اسم الجلالة: مفعول به.
ولا نشــرك به شيئاً: الـواو: عاطفة، لا: نافية، نشرك: عطف على نعبد، به: جار ومجرور متعلقان بنشرك، شيئاً: مفعول به، او مفعول مطلق.
ولا يتخذ بعضنا بعضاً: الواو: عاطفة، لا: نافية، يتخذ، فعل مضارع معطوف على لا نعبد ولا نشرك، بعضنا: فاعل، والضمير: مضاف اليه، بعضاً: مفعول به أول، ارباباً: مفعول به ثان.
من دون: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأرباباً، ودون مضاف، واسم الجلالة: مضاف اليه.
فان تولوا: الفاء: استئنافية، ان: شرطية، تولوا: فعل ماض في محل جزم فعل شرط، الواو: فاعل.
اشهدوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل والجملة في محل نصب مقول القول.
بانا مسلمون: الباء: حرف جر، ان: حرف مشبه بالفعل، نا: اسمها، مسلمون: خبرها، وان وما بعدها في محل مصدر مجرور بالباء.
في سياق الآيات
بعد بيان قصة عيسى وجعلها موضوعاً ذا اعتبار في الفصل بين الحق والباطل ،والصدق والكذب، والصلاح والفساد، وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لتثبيت حقائقها، ولغة الإنذار التي جاءت بها الآية السابقة، جاءت هذه الآية متضمنة الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أهل الكتاب الى كلمة التوحيد باعتبارها المشترك العقائدي للملل السماوية.
وفي الآية نبذ للجدل الذي ذكرته الآيات السابقة واستبداله بالإتحاد تحت راية التوحيد والحرص على البقاء على الإسلام.
وقد تقدم قبل آيتين لفظ (قل تعالوا) لإرادة المباهلة ، وجاء مترتباً على الإحتجاج واختيارهم الجدال، اما في هذه الآية فقد جاء من غير ان يترتب على فعل معين او تحد ومناظرة، مما يفيد اطلاق الدعوة وعمومها وهذا من الإعجاز في باب نظم الآيات ان تأتي الدعوة الى المباهلة والملاعنة مقيدة باقدامهم على الإحتجاج والجدال، اما الدعوة الى التوحيد واخلاص العبادة الى ، فجاءت مطلقة من غير ان تكون مقيدة بحال او زمان دون آخر.
ان الدعوة للإلتقاء عند كلمة التوحيد بعد المباهلة وفرار الخصم منها آية اعجازية في باب العقائد والإمامة النوعية للملل، فهذا التعاقب في الدعوات ومجيء دعوة الإتحاد على أصل الإيمان بعد المباهلة وما فيها من الإنذار، توكيد لإمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً واخبار بانه مبعوث لإصلاح الناس وتطهير المجتمعات من دنس الرجس وغيابت الشرك.
وان رسالته تتضمن سيادة كلمة التوحيد، وفي الآية تحذير لأهل الكتاب ودعوة لهم للنجـاة من الهلكة باعلان كلمة التوحيد والرجوع من الفرار والهزيمة ولكن ليس للجدل واثارة الشبهات بل لإعلان التوحيد.
إعجاز الآية
الدعوة الواردة في الآية باقية الى يوم القيامة، ولا يتخلى عنها المسلمون حتى وهــم في أعــلى درجــات القــوة والمنعــة، وفي الآية وجوه:
الأول: انها وثيقة وعهد سماوي، اذ انها تأمر المسلمين اولاً بالتقيد بأحكامها.
الثاني: تتعلق الآية بأشرف المواضيع والأحكام وهو التوحيد.
الثالث: تمنع الآية من الشرك والغلو والضلالة ، وهي أمور جاء الإسلام لمحاربتها والقضاء عليها.
الرابع: إتحاد الموحدين وسيلة لجذب الناس للإسلام ، وجعلهم يدركون وظائفهم.
الخامس: عدم انشغال المسلمين بأهل الكتاب مناسبة لتوجههم الى تثبيت أحكام الدين ونشر لواء الإسلام وادخال المشركين فيه، وتبين الآية صدق الدعوة الإسلامية ونزول القرآن من عند ، فحال التولي يدل على الضعف وكذا الإفساد، ومع هذا لم تأتِ هذه الآية للإجهاز على الذين يفرون من أمام المسلمين سواء عند المباهلة او في القتال، بل جاءت لتدعوهم بلطف وكرم سماوي الى الإتحاد والإلتقاء تحت راية التوحيد الذي يقول به المسلمون وأهل الكتاب أي انها لم تطلب قيداً تعجيزياً او تضع شرطاً يصعب عليهم قبوله.
لقد جاءت الآية لإختبار مقاصد أهل الكتاب وكشف نواياهم، وتبيان حالهم ومدى بقائهم على نهج الأنبياء الذين ينتمون اليهم , فقد أجتهد ابراهيم واسحق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام باعلان العبودية لله تعالى.
ومن اعجاز الآية انها تحد لأهل الكتاب بلغة الإكرام والإنصاف، فهي لا تقل عن آية المباهلة في كشف الحقائق والدعوة الى الهداية والإيمان ولم يبلغ العلم ولغة المنطق والإحتجاج الى الآن مرتبة هذه الآية في دعوتها الى الإصلاح الذاتي من الذات، فآية المباهلة تحدِ واصلاح، وهذه الآية تطلب من أهل الكتاب ان يصلحوا انفسهم بالرجوع الى اوليات وظائفهم العقائدية، وفي الآية اخبار عن احتمال فرار وهزيمة اهل الكتاب من دعوة التوحيد ولزوم الإحتياط والإستعداد له بالثبات على الإيمان.
لقد جاءت هذه الآية لتنفذ الى منتديات وكنائس اهل الكتاب وتدخل معهم في بيوتهم وتصاحبهم في عملهم وتذكرهم بلزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ان رؤية المسلم وسماع القرآن يذكرانهما بالدعوة الى التوحيد ويجددانها في الوجود الخارجي النوعي فضلاً عن الذهني الشخصي.
وتنتزع الآية في مفهومها من أهل الكتاب الإقرار بان المسلمين على منهج التوحيد لأنها جاءت بصيغة الإكرام مع تضمنها التعريض بهم بتسرب الشرك الى أقوالهم وأفعالهم، ولو وجدوا عند المسلمين ما يخالف التوحيد لجادلوا وأحتجوا خصوصاً وانهم اختلفوا واحتجوا على موضوع الولادة القدسية المباركة لعيسى .
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “كلمة سواء”
الآية سلاح
هذه الآية حجة على أهل الكتاب والمشركين في آن واحد اما أهل الكتاب فانها تدعوهم للواجب الأصلي الذي ينعقد اجتماع المليين عليه وهو التوحيد الذي هو اساس دوام تلك الملل، وتبين ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على نهج الأنبياء السابقين في الدعوة الى  ونبذ الشرك واهله، ومنع استمرار الغلو بالأنبياء مع لزوم تعاهد المسلمين للشهادتين والتسليم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند ، والآية شاهد على دعوة المسلمين للإنصاف وطلبهم الحق والصدق.
لقد جاءت هذه الآية إتماماً لآية المباهلة وصيغة متباينة معها ولكنها تؤدي نفس الأغراض الحميدة والغايات السامية.
وبينما جاءت آية المباهلة بسبب احتجاج وجدال اهل الكتاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، جــاءت هــذه الآية ابتـداء بأمر  تعالى، لتكون تحدياً لأهل الكتاب وتهاجمهم بلطف ،وتدعوهم لإظهار الإنقياد لما جاء به الأنبياء ،وهي عون للمسلمين وتزيدهم رتبة في سلم المعارف الإلهية، وتساعدهم في التفقه في الدين ومعرفة أحوال الأمم، والتمييز بين المسلم والكتابي والمشــرك، وموضــوعية واعتبار كلمة التوحيد وملازمتها لكل كتابي على نحو الفرض والوجوب، وتحث الآية المسلمين على البقاء على المواظبة على عبادة  وان تخلى عنها الآخرون.
مفهوم الآية
لقد أراد   دعــوة المســلمين لإظــهار اكــرام أهــل الكتاب وهذا الإكرام مقيد بدعــوتهم الى التوحـيد وليس مطلقاً بدليل ورود الذم والتقبيح في الدعــوة الى المباهــلة وما تعنيــه من التحدي ذم من تولي منهم، وجـــاءت الآيـــة في مـقام الإيمــان بالله وذكرت الجامع المبارك وهو الكتاب النازل من السماء وفيها تقسيم استقرائي للناس الى قسمين:
الأول:اتباع كتاب سماوي، والمراد منهم اليهود وعندهم التوراة، والنصارى وكتابهم الإنجيل بالإضافة الى المسلمين الذين شرفهم  بالقرآن وتعاهده وحفظه.
الثاني: المشركون والكفار الذين لا يتبعون كتاباً سماوياً.
فالخطاب في الآية جاء لأهل الكتاب، ولم يذكر غيرهم، وفيه ذم لغير أهل الكتاب من باب الأولوية ، واخبار بانعدام الجامع بين المسلمين وبينهم، وتحذيرهم من البقاء في منازل الشك والضلالة لوجوب التوحيد وعبادة الصانع.
لقد جاءت الدعوة في الآية بسيطة وواضحة ، وليس فيها لبس او جهالة، كما انها لا تتضمن موضوعاً مستحدثاً جاء به القرآن، فقد دعا جميع الأنبياء الى التوحيد، وكل من يدعي انه تابع لأحد الأنبياء عليه ان يظهر العبودية لله، أي ان الآية اختبار لصدق الإنتماء للأنبياء وشرائعهم وقد أكثر الأنبياء من اعلان العبودية لله وجعلوها كلمة باقية في أممهم وتركة تتقوم بها دياناتهم.
ومن مفاهيم الآية التعاون بين الأديان لمنع الشرك والإبتداء بالقضاء عليه وإزالته من الذات ، واظهار المائز بين المليين وبين المشركين، وهذا الإظهار دعوة للناس للهداية والإيمان، وفيه منع من الخلط بين الإيمان والكفر، ونفي لوجود البرزخ بينهما، ومن لطفه تعالى انه لم يرض لأهل الكتاب ان يكونوا وسطاً بين الإسلام والشرك بعبادة النبي او الإفتراء عليه، او اتخاذ الأحبار والرهبان ارباباً من دون ، وما فيه اغواء للمشركين واغراء لهم على البقاء على شركهم.
ومتى ما تحرر اهل الملل من دنس الشرك والضلالة ورجعوا الى كتبهم فان المشركين يشعرون بما هم عليه من الخطأ والضلالة، وكما ان الخطاب بـ[ يا أهل الكتاب] تشريف لليهود والنصارى واكرام لهم، فانه حجة وتذكير بوظيفتهم العقائدية وتحد آخر ، فهذه الآية سلاح ونداء يتوجه لأهل الكتاب وهم على حالهم في منتدياتهم وبيوتهم وكنائسهم لتقول لهم انتم اتباع الأنبياء السلبقين فارجعوا الى اصولكم، وفي النداء غرض متعدد من وجوه:
الأول: اعلان اهل الكتاب انهم موحدون سواء من جاء منهم للإحتجاج او لم يأتِ.
الثاني: الإخبار عن وجود قاسم مشترك وجامع بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، وهذا الجامع أمر الهي وهو كتاب نازل من السماء.
الثالث: دعوة أهل الكتاب الى التدبر في صلتهم مع المسلمين، وكيفية الإنتفاع منها.
اما المسلمون فاظهروا الإنتفاع منها بالدعوة الى التوحيد.
الرابع: توكيد المسلمين بعدم التهاون او التفريط في الجهاد لتثبيت كلمة التوحيد في الأرض، ويدل عليه الأمر الإلهي للنبي بالدعوة الى كلمة التوحيد ، وهو في مفهومه يدل على وجوب التزام المسلمين بها وتعاهدهم لها، ومن مفاخر الإسلام ان أجيال المسلمين المتعاقبة لم ولن تفرط بادنى شرط من شروطها.
فهذه الآية نفعت المسلمين وأعانتهم على التمسك بالتوحيد ومن يدعو للشيء لابد وان يكون اماماً واسوة فيه، ويتجلى تقيد المسلمين بكلمة التوحيد على نحو يومي متصل بصيغ متعددة منها أداء فريضة الصلاة وقراءتهم قوله تعالى في سورة الفاتحة [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ] ليأتي اقتران الإستعانة بالعبودية لله تعالى حرزاً من مقدمات الشرك والضلالة ، وعوناً على اللجوء اليه تعالى في الحاجات والرغائب.
الخامس: تؤكد الآية نزول القرآن من عند الله تعالى وانه كتاب سماوي وتدعو الى كلمة التوحيد، وهي سور جامع تثبت به نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدعو الى الإسلام بالواسطة فكلمة التوحيد تقود الى الإسلام والتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طوعاً وقهراً لأن  تعالى هو الذي بعثه للناس كافة.
وجاءت الآية بحرمة الشرك الظاهر والخفي، ومنعت من الإنقياد الأهواء والرهبان، وبينت الآية ان التوحيد حاجة وحجة على اهل الكتاب وانهم مسؤولون عن حفظه في الأرض، فوجود المسلمين لا يمنع من تحمل اهل الكتاب لأعباء حفظ كلمة التوحيد، بل يجب عليهم المشاركة في تثبيتها في الأرض، ومع التلكأ في أداء هذه الوظيفة يقوم المسلمون بالجهاد من أجل تثبيتها ولكنه جهاد مركب مع النفس وأهل الكتاب والمشركين، فلذا عانى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من أذى الكافرين ومن لجاج وجدال اهل الكتاب حتى نزلت آية المباهلة لتوثق ما في الجدال من الأذى والإفتتان.
لقد بدأت الآية بدعوة أهل الكتاب للتوحيد وأختتمت بدعوة المسلمين للثبات عليها وعدم التفريط بها، والحث على التجاهر بالإسلام والإمتثال لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير خوف او خشية من أحد.
ومع ان لفظ (أهل الكتاب) شهادة وتوثيق، والنداء به عنوان للتشريف والإكرام، فانه يتضمن بالدلالة الإلتزامية التذكير بلزوم عدم الإبتعاد عن التوحيد وحقيقته بادعاء البنوة والإلوهية لعيسى، وجحود الآخرين بنبوته واشتراك الطرفين بالكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت الآية لدعوتهم للرجوع الى التوحيد وكذا بالنسبة للطلب بعدم اتخاذ أرباب من دون .
إفاضات الآية
يعتبر عالم الأمر أشرف العوالم وهو أرقى من عالم الخلق والفعل، وقد جاء الأمر الإلهي الى النبي بدعوة أهل الكتاب الى التوحيد وهي أسمى دعوة وأرقى طلب وتتجلى فيه معاني الحكمة وتفوح منه رائحة الإخلاص والصدق.
وجاءت هذه الدعوة بعد ان فر وأدبر القوم من المباهلة لتكون عنوان الود والتفاني المحض في مرضاة  بخفض الجناح لأهل الكتاب، ومنعهم من التيه والضلالة بعد التولي، وهذا من الآيات التي يعجز عنها العقل الإنساني ، فبعد التولي تكون الكراهية والنفرة والعناد والإصرار على الجحود سواء كان هذا الإصرار مقصوداً بالذات او مترشحاً عن الإبتعاد عن النبوة وأهل التوحيد وهم المواظبون على اعلاء كلمته في الليل والنهار.
فجاءت هذه الآية وما فيها من الدعــوة لتــدارك التــولي الـذي تعقــب المباهـلة ومنع تأثيره السلبي الضار على أهل الكتاب وهو مصداق لعمومات قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ]( )، فالجــدال بالباطـل والفــرار من المباهــلــة لم يؤديا الى غضــب النبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم او المســلمين، ولا الى تمنــي نزول الضرر وحصول الفساد عند الخصم، ولا ترك أهل الكتاب عرضة للأهواء والتحــريف والغلو والإفتراء على الأنبياء، بل جاءت الآية للسعي في نجاتهم وحــث المســلمين عــلى طلــب ودهم تحت راية لا اله الا .
ومن شأن المتخاصمين ان يبتعد أحدهم عن الآخر ويتابع أخباره ويكون فيما يصيبه من البلاء شفاء لصدره وشماتة به وكأنه مصداق لخطأ الخصم اما الإسلام فلم يترك أهل الكتاب على الإقامة على العناد، بل أمر  النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالتودد لهم وسؤال دوام الصلة بالجامع المشترك بين المليين وهو التوحيد باعتباره أهم شيء في وجود الإنسان ودوام الحياة.
نعم جاءت المباهلة بعد الجدال والمغالطة منهم، اما هذه الدعوة فجاءت تداركاً لفرارهم واصلاحاً لحالهم وتخليصاً لهم من أصل الجدال وأسباب اثارة الشبهات.
لقد أظهر القرآن ان المسلمين بعيدون عن الأحقاد واستدامة الأضغان، لأنهم منشغلون بذكره تعالى والجهاد في سبيله والسعي ليتغشى ما نالوه من نعمة الإيمان الناس جميعاً، وأهل الكتاب أقرب الناس الى نيلها لأنهم اتباع الأنبياء، كما يتصف المسلمون بالجود والكرم لأنهم منزهون عن الباطل، ويحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم.
والدعوة في هذه الآية من مصاديق اصطفاء آل ابراهيم على نحو مركب فالذي يقوم بالدعوة هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من ذرية ابراهيم ووراثه، واليهود والنصارى من ذراري ابراهيم واتباع نبيين من ذريته وهما موسى وعيسى عليهما السلام.
أسباب النزول
ذكر ان نفراً من اليهود قالوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما تريد الا ان نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: يا محمد ما تريد الا ان نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فانزل  تعالى هذه الآية، أي ان الآية جاءت للرد عليهم بالدعوة الى التوحيد وان النبي لا يدعوهم إلا إلى طاعة  وهي ذات الدعوة التي جاء بها ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
وفي الآية وجوه:
الأول: توجه الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وفيه دعوة له للإســتعداد للفعل والإمتثال والقول سواء كان القول موجهــاً الى الناس ام أهل الكتاب ام المســلمين، وجاء التعيين من غير فاصلة بان المراد في الخطاب هم اهل الكتاب.
الثاني: جاء النداء والقول بلفظ (تعالوا) ويحمل على أمرين:
أولاً: ارادة القرب المكاني أي هلموا.
ثانياُ: الإشتراك في أمر.
والثاني هو المراد بلحاظ موضوع الآية الا انه لا يمنع من ارادة الأول وهو القرب المكاني.
الثالث: اختصاص الدعوة بأهل الكتاب دون غيرهم، ولو جاء المشركون وارادوا ان يشتركوا بقول كلمة التوحيد فهل يقبل منهم الجواب نعم بشرط الإسلام، وكأن هذه الآية قسيم لفرض الجزية على اهل الكتاب وبيان لعلة فرضها عليهم دون غيرهم من الناس اذ انها لا تقبل من المشركين.
الرابع: الإخبار عن وجــود جامـــع بين المســلمين، والنصــارى، واليهود، وهذا الجامع هو الأصـــل في العقائد والديانات وبه قامت الســماوات والأرض، فمع وجود المقتضي للإلتقاء فيه وفقد المانع، يجب اعلان الإجماع عليه، وفيه نبذ للخصومة والفرقة.
الخامس: في الآية ترك للجدال والإحتجاج بخصــوص ولادة عيسى ونبوته اذ انها تنقل أهل الكتاب من الجدال في مسألة فرعية، الى الإتفاق والإلتقـاء على مسألة أصولية بل هي ام المسائل الأصولية.
السادس: لقد جاء القرآن بمسألة دقيقة وحجة قوية لدفع الخصومة والخلاف ولتكون امتحاناً لصدق اتباعهم للأنبياء وتخلصهم من براثن الشرك والضلالة ، وفي المثل “اريها السها وتريني القمر” والسُها: كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى، يمتحن الناس به أبصارهم.
السابع: سواء مصدر يطلب فيه اثنان للدلالة على التساوي والإلتقاء في مبادئ التوحيد والإقرار بالربوبية لله تعالى.
الثامن: لزوم عبادة  تعالى وعدم الإكتفاء بالنطق بكلمة التوحيد، لأن الإقرار بالربوبية يستلزم الإتيان بلوازم العبودية وأداء الفرائض كالصلاة والزكاة.
التاسع: دعوة أهل الكتاب لمحاربة الشرك والمفاهيم العقائدية والتخلص من كدوراته في النفس وعند الغير.
العاشر: عدم اتخاذ الأرباب من الخلق، والإعراض عمن يدعو لغير عبادة ، وترك أهــل الحســد والشك والذين يصدون عن عبادته تعالى.
الحادي عشر: اخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باحتمال اعراض اهل الكتاب كلاً او بعضاً عن هذه الدعوة وعدم الإســتجابة الى نداء اتحاد الموحدين، وعندئذ على المسلمين ان يعلنوا ثباتهم على الإيمان وشهادتهم بالتوحيد، فنكــوص الآخــرين لا يكــون عائقــاً في نشــرهم للإسلام ومبادئه.
التفسير
قوله تعالى [قل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ]
جاء الخطاب الإلهي موجهاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تشريف له، والآيات القرآنية تتضمن في معناها الأمر له صلى الله عليه وآله وسلم بقل، فعليه ان يقول القرآن وينطق بالفاظه كما انزل عليه، ولكن لفظ(قل) يعني الحكم والدعوة والتبليغ ذا الموضوع الخاص، والتقدير قل يا محمد.
وتبين الآية عظيم المسؤولية العقائدية التي يقوم بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعدد مضامين وجهات الجهاد، فقد جاءت الآيات المكية بلفظ قل وتضمنت معاني الإنذار والوعيد كقول تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ] اما في السور المدنية فجاءت الدعوة لأهل الكتاب بما يصحح المفاهيم بلغة الود واللطف.
وهل الخطاب خاص بالنبي ام هو عام الجواب انه عام للمسلمين جميعاً في كل زمان ومكان وفيه تشريف للمسلمين اذ تعاهدوا تركة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في البلاغ والدعوة الى الإتحاد والتقارب.
وفي الآية تأديب لقادة المسلمين خصوصاً عندما يسود الإسلام وتقوى شوكته وتسود مبادئه بالدعوة الى  بالحكمة والموعظة الحسنة، ومناشدة أهل الكتاب للتمسك بكلمة التوحيد وانها السر المكنون في الأرض الذي يمكن ان تلتقي عنده القلوب والمبادئ وتتفرع عنه الأحكام الشرعية، وفي جهة الخطاب [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] وجوه هي:
الأول: وفد نصارى نجران.
الثاني: يهود المدينة.
الثالث: الفريقان معاً.
الرابع: اليهود والنصارى مطلقاً.
والأصح هو الرابع، فالآية جاءت مطلقة ، وتدل عليه اصالة الإطلاق وظاهر الخطاب الذي يفيد العموم ، ولأن الآية من آيات الجهاد والدعوة الى  .
وان كانت اسباب النزول خاصة بواقعة او بفئة من أهل الكتاب.
وتفيد الآية ترغيب أهل الكتاب بالصلة مع المسلمين، بشرط عدم الإكثار من الجدال واثارة الشبهات لعدم وجود أصل وموضوع لهذا الجــدال، لقــد أرادت الآيــة اصلاح الصلة بين المسلمين وأهل الكتاب بما يؤدي الى النفع العام والخاص واللجوء الى الحق، ونبذ العداوة والفرقة.
والآية شاهد على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يدعوهم الا لما يقرون به ويتوارثونه من الآباء عن الأنبياء والرسل، وتتضمن هذه الدعوة مفاهيم الإعجاز والصدق فبينما يشتد الجدال بين المسلمين وأهل الكتاب، وتتعالى أصوات الخصومة بين اليهود والنصارى وبما يحمل معاني التضاد والنزاع ليبقى المشركون في مأمن من الخلاف وبعيدين عن الدعوة الإسلامية ومضامين التوحيد والأولى ان تتوجه جهود الموحدين لإصلاحهم وجعلهم يتركون الشرك والضلالة.
فجاءت هذه الدعوة السماوية لإشعار المسلمين وأهل الكتاب بما يجب عليهم فعله وعدم الدخول في خلافات جانبية تضعف كل فريق منهم، وتؤدي بالعرض الى قوة شوكة الشرك والمشركين.
وبعد مجيء الآية السابقة بذم تولي جماعة من أهل الكتاب من المباهلة، وبغض الفساد والمفسدين، وتضمنها معاني الظفر والنصر في المباهلة وفرارهم منها، جاءت هذه الآية لتأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمد يد الود لهم واظهار أسباب الأخوة في مقامات العبودية لله تعالى، مما يدل على ان   لا يريد لأهل الكتاب ان يبتعدوا عن المسلمين، ولا يعرض عنهم المسلمون وهم يتنعمون بنشوة النصر في المعارك وتثبيت الحكم وميادين الإحتجاج والمباهلة، بل على المسلمين ان يبقوا على صلة مع أهل الكتاب وفق قواعد التوحيد.
وهل الآية مطلقة من جهة الزمان والأحوال ام مقيدة ، فلو وقعت معركة بين المسلمين واليهود او بينهم وبين النصارى فهل تعطل أحكام هذه الآية ام انها باقية الجواب هو الثاني فلا ينحصر موضوعها بحال السلم والرخاء بل هي مطلقة وشاملة لكل الأحوال وباب لفك الخصومة ونبذ الفرقة ودرء القتال.
وتخاطب الآية وما فيها من الدعوة أرباب العقول وتجعلهم يتفكرون فيما هم عليه ، وبعدهم عن مفاهيم التوحيد ولزوم الرجوع اليها بهجران الغلو بالأنبياء وطاعة الرهبان في غير مرضاة .
علم المناسبة
ورد النداء [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] اثنتي عشــرة مــرة في القــرآن ســت منها في ســورة آل عمران وحــدها، وســت في مجمــوع القرآن، ومن الآيات ان الســتة التي وردت في القــرآن جاءت كل اثنتين منها في آيتين متعاقبتين.
وفي حين جاءت هذه الآية بصيغة الدعوة الى الإلتقاء في مضامين التوحيد وسنن العبادة ونبذ الشــرك فان الآيــات الأخــرى المشابهة جاءت بلغة اللوم والنهي عن لبس الحق بالباطل، والزجر عن الغلو في الدين.
ان الخطاب بصفة الإنتساب الى الكتاب السماوية تشريف عظيم، ويجعل في الوقت نفسه اللوم اكبر اثراً واقوى حجة باعتبار ان النسبة للكتاب تملي على صاحبها التقيد باحكام الكتاب والأحكام التي يتضمنها، فالدعوة الواردة في الآية تتضمن الود واللطف والطلب الكريم فسيد المرسلين وخاتم النبيين يسأل اهل الكتاب الإقتراب والمجيء اليه ليكون التوحيد هو موضوع الدعوة ومادة الإلتقاء.
ومن الآيات انها تتضمن الأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] أي هو الذي يدعوهم ويناديهم في موضوع الآية، وبعضها يأتي الخطاب من عنده تعالى ولكن من غير الأمر الى النبي محمد (قل)، ومع هذا الإختلاف فان المعنى واحد، واحياناً يأتي ذات الموضوع في كل صيغة من الصيغتين كما في قوله تعالى [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ]( ) وهذا من الإعجاز القرآني، فالخطاب القرآني وان لم يتضمن الأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه يفيد ذات المعنى ويتضمن الأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله وتلاوته.

قوله تعالى [تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ]
مع سمو مقام النبوة وكون النبي على صلة دائمة بالوحي وعالم الملكوت ويحيط به المسلمون ويتلقون منه الأحكام بشغف وشوق وقبول، يأتيه الأمر الإلهي بالتوجه بالنداء الى أهل الكتاب وخروج النداء من دائرة أهل الإيمان برسالته الى المشككين بها وبالنبوات من قبله ويعرض عليهم الإلتقاء على التوحيد مع عدم الطلب منهم الإقرار بنبوته وطاعته وهو الأمر الذي طلبه منهم عيسى كما ورد على لسانه في التنزيل [ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ] فلماذا لم يدعهم النبي الى الشهادتين أي الى عبادة  والتصديق بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه الجواب من وجوه:
الأول: ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دعا الناس جميعاً للإسلام والعمل بأحكام القرآن، وتشمل هذه الدعوة اليهود والنصارى بالأولوية لأنهم أتباع الرسالات السماوية ولتوارثهم البشــارات بنبوته وتلقيهم الوصية النبوية باتباعه والإنقياد لأوامره.
الثاني: ان الدعوة الى التوحيد لا تتعارض مع الدعوة الى الإسلام فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل دعوة الى الإسلام هي دعوة الى التوحيد.
الثالث: لقد رضي   من اليهود والنصارى دفع الجزية مع اقرارهم على دينهم، ومعه لامانع من الإلتقاء على التوحيد، كما انه يبين علة قبول الجزية منهم وجعلهم في ذمة الإسلام.
الرابع: جاءت الآية للتدارك ومنع فرار وإعراض أهل الكتاب فهي رحمة بهم، ومصداق آخر من مصاديق الإصطفاء بان يكون الود هو السائد في الصلات بين المصطفين من آل ابراهيم، فالإصطفاء يبعث في نفوس أفراده الحرص على النفع العام لهم، فهذه الدعوة تتضمن حرص النبي وهو سيد ولد أبراهيم على نجاة ابناء المصطفين من آل ابراهيم ومن ذرية اسرائيل وانصار عيسى بالتبعية.
الخامس: بيان المندوحة والســعة في الدعــوة الإسلامية، واقامـة الحجة بان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بذل الوسع وطلب الأدنى من وجوه الإلتقاء مع أهل الكتاب لتعاهد التوحيد في الأرض.
لقد أراد  لأهل الكتاب العلم بوظائفهم الشرعية وهجران الجدال بخصوص ولادة عيسى  فمتى ما انشغلوا بالتوحيد وجعلوه الهدف الأسمى تتحصل غايات سامية منها:
الأول: العزوف عن الجدال بخصوص ولادة عيسى لإدراك انها فرع القدرة الإلهية.
الثاني: اجتناب النصارى الغلو بشخصه الكريم لأن الغلو مناف لقواعد التوحيد.
الثالث: خشــية اليهــود من الإفتــراء على عيسـى لمجيئــه بالآيــات مــن عند .
الرابع: الإنشغال بالتوحيد ومبادئه والتفقه في قواعده ومضامينه، وهذا التفقه يقود بالإنطباق الى التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: الإقرار بالتوحيد باب للإصغاء الى آيات القرآن وتدبر معانيها، واستقراء الآيات والحكم التي تتضمنها.
السادس: دعوة أهل الكتاب للتوحيد خير من تركهم يتيهون في أسباب الغلو والإفتراء.
السابع: التوحيد واقية وحرز من الإنقياد لأهل الدنيا ، وأرباب المنافع الخاصة وأهل الشك والريب.
الثامن: مؤازرة المسلمين في تثبيت التوحيد في الأرض فبدل ان يكون اليهود والنصارى أعداء للدعوة الإسلامية الى طاعة  بالجدال والإحتجاج وبث الريب ونشر الشكوك، يكونون مع المسلمين في الإقرار بالربوبية لله تعالى.
التاسع: سد الذرائع امام المشركين ومنعهم من الإنتفاع من الفرقة والخصومة بين المسلمين وأهل الكتاب.
العاشر: تأديب المسلمين برعاية عهد أهل الكتاب والتمييز بينهم وبين المشركين.
لقد نزلت بعض السور المكية وهي تبدأ بالحروف المقطعة ومن منافعها اسكات الكفار ومنعهم من التصدية والمكاء، ولتكون هذه الحروف سبباً لإصغائهم لآيات القرآن فيتذوقوا حلاوتها ويدركوا اعجازها فيسكتوا مبهورين عند استدامة القراءة، أي ان الحروف المقطعة تتولى وظيفة اسكاتهم في الإبتداء، ليصغوا الى الآيات عند الإستدامة طواعية وهم بحال الذهول، ولينصتوا الى الآيات التي تتضمن الإنذار والوعيد والتخويف.
اما بالنسبة لأهل الكتاب فجاءت الدعوة والخطاب بنعتهم بما يتضمن الإكرام والشهادة لهم بالإنتساب الى كتاب سماوي، فقد وصفتهم الآية [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] وهذا تشريف عظيم ومثلما هي شهادة لهم فانها شهادة للقرآن وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمع جدالهم واحتجاجهم وتوليهم مدبرين وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون من الأذى من اليهود في المدينة فان الآية تخاطبهم بصيغة الإكرام والوعد، مع ان التولي والإعراض امر محتمل صدوره منهم، بقرينة خاتمة الآية [فَإِنْ تَوَلَّوْا] وورود موضوع التولي في الآية السابقة وفي خصوص واقعة المباهلة.
وبعد ذكر القصص الحق في القرآن ودعوة الناس للتصديق بها، جاءت هذه الآية وفق قاعدة تقديم الأهم على المهم، فالأهم هو التوحيد سواء بذاته موضوعاً وحكماً، او لأنه طريق الإتفاق والإلتقاء بين الملل السماوية.
وقد ورد لفظ [ تَوَلَّوْا] سبع مرات في القرآن ثلاثة منها في سورة آل عمران، اثنتين في أهل الكتاب والثالثة في ذم المنافقين.
وقد جاء نداء عاماً للناس في قوله تعالى [ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا …]( ) الآية.
في دلالة على ضرورة نبذ الشرك وان الخطاب بالتوحيد عام متوجه الى الناس كافة ولكن الفرق بين العام والخاص في المقام، ان الخاص يراد منه أهل الكتاب للجامع المشترك بينهم وبين المسلمين وهو كلمة التوحيد فأراد   لها الإنبعاث من جديد بين صفوف أهل الكتاب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق البشارة بنبوته ورسالته.
والمراد من الكلمة هي شهادة التوحيد “لا اله الا الله” وقد توارثها المليون كما وصى بها ابراهيم بنيه، وورد في التنزيل [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ]( ).
لقد توارث الأنبياء كلمة التوحيد والوصية بعبادة ، ولما انقطعت النبوة في بني اسرائيل انشغلوا بالغلو والإفتراء، بعد ان اعتدوا على عيسى  فصار مجيء النبوة من غيرهم حاجة، فبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآذاه المشركون من قريش وأرادوا قتله ولكن  نجاه منهم وخرج الى المدينة ليبني صرح الإسلام وتقوى شوكته، وبدل ان يبادر الى قتال أهل الكتاب وينتقم لعيسى  ويتخلص من أذاهم، توجه اليهم ليدعوهم الى الكلمة التي وصاهم بها انبياؤهم وآباؤهم والصالحون منهم.
ولقد ورد قوله تعالى في مدح ابراهيم  [ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ]( ) ويدخل في العقب والخلف كل ذرية ابراهيم  وأراد   ان لا تفارق كلمة التوحيد ذرية ابراهيم، ففي كل جيل منهم لها حفظة وورثة متقيدون بأحكامها ،وورث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء ، فأمره  تعالى بدعوة أهل الكتاب الى الكلمة التي يشترك واياهم بوراثتها ولزوم تعاهدها وحفظها، واخبارهم بانهم ان ابتعدوا عنها فانها تتقرب اليهم بود ولطف ولا يمكن ان ينسوها وينشغلوا بغيرها، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم اليها، وبعد مغادرته الى الرفيق الأعلى بقى القرآن يدعوهم اليها كل يوم كما انه يكرر دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، ويجددها هو والمسلمون، وفي الآية مسائل اضافية هي:
الأولى: مجيؤها بلغة الود واللطف والنعت الكريم بصفة اهل الكتاب والذي يتضمن ايضاً التذكير بوظيفة اتباع الكتب السماوية.
الثانية: الآية من النعم المتتالية على بني اسرائيل , واكرام لعيسى في النصارى من بعده وعون لهم على البقاء على شريعة عيسى وما جاء به من عند .
الثالثة: انها دعوة للرجوع الى ما عاهد به الحواريون عيسى  كما ورد في التنزيل [قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
الرابعة: الآية باب لنزول الرحمة والعفو الإلهي، قال تعالى [ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ]( ).
الخامسة: تبعث الآية الود في قلوب اليهود والنصارى للمسلمين، وتؤسس تقسيماً عقائدياً للناس وانهم فريقان:
الأول: اتباع الكتب السماوية.
الثاني: المشركون والكفار الذين لا يتبعون الأنبياء والكتب السماوية.
السادسة: الإقرار بكلمة التوحيد يلزم اهل الكتاب بأداء الصلاة والزكاة والتقيد بأحكام الكتاب المنزل.
ومن خصائص كلمة التوحيد الإنصاف للأطراف التي تستظل بظلها وتلوذ بكنفها، فلا ميل فيها لطرف دون آخر لذا جاء وصفها بانها سواء فالكل بعرض واحد فيها من جهة الوجوب واللزوم، نعم فيها تثبيت للنبوة وهذا التثبيت حق وصدق سواء استجاب اهل الكتاب للدعوة ام لم يستجيبوا.

قوله تعالى [بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ]
هذا الشطر من الآية جزء من دعــوة النبي محــمد صــلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب ووصــف لمكانــة كلمــة التوحيــد ووجــوب تقيد الأطراف كلها بأحكامهــا وتذكير بانها حق والجميع ينتفع منها بمرتبة وكيفية واحــدة، وجــاءت الآية بصيغة الجمع فمع انها بدأت بـ(قل) بصيغة الأمر المفرد جــاءت هنــا بلفظ (بيننا) بصــيغة الجـمــع، وفيه وجوه:
الأول: لغة الإكرام والتفخيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان يتكلم بصيغة الجمع لمقام النبوة وانه أمة في الخير والصلاح، وفي ابراهيم  قال تعالى [ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً]( ) وما عند ابراهيم وما ناله من المرتبة الرفيعة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة.
الثالث: المسلمون جميعاً.
الرابع: يتكلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه بالإصالة وعن المسلمين بالتبعية والإلحاق.
والأصح هو الثالث والرابع لوجوه:
الأول: ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الأمر الإلهي فيتكلم عن نفسه وعن أمته، كما في المباهلة.
الثاني: بقاء الدعوة الى التوحيد متجددة في أعقاب وأجيال المسلمين.
الثالث: كل مسلم مكلف مستقل.
الرابع: في الآية اعجاز وهو ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واثق من أمته ودعوتها أهل الكتاب الى التوحيد.
الخامس: في الآية تأديب للمسلمين باتباع نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة أهل الكتاب الى كلمة التوحيد.
السادس: جاءت الآية مطلقة [بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] وتعني شمول الجميع وعدم خروج فرقة من اليهود والنصارى عن الدعوة الى التوحيد، وهو مناسبة لإجتماعهم وطرد أسباب الخصومة بينهم ومع هذا فان الإسلام لم يخشَ من هذا الإجتماع لأنه اجتماع مبارك موضوعه الإقرار بالعبودية لله، ويترشح عن هذا الإقرار التقاء عقائدي كريم.
لقد جمعت هذه الآية بين أطراف اهل الكتاب في دعوة واحدة واشارت اليهم بلفظ [َبَيْنَكُمْ] وفيه تنبيه ودعوة للعــودة الى نظرية الوسط الإسلامية الموافقة لحكم الشريعة وسنن الأنبياء، وحث على التخلي عن الغلو والإفتراء وما فيهما من الإفراط والتفريط.
السابع: تبين الآية قوة الإسلام وعزة المؤمنين وأنهم يبادرون الى دعوة الآخرين الى الوفاق والوئام تحت لواء التوحيد.
الثامن: تبعث الآية الفزع في قلوب المشركين لما فيها من جعلهم في بينونة عزلة وحرج شديد، وهو مقدمة لتدبرهم بحالهم وما هم عليه من الضلالة ،وحثهم على لزوم اختيار الإيمان.
قوله تعالى [أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا]
هذا بيان للكلمة التي أرادها   ان تكون جامعاً وسوراً يلتقي عنده المسلمون وأهل الكتاب، وهذا من اعجاز القرآن ان يرد ذكر الكلمة التي تجمع المليين ثم يأتي بيانها وتوضيحها بما يرفع اللبس ويمنع من الجهالة، وجاءت الآية بصيغة تبعث في النفس الشوق لعبادته تعالى والرغبة بقبول الدعوة، واذ إنحصرت آية المباهلة والإحتجاج بالملأ والقادة من أهل الكتاب وعلى نحو التحدي، وابطال جدالهم، جاءت هذه الآية خطاباً عاماً لكل اليهود والنصارى لا يستطيع أحد أن يخفيها عن فريق او جماعة منهم.
لذا فان ظهور آيات القرآن وايصالها بالتبليغ والتلاوة والتفسير الى الناس كافة حاجة وضرورة عقائدية وأخلاقية واصلاحية، فلابد من ايصال الدعوة الى الذين يحرص رؤساؤهم على عزلهم عن الآخرين ومنع وصول كلمة الحق اليهم ز
فيأتي القــرآن بدعوة انحلالية تصل الى كل كتابي وإلى غير الكتابي، اما الكتابي فتلح عليه بالرجوع الى التوحيد ونبذ الغلو والتحريف، وتصبح عنده مزاحمة لتركــة الإنحـراف لتتغلب على ما يأتيه من الباطل بعد ان كان لا يعــرف غيره، اما غير الكتابي فينظر الى ما في الدعوة من الإنصاف، ويعلم بقوة الإسلام وصدق الدعوة وانها مطلقة ومناسبة له ايضاً وان لم يكن كتابياً لموافقتها لماهية خلقه وتعلق الروح بالعرش وأصل سنخيتها بعد ان تفضل سبحانه ونفخ من روحه في آدم.
فهذه الدعوة حجة على أهل الكتاب، وحجة على غيرهم من باب الأولوية، وفصل بين أهل الكتاب والمشركين، فلا يمكــن ليهــود المدينة ان يؤثروا على مشركي مكة ويؤلبونهم ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، بل انها تؤلب المشركين على أهل الكتاب وتجعلهم يحاجــون أهل الكتاب عــن علة عدم قبول الدعوة خصوصاً وان معالم التوحيد معلومة عند المشركين، كجزء من تركة ابراهيم  ولأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تترك آثــارها المباركة عند كل انســان تبلــغه ولو على نحو الموجبــة الجزئية التي تحول الموانع الذاتية والكـدورات الظلمانية دون جعلها سبباً للإسلام ونزع رداء الكفر والشرك، وهذا من اعجاز القرآن ان تخاطــب آياته العقول، وتجعل العدو والكافر مصدقاً بما في القرآن من الحجة والدليل ولو في قضية مخصوصة.
لقد تجلت مشارق الجلال ومضامين الرحمة في هذه الآية بالدعــوة الى التوحيد وتخلــيص الملل والأمـم من شرور الكفر والجحود.
بحث بلاغي
ومن الإطناب والبديع ان يؤتى بكلام فيه اجمال وخفاء ثم يؤتى بما يفسره ويبينه ويسمى في علم البيان (البديع) ومن خصوصيات هذا الوجه في القرآن عن غيره خلوه من اللبس والخفاء، والكلام يأتي فيه واضحاً جلياًَ ولا تصل النوبة الى انحصار تفسيره بما يأتي بعده من البيان لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ومع هذا يخفف عن المسلمين ولا يكلفهم البحث في سور وآيات القرآن الأخرى للعثور على التفسير بل يأتي به متعقباً له لكشف اللبس المحتمل عند بعضهم وازالة الخفاء، وليكون النفع عاماً والحجة دامغة.
وجاءت الآية بذكر دعوة النبي بلفظ (قل) لتوكيد حقيقة وهي ان هذه الدعوة من   وليس من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان   أراد لها البقاء بين أجيال المسلمين فلا يأتي من يشكل عليها بأمور وهي:
الأول: لزوم دخول اهل الكتاب في الإسلام وعدم الإكتفاء بالدعوة الى الجامع المشترك بيننا وبينهم وهو التوحيد.
الثاني: تصاعد الدعوات بترك اهل الكتاب وما هم عليه من الغلو او الإفتراء لأنه باب العقاب.
الثالث: ادعاء تقييد الدعوة ببدايات الإسلام وصيغ الود والمهادنة من أجل تثبيت دعائم الدين واولوية محارية المشركين.
الرابع: ادعاء ضعف سند الأحاديث الخاصة بالدعوة او تأويلها.
فتفضل سبحانه بقطع الطريق على هذه الإشكالات ،فأمر رسوله الكريم بتوجيه نداء الدعوة الى أهل الكتاب بما يفيد وجوب الدعوة وعدم جواز تركها، لتتجلى للمسلمين والناس جميعاً وجوه من اعجاز القرآن تتعلق بأمور:
الأول: توجيه المسلمين الى فعل عقائدي ثابت.
الثاني: منع الحرج من دعوة أهل الكتاب ،والتقارب معهم وفق مبادئ التوحيد، والعبودية لله تعالى.
الثالث: اجتناب الفرقة والشقاق بسبب هذه الدعوة ، فلولا هذه الآية لرأيت فريقاً من الفقهاء يدعو اهل الكتاب الى التوحيد وفريقاً يقول بتركها ويذكر اسباباً من الواقع العملي تبين عدم الحاجة لها او يدعي ان المصلحة بخلافها ، فجاء القرآن ليبين ان منافعها لا تنحصر بالحال والبلد والأشخاص بل هي قاعدة كلية ذات منافع عامة على الذات والغير.
فمن الآيات ان تبدأ الآية بكلمة تتضمن التفسير الذاتي لمضمونها وتتفرع عنها أحكام فقهية وكلامية اذ ان لفظ قل أمر للنبي بترك موضوع إعراضهم وفرارهم من المباهلة , مع دعوتهم من جديد، ولكن ليس للمباهلة مع ان أحكامها باقية، بل يدعوهم الى أمر آخر اخف من المباهلة وخال من الملاعنة وصيغ التحدي، يدعوهم للرجوع الى ميادين السياسة والصدارة واظهار انتمائهم وعدم الخشية منه.
فمن مصاديق نزول القرآن من عند  انه لم يترك اهل الكتاب يولون الأدبار ليبقى المسلمون وحدهم يدعون الناس الى الإسلام ويبثون مبادئ دينهم وأحكامه وسننه بين الناس مع ان هذا الأمر حق وهو الأصلح في أبواب الهداية، بل دعا أهل الكتاب الى الحضور والظهور والإجتماع من جديد بصيغة الإتحاد والإلتقاء على الجامع المبارك وهو التوحيد.
كما جاء ذكر “أهل الكتاب” على نحو الخصوص لمنع اللبس والخفاء والإخبار بان الدعوة لم تقم على مصالح ومكاسب او انها ابرام العهد بين الأقوياء، بل جاءت بقيد الكتاب المنزل من السماء، لبيان ان الإسلام دين السماء ولن يهادن الكفار والمشركين ولفظ (أهل) تذكير بلزوم مجيئهم وقبولهم الدعوة بشرط انتمائهم للكتاب وتعاهد مسمى الولاء للنبوة والكتب المنزلة وليس الاسم فقط.
وفيه تثبيت لإنتماءات اليهود والنصارى لدياناتهم وعدم اختلاطهم مع المشركين سواء في مواجهة الآخرين او في دعوة الإلتقاء مع المسلمين ، وتمنع الآية من تضييع أحكام التوراة والإنجيل ، وفيها تأديب للمسلمين بان هناك امماً من الناس لها كتب منزلة من السماء لابد من التصرف معها على نحو مخصوص.
فاذا خرج المسلمون في كتيبة فعليهم ان يفرقوا بين اليهودي والنصراني من جهة وبين الكافر والمشرك من جهة أخرى، ولا يبقى الغزاة والمجاهدون في سبيل  في حيرة من أمرهم في كيفية المعاملة والشروط التي تؤخذ منهم، بل عليهم ان يرضوا بالجزية من أهل الكتاب بمقدارها القليل وان يدعوهم الى الإلتقاء مع المسلمين بعبادة  وحده ونبذ الشرك.
أي هناك مائز حتى في غير مواطن القتال او قبل وقوع المعركة، وهو ان الكافر يدعى الى الإسلام والتوحيد، اما الكتابي غير الحربي فيدعى الى الجامع بيننا وبينهم وهو التوحيد مما يبعث في نفسه السكينة والأمن ويشعر بمنافع الإنتماء للكتاب السماوي ولزوم التقيد بأحكامه، وليعلم ان دخول الإسلام جزء من أحكام الكتاب الذي بين يديه , فدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها مضامين هي:
الأول: جاءت الدعوة بأمر الهي يفيد الوجوب.
الثاني: قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بتوجيه الدعوة، وهي متعددة بلحاظ تعدد أهل الكتاب مذاهب وأشخاصاً، بالإضافة إلى تكرر الدعوة بتلاوة القرآن وهي تلاوة منبسطة على الأزمنة المتعاقبة.
الثالث: تقييد الدعوة بخصــوص اهل الكتــاب، وتمييزهم الى يوم القيامة، وهم يحرصون على هذا التمييز لما فيه من الإكرام وحسن اللقب.
الرابع: ذكــر وجود كلمة جامــعة بين المســلمين وأهـل الكتاب لها قدسية عظيمة، وصبغة سماوية تحول دون الفرقة والصراع والمعارك.
الخامس: خوف وهزيمة أهل الكتاب من المباهلة دليل على خشيتهم من ، ولو على نحو الموجبة الجزئية ، فجاءت هذه الدعوة اتماماً للمباهلة ولكن بلغة الود والإكرام.
السادس: مجيء البيان والتفسير لهذه الكلمة، ومما يمتاز به التفسير البلاغي في القرآن دون غيره، ان وظيفته لا تنحصر برفع اللبس وازالة الخفاء بل تتضمن التأديب والإرشاد لسبل الهداية بلغة البشارة والإنذار، اما البشارة فهي عبادة  وما فيها من الثواب وحسن الجزاء، واما الإنذار فهو الزجر عن الشرك وما فيه من العقاب في النشأتين.
بحث بلاغي
لقد جاءت الآية بالإيضاح بعد الإبهام، والبيان بعد الإجمال، لبعث الشوق في النفس للإحاطة بتفاصيل الدعوة، فذكرت الكلمة كموضوع للدعوة ، ولها معان عديدة ، ولكنها قيدتها بقيد [بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] وهذا القيد لا يخرج الإبهام الى الإيضاح والترديد الى التعيين، فقد يراد منها العهد والوثيقة والوعد واليمين والعقد.
ولو لم يأتِ التفسير والإيضاح لأختلف في تأويلها بما يحول دون انتفاع الأجيال المتعاقبة منها، ولكن   أراد لها ان تكون باباً للرحمة وسبيلاً للهداية وفيضاً يتغشى المليين، وجزاء لبقائهم على الكتاب واصلاحاً لهذا البقاء بان يتقوم بالتوحيد ونبذ الشرك فجاء البيان بابهى وأعذب الكلمات، لترسخ في الأذهان وتزدان بها المنتديات وتنفذ الى النفوس، وتصل الى قادتهم وعامتهم ، وتزيل غشاوة على ابصارهم تحجب دعوة الحق، فيتلقون الدعوة افراداً وجماعات ويعلنون ميلهم لها وقبولهم لمضامينها فتكون عهداً متجدداً ووثيقة دائمة.
والنبي والمسلمون لا يعبدون الا ، ولم يشركوا بالله  سواء الشرك الظاهر او الخفي فلماذا لم تقل الآية كونوا مثلنا لا تعبدون الا  ولا تشركوا به شيئاً، فتثبت حقيقة اقامة المسلمين على التوحيد واجتنابهم الشرك، وتكون الآية شاهداً على دعوة المسلمين لأهل الكتاب ليكونوا مثلهم خصوصاً وانه جاء قبل آيات ذكر مثلية خلق آدم وعيسى عليهما السلام.
الجواب من وجوه:
الأول: تدل الدعوة على اقرار وتقيد المسلمين بالتوحيد , وواقعهم العملي مصداق وتفسير لها.
الثاني: جاءت الآية على طريق السبر والتقسيم البلاغية، فما دمنا ملتزمين بأحكام التوحيد، فعليكم التشبه بنا ومحاكاتنا في عبادته تعالى، وهذا التشبه والتماثل لا يعني التبعية بل المراد من الكلمة هي وحدة الخطاب التكليفي بالتوحيد الموجه الينا جميعاً، والإمتثال له.
فكما جاءت آية المباهلة دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للذات وأهل البيت من جهة ولأهل الكتاب من جهة أخرى، وخروجه صلى الله عليه وآله وسلم للمباهلة ومعه أهل بيته بحضور الصحابة، فكذا هذه الآية جاءت بالدعوة الى التوحيد مع التزام المسلمين بها.
الثالث: لقد اثبتت الآية قاعدة كلية من الإرادة التكوينية وهي ان التوحيد حكم شامل مستغرق لكل الكتب السماوية، فلا يجوز ان يصل التحريف لدرجة تصل الى الشرك والضلالة بمعنى ليس للنصارى ان يجعلوا الغلو بعيسى جزء من مضامين الإنجيل، وليس لليهود ان يجعلوا مفاهيم الشرك ، اواتخاذ الرهبان ارباباً جزء من التوراة سواء بالإضافة الى الإنجيل والتوراة، او بالتأويل الذي يصبح سائداً وشائعاً ومعتمداً عندهم، لذا كان حفظ القرآن من التحريف وتحصين آياته وكلماته من الزيادة او النقيصة حاجة ليس للمسلمين وحدهم بل لأهل الكتاب والناس، وللكتب السماوية السابقة.
الرابع: الآية شاهد على تقيد المسلمين بأحكام التوحيد واخلاصهم في العبودية لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دعا أهل الكتاب للتوحيد ولو كانوا يجدون خللاً في عقائد التوحيد عند المسلمين او نقصاً في مناسكهم وعباداتهم، لإحتجوا واشكلوا.
بحث بلاغي
من البديع الإستقصاء، والمراد منه تناول المتكلم لموضوع فيستقصي معانيه، ويستوفي أوصافه الذاتية بما يفيد الحصر والبيان ومنع اللبس ولحصول الشبهات وورود الإفتراء والطعن ببعض الأنبياء او الغلو فيهم، جاءت الدعوة الى كلمة التوحيد باستقصاء معانيها بحيث يتعذر على الخصم اثارة الشك او الريب فيه ومن أسرار الإستقصاء في المقام ان الآية دعوة للإتحاد والإلتقاء بين المسلمين وأهل الكتاب ، ومنع للإقتتال بينهم.
وتشير الآية الى وجوه الإلتقاء وهي الأهم، اما القتال فليس هو المهم نعم بالنسبة للمسلمين يدخل الجهاد ضمن مصاديق الأهم لنشر لواء الإسلام وتثبيت أحكامه، ولا تتعارض معه هذه الدعوة بل هي في طوله، ومناسبة لتحقيقه بوسائل عقائدية.
وجاءت الآية خطاباً لأهل الكتاب كافة، وهو انحلالي موجه لكل شخص منهم ذكراً او انثى منذ زمان التنزيل والى يومنا هذا وما بعده ولم يوجه الخطاب فيها الى رؤسائهم ورهبانهم وأهل الحل والعقد فيهم، بل جعلت كل شخص منهم يتلقى الخطاب ويتدبر معانيه.
ومن منافع الإستقصاء في المقام قيام الحجة عليهم، وجعلم ينشغلون بانفسهم، ويستحضرون مبادئ التوراة والإنجيل ويدركون عدم تعارضها مع مضامين هذه الدعوة، وفي حال وجود تعارض فانه ناتج عن طرو التحريف والتغيير والتشويه القولي والفعلي والمتوارث والمستحدث مما كان قبل نزول القرآن وبزوغ فجر الإسلام، وما كان بعده وظهور العناد والجحود.
وهل تكفي المرة الواحدة في الدعوة، ام لابد من التكرار، الجواب ان هذا البحث صغروي في المقام بل ان الآية القرآنية تتضمن الإخبار الواقعي بحصول التعدد قهراً وانطباقاً، لأن الآية تتكرر كل يوم وعلى لسان المسلمين لتحثهم على مضامين هذه الدعوة، وترشدهم الى التقيد بأحكامها، وامكان حصول الإلتقاء مع أهل الكتاب كي يأتي التعدد من وجوه أخرى هي:
الأول: شمول الخطاب لكل من اليهود والنصارى، ويأتي الخطاب على ثلاث شعب:
الأولى: دعوة اليهود الى الإلتقاء على كلمة التوحيد.
الثانية: دعوة النصارى اليها.
الثالثة: ترغيب اليهود والنصارى معاً ومن تشملهم الدعوة ممن ينتسبون الى كتاب سماوي للالتقاء،
ومن الآيات الاعجازية ان هذا الالتقاء مقيد بما لا يقبل الترديد او التأويل، لأنه بسيط ويتضمن الدعوة الى عبادته تعالى ، واجتناب الشرك والضلالة.
الثاني: تجدد حال الاحتجاج والجدال، فتكون هذه الدعوة بديلاً عن المباهلة، وقطعاً للجدال واثارة الشبهات، وسبباً لمنع الفرقة والتشتت والعناد.
الثالث: حالات التعدد في الأمصار والأمكنة، فكما ان الاطلاق الزماني من مفاهيم هذه الدعوة، فان الاطلاق المكاني منها.
الرابع: الاختلاف والتباين في القوة والضعف، والنصر والغلبة او الخسارة، فمن مفاهيم الآية البشارة بانتصار المسلمين وغلبتهم على الأعداء، فجاءت الآية لتحثهم على المواظبة على دعوة أهل الكتاب الى التوحيد في كل الأحوال.

قوله تعالى [وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]
جاءت الآية للنهي عن اتخــاذ الأرباب من النــاس الذي هــو نــوع من الشرك ، وقد يكون الظاهر والخفي بحسب الموضوع والحكم والإنقياد، فجاء النهي عنه على نحو الإطلاق، وفيها نهي عن القول بالثلاثة الأب والابن وروح القدس ، وعن الرجوع الى الرهبان في الإفتراء على عيسى او العلم بالتحريف والتبديل الذي طرأ على الكتب السماوية.
والنهي في الآية مركب:
الأول: موجه للرهبان بعدم اغواء الأتباع وامرهم بالإنقياد لهم.
الثاني: دعوة الأتباع والعامة الى عدم الإنقياد للرهبان فيما يأمرونهم به مما يخالف سنن التوحيد.
ولا يستطيع العامة التمييز والفصل بين الأوامر في ماهيتها، فجاءت هذه الآية لتخبر عن الرجوع الى التوحيد وكفاية التقيد باحكامه للتخلص من ربوبية غير ، فأهل الحل والعقد ومن بيده الأمور على قسمين:
الأول: من يحكم ويأمر بما انزل .
الثاني: الذي يحكم ويأمر بغير ما أنزل .
وجاءت الآية للتحذير من الثاني وتحذيره هو نفسه ايضاً باعتباره ضالاً مضلاً لغيره، وفي الآية مسائل:
الأولى: اعلان النبي انه عبد  تعالى، ولا يرضى من اليهود والنصارى الا ان ينظروا له كعبد  ونبي يدعو الى توحيده وعبادته.
الثانية: في الآية ذم لأولئك الذين أتخذوا من الأنبياء أربابًا وأطاعوا الرهبان بما جاءوا به مما لم ينزل  به سلطاناً.
الثالثة: بعث اليأس في نفوس الآخرين من طرو التحريف على مبادئ الإسلام.
الرابعة: الآية دعوة للمسلمين بعدم المغالاة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه عبد لله تعالى مع عظيم منزلته وعلو شأنه.
الخامسة: جاءت الآية لتنزيه مجتمعات أهل الكـتاب من الغلو او التحريف او الإفتراء، فمن شعائر التوحيد عدم الطعن بالأنبياء والأولياء.
السادسة: ذكر ان بني اسرائيل كانوا يطيعون احبارهم في التحليل والتحريم مما لم يكن موجوداً في كتبهم، فجاءت الآية للنهي عنه، والرجوع الى معاني التوحيد.
السابعة: ورد ان بني اسرائيل كانوا يسجدون لأحبارهم.
وفي الخبر عن صهيب ان معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال : يا معاذ ما هذا؟
قال: ان اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها. ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت: ما هذا؟
قالوا: تحية الانبياء.
فقال عليه السلام: كذبوا على انبيائهم( ).
وفيه تفسير عملي لآيات التوحيد، وتأديب للمسلمين والناس بتعاهد احكامه، واجتناب الأفعال التي تخالف مبادئه وقواعده، وقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (كذبوا على انبيائهم) تنزيه لساحة الأنبياء وبيان لحقيقة وهي ان الأنبياء جميعاً كانوا يجاهدون لجعل السجود خالصاً لله تعالى، ولم يرض أحد منهم بالسجود له.
واستمر الصحابة والائمة عليهم السلام في التصدي لذلك الغلو.
فعن الثوري عن سماك بن هاني قال: دخل الجاثليق على علي بن ابي طالب فاراد ان يسجد له.
فقال له علي: اسجد لله ولا تسجد لي( ).
فجاءت الآية للإخبار عن حرمة العبادة والسجود لغير ، لإختصاصه بالله تعالى.
وتتجلى في الآية معاني التوحيد والإخلاص في الدعوة لله تعالى.
الثامنة: لقد نزل القرآن بلغة اياك اعني واسمعي يا جارة ، فجاءت الدعوة بتحذير اهل الكتاب من اظهار العبودية لغير  ولكن مضامين الإرشاد والإنذار فيها مطلقة، فهي موجهة للناس جميعاً، وفيها دعوة للمسلمين بتعاهد العبودية وعدم الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أخلص المسلمون في عبوديتهم لله  وتنزهت أحكام الشريعة الإسلامية وسيرة المسلمين من الشرك والى يوم القيامة.
ومن يدعو غيره الى فعل حسن فيجب ان يتحلى هو به، لذا جاءت الآية تأديباً للمسلمين وتحذيراً لهم من الشرك ولتكون طاعتهم لله واجتنابهم الشرك والضلالة آية فعلية تدعو اهل الكتاب والناس جميعاً الى التوحيد كل يوم وليلة.
لذا تفضل سبحانه وشرع الصلاة اليومية وندب الى صلاة الجماعة وبناء المســاجــد لتكــون اخبــاراً عملياً علــى بـقاء المســلمين على التوحيد وحجة على ثباتهم على مبادئه ودعوة للناس لتعاهد مبادئ التوحيد وفيه ترغيب لهم بالإسلام، ودعوة لإكرام المسلمين لأنهم حفظوا أصــول الدين ولم يفــرطوا فيها، فيؤدون مناسك الحج كما أداها رسول  صلى الله عليه وآله وسلم في خشوع وخضوع لله تعالى.
وكانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهداً على عبوديته لله تعالى، وتواضعه للناس طرداً لمفاهيم الشرك عن نفوسهم ودعوة للإقتداء به في حياتهم، ومن الآيات ان تعاهد العلماء وعامة المسلمين سنة رسول  صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية وأقبلوا عليها بشوق ورسخ في أذهانهم ما فيها من الدلالات على العبودية المحضة لله تعالى.
وجاء قيد [مِنْ دُونِ اللَّهِ] للتمييز بين أفراد الطاعة ، فان طاعة الرسول الأكرم فرع طاعته تعالى، وليس من الأمر المنهي عنه طاعة الفقهاء في التقيد بأحكام الدين لأنها انقياد وامتثال لأمره تعالى.
وتمنع الآية من الجدال في طاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأنها في طول طاعة ، ولا يستلزم الأمر الدعوة الى المباهلة فيه كما في ادعائهم على عيسى  غلواً وقدحاً، فمن أراد ان يعرف معاني التوحيد، فليرجع الى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيفية تلقي المسلمين الأوامر منه من غير ان يتخذوه رباً او يغالوا في شخصه الكريم.
ولقد كان بعض أعداء الدين يرغبون بالغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتحريف مبادئ الإسلام، ولمحاولة إيجاد النفرة منه في النفوس، وابطال الحجة عليهم بالتحريف والغلو ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تصدى للأمر ورفض تلك الدعوات والسجود له واظهر عشقه للصلاة والتصاقه بالمحراب، وكان يحرص على صلاة الجماعة كل يوم فيقف مع المسلمين بين يدي  خاشعاً خاضعاً، كما كان شديداً ذا بأس في ميادين القتال لنشر كلمة التوحيد، فهذه الدعوة انذار وحجة ومقدمة لإقامة صرح التوحيد بالسيف بعد الترغيب وصيغة الإكرام.
والرب المالك والسيد، ويقال رب هذا الشيء أي ملِكه ويطلق على السيد والمدبر والمربي والمنعم ولا يأتي مطلقاً من غير تقييد بالإضافة الا لله تعالى، فيقال رب الناقة ورب الدار، اما الرب من غير اضافة فاسم يراد به  تعالى، والمراد في الآية الربوبية بمعنى الطاعة والإنقياد بدليل مجيء قيد من دون  للنهي عما يخالف أمره ، ومن غير الرجوع الى الشريعة النازلة من السماء.
فجاءت الدعوة النبوية المباركة في الآية بالحث على الرجوع الى كتاب  وعدم العــزوف عنه الى الأحبار والرهبان والتحذير ممن يرتدي رداء الدين ولكنه يأمر بما تهواه نفسه وتمليه عليه مصلحته ومنفعته.
والآية دعوة لشكره تعالى على النعم المتتالية والثناء عليه لتفضله ببعثة الأنبياء وانزال الكتب من السماء، ومن مضامين الشكر العمل بتلك الكتب كما انه من مصاديق انتفاء الشرك والضلالة، وفي الآية انذار ووعيد من الإنقياد لمن لا يأمر بما انزل ، قال تعالى [ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ]( ).
والولاية أدنى درجة من الربوبية ومع هذا جاءت الآيات بالتحذير منها والنهي عنها لذا فــان الآية تؤكد على مســألة عقائــدية اضــافية وهي ان الناس بعرض واحد في العبودية لله تعالى وان الإكرام والتفضيل يكون بالإيمان وحسن الإمتثال قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
وفي الآية اعجاز وهو البيان وذكر مضامين الدعوة والكلمة التي جاء بها القرآن جامعا بين الطرفين، يؤمن بها الجميع بعرض واحد، ودرجة واحدة، وجاءت الآية بامور هي:
الأول: قيد (بيننا وبينكم) أي لا يجوز التجزئة والتفريق، وايمان شطر من أهل الكتاب بالتوحيد دون الشطر الآخر منهم، ولا يصح ان يؤمن بها كبراؤهم دون غيرهم، او ان يقول بها من يأتي للمباهلة فقط، اما الذي يبقى في بلده فيبقى على حاله من الغلو في الأنبياء.
لقد أراد   للمسلمين وأهل الكتاب عقد ميثاق عقائدي متكامل خال من النقص والعيب الذي يحول دون الإنتفاع العام منه.
والآية وان جاءت خطاباً ودعوة لأهل الكتاب إلا انها تتضمن التأديب للمسلمين، بان تحثهم على ايجاد وجوه الإلتقاء مع أهل الكتاب، والتمييز بينهم وبين غيرهم من الملل والطوائف.
وتؤكد على حقيقة ثابتة ودائمة وهي امكان ايجاد وجــود الصلات واجتناب اسباب الحرب والعــدوان والتعدي معهم، وان عقد الصــلح والميثاق معهم امر ليس ضــاراً بالذات او الغير، كما انها تبين الثوابت والقــواعد التي لا يمكن التفريط بها في هذا الميثاق، فمن مفاهيم الآية حث المسلمين على تعاهدها والعمل بها .
فالميثاق والعقد والصلح امور حسنة وممدوحة عقلاً وشرعاً الا ان هذا الحسن مقيد بلزوم عدم خروجها عن مضامين التوحيد مثلما هو مشروط بالشمول والعموم في الطرفين، وهما:
أولاً: المسلمون فالآية تدل بالدلالة التضمنية، على التزام المسلمين بأحكام التوحيد وعدم تعديهم على قواعدها وسننها، ومن الآيات انتفاء الغلو والإفتراء عندهم، فتجدهم يعترفون بنبوة جميع الأنبياء وانهم رسل من عند  .
ثانياً: اهل الكتاب وهذا الطرف مركب من اليهود والنصارى.
والتعدد لا ينحصر بالإنتماء والاسم والملة، بل بالرأي والقول فيما يخص التوحيد والخروج عن قواعده، فترى الغلو في أشخاص الأنبياء او الإفتراء عليهم عند جماعات من اهل الملل ، فتأتي الدعوة الى كلمة سواء سبيلاً سماوياً كريماً للتخلص منهما، كما ان الأنبياء جميعاً جاءوا بها، فهذه الدعوة تذكير بما جاء به الأنبياء الذين يتبعهم ويعمل بشرائعهم اليهود والنصارى.
ولم تقل الآية (سواء لنا ولكم) بل جاءت بلفظ (بين) لإفادة الوصل والإلتقاء والتقارب، ولتكون حكماً ورقيباً ومرجعا لتوجيه الأعمال ومانعا من الفرقة والخصومة والتنازع.
وجاءت بصيغة الجمع (بيننا وبينكم)، لإرادة صفة الملة والعقيدة والدوام فمع ان الآية بدأت بلفظ (قل) الا انها قالت (بيننا) لإرادة المسلمين، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم نيابة عن المسلمين جميعاً الموجود منهم والمعدوم، وفيه تأديب للمسلمين وارشاد الى لزوم التقيد بما عقده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العهود والمواثيق وما دعا اليه من مضامين الإتحاد والوصل ومنها الإلتقاء مع أهل الكتاب على كلمة التوحيد، فهذه الدعوة باقية الى يوم القيامة.
ومن الآيات ان المسلمين يتلونها في صلاتهم وعند قراءتهم للقرآن فتجدد طوعاً وانطباقاً، وهي دعوة متصلة لأهل الكتاب، وفي هذا التجدد والإتصال ترغيب بها وبيان لعظيم نفعها، فكل جيل يأتي من المسلمين واهل الكتاب، يجد هذه الدعوة أمامه، المسلمون ينادون بها، واهل الكتاب يدعون لها، لتصبح سبباً لمعرفة الحال والمقام الشخصي في ميزان العقائد.
فتملأ السكينة نفس المؤمن لأنه قام بالدعوة الى  وطلب من أهل الكتاب الإلتقاء على كلمة التوحيد وهو قانون سماوي ثابت في الأرض، اما الكتابي فانه يتلقى الدعوة الى ما جاء به الأنبياء، لتكون امتحاناً له ومناسبة لمعرفة وجوه الإلتقاء او التباين بين ما جاء به الرسول الذي يتبعه، وبين الواقع الذي هو عليه ومدى التصاقه بكلمة التوحيد او بعده عنها.
لقد جعلت الآية لأهل الكتاب كياناً مستقلاً بقوله تعالى (بيننا وبينكم) وهذا من الآيات في الفقه الإسلامي وفيه حث للمسلمين على الإقرار بملل اهل الكتاب واخبار عن امكان التقارب معهم على أسس مبادئ التوحيد، وتؤدب الآية المسلمين على لغة التفاوض والتفاهم وعقد الصلح ووضع الشروط المناسبة، فالآية تتضمن شروطاً واحكاماً خاصة.
الثاني: حصر العبادة به تعالى، فلا يعبد المسلمون واهل الكتاب الا  تعالى، وهذا هو جوهر الإلتقاء، وماهية الكلمة التي يلتقي عندها الجميع، وهي الغاية التي يجاهد من اجلها المسلمون، ارادها  ان تكون مادة لجذب اهل الكتاب الى الإسلام وجعلهم ينظرون الى احكامه من منظار القرب وبصيغ الود وعدم النفرة للإلتقاء بمبادئ التوحيد.
الثالث: إجتناب الشرك والضلالة، كمقدمة للإخلاص بالعبادة ونتيجة لها .
الرابع: الإشارة إلى عدم التهاون مع الضلالة مضمونا ومذهبا .
لقد نال المسلمون الشرف العظيم بالسبق الى التوحيد والدعوة اليه، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على وجوب العبادة وان الإنسان يجب ان يكون عابداً وهذه العبودية لا تصلح الا لله تعالى، فلا يجوز ابداً اتخاذ غيره معبوداً، والتقاء المسلمين واهل الكتاب على هذا المبدأ تقويض لأركان الشرك، وتنحية لمفاهيم الكفر والضلالة عن الواقع والوجود الذهني.
ومن اعجاز الآية انها تبين خطورة وأهمية الصراع مع الكفار وافكار الضلالة وتدعو الى مواجهتها من قبل الموحدين، وعدم دخولهم في صراعات وحروب بينهم، لأن الحروب تؤدي الى الضعف والخسارة، وينتفع منها الأعداء، أي لو استمرت الحروب والمعارك بين المسلمين واهل الكتاب فان الكفار والمشركين هم الذيــن يســتفيــدون منهـا، لا أقل بتركهم مقيمين على الشرك، وبقاء دبيب الكفر يتسرب الى المجتمعات.
وهذه الآية مدنية أي انها نزلت في ايام قوة الإسلام، وانتشار مبادئه واتساع رقعته مما يعني ان الآية لم تنزل عن ضعف عند المسلمين سواء في العدة او العدد او المبادئ ولم تشهد ايام الإسلام تراجعاً او انحساراً او هزائم في المعارك.
فمجيء الدعوة عن قوة وعز يدل على انها ليست للتقية، او على نحو مؤقت وهذا من آيات القرآن التي يعتز بها المسلمون وفيه دلالة بان أحكامه ثابتة الى يوم القيامة.
ولقد نزلت الآية واهل الكتاب القريبون مكاناً من المسلمين انذاك هم:
أولاً: اليهود الذين في المدينة.
ثانياً: نصارى نجران .
اما اليهود فقد شهدت تلك السنوات هزيمتهم وخسارتهم كما في واقعة خيبر، وتسليمهم فدكاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير قتال ، اما نصارى نجران فقد ولوا معرضين من المباهلة، ورضوا باعطاء الجزية مذعنين، ومع هذا جاءت الآية لدعوتهم الى كلمة التوحيد والإتفاق على حصر العبادة به تعالى.
والدعوة واخبار البعثة النبوية لم تنحصر بهذين الفريقين بل وصلت الى الحبشة قبل الهجرة، كما وصلت رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة الى الإسلام الى قيصر .
وفي الآية اخبار عن اقامة المسلمين على عبادة  تعالى وعدم الشرك به، وفيها اشارة الى تخلف اهل الكتاب عن عبادة ، فلو كان أهل الكتاب موحدين يؤدون الفرائض والمناسك لما جاءت هذه الآية لدعوتهم الى التوحيد وحصر العبادة به تعالى، ومن الإعجاز في الآية انها لم تبين نوع العبادة ومصاديقها وافرادها فلم تطلب منهم اقامة الصلاة واداء الزكاة والصيام والحج، ولكنها اكدت على عبادته تعالى، نعم الصلاة امر جاء به الأنبياء كلهم، وفي عيسى ورد قوله تعالى [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ]( ).
ومع ان حصر العبادة بالله ينفي الشرك، فان الآية جعلت عدم الشرك شرطاً وذكرته على نحـو الخصوص للتوكيد ومنع اللبس، ولأنها في مقام التأديب والإرشاد ولبيان حقيقة وهي عدم اجتماع عبادة  مع الشرك والضلالة، ومن يختار عبادة  يجب عليه ان يجتنب كل مضامين الشرك، لقد أرادت الآية اظهار الجميع اخلاص العبادة لله تعالى.
وهذا من اعجاز القرآن ان يكون الإلتقاء على أهم الأمور العقائدية وهو اتفاق على الجامع المبارك بين الفريقين.
نعم تتباين وجوه العبادة بين المسلمين وغيرهم من اهل الكتاب بلحاظ التنزيل وأحكام الشريعة، لتتجلى من خلاله وجوه الإتقان والحكمة الإلهية في أحكام الفرائض في الإسلام وما لحق غيرها عند الملل الأخرى من التحريف، ولكن هذا التحريف لم يمنع من نزول الأمر السماوي بالإلتقاء في عبادته تعالى ليكون عنواناً للرحمة والرأفة بأهل الكتاب التي تتضمنها آيات القرآن، ولم ترقَ دعوة سياسية او دولية الى هذا المستوى، وما فيه من الإرتقاء ووجوه الحكمة.
لقد أراد   بالقرآن اعادة الناس الى الفطرة التي خلقوا عليها، قال تعالى [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ]( ).
ولم تكتفِ الآية بالإشارة الى عدم الشرك، بل انها أكدت على انتفائه موضوعاً وحكماً، ما ظهر منه وما خفي، لذا قالت [وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا] فبعد اظهار المسلمين الإخلاص في العبادة وتثبيت الفرائض واقبالهم على الصلاة والزكاة والصيام والحج توجهوا الى الملل الأخرى فقصدوا اهل الكتاب لأنهم من اتباع الأنبياء، ولم تتوجه الدعوة الى المشركين والكفار لإقامتهم على الكفر وعدم اقرارهم بالنبوة والتوحيد ومع هذا فالقرآن لم يتركهم لأن عبادة  وعدم الشرك به واجب على كل انسان، وقد دعاهم المسلمون الى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة وبالسيف ايضاً.
اما أهل الكتاب فان هذه الآية تدعوهم الى عبادة  وتدل بالدلالة الإلتزامية على اقرارهم على دياناتهم ما داموا متقيدين بعبادة ، لتتجلى حقيقة تأريخية وهي تثبيت المسلمين للعبادة ، وانهم خلفاء  في الأرض ويؤدون وظيفة مركبة من:
اولاً: عبادة  والإخلاص في عبادته.
ثانياً: دعوة الناس الى عبادة ، وهذه الدعوة متعددة كل بحسبه، وقد جاءت هذه الآية خاصة بدعوة اهل الكتاب الى عبادته تعالى وعدم الشرك به.
ومن الناس من يعبد  ولكنه يجمع معها عبادة الأوثان والتقرب بها الى  زلفى، او يتقرب بعبادة الملائكة او بعض الآيات الكونية كالشمس والقمر، او يعبد الرهبان والملوك والسلاطين وينقاد لهم بما يخالف احكام الشرائع السماوية ، فجاءت هذه الآية لتنهى عن الشرك، وتدعو الى عبادة  عبادة خالصة خالية من مفاهيم الشرك والرياء.
ثالثاًً: النهي والتحذير من اتخاذ الأرباب من بين الناس، فالربوبية لله تعالى وحده، ولكن لماذا جاء هذا الشرط والتوكيد الجواب ان القرآن يفسر بعضه بعضاً، وورد قوله تعالى [ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
فجاءت هذه الآية لتمنع من الإصغاء للرهبان في غير مرضاة .
روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : يا عدي إطرح هذا الوثن من عنقك.
قال : فطرحته ، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) حتى فرغ منها ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم ! فقال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ قال : فقلت بلى قال : فتلك عبادتهم( ).
ومن الإعجاز ان جاءت الآية بصيغة تخاطب الجميع [وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا] فتشمل الذي يتخذ غيره رباً، والذي يتخذه الآخرون رباً، لأن الآية في مقام النصح والإرشاد والدعوة الى الصلاح ونبذ الفساد والإفساد في الأرض.
وان لا يكون التولي من الإحتجاج والمباهلة سبباً للبقاء على الشرك والضلالة والإنقياد للرهبان بغير طاعة  ، وجاءت الآية بنفي الربوبية لغير  مع قيد [مِنْ دُونِ اللَّهِ] وفيه معنيان:
الأول: لا تكون الربوبية لغير  الا من دونه.
الثاني: ان الشرك بالله تارة من دونه واخرى مع اتخاذ الشريك رباً بقرينة ورود لفظ الشرك والزجر عنه.
ويشملهما مضمون الآية لأن الشرك له مراتب متفاوتة، وجاءت الآية للتحذير منه مطلقاً، وكل شرك يصدق عليه انه من دون  ولو على نحو جهتي وبخصوص موضوع معين، فمن يطيع المخلوق في غير مرضاة  في فعل مخصوص فقد اتخذه رباً من دون .
لأن الإرادة الإلهية جاءت بعبادته تعالى في كل الأمور والأحوال، والعبادة أمر بسيط لا يقبل التجزئة والتعدد.
لذا فان قيد [مِنْ دُونِ اللَّهِ] آية اعجازية تتضمن الدقة في مضامين شرط الإلتقاء وانه لم يقم على الحد الأدنى بين الفريقين بل على الأصول الثابتة التي لاتقبل التفريط باقل فرد منها، وتحذر الآية سلاطين وملوك ورهبان أهل الكتاب بعرض واحد مع العامة منهم وتدعوهم الى التوجــه الى عبادة  فبدل ان ينقسم اهل الكتاب او شطر منهم الى فريقين فريق يتخذ مقام الربوبية والأمر والنهي بغير ما انزل ، وفريق ممتثل ومنقاد له، فان الآية جاءت بدعوة مركبة من قسمين:
الأول: دعوة القادة والملأ من أهل الكتاب لعبادة  واجتناب التصرف والأمر بغير ما أمر  به.
الثاني: الأمر الى عامة اهل الكتاب بعد الإنصياع والإمتثال للملوك والرهبان اذا جاء امرهم بغير ما انزل  وخلاف مضامين التوحيد منطوقاً ومفهوماً.
ومتى ما رأى العامة القادة والرهبان منقادين لأمر  ويتجنبون معصيته فان الخشية منه تعالى تملأ صدورهم، ويصبحون حريصين على عبادته والعمل بطاعته، ولكن اختيارهم لعبادته تعالى يتوقف على صلاح القادة والرهبان.
لذا فان الخطابات التكليفية جاءت للناس جميعاً، والدعوة الى عدم الشرك بالله موجهة لعموم اهل الكتاب فاذا اختار القادة والرهبان الدنيا وزينتها وواجهوا الإسلام بالصدود والعناد فان الخطاب للعامة يبقى على حاله لأنه انحلالي موجه لكل مكلف على نحو مستقل يدعوه لعدم الشرك بالله، بالإضافة الى المسؤوليات العامة للفرد والجماعة فأفراد العامة يلحظون ما عليه اصحابهم، وما يكون عليه القادة والرهبان في مقامات العبودية ويذمون الإنحراف عنها خصوصاً اذا كان صادراً من أهل الحل والعقد وذوي الشأن.
لقد جاءت الآية لمخاطبة العقول وبيان المنافع العظيمة للناس جميعاً بتثبيت دعائم التوحيد في الأرض.
ومن المتسالم عليه عقلاً وشرعاً ان القادة والأئمة في الدين هم الأسوة والقدوة التي يتبعها العامة، وتبين الآية انفراده تعالى بالربوبية ووجوب عبادة الخلائق له، فليس من أحد الا وهو دونه وكل ما عداه ممكن وحادث، لذلك جاء الوصف [مِنْ دُونِ اللَّهِ] وفيه توبيخ للمشركين، وذم لمن يتخذ ارباباً من الخلائق، وتحث الآية القسيسين والرهبان بان لا يرضوا ان يتخذهم العامة ارباباً من دون  أوان يطيعوهم بغير مرضاة .
وتدل الآية في مضمونها على ان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر الا بطاعة  وانه عبد لله  وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: اتخذني  عبداً قبل ان يتخذني نبياً” ليكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اسوة حسنة للمسلمين ولأهل الكتاب والناس جميعا يقتدون به في ميادين العبودية واظهار معاني الخشوع والخضوع لله تعالى.
وتتضمن الآية مفاهيم التحدي لأهل الكتاب، فاذا كانوا صادقين في ادعائهم الإنتساب الى رسالات السماء فليظهروا صدق العبودية لله تعالى، ويبتعدوا عن الشرك والضلالة ، والأمر بعبادته تعالى جاء بها كل الأنبياء السابقين، ففي الآية مسائل:
الأولى: توكيد صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: انه جاء بشريعة جديدة وليس تابعاً للشرائع التي جاء بها الرسل السابقون.
الثالثة: الإخبار عن وجوه الإلتقاء بين الرسالات خصوصا وأنها تتقوم بعبادة   وضرورة الإمتثال لأوامره.
وبلحاظ اثر الدعوة الى التوحيد الواردة في الآية والصلة مع الإسلام وجوه:
الأول: الآية دعوة لأهل الكتاب لدخول الإسلام.
الثاني: في الآية دعوة للناس جميعاً للإسلام ومعرفة أحكامه.
الثالث: تدعو الآية شطراً من أهل الكتاب لدخول الإسلام بالتخلص من سلطان الرهبان الذين يأمرون الناس بطاعتهم في غير مرضاة .
الرابع: ليس في الآية دعوة لدخول الإسلام، لأن الحث على الإلتقاء على الجامع الضروري وهو التوحيد، اقرار باستقلال اهل الكتاب في ملتهم وشأنهم، واذا كانت هناك دعوة لدخول الإسلام فيمكن استقراؤها واستفادتها من آيات أخرى.
الخامس: ان القرآن يدعو الى دخول الإٍسلام، ومن يؤمن بالتنزيل والآيات التي جاء بها رسول  محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من الدعــوة الواردة في الآيـة بالتخصص لأنه يصبح مسلماً.
السادس: التصدي للدعوة الى عبادة  وحده جذب ودعوة لدخول الإسلام، وليس من ملة او فرقة دعت غيرها لعبادة  وعدم الشرك به الا الإسلام، فقد جاء القرآن بهذه الدعوة ليكون فيها توكيد على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه جاء لينزه الأرض من براثن الكفر والشرك.
والآية شاهد على رأفة ورحمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأهل الكتاب فهو لم يجعلهم ينغمسون في الضلالة واتخاذ بعضهم بعضاً ارباباً ليكون هذا الإنغماس شاهداً على انحرافهم عن نهج الأنبياء، بل جاءت الآية لإنقاذهم واصلاحهم ومنعهم من الفساد، والإفساد الذي يظهر بالشرك والضلالة والجحود.
والآية من مصاديق قوله تعالى [ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ]( ) ، فالآية رحمة بالمسلمين لأنها تجعلهم القادة والأئمة للدعوة الى التوحيد، وهي رحمة بأهل الكتاب لأنها تحثهم على عبادة  ونبذ الشرك وتحذرهم من مسألة ابتلائية يومية وهي ان طاعة الرهبان والقادة في غير مرضاة  شرك ، كما أنها رحمة بالناس جميعاً لما فيها من دعوة اهل الكتاب الى عبادته تعالى، مما يدل بالأولوية على دعوتهم الى التوحيد وطاعة .
وما في الآية من مضامين الرحمة لا تنحصر بزمان دون زمان بل تتغشى الناس على مختلف ازمنتهم وامصارهم لتكون حجة وآية جهادية تمنع من التعدي على الإسلام، وتجعله يتصف بخصائص عقائدية غير موجودة في ملة أخرى من الملل السماوية، ويكون هو الإمام بقيادة الناس في مسالك التوحيد.
بحث بلاغي
من البديع الإيضاح بعد الإبهام وهو علم لطيف اذ يتعقب البيان والإيضاح صيغة الإبهام، وهو مناسبة للتدبر ودفع اللبس والوهم، وذكرت له أمثلــة كثيرة في القرآن، وقد لا يصــدق هــذا العنوان على آيات القرآن بخصوص شطره الأول أي الإبهام، فليس في القرآن ابهام وقال السيوطي ومن أمثلته [رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ]( )، فان (اشرح) يفيد طلــب شرح شيء ما، وصدري يفيد تفسيره وبيانه، وكذلك [ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ]( ) والمقام يقتضي التأكيد والإرسال المؤذن بتلقي الشدائد( ).
ولكن هذا المثال لايدل على الإبهام، فالقدر المتيقن من صدق عنوان الإبهام فيما اذا جاءت الجملة كاملة مبهمة، اما الفعل وحده كما في (اشرح) فانه لا يدل على الإبهام.
ومن الإيضاح بعد الإيهام “التفصيل بعد الإجمال” ويمكن ان يكون هذا العنوان مستقلاً أي تكتفي باصطلاح “التفصيل بعد الإجمال” وجعله قسيماً للإيضاح بعد الإبهام وليس قسماً منه للتباين بين معنى الإبهام والإجمال، وللإقرار بوجود المجمل والمبين في القرآن، بخلاف المبهم وخلو القرآن منه.
وقد جاءت هذه الآية بدعوة اهل الكتاب الى كلمة سواء بين المسلم وبينهم، على نحو مجمل ثم بينت خصائص وتفاصيل وجوه الإلتقاء فيما بينهم، بما يؤدي الى تثبيت أركان التوحيد في الأرض .
ومن البيان والتخفيف عن الناس في القرآن مجيء التفصيل في ذات الآية التي تضمنت الإجمال ليتحقق النفع التام منها، ولمنع اللبس والوهم، والحاجة الى البحث عن التفصيل في سور وآيات القرآن الأخرى خصوصاً وان موضوع الآية يتعلق بالمسلمين وأهل الكتاب، وقد لا يكلف غير المسلم نفسه الرجوع الى الآيات الأخرى للربط بينها وبين هذه الآية، ومن اعجاز القرآن ان يأتي التفصيل في ذات الآية لتكون حجة ورحمة ورأفة.

قوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا]
تدل الآية في مفهومها على ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بالتبليغ وان الدعوة تصل الى أهل الكتاب بما يجعلهم قادرين على الإستجابة او الترك، وهذا من الآيات أي ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلن الدعوة فتصل الى أهل الكتاب في كنائسهم ومنتدياتهم ومساكنهم وأنهم لم يستطيعوا تجاهلها والإعراض عنها بل لابد وان يختاروا أزاءها أحد أمرين، اما القبول والإستجابة والرجوع الى العبودية المحضة لله تعالى ليفوزوا بمرضاة المعبود الحقيقي، او الفرار والإنهزام من الدعوة ومضمونها.
أي ان التولي امر وجودي وليس عدمياً او عن جهالة وغفلة، ومن الإعجاز في هذه الدعوة ومصاديق الإصطفاء وجوه:
الأول: لم تجعل الأحبار والرهبان وسائط بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين عموم أهل الكتاب.
الثاني: وضــوح مضــامين الدعوة وجلاء معانيها فليس فيها لبس او خفاء.
الثالث: يستطيع كل كتابي ان يعرف مضامينها، فحينما يسمع لفظ (أهل الكتاب) يعلم انه مقصود بالدعوة لأنه يفتخر بانتسابه الى كتاب سماوي سواء كان التوراة بالنسبة لليهودي او الإنجيل بالنسبة للنصراني.
فمن الإصطفاء اختصاصهم بعنوان واسم جامع يتضمن معاني التشريف، ومع الإبتعاد عن أصل أحكامه والميل الى اتخاذ اولياء من دون ، او نسبة الإلوهية الى عيسى  فان   يتفضل بذات الإكرام من جهة التسمية ولم ينزع عنهم هذا التشريف بل يسميهم باسمهم اهل الكتاب بلحاظ انتمائهم له وتقيدهم بشطر من أحكامه، ولا يضر التحريف في أصل التسمية ولا يعني هذا ان التحريف يكون مستهلكاً فيه، بل هو أجنبي عن الاسم والمسمى، ويتعلق الاسم بالأصل غير المحرف من التوراة والإنجيل.
الرابع: اختصاص اهل الكتاب بالدعوة وما فيها من مضامين التشريف.
الخامس: المقاصد السامية في الدعوة النبوية، وهي فرار الى  فلا يصح الفرار منها.
السادس: في الآية تذكير بموضوع الإنتساب الى الكتاب وما يمليه من الإستحقاق.
السابع: الآية حصانة لذراري ابراهيم  وأهل الكتاب من شياطين الإنس والجن.
الثامن: تفضح الآية عداوة الكافر للإنسان، واذا كانت عداوة الشيطان خفية، فان عداوة الكافر ظاهرة بينة لأنه يحاول صد الإنسان عن أهم واجباته وأسناها وهي الإقرار بالوحدانية لله تعالى.
التاسع: في الآية حجة على أهل الكتاب في حال الإعراض عن الدعوة الى التوحيد لأن قبولها واجب لوجود المقتضي وفقد المانع.
العاشر: تبين الآية قاعدة كلية وهي ملازمة التوحيد للكتاب المنزل فتسميتهم بأهل الكتاب حجة عليهم بلزوم عدم رد هذه الدعوة، فكل من كان من أهل الكتاب المنزل يجب ان يرضى بالدعوة الى التوحيد والإقرار بالربوبية لله تعالى وعدم اتخاذ رب غيره، فكما ان تسميتهم بأهل الكتاب تشريف لهم، فانها حجة عليهم، وتحذير من التفريط بواجباتها.
فجاءت هذه الدعوة لتثبيت الاسم والمسمى وليس الاسم وحده، وهذا من اعجاز القرآن وما فيه من الإصلاح للناس جميعاً، فكأن الآية تقول لهم كونوا أهل كتاب اسماً ومسمى، وقولاً وفعلاً، وان الكتاب السماوي جامع لنا جميعاً وقد تقيد المسلمون بكلمة التوحيد فتقيدوا بها انتم ايضاً وهذا التوكيد من الإصطفاء والإكرام.
وجاء لفظ (التولي) بصيغة الجمع مما يؤكد بلوغ الدعوة لهم وان الإعراض الفردي والمتحد عن الدعوة لا اعتبار له لأنه فرد نادر، وعلى المسلمين ان يلحظوا في قبول الدعوة او عدمه الجماعة والفرقة وفيه توكيد للتوجه لهم جميعاً قدر المستطاع من غير استثناء، للحجة وايصال هذه الدعوة وما فيها من النعم والمنافع الى الجميع ولأن الأمر الإلهي جاء بصيغة الجمع وهو يفيد الإطلاق والعموم.
وليس من قوة تستطيع تبليغ دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الجميع الا القرآن بحفظ   له، فلذا جاءت الدعوة في القرآن على نحو بين، وليقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الدعوة لكل يهودي ونصراني ذكراً او انثى وفي كل زمان ومكان وبواسطة القرآن.
قانون التوحيد
يفتقر الممكن الى مؤثر به قائم بذاته، لعدم تحقق وجود الممكن او عدمه من غير سبب وامر وارادة خارجة عنه، فكل ممكن محتاج الى غيره، والعالم حادث فلابدمن محدث له ، واجب بذاته لا يفتقر الى غيره ابدا، وهو علة الوجود، وهو   الذي تحتاج اليه الخلائق كلها ولا يحتاج الى شيء منها، احاط بكل شيء علماً وأتقن المخلوقات، ولا تستعصي عليه مسألة، وهو القديم الذي لا أول له يحده ببداية والأزلي والأبدي الذي لا نهاية لوجوده في المستقبل.
وتفضل وخلق الإنسان لتتجلى فيه آيات العبودية والخضوع له تعالى، فترى الملائكة عبادته مع ما عنده من العقل والشهوة وحالة الصراع بينهما فتدرك بديع صنع الله، وظهرت معاني القدرة الإلهية المطلقة بان جعل الثواب والعقاب غير متناهِ في زمانه، وجعل له عالماً مستقلاً، وجعل بينه وبين الدنيا برزخاً لا أحد من الناس يعلم مدته وزمانه الا ان الجميع متفقون على طوله وكثرة احقابه، وهو ظاهر بلحاظ المدة بين زماننا واول خلق الإنسان فليس من فترة بين عالم الدنيا وبدايات عالم البرزخ الا المدة المحصورة ما بين خلق وهبوط آدم الى الأرض، وبين قتل قابيل لهابيل، فبالأول بدء عالم الدنيا وبالثاني بدء عالم البرزخ ليسيرا بعرض واحد مع مرور الوفود من الأول على الثاني دون العكس في آية في الخلق والإرادة التكوينية واختبار للناس ودعوة لهم لعبادته.
والتوحيد مصاحب لعالم الدنيا والبرزخ والآخرة، فليس من عالم الا ويتغشاه التوحيد، ويتوجه فيه الخطاب التكليفي للإنسان بعبادته تعالى وعدم الشرك به، وتفضل سبحانه وبعث الأنبياء وانزل الكتب لتنبيه الإنسان الى واجباته ازاء الخالق، ورزقه العقل وجعله دليلاً للهداية وسبيلاً للرشاد، ومعلماً ذاتياً ملازماً يدعو صاحبه للتوحيد ويبين له حسن العبادة، وقبح الشرك والضلالة، ثم تفضل سبحانه وانزل القرآن ليكون داعياً الى التوحيد، وطاعة .
وجاءت الدعوة فيه للإسلام واداء الفرائض والعبادات اما هذه الآية فجاءت بدعوة خاصة لأهل الكتاب، للإلتقاء في مضامين التوحيد وعدم الشرك بالله ، باعتبار ان التوحيد علة خلق الإنسان وسبب دوام الحياة على الأرض، والجامع المبارك الذي نزلت به الكتب السماوية، فكل من يتبع كتاباً سماوياً يجب ان يؤيد هذه الدعوة وينضوي تحت لوائها ويعمل بما فيها من أحكام التوحيد، والأصل ان يكون متقيداً بمضامينها قبل ان ينزل القرآن ويبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للملازمة بين الكتاب السماوي وبين الدعوة الى التوحيد، ولأن كل كتاب سماوي شاهد على انفراده تعالى بالربوبية وداعياً الى عبادته وطاعته والإمتثال لأوامره.

قوله تعالى [فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ]
خاتمة الآية تشريف واكرام للمسلمين من وجوه:
الأول: بيان ثبات المسلمين على الإيمان وعدم تخليهم عن مبادئه وان أعرض اهل الكتاب عن الدعوة الى التوحيد.
الثاني: يعتبر اهل الكتاب أقرب الملل الى المسلمين في مضامين التوحيد لأن الكتاب السماوي عنوان جامع وشاهد على الإلتقاء في العمل بأحكام السماء، ومع هذا فان اعراضهم لن يضر المسلمين في عباداتهم وعقائدهم والتزامهم بأحكام التوحيد، وفيه دلالة على استحقاق المسلمين لخلافة الأرض والتي لا تتقوم الا بالتوحيد، فكأن المسلمين يدعون اهل الكتاب للشركة في الخلافة بالتفاني المحض في العبودية لله والعمل بأحكام السماء، فكما هبط آدم الى الأرض وفيه من روح ، فلابد ان تكون العبودية لله ملازمة لخليفته فيها.
الثالث: تدل الآية في مفهومها على عدم الإنتفاع من أهل الكتاب ممن يعرض عن الدعوة الى التوحيد، وتمنع من ايذائهم والبطش بهم بسبب اعراضهم عن دعوة التوحيد، لأن هذا الإعراض ليس على نحو السالبة الكلية او بالأصل، بل جاء بالعرض وعلى نحو التقصير بادخال الشوائب العقائدية ، خصوصا وأن الآية تدل على إتصال الدعوة.
الرابع: تنتزع الآية شهادة من أهل الكتاب بصدق عبودية المسلمين لأنهم ملتزمون بأحكام التوحيد والرسالة ومضامين الكتاب السماوي.
الخامس: خاتمة الآية تتصل باولها بالإشارة الى ان الدعوة الى التوحيد موجهة لأهل الكتاب وان المسلمين متقيدون باحكامها قبل الدعوة وبعدها.
السادس: هذه الشهادة تنفع اهل الكتاب أنفسهم، فمتى ما أرادوا جماعة أو افراداً قبول الدعوة واظهار صدق العبودية لله فان المسلمين يدعونهم اليها.
السابع: من أراد ان يعرف معنى العبودية وماهية الإسلام والتصديق بالكتاب السماوي فعليه ان ينظر ويقتبس من سيرة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن: جاء أول الآية بالأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة فعل الأمر (قل) وما فيه من التكليف والتبليغ وتحمل الأذى والعناء من اهل الصدود والعناد، ورد بعضهم باننا موحدون وان هذه الدعوة تحصيل لما هو حاصل فجاءت الآية بالتفصيل ونبذ الشرك واتخاذ الأرباب من الناس.
التاسع: جاءت الخاتمة لتكون خطاباً عاماً للمسلمين ودعوة لهم للثبات على الإسلام ومبادئه وعدم التأثر بصدود أهل الكتاب من دعوة التوحيد.
العاشر: تبين الآية ان دعوة أهل الكتاب وظيفة المسلمين او ان ردهم عليها يهم المسلمين جميعاً، فيقوم بالدعوة الى  النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وهم منهمكون باداء مناسكهم، او يوجه الدعوة بعض فقهاء المسلمين وهم منشغلون بعباداتهم مع طلب الشهادة والإقرار من اهل الكتاب على تقيدهم أي المسلمين بأحكام التنزيل.
الحادي عشر: اظهار المسلمين للمناسك والعبادات في أقوالهم وأفعالهم فيراها الكتابي وغيره.
الثاني عشر: الآية دعوة متكررة لأهل الكتاب بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، فلا يصح لأحد ان يعرض عن دعوة التوحيد ويتصدى لآيات النبوة ، وكأن الآية تقول لأهل الكتاب ان لم تقبلوا بالدعوة العامة الى التوحيد فاعترفوا باسلامنا وهذا الإعتراف باب لطرد الخصومة واجتناب القتال بين المسلمين وبينهم فاذا كان المؤمن الذي يدعو الى التوحيد يقابله الطرف الآخر بعدم الإستجابة والإفتراء عليه ونفي اسلامه فهذا الإفتراء تعد وظلم ومحاربة للتنزيل.
الثالث عشر: شهادة أهل الكتاب واقية من الفتنة والقتال ، وهي اقرار باتباع المسلمين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووثيقة تأريخية تنفع مع تقادم الأيام والسنين.
لقد بدأت الآية بالأمر الإلهي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وأختتمت بالأمر الإلهي (فقولوا) من غير ان يكون هناك تعدد في موضوع الآية وصيغ الخطاب فيها، وليس فيها التفات بمعناه البلاغي مما يبين حقائق قرآنية وقواعد كلية هي:
الأول: مجيء الخطاب القرآني للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد المسلمون جميعاً، فقوله تعالى “قل” أي قولوا”
الثاني: الإسلام صبغة تتغشى المسلمين جميعاً.
الثالث: في الآية تحدِ لأهل الكتاب وغيرهم، لما فيها من التوكيد بان المسلمين على نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: ان الإسلام هو سبيل النجاة وطريق الهداية، وهو المانع من الغواية والضلالة.
الخامس: حث المسلمين وإلى يوم القيامة على التقيد بنهج رسول  ، وعدم اللجوء الى البطش بسبب الإعراض عن الدعوة إلى التوحيد .وقوله تعالى “فقولوا” خطاب للمسلمين جميعاً الموجود والمعدوم، وفيه بشارة توارث مبادئ الإسلام وثبات أجيال المسلمين على مبادئه وتعاهدهم لفرائضه وسننه .
واشارة لما يتصف به المسلمون من البقاء على الإسلام وعدم الخروج عن أحكامه، وخاتمة الآية تدل على بقاء دعوة المسلمين لأهل الكتاب مفتوحة ومستمرة الى يوم القيامة.
قانون الكتاب
لقد جعل  الكتاب السماوي رحمة لأهل الأرض ، والكتاب السماوي بلحاظ جهة النزول على أقسام:
الأول: الكتاب النازل للنبي في عمله ومناسكه وأفعاله العبادية، وقد ورد انه نزل على آدم
الثاني: الكتاب النازل على امة او اهل ملة مخصوصة كما في التوراة.
الثالث: الكتاب النازل للناس جميعاً، وهذه الخصوصية ينفرد بها القرآن ولكن القسمين الأوليين خاصان في نزولهما وعامان في دلالاتهما ونفعهما وأثرهما المبارك.
لقد أبى   الا ان يكون الكتاب السماوي ملازماً للإنسان في الأرض، والكتاب من عالم الأمر، وهو أعظم العوالم الربوبية، وكله شهود ودعوة الى  تعالى، ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ووارث علم الأولين والآخرين جاء القرآن جامعاً للعلوم والأحكام ، وجامعاً للحجج والبراهين التي تجذب الناس اليه، وتجعل نفوسهم تشتاق لما فيه من المضامين والدلالات.
والكتاب شاهد على اصطفاء  تعالى الإنسان لخلافته في الأرض فلم يتركه وحكم العقل والعرف والوجدان، بل جعل الحكم له تعالى في الأرض، وهو دعوة لتقريب الناس الى رحمته.
ومن الآيات أن اقسام التنزيل كلها تجتمع في القرآن ، فكل العلوم التي ذكرتها الكتب السابقة جاءت في القرآن بابهى لسان وأعذب الألفاظ وأكمل العبارات ليدرك الإنسان انه يتنعم باللطف الإلهي غير المتناهي، لقد أصبح الكتاب السماوي خير صاحب للإنسان في حياته وهو شفيع له في آخرته.
والدرس اليومي المتجدد في سلم المعارف والسياحة في عالم الملكوت، لذا فان حفظ القرآن من التحريف او الضياع او التغيير امر الهي ثابت في الأمكنة المختلفة وافراد الزمان الطولية، قال تعالى [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون ]( ).
قانون عدم النفرة
لقد أنزل  القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون ميثاقاً سماوياً وعهداً متضمناً للأحكام ومبادئ الإسلام، وقد نزلت من قبله الكتب وتعاهدتها الملل الأخرى وتخلف أهل الكتاب والمشركون عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتدبروا الآيات الحسية التي جاء بها ولكن  تفضل وأنزل عليه الآية العقلية العظمى التي تتجدد الاؤها ما كر الجديدان، ويدعـو اهله وحملته للإستقرار في حضرة الملك الجبار، بل ان هذه الدعوة عامة للناس جميعاً، ويعتبر القرآن كنز السماء في الأرض وخزينة الملكوت وضعها الملائكة بيد الإنســان بعــد ان نزل به جبرئيل من عند  والقانون عام يشمل الكتب والصحف السماوية النازلة على الأنبياء ولكن القرآن يرقى عليها بانه جاء ليكون ملازماً للناس كافة والى يوم القيامة.
وكل جيل من المســلمين وغير المســلمين يدينون بالفـضل الى الأجــيال الســابقة من المســلمين التي تعاهــدت حفــظ القــرآن ومنعت يد التحريف من أن تطاله وهذا لا يتعارض مع كون الحفظ وأصله من عند ، لأنه سبحانه يسخر جنوداً للحفظ ليكون لهم ثواب العمل العبادي وصيانة التركة القدسية وبقاء كلامه تعالى بين عباده لطفاً منه تعالى.
والقرآن مائدة السماء في الأرض لذا حببه  الى النفوس وطرد النفرة منه ومنع الشيطان من ان يكون برزخاً وحائلاً بينه وبين الناس، فمن كرمه تعالى ان يجعل مائدته في متناول الجميع فكل من أراد ان يأخذ او ينهل او يدخر منها فهل مبذولة له، كما ان الأخذ من علوم القرآن لا ينقص من خزائنها شيئاً، ومن كرمه ولطفه تعالى ان يجعل تجاذباً تاماً بين القرآن والناس، وهذا التجاذب يشتد تارة ويضعف أخرى، ويقوى عند قوم وهم المسلمون، ويضعف عند غيرهم، ولكن طرف التجاذب الآخر من جهة القرآن متوجه بعرض واحد للناس جميعاً.
ومع اعراض الكافرين عن أحكامه فانه يتودد اليهم بخطاباته [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] [يَابَنِي آدَمَ] كما انه خاطب أهل الكتاب بأحسن الأسماء ودعاهم بأفضل الإلقاب ونسبهم الى الكتاب السماوي في دعوة للمسلمين للرفق بهم ولإخبار الناس جميعاً بوجود صلة قدسية بين المسلمين وأهل الكتاب يمكن ان ينتفع منها الطرفان أو أحدهما في أي وقت.
وترى في القرآن كثرة ورود الأسماء الحسنى التي تحمل مضامين الرحمة والرأفة بما يجعل النفوس لا تنفر منه، وان اختار غير المسلمين الإعراض عنه فان هذا الإعراض ليس مطلقاً بل على نحو السالبة الجزئية للحاجة اليه ولأنه يتضمن القواعد الكلية لمضامين اللطف الإلهي، ولأنه الشاهد الوحيد على أحكام السماء الذي حافظ ويحافظ على نقائه وحصانته وعصمته.
وكأن هذا القانون فرع من قانون الكتاب الذي يعني ملازمة الكتاب السماوي للإنسان، وهذا القانــون ينفي النفرة والتنافي والتباعد بين القرآن والإنسان مسلماً او غير مسلم ويكون مصاحباً للإنسان في حياته كلها، فحتى أهل الكتاب الذين أختاروا البقاء على التوراة والإنجيل جاء القرآن لينفذ الى منتدياتهم ويستولي على مجامع قلوبهم ويدعوهم علانية الى ما نزلت بهم الكتب السابقة ليؤكد بالواقع والوجدان انه الجامع لها.
ان قانون عدم النفرة دعوة مفتوحة للناس جميعاً للجوء الى القرآن والإنتفاع من علومه واتباع سننه، بمعنى انه نوع طريقية لدعوة الإنسان لمبادئ الإسلام وترغيبه بأحكامه، ولا تعارض بين هذا القانون وقانون التجاذب المتقدم الذي يحكم الصلة بين القرآن والإنسان بل انهما بعرض واحد من غير تزاحم، وهو اعجاز عقائدي متجدد للقرآن.
بحث بلاغي
بعد الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أهل الكتاب الى كلمة سواء جاء تفصيل الكلمة وابتدأت موضوعاتها بعبادته تعالى، وان العبادة هي الجامع المشترك بين المسلمين واهل الكتاب والعبادة قول وفعل وصلاة ونسك ومع هذا وصفها القرآن بانها كلمة بل من مصاديق الكلمة، وبلحاظ موضوعية العبادة وانها العلة الغائية لخلق الإنسان يمكن ان تستقرأ عظمة هذه الدعوة وأهميتها للناس جميعاً وموضوعيتها في اصلاح المجتمعات وتهذيب النفوس.
واعتبار العبادة من مصاديق (كلمة سواء) لا يتعارض مع معاني النحو ، واعراب (ان لانعبد) في موضع جر على البدل من (كلمة) او اعتبارها في موضع رفع على تقدير وجود حذف، والأصل هو ان لا نعبد الا .
ومع ان الآية حصرت العبادة به تعالى، فانها جاءت بلزوم عدم الشرك بالله شيئاً ، وفيه وجوه:
الأول: التوكيد.
الثاني: البيان والتفصيل.
الثالث: التأديب والتعليم والإرشاد.
الرابع: عطف العام على الخاص.
الخامس: في الآية اشارة الى نكتة وهي ان الشرك اعم من ان يتعلق بالعبادة، خصوصاً وانه على أقســام ومنه الشــرك الخفي، فجاءت الآية لتنقية القلوب وتنزيه مجتمعات الموحدين من التوجه الى غير  في طلب الرغائب والحاجات بظن قضائها من دون  لتمنع الآية من الآثار التي تترتب على الغلو في أشخاص الأنبياء.
السادس: تحث الآية على الإخلاص في العبادة واجتناب الشك والريب الذي يترشح عن الإفتراء على الأنبياء والغلو في أشخاصهم.


قوله تعالى [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ]الآية 65

الإعراب واللغة
يا: حرف نداء، أهل الكتاب: منادى مضاف، والكتاب مضاف اليه.
لم تحاجون في ابراهيم: لم: اللام: حرف جر، ما: اسم استفهام حذفت الفها بعد حرف الجر، تحاجون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل.
في ابراهيم: جار ومجرور متعلقان بتحاجون، وفيه حذف ، والتقدير: في دين ابراهيم .
وما انزلت التوراة: الواو: حالية، ما: نافية، أنزلت: فعل ماض مبني للمجهول .
التوراة: نائب فاعل، الإنجيل: معطوف على التوراة.
الا: أداة حصر، من بعده: جار ومجرور متعلقان بأنزلت.
أفلا تعقلون: الهمزة: للإستفهام الإنكاري.
ويحذف الف (ما) الإستفهامية اذا دخل عليها حرف الجر من، وتبقى الفتحة اشارة اليه وقد تثبت الألف للضرورة الشعرية، او تتبع الفتحة الألف في الحذف في الشعر خاصة، كما في قول الكميت بن زيد الأسدي:
فتلك ولاة السوء قد طال مكثهم

فحتامً حتامَ العناء المطول

وحذف ألف الإستفهام مع حرف الجر للإشارة لوجوه:
الأول: قوة الإتصال والتداخل بينهما.
الثاني: التخفيف.
الثالث: كثرة الإستعمال.
وذكر ان أحدهم سال نحوياً قال: بما توصيني؟ وأثبت الألف، فأجابه: بتقوى ، واسقاط الألف من (ما).
في سياق الآيات
بعد ذكر قصة عيسى  والإحتجاج فيها والدعوة الى المباهلة والإنتقال الى الدعوة للتوحيد مع ذات الخصم ولكن بلغة الود وأسباب التقارب من غير أهمال للإنذار والتحذير من الشرك والإقامة عليه، جاءت هذه الآية الكريمة بذكر موضوع ابراهيم  وقيام أهل الكتاب أنفسهم بالإحتجاج والجدال في دينه وانتمائه، فهذه الآية من آيات الإحتجاج والبرهان وكما بينت الآيات السابقة قصة عيسى  وتنزيهه فان هذه الآيات تنهى عن الجدال في ابراهيم وانتسابه، وتؤكد ان أقرب الناس له رسول  والمسلمون.
وبعد ان جاءت الآية السابقة بالأمر للنبي [قل يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] افتتحت هذه الآية بالنداء [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] وفيه مسائل:
الأولى: بيان الموضوعية التي يوليها القرآن لأهل الكتاب.
الثانية: توكيد الرأفة والرحمة بهم، وما لهم من الشأن المترشح من اتباعهم للكتاب المنزل.
الثالثة: جاءت هذه الآية لبيان مسألة وهي ان  تعالى هو الذي أبطل حجة اهل الكتاب، مما يدل على الآثار المترتبة على ادعاء انتساب ابراهيم لهم.
الرابعة: الآيتان من مصاديق الإصطفاء والإجتباء لآل ابراهيم، وبيان لوجه من وجوه الإصطفاء ، وهو الرحمة والخصوصية التي يوليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب عامة ولآل ابراهيم خاصة، ومجيء التنزيل بالعناية بهم على نحو الخصوص، واسباب هذه العناية مركبة من امرين:
الأول: فضله تعالى باصطفاء آل ابراهيم، وهذا الإصطفاء يتجلى في طرفي الدعوة، النبي والمسلمين من جهة، واهل الكتاب من جهة اخرى.
فمن مصاديق اصطفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه توجه بالخطاب لأهل الكتاب ودعوتهم لعبادة  ونبذ الشرك، ومنه ان آل ابراهيم يقومون بمحاربة الشرك والضلالة.
الثاني: موضوعية الإنتماء للكتاب السماوي، فالتولي عن الدعوة الى عبادة  ونبذ الشرك لم يكن مانعاً دون ارشادهم الى سبل الإحتجاج والتخلص من المغالطة والجدال بغير الحق ، ولقد جاءت هذه الآية بعد طلب الشهادة منهم باسلامنا مما يعني انه من وظائف المسلمين الدفاع عن الأنبياء السابقين، ودحض الحجة المخالفة لمبادئ الإسلام.
فبعد قوله تعالى [اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ] جاء قوله تعالى [ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ] لتحديد اوان بدء الديانة اليهودية والنصرانية، وبيان موضوعية التأريخ في تعيين منازل الأنبياء بما يؤدي الى اكرامهم وانصافهم.
إعجاز الآية
تعتبر الآية وثيقة سماوية وشاهداً على قيام اليهود والنصارى بالإحتجاج والجدال في انتساب ابراهيم  لملتهم وكل فرقة منهما تدعي ان ابراهيم منها، فنزلت ألآية لتمنع الخصومة والخلاف بينهما، وتنفي أصل وموضوعية هذا الإدعاء المركب وأسباب الخلاف، وفيه دلالة على اصلاح القرآن للناس وأقوالهم ونشر قواعد الإحتجاج بالإعتماد على البرهان والدليل، وفيها بيان لمراحل التأريخ العقائدي ولزوم عدم الخلط بينها او تقديم المتأخر وتأخير المتقدم لأغراض ومنافع خاصة بالمذهب والطائفة.
كما تبين ظاهرة متأصلة في بعض المجتمعات وهي الإرتكاز الى موضوع لا أصل له، وخطأ ومخالفة للواقع ثم الصراع بسببها مع الآخر الذي قد يكون على صواب.
ولكن الآية جاءت للإخبار عن وقوع الطرفين بذات الخطأ مع ان الإبتلاء في مسألة ابراهيم ليس الأهم، بل الأهم هو التدبر بالآيات التي جاء بها وارث ابراهيم وموسى وعيسى ونزول القرآن عليه ولزوم دخول الإسلام والإمتثال لما يأمر به طاعة لله تعالى.
ومن اعجاز الآية انها تنمي ملكة المعرفة التأريخية والإحاطة بأحوال الأنبياء واعتبار الزمان في تأريخ النبوة، وتجعل الآية المسلم يرتقي درجات في سلم المعرفة ويدرك الكنوز في كل آية قرآنية.
ونفي انتساب ابراهيم لليهود والنصارى برزخ دون ادعائهم ما ليس بحق أي ان موضوع ابراهيم وتثبيت حقيقته مطلوب بذاته ، وفيه سد للذرائع ومنع من ايذاء المسلمين والتمادي في ادعاء غير الحق.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “الإحتجاج في ابراهيم”
الآية سلاح
تدعو الآية للتحقيق والتبصر في تفاصيل الإحتجاج وتدعو الخصم الى الإتيان بحجته وبرهانه، مع لزوم حفظ الحجة الذاتية سواء لمواجهته ودحض حجته او لإفحامه بالحجة ابتداء.
وتفتح الآية للمسلمين علوم التأريخ بأشرف مضامينه القدسية وهو تأريخ الأنبياء، وفيه مدد للمسلمين في جدالهم مع أهل الكتاب، والآية عون لهم في مساجدهم ومساكنهم لما فيها من اشراقات تبعث في النفس الثقة والعز والأمل والسكينة بنيل درجات متعددة من العلم كماً وكيفاً ببركة آية واحدة من القرآن.
وتخفف الآية عن المسلمين اعباء الإحتجاج والجدال في قصة ابراهيم بابطال دعوى اهل الكتاب، والكشف التأريخي لأزمنة الأنبياء والتنزيل والتباين بينها.
مفهوم الآية
لم تأتِ الآية لرد الإحتجاج باحتجاج مشابه له في الموضوع ومغاير له بالدليل، بل نفت اصل الموضوع الذي يحتج به أهل الكتاب، والمراد منهم في المقام اليهود والنصارى مع توكيد الآية على قدسية ونبوة ابراهيم وعظيم شأنه بين الموحدين، فهذا الشأن لا يعني أحقية بعض الفرق والملل في دعوى انتسابه لملتهم مع ان زمانه قبل زمان نبيهم والكتاب الذي أنزل عليه.
وتضع الآية قاعدة كلية وهي عدم انتساب النبي السابق للملة اللاحقة وهي قاعدة شرعية وعقلية، ولكن المقام لا يحتاج ذكرها فحسب، بل يستلزم النفي الصريح لإنتساب ابراهيم لليهودية والنصرانية لتعلق أحكام شرعية على هذا النفي او ترك الآخرين ادعاء غيره وترتيب الأثر على هذا الدعاء، وفي الآية مسائل:
الأولى: افتتاحها بالأمر بمناداة أهل الكتاب ومخاطبتهم بصيغة الإكرام التي تدل بالدلالة التضمنية على لزوم تقيدهم بأحكام الكتاب المنزل.
الثانية: توثيق قيام كل من اليهود والنصارى بالإحتجاج والجدال لتثبيت دعواهم انتساب ابراهيم  لهم.
الثالثة: معرفة أهل الكتاب لإبراهيم  ونبوته.
الرابعة: اقرارهم ولو ضمناً بتقدم أيام ابراهيم على نزول التوراة والإنجيل.
الخامسة: شهادة القرآن بنزول التوراة والإنجيل من عند  .
السادسة: الدعوة لتثبيت تواريخ نزول الكتب السماوية،
السابعة: في الآية تذكير لأهــل الكتاب بالتــوراة والإنجيــل، ولزوم الأخــذ بما جاء فيهما من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتمنع الآية من الغي ومواصلة ادعاء ما ليس بحق، بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] وفيه حــث على الإيمان بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واعتناق الإســلام الذي بشــر به ابراهيم  وفي التنزيل [وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ]( ) وهــذه الآيــة تعــني في مفــهومــها دعوة الناس الى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
إفاضات الآية
لقد أخلص ابراهيم العبادة لله تعالى، وتفانى في مرضاته ومواجهة الطاغوت ليدعوه وقومه الى الفرار من كدورات وظلمة الكفر الى عالم التجلي والشهود، فكان واسطة الفيض الإلهي على الناس، ومجمع الفضائل فرزقه  المنزلة العظيمة في الدنيا والآخرة، ومن الأولى ان تقر الملل السماوية بولايته وتعترف بنبوته، كما ان الإقتداء به يقود للتسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابنه ووارث عقيدة التوحيد.
لقد إبتدأت الآية بالخطاب لأهل الكتاب فهل تشمل مضامينها غيرهم من الناس , الجواب نعم وكانت قريش تسمع لأهل الكتاب ويسألون اليهود عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت الآية لتقويم أصول المناظرة، بين المسلمين وأهل الكتاب، وتعيين موضوعات الجدال والإحتجاج وذكر الموضوعات التي ينفق عليها المليون، وتكون ممتنعة عن الخلاف والخصومة، وهو من إفاضات الآية وباعث للسكينة في النفوس، ومانع من طغيان الأخلاق المذمومة كالكبر والحسد والإفتراء.
علم تأريخ الأنبياء
لقد أكرم  الناس جميعاً اذ بعث لهم أنبياء وأنزل عليهم الوحي، واعراض شطر من الناس عن الأنبياء وما جاءوا به من عند  لم يمنع من فضله واكرامه تعالى لبني اسرائيل فيكفي ان يتلقى فريق من الناس ما يأتي به النبي بالتصديق ، ولم ينحصر بعث الأنبياء بزمان او امة دون أخرى بل تغشى أفراد الزمان الطولية وظهر الأنبياء في أمصار ومناطق مختلفة حتى أختتمت النبوة ببعثة الرسول الأكرم في أشرف بقعة من الأرض ومكان وبلد بعثته صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على اكرامه وتفضيل نبوته على النبوات الأخرى.
وعدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ومنهم آدم  ولا خلاف انه أول الأنبياء لأنه أبو البشر وتعاقب الأنبياء يستلزم معرفة تأريخ نبوة كل منهم ولو بلحاظ النبي الآخر، وأيهما قبل الآخر ومن هو السابق او اللاحق، خصوصاً وان بعضهم من نسل واحد وبينهم صلة الأبوة والبنوة فلابد من معرفة من هو النبي الأب، ومن هـو النبي الإبن، والإعتبار من التباين في قصة كل واحد منهم وما لاقاه من قومه وأثر توارث النبوة وجهاد الأنبياء في شدة الأذى او ضعفه وكثرة الأتباع او قلتهم.
وقد جاءت هذه الآية لتكون من الآيات التي تؤسس وتضبط علم تأريخ الأنبياء من وجوه:
الأول: ذكر اسم ابراهيم ، والنسبة الزمانية بينه وبين نزول التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى.
الثاني: تقدم زمان ونبوة ابراهيم على أيام موسى وعيسى.
الثالث: الضرر الناجم من عدم جعل اعتبار لتأريخ الأنبياء، كما حصل بالنسبة لأهل الكتاب واحتجاجهم بانتماء ابراهيم  لهم.
الرابع: منفعة هذا العلم للمسلمين اذ اشارت الآية اليهم بالبرهان الذي يدحض حجة الخصم، ويجعله يكف عن ادعائه.
الخامس: مجيء لغة العتاب والذم خاتمة الآية[أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]، ومن معاني الحسن في قصص القرآن انها تتضمن اشارات في تأريخ الأنبياء، وتدعو الى الإلتفات له وتتبع النصوص التي يستقرأ منها جانب منه، ومعرفة آيات الأنبياء ومتعلقها بزمان كل نبي وما في هذا التعلق من المضامين القدسية.
التفسير
قوله تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ]
لقد تكرر الخطاب لأهل الكتاب في هذه الآية والآية السابقة، والفارق ان الآية السابقة بدأت بقوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] في أمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أهل الكتاب الى الإتحاد على كلمة التوحيد التي هي أصل استدامة الحياة والملل السماوية، اما هذه الآية فليس فيها [قُلْ] وفيها وجهان:
الأول: انها امتداد لخطاب النبي وندائه لأهل الكتاب بمعنى انه دعاهم في الآية السابقة الى كلمة التوحيد، وفي هذه الآية وجه لهم اللوم على ادعاء انتساب ابراهيم  الى اليهودية والنصرانية.
الثاني: الخطاب في الآية من عند  تعالى الى أهل الكتاب، ويتضمن الذم واللوم والدعوة الى الحكمة والرجوع.
الثالث: الآية نداء وعتاب من المسلمين الى أهل الكتاب بلحاظ اتصال موضوع هذه الآية والآية السابقة التي أختتمت بقوله تعالى [فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ] فيكون[ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] متصلاً مع الآية السابقة.
والأصح هو الثاني وان الخطاب منه تعالى لأهل الكتاب للتنبيه على أهمية الأمر ولزوم ترك الجدال في ابراهيم، وبيان ان  تعالى ينصر المسلمين، ويبطل حجة الخصم، ويهدي للحق والهدى، فلولا هذه الآية لما عرف المسلمون موضوعية السبق التأريخي واعتباره في الملل والأديان وان ابراهيم  سابق في زمانه لليهودية والنصرانية ، وانهما يبدءان عند بعث موسى وعيسى .
وحتى لو علموا بسبق زمانه فانهم يحتاجون الى معرفة قاعدة كلية وهي عدم جواز نسبة النبي الى الملة اللاحقة له والمتأخرة عن زمانه، وان وردت كاشكال عقلي لجاء الخصم بحجة لدفعه، ولكن هذه الآية تضمنت الإخبار عن خروج النبي السابق من الملة اللاحقة خصوصاً مع ختم الآية بقوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ].
ولقد جــاءت الآيات الـسابقة في ذم الإحتــجاج في قصـة عيسى مولداً ومبعثاً، وشرعت المباهلة والملاعنة لتبرئة ساحة الأنبياء وتنزيه مجتمعات أهل الكتاب من الغلو والإفتراء، وجاءت هذه الآية من غير دعوة للمباهلة مما يعني ان مسألة الجدال في ابراهيم ليست بذات الدرجة من الإبتلاء والأذى الذي عليه قصة عيسى، اذ ان الجدال في عيسى يتضمن:
اولاً: الغلو فيه وادعاء الربوبية في شخصه الكريم.
ثانياً: الإفتراء والطعن به وبأمه، فيظهر التناقض بين القولين الى جانب ما في كل واحد منهما من الظلم والتعدي والجحود.
اما موضوع هذه الآية فيتضمن ادعاء كل من اليهود والنصارى نسبة ابراهيم  الى دينهم، وفيه اقرار بنبوة ابراهيم وعظيم منزلته فلذا لم تتضمن الآية الدعوة الى المباهلة وجاءت هذه الآيات بالبيان وكيف ان ابراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً.
وبهذه الآيات أنقطع الجدال في هذه المسألة وأفحم الخصم فيه، اما بخصوص عيسى فان القوم أصروا على اقوالهم وهذا من الإعجاز القرآني، وفيه بيان لدقة بيانه وكيفية ذكره للوقائع والقصص وتهذيب النفوس واصلاح العقائد وتخليصها من الشوائب.
ومع ان الآية تدل على اقرار أهل الكتاب بنبوة ابراهيم الا ان الإستنكار فيها يتضمن اللوم على الفريقين على عدم الإقرار بنبوة عيسى، اذ ان فريقاَ غالى فيه وفريقاً أفترى عليه، ان مسألة ابراهيم دعوة لا أصل لها تتعلق بانتساب نبي الى ملة مخصوصة، وتبين الآية اعتبار مرتبة الرسالة فابراهيم رسول ، ومن الرسل الخمسة اولي العزم فلا يصح ان يكون من اتباع شريعة رسول آخر.
مما يستقرأ منه حكم وهو استقلال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشريعته، ولزوم يأس اليهود والنصارى من انتمائه لهم، وهذا يعني بالضرورة ان المسلمين أمة مستقلة لها شريعتها ومناسكها، وفيه دعوة لليهود والنصارى بلزوم اكرام المسلمين وعدم ايذائهم في عباداتهم.
وبذا تتجلى لنا مضامين قدسية في الآية الكريمة فمنع اليهود والنصارى من الإحتجاج بنسبة ابراهيم الى ديانتهم يعني بالأولوية منعهم من نسبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لديانتهم، واخبار بانه ليس من أتباع موسى وعيسى عليهما السلام وتلك مسألة تقدم عليها بعض المذاهب والملل ان يدعي نسبة الخصم والقسيم له وانه فرع منه واذا تجرأوا على نسبة النبي السابق لشريعتهم اليها بغير حق فانهم يتجرأون على النبي اللاحق بغية محاربة الإسلام.
فجاءت الآية للتصدي لهذا النوع من المحاربة والوقاية منه قبل حصوله، وهذا من اعجاز القرآن وتعاهده للمسلمين ودفع الكيد والمكر عنهم.
وقد جاءت آية المباهلة في المنع من الجدال في عيسى، اما هذه الآية فجاءت في المنع من الجدال في ابراهيم  وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء هي المنع من الجدال في رسول من الرسل الخمسة اولي العزم، ومادة الإفتراق على وجوه:
الأول: ان الجدال في عيسى سبب للدعوة للمباهلة، اما في ابراهيم فان الآية جاءت للزجر عن الإحتجاج من غير ذكر لموضوع المباهلة.
الثاني: ورد الإخبار عن وقوع الجدال في عيسى من الخصم بعد مجيء العلم، اما هذه الآية فلم تشر الى سبق او تأخر العلم في موضوع ابراهيم، ولكنها تتضمن العلم بموضوعه اذ انها اخبرت عن سبق زمانه على اوان نزول التوراة والإنجيل.
الثالث: جاءت آية المباهلة بلغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن يحتج عليه في عيسى، اما في هذه الآية فان الخطاب في الآية موجه الى أهل الكتاب.
الرابع: الوعيد باللعنة على الكاذبين في قصة عيسى بخلاف قصة ابراهيم فليس فيها لعنة على الكاذبين ولكنها تتضمن الذم واقترانه بالدعوة الى حكم العقل والبصيرة، بالرجوع الى الإسلام وتبين قدرة المسلمين على الجدال.
وترى في هذه الآية ان اليهود والنصارى مختلفون أشد الإختلاف في عيسى ، اما في ابراهيم فان كلاً منهم يدعي انتسابه لدينه، مما يدل على التقاء اهل الكتاب في اكرام ابراهيم  وفيه حجة عليهم بلزوم اكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه، قال تعالى [ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ]( ).
والإحتجاج بابراهيم ونسبته الى أمر له خصوصيته عند أهل الكتاب وفي حياة المسلمين، ولقد جاء الأمر الإلهي للنبي محمد باتباع ملة ابراهيم ، فاراد اليهود والنصــارى المغالــطــة واثارة الشــبهات ونســبة ابراهيم لملتهم للإحتجاج بلزوم رجوع النبي لشريعتهم لأن  أمره باتبــاع ملــة ابراهيــم، قال تعالى [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]( )، كمــا ورد الذم في القرآن لكل أمة لا تتبع ملــة ابراهــيم ونعتها بالســفه وخفــة العقــل، قــال تعالى [ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( ).
لذا فان هذه الآية ضرورة عقائدية وحاجة للمسلمين وسلاح لمنع التعدي والإفتراء على ابراهيم وعليهم ايضاً، أي ان الإحتجاج في ابراهيم يتصف بانه دفاع عن الإسلام وبرزخ دون اتخاذ قصص وسيرة الأنبياء لإثارة الشبهات والجدال بالباطل.

قوله تعالى [وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ]
يبين هذا الشطر من الآية موضوع الجدال، ففي الآية حذف وان الجدال لم يتعلق بشخص ابراهيم  بل بموضوع انتسابه فقد أدعى اليهود انه منهم ، وقال النصارى انه نصراني والحق ان زمانه متقدم على زمان اليهودية والنصرانية، ولم تشر الآية الى نبوة ابراهيم  وانه رسول من الرسل الخمسة اولي العزم الأمر الذي يعني انه صاحب شريعة مستقلة ولا يتبع نبياً غيره في شريعته ، وفيه وجوه:
الأول: ان الآية اكتفت بالسبق الزماني لإبراهيم ، وفيه حجة على بطلان انتسابه لليهود او النصارى.
الثاني: تسالم اهل الملل السماوية على ان ابراهيم رسول نبي.
الثالث: الرجوع الى الآيات القرآنية الأخرى التي تؤكد نبوة ابراهيم  كما في آية الإمامة [ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ).
وتعتبر هذه الآية وثيقة تأريخية في زمان الأنبياء وتقدم او تأخر بعضهم وفيه توكيد على حقيقة وهي عدم وجود اليهودية الا بعد نزول التوراة على موسى وعدم وجود النصرانية الا بعد نزول الإنجيل على عيسى وفيها اشارة الى الملازمة بين أهل الكتاب وبين التوراة والإنجيل، وان اصطلاح اهل الكتاب لم يكن موجوداً أيام ابراهيم مع انه من الأنبياء الذين جاءهم التنزيل ، قال تعالى [ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
بعد آية المباهلة أصبح المسلمون يمتلكون القدرة على الإحتجاج ورد الشبهات، لذا جاءت هذه الآية خالية من الملاعنة، ولأن الحجة فيها بينة واضحة، ويبدو ان اليهود والنصارى ليس عندهم ما يحتجون به او يردون على ما في هذه الآية من البرهان الزماني فلذا أكتفت بذكر الحجة والدليل، وليس لأحدهم نقض هذا الدليل.
فالأخبار عن سبق زمان ابراهيم في الآية ليس تأسيساً بل هو توكيد وتذكير، وفيه تخفيف عن النبي والمسلمين واشارة الى عدم جعل المباهلة موضوعاً للتحدي في كل مسألة يجادل بها اهل الكتاب او غيرهم فاذا كان هناك برهان ودليل يدحض حجة الخصم فلا تصل النوبة الى الدعوة الى المباهلة كما تؤكد بانها لا تشرع في المسألة غير الإبتلائية او التي ليست من أفراد الأهم.
وتتجلى آيات التنزيل في القرآن بانه يؤكد نزول التوراة والإنجيل من عند ، فلا يقابل القرآن أهل الكتاب بمثل الصدود الذي يقابلونه به بل انه يشهد على نزول التوراة والإنجيل من عند  في ذات الوقت الذي يبين حقيقة بدء الإنتماء الى اليهودية بنزول التوراة، وبدء الإنتماء الى النصرانية بنزول الإنجيل.
ففي حين يفتري اليهود على عيسى  فان الإحتجاج في هذه الآية يخبر بان عيسى نبي نزل عليه كتاب من السماء، ولتكون قصة عيسى مقدمة للتصديق بما ورد في هذه الآية التي هي عون على التصديق بقصص القرآن ومنها قصة عيسى، كما ان الغلو والإفتراء برزخ دون معرفة حقائق التنزيل لأن الذي يطـعن بعيسى وامه لا يأخذ بما أنزل عليه، ويجوز العكس وهو ان عدم الأخذ بما انزل على عيسى سبب للطعن به، فليس من وسط في الأمر اما الأخذ بما جاء به عيسى من غير غلو او افتراء، واما الكفر والضلالة.
وتشير الآية الى موضوعية الزمان في الإنتساب العقائدي فالنسبة بين زمان ابراهيم ونزول التوراة والإنجيل هي:
الأول : التقدم.
الثاني : الإقٌتران.
الثالث : التأخر.
وجاء نزولهما متأخراً عن زمان ابراهيم مما يدل على موضوعية ابراهيم  في التمهيد والتوطئة لنزولهما بالبشارة بهما وتعاهد الحنيفية واصلاح الناس للإيمان كي يبعث موسى وعيسى على أمة مسلمة تصدق بهما وتمنع من الإنقضاض على النبي ساعة بعثته، بالإضافة الى وظائف الآية والمعجزة في حصانة النبي وحفظه ومنع التعدي عليه الى ان يكمل رسالته التي بعث من أجلها.
لقد جاء القرآن بوصف ابراهيم بانه مسلم وفيه نفي لقول اليهود والنصارى بنسبة ابراهيم اليهم ، والمراد من الإسلام هنا هو الدين والصراط لذا جاء وصفه بانه حنيف أي أختار الدين المستقيم، والحنيف عند العرب هو من كان على دين ابراهيم.
ومن مفاهيم الآية الثناء على المسلمين لأنهم على ملة ابراهيم ، لقد أراد القــرآن من اليهــود والنصــارى ان يكــونــوا على مــلة ابراهيم فجاء ردهم مخالفاً تماماً ويتضمن العناد والإصرار، وقالوا ان ابراهيم نفسه ينتسب الينا، ولو تنزلنا وتركنــاهم وقولهم فان النزاع سيحدث بينهم هل هو يهودي ام نصراني، وقد يقــومــون بالغــلو او الطعن فيه كما حصــل في عيســى  فجــاءت الآيــة للتخفــيــف عن أهل الكتاب ومنعهـم من التعــدي على ابراهــيــم  وعــلى الأنبياء كما ان ذكر ابراهيم جاء من باب المثال وليس الحصر، لما فيه من تأسيس لقاعــدة وهي ان تقدم زمان النبي شاهد على عدم انتسابه للملة اللاحقة.
ومن الآيــات ان نبــوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت متأخرة على زمان نــزول التــوراة والإنجيــل ومــع هذا لم يقــل أحد منهم بانتســابه لهم، لأن القــرآن يدعوهم للإسلام والى اتباع ملة ابراهيم .
وقد ذكر ان بين زمان ابراهيم وموسى ألف سنة وبين زمانه وأيام عيسى نحو ألفين، فجاءت الآية لتؤكد حقيقة تأريخية وعقائدية وهي حــدوث اليهــودية بعد نزول التــوراة على مــوسى ، والنصرانية بعد نزول الإنجيــل على عيســى ، وان الإسلام سـابق ولاحق لهما، مما يدل على استيعابه لأحكام الشريعة، وفيه دعوة لدخول الإسلام.
قوله تعالى [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ]
خاتمة الآية خطاب لأهل الكتاب يتضمن الذم والتوبيخ بسبب الإبتعاد عن حكم العقل وادراكه للحقائق ، وتدل على وجود اجماع عنــد المليين بان ابراهــيم متـقدم في زمانه على نزول التوراة والإنجيل وان اليهــوديــة والنصرانية لم يكونا موجـودين قبــل نزولهمــا، ولو تركوا وادعاءهم فما هو الأثر الذي يترتب على هذه الدعوى، فيه وجوه:
الأول: الجدال والتجرأ بدعوة المسلمين لملتهم.
الثاني: اظهار التساوي بين الإسلام وملة اهل الكتاب ، لأن القرآن سمى ابراهيم بانه مسلم.
الثالث: التعدي في النسبة، والقول ان نوحاً من اليهود او النصارى او ان آدم كان منهم وعلى ملتهم.
الرابع: الوضع على ابراهيم في قوله وفعله، وجعل القصص التي تذكره حجة على المسلمين.
لذا فان منافع هذه الآية اعظم وأكثر من ان تحصى خصوصاً وان الإحتجاج بالسبق الزماني امر قد لا يلتفت اليه شطر من المسلمين، وان التفتوا اليه فان الخصم يحتال عليه ويوجهه او يضعفه وينكره، فجاءت هذه الآية بأمور:
الأول: تثبيت السبق الزماني لإبراهيم .
الثاني: النهي عن احتجاج اليهود والنصارى في ابراهيم وانتسابه.
ويشمل بالأولوية الأنبياء الذين سبقوا في زمانهم ابراهيم .
الثالث: لزوم رجوع أهل الكتاب الى العقل والبصيرة والإنصاف، وترك مسألة انتساب ابراهيم.
وفي الآية تنبيه وتحذير من الإفتراء، ووعيد وتخويف من الآخرة والحساب فيها، فقد جعل   العقل رسـولاً باطنياً، يدعو الإنسان الى الهدى والرشــاد ويمنعه من الضلالة، وذكر العقـل ولزوم الرجوع اليه دليل على ان موضوع انتساب ابراهيم بسيط ليس مركباً ولا يحتاج وسائط ومقدمات متعددة بل ان سبقه الزماني يكفي للمنع من الإحتجـاج به وبانتسابه، ولقد جــاءت هذه الآيات بخصوص ابراهيم  في توكــيد على عظـيم منزلتــه عند  وعند المليين عامــة والمســلمين خاصــة، وتنــمي الآية ملكة الإحتجــاج ومقدمات البرهان عند المسلمين.
لقد جاءت الآية بصيغة القطع والجزم في اشارة الى حسم الجدال في ابراهيم بدليل عقلي يدركه كل انسان، وقياس اقتراني يتكون من كبرى وصغرى ونتيجة.
أما الكبرى فهي نزول التوراة والإنجيل بعد أيام ابراهيم.
والصغرى نشوء اليهودية بعد نزولهما.
النتيجة: ان ابراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً.
وتعطي الآية درساً لأهل الكتاب بأن جدالهم لا يعود الا بالضرر عليهم، فمن آثار جدال اهل الكتاب في ابراهيم:
أولاً: ثبوت بطلان ما يدعون من نسبته لديانتهم.
ثانياً: حث الناس على اللجوء الى العقل والدليل بخصوص كل ما يدعي أهل الكتاب.
ثالثاً: ادراك الجميع للنصر العظيم الذي حققه المسلمون في هذه المسألة لما فيها من صيغ البرهان.
رابعاً: الآية شاهد على ان المسلمين لم يتبعوا السيف في تحقيق النصر، ولم يلجأوا دائماً الى ميادين القتال، بل ان منتديات الاحتجاج باب كريم لجذب الناس الى الهدى والإيمان.
خامساً: التصدي للدعاوى المختلفة التي لا أصل لها.
والآية مقدمة وتهيئة لقبول أهل الكتاب لما جاء به النبي محمد صلى  عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: دفع الدعوى الباطلة.
الثاني: التخلص من لغة الجدال وما فيه من العناد.
الثالث: صحة الدليل في مسألة انتساب ابراهيم دعوة لاتباعهم الحجة والبرهان.
الرابع: صدق القرآن فيما يخبر به بخصوص ابراهيم شاهد على صدقه في المواضيع الاخرى.
الخامس: تدعو الآية أهل الكتاب الى التدبر بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى  عليه وآله وسلم، واعتماد سلاح العقل للتمييز بين الحق والباطل.
السادس: تجعل الآية برزخاً بين عامة أهل الكتاب وبين الرهبان، لتجلي آيات الحق والصدق بالقرآن، وثبوت زيف ادعاء انتساب ابراهيم لهم.



قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّـونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعــْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْــلَمُونَ] الآية 66

الإعراب واللغة
ها أنتم هؤلاء: الهاء: للتنبيه: انتم: مبتدأ، هؤلاء: خبر، وقيل عطف بيان، وحاججتم هو الخبر، والأول أصح.
فيما: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
علم: مبتدأ متأخر، والجملة الإسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول.
فلم تحاجون: الفاء: عاطفة.
ليس: فعل ماضِ ناقص، لكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم.
به: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، علم: اسم ليس المؤخر.
والله يعلم: الواو: استئنافية، : مبتدأ، جملة يعلم: خبر.
وانتم لا تعلمون: الواو عاطفة، انتم: ضمير منفصل مبتدأ، جملة لا تعلمون: خبر.
في سياق الآيات
بعد توبيخ أهل الكتاب على الإحتجاج والجدال في قصة عيسى وادعاء انتساب ابراهيم  لليهودية أوالنصرانية،جاءت هذه الآية لتحذرهم من الجدال بما ليس فيه علم لما فيه من الحمق والعجز بسبب غياب الحجة والبرهان.
وقد أختتمت الآية السابقة بالدعوة للجوء الى العقل لأنه يمنع من غلبة الوهم واستيلائه على النفس، والجدال بغير علم.
إعجاز الآية
لقد قسمت الآية الجدال بلحاظ العلم او عدمه، فامضت الجدال مع العلم والفقه والمعرفة ، ولكن هذا الإمضاء مقيد بالخضوع لحكم الشارع والدليل وزجرت عن الجدل بغير علم للمنع من الجهالة والمغالطة والجدال بالباطل، كما تنهى الآية عن غلبة الوهم، والقضايا الذهنية التي لا وجود لها في الواقع وما يسمى بالوهميات، والتي يستخدمها المغالط في جداله واقيسته.
وتمنع الآية من تأثير القوى الوهمية على النفس وحجب البرهان عنه وتدعو الى اتباع البرهان سعياً لطلب الحقيقة، وتتضمن خاتمة الآية الإطلاق في احاطته تعالى علماً بكل شيء، وزجر اهل الكتاب عن الجهالة وحثهم على العلم بلحاظ التقيد بما في صدر الآية من علمهم بشطر مما يجادلون فيه، وهذا العلم المحدود جاء بفضله تعالى.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “الإحتجاج بغير علم”
الآية سلاح
تؤكد الآية على تحصيل العلم واتخاذه وسيلة لمعرفة الحقائق واختيار سبل النجاة وطرق الهداية، وهذا لا يتعارض مع لزوم الإستقراء والتمثيل لأنهما طريق للبرهان ، كما انها تخبر عن جواز الرد على من عنده علم في موضوعه وليس الجدل كله مذموم، فمنه ما يأتي بعد البرهان في المرتبة والإستدلال على المطالب.
لقد جاءت هذه الآية لتكون عوناً للمسلمين لمعرفة مرتكزات ومباني الجدال ،وكيفية مواجهة حجة الخصم وابطالها اذا لم تكن عن علم.

مفهوم الآية
الآية استمرار للخطاب لأهل الكتاب، وفي خصوص موضوع الإحتجاج،فبعد الدعوة الى المباهلة، والتوبيخ بسبب ادعاء انتساب ابراهيم  لهم ،جاءت هذه الآية لتمنع من الجدال عن جهالة، وتبين موضوعية الإرتكازللعلم في الجدال، وانه مقدمة ضرورية للإحتجاج وعدم جواز وقوعه من غير علم، وتدل في مفهومها على الدعوة الى التعلم والكسب والتحصيل، ومتى ما حصل العلم فان الجدال مع المسلمين يصبح من الممتنع لإنعدام موضوعه لأن نتيجة العلم واحدة فلا يكون الإنتساب سبباً للإختلاف والنزاع والخصومة ويصبح العلم وسيلة للتقارب بدل التناحر والجدال.
وفي الآية تأديب للناس جميعاً، لأنها جــاءت بقاعــدة كلية وهي عدم جواز الإحتجاج والجدال بغير علم، فالخطاب في الآية وان جاء لأهل الكتاب الا انه عام في دلالته وموضــوعه لأنه حكــم شــامــل موافق للعقل والواقع، وفيها عز للمسلمين لأنها تخبر عن موضوعية العلم وقد ناله المسلمون سواء فيما يتعلق بمواضيع الإحتجاج كما في قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ]( ) أو في تصديهم لكشف الحقائق.
والآية حجة على أهل الكتاب لما فيها من الإخبار عن حال الجهالة وعدم العلم التي هم عليها في بعض الأحكام والمسائل، ودلت عليه الآية السابقة بان أخبرت بالدليل العقلي عدم صحة قولهم بان ابراهيم  على ملتهم.
وتخبر الآية عن عدم احاطة اهل الكتاب بعلم تأريخ الشرائع والأمم، وفضل المسلمين على غيرهم في هذا الباب بما في القرآن من قصص الأنبياء والأمم السابقة ، فالله سبحانه هو العالم وهو الذي تفضــل على المســلمين وجعلهم يعلمون تقدم زمان ابراهيم على اليهودية والنصرانية وبين لهم في القــرآن تأريخ التـنزيل والعقــائــد، وهذا الــتأريخ ليس مطلوباً بذاته بل هــو مقدمة للتصــدي للجــدال ومنع التعدي على حرمات الأنبياء، والإحتراز من أسباب الصدود والجحود.
إفاضات الآية
لقد بدأت الآية بحرف التنبيه (ها) ثم جاء الضمير أنتم، ثم اسم الإشارة هؤلاء في توكيد على خطورة ما قاموا به من الإحتجاج واصرارهم على مواصلة التحدي بغير الحق ،وفيه تنبيه الى عدم الحاجة اليه بعد نزول القرآن وهو الكتاب الفصل الذي جاء بالحقائق.
ان   الذي خلق الإنسان يعلم ما يحتاج اليه، وقد سخر السماوات والأرض له، ثم تفضل سبحانه وأنزل القرآن ليجد فيه العلم والخبر والحجة والبرهان وسنن الأنبياء، وأراد النشأتين، فلا تصل بعده النوبة لمواجهة المسلمين بالجدال، لأنه على قسمين:
الأول: ما يأتــي موافقاً لما في القــرآن، فيكون تحصيلاً لما هو حاصل.
الثاني: الجدال وذكر الشبهات التي تخالف منطوق القرآن .
لقد جاءت الآية لتعاهد التجاذب بين   وبين العباد، بنبذ الجدال بغير علم، وأخبرت في خاتمتها ان   هو الذي أحاط بكل شيء علماً مع سلب العلم عن الناس، في اشارة الى الإكتفاء بعلوم القرآن، وعدم الإحتجاج بغير علم، وفي اللجوء الى القرآن تطهير للقلب وتخلص من كدورات الجدال وما فيه من العناد والجحود، وهو مدخل للتدبر بالآيات العقلية والحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومناسبة لإكرام الأنبياء.
لقد جعل   قلب المؤمن من أشرف البقاع، اذ انه يمتلأ بحبه تعالى وينشغل بذكره، ويقود الجوارح لطاعته باعتباره أميرها، ويمتلأ بالعلم فيجعله حرزاً وواقية من شرور الشيطان وأسباب الغواية والضلالة، ويقتدي بالأنبياء في مسالك الهداية، ويتبعهم في أقوالهم وأفعالهم لأنها أفضل ما جاء به الإنسان في عالم الدنيا لما عند الأنبياء من العصمة والوحي وقواعد اللطف الإلهي التي ينهلون منها اكثر من غيرهم، لذا جاءت الآية بالإخبار عن أولوية المؤمنين بابراهيم، وذكر ابراهيم هنا من باب المثال وليس الحصر، فالآية تدل على أولوية المسلمين بالأنبياء جميعاً ومن شوارق هذه الولاية انفرادهم بين الملل بالإقرار بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين.
التفسير
قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ]
الخطاب لأهل الكتاب والمراد هم اليهود والنصارى، اما جدالهم فهو مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، والآية أعم في موضوعها فتشمل جدالهم وأحتجاجهم مع المسلمين عامة وتجعل ضابطة للجدال وهو العلم، وتؤكد الآية علمه تعالى بما يجري من الجدال وانه سبحانه يعلم ما يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى والعناء من المشركين ومن أهل الكتاب، والأصل ان يقابل أهل الكتاب الآيات والبراهين بالقبول والرضا، ولكنهم انشغلوا بالجدال وطول الملابسة والمزاولة للجدال مع الإقامة على العناد يجعل الإنسان يجادل في الباطل وبغير علم، فجاءت هذه الآية لتحذر من الجدال مطلقاً من وجوه:
الأول: الجدال مبغوض ذاتاً.
الثاني: حصول العلم يمنع من الجدال لأنه ينفي التناقض او التعارض بين الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الذي عند أهل الكتاب كما في أصل التوحيد والنبوة والمعاد.
الثالث: من يصل الى مرتبة العلم لا يحتاج الجدل، والإحتجاج على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية اخبار عن قيام اهل الكتاب بالجدال في أمور لا يعلمون بها مما يدل بالدلالة التضمنية على عدم صحة الجدال فيها.
وفي الآية مسألتان كبرى وصغرى اما الكبرى فهي ذم الجدال مع النبي مطلقاً، لأن الوظيفة الشرعية للمكلفين تقتضــي الإنصات والإصغاء لما يأتي به من عند  ، وقد أخبر سبحانه بان الذي ينطق به الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو وحي ، قال تعالى [ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ]( ) فلا نفع في الجدل معه، وهذا الجدل يدل على اثر التحريف وانه أصبح له وجود ذهني عند شطر من أهل الكتاب فتراهم يجمعون بين ما يدل على العلم والصدق وبين مفاهيم الجهل، فجاءت الآية للتنبيه والإشارة الى لزوم الإمتناع عن الجدال بغير علم.
وأما الصغرى فهي على قسمين:
الأول: جدال اهل الكتاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما لهم به علم.
الثاني: الجدال بغير علم.
وقد جاءت الآية باللوم عن الثاني والزجر عنه، خصوصاً وانه مخالف للعقل والشرع، ولكن لماذا اختاروا الجدل بغير علم لمواجهة النبوة، الجواب من وجوه:
الأول: استصحاب حال الجدال واقامتهم عليه، اذ انه يؤدي بصاحبه الى ولوج اسباب الجهل والضلالة.
الثاني: العناد والإستكبار.
الثالث: الإصرار على عدم الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: اختلاط التحريف والتشويه مع الحقائق عندهم، وعدم امكان التمييز بينها.
وفي الآية منافع عظيمة منها:
الأول: الرأفة بأهل الكتاب، ومنعهم من التمادي في الغي.
الثاني: تنزيه مجتمعات اهل الكتاب من اسباب العناد.
الثالث: المنع من اثارة الشبهات.
الرابع: التفات اهل الكتاب الى الآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الجدال حاجب دون رؤيتها ، والتدبر بأسرارها وما فيها من المفاهيم التي تدل على الإعجاز.
الخامس: تنقية الصلات بين المسلمين وبين أهل الكتاب، واجتناب اسباب النفرة والخصومة التي تتفرع عن الجدال.
السادس: غلق باب الجدال مناسبة لجعل الحكمة والموعظة وسيلة الخطاب، وفرصة لنشر الدعوة الإسلامية.
السابع: الآية تأديب وسبب للإرتقاء في صيغ الإحتجاج.
الثامن: تعتبر الآية من عمومات قواعد اللطف اذ انها تمنع من استدامة الخطأ والإصرار على الجدال بغير علم، الذي لا ينحصر ضرره بأهله بل يشمل المسلمين والناس جميعاً.
اما بخصوص المسلمين ففيه اشغال وارباك وايذاء لهم، واما باقي الناس من الملل الأخرى فجدال أهل الكتاب يؤدي الى الإضرار بهم على نحو مركب:
الأول: صدهم عن الإسلام، لما يؤدي اليه الجدال من بث روح الشك والريب.
الثاني: بقاء ملل الكفر والضلالة على حالها من التفشــي بين الناس، لأن الجدال يشغل أهل الملل السماوية عن التوجه لهم ولو على نحو السالبة الجزئية، ولكن هذا الجدال لم يمنع المسلمين من الجهاد في سبيل  ونشر مبادئ الإسلام، وهو الأمر الذي تجلى في الواقع العملي بالكتائب والمعارك التي خاضها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون.
ولقد أخبرت الآية عن حصول احتجاج أهل الكتاب بما يعلمون به وفيه وجوه:
الأول: وجود اسم ابراهيم في التوراة والإنجيل( ).
الثاني: مخالفة شريعة التوراة والإنجيل لشريعة القرآن( ).
الثالث: ما نطقت به التوراة والإنجيل( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهي من مصاديق الآية، وان كان موضوعها أعم، اذ انها تؤكد على حقيقة وهي الفصل والتمييز موضوعاً وحكماً بين الجدال عن علم، والجدال بدون علم وبيان ما تؤدي اليه مواصلة الجدل.
وكما جاءت الآيات القرآنية بتأديب المســلمين في كيــفيــة التصرف مع مقام النبوة، قال تعالى [ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( ).
فان هذه الآية تأديب وارشاد لأهل الكتاب لكيفية التصرف مع رسول  صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً وانه جاء بمضامين الرحمة والرأفة بالمسلمين والناس جميعاً.
وجاءت الآية بصيغة التنكير [فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ] والنكرة في مقام الإثبات لا عموم لها، فالآية لا تثبت مقامات العلم لهم، او ان جدالهم جاء نتيجة لرسوخ العلم وحال اليقين عندهم بل أخبرت عن علمهم على نحو الموجبة الجزئية في ذات المسألة التي يجادلون فيها وليس مطلقاً.
وفيه اشارة الى لزوم الرجوع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ العلم من القرآن الذي نزل عليه من عند ، وكأن الآية تقول لأهل الكتاب أنكم لجأتم للإحتجاج في موضوعات ليس عندكم فيها الا شطر من العلم، فعليكم بالإصغاء للرسول الأكرم لبيان تمام العلم فيها.

قوله تعالى [فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ]
جاءت الآية بصيغة الذم واللوم على قيام أهل الكتاب بالإحتجاج على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما لا علم لهم به، وتدل في مفهومها على ما كان يلاقيه الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى في احتجاجات وجدال اهل الكتاب خصوصاً وانها تشير الى التعدد في موضوعات الجدال بلحاظ العلم او عدمه بخصوص المسائل التي يجادلون فيها.
وفي معنى الآية وجوه:
الأول: احتجاج اهل الكتاب في دين وشرع ابراهيم( ).
الثاني: ادعاؤهم ان شريعة ابراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم( ).
الثالث: الدعوة لاجتناب الجدال الدي لا يستند الى دليل.
الرابع: موضوعية الحجة والبرهان في الجدال والاحتجاج.
لقد جـاءت الآية لتنبيه اهل الكتاب ومنعهم وغيرهــم من الجدال بغير علم، فكما تتضمن الآية اللوم فانها باب للهــداية والإرشــاد ووسيلة لتعليم الناس أداب المناظرة ولزوم اختيار موضوعاتها وزجرهم عن الجدال فيما يجهلونه، وتدل الآية في مفهومها على دعوة الناس للرجوع الى القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهلونه من الأحكام وتأريخ النبوة والملل السماوية ، فالآية وان جاءت خطاباً الى أهل الكتاب الا انها تشمل غيرهم من أصحاب الملل من باب الأولوية القطعية.
وتحث الآية بالدلالة الإلتزامية على عدم اللجوء لأهل الكتاب لمعرفة حقيقة الإسلام لأنهم لم يحيطوا باسرار كل الشرائع علماً، وتدعوهم للجوء الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعرفتها والتدبر فيها، وهذا اللجوء مناســبة للإطلاع على حقيـقة الإسلام وصدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة الآيات عن قرب.
وفي الآية لطف ورأفة بأهل الكتاب لأن اللوم والإنكار الواردين فيها جاءا للتأديب والتعليم، وبهذا يأخذ اللوم في القرآن عناوين الهداية وصيغة الرحمة بمن توجه له وهو من مصاديق الإصطفاء التي تمنع من الضلالة والغواية، وفيها توكيد بان القرآن رحمة لأهل الكتاب لما فيه من أسباب اصلاحهم وهدايتهم.
ولا ينحصر التأديب الوارد في الآية بأهل الكتاب والملل الأخرى بل يشمل المسلمين لأنه على نحو مركب من وجوه:
الأول: اعانة اهل الكتاب على تحصيل العلم.
الثاني: اجتناب الإحتجاج في أمور وموضوعات لا يعلمها اهل الكتاب الا مع البيان .
الثالث: الحث على السعي في طلب العلم والإرتقاء في المعرفة الإلهية.
وفي الآية دلالة على أمكان تحصيل العلم باللجوء الى القرآن ولكن مع تحصيل العلم هل يحتاج الأمر الى الإحتجاج، الجواب لا، لإنتفاء موضــوعه، وللإلتقــاء في العلم مع المسلمين، وهذا العلم يقود صاحبه الى الإيمان والإقــرار بالرســالات ســواء رســالة ابراهيم ، وعدم كونه يهوديــاً او نصرانياً، او رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
كما تحتمل الآية أموراً:
الأول: الإشارة الى ما طرأ على التوراة والإنجيل من التحريف بحيث تعذر على شطر من اتباعهما معرفة وجوه العلم والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: قيام اهل الكتاب بالإحتجاج من غير الرجوع الى التوراة والإنجيل.
الثالث: غلبة اللجاج والعناد وظهورهما في الجدال.
وفي الآية اشارة الى علم الناسخ والمنسوخ، وانه تعالى يبعث الرسول لينسخ بعض الأحكام ويدعو الناس الى شريعته.

قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ]
خاتمة الآية قاعدة كلية تتغشــى اسرار الخلق وقوانين السماء والأرض وأحوال الناس في النشأتين، وبعثة الأنبياء، وخزائن الفضل الإلهي، والله وحده له العلم المطلق، وهوالذي أحاط بكل شيء علماً، وجاءت الآية للثناء عليه تعالى لإتقانــه الأشــياء كلها، وهـي حاضرة عنده لا تستطيع الإمتناع عن الظهور والإنكشاف المتصل له سبحانه، وعلمه تعالى مطلق شامل للموجود والمعدوم ، والكلي والجزئي قبل حدوثهما.
والآية دعوة للتسليم بما جاء به الأنبياء من عند  واجتناب العناد ونبذ الجدال واثارة الشبهات وما فيها من العناء الإضافي على الذات، والأذى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصد شطر من الناس عن دخول الإسلام.
فالآية وان كانت خطاباً لأهل الكتاب الا انها مقدمة لتيسير دخول الناس للإسلام ومنع العوائق التي تنجم عن اثارة اسباب الإفتتان والشك والريب، ومن الإعجاز في الآية وجود صفة الإطلاق في المتضادين، فالعلم كله لله تعالى، ويقابله عدم العلم عند أهل الكتاب، وعدم العلم هذا يحتمل أموراً:
الأول: الإطلاق في عدم العلم في كل شيء.
الثاني: انحصار نفي العلم عنهم بخصوص موضوع الآية.
الثالث: ما هو أعم من موضوع الآية مما يتعلق بالغيب وشؤون الخلائق، وفلسفة النبوة وأحكام النسخ بين الشرائع.
والأرجح هو الثالث فخاتمة الآية جاءت لإمضاء مضمونها، ولإعانة أهل الكتاب والناس على العمل به، وتنقيح الأقوال والأفعال بما يؤدي الى الإستجابة والإمتثال لأوامره تعالى.
وقد ورد قوله تعالى [ فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
وحينما ســأل الملائكة عن جعــل الإنسان خليفة في الأرض مع ما يقوم من الفساد، اجابهم الله  [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وفي الآية اخبار بان  تعالى اعلم بالمصالح والمفاسد ومن مصلحة اهل الكتاب والمسلمين ان يكون ابراهيم صاحب شريعة ولا يكون يهودياً او نصرانياً، وان الحجة التي يأتي بها اهل الكتاب في احتجاجهم منافية لما فيه مصلحتهم ونفعهم، وهذا من اقوى وجوه الإحتجاج على المجادل بان يتفضل سبحانه ويخبره بان احتجاجك مخالف لما تبتنى عليه المصلحة الذاتية والعامة فهذا الجدال لا أصل له، كما انه ضار ولابد من اجتنابه والكف عنه.
ثم تفضل ســبحانه وبين في الآيات التالية ان ابراهيم كان مسلماً حنيفاً وانه لم يكن يهودياً او نصرانياً، ومن هم الذين أولى بابراهيم، وفي الآية حث لأهل الكتاب والناس جميعاً باللجوء اليه تعالى لإكتساب العلوم ومعرفة الحقائق، والتي تتجلى ببعثة الأنبياء والكتب المنزلة من عنده تعالى.
فالآية وان جاءت بصيغة الخبر الا انها تتضمن الإنشاء والأمر الإلهي بنبذ الإنسان للجدال في الأمور التي لا يعلم بها، وحثه على لزوم التعلم والكسب واخذ الحقائق والعلوم من الوحي والتنزيل، ليتخلص من التحريف والجهل والشك والوهم لأن الجدال بغير علم اما ان يكون مرتكزاً على التحريف وسوء التعلم واما ان يصدر عن جهل.
فجاءت الآية للحرب عليه، والدعوة الى الإسلام والتدبر بالآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية نصر للمسلمين واعانة لهم في أبواب الجدال ومحاولات المغالطة ونشر اسباب الوهم والشك في أمور العقيدة التي تصدر من المشركين والكفار فيما يخص الشريعة الإسلامية وأحكام النبوة، أي ان الآية جاءت لتوجيه اللوم لأهل الكتاب بخصوص جدالهم في شريعة وانتساب ابراهيم، الا انها مدرسة جامعة ووسيلة لإرشاد المسلمين لكيفية مواجهة جدال اهل الشك والريب من المشركين عند اتساع رقعة الإسلام وتداخل الحضارات والأزمنة اللاحقة ومنها أيام العولمة وتغشي وسائل الاعلام أغلب الامصار والقرى.
فالآية حصن وواقية لما هو اعم وأخطر من جدال أهل الكتاب وتعلق موضوعه بشريعة ابراهيم وانتسابه، كما انها تتضمن ألآية الإشارة الى نصر الإسلام وترسيخ أحكامه.



قوله تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهــِيمُ يَهُــودِيًّــا وَلاَ نَصْــرَانِيًّــا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] الآية 67

الإعراب واللغة
ما: نافية، كان: فعل ماض ناقص،
ابراهيم: اسم كان، يهودياً: خبر كان، ولا نصرانياً: الواو: حرف عطف، نصرانياً، معطوف على يهودياً.
ولكن كان حنيفاً مسلماً: الواو: حرف عطف، لكن: محففة مهملة، كان: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير تقديره هو.
حنيفاً: خبر كان الأول، مسلماً: خبر ثان.
وما كان من المشركين: عطف على ما تقدم، من المشركين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان.
الحنيف: المسلم الذي يعرض عن الشرائع الأخرى ويميل الى الحق والتنزيل وفيه وجوه أخرى:
الأول: الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة ابراهيم عليه وعلى نبينا محمد الصلاة والسلام.
الثاني: الطاهر، وفي الحديث القدسي: خلقت عبادي حنفاء أي على الفطرة في النقاء والطهر.
الثالث: المخلص في ايمانه.
الرابع: من أعتزل الأصنام.
الخامس: من أسلم في أمر ، ولم يمل عن الحق والإستقامة.
السادس: الذي يعدل عن الشرك.
السابع: المستقيم
والمشهور ان معنى الحنف هوالميل يقال تحنف فلان الى الشيء اذا مال اليه، ولكن معناه الإصطلاحي هو الإستقامة، وأنشد ابو زيد:

تعلم ان سيهديكم الينا

                                طريق لا يجور بكم، حنيف

لذا يســمى الدين الإســلامي بانه الدين الحنيف أي ان الحنيف وصف ذاتي للإسلام يدل على الإستقامة والثبات.
وفي الحديث: بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ) فالحنيفية وصف كمال للشريعة الإسلامية.
وكانوا في الجاهلية يعتبرون من يحج البيت ،ويغتسل من الجنابة، ويختتن حنيفاً ،لأنها من سنن ابراهيم.
في سياق الآيات
بعد الزجر عن الجدال في خصوص ابراهيم ونسبته الى الديانة اليهودية او النصرانية، جاءت هذه الآية لتبين الصفة والمنزلة الرفيعة لإبراهيم في سلم النبوة، فان نزول التوراة والإنجيل بعد ابراهيم لا يعني عدم وجود مبادئ الإسلام ومضامين الإيمان قبلهما، واكتفت الآية بالإخبار بانه كان حنيفاًُ مسلماً وتوكيد نزاهته من ادران الشرك ولم تقل انه كان رسولاً نبياً ، وهذا من اعجاز القرآن في باب الإحتجاج ان جاء الرد لإبطال دعوى الخصم بانه منهم، اما نبوته فتدل عليها آيات قرآنية أخرى عديدة.
إعجاز الآية
يتفضل الله سبحانه ويرد على اليهود والنصارى، ويبطل احتجاجهم وينصر المسلمين وينمي عندهم ملكة الإحتجاج والجدال بالحق، وفي الآية اخبار عن وجود انبياء ومؤمنين ليسوا من اليهود والنصارى بمعنى ان الإيمان والتصديق بالكتاب السماوي لا ينحصر باليهود والنصارى وهناك موحدون غيرهم.
فتفتح الآية الآفاق امام المسلمين لمعرفة الملل والنحل والتمييز بينها وتحثهم على دعوة اتباع الحنيفية الى الإسلام وعدم معاملتهم معاملة المشركين، ومن اعجاز الآية انها جاءت بنفي انتساب ابراهيم الى اليهودية او النصرانية على نحــو القطــع وبصــيغة النص والوضــوح وعدم اللبس لأن الحقيقة تأتي بسيطة سهلة تدحض الخصم وتدفع المغالطة.
وتبين الآية عدم وجود واسطة بين الإسلام والشرك، وان المسلم منزه عن الشرك والضلالة.
ويمكن تسمية الآية بآية “حنيفاً مسلماً”
الآية سلاح
تشع من الآية انوار الحكمة الإلهية ببيان حال ابراهيم، فوسط الدعاوى عن نســبة ابراهيــم ومحاولات مصــادرة ما جـاء به من الأحكام على نحو الإستقلال تأتي هذه الآية لتجعل المسلمين على درجة عالية من المعرفة الإلهية والإحــاطة بحياة الأنبيـاء، وسنن النبوة وتخبر على نحو القطع بان ابراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً، وهذا الإخبار موجه الى:
اولاً: المسلمين، واعانتهم على ادراك الحقائق الخاصة بالأنبياء.
ثانياً: اهل الكتاب للكف عن الحديث والجدال في الأنبياء بغير علم.
ثالثاً: الناس جميعاً بلزوم الرجوع الى القــرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لمعرفة الحقائق التأريخية وأحكام التنزيل.
وفي الآية تشريف للمسلمين بان جعلت الإسلام هوية لنبي من أكبر الرسل في تأريخ الإنسانية، وجاء زمانه متقدماً على زمان اليهودية والنصرانية، وقد يظن بعض الناس ان سبق اليهودية والنصرانية ووجودهما على نحو الملة والأمة الواحدة في تشريعها وأحكامها ينفي وجود ملة أخرى متقدمة زماناً عليهما، وان هذا السبق شاهد على الصدق لما فيها من الدلائل على نحو الإستمرار والإستدامة، فجاءت هذه الآية لتبين ان الإسلام متقدم في زمانه على اليهودية والنصرانية بابراهيم عليه السلام واتباعه، ولا حق لهما بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، وهذه الإحاطة الزمانية عنوان الصدق والأهلية للبقاء.
أسباب النزول
ورد عن ابن عباس والحسن وقتادة : إن أحبار اليهود ، ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله ، فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود : ما كان إلا يهوديا . وقالت النصارى : ما كان إلا نصرانيا . فأنزل الله هذه الآية( ) وفيه مسائل:
الأولى: ان دعوى انتساب ابراهيم لليهود والنصارى صادرة من رؤسائهم وكبرائهم مما يدل على لزوم التصدي لها، بكيفية وصيغة تأتي عليها، فتكفل القرآن هذه المسؤولية ليتولى المسلمون تعاهدها.
الثانية: اجتماع وفود من اليهود والنصارى عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه منافع عقائدية عديدة منها:
الأول: عدم خشية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اجتماعهم عنده.
الثاني: حضور المسلمين لهذا الإجتماع، واستماعهم لما يجري فيه.
الثالث: حضور اليهود والنصارى عند النبي شاهد على جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل ، واستعداده للقاء رؤساء الملل الأخرى مما يدل على صدق نبوته.
الرابع: انتفاع المسلمين مما يجري من الإحتجاج واقامة البرهان في هذا الإحتجاج، وفيه دليل على أهليتهم للإستماع الى الجدال من وجوه:
الأول: الإطلاع على حجة الطرف الآخر من غير ان يتأثروا بها، او تضر بايمانهم.
الثاني: رؤية الغلبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحتجاجه بالبرهان.
الثالث: الإرتقاء في سلم المعرفة الإلهية، وكما أخذ المسلمون مناسكهم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهم يأخذون منه صيغ الجدال والإحتجاج ، ويتعلمون كيفية مواجهة الخصم، ودفع شبهته وابطال حجته.
الرابع: في الآية دعوة للمسلمين لعدم النفرة من الإلتقاء باليهود والنصارى لأغراض الجدال والإحتجاج.
الخامس: ان اليهود والنصارى هم الذين يأتون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعون منه، وهو مناسبة لرؤية الآيات والبرهان التي جاء بها.
الثالثة: (عندما بعث النبي صلى  عليه وآله وسلم الأمراء، بعث علي بن أبي طالب  الى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم)( ).
وفي خصوص حجة الوداع جاء في خبر أبي نجيح: (بعث رسول الله صلى  عليه وآله وسـلم علي بن أبي طالب الى نجران، فلقيه بمكة وقد أحرم، فدخل على فاطمة ابنة رسول  ، فوجدها قد حلت وتهيأت …)( ) الخبر.

قانون احتجاجات النبي
لقد جعل  الأنبياء وسائط بينه وبين البشر، يقومون بتبليغهم الأحكام والتنزيل، ويقودونهم في سبل الرشاد ويكونون أئمة لهم في مناهج العبادة والخشوع لله تعالى، ويبذلون الوسع في سبيله تعالى، ويتحملون اشد العناء ويتلقون صنوف الأذى والبلاء وهم يواصلون الجهاد لهداية الناس.
ولا ينحصر جهاد الأنبياء بباب دون آخر، بل يشمل جميع الميادين ومنها صيغ الإحتجاج والبرهان ولكل نبي من الأنبياء سجل مبارك متصل في الإحتجاج.
ومن الآيات ان النبي لم يتوقف عن الجدال والإحتجاج في أي حال من الأحوال، ولم يخشَ الظالمين بل كان يتخذ من منتدياتهم منبراً للإحتجاج وتأكيد وجود الصانع ولزوم عبادته، ودفع شبهة الخصم، واثبات ضلالة الكافرين وجهالة أقطاب المشركين.
ومن الآيــات عدم اتخــاذ الجدال ســبيلاً لفتل الخصم عن مذهبــه، بل يأتي القرآن بالدليل الذي يؤكد صدق دعوته، ويخاطب العقول بالحجة التي تثبت للناس صحة مقالته وما جاء به الرسول الأكرم من عند .
ويتخذ النبي صيغ الإنذار للزجر عن الضلالة والبشارة للجذب للإيمان، ومع انه لم يخرج عن صيغ الحق والصدق الا ان بعض ارباب المصالح يأبى الإنصات للخطاب النبوي وما فيه من اسباب النجاة فيخشى على سلطانه ومقامه فيحاول البطش، والإجهاز على حملة راية الحق، فيصبح الدفاع ضرورة ،ونابعا من نفوس مملوءة بالإيمان .
مفهوم الآية
في الآية مسألتان كبرى وصغرى، اما الكبرى فهي اسلام واستقامة ابراهيم ، والصغرى نفي انتسابه الى اليهودية او النصرانية، مما يحول دون تعدي اهل الكتاب على ابراهيم بسبب هذا النفي، ويجعل الحجة عليهم بدل ان تكون لهم، ولم يأتِ النفي على نحو الإجمال، بانه لم ينتسب الى ملتهم بل قالت الآية بانه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، فذكرت عدم انتسابه لكل منهما على نحو التفصيل والبيان.
كما انها لم تكتفِ بانه كان مسلماً ولو اكتفت بذكر اســلامه وانه كان حنيفاً لقال اليهــود والنصارى ان المسلمين تابعون لهم لأن ابراهيم مع اسلامه كان يهودياً او نصــرانياً بل جــاءت الآية بالنفي والإيجاب معاً، بنفي انتســابه لليهودية والنصــرانية والتوكيد بانه كان حــنيفاً مسلماً، وهذا من اعجاز القرآن وشاهد بان ما فيه من التبيان يتضمن الوضوح والتفصيل والحجة والبرهان وقطع الطريق على التأويل الخاطئ.
ومع قلة عدد كلمات القرآن وانها من عالم المنتهي فانك تراه يحيط باللامحدود، ويتناول المواضيع والأحكام على نحو التفصيل والدقة، ووصف الحنيفة والإسلام ينفي بالضرورة الشرك لأنهما من المتناقضين ولعدم امكان اجتماع الإسلام والشرك في موضع واحد، والآية جاءت للدفاع عن ابراهيم وتنزيه مقامه ولحث المسلمين على الدفاع عنه وعن الإنبياء جميعاً.
وفي خاتمة الآية تحذير من الشرك والضلالة ومنع من الغلو باشخاص الأنبياء، ودعوة للإقتداء بهم باعتبار ان الإقتداء بهم خير سبيل للنجاة من الشرك والضلالة، وهو من أهم المضامين التأديبية في الآية الكريمة، لأن المراد من الآية الإنتفاع من الأحكام التي جاء بها ابراهيم، وادعاء انتسابه الى اليهودية والنصرانية يمنع من الإنتفاع منها على نحو السالبة الكلية او شبه الكلية، فمن يدعي انتساب ابراهيم لملته لا يلتفت الى الأحكام التي جاء بها، لأنه يظن انه تابع وليس متبوعاً.
اما المسلمون فانهم لا يأخذون من اليهود والنصارى ومن يدعون انتسابه لهم، مما يعني احتمال ضياع ما جاء به ابراهيم عليه السلام مع تقادم الأيام ، فجاءت هذه الآية لتؤكد استقلال ابراهيم في نبوته ونهجه وانه كان حنيفا ًمسلماً، وستأتي الآية التالية لتبين من هم الذين اولى بإبراهيم عليه السلام في دعوة لحفظ شريعته، وعدم الإنتقاص من منزلته العظيمة.
التفسير
قوله تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا]
في الآية بيان لمقام ابراهيم وماله من الشأن العظيم في مراتب النبوة بحيث ان عدة آيات جاءت للدفاع عنه بالحجة والدليل، ومن الآيات ان القرآن لم يترك مسألة انتساب ابراهيم باعتبار ان الأهم هو الجهاد في سبيل الله وحفظ الإسلام وتثبيت دعائم الدين بل جاء على ذكر ابراهيم وانتسابه على نحو التفصيل.
وهل في نفي اليهودية والنصرانية عن ابراهيم انتقاص لليهود والنصارى او للديانتين، الجواب لا، فالآية لا تدل على ارادة تنزه ابراهيم عنهما، بل انها تمنع من نسبته لهما، ولم يدع اليهود ان موسى عليه السلام يهودي، وان عيسى نصراني لأنهما اللذان اسسا هاتين الديانتين، وجاءا بالتوراة والإنجيل، وعدم وجود هذا الإدعاء يحتمل أمرين:
الأول: التسالم على نسبة موسى وعيسى عليهما السلام الى اليهودية والنصرانية.
الثاني: انهما أكبر من ان ينسبا للديانتين، كلاً الى ملته، لأنهما اماما هاتين الديانتين ، وكل رسول منهما جاء بديانته.
والأصح هو الثاني، فان موسى هو الرسول الذي يتبعه اليهود، وعيسى عليه السلام هو الرسول الذي يتبعه النصارى كما ورد في قوله تعالى [قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ]( ) والناصر غير المنصور، واذا كانوا يكرمون موســى وعيسى ويجعلونهما أكبر من ان ينسبا الى الملة وهو نوع اقرار من اليهود باتباعهم لموسى، ومن النصارى باتباعهم لعيسى، فمن باب الأولوية تنزيه ابراهيم عليه السلام عن هذه التبعية وليس من سبب لنسبة موسى وعيسى الى اليهودية والنصرانية.
والمليون يعلمون برجوع اليهود الى موسى والنصارى الى عيسى، ولا موضوعية في الإحتجاج والجدال لهذه النسبة، ولكنهم قصدوا بنسبة ابراهيم لهم محاربة المسلمين في باب العقائد والمناظرة، فجاءت الآية بالتصريح والإعلان الثابت بان ابراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً، لتغلق صفحة من الجدال والأذى عن المسلمين الى يوم القيامة، ويدركون ضرر التحريف والإفتراء على الأنبياء، ويصبحون مستعدين للإلتفات لكل دعوى بهذه الخصوص ودراستها ومدى صدقها او كذبها بلحاظ وجوه منها:
الأول: الرجوع الى القرآن الكريم لعرضها عليه، ومعرفة صدقها من كذبها.
الثاني: اعتبار الزمان والتأريخ في معرفة انتساب الأنبياء اذ كانت الدعوى بخصوصهم فمن كان زمانه سابقاً لملة مخصوصة لا يصح ادعاء اهلها نسبته لها.
الثالث: الإلتفات الى مراتب الأنبياء، فالرسول لا يكون تابعاً لرسول او نبي آخر، بل له شريعته وكتابه، نعم يكون النبي اللاحق تابعاً للرسول الذي سبقه الى حين بعثة رسول جديد، وابراهيم عليه السلام رسول من الرسل الخمسة اولي العزم.
ان ادعاء كل من اليهود والنصارى نسبة ابراهيم لهم يحمل في ثناياه التعارض والتزاحم، فاذا كان اليهود يدعون ان ابراهيم منهم فيعني انه ليس يهودياً، ولكن هذا التعارض لم يمنع من نزول الآية القرآنية ونفي انتسابه لهما معاً.
ولم يتركهم الله عز وجل وشأنهم ليختلفوا ويزداد الشقاق بينهم بسبب التعارض في هذه الدعوى، بل نفاها مطلقاً، فجاءت الآية لتنفي دعوتين معاً، وليس دعوى واحدة فمع التعارض بين الدعوتين فان الآية نفتهما معاً في كلمة واحدة، وهذا من الإعجاز القرآني وشاهد على قوة الأثر المترتب على الإحتجاج القرآني وما يتضمنه من البرهان وأسباب النصر والغلبة بالإضافة الى الإمتداد الزماني.
وقال الطبرسي في تفسيره للآية “ثم كذب الله اليهود والنصارى فقال [مَا كَانَ إِبْرَاهــِيمُ يَهُــودِيًّــا وَلاَ نَصْــرَانِيًّــا] نزه إبراهيم وبرأه عن اليهودية والنصرانية ، لأنهما صفتا ذم قد دل القران والإجماع على ذلك . وهذا يدل على أن موسى أيضا لم يكن يهوديا ، ولم يكن عيسى نصرانيا . فإن الدين عند الله الإسلام، واليهودية ملة محرفة عن شرع موسى . والنصرانية ملة محرفة عن شرع عيسى، فهما صفتا ذم جرتا على فرقتين ضالتين”( ).
ولكن هذا بعيد، فليس في الآية ما يدل على رمي اليهود والنصارى بانهم أهل ضلالة، وان ملتيهما ملتان محرفتان عن شرع موسى وعيسى، والقدر المتيقن من الآية نفي انتساب ابراهيم لهما، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد ورد في الآية قبل السابقة قوله تعالى [لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ]( ) مما يعني ان اليهودية فرع التوراة، والنصرانية فرع الإنجيل، والكتابان لم ينزلا الا بعد ابراهيم بزمن طويل نعم يمكن استقراء التحريف من آيات أخرى.

قوله تعالى [وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا]
بعد ان نفت الآية صفة اليهودية والنصرانية عن ابراهيم عليه السلام ودحضت شبهة أهل الكتاب وجعلتهم عاجزين عن الرد او مواصلة الدعوى، فلا اليهود يستطيعون ادعاء نسبته لهم بعدئذ، ولا النصارى يقدرون على القول بانه نصراني جاء هذا الشطر من الآية لذكر صفة ابراهيم العقائدية ليكون وصفه دعوة لهم لدخول الإسلام وجعل الناس يميلون للإسلام ومبادئه.
لقد أراد الله عز وجل للناس ان يكونوا امة واحدة تحت لواء الإسلام، وهو الأمر الذي جاهد ابراهيم عليه السلام من أجله، وتجلى الشكر الإلهي لإبراهيم في الدنيا بالثناء عليه بوصفه مسلماً، وفي الآية مدح للمسلمين جميعاً، وجعلهم بمنزلة الأنبياء من حيث الإسلام والإنقياد لأوامره تعالى.
لقد أراد اليهود والنصارى السيادة العقائدية على الملل الأخرى بدعوى نسبة ابراهيم لهم، وليكونوا بمنزلة الأنبياء من حيث الإلتقاء بالصفة والنسبة والملة، فجاءت الآية لتنفي هذا الإلتقاء وتثبت عدم أهليتهم للإرتقاء الى درجة الأنبياء او وراثتهم، وتبين وجوه الصلة بين الأنبياء وبين المسلمين وهي:
الأول: الحنيفية.
الثاني: الإستقامة على طريق الهدى.
الثالث: الإسلام، والإمتثال لأوامره تعالى.
الرابع: اجتناب الشرك على نحوالإطلاق أي الظاهر منه والخفي.
ومن المفاهيم الأخلاقية والعقائدية في الإسلام وما يدل على صدق الدعوة الإسلامية ان المسلمين لم يدعوا انتساب ابراهيم  لهم، بل أظهروا الفخر والإعتزاز باتباعهم لنهجه وسننه واذا كان في المقام فخر فهو بحسن الإتباع لإبراهيم في حنيفيته اما غيرهم فترك اتباعه وابدله بنسبة ابراهيم له، وفيه تحريف عقائدي وتأريخي.
لقد اختار ابراهيم عليه السلام الإعراض عن سنن الضلالة والكفر التي كانت سائدة في زمانه، وهذا الإختيار جهاد مع النفس وتهذيب لها ومواجهة للطواغيت، فكرهوا ان يروا شطراً من الناس يعرضون عنهم، وهذا الإعراض لم يكن مطلوباً بذاته، بل انه مقدمة للميل الى الحق والهدى ، لذا ورد عن ابراهيم في التنزيل [ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي…]( ) للإحتجاج على الكافرين واستدراجهم بلطف الى الإيمان، وتنمية النفس اللوامة عندهم.
والميل الى الحق احد معاني الحنيفية، ولقد أراد ابراهيم للناس العودة الى الفطرة التي خلقهم الله عليها، والتنزه من مفاهيم الضلالة والكفر.
ومن معاني الحنيفية اجتناب عبادة الأصنام والتزلف اليها والتوسل بها ، ويعتبر ابراهيم الخليل عليه السلام الرائد في هذا الباب، وجاء جهاده توطئة لرسالة موسى وعيسى عليهما السلام، اذ انهما لم يجدا في زمانهما وحولهما عبادة الناس للأحجار التي لا تضر ولا تنفع، وقد واجه ابراهيم أمة بكاملها وجيلاً من الناس يعبدون الأصنام، وجاهد بنفسه وبيده وتحداهم بكسر الأصنام التي يعبدون وليس معه من ناصر الا الله.
وقد تفضل سبحانه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومكنه والمسلمون من كسر الأصنام في الجزيرة العربية وازالتها الى الأبد وهو من الشواهد على أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع عظيم منزلته من وجوه:
الأول: ان ابراهيم مع كسره للأًصنام فانها عادت من جــديد في الجـزيرة، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه كسرها لتزول عبادة الأصنام والأوثان الى الأبد، وهذه آية تدل على أهلية المسلمين لوراثة الأرض.
الثاني: قام ابراهيم بكسر الأوثان واضطر الى التورية والإحتجاج عليهم بها كما ورد في التنزيل [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ]( )، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه كسرها من مقام الرئاسة والحكم.
الثالث: لقد جاهــد ابراهيم بان كســر الأصنام بنفسه، اما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه قام بكسر بعضها كما في يوم الفتح ووجه اصحابه لكسر الأصنام في انحاء الجزيرة وهو شاهد على قوة الإسلام والقدرة على تحدي الكافرين، وخيبتهم وخسارتهم وكسر شوكتهم واثبات بطلان ما كانوا يظنون.
الرابع: جاء فعل ابراهيم متحداً وفي موضــع اقامته، اما كســر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام فجاء متعدداً وشاملاً للجزيرة واليمن، وهو شاهد على الشمول وانتشار احكام الإسلام.
الخامس: لم يستطع ابراهيم ازالة أسباب عبادة الأصنام فسؤالهم له يدل على ان فعله قضية في واقعة وصورة من الجهاد الرسالي، وإنذار للكافرين، اما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد قام بازاحتها من الوجود الواقعي والذهــني ومــن المجتمعات وجــاء بالحق بديلاً عنها.
وبلحاظ الواقع التأريخي فان من كان يعبد الأصنام اصبح مسلماً وتوارث ذريته عنه عقيدة ألإسلام.
ومن وجوه الحنيفية استقبال البيت الحرام في الصلوة، وقد قام ابراهيم ببناء القواعد من البيت وتحديد قبلة المسلمين، وفي ذكر صفة الحنيفية لإبراهيم حجة على بني اسرائيل وبيان لإختلافه عنهم في القبلة وعدم اتباعهم له.
والإختلاف في جهة القبلة دليل على التباين والتعدد في الشريعة.
وجاء وصف الحنيفية لإبراهيم للإخبار عن طهارته وسلامة عقيدته وانه لم تدعه الجاهلية بشوائبها وما فيها من القبح الذاتي والعرضي، فهذا الوصف مدح لإبراهيم عليه السلام وتزكية له، ودعوة للإقتداء به وبما اتصف به من الإخلاص في الإيمان وبلوغ مراتب التقوى، لذا تراه لم يهادن الكفار والمشركين بل ظل منقطعاً الى الله تعالى لا يخاف الملوك من الكفار وبطشهم.
لقد استحق المسلمون صفة الحنيفية مثلما استحقها ابراهيم ولكنه يختلف بانه كان حنيفاً وسط امة من الكفار ولم يخف ايمانه او يكتف باعلانه بل حارب الكفر والكفار بيده ولسانه ليكون اسوة في الجهاد وكانت بعثته في زمان ملك يدعي الربوبية، وقومه منقادون له، فاظهر إبراهيم العبودية لله تعالى، واسس صرح التوحيد، فليس من الإنصاف ان يأتي من ابنائه من يبخس حقه سواء كان المقصود من البخس ذات ابراهيم، ام النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ام المسلمين فتفضل سبحانه وانتصر لهم جميعاً وذكرت الآية القرآنية ابراهيم عليه السلام بصفات المدح والثناء ومنها انه كان حنيفاً مسلماً.
وكانت حياة ابراهيم عليه السلام من احسن وابهى القصص لما فيها من الدلالة على بلوغه ارقى مراتب التقوى وتعلم منه المسلمون الثبات على الحق وعدم الميل عنه واقتبس منه اتباعه الإستقامة على جادة الهدى، فاستحقوا المدح كما سيأتي في الآية التالية، وفي ادعاء نسبته لليهودية والنصرانية منع للناس من الإنتفاع من هذه النعمة، لذا جاء فضح هذا الإدعاء وتكذيبه بنص قرآني واضح، ومقرون بالدليل والبرهان مع مدح لإبراهيم وبيان لجهاده وحسن سمته.
ومما يتصف به ابراهيم انه اظهر الإستقامة، على نحو الإبتداء والإستدامة، وهذه الإستقامة يحتاجها الناس لتكون مقدمة ووسيلة للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فوصف ابراهيم بانه حنيف تذكير بلزوم الإستقامة في مرضاة الله واجتناب ايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ومن بركات ابراهيم ان ذكره مناسبة لإصلاح اهل الكتاب.
لقد رزق الله عز وجل ابراهيم الإمامة وهي الرئاسة العامة في امور الدين والدنيا،وجاء القرآن بتوكيدها [ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا]( ) فادعــاء انه يهــودي او نصـراني له اضرار عامة على اهل الكتاب وعلى المسلمين لإنحصار الإمامة في زمان التنزيل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فاراد الله ازالة الغشاوة التي تسببها هذه الدعوى، واعانة اليهود والنصارى للتفقه في الدين ومعرفة قصص الأنبياء والأمم السابقة.
ووصف ابراهيم بانه حنيف بيان للتخفيف عن الناس، وعدم التشديد في العبادات والفرائض، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه قال بعثت بالحنيفية السمحاء، وفيه حجة عليهم بان نهج ابراهيم كان مستقيماً وسهلاً ولا يستلزم الوسائط فمن مزايا الإستقامة ابتعادها عن المشقة والكلفة والحرج.
لقد جاء الخطاب في القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
وفيه دلالة قطعية بعدم تبعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لليهود او النصارى، والرسول لن يكون تابعاً لغيره من الأنبياء والرسل، وهذا من الإعجاز ان يؤسس القرآن قوانين وقواعد كلية ثابتة تمنع اليهود والنصارى والى يوم القيامة من نسبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملتهم، وعدم نسبته لهم تعني بالضرورة عدم نسبة المسلمين لهم، وهذا فضل عظيم منه تعالى على المسلمين.
فحينما يدعي اليهود والنصارى نسبة ابراهيم عليه السلام لهم، فمن باب اولى ان يقولون بنسبة المسلمين لهم في ديانتهم ومناهجهم ويقومون بالبحث عن وجوه اللقاء بين ما عندهم وما عند المسلمين من جهة المبادئ والأقوال والأفعال، وهذه الدعوى قد تصدر من الفريقين اليهود والنصارى، وقد تصدر من فريق واحد منهم، او من غيرهم من الملل الأخرى في الأرض سواء تلك التي كانت موجودة ايام البعثة النبوية في الجزيرة وما حولها، او تلك التي في البلدان والمناطق الأخرى التي يصل لها الإسلام فيما بعد.
وفيه درس للمسلمين بان الإسلام علم وفقــه ومرتبة عالية في مــوازين العبــودية لله، فســادة الأنبياء اختـاروا الإسلام صراطاً ومنهجاً، وأصبح هذا الإختيار فخراً وعزاً ومناسبة للإحتجاج وصفة خاصة لا ترقى اليها درجة اهل الكتاب، لأن الإحتجاج بها يحتمل وجوهاً:
الأول: المغايرة والتباين بين الإسلام والإنتساب الى اليهودية او النصرانية.
الثاني: التساوي والإتحاد بينهما.
الثالث: نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك وجوه للإلتقاء ، ووجوه للإختلاف.
الرابع: نسبة العموم والخصوص المطلق، فالمبادئ والأحكام الخاصة باليهودي والنصراني جزء من المبادئ والأحكام التي تخص المسلم.
وهناك فرق بين معنى الإسلام اللغوي ومعناه الإصطلاحي، فالأول هو التسليم والإنقياد، اما الثاني فهو النطق بالشهادتين والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن اعتبار الأول جانباً وعنواناً مشتركاً للموحدين الذين يلتزمون باحكام التنزيل، اما الثاني فهو الختم والإرتقاء في الإنتماء العقائدي.
ومن خصائص المسلم وجوب أدائه للصلاة، وتعتبر قراءة القرآن من واجبات الصلاة وشرائط صحتها، ولم يكن أيام ابراهيم قراءة لآيات القرآن، ومع هذا صدق عليه عنوان المسلم، نعم نزلت عليه الصحف كما في قوله تعالى [ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ]( ) ولابد ان هذه الصحف موجودة في القرآن، لأن فيه تبيان كل شيء، باعتبار ان الصلاة ملازمة للإسلام، فمن باب أولى ان تكون مصاحبة للنبوة وشعاراً للأنبياء.
قانون الإسلام
قال تعالى [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
لقد أراد   للإسلام ان يكون الشريعة الثابتة في الأرض، ولتســتقر المجتمعــات وتطمئــن القلوب، ويبقى صـرح التوحيد قوياً شامخاً يزداد علواً ورفعة على مرّ الأيام، وتتعاقب طبقات العلماء واجيال المسلمين لتترسخ مبادئه وتتوارث سننه، وتدفع عنه شبهات الأعداء.
وقد بدأ   بدفعها وتخليص المجتمعات منها، وفيها دلالة على تقدم الإسلام في زمانه على اليهودية والنصرانية فابراهيم كان مسلماً في وقت لم يكن هناك يهود او نصارى، بل ان الإسلام كان الملة الوحيدة في الأرض ايام ابراهيم فلا غرابة ان يكون ابراهيم أمة منقطعاً الى العبادة منشغلاً بذكره تعالى، داعياً اليه في السراء والضراء، ومن خصائص الأمة ان تواجه الأمة الأخرى المناوئة لها.
وقد واجه ابراهيم بشخصه نمرود وملئه وجنوده، وهو يدعوهم الى طاعة  ونبذ الكفر وليكون شــاخصاً تأريخــياً يشهد على وجود الإسلام قبل اليهودية والنصرانية ويمهد لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلو لم يكن ابراهيم  مسلماً لقال اليهود والنصارى ليس من دين او ملة سماوية سواهم، ولم يعترفوا بالإسلام ديناً، ولكن الإسلام ســابق لهم مما يمنع من ادعائهم الباطل على البعثة النبوية كما ان الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالآيات والبراهين.
والإسلام صبغة عقائدية تتغشى الأنبياء جميعاً وكذا اتباعهم من الأولياء والصالحين، وهو حقيقة ثابتة في الأرض يتوارثها اهل الإيمان الذين يبادرون للإمتثال للأوامر الإلهية، ان وجود المسلمين في الأرض يدل على وجود موضوع النبوة وتوارث احكامها سواء باشخاص الأنبياء او اصحابهم او عموم اتباعهم وجاءت هذه الآية لتؤكد قوة الإسلام بلحاظ شخص ابراهيم فهو رسول من الخمسة اولي العزم ومع هذا تذكره الآية بانه مسلم لتخبر عن استدامة الإسلام وبقائه في الأرض قوياً عزيزاً.
ووصف ابراهيم  بانه مسلم يبعث العز في نفوس المسلمين ويجعلهم يدركون عظيم منزلتهم في التأريخ ويمنع من تطاول اهل الكتاب عليهم وادعاء سبق مللهم على الإسلام، فمبادئ الإسلام قانون ثابت ملازم لوجود الإنسان في الأرض، ويترجل في أقواله وأفعاله في كل زمان واذا كان المسلم المتأخر يعلم بالمسلم المتقدم سواء عن طريق الكتب السماوية او الإخبار، فهل يعلم المسلم المتقدم بالمتأخر، الجواب نعم وان كان هذا العلم على نحو الموجبة الجزئية كما في الأنبياء فانهم يعلمون ببعثة رسول  محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتوارثون البشارة بنبوته التي يتغشى بها الإسلام الأرض، وتنتهي مرحلة الإسلام الشخصي والمتحد والأتباع القليلين والمكان المحدود، لتبدأ مرحلة السعة والشمول والتعدد وبلوغ الإسلام لجميع انحاء الأرض.وهو من مفاهيم البشارة التي يتوارثها الإنبياء.
وهل جاء وصف ابراهيم بانه مسلم من باب المثال ام الحصر، أي هل ينفرد ابراهيم من بين الأنبياء بانه مسلم ام ان غيره من الأنبياء مسلمون على نحو العموم الإستغراقي او بعضهم مسلمون، الجواب ان ذكر ابراهيم من باب المثال وان الأنبياء جميعهم مسلمون، ومنقادون لأمره تعالى ويتصفون بحسن الإمتثال والطاعة التامة له تعالى، وللإسلام شأن في علة واصطفاء ابراهيم وآل ابراهيم سواء كان في السبب او الأثر والنتيجة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (التعديد) وهو الاتيان بألفاظ متعددة بنظم واحد، ومعنى متقارب، والاصل ان تكون معطوفة بعضها على بعض، وتجري مجرى الصفة وتتضمن معاني الصدق كما في قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ]( )، وفيه نكتة عقائدية وهي اثبات ان  واحد وان كثرة الصفات لا تفيد التعدد، نعم جاءت واو العطف في قوله تعالى [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ]( ) لأنها اسماء ذات معاني متغايرة في موضوعها ولبيان عظمة الخالق .
ووصفت هذه الآية ابراهيم بانه [حَنِيفًا مُسْلِمًا] من غير عطف بينهما لبيان انه جمع الحنيفية والاسلام، وانه رفض ملة الكفر ومال عن اهلها واختار الانقطاع لله وبقى على اسلامه الى حين أجله.
وفي عدم وجود واو العطف بين صفة الحنيف والمسلم والجمع بينهما دلالة على درجة الايمان عند ابراهيم .
علم المناسبة
لم يرد لفظ (مسلم) في القرآن الا مرتين وبصيغة النصب، وقد ورد في يوسف  [أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( ).
وورد في هذه الآية مقترناً بصيغة الحنيفية مما يعني علو الدرجة التي نالها ابراهيم بوصفه في موضع واحد من القرآن بانه حنيف مسلم، وجاء هذا الوصف في الاحتجاج على اهل الكتاب.
أما لفظ (حَنِيفًا) فورد في القرآن عشر مرات، كلها بصيغة النصب، ومن اعجاز القرآن انها لم ترد الا في ابراهيم  والنبي محمد صلى  عليه وآله وسلم، سبعة في ابراهيم وثلاثة في النبي محمد صلى  عليه وآله وسلم، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]( ).
ومضمون الآية يدل بان الحنيفية أعم من ان تكون الميل عن ملة قوم، بل هي الاستقامة، لذا فان الجمع بين صفة الحنيفية والاسلام اشارة الى التكامــل العقائدي عند ابراهــيم ، وانه لم يكـتــف بالايمان القلبي بل كان متقيداً بأحكام الشريعة، وواجبات العبودية لله تعالى.
قوله تعالى [وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]
خاتمة كريمة للآية فيها تشريف لإبراهيم  وعز للمسلمين ولذرية ابراهيم مطلقاً وتبين اهليته للإصطفاء والإجتباء والإختيار.
وان اصطفاء ابراهيم كان سبب اختياره الإسلام وثباته عليه وسط مجتمع الكفر والشرك ونيله مرتبة النبوة، ان صفة الإسلام تدل بالضرورة على انتفاء الشــرك فاذا قيل ان فلاناً مســلم فانه يعني تنزهه من مدلهمات الشرك فلماذا جاءت خاتمة الآية بنفي الشرك عن ابراهيم  فيه وجوه:
الأول: المنع من قيام بعض اليهود والنصارى بالطعن بابراهيم  عند نفي انتسابه لهم.
الثاني: الإخبار بان اسلام الأنبياء السابقين واتباعهم لا تشوبه مفاهيم الشرك والضلالة، فليس لأحد ان يقول في المسلم قبل اليهودية والنصرانية الا خيراً.
الثالث: اتحاد مضامين الإسلام عند الأولين والآخرين ويتمثل بحسن الإمتثال لأوامر  ، وبذل الوسع في طاعته.
الرابع: للإشارة الى احوال المجتمع الذي كان فيه ابراهيم وانه مجتمع كفر وشرك، ومع هذا فان ابراهيم أظهر الايمان ودعاهم اليه، ولم يهادنهم او يأخذ من طباعهم وعاداتهم الذميمة.
الخامس: جاءت الآية لدفع وهم، فقد يظن اليهود والنصارى انه لا يستطيع شخص الثبات على التوحيد من غير ان يركن الى الظالمين والمشركين لحاجته الى الإختلاط معهم، والأخذ منهم، وان التنزه عن الشرك واجتنابه يحتاج الى أمة تتعاون فيما بينها، وتستغني عن المشركين في الأحكام والمعاملات ، فجاءت هذه الآية مصداقاً وتفسيراً لقوله تعالى في ابراهيم [كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ) فالقنوت هو الخضوع والخشوع ودليل على اجتناب الشرك للتناقض والتنافي بين القنوت والشرك.
السادس: الآية فضح للمشركين، واخبار بان الشرك والضلالة لم تستولِ على المجتمعات، بل كان هناك مسلمون موحدون.
السابع: تبين الآية جهاد ابراهيم  في مواجهة الشرك، وتحدي الكفار، فكان جهاد ابراهيم مركباً من وجوه:
الأول: الإحتجاج والجدال بالحق وبيان قبح الكفر، والعمى المصاحب للشرك سواء كسبب او قرين او اثر ضار.
الثاني: الجهاد والأمر بالمعروف باليد والفعل، وابراهيم رائد هذا الباب اذ قام بكسر اصنام القوم وليس له من ناصر الا  تعالى، وهذا دليل على انه ليس من المشركين على نحو الإطلاق وانه لم يهادنهم او يسكت عما هم عليه من الجحود والضلالة.
الثالث: التحلي بالصبر وعدم الجزع، فقد القي في النار ولم يظهر الفزع او الخوف.
الرابع: اعلان الإيمان والإقرار بالربوبية لله تعالى، ورفض ربوبية الطاغوت فلذا استحق المدح بانه ليس من المشركين.
الخامس: اظهار مضامين الإسلام على اللسان والجوارح، وسنته الحنيفية والتقيد بأحكامها.
السادس: اصلاح ابنائه لوراثة التوحيد ومبادئ الإسلام، وتجلى هذا الأمر بأبهى صورة، فقد جعل  ولديه اسماعيل واسحاق نبيين، وكذا يعقوب بن اسحاق.
لقد كان اخلاص ابراهيم  في العبادة واجتنابه الشرك مقدمة كريمة لتأهيل ذرية ابراهيم للنبوة والإمامة وســبب عقائدي لدعوته ليكون اماماً وباباً للإستجابة لهذه الدعوة، وسؤاله بقاء الإمامة في ذريته، وهو من أعظم الأسئلة والأدعية الواردة في القرآن على لسان الأنبياء لأنه لا يتضمن الدعاء للذات بل للذرية والأبناء وللأمة والناس جميعاً، فافاضات الإمامة لا تنحصر بمن ينالها بل هي ربيع للقلوب وسلامة في الأفكار، وتقويم للأفعال، وهي لطف الهي ينبسط أثره المبارك على كل الناس سواء من يؤمن بالنبوة وشخص النبي وامامته، او لا يؤمن بها.
لقد حرص ابراهيم  على قبول دعائه في نفسه وذريته فجاهد الشرك ومفاهيمه ورموزه وقادته، فمن الآيات ان ابراهيم لم يكن مجافياً للشرك ومبتعداً عنه فحسب، بل حارب الشرك أشد محاربة وكل انسان يريد ان يواجه اعداءه يحرص على جمع الأنصار والأعوان اولاً وينظم صفوفهم، ويشد من عزائمهم، ثم يأخذ بالمناوءة، ومحاربة الأطراف مع الإبتعاد عن مراكز قوة عدده وتجمعاته، اما ابراهيم فقد اختار الجهاد بنفسه، وفي حضرة الطاغوت، وهو بين وزرائه وقادة جنوده مع انه غريب عنهم في معتقده وأصله ونسبه.
وانتهج ابراهيم  منهجاً عبادياً صار قدوة واسوة للأنبياء والصالحين ، وجاء القرآن ليهدي الى ملة ابراهيم ويدعو للإقتداء به، قال تعالى [ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
وفيها ثناء على ابراهيم واخبار متجدد على صـدق ايمانه واخلاصه في طاعة  ، وبيان لعظيم منزلته في الملل اللاحقة، وتبين الآية أعلاه ضــرورة التصدي للقول بانه يهـودي او نصراني لما فيها من الأضرار على النبوة والمسلمين والدعوة الإسلامية بالإضافة الى مخالفته للواقع والحق.
وعدم الإشراك يدل في مفهومه على التوحيد وصدق العبودية لله تعالى والإنقطاع الى طاعته، ودل على هذا الإنقطاع قوله تعالى [حَنِيفًا ].
ولم تكتفِ الآية بقوله تعالى [حَنِيفًا ] بل اضافت صفة “مسلماً”، وفيه وجوه
الأول: توكيد صفة الإسلام، ودفع وهم بانه كان على ملة سماوية اخرى.
الثاني: ألإخبار بان النبي محمداً صلى  عليه وآله وسلم والمسلمين على نهج ابراهيم ، فمن كان يحرص على اتباع ابراهيم في ملته فليتبع محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته.
الثالث: الحنيفية هي الإستقامة، فجاء ابراهيم لبيان نوع الإستقامة وحصرها بالإٍسلام، ومنع ادعاء غير المسلم الحنيفية وهذه آية اعجازية في القرآن ودقة الفاظه، والأغراض السماوية الحميدة من كل لفظ قرآني.
وفي الآية اشارة الى دعوة النبي محمد صلى  عليه وآله وسلم والمسلمين لهم بعدم الشرك بالله كما تقدم قبل ثلاث آيات [وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا] للأخبار عن اتباع نهج ابراهيم  وان الصلة معه والانتساب له يتقوم بنبذ الشرك واجتناب الضلالة.
وفي وصف ابراهيم  بانه كان [حَنِيفًا مُسْلِمًا] مدح وثناء عليه، ومنافع منها:
الأول: الإخبار عن التكامل العقائدي والإيمان المحض عند ابراهيم .
فكما في قوله تعالى [يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، فلو كانت النار برداً وحده، لمات ابراهيم من درجة الإنجماد التي يتعرض لها وسط النار، ولكن  جعلها سلاماً، وبالنسبة لصفة الحنيفية، فكان ابراهيم مائلاً عن ملة الكفر والشرك ومسلماً منقاداً لأمره تعالى ممتثلاً لما في الحنيفية من الأحكام والسنن.
الثاني: تنبيه الناس وارشادهم الى حقيقة عقائدية وهي عدم الإكتفاء بالإستقامة ونبذ الشرك فلابد من الإسلام والتسليم بما يأمر به  تعالى، ويتجلى ما أمر  به في أيام التنزيل بالقرآن وما يوحي به الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: نعت ابراهيم بانه مسلم دعوة للناس لدخول الإسلام، والإنخراط في صفوفه.
الرابع: تحث الآية على معرفة أحكام الإسلام، وتبين أهمية الإنتماء اليه، ولزوم اكرام كل مسلم، للجامع بينه وبين الأنبياء.
الخامس: تبعث الآية الغبطة والثقة والسكينة في نفس كل مسلم ومسلمة والى يوم القيامة.
السادس: الإسلام صفة ملازمة للنبوة، فما من نبي الا وهو مسلم ومتقيد بأحكام الإسلام.
السابع: الإسلام صفة الأولين والآخرين من المؤمنين، ويعتبر به قادة المؤمنين من الأنبياء عقيدة وصفة ملازمة له في حياته وبعد مماته، تكون وحدها درساً وموعظة للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً.
وقال الفخر الرازي [وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح، وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه( ).
وذكر هذا المعنى الطبرسي ونسبه الى القيل (قيل ان هذا يتضمن كون اليهودية والنصرانية شركاً) ( ).
ولكن ليس في الآية ما يدل على رمي أهل الكتاب بالشرك، نعم فيها تنبيه الى ان الأنبياء كلهم منزهون عن الشرك، ودعوة لأهل الكتاب لإجتناب الشرك والضلالة، وحثهم على الإلتزام بأحكام التوحيد، وفي الآية نكتة وهي ان نفي نسبة ابراهيم لليهود والنصارى لا يعني عدم دعوتهم للتوحيد واتباع ابراهيم، فجاءت الآية لدفع وهم ولتصحيح الأقوال والأفعال والمحافظة على أصول الدين ومبادئ التوحيد التي جاء بها ابراهيم، وتدعو الآية اليهود والنصارى الى الإتعاظ والإعتبار من نهج الأنبياء والسابقين وجهادهم، وعدم الوقوف عند الرسول الذي جاء بالشريعة التي يتبعونها.
ومن دلائل صدق خلافة المسلمين للأنبياء، انهم يقرون بنبوتهم ويتبعون نهجهم ويلتزمون بالأحكام التي جاءت والتي تضمنها القرآن والسنة والنبوية ومنها الحنيفية التي جاء بها ابراهيم .



قوله تعالى [إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيــمَ لَلَّذِينَ اتَّبـَعــُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَــنُــوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُــؤْمِنِــينَ] الآية 68

الإعراب واللغة
ان اولى الناس بابراهيم: ان واسمها، الناس: مضاف اليه، بابراهيم: جار ومجرور متعلقان بأولى.
للذين أتبعوه: اللام المزحلقة، الذين خبر ان، اتبعوه: فعل وفاعل ومفعول به.
وهذا : عطف على الذين.النبي: بدل من اسم الإشارة.
والذين آمنوا: الواو: حرف عطف، الذين: اسم موصول معطوف على هذا النبي، جملة آمنوا: صلة الموصول.
والله ولي المؤمنين: الواو: حرف استئناف، اسم الجلالة مبتدأ، ولي: خبر، وهو مضاف، المؤمنين: مضاف اليه.
في سياق الآيات
بعد مجيء الآية السابقة بحقيقة عقائدية ونفيها انتساب ابراهيم الى اليهود او النصارى، وتوكيدها بانه حنيف مسلم، جاءت هذه الآية بحقيقة أخرى، وبرهان دائم وحجة قاطعة وباقية الى يوم القيامة وهي ذكر الأقرب من الناس لإبراهيم عليه السلام في العقيدة، والمبادئ المقتبسة من التنزيل.
وفي سياق الآيات اعجاز مستقل فبعد النفي الذي جاء في الآية السابقة، والإخبار عن عقيدة ابراهيم التي تتجلى بالحنيفية والإسلام، جاءت هذه الآية لتذكر من الذي يحق له الإنتساب لإبراهيم، فالذين نسبوا ابراهيم لهم ولملتهم، لم يكونوا حتى من الذين يحق لهم ادعاء الإنتساب له، وهذا من بديع الإحتجاج والبرهان فهم يصرون على انتساب ابراهيم لهم، فجاءت الآيات بالإخبار عن عدم أهليتهم للإنتساب له.
إعجاز الآية
تبين الآية عظيم منزلة ابراهيم عليه السلام عند الله وفي تأريخ الملل وعند المسلمين للإرتقاء في مراتب الإيمان والتفاني في مرضاة الله، والجهاد في سبيله تعالى، ويتجلى في الآيـة دفاع الله عن المسلمين واعانتهم بتهيئة أسباب النصر في الإحتجاج، وسد الذرائع أمام خصمهم بالحجة القاطعة ، ومن الإعجاز في الآية ان ا لحجة والدليل الذي ورد فيها يحدد معالم الإيمان عند الأولين والآخرين ويعتبر مانعاً من دخول غيرهم معهم وان إدعى هذا الغير انه أحق بابراهيم.
لقد أراد أهل الكتاب مصادرة حق المسلمين في الإنتساب لإبراهيم عليه السلام وجعله فرداً منهم وفيه تجرأ على النبوة والرسالة، لأن ابراهيم من الرسل الخمسة اولي العزم فكيف يكون تابعاً لرسول من ابنائه خصوصاً مع ضرورة اعتبار أفراد الزمان الطولية وتقدم زمان ابراهيم على زمان موسى وعيسى ونبوتهما.
والآية وثيقة سماوية لا تقبل النسخ او الرد، كما انها من النص الجلي وليس من الظاهر او المجمل بمعنى انها لا تقبل تأويلاً آخر ولو على نحو الإحتمال الضعيف، اذ انها تبين بوضوح أموراً:
الأول: ان ابراهيم عليه السلام أهل لأن ينتسب له وليس هو من ينتسب الى الملل الأخرى.
الثاني: عظيم مقام ابراهيم وعلو مرتبته.
الثالث: تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن أتبعه، والشهادة لهم بانهم على نهج ابراهيم خليل الله.
وتفتح الآية الأمل أمام أهل الكتاب وتمنع من القنوط واليأس ان يدبا الى نفوسهم بان جعل اتباع ابراهيم عليه السلام من أولى الناس به فاذا أرادوا الصــلة العقائديــة مــع ابراهيــم فليتبعــوه فيما جـاء به من عند الله، وليحرصوا على هذه الصلة كما يحرصون على صلة النسب معه.
فالآية لم تأتِ لزجر اهل الكتاب فقط، ولم تكتفِ بالإخبار بانه لا ينتسب الى اليهودية او النصرانية وانه مستقل في ملته بل دعتهم الى الإسلام بلطف الهي ينفرد به القرآن وجعلتهم ينشغلون بتدبير امورهم واصلاح شأنهم، لقد حالت الآية دون الفرقة والخلاف بين المسلمين وأهل الكتاب، وبين أهل الكتاب أنفسهم، فدعوى اليهود بان ابراهيم كان يهودياً، ودعوى النصارى انه كان نصرانياً يسـبب حصول الفتنة فيما بينهم، فجاءت الآية لتكذيب القولين ومنع أصل الفتنة مما يدل على ان القرآن ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ولأهل الكتاب منهم على نحو الخصوص، بالإضافة الى فوز المسلمين بها.
وفي الآية دروس وعبر منها :
الأول: التخفيف عن أهل الكتاب بان خلصتهم من ادعاء انتساب ابراهيم لهم، وجعلتهم يعلمون علو درجته، ان تغيير المفاهيم العقائدية عند الناس من أشق وأصعب الأعمال، وتعجز عنه الحكومات والسلاطين ووسائل الإعلام وقد تصرف في سبيله الأموال الطائلة ولكن لا يحصل تغيير الا على نحو جزئي محدود في مضمونه وأثره، وقد يتلاشى ويزول هذا التغيير، ويرجع الأفراد الى الأصل في العقيدة والمبدأ، ولكن القرآن وحده استطاع ان يغير المفاهيم ويؤسس مدارس في المعرفة الإلهية لا يمكن ان تنسخ او تزول قواعدها، والتخفيف في الآية عن أهل الكتاب من وجهين:
أولاً: جعل موضوع أتباع ابراهيم يتعلق فيما جاء به من الحنيفية.
ثانياً: التخفيف عن الناس من غير المسلمين وأهل الكتاب يمنع الجهالة والغرر فيما يخص ابراهيم ، فمثلاً كان كفار مكة ينظرون الى أهل الكتاب بانهم اتباع الأنبياء وعندهم خبر من السماء، فاذا سمعوهم يدعون ان ابراهيم منهم وليس من معارض لهذا القول مساوِ ومكافئ لهم فانهم قد يقبلون قولهم، ويكون هذا القبول برزخاً دون تصديقهم المسلمين في انتسابهم لإبراهيم والحنيفية التي جاء بها.
لقد أراد اهل الكتاب بدعوة انتساب ابراهيم لهم ايجاد قياس اقتراني ان ابراهيم كان يهودياً او نصرانياً، والمسلمون ينتسبون الى ابراهيم.
وهذا القياس لا أصل له، وفيه تشويه لأصول الديانات ومحاولة لجذب الناس الى اليهودية والمسيحية، وصد للناس عن الإسلام فجاءت الآية لفضح هذا القياس وبيان بطلان ما يرتكز عليه بالبينة والدليل، وليس من قوة تستطيع فضحه واثبات زيفه وبطلانه الا القرآن، فلو قام به جماعة من المسلمين فان تأثيرهم ينحصر بمن يتصلون به وقد يعجزون عن البرهان او انهم يأتون بالبرهان ولكنهم لا يؤثرون بالآخرين لقوة الخصم او سبق تأثيره بالإضافة الى ما يبذله من الأموال.
فجاءت الآية لتكون برهاناً دائماَ يشع بضياء الحقيقة ويخاطب العقول ويجذب النفوس، ويهيء الجنود المجندة في كل زمان واثبات هذه الحقيقة ولو بالتــلاوة في الصلاة او مطـلقاً، فقد يقرأها الإمام في الصلاة بقصد القرآنية ، ولا يقصد فيها الإحتجاج ولكنها تجدد عند السامعين حقيقة عدم انتساب ابراهيم لليهودية او النصرانية، وتحول دون اتخاذ الملل الأخرى دعوى انتساب ابراهيم عليه السلام لها سبباً لدعوة الناس للإنتماء لها.
اما الإسلام فقد اعطى كل ذي حق حقه، فادعاء انتساب ابراهيم لليهودية والنصرانية يدل بالدلالة الإلتزامية على عظيم منزلة ابراهيم عليه السلام بين الأمم وعند اهل الملل والنحل، وجاءت الآية لتثبت هذه المنزلة وتزيد من رفعة وعظمة ابراهيم، فالمسلمون أولى به، من وجوه منها انهم اعطوه حقه في الإستقلال بالرسالة وعدم انتمائه لأهل الكتاب وانه أهل لأن يتبع ويكون أسوة يقتدي به أهل الكتاب، كما ان المسلمين لم يترفعوا عن الإنتساب له بل انهم يتشرفون بهذا الإنتساب ويدعون الناس لإكرامه وتنزيه مقامه وعدم جعله موضوعاً للخلاف والإحتجاج، بل يجب ان يكون سوراً جامعاً تلتقي عنده الملل السماوية، وفي هذا الإلتقاء حرب على الشرك والضلالة ومنع من الإفتراء على الأنبياء والمسلمين مطلقاًَ.
الثاني: فيه تخفيف عن الكفار وأهـل الجاهلية بعدم الإنســياق وراء دعوى أهل الكتاب او التصديق بما يقولون، لقد أعطت الآية للناس درساً في النبوة والرسالة وبينت لهم جميعاً مراتب الأنبياء وان اتباع ابراهيم عليه السلام أهم وأولى من اتباع موسى وعيسى عليهما السلام وينحصر اتباع ابراهيم في زمان نزول القرآن بالإسلام، وهذا من الإعجاز في الآية فأهل الكتاب ارادوا احراج المسلمين واتخاذ مسألة انتساب ابراهيم سبباً لإضعاف الإسلام فجاءت هذه الآية لفضـحهم والتشكيك بعموم ما يقولون ويدعون فيما يخص الوقائع التأريخية وقصص الأنبياء، لقد أرادها اليهود والنصارى حرباً على الإسلام، فجاءت هذه الآية بأمور:
الأول: توثيق هذه الدعوى، وعدم امكان انكارها.
الثاني: اثبات بطلانها وزيفها وعدم جواز الإستمرار بذكرها.
الثالث: ترك الإحتجاج بها بعد دحضها واثبات وهنها وانتفاء موضوعها.
الرابع: الإخبار عن انتصار المسلمين في هذه المسألة الإحتجاجية واقامة البرهان على سلامة نهجهم.
الخامس: لم يكن اختيار المسلمين لنهج ابراهيم من تلقاء انفسهم بل هو أمر الهي لذا فانه خال من النقص او الشوائب وفيه دعوة للناس للتصديق العام بكل ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وهذه مسألة في احتجاجات القرآن لم تكن موجودة في غيره، وفيها دليل على ان احتجاج القرآن يختلف موضوعاً وحكماً عن احتجاج غيره سواء كان مصدر الإحتجاج تنزيلاً او قانوناً او دولة او أمة.
ومن اعجاز القرآن ان تتصدى هذه الآيات لدعوى تخص احد الأنبياء وتبطلها بالبرهان والحجة الدامغة لتمنع من ترتب الأثر عليها وتقطع الطريق أمام الذين يحاربون الإسلام بموضوع يتعلق بالزمان السالف وقصص الأنبياء السابقين، فالمسلمون منشغلون بتثبيت دعائم الإسلام واقامة الفرائض والدفاع عن النفس والعرض والمال خصوصاً وان الكفار الوثنيين اخرجوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة ولا يلتفتون لمسألة انتساب ابراهيم، ولكن القرآن اعانهم ونصرهم وتصدى لكل دعوى تضر بهم وان كان متعلق موضوعها نبياً من الأنبياء السابقين هذا بالإضافة الى ما فيها من الدفاع عن ابراهيم عليه السلام.
ويمكن تسمية هذه الآية بآية “وهذا النبي” ولم يرد هذا اللفظ إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
تشد الآية من أزر المسلمين وتقوي عضدهم وتؤكد لهم سلامة طريقتهم وصحة اعمالهم العبادية، وتخبر بان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت الا بما جاء به الأنبياء السابقون، وفيها دعوة للجهاد في سبيل الله واشارة الى انتصار الإسلام فمتى ما ادرك المسلمون انهم على النهج الصحيح فانهم يبذلون الأنفس والأموال طاعة لله تعالى وتعظيماً لشعائره وتثبيتاً للشرائع السماوية ليمدهم الله بالعون وأسباب الظفر لذا أخبرت الآية بانه سبحانه ولي التوفيق.
والآية سلاح بيد كل مسلم ومسلمة من الموجود والمعدوم والى يوم القيامة لأنها تصفهما بانهما من أولى الناس بابراهيم لإتباعهما النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
مفهوم الآية
في الآية نشر لمبادئ الإسلام ودعوة لليهود والنصارى لدخول الإسلام ليصدق عليهم انهم اولى الناس بابراهيم، وتجعل الآية اتباع النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم طريقاً مباركاً للإنتساب الى ابراهيم عليه السلام في عقيدته ومبادئه.
وتضفي الآية على هذا الإنتساب حالة من القدسية والرفعة وتجعله صفة كريمة ودرجة عالية وغاية على الإنسان ان يسعى اليها.
ومن الآيات في حياة ابراهيم عليه السلام اتصافه بان أولاده الصلبيين من الأنبياء فكان كل من اسماعيل واسحاق نبياً وبهذا يمتاز ابراهيم عن آدم ونوح من قبله وان كانت النبوة متصلة ابتداء من آدم ثم ولده هبة ، فقابيل ابن آدم قتل أخــاه هابيل، وكان أحـد ابناء نوح غير صالح كما في قوله تعالى [ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ]( ).
ولما كانت النبوة في ذرية ابراهيم جاءت الآية ببيان شرف الصلة معه لمنع اللبس والجهالة والغرر، فاذا أدعـى بعضهم انه أقرب الناس لإبراهيم ثم لم يعمل وفق ما جاء به يحصل الإرباك والخلل في المجتمعات والعقائد فكيف بمن جاء وأدعى ان ابراهيم ينسب الى اليهودية والنصرانية، وهذه الدعوى مصادرة لرسالة ابراهيم، وتضييع لسنن الحنيفية التي جاء بها وتهديد لفريضة الحج وموضوعية ابراهيم في وضع قواعد البيت الحرام، وهو اول بيت وضع للناس وقد حجه وطاف حوله الملائكة قبل ان يحجه آدم بالفي عام( ).
لقد أبى الله الا ان يدافع عن الأنبياء وان كانت ايامهم قد أنقضت، وجاءت شريعة متكاملة جديدة هي الإسلام، وفي الآية ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من وجوه:
الأول: حفظ منزلة ابراهيم بالقرآن وجهاد المسلمين.
الثاني: الإخبار عن الحاجة الى القرآن لحفظ تراث الأنبياء وقصصهم وما لهم من رفيع المنزلة.
الثالث: مجيء القرآن لوقف التحريف وفضــح التشويه والتصدي لمحاولات تغيير حقائق التأريخ والنبوة، وبالإمكان اتخاذ هذه المسألة لمعرفة مدى الضرر الذي يلحق بالرسالات والعقائد لو لم ينزل القرآن ويتصدى للدعاوى الباطلة ومفاهيم الضلالة، فاذا كان اهل الكتاب يدعون انتساب ابراهيم لهم، فكيف حال المشركين.
الرابع: سلامة نهج المسلمين وعدم خروجـهم عن الصراط واتباع الأنبياء.
الخامس: دفاعهم عن الأنبياء فلا أحد يتوقع ان يقوم اهل الكتاب بادعاء الباطل على ابراهيم وهم من ذريته لا أقل الأنبياء الذين يتبعونهم وذرية اسرائيل.
فتأتي ملة أخرى وأمة يبعث الله فيها نبياَ هو محمد لتنقيح الأقوال وتصحيح المناهج وجعل الناس ينقادون الى الحق ويتدبرون في النبوة وسيرة الأنبياء.
وفي الآية مسائل:
الأولى: التأكيد على معرفة ابراهيم عند أهل الملل السماوية.
الثانية: ذكر الذين هم اولى بابراهيم يدل بمفهوم الخطاب على عدم انتسابه لليهود والنصارى.
الثالثة: اثبات الصلة بين ابراهيم عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوكيد اتحاد النبوة.
الرابعة: الإخبار عن وجود اتباع لإبراهيم عليه السلام.
لقد كان ابراهيم أمة في الخير والجهاد والتضحية في سبيل الله، وهذا لا يمنع من وجود اتباع وانصار له، بل بالعكس، فكونه أمة في الجهاد يدل بالدلالة التضمنية والإلتزامية على وجود اتباع وأعوان وانصار صدقوا برسالته، واتبعوه فيما جاء به من عند الله وجاءت هذه الآية لتمنع الشك في هذه الحقيقة بل انها قد لا تثبت لولا هذه الآية.
أي لو لم تحمل هذه الآية التصريح والإعلان بوجود اتباع لإبراهيم لسمعت أقوالاً من هنا ومن هناك بانه كان منقطعاً الى الله ولم يثبت وجود أصحاب وأنصار واتباع له في حياته او بعد مماته، وربما استدل بعضهم بالآية الكريمة [كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ) لهذا المدعى وانه كان منشغلاً بالعبادة، وكان وحده أمة فلا يحتاج الأصحاب، ولكن الأصحاب والأتباع حاجة لكل ملة وشاهد على صدق النبوة، وعنوان تشريف لبني آدم بوجود أشخاص منهم يؤمنون بالآيات ويتوارثون الأحكام ويحرصون على الولاء للرسل، فلقد كان ابراهيم عليه السلام امة في الدعوة الى الله ويقوم باعباء ومسؤولية امة كاملة في الجهاد في سبيله تعالى مما يدل على القطع بوجود انصار واتباع له.
ولقد استطاع إبراهيم الوصول الى الطاغوت والإحتجاج عليه وافحامه وجعله حائراً مرتبكاً عاجزاً عن الإجابة والرد امام الوزراء والقواد والملأ من قومه، قال تعالى [فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( ) ولابد ان يتولد عنه وجود الأتباع والأنصار سواء ممن حضر الإحتجاج او من الذين سمعوا به.
لقد جاءت الآية باعجاز وهو الجمع بين أولياء ابراهيم مع التباين الزماني، فيلتقي من صاحبه وعاصره، مع المسلمين ممن كان موجوداً أيام التنزيل او من لم يولد بعد في استحقاق عنوان الأولوية في درجة القرب من ابراهيم عليه السلام.
لقد ظهرت العداوة والحسد للاسلام بوجوه متعددة منها محاولات ادعاء عدم استقلال الدعوة الاسلامية، فجاءت هذه الآيات لتؤكد استقلالها وتخبر بان صفة الاسلام هي الاصل الباقي، الاصل ان كبار الانبياء السابقين كانو على صفة الاسلام، وبقاؤها بالمسلمين وتقيدهم بالحكام التي نزلت في القرآن.
إفاضات الآية
يشتاق كل مسلم للنبوة موضوعاً وأحكاماً ويسعى لإيجاد حبل من الصلة معها في قوله وفعله، وترى من ينتسب الى الأنبياء بالبنوة يمتلأ فخراً وعزاً، بل ان السنة النبوية وصلت السبب بالنسب، فقد ورد عن رسول  صلى  عليه وآله وسلم انه قال : كل سبب ونسب مقطوع يوم القيامة الا سببي ونسبي)( )، لتبقى الرغبة عند المسلمين للصلة بالنبي الأكرم بالاتصال بذرية الرسول من خلال الزواج.
وجاءت الآية لتخبر الناس بامكان ايجاد صلة اوثق مع الأنبياء مرتكزة على الإيمان، فمع شرف هذه النسبة انها غير ممتنعة على كل انسان، ولكن الإنسان نفسه يحجبها عن نفسه باختياره الجحود والكفر، وفيها بشارة للمسلمين بانهم أقرب الى ابراهيم ممن ينتسب اليه في النسب ولا يتبعه في النهج والعمل.
قانون الإتباع
حينما قال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) هل كانوا يعلمون بان الله سيــبعث الأنبياء متعاقبين الى بني آدم وانه سيتفضل عليهم بانزال الكتب من السماء ولن يتركهم وشأنهم ام انهم لا يعلمون هذا الأمر ونظروا الى الحوادث الواقعة وما فيها من الفساد والظلم والقتل وحدها، الأقوى انهم يعلمون ذلك ولكنهم نظروا الى حال العناد والبغــي مع وجود الأنبياء وأرادوا الشكـوى الملكوتية المتقدمة زماناً من اولئك الذين يعتدون على الأنبياء ويقتلونهم ويقابلونهم بالصدود والجحود.
فهم لم يعترضوا على خلافة الإنسان في الأرض ووجود الصالحين ولكنهم أرادوا تنزيهها من المردة والظالمين وجعل أحكام الشرائع السماوية هي السائدة على نحو العموم الإستغراقي وشاملة للناس جميعاً، ولكنه سبحانه ابى الا ان يجعل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار ومزرعة للآخرة وسبباً لنيل الثواب او العقاب، وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين ولم تقف وظيفتهم عند التبشير والإنذار وحدهما بل أقترنا بالآيات والبراهين الدالة على صدقهم، والتي تثبت وجود الصانع وتمنع من الشرك والكفر والفساد.
وهذه الآيات أفضل وأحسن لغة عرفها التأريخ لمخاطبة العقول وجذب النفوس وتخليصها من كــدورات الشك والوهم ولابد من ترتب الأثر عليها عند شــطر من الناس بدأ من أســرة وأهل النبي وأولي الألباب الذين يجعلون العقل حاكماً على الهوى، ويدركون البديهيات ويقرون بان الآيات النبوية من اليقينيات التي تستلزم الإيمان والتصديق.
وترى أحياناً ابناء الملوك ينسلخون عن واقعهم ويلتحقون بالنبي واتباعه وينقادون لأوامره وإن لم يروا البلد الذي عاش وبعث فيه، فيطرحون رداء الأمارة والسلطنة ويلبسون الخشن ويتوجهون الى العبادة والذكر ليكونوا اسوة للكثير من الناس، فيدرك الآخرون لزوم ايمانهم من باب ألأولوية القطعية فاذا كان ابناء الملوك يتركون كل شيء من أجل الإسلام واتباع الأنبياء فمن باب أولى ان يقوموا هم بهذا الفعل المبارك، كما ان اسلامهم شاهد على صدق النبوة وقوة سلطانها على النفوس، ووجود الأتباع من القوانين الملازمة لنبوة كل نبي ، وهم على مراتب من جهة القرب والإيمان وكل له شرف الإتباع، كما انهم على أقسام:
الأول: من كان مصاحباً للنبي في حياته ورأى الآيات التي جاء بها.
الثاني: الذي عاصروا أصحاب النبي وسمعوا منهم، وفي الإسلام يطلق عليهم صفة التابعين.
الثالث: الأتباع في كل جيل لاحق، وهذا القسم من الكلي المشكك لأنه مستمر ومتصل.
ومن الآيات والشواهد على عظيم منزلة آثار النبوة ان عدد الأتباع في الطبقة والقسم المتأخر أكثر منه في الذي سبقه، وترى الأتباع في اضطراد وازدياد.
لقد بعث الله الأنبياء ورزقهم المرتبة الرفيعة، وتفضل وجعل لأتباعهم شأنا ًومنزلة في النشأتين، وكأنهم برزخ بين الأنبياء وعامة الناس يتقدمهم الشهداء والعلماء والفقهاء الذين يساهمون بجد في تثبيت الشرائع ودعوة الناس للإقتداء بالأنبياء وينزعون رداء الإستكبار والزهو، فمهما بلغ شأنهم في العلم والسلطان فانهم لا يدعون الا الى اتباع الأنبياء في عبادة الله واخلاص الطاعة له سبحانه.
فما من نبي الا وله اتباع وهو الأمر الذي يصدق معه تأسيس قانون الأتباع ليكونوا شاهداً تأريخياً على صدق نبوته ومانعاً من الشك فيها، ومحامياً يذب عنها، وداعية الى الله وتوطئة لبعثة النبي اللاحق الى ان جاء الإسلام وختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء توثيق هذا القانون في القرآن والشهادة لإبراهيم بوجود الأتباع، كما شهد القرآن لموسى وعيسى بوجود الأنصار والأتباع، من غير ان يمنع هذا الأمر من وجود أعداء للنبي ومكذبين لرسالته من بين قومه كما وردت آيات عديدة بخصوص نبوة نوح وهود وصالح، وتكذيب فرعون لموسى.
وقد تقدم في الأجزاء السابقة ما لاقاه عيسى  من الملأ من بني اسرائيل بالإضافة الى الشواهد القرآنية والتأريخية لما تحمله الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قريش ولكن العاقبة والظفر للأنبياء واتباعهم.
قانون المراتب
لقد جعل الله عز وجل الناس على مراتب في الحياة الدنيا، وكل له شأن وقدر مخصوص، ولا تنحصر مسألة المرتبة والتباين في الدرجة بموضوع مخصوص بل تجدها ظاهرة في كل نواحي الحياة، وفي المتناقضــات، فترى أدنى فــرد من الطرفين أقرب الى أدنى فرد من الطرف الآخر، كما في الإيمان والكفــر، والغنى والفــقــر، والعــز والـذل، والصحة والمرض، والأمن والخوف، والسعادة والكآبة، والعلم والجهل.
ان التباين في المرتبة من مظاهر الحياة، فللإنسان نصيب في علم او موضوع او شأن مخصوص، وهذا النصيب من الكلي المشكك وعلى درجات، كما انه ليس على حال واحدة فمرة تراه متقدماً في مرتبته وأخرى متأخراً، ومن فضل الله على الناس ان يكون التقدم والعلو أكثر من التخلف والهبوط، فترى طالب العلم يزداد علماً، وصاحب المال والملك تكثر أمواله واملاكه والعكس هو الأقل .
لقد شرف الله الناس عامة والأنبياء خاصة بان جعل الأنبياء في أسمى المراتب وارفع الدرجات، ومن آيات الإرادة التكوينية ان ترى أهل الأرض يسلمون لهم بهذه المرتبة سواء من كان مؤمناً بالنبوة او كافراً بها من غير ان تغير ضلالة قوم بالجحود بنبوة بعض الأنبياء من هذه القاعدة الكلية.
ومع عظيم منزلة النبوة فان الأنبياء على مرتبتين وهي:
الأولى : الرسل وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، وهم على مرتبتين ايضاً:
الأولى: الرسل الخمسة اولي العزم وهم نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.
الثانية: عامة الرسل ممن يرى الملك ويسمع كلامه ايضاً ومن تكون عنده شريعة مبتدأة.
الثانية : الأنبياء: وهم الأعم والأكثر عدداً من الرسل، ومنهم من بعث الى قومه او قبيلته او قريته.
وأعلى الأنبياء والرسل رتبة هو صاحب الكمالات الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقانون المراتب من سنن الحياة الدنيا، وهو باب للتنافس الكريم والسعي في دروب الحياة والإرتقاء في سلم العبادة، ومناسبة يعرف من خلالها الإنسان قدره ومقامــه وكيفية التصــرف والتــعامـــل مع الآخرين، وقد يكون الإنسان دانياً في رتبته الإجتماعية ولكنه عزيز في ذاته لأن الإيمان يملأ قلبه ويتغشى جوانحه ويترجل في أقواله وأفعاله، مما يجعل له سلطاناً على النفوس، ويجعله يدأب في طرق التقوى ويسعى لإحراز رضاه تعالى باعتباره السبيل لنيل ارقى المراتب في نواحي الحياة المختلفة.
وهذا القانون رحمة بالناس ووسيلة مباركة للجد والإجتهاد وبذل الوسع بعيداً عن الحسد والغل، والمبادرة الى الدعاء للإرتقاء او لدوام نعمة المرتبة، لأنها ليست ثابتة مستقرة، فكم من حاكم فقد حكمه وسلطانه، وغني أصبح فقيراً، وقائد تفرق عنه أعوانه وأنصاره، اما الأنبياء فان اتباعهم في ازدياد لأن موضوع النبوة حق وأمر نازل من السماء.
قانون الأولى
لله عز وجل على الإنســان نعم أكثر من ان تحصى، وهي على أقسام:
الأولى: عامة، ينال منها الناس جميعاً، البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كنعمةالمطر والعافية والرزق.
الثانية: خاصة، وهي التي تصيب الفرد على نحو القضية الشخصية.
ومن الآيات ان الناس جميعاً ينتفعون من العامة، كما ان النعمة الخاصة التي تصيب الفرد الواحد يستفيد منها الكثيرون وتترشح منها فوائد متعددة على الآخرين.
الثالثة: الجامع لهما وهـي العامة الخاصــة، ومن أســماها وأشـــرفها النبوة والتنزيل، وهي مائدة السماء في الأرض والنهر المبارك الجاري الذي يطهر النفوس من الأدران ويمنع من الضلالة والكفر.
وصحيح ان الله عز وجل شرف بعض أفراد البشر بالنبوة واختارهم على نحو الخصوص للرسالة الا ان الإنتفاع من النبوة عام وشامل وبامكان كل انسان ان يتزود من علومها ومضامينها القدسية، ليكون قريباً من الأنبياء في ايمانه وصدق نيته واخلاصه في مسالك العبادة والصلاح سواء في عالم الأقوال او الأفعال.
وجاءت هذه الآية لتثبت حقائق تشريعية وهي:
الأولى: التفاوت في درجات القرب ومراتب الصلة مع الأنبياء.
الثانية: لكل نبي مقام خاص يستطيع الناس ايجاد أسباب الصلة معه وفق قواعد التقوى والقرب من رحمة الله تعالى.
فالأرجح ان ذكر ابراهيم عليه السلام جاء من باب المثال وقرائن المقام ودلائل الإحتجاج.
الثالثة: امكان معرفة الذي هم أولى بالنبي من غيرهم، فقانون الأولى عون على معرفة مراتب الناس وجاء القرآن ليضع قواعد للدرجات، ويمنع من الخلط واللبس والجهالة والغرر، خصوصاً وان التمادي بلغ بهم ان نسبوا ابراهيم لهم ولديانتهم فجاءت دعوة المسلمين للتشرف بالنسبة لإبراهيم واكرامه وتوكيد عظيم شأنه بين الأمم بالتنافس على الوصول الى مراتب الأولوية في الصلة معه، تلك الصلة التي تتجلى في الإمتثال لما جاء به من أحكام الحنيفية وسنن الشريعة.
وهذا القانون يفتح الباب أمام الدراسات العقائدية الشاملة للملل السماوية المختلفة لمعرفة درجة القرب من الأنبياء والأهلية للإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، وهو شاهد على الرفعة بالصلة مع الأنبياء باتباع نهجهم ، ومناسبة للتدبر في كيفية الفوز بدرجة الأولى والأقرب من الأنبياء لأن هذه الأولوية تعاهد لمضامين الشــرائع التي جاءوا به، فالأولى بابراهيم من حرص على سنته واكرم مقامه واعترف له بعلو المنزلة وأقر برسالته وانه رسول نبي من عند الله وليس تابعاً للأنبياء الآخرين، وان موسى وعيسى عليهما السلام ومحمداً صلى الله عليه وآله وسلم من ذريته.
وقانون الأولى دعوة للذب عن الأنبياء والدفاع عنهم، فاولى الناس بابراهيم من حقه ان يدافع عنه ويمنع من الإفتراء عليه، ويجتهد في اثبات رسالته واحياء سنته، وهذا الذي قام به المسلمون ولا زالوا أفضل قيام.
وفي الآية مسائل:
الأولى: توكيد استقلال نبوة ابراهيم، وعظيم شأنه.
الثانية: التباين في الصلة مع ابراهيم ونبوته.
الثالثة: تعيين أقرب الناس علقة وصلة بابراهيم، ومنع اللبس في الأمر، وهم على أقسام:
الأول: الموحدون من اتباع ابراهيم في نهجه ونبوته وما جاء به من الأحكام.
الثاني: الرسول الأكرم محمد صلى الله وآله وسلم وذكره على نحو الخصوص، والفرد المستقل يدل على علو منزلته وأثره في قواعد الأولوية والقرب.
الثالث: المؤمنون على نحو الإطلاق من المسلمين في الأزمنة اللاحقة لنزول القرآن او قبله.
وتدل الآية في مفهومها على التنافر بين اتباع سنن الأنبياء واختيار الضلالة والكفر.
الرابعة: ان الله عز وجل ناصر المسلمين، وخاذل الكافرين كما انه يعز انبياءه في الدنيا والآخرة ويبقي لهم المنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين تحدي الكافرين كما تحدى ابراهيم الملك الظالم، لتكون الأولوية عنواناً لنصرة الحق والإقتداء بابراهيم في جهاده وأفعاله.
فكما ان قانون الأولوية تشريف لأصحابه ومن ينال مرتبة الصلة مع الأنبياء فانه دعوة لتحمل اعباء الجهاد وبذل الوسع في سبيل الله والإقتداء بابراهيم عليه السلام، فالآية في مفهومها تدل على ثبات المسلمين في طرق الجهاد وعدم تخليهم عن مواصلته ومواجهة الأعداء في ميادين القتال، والإحتجاج عليهم بالدليل والبرهان من غير خوف او وجل، فحينما تذكر الأولى بالنبي يتبادر الى الذهن احياء سنته ومحاكاته والإمتثال لما جاء به من عند الله.
ان هذا القانون يضع قواعد جديدة لمعرفة منازل الناس ، ويمنع من الخلط واللبس ويعطي موضوعية للإيمان في شؤون الحياة.
التفسير
قوله تعالى [ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ]
في الآية تشريف مركب من وجوه:
الأول: تشريف ابراهيم والثناء عليه لإخلاصه في طاعة الله، وجهاده في سبيله ببذل النفس والمال ومواجهة الطاغوت من غير خوف او وجل، ودعوته الى العبودية لله وزجره لمن ادعى الربوبية.
الثاني: إكرام الأنبياء جميعاً، وتثبيت قانون الأولوية في الصلة معهم والإقتداء بهم في العبادات والمعاملات، وحث الناس على محاكاتهم واكرامهم.
الثالث: الإخبار عما للمؤمنين من فضل وأجر وثواب بصلتهم مع الأنبياء، واعتبار قربهم.
الرابع: ان ابراهيم قدوة وأسوة وشاخص كريم يتمنى الناس التقرب اليه بما رزقه الله من المنزلة والشأن.
الخامس: الشهادة السماوية لفريق من الناس بانهم أولى بابراهيم عليه السلام وانهم ورثته في العقيدة والمبادئ.
السادس: بقاء قانون الأولى مفتوحاً لمن سيأتي من المؤمنين وتعاهد شأنهم في الدنيا.
فهذه الآيات جاءت بالذب عن ابراهيم وتنزيه مقامه وابطال دعوى انتسابه لليهودية او النصرانية، ثم أخبرت عن حاجة الناس للصلة معه ولزوم تعاهد هذه الصلة والمحافظة عليها.
لقد أسست هذه الآية قواعد كلية ثابتة في اكرام المسلمين لا يستطيع المؤمنون تحقيق جزء يسير منها ولو بذلوا الوسع وسخروا انفسهم وأموالهم، ووظفوا وسائل الإعلام والأخبار، فبكلمة واحدة ترسخ في الأذهان موضوع الأولى بالنبي من بين الناس، وتقسيم الناس الى مراتب بلحاظ القرب من النبي، وغلق دعوى نسبة كبار الأنبياء الى بعض الديانات.
ومن الآيات على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله و سلم انه لم يسلم لليهود بهذه الدعوى ويتهاون معهم من أجل امضائهم لبعض ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم او لا أقل منع تكذبيهم للتنزيل، بل فضح القرآن دعواهم واثبت بطلانها، وفيه غاية التحدي، وتحريض على السعي لمحاولة ايجاد الخلل او النقص في الدعوة الإسلامية ومضامين قانون الأولى.
وسكوت اليهود والنصارى وعجزهم عن الرد ومواجهة التحدي بمثله شاهد على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخلو مبادئ الاسلام من الخلل والنقص، وهذا من مصاديق قانون الأولى بان واجه القرآن أهل الكتاب ونفى دعوى انتساب ابراهيم لهم مع ان ظاهر الآيات يدل على التسالم بينهم على هذه النسبة.
فجاءت هذه الآية لتغيير المفاهيم واعادت تثبيت الحقائق وازالة التحريف في التأريخ والإنتساب والوقائع، بمعنى ان التحريف لم يحصل في التنزيل وحده بل تعدى الى سنن وتأريخ الأنبياء والأمم ، فجاء القرآن كتاباً سمــاوياً وبرهــاناً دائماً لمنع وجوه التحريف المختلفة ولابد ان يأتي بسلطان وحجة تســتطيع قهــر النفوس وجعــلها تتخــلص مما رســخ في جنباتها مــن أفكار الضــلالة والوهــم الــذي يـؤدي الى اللبس، ويسبب وجود غشــاوة على البصــر تمنع من رؤيــة الأشياء على حقيقتها.
ولم يكن اليهود والنصارى يفكرون بالأولى من ابراهيم، بل انها مسألة مستحدثة منافية لما عندهم من المفاهيم لظنهم بانهم من اتباع ملتهم وان كل فردمنهم يلتقي معاً بعرض واحد في هذا الإتباع، وهذا الظن يؤدي الى الإصرار على البقاء على اليهودية اوالنصرانية وعدم الحاجة الى الإنتقال الى ملة من يقول انه على دين ابراهيم، ولا يضر في هذا الظن التسليم بان ابراهيم نبي، خصوصاً وان عدداً من أنبياء بني اسرائيل كانوا على شريعة موسى عليه السلام، فتكون هناك اسباب اضافية لبقائهم على ملتهم منها:
الأول: ان ابراهيم نبي ومع هذا فهو من اتباع ملتهم.
الثاني: يعلن المسلمون انهم على الحنيفية التي جاء بها ابراهيم، فاذن على المسـلمين ان يكــونوا منــهم ومــن اتباع ملتهم ســواء بواسطة ابراهيم او من باب الأولوية، أي اذا كان ابراهيم يهودياً او نصــرانياً فمن باب اولى ان يكون اتباعه عــلى ذات النهج والملة.
الثالث: اذا كان الأنبياء على دين اليهودية او النصرانية، فمن باب اولى ان يكون من ليس بنبي على دينهم ومن اتباعهم.
الرابع: الفخر والإعتزاز بان لهم السبق باختيار اليهودية او النصرانية، وعلى الناس اتباعهم.
فجاءت هذه الآية لتمثل نكسة عقائدية لهم، وفضحاً لما في المبنى الذي يرتكزون اليه من الخلل، والمقدمات التي اعتمدوها من الزيف والبهتان لتكون دعوى انتســاب ابراهيم لهم مغالطة تأريخية وشاهداً على اختيارهم الإفتراء على الأنبياء للتعدي على المسلمين وجعل العوائق في وجه الدعوة الى الله وطاعته، وبهذا تعرف ابعاد واضرار دعوى انتساب ابراهيم لهم ، والإعجاز القرآني في التصدي لها ليس بلغة النفي وتكذيب الدعوى فحسب، بل بتعظيم شأن ابراهيم والدعوة الى التسابق في الإقتداء به، وجعل الذات والجماعة ممن هو أولى به من بين الناس.
ومن مضامين اللطف الإلهي في هذه الآيات انها جاءت اولاً بنفي انتساب ابراهيم عليه السلام لليهودية او النصرانية بالدليل القاطع، انتقلت هذه الآية الى الدعوة للإنتماء العقائدي الى ابراهيم عليه السلام والحرص على الإنتساب له، مع لزوم الإقرار بان هذا الإنتساب امر أجنبي عن الإنتماء لليهودية والنصرانية.
ولكنها لم تجعلهم في حيرة من امرهم، بل جاءت بقيد الإيمان في تعيين صفة الأولى بابراهيم من بين الناس، ولفظ الناس عنوان جامع يراد منه:
الأول : المسلمون.
الثاني : اهل الكتاب.
الثالث : المنافقون والضلال.
الرابع : الكفار والمشركون.
ومسألة الأولى تدل على الأقرب والأدنى فهو أفعل تفضيل، ويحتمل أمورا:
الأول: ان الناس كلهم على صلة مع ابراهيم عليه السلام وان الذين ذكرتهم الآية هم اولى من غيرهم به.
الثاني: ان ذكر الناس جاء للبيان ، والقدر المتيقن منه اهل الملل السماوية من المسلمين واليهود والنصارى.
الثالث: ارادة الأولى بابراهيم دون غيره، وعدم وجود واسطة بين الذي يصدق برسالة ابراهيم وعظيم منزلته وبين من يقول بانه تابع لموسى او عيسى عليهما السلام.
وظاهر الآية ارادة المعنى الأول وان المقصود هو كل الناس، ويبرز من بينهم من يحتمل مرتبة الأولوية في الصلة والقرب من ابراهيم ، ومن عداهم يحتمل امرين:
الأول: انهم بعرض واحد في درجة الصلة او عدمها مع ابراهيم.
الثاني: انهم على مراتب متفاوتة في الصلة مع ابراهيم .
والأصح هو الثاني، فان صلة اهل الكتاب مع ابراهيم تختلف موضوعاً وحكماً عن صلة الكافرين به، كما ان الكافرين انفســهم تتباين صلتهم معه فمنهم العرب الوثنيون الذين حرصوا على اداء مناسك الحج الى بيت الله الحرام وتعاهدوه كجزء مما دعا اليه ابراهيم.
لقد كانت رسالة ابراهيم للناس كافة، قال تعالى [ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ]( ) مما يدل على توجهه بالخطاب الى الناس جميعاً، ويؤيده قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) وفي توجه ابراهيم للناس مقدمة وتوطئة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي يخاطب بها الناس جميعاً.
فما دامت رسالة موسى لبني اسرائيل خاصة، وكذا رسالة عيسى على قول، بعث  النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليدعو الناس جميعاً للإسلام، لذا فان اظهار دعوة ابراهيم للناس حجة في سبق الدعوة العامة المطلقة على اليهودية والنصرانية وتأخرها عنهما وهو شاهد على النسخ وصلاحية مبادئ الإسلام للبقاء في الأرض وخروجها عن موضوع النسخ بالتخصص.
وموضوع الأولى في الصلة مع ابراهيم عليه السلام لا ينحصر بالعقائد بل يشمل علقة أخرى وهي علقة النسب وصلة القربى ،فبنو اسرائيل من نسل ابراهيم عليه السلام من طريق يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام.
وهذه الصلة مادة وموضوع للإدعاء بانهم أقرب الناس له، وأولاهم به، وكذا جرت العادة والعرف في مختلف الأزمنة وتغاير الأمصار، فالابن اقرب الى الأب والجد من غيره سواء كان الغير قريباً او بعيداً، وفي أغلب الأحيان لا يلتفت الى صلة العقيدة والمبدأ، فجاءت هذه الآية لتعلن أمرين:
الأول: الحقيقة التأريخية باعتبار الصلة العقائدية وموضوعية اتباع نهج النبوة.
الثاني: توكيد قاعدة كلية وهي أولوية الصلة العقائدية على العلقة النسبية.
لقد أرادت الآية بعث العز في نفوس المؤمنين ، ومنع اليأس والقنــوط من الدبيب الى نفوســهم فيما يخــص الصـلة مع الأنبياء.
وجاء القرآن بالإخبار عن اصطفاء آل ابراهيم، ثم جاءت هذه الآية بذكر الأولوية بالصلة مع ابراهيم، فهل من تعارض بين الأمرين باعتبار ان الأول يتعلق بالنسب، والثاني بالولاء والإقتداء، الجواب لا تعارض بينهما، ولكن هناك تباين في المصاديق المتعددة، وهذا التباين اجنبي عن التعارض لإشتراط وحدة الموضوع في التعارض ، فالتعدد هنا من وجوه:
الأول: الصلة العقائدية.
الثاني: الصلة النسبية.
الثالث: الصلة العقائدية النسبية.
الرابع: انعدام الصلة النسبية والعقائدية.
وكل واحدة من هذه الصلات الثلاثة الأولى على مراتب متعددة.
والأفضل هو الثالث لجمعه بين الصلتين وما فيه من دلالات الحرص على نهج الآباء الصالحين، كما ان الرابع لا يعني انعدام اثر النبوة فيه، بل هناك منافع للنبوة والإصطفاء وتترشح على الناس جميعاً ولو بدرجات متفاوتة.
وقد ذكرت الآية الكريمة الأول أعلاه وحده وجعلت الملاك في الصلة مع ابراهيم هو الأتباع والإقتداء وان كان التابع له بعيداً في نسبه ومسكنه، ويتكلم بلسان مختلف، انها مدرسة الإيمان التي تترك فيها العناوين الأخرى ولا يبقى فيها اعتبار الا للتقوى والهداية والصلاح، وتكون صلة النسب وسيلة وحافزاً للإقتداء بابراهيم والتأسي به والفوز بأولوية الصلة معه من بين الناس.
وتقسم الآية الناس الى أقسام بلحاظ القرب من أحد الرسل الخمسة اولي العزم، ويمكن ان تكون تأسيساً لقاعدة كلية في تقسيم الناس بلحاظ قربهم من الرسل والأنبياء الآخرين، خصوصاً من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للحث على استثمار أيام الحياة الدنيا في اتباعه والإنقياد لما جاء به من عند الله.
علم المناسبة
قد ورد لفظ (أولى) في قوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ) أي انهم أحق بهم في الميراث لنسخ ما كان موجوداً من التوارث بالمعاقدة والهجرة والمؤاخاة التي اجراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، ومن شواهد علم المناسبة ان الآية محل البحث جاءت لتؤكد ان المسلمين هم الأحق بميراث ابراهيم ونصرته بدليل الإلتقاء بصفة الإسلام وثبات المسلمين على نهج ابراهيم في الحنيفية واجتناب الشرك.
كما جاء لفظ (أولى) في امامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ).
والربط بين الآيتين يؤكد ان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وان التقى مع المؤمنين في الأولوية بابراهيم ، الا انه اولى بهم من أنفسهم وتلك منزلة لم ينلها غيره من الأنبياء.

قوله تعالى [لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ]
لقد بدأت الآية بذكر الأفراد الذين هم اولى بخليل الله ابراهيم، وقدمت الذين اتبعوه وهو عنوان لكل من اتبعه في نهجه والحنيفية التي جاء بها، فيشمل اتباعه الى يوم القيامة ولكن الآية قيدت المراد من الذين اتبعوه بلحاظ الزمان وأحكام التنزيل اذ عطفت عليهم النبي والذين آمنوا، وفيه بالدلالة التضمنية بيان لإرادة الذين اتبعوه في نهجه من أصحابه وأهل الأزمنة السابقة لنزول القرآن الشاملة لأيامه وأيام ابنائه من الأنبياء وذراريهم.
وبدل من ان تستمر دعوى اليهود والنصارى بانتساب ابراهيم عليه السلام لهم فان هذه الآية جعلتهم احد قسمين:
الأول: ان اليهود والنصارى من اتباع ابراهيم.
الثاني: انهم ليسوا من اتباع ابراهيم عليه السلام.
والمتحصل هو الثاني لأن اليهود اتباع موسى عليه السلام، والنصارى اتباع عيسى عليه السلام، كما انهم يدعون انه فرد منهم مما يعني انهم ليسوا اتباعه، لأن الفرد من الجماعة لا يكون متبوعاً، ولكن هذا الحكم لا يشمل الأنبياء من بني اسرائيل لأنهم من اتباع ابراهيم وعلى نهجه، كما انهم قادة الإيمان وليسوا من أهل الإيمان فحسب، لذا فان الأنبياء من بني اسرائيل حجوا البيت الحرام والتزموا باحكام الحج بخلاف النصارى واليهود اذ انهم اعرضوا عن البيت الحرام.
وعن الباقر عليه السلام: “حج موسى بن عمران ومعه سبعون نبياً من بني اسرائيل خطم إبلهم من ليف، يلبون وتجيبهم الجبال وعلى موسى عبائتان قطوانيان يقول: لبيك عبدك وابن عبدك، ومرّ يونس بن متى بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك كشاف الكرب العظام لبيك، ومرّ عيسى بن مريم بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك عبدك وابن أمتك لبيك…”.
لقد دعا ابراهيم عليه السلام الناس للحج والتزم هو واسماعيل باداء مناسك الحج ، وفي الخبر فحجا على جمل أحمر وما معهما الا جبرئيل، ليكون اتباع ابراهيم تثبيتاً لهذا الركن من الدين وعمارة لذكره تعالى في الأرض، وتعاهداً لبيته الحرام، فهو أحد الأركان في الحنيفية التي جاء بها وباب لمعرفة اتباعه وانصاره من أهل الأزمنة السابقة، وقد جاءت الآية لتشريفهم وذكرهم بالمدح والثناء والإكرام.
ان اتباع ابراهيم امر جهادي عظيم يتجلى بمواجهته للطواغيت والظالمين ويبين العناء والمشاق التي يتعرض لها من يختار نهجه واتباعه، فجاءت الآية للثناء على انصاره ومن اتبعه، ولم تذكر الآية انصار ابراهيم كما في عيسى عليه السلام، اذ ورد قوله تعالى [قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ]( )، لوجوه:
الأول: كان ابراهيم داعية لله مواجهاً للكافرين بنفسه.
الثاني: كان أمة قانتاً لله منشغلاً في طاعته.
الثالث: لقد تعاهد ابناؤه من الأنبياء نهجه وسنته، وما جاء به من عند الله.
الرابع: عنوان الأتباع الوارد في الآية عام يشمل الأنصار والمريدين ايضاً، فاذا وجد انصار وأعوان لإبراهيم في حياته فانهم يدخلون في زمرة الأتباع الذين ذكرتهم هذه الآية خصوصاً وانها جاءت بصيغة الجمع [لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ].
ومن اعجاز القرآن الثناء على المؤمنين في الأزمنة المتقدمة، ومنه هذه الآية، وذكرهم بالمدح وبيان جهادهم وتضحيتهم وحسن اختيارهم، وتعاهدهم لكلمة التوحيد. واتباع الأنبياء في أزمنة الظلم والعتو والطغيان.
ولم تذكر الآية اسماء الذين اتبعوا ابراهيم او بعض اسمائهم بل جاءت على نحو الإجمال، مما يدل على الإطلاق والكثرة ولحاظ الانتماء الى ملته ونهج الاسلام.
وتبين الآية الأثر العملي بين الناس لجهاد ابراهيم وانه استطاع ان يجد اتباعاً ، ويؤسس مدرسة عقائدية متصلة بين الأجيال يتوارث افرادها التوحيد والحنيفية، وافاضة البركات عليهم من أحكام النبوة وما فيها من المضامين القدسية، ولقد حاز اتباع ابراهيم من الأولين الشرف من وجوه:
الأول: نسبتهم الى ابراهيم.
الثاني: انهم من أولى الناس به.
الثالث: شهادة القرآن لهم بالإيمان.
الرابع: اقتران ذكرهم مع ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإلتقاء في الأولوية بابراهيم.
الخامس: الإحتجاج بهم موضوعاً وحكماً على اليهود والنصارى.
السادس: جعلهم أسوة للإقتداء بهم.
السابع: تخليد ذكرهم بين الناس.
الثامن: دعوة المسلمين لإكرامهم لورود الثناء عليهم في القرآن.
التاسع: اظهار عناوين الصلة والإلتقاء بينهم وبين المسلمين بالأولوية بابراهيم .
واتباعهم لإبراهيم يحتمل وجوهاً:
الأول: مشاركته في الجهاد ومواجهة الظالمين.
الثاني: الإقرار بما جاء به من عند الله.
الثالث: تصديقه في مضامين التوحيد.
الرابع: اتباعه بالتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة بنبوته والتطلع الى أيام بعثته لنصرته والإنضمام تحت راية الإسلام، والإنخراط في صفوف المسلمين.
الخامس: محاكاة ابراهيم في الإحتجاج على الكفار ومواجهة الظالمين.
السادس: اتباعه في الإيمان بالله وعدم الشرك به.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فكل واحد منها يصدق عليه اتباع، فيشمل من يحاكـي ابراهيم عليه الســلام في الجهــاد في سبيل الله ومقارعة الظالمين، ومن يعلن ايمانه ومن يخفيه خشــية الظـالمين والكافرين، فكل واحد منهم يستحق الثناء والمدح وان تباينت درجة الثواب والأجر.
ومن الإعجاز ان تأتي الآية بعنوان وصفة الإتباع باعتباره سوراً جامعاً يضم الجميع وان اختلفت درجة الإتباع.
ومن الآيات ان اتباع ابراهيــم ينصرف الى الإيمان بالله فليس عنده ما يتبع عليه الا الإيمان بالله ومحاربة الشرك ومواجهة صيغ الكفر والضلالة.
وفيه تشريف لإبراهيم عليه السلام انه لم يتبع الا على الهدى ولم يترك ارثاً او تركة الا الدعوة الى كلمة التوحيد وتحمل المشاق بسبب الثبات عليها ولقد كانــت نجاته من الظــالمين آية في العالمين، فقد أوقدوا له النار وجعلوه في وســطها فانجاه الله، لتكون هذه الآية وسيلة لجلب الأنصــار وزيادة عدد الأتباع، وفيه نكتة ان الأنبياء يأتون بالآيات من عنــد الله، وابراهيم عليه الســلام جــاءته الآيات الحســية لنجاته من النار.
قانون الإنقاذ
لقد أنعم الله على الأنبياء وجعل عندهم الآيات التي تؤكد صدق نبوتهم وتدعو الناس الى التصديق بهم لأنهم يأتون بالمعجزة الخارقة للعادة التي لا يمكن ان يأتي بها لولا العون والمدد من عند ، والآيات على قسمين:
الأول: الآيات الحسية وهي التي تدرك بالحواس كناقة صالح وعصا موسى وابراء عيسى للأكمه والأبرص ومجيئه بآية الطير.
الثاني: الآيات العقلية: وهي التي يدركها العقل وتراها البصائر، وهي اكثر تأثيراً وأطول أجلاً، والقرآن آية عقلية تخاطب اولي الألباب وتدعوهم الى التوحيد.
ومن الآيات العامة التي تتغشى الأنبياء (آية الإنقاذ) ومضمونها ان الله عز وجل ينقذ النبي ويدفع عنه الموت الى حين أجله، ويرزقه الصبر والحلم وتحمل الأذى، فالدعوة الى الله في مجتمعات الكفر سبب لطرو الإنتقام في أي ساعة فلا يأمن من جانب الكافرين ومداهمتهم للنبي في الليل او النهار للبطش به والتخلص منه، خصوصاً مع وجود السامع والتابع له لأن وجود الأتباع سبب في التحريض على النبي.
فكلما زاد عدد اتباعه واظهروا الإخلاص له والتصديق بما جاء به، فان الكفار يزدادون حنقاً وبغضاً للنبي ودعوته، ويخشون على مقاماتهم والمنافع الخاصة التي يستأثرون بها، فيتوجهون بجد للتخلص منه والكيد به، ولكن الله عز وجل يدفع كيدهم ويــرد مكرهم وينجــي النبي بآية منه سبحانه ليجعله يكمل رسالته ويؤدي وظــيفته الجهادية ويهيء أسباب واستمرار دعوته وبقاء الأحكام التي جاء بها وهو الذي نطلق عليه (قانون الإنقاذ) فيحكم الكفار الخطـط للبطش بالنبي ولكن الله عز وجل ينقذه ويبقيه يجاهد في منتدياتهم فتتجلى معالم هذا القانون في حياة الأنبياء.
ففي قصة كل نبي مشاهد وحوادث تدل على نجاته من كيد الكفار، كنجاة موسى من فرعون، وعيسى عليه السلام من بني اسرائيل الى ان رفعه الله، ولقد أراد المشركون الفتك بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله كما في ليلة الفراش، فاذن الله عز وجل له بالهجرة وكانت مناسبة لإنتصار الإسلام.
وتظهر آية الإنقاذ بوضوح في قصة ابراهيم عليه السلام اذ انقذه الله من النار، فبعد ان جمع له نمروذ وقومه الحطب وجعلوه في وسطه واوقدوا النار بعث الله عز وجل جبريل لإنقــاذه، لتكون هذه الآية شاهداً على صدق نبوة ابراهيم وما جاء به ودعوة للناس للإيمان به واتباعه فلابد ان تجعل هــذه الآية نفــراً وجماعة من الناس يؤمنون بدعوة ابراهيم ويتبعونه على الهدى، ومع ان الآية تحتم على الناس التصديق به واتباعه فان القــرآن مدح اتـباعه واثنى عليهم وهذا من فضله تعالى.
ولا ينحصر الإيمان بمن هو أولى بابراهيم، ولكن الآية جاءت للإحتجاج والمناظرة واظهار عظيم منزلة ابراهيم فتضمنت الثناء على اتباعه واكرامهم والدعوة الى الإقتداء بهم، وقد لا يعلم هؤلاء الأتباع ان يأتي كتاب سماوي خالد في الأرض يذكرهم بالثناء والمدح من بين العالمين، وهذا جزء من الجزاء الدنيوي، اما الجزاء في الآخرة فهو للحرص على الذكر الحسـن واجتناب العناد واللجاج والإنشغال بالجدال للتدبر والســعي لمعرفة ما جـاء به ابراهيم من المناسك والأحكام.
وهل يصدق على اليهود والنصارى انهم اتباع ابراهيم وانهم من اولى الناس به فيكون معنى الآيات انهم ادعوا نسبة ابراهيم عليه السلام لهمً، لأنهم من اولى الناس به مثلما يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون اولى الناس به، الجواب لا، والظاهر ان الآية تنفي اولويتهم بابراهيم وانهم ليسوا من اتباعه وهو الذي يدل عليه مفهوم دعوى انتسابه لهم، فاذا ادعى قوم ان شخصاً ينتمي لهم وهو واحد منهم فانه يعني انه معهم بعرض واحد وانهم ليسوا اتباعه، ومع هذا فالآية لا تغلق الباب بوجهــهم ،بل تدعوهم للإيمان ،بإعتباره علة وعنوان الإتباع.
وتتضمن الآية وجوهاً:
الأول: الإحتجاج بنفي أصل ادعائهم ونسبة ابراهيم لهم.
الثاني: التأديب بعدم التجرأ على الأنبياء ، والحث على معرفة مقاماتهم الرفيعة ودرجاتهم السامية.
الثالث: الإرشاد الى انصاف المؤمـنين والإقـرار بالإمامة والريادة للأنبياء، فقد كان ابراهيم عليه السلام امـاماً في الخيـر والدعوة الى الله.
وذكرت الآية (اتباع ابراهيم) بصيغة جمع التكسير، وظاهره ارادة الذكـور ولكنه عام فيشــمل الإناث ايضاً، ســواء من أزواجــه او ذريته او اسر المؤمنين الذين أتبعوه، وقد تسبق المرأة زوجها او أخاها في الإيمــان، وفيه شــواهد كثــيرة في التأريــخ ومنه تأريـخ الدعـوة الإسلامية.
قوله تعالى [وَهَذَا النَّبِيُّ]
تشريف اضافي مركب من وجوه:
الأول: تشريف لإبراهيم عليه السلام بان خاتم النبيين وسيد المرسلين من اولى الناس به.
الثاني: تشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه اولى الناس باحد الرسل أولي العزم ، بالإضافة لكونه منهم، وهذا التعدد والجمع شاهد على تفضيله على الأنبياء، والظاهر انه من باب المثال وليس الحصر ، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اولى الناس بكل نبي من الأنبياء بما فيهم موسى وعيسى، وهذا الأمر ظاهر بآيات القرآن وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقراره بنبوة موسى وعيسى وقبوله الجزية من أهل الكتاب وعدم ارغامهم على دخول الإسلام بلحاظ عدم محاربة وقتال المسلمين.
الثالث: اكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان خصه الله بالذكر على نحو الإستقلال [وَهَذَا النَّبِيُّ].
الرابع: اخبار المسلمين بعظيم منزلة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه اولى الناس بالأنبياء ، وفيه اشارة الى لزوم اتباعه، وجاءت الآية بصيغة الخبر ولكنها تتضمن الخطاب الى الناس جميعاً ، والإحتجاج على أهل الكتاب وفيها نكتة وآية اعجازية فكما ان الآية تخبر بالعرض عن وجود اتباع لإبراهيم عليه السلام وانه رائد وقائد في التوحيد وليس تابعاً لغيره من الأنبياء، فان الآية تؤكد بان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي ومبعوث من عند الله وانه ليس من أتباع موسى وعيســى بل جاء بشريعة مستحدثة جامعة للأحكام غير منفصلة عما جاء به الأنبياء السابقون.
وتدل الآية على ان النبي يتحمل اعباء ومسؤوليات النبوة واصلاح العقائد وتوجيه الآراء ويحول دون الزيغ والتحريف، كما انها تخوله الذب عن ابراهيم والدفـاع عن الأنيياء الســابقين فليس لأحد او لأهل ملة ان يقولوا له ما انت وابراهيم او تلك أمة سبقت نبوتك ونزول القرآن، او يمنع المسلمين من اظهار معاني الإكرام وابراز وجوه الصلة معه.
فتدل الآية بالدلالة التضمنية على حق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدفاع عن ابراهيم واكرامه وتنزيهه من الإدعاء بتبعيته للأنبياء من أولاده اذ ان موسى وعيسى من ذرية ابراهيم، وما جاءت اليهودية والنصرانية الا من بعده وكان له السبق والشــرف في تأسيـس أمة التوحيد والتوطـئة لنبوة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاء اسم الإشارة (هذا) لإرادة التعيين والتخصيص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره، ولمنع اللبس والترديد، وفي الآية تنبيه لأهل الكتاب لأنها تؤكد بالعرض نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدعوهم الى الإقرار والتسليم بها ولزوم التصديق بما جاء به من عند الله.
وبينما ورد ذكر ابراهيم عليه السلام بالاسم [ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ] جاء ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة والرسالة ، وليس فيه ذم لإبراهيم عليه السلام لأن الآية في مقام الإحتجاج والبرهان، ولكنه تشريف وتعظيم لشأن النبي ودعوة لأتباعه وهذه مسألة اضافية أخرى، فبينما ادعى اليهود والنصارى ان ابراهيم منهم وتابع لأنبيائهم.
جاءت هذه الآية لتحثهم على اتباع النبي محمد والتدبر في حالهم وشأنهم، والإلتفات الى وظائفهم العقائدية وما يجب عليهم من التكاليف لأن الأولوية للحال والذات وليس للغير والزمان المتقدم، فأولوية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بابراهيم عليه السلام اشارة الى الصدور عنه والرجوع اليه.
ولو ذكرت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم باسمه لقيل بان المراد بالأولوية لحاظ البنوة وانه من نسل ابراهيم عليه السلام، فكان ذكره بصفة النبوة دون النبوة والنسب حجة وبرهاناً على صدق دعوته وان علقته مع ابراهيم ليست النسب وحده خصوصاً وان النسب عنوان جامع يلتقي به النبي محمد مع اليهود وبني اسرائيل مطلقاً في صفة الذرية لإبراهيم عليه السلام، فذكر النبوة آية اعجازية.
ومن الآيات ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر بعنوان انه من اتباع ابراهيم عليه السلام بل ان ذكره بصفة الرسالة يدل على استقلاله في النبوة والنهج والشريعة، وهذا من الآيات الدالة على اكرامه تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه اشارة الى انه سيد الأنبياء والمرسلين ، ولم تذكر الآية موسى وعيسى بالاسم بانهما من اولى الناس بابراهيم ، ولكن هذا لا يعني خروجهما من ولايته والأولوية به من وجوه:
الأول: انهما من اتباع ابراهيم في الحنيفية.
الثاني: اتحاد معالم ومضامين مدرسة النبوة.
الثالث: لقد ورث موسى وعيسى عليهما السلام النبوة من ابراهيم.
الرابع: شمولهما بالإصطفاء والإجتباء لأنهما من آل ابراهيم.
الخامس: انهما من أتباع ابراهيم في التوحيد ومحاربة الشرك والكفر والضلالة.
فلقد أسس ابراهيم عليه السلام طريق محاربة الكفار في عقر دارهم، وموضع سلطانهم وعزهم ليأتي موسى من بعده فيدخل على فرعون ويحتج عليه ويدعوه الى الإسلام كما أحتج ابراهيم عليه السلام على نمروذ، وجاء موسى بالتوراة مما يؤكد التعدد في ماهية الإتباع مع وحدة السنخية ولزوم الإقرار بالتوحيد،لتتغشي الجميع بآيات المدح والثناء وهذا من واسع رحمته تعالى، وهو مصداق لقوله تعالى [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى]( ).
وتبين الآية حاجة عقائد الأرض الى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت الحق وازاحة الباطل، وتنقيح المجتمعات وتهذيب النفوس واعطاء كل ذي حق حقه، ومن الآيات ان رد شبهة انتساب ابراهيم لليهود والنصارى لم يتخذهــا المسلمون للطعن بالديانتين، او نفي اصل النبوة عنــدهم، بل انحصـر الأبطال بالشبــهة وحــدها مع اكرام ابراهيم عليه السلام، وهذا أدب وعلم مستحدث في المناظرة وتأسيس لقواعد جــديدة في الإحتجاج مبنية على العلم والبيان التأريخي.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً واماماً وهو اولى بابراهيم لأنه سيد ولد آدم والوارث للنبوات والناصر للأنبياء والمؤمنين، ومن الشواهد انه والمسلمون يذبون عن ابراهيم الى يوم القيامة ولا يقفــون عند حـدود درء شـبهة نسـبته الى اليهودية والنصرانية، بل يقومون بتعظيم شأنه وتوكيد علو منزلته بين الأنبياء.
لقد جاء اسم الإشارة (هذا) لإرادة قرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه حاضر بين الناس، وهل ينحصر موضوع القرب الذي يدل عليه اسم الإشارة بأيام التنزيل ام انه أعم، الأصح هو الثاني، ففي الآية دلالة على:
الأول : بقاء نبوته في الأرض وانقياد الناس لما جاء به.
الثاني : انتصار الإسلام وان صفة النبوة هي الأنسب في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الإخبار بأن الغلبة للإسلام.
الرابع : تدعو الآية أهل الكتاب وغيرهم الى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : الخصوصية في اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإبراهيم، فلقد ذكره الله عز وجل على نحو الخصوص والإستقلال.
السادس : في الآية حث على اللجوء الى النبي في معرفة احكام الحنيفية التي جاء بها ابراهيم عليه السلام.
السابع : في الآية نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه اولى بالأنبياء السابقين، فهذه الآية وان جاءت للدفاع عن ابراهيم وتثبيت منزلته ولكنها تبين عظيم مقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم مخاطبته بصفة النبوة.
لقد أكدت الآية نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الوحي عليه من عند الله، ومن يكون هذا شأنه لا يصح جداله والإحتجاج عليه لأنه لم يأتِ الا بالحق والصدق، وهي من الشواهد على ابطــال قولهم ودحــض حجــتهم.
لقد أدعوا نسبة ابراهيم لملتهم فنزلت الآية لتنفي قولهم وتؤكد نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدعوهم الى التصديق بنبوته ولزوم الإنقياد له واتباعه ليكونوا من اولى الناس به، ولا يضيعوا هذه النعمة ويفرطوا بها كما فرطوا بنبوة ابراهيم بان جعلوه واحداً منهم، بل انهم لا يستطيعون التفريط بهذه النعمة او اخفاء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه الآية تثبتها وتمنع من التعتيم عليها، وبذا يكون الدفاع عن ابراهيم آية في تثبيت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل الكتاب، ففي طيات الإحتجاج بخصوص ابراهيم جاء التوكيد على نبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بلغة الإكرام والتشريف، فلا غرابة ان يتوجه اهل الكتاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال وصيغ الإختبار ويسلم شطر منهم لما يرى من الآيات التي تدل على صدق النبوة.
وتتضمن الآية التحدي لأهل الكتاب لما فيها من البيان المركب في نفي قولهم بخصوص ابراهيم، والإخبار عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
فمن وجوه الحكمة الإلهية في الآية منع أهل الكتاب من ادعاء نسبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فاذا كانوا قد نسبوا احد الرسل الخمسة اولي العزم الى ديانتهم مع ان زمانه سابق لليهودية والنصرانية فمن باب اولى ان ينسبوا النبي اللاحق في زمانه لديانتهم، فتصدى القرآن لهذا الأمر وقطع عليهم الطريق بآيات عديدة وأخبر بان محمداً نبي بعثه الله للناس جميعاً.
وفي الآية حث على اخذ حقائق النبوة وقصص الأنبياء من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجتناب التحريف، او الرجوع الى الرهبان والأحبار فقوله تعالى [ هذا النبي ] أي انه قريب منكم ليس ببعيد، فخذوا عنه معالم الدين وأسألوه عن نسبة ابراهيم وكيف انه ليس بيهودي ولا نصراني لأن البينة قائمة على أمور هي:
الأول: تقدم زمانه على اليهودية والنصرانية، فاليهودية بدأت مع موسى عليه السلام، وجاء اسم اليهود من الهود وهو الرجوع والتوبة، اما دين النصرانية فقد بدأ مع بعثة عيسى وسموا بالنصارى لأنهم أنصار عيسى عليه السلام او لأنهم من قرية الناصرة، وهي من قرى الشام نزلتها مريم عند عودتها من مصر، وموسى وعيسى من ذرية ابراهيم.
الثاني: ان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي من عند الله، ولابد من الرجوع اليه لأن ادعاء نسبة ابراهيم لهم لا أصل له، ولم يرد في كتاب سماوي او على لسان نبي من الأنبياء، أي ان القرآن جاء بتوكيد حقيقة تأريخية ثابتة.
الثالث: ان نفي نســبة ابراهيم لليهوديــة او النصــرانية جـاءت بنص قرآني نازل من عند الله، وليكون اخبار النبي لهم مطابقاً للآية القرآنية.
وقد يطرأ التحريف على قول النبي بخصوص هذه النسبة بان يقومون بتغييره وتبديله فاذا كانوا ينسبون ابراهيم الخليل الى ملتهم فمن باب أولى ان ينسب قول الى النبي، لذا جاءت الآية القرآنية حرزاً وكانت هي الأصل في نفي نسبة ابراهيم بالإضافة الى اجتهاد المسلمين في حفظ آيات القرآن وتعاهد السنة النبوية ومنع الوضع فيها، وفي الآية حجة على بني اسرائيل في موضوع ابراهيم وغيره من الأنبياء ، وكذا في مسائل العقائد والعبادات والمعاملات.
لقد جاء هذا الشطر من الآية لكشف حقائق التنزيل ومنع الإفتراء على الأنبياء مطلقاً وفضح التحريف الذي طرأ على التوراة والإنجيل، وفي الآية اكرام للمسلمين لأنهم بادروا الى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصدقوا بما جاء به من عند الله، ولم يصدروا الا عنه وما نزل عليه من القرآن وعموم الوحي.
فمن الآيات ان الإخبار عن نبوته صلى الله عليه وآله وسلم لم يذهب سدى بل تلقاه المؤمنون بالتصديق ليكون اسوة لأهل الكتاب والكفار وحجة عليهم، كما يدل بالدلالة التضمنية على وجود أمة تؤمن بان ابراهيم ليس يهودياً ولا نصرانياً وانه أهل لأن يتبع، وقد فاز ونجا من أتبعه واقتدى به.

قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا]
لقد ذكرت هذه الآية الذين هم اولى بابراهيم من الناس وهم على ثلاثة أقسام:
الأول: الذين أتبعوه.
الثاني: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: المؤمنون.
والقسم الأول والثالث بصيغة المتعدد والجمع ، اما الثاني فجاء بصيغة المفرد وهو خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الأقسام الثلاثة تحتمل اموراً:
الأول: انها بعرض واحد بابراهيم.
الثاني: اثنان منها بعرض واحد ، والثالث ادنى منهما رتبة.
الثالث: واحد منها هو المتقدم، واثنان بعرض واحد.
الرابع: انها ليست بعرض واحد، بل بينها ترتيب.
والأصح هو الرابع فان الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أولى بابراهيم والذين أتبعوه والمؤمنين قال تعالى [ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ]( ).
والذين أتبعوا ابراهيم من المؤمنين ايضاً فتترشح عليهم صفة الإيمان من انقيادهم لما جاء به ابراهيم عليه السلام فهل يشملهم لفظ (الذين آمنوا) في الآية، الجواب لا، فقد ورد وصفهم بالإتباع، والمراد من الذين آمنوا في الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن، وهذا من اعجاز القرآن ان يرد الثناء على المسلمين واستحقاقهم لولاية الأنبياء السابقين لإتباعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتبين الآية المسؤوليات العظيمة التي يتحملها المسلمون في حفظ منزلة الأنبياء والتصدي للنيل منهم او الإنتقاص من مكانتهم، واذا كان المسلمون اولياء لإبراهيم ويدافعون عنه ويمنعون من ايذائه، والإفتراء عليه فمن باب الأولوية أن يتبعوا النبي محمدا ًًًًًًًًًًًًًًًًصصصصص ،ويكونوا عونا وأنصارا له، وفي الآية انذار لأهل الكتاب وبعث لليأس في نفوسهم من التعدي على النبي وتشويه فعله او كلامه.
ومن بديع العلوم في الإسلام ضبط أخبار السنة النبوية، واجتهد العلماء في اسقاط الأحاديث الموضوعة، وترجمة رجال الأسانيد من جهة الوثاقة او الضعف ، ولقد أجتنب المسلمون اخذ الأحاديث عن أهل الكتاب لأنهم وجدوا في القرآن غنى وكفاية كما ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حذر من الأخذ من أهل الكتاب
وتعطي الآية الحق للمسلمين بمجادلة اهل الكتاب والإحتجاج عليهم وزجرهم عن التعدي على الأنبياء، فلا أحد يلوم المسلمين في الذب عن الأنبياء وتنزيه ساحتهم من كل تشويه او افتراء لأن المسلمين هم أهل الولاية وورثة الأنبياء وحفظة الشرائع التي جاءوا بها.
وفي الآية حذف والتقدير والذين آمنوا برســالة محــمد صـلى الله عليه وآله وسلم وفيه تنبيه لأهل الكتاب والناس بان المسلمين على نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تخص الآية صحابة النبي والذين آمنوا به أيام التنزيل بل تشمل المسلمين في كل زمان الموجود منهم والمعدوم، وفيه فضل من الله على ابراهيم وجزاء له على جهاده في سبيل الله ودعوته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، كما ورد في قوله تعالى [ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ]( ).
جاءت الآيات بالدفاع عن ابراهيم عليه السلام واكرامه وبيان عظيم منزلته، وحث المسلمين على نصرته برد الفرية عليه، وعدم اتخاذه سبباً للطعن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أرادوا محاربة الإسلام بنسبة ابراهيم لهم، فلم يتخل المسلمون عن النسبة الى ابراهيم والى الحنيفية بل ثبتوها ولكنهم مستمرون في توكيد نفي نسبة ابراهيم الى اليهودية والنصرانية، مع بيان جلالة مقامه وعلو شأنه وانه جاء بالحنيفية السمحاء، وهل يكفي اتباع ابراهيم بعد نزول القرآن الجواب لا يكفي، فلابد من اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان ابراهيم عليه السلام حياً لأتبعه، وهذا الأمر من بين الأسباب التي جعلت أهل الكتاب ينسبون ابراهيم الى ديانتهم وكأنها الباقية في الأرض، لقد أرادوا المغالطة التأريخية والعقائدية فجاءت الآية لتكشف للمسلمين الحقائق وتزيح عن بصائرهم الكدورات الظلمانية التي ترد مع الجدل والشك والبهتان، وتبين لهم ان وظيفتهم متعددة ومركبة من:
الأول: الإعراض عما يقول أهل الكتاب في نسبة ابراهيم عليه السلام لهم.
الثاني: التصدي لمن يحتج ويجادل بالباطل وغير الحق.
الثالث: الإلتفات الى اعتبار زمان الأنبياء والسبق او التأخر الزماني في موضوع التبعية والإتباع، فالنبي السابق لا يكون تابعاً للنبي اللاحق، وقد تجلت هذه الحقيقة باكرام المسلمين لموسى وعيسى عليهما السلام والإقرار بنبوتهما والسنن التي جاءا بها، وفيه دليل على التباين بين المسلمين وأهل الكتاب.
الرابع: الالتفات الى موضوعية بشارة ابراهيم  بالنبي محمد صلى  عليه وآله وسلم، وصدورها من رسول من أولي العزم.
فالمسلمون اقروا بنبوة الأنبياء السابقين واعترفوا لهم بشأنهم المستقل، وأهل الكتاب نسبوا الرسل السابقين لشرائع أنبيائهم والى ديانتهم وليس هذا من نصرة الدين والملة، بل فيه اساءة وضرر على الملة، وهو شاهد على الإبتعاد عن حال التقوى التي يجب ان يتصف بها الموحدون ويتقيدون بأحكامها، لذا كانت بعثة أمة اسلامية ملتزمة بالصدق والتقوى وانصاف الناس واكرام الأنبياء حاجة عقائدية وضرورة اجتماعية.
وتدل الآية على رفعة المسلمين وصلاحهم وبقائهم حصناً للملل السماوية وارشاد الناس ومنعهم من الإقامة على الضلالة، وفيها بيان لفضلهم على أهل الكتاب بمنعهم من الإفتراء والتحريف وتشويه الحقائق التأريخية، واذا كان المسلمون أولى بالأنبياء السابقين من غيرهم، فهم أولى بالناس الآخرين ممن هم ليسوا بأنبياء ومنهم أهل الكتاب وغيرهم، ومن الولاية ارشادهم الى نبذ المقالات الباطلة كنسبة ابراهيم الخليل اليهم.
ان تخلص اهل الكتاب من دعوى نسبة ابراهيم لهم يفتح امامهم افاقاً من المعرفة الإلهية ويجعلهم يدركون الآيات التي جاء بها الأنبياء ويتدبرون بمعانيها ومضامينها القدسية واتخاذها مادة لاستلهام الدروس والعبر، وتبين دعوى اهل الكتاب انتساب ابراهيم لهم وقوفهم عند نبوة نبيهم، فاليهود يقفون عند موسى عليه السلام، والآيات التي جاء بها كآية العصا، والنصارى يقفون عند نبوة عيسى عليه السلام والمعجزات التي جاء بها ومنها خلقه من الطين طيراً بعد النفخ فيه وابراؤه الأكمه والأبرص واحياؤه الموتى.
ولقد لاقى عيسى اشد الأذى والعداوة من بني اسرائيل مع قيام الحجة والبرهان على صدق نبوته.
فجاء الإسلام ليعيد الأمور الى اصــولها ويبــين الحقــائق ويحول دون التمــادي في الغــي، ويقطع الطــريــق امام محاولات تثبيـت التحريف وجعله قواعد كلية ثابتة، لقد اراد اهل المصالح الدنيوية خلط الحق والباطل وجعل الناس عاجزين عن الفصل بينهما وان التفت بعض ارباب العقول الى هذا الخلط واجتهد في بيان التباين بينهما والخديعــة في التداخــل بينهما فانه لا يســتطيع ان يغـير من الواقـع الخاطئ شيئاً.
فصار التنزيل بالحق حاجة للناس، مع وجود امة تحفظه وتتعاهده وتجاهد من أجل تثبيته فجاء القرآن تبياناً لكل شيء وهدى للناس ، والهداية في المقام على وجوه:
الأول: ارشاد المسلمين لآداب المناظرة وقواعد الإحتجاج لإثبات منزلة ابراهيم ، وعدم اتباعه لليهودية او النصرانية.
الثاني: التأديب لأهل الكتاب بدعوتهم لنبذ الإفتراء على الأنبياء والإنتقاص من منازلهم وشأنهم.
الثالث: الهداية للناس جميعاً لمعرفة الحق والصلاح، والإلتفات الى التحريف الذي تسرب الى الملل السماوية.
وتبين الآية جهاد المسلمين المتعدد لإصلاح الذات وتهذيب المجتمعات ومواجهة اهل الكتاب فيما يدعون على الأنبياء، والتأهيل وامتلاك القدرة على الإحتجاج ليس معهم فقط بل الإحتجاج على الكفار بالأولوية فاذا كان أهل الكتاب ينسبون ابراهيم لهم، فيأتي التكذيب بآية قرآنية ويتضمن دعوة المسلمين لفضح زيف هذه الدعوى فان الكفار يجحدون بالربوبية مما يستلزم مواجهتهم بالسلاح والقتال وحملهم على الإقرار بالربوبية لله تعالى.
وهذا التفصيل اعجاز يدل على سماوية التشريع الإسلامي فيكون الإحتجاج بالبرهان وسيلة التعامل مع اهل الكتاب مع الحرص على الجدال بالحكمة والموعظة وبيان عظيم منزلة المسلمين وانهم خلفاء وقادة التوحيد وأئمة الهدى فكما انهم اولى بابراهيم فانهم أولى بموسى وعيسى ولذا فضحوا ما جرى من التحريف على التوراة والإنجيل.
والدفاع عن ابراهيم يدل على استعداد المسلمين للدفاع عن الأنبياء الآخرين، وقد وردت ألآيات السابقة في نصرة عيسى عليه السلام وبيان الآيات التي جاء به على نحو التفصيل، أي ان المسلمين أحتجوا وجاهدوا لتنزيه ساحة ابراهيم ومنع كلاً من اليهود والنصارى من دعوى انتسابه لهم، مثلما احتجوا وجاهدوا ضد تكذيب اليهود لنبوة عيسى عليه السلام، وغلو النصارى فيه مع التباين بين صورتي الجهاد فالدفاع عن ابراهيم جاء بعرض واحد، وموضوع متشابه، اما الجدال والإحتجاج بخصوص عيسى فجاء على وجهين للتنافي بين الطرفين، والتناقض بين قول اليهود والنصارى فيه.
مما يدل على الإرتقاء الذي عليه المسلمون بحيث انهم يستطيعون الجدال بصيغ متعددة لمواجهة التحريف المتشابه والمتباين في ذات الموضوع ، وهداية وفضح وارشاد اهل الملل المختلفة الى قول الحق ونبذ الإفتراء والغلو لأن كلاً منهما ضلالة ويؤدي الى الهلكة والأغواء فجاء الإسلام لمنع اغواء الآخرين وحصر التحريف والدعوة الباطلة باهلها ومنع تعديها الى الغير من الناس والملل الأخرى ثم محاربتها في منبتها وموضع نشوئها والتوجه لنصح الأمة والجماعة التي تدعي الباطل على الأنبياء وبيان خلل الدعوى وفساد المبنى الذي ترتكز عليه.
ومع التكاليف العبادية من الصلاة والصوم والزكاة والحج جاء موضــوع ولاية الأنبياء الســابقين ولزوم الدفاع عنهم، وقد خفف الله عن المؤمنــين اعــباء هــذه المســؤولية بالقــرآن وما فيه من البــيان والحـجــة القاطعة، قال تعالى [وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ].
ولو أكتفى المسلمون بتلاوة الآيات الخاصة بموضوع الإحتجاج لكان حجة لهم، وسلاحاً بيدهم لمواجهة الخصم والغلبة عليه، او لا اقل النجاة من صيغ الشك والريب التي يبثها لتثبيط العزائم واضعاف الهمم لأن المقصود من نسبة ابراهيم لهم ليس ذات ابراهيم فحسب، بل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في اعلانهم اتباع الحنيفية التي جاء بها ابراهيم عليه السلام، فجاءت هذه الآية لتحث المسلمين على التقيد بها، وعدم الإلتفات الى الإفتراء على ابراهيم خصوصاً وان التقيد بها من معالم الإيمان.
وتؤكد الآية اتصال الولاية لإبراهيم والأنبياء، اذ انها تبدأ من اتباعه واولهم مصاحب له ومعاصر له في ايامه لتكون نصرته ملازمة له في حياته، كنوع مدد وإعانة الهية ثم يتوارث المؤمنون هذه النصرة والولاية حتى اذا ادعي عليه ما ليس بحق ، تصدى المسلمون بقوة لإبطال هذه الدعوى الى جانب انشغالهم بمسؤوليات الدفاع عن بيضة الإسلام وتثبيت احكامه، والمنع من التعدي على الحرمات.
وفي الآية دعوة الى أهل الكتاب للرجوع الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معرفة شريعة ابراهيم، واكتساب العلوم وما يتعلق باحوال الأنبياء منهم، وهذا الرجوع مناسبة لمعرفة أحكام النسخ في الشرائع، لا تنحصر الدعوة بموضوع شريعة ابراهيم التي جاءت من باب المثال بل انها مطلقة وشاملة، أي ان نفراً من اهل الكتاب جادلوا في ابراهيم  فجاءت الآيات لبيان بطلان ما يرتكزون عليه في جدالهم.

قوله تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]
خاتمة كريمة للآية وقاعدة كلية تتضمن البشارة والإنذار، البشارة للمسلمين بالنصرة والغلبة والرفعة، والإنذار للكافرين بالخيبة والخسران، ومن اعجاز الآية موضوعها الذي يتجلى بوجوه:
الأول: الإخبار عن دحض حجة الخصم وابطال دعوى نسبة ابراهيم عليه السلام لهم.
الثاني: اعانة المسلمين في جدالهم واحتجاجهم ومدهم بالبرهان والدليل.
الثالث: بعث الأمل في نفوس المسلمين، وطرد اليأس والقنوط عنها.
الرابع: القاء الفزع والخوف في قلوب الكافرين واعداء الإسلام، فمن كان وليه الله لابد وان تكون له الغلبة والنصرة.
الخامس: الإخبار عن حتمية انتصار الإسلام وهو امر يدفع المسلمين الى الجهاد والتضحية في سبيل  ولا يصيبهم الإحباط عند حصول نكسة او خسارة في دروب الجهاد.
السادس: بيان حقيقة في الإرادة التكوينية، وهي ان الصراع والنزاع بين المسلمين واعدائهم لم يكن منحصراً بهم، بل هناك مدد الهي ونعمة سماوية للمسلمين.
السابع: نصرته تعالى للمؤمنين لا تنحصر بموضوع الإحتجاج ومسألة نسبة ابراهيم عليه السلام بل هي مطلقة لذا جاءت الآية على نحو الإطلاق والشمول.
الثامن: من ولايته تعالى للمؤمنين النصرة والأعانة وتشمل ميادين الحياة كلها والتوفيق فيها، سواء مع وجود العداوة والخصومة من الغير او بدونهما.
التاسع: دعــوة الناس جميعاً للإخــذ من القرآن، واللجوء الى النبي محمد صلى  عليه وآله وسلم والمسلمين لمعرفة الحقائق والوقائع والتاريخ .
لقد اراد الله بعث السكينة في نفوس المسلمين واخبارهم بالتأهيل لمواجهة التحديات التي تلاقيهم في جهادهم وادائهم لعباداتهم ومناسك دينهم، وحثهم على السعي الحثيث في الدعوة الى الله وطرد الخوف والفزع من نفوسهم، ولقد ظهر هذا الأمر واضحاً جلياً في سيرة المسلمين، ومبادرتهم الى سوح القتال، وشوقهم الى الشهادة، لأن ولايته تعالى لا تنحصر بايام الحياة الدنيا بل تشمل النشأة الآخرة، وهذه اعظم البشارات وافضل الأماني وفيها دعوة لغير المسلمين لدخول الإسلام واستثمار فرصة الحياة الدنيا لأنها مزرعة الآخرة.
وخاتمة الآية من عمومات قواعد اللطف الإلهي، فمع ما فيها من الوعيد والإنذار للكافرين، فانها تتضمن الترغيب بالإسلام والدعوة للإيمان، فليس من شيء في الحياة الدنيا افضل من ولايته تعالى، ونيلها امر يستحق السعي الدؤوب وبذل الوسع والإجتهاد في الكسب والعمل فكيف وقد جعلها  قريبة من الناس ليس بينهم وبينها الا النطق بالشهادتين والإيمان بالتنزيل.
وولايته للمؤمنين ،فضل منه تعالى وهو على اقسام:
الأول: خاص وهو على شعبتين:
الأولى: فضل على الأنبياء في تعضيد نبوتهم وايجاد الأعوان والأتباع لهم، وتأييدهم ونصرتهم لما يأتي به الأنبياء.
الثانية: اللطف بدفع اسباب الشك والريب اليها.
الثاني: الفضل الإلهي على اهل الكتاب ببيان الخطأ والضلالة فيما يصدر عنهم من الدعاوى الباطلة، وايذاء المؤمنين.
الثالث: فضله تعالى على المسلمين بالهداية ودفع الأذى والكيد والمكر السيء.
الرابع: فضله تعالى على الناس جميعاً بالنبوات والتنزيل والرحمة والإمهال، ولطفه تعالى بفضح المقالات الباطلة، وبيان الحقائق وبما لا يقبل اللبس او الشك.
وهل تنحصر ولاية الله تعالى بالمؤمنين ام تشمل الذين يساعدونهم من غيرهم، الجواب ان القدر المتيقن من الولاية والنصرة هم المؤمنون وتحتاج اضافة غيرهم الى دليل خاص وهو مفقود بالمقام، فليس بين الإيمان والكفر من واسطة، نعم قد تأتي نصرة المسلمين على يد الكافر والجاحد، ولكن هذا لا يعني ولايته تعالى لمن ينصر المسلمين , فالنصرة والمدد الإلهي خاص بالمؤمنين.
وفيه ترغيب بدخول الإسلام، واخبار عن دوام تعاهد المسلمين لنصرة الأنبياء والذب عنهم وبيان عظيم منزلتهم ولزوم الإقتداء بهم وبينما تحدثت الآية عن اولى الناس بابراهيم جاءت خاتمتها بذكر ولايته تعالى للمؤمنين لتكون شاملة للأنبياء ولإبراهيم.
وفيه اشارة بان الذب عن ابراهيم  آية وفضل منه تعالى، وهو جزء من ولايته للمؤمنين وهدايتهم إلى مسالك الرشاد ، وبذا يكون من مصاديق الولاية ودعوة ابراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وضعه القواعد من البيت الحرام، ومجيؤه بالحنيفية، وحفظ اتباعه لها، ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين له إلى يوم القيامة.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn